٨٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ... (٨٩)

قيل: ود الذين تركوا، الهجرة، فرجعوا إلى أهلهم ومنازلهم، الذين لهم قال اللّه: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} - أن تكفروا كما كفروا، أي: تتركون الهجرة وترجعون كما رجعوا منهم؛ فتكونون أنتم وهم سواء؛ شرعًا في الكفر، فسماهم اللّه كفارًا، وأمرهم بالبراءة منهم؛ فقال:

{فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ}

بالهجرة الأولى؛ كقوله - تعالى -: {لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ}، وقال اللّه - تعالى -: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}، وكقوله - تعالى -: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ}، نهاهم أن يتخذوا أولياء حتى يهاجروا هجرة ثانية إلى المدينة، ويثبتون على ذلك.

هذا على قول من قال: إنهم كانوا هاجروا ثم لحقوا بمكة.

وأما في قول من قال: إنهم كانوا في أهلهم تكلموا بالإسلام فيها ولم يهاجروا - فمعنى هذا: لا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا كما هاجر غيرهم.

وقيل: المهاجرون على طبقات:

منهم: من هاجر، وأقام، وسمع، وأطاع، وثبت على ذلك.

ومنهم: من هاجر، ثم خرج من غير إذن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فلحق بأهله وأبطل هجرته التي هاجر، وإيمانَهُ الذي آمن.

ومنهم: من تكلم بالإسلام، وأقام بأهله، ولم يهاجر، وبه قوة على الهجرة؛ كان كذلك.

ومنهم: من تكلم بالإسلام ولم يكن له قوة على الهجرة؛ كانوا مستضعفين، وهو - واللّه أعلم - ما قال اللّه: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ} الآية. وروي عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنه - قال: " كنت أنا وأمي من المستضعفين ".

والذين آمنوا ولم يهاجروا ولهم قوة الهجرة ما قال اللّه - تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}.

وفي قوله - تعالى -: {فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا} - يحتمل: من أظهر الموافقة من المنافقين للكفرة، ولحق بهم.

ويحتمل: من قد آمن ولم يهاجر؛ فيكون الأول على ولاية الدِّين، والثاني: على ولاية الميراث؛ كقوله - تعالى -: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}.

ومن يتأول الآية على إظهار الكفر دون الخروج من المدينة - فمهاجرته تخرج على وجهين:

أحدهما: أن يكون قد انضم فيها إلى معاني الكفرة فيما يترك صحبتهم.

والثاني: أن يهاجر الأعلام المجعولة لأهل النفاق، مما يظهر ذلك فيما امتحنوا به من الأفعال؛ فيظهر خلاف ذلك؛ كقوله: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ}.

وقوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا}

 وأبوا الهجرة.

{فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}

لأنهم صاروا حربًا لنا؛ حيث تركوا الهجرة وأبطلوا إيمانهم الذي تكلموا به {وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا}

لما ذكرنا، واللّه أعلم.

وقوله: (وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (٨٩) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ) يخرج على وجهين:

أحدهما: في لحوق قوم من مظهري الإيمان أنهم لو لحقوا بمن لا ميثاق بينكم وبينهم ولا عهد؛ فاقتلوهم حتى يتوبوا ويهاجروا، ولو لحقوا بأهل الميثاق - لا تدعوا الولاية التي كانت بينكم وبينهم.

والثاني: أن تكون الآية في قوم من الأعداء وأهل الحرب: لو انضموا إلى أهل الميثاق وأهل العهد فلا تقاتلوهم؛ فيكون الأمر عقيب موادعة تجري بين رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبين قوم في دورهم، على أن لا تمانع بينهم لأهل الاتصال في الزيادة والاجتماع إلى المدة المجعولة للعهد، ممن إذا خيف منهم: ينبذ إليهم العهد، ويوفي إليهم المدة إذا وفوا - واللّه أعلم - كقوله: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ. . .}، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ}.

* * *

﴿ ٨٩