١٢٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للّه وَهُوَ مُحْسِنٌ ... (١٢٥) يحتمل وجهين: يحتمل من أحسن دينا من المسلمين ممن يعمل جميع عمله موافقا لدينه - ممن لم يعمل؟! بل الذي عمل بجميع عمله موافقا لدينه - أحسن دينا من الذي لم يعملِ شيئا، وهو كما روي في الخبر عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه، قال: " لَوْ وُزنَ إِيمَانُ أبِي بَكْرٍ الصديقِ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - بِإيمان جميع أمتي، لرجح إيمانه " وقال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " قويٌّ في دينه، ضعيفٌ في بدنه "؛ ألا ترى أنه خرج لمقاتلة أهل الردة وحده؟! وذلك لقوته في الدِّين وصلابته فيه، لا لزيادة الإيمان، ولا لنقصان إيمان في غيره، واللّه أعلم. والثاني: مقابلة سائر الأديان، أي: ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه للّه - ممن لم يسلم وجهه للّه. . . إلى آخر ما ذكر، واللّه أعلم. ثم قوله - تعالى -: {أَسْلَمَ وَجْهَهُ للّه}، عن الحسن قال: أسلم جميع جهة أمره إلى اللّه، أي: جميع ما يعمل إنما يعمل للّه، لا يعمل لغير [اللّه]. وقيل: {أَسْلَمَ وَجْهَهُ للّه}، أي: أخلص نفسه للّه، ولا يجعل لأحد فيها شركا؛ كقوله - تعالى -: {وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ}، الآية، أي: يسلم نفسه له، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَهُوَ مُحْسِنٌ} - يحتمل وجهين: يحتمل: قوله: {وَهُوَ مُحْسِنٌ}: يحسن ما يعمل، أي: جميع ما يعمل؛ لعلمٍ له فيه. ويحتمل قوله: {وَهُوَ مُحْسِنٌ}: من الإحسان، وهو أن يزيد العمل على المفروض عليه: يؤدي المفروض عليه، ويزيد على ذلك أيضًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} الملة: قيل: هي الدِّين. وقيل: الملة: السنة، وكأن السنة أقرب؛ لأن دين الأنبياء - صلى اللّه عليهم وسلم - كلهم واحد، لا يختلف دين إبراهيم - عليه السلام - ودين غيره من الأنبياء، عليهم السلام. وأما السنن والشرائع فيجوز أن تختلف؛ ألا تري أنه رُويَ في الخبر: " ملة رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وفي بعضها: " سنة رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: جعل السنة تفسير الملة؛ فالملة بالسنة أشبه. ثم خص ملة إبراهيم - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لأن سننه كانت توافق سنن نبينا مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {حَنِيفًا} قيل: مخلصًا. وقيل: سمي حنيفًا، أي: مائلا إلى الحق؛ ولذلك سمي الأحنف: أحنفًا؛ لميل أحد قدميه إلى الأخرى، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاتَّخَذَ اللّه إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} ذكر في بعض الأخبار أن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - أوحى إلى إبراهيم - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أن لي خليلا في الأرض؛ فقال: يا رب، من هو؟ قال: فأوحى اللّه - تعالى - إليه: لِمَ؟ أي: لم تسألني عنه؟ قال: حتى أحبه وأتخذه خليلا كما اتخذته خليلا، أو كلام نحو هذا؛ فقال: أنت يا إبراهيم. وأصل الخلة: المنزلة، والرفعة، والكرامة، يقول: {وَاتَّخَذَ اللّه إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}، أي: جعل له عنده منزلة وكرامة لم يجعل مثلها لأحد من الخلائق؛ لما ابتلاه اللّه ببلايا، وامتحنه بمحن لم يبتل أحدًا بمثلها، فصبر عليها، من ذلك: ما أُلقي في النار، فصبر، ولم يستعن بأحد سواه، وما ابتلي بذبح ولده، فأضجعه، وما أمر أن يترك أهله وولده الطفل في جبال مكة: لا ماء هنالك، ولا زرع، ولا نبات؛ ففعل، ومن ذلك أمر المهاجرة. . . مما يكثر ذلك؛ فجائز تخصيصه بالخلة لذلك، واللّه أعلم. وجائز أن يكون ذلك كرامة أكرمه اللّه بها؛ لأن أهل الأديان كلهم ينتسبون إليه، ويدَّعون أنهم على دينه، وعلى ذلك يخرج قوله: " اللّهمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ. قيل: خص هو بهذين الوجهين اللذين ذكرتهما في الخلة. وقيل: إنه اتخذه خليلا؛ لأنه كان يعطي ولا يأخذ، وكان يحب الضيف، وكان لا يأكل وحده وإن بقي طويلا، واللّه أعلم بذلك. وأصل الخلة ما ذكرنا من الكرامة والمنزلة؛ لأن من يحب آخر يبره ويكرمه، ومن لا يحبه يعادهِ، ويظهر له الجفاء، ولا قوة إلا باللّه. واختلف في المعنى الذي وصف إبراهيم - عليه السلام - بالخلة أنه خليل اللّه: فقد قيل: بما سخت نفسه في بذل كل لذة من لذات الدنيا للّه، وله تَبَوِّء في مكان إتيان الأضياف وأبناء السبيل، وكان لا يأكل وحده، وكانت عادته التقديم بكل ما يتهيأ له عند نزول الأضياف عليه، والابتداء بذلك قبل كل أمر، والقيام للأضياف مع عظم منزلته؛ أيد ذلك أمر الملائكة الذين جاءوه بالبشارة، واللّه أعلم. وقيل: إنما امتحنه اللّه بأمور فصبر عليها؛ نحو النار أُلقى فيها للّه، وذبح الولد، والهجرة مرتين، وبذل الأهل والولد للّه، حيث لا ضرع، ولا زرع، ولا ماء، وغير ذلك مما أكرمه اللّه - تعالى - بالثناء عليه: بوفاء ما امتحن، وإتمام ما ابتلي من قوله: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى}، وفي قوله - تعالى -: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ}. ويحاج فرعونه وجميع قومه، ويجادلهم فيمن يعبدونهم، فغلبهم، وألزمهم حجة اللّه، وغير ذلك من وجوه المحن. وقيل: بما به كان بدء البيت الذي جعله اللّه قيامًا للناس، ومأمنًا للخلق، ومثابًا لهم ومنسكًا؛ فعظم شأنه فيما بالخلق إليه حاجته في أمر الدِّين؛ وعلى ذلك أكرمه اللّه - تعالى - بميل القلوب إليه، وإظهار التدين بدينه من جميع أصناف أهل الأديان، واللّه أعلم. وقيل: إنما هو: للّه خصائص في أهل الخيرة من الرسل وأولي العزم منهم: اختصهم بأسماء عرفن في الفضائل والكرامات، نحو القول بكليم اللّه، وروح اللّه، وذبيح اللّه، وحبيب اللّه؛ فعلى ذلك كان لإبراهيم - عليه السلام - خصوصية في الاسم؛ فسماه اللّه خليلا؛ فنحن نقول - وباللّه التوفيق -: ونحن نعلم بأن اللّه - تعالى - لا يسميه بالذي ذكر عبثًا باطلا؛ ولكنه سماه به تعظيمًا لقدره، وإظهارًا لكرامته، وبيانًا لمنزلته عنده لما شاء من الوجوه التي لعلها لم يطلع عليها من الخلق، ولا يحتمل أن يدرك ذلك إلا بالوحي؛ فحق ذلك علينا تعظيمه ومعرفته بالذي اختصه اللّه واصطفاه، دون تكلف المعنى الذي له كان ذلك، مع ما لا وجه ولا معنى صار حقيق ذلك وأكرم به، إلا بمعنى أكرمه اللّه وأكرمه بفضل اللّه ورحمته؛ فللّه أن يبتدئه بالخلة ثم يكرمه بأنواع الكرامات التي هي آثار الخلة، وأن يكرمه بأنواع الكرامات التي لديها تقع كرامات الخلة ويصلح، وللّه المنُّ في ذلك والفضل، وعلينا الحمد للّه والشكر؛ بما أكرمنا من معرفة كرام خلقه، وجعل قلوبنا عامرة بمودتهم حتى صاروا - بفضل اللّه ورحمته - أحب إلينا من أمسِّ الخلق بنا، بل من أنفسنا، ولا قوة إلا باللّه. ثم ليس للنصارى ادعاء البنوة للّه من حيث الكرامة على الاعتبار بالخلة؛ لأن اللّه - سبحانه وتعالى - عظم أمر الأولاد حتى جعله كالشرك، ولا كذلك أمر الخلة، ولأن أمر الأولاد حقه المجانسة، والخلة حقه الموافقة. ثم أصل الأولاد: الشهوة والحاجة، والخلة: الطاعة والتعظيم، مما يرجع أحد الوجهين إلى شهوة الولد وحاجته، والآخر إلى تعظيم يكون من ذلك العبد وتبجيله والطاعة له والخضوع. ثم الأصل: أن المعنى الذي تقتضيه الخلة قد يجوز أن يظفر كلٌّ بالطاعة، وإن كان الاسم له في حق النهاية؛ نحو قوله - تعالى -: {إِنَّ اللّه يُحِبُّ التَّوَّابِينَ. . .} الآية وقوله - تعالى -: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّه}، والمحبة قريبة من الخلة، ومحال أن يحق معنى الأولاد والبنوة بشيء من الطاعة؛ لذلك اختلف الأمران، واللّه أعلم. |
﴿ ١٢٥ ﴾