٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ... (٥) يحتمل قوله: {الْيَوْمَ} حرف افتتاح يفتتح به الكلام، لا إشارة إلى وقت مخصوص؛ على ما ذكرنا في قوله - تعالى -: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}، وقد يتكَلم باليوم لا على إشارة وقت مشار إليه. وهو - واللّه أعلم - ما حرم عليهم من الثمانية الأزواج التي ذكر اللّه - تعالى - في سورة الأنعام، وهو قوله: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ. . .} إلى آخر ما ذكر. ثم قال: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا. . .} الآية، وما حرموا هم على أنفسهم من: البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام، وغيرها من المحرمات التي كانت، فأحل اللّه ذلك لهم؛ فقال: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}، وكانت محرمة عليهم قبل ذلك، لكن أهل التأويل صرفوا الآية إلى الذبائح، لم يصرفوا إلى ما ذكرنا، وقد ذكرنا المعنى الذي به صارت الذبائح طيبات فيما تقدم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ}: عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}، أي: ذبائحهم حل لكم، وذبائحكم حل لهم. إلى هذا حمل أهل التأويل، فَإِنْ قِيلَ: أليس جعل ذبائحنا محللة لهم وذبائحهم محللة لنا، ثم تحل ذبائحنا لهم ولغيرهم؟ كيف لا حل ذبائحهم وذبائح غيرهم، وهو ذبائح المجوس؟ قيل: حل الذبائح شرعي، وليس للمجوس كتاب آمنوا به؛ فتحل ذبائحهم، وأما أهل الكتاب، فإنهم آمنوا بما في الكتاب، حله وحرمته؛ لذلك افترقا، واللّه أعلم. والآية على قول أصحاب العموم توجب حل جميع طعام أهل الكتاب لنا وحل جميع طعامنا لهم؛ لأنه قال: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ}؛ فعلى قولهم لكل واحد من الفريقين أن يتناول طعام الفريق الآخر؛ دل على أن مخرج عموم اللفظ لا يوجب الحكم عافَا للفظ، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}: اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: {وَالْمُحْصَنَاتُ} أراد به الحرائر. وقال آخرون: أراد به العفائف منهن غير زانيات؛ كقوله - تعالى -: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً}، نهى عن نكاح الزانيات، ورغب في نكاح العفائف، وهذا أشبه من الأول؛ لأنه قال في آخر الآية: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ}؛ دل هذا على أنه أراد بالمحصنات: العفائف منهن لا الحرائر، ودلت الآية على حل نكاح الحرائر من الكتابيات، وعلى ذلك اتفاق أهل العلم، لكن يكره ذلك. روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه كره تزوجهن، فهذا عندنا على غير تحريم منه لتزويجهن، ولكن رأى تزويج المسلمات أفضل وأحسن؛ لمشاركتها المسلم في دينها. وروي عن عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - كراهة ذلك؛ وذلك لأن حذيفة - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - تزوج يهودية؛ فكتب إليه عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - يأمره بطلاقها، ويقول: " كفى بذلك فتنة للمسلمات "، فهذا -أيضًا- لا على سبيل التحريم، ولكن لما ذكر من الفتنة: فتنة المسلمات، فأصحابنا - رحمهم اللّه - يكرهون أيضًا تزويج الكتابيات ولا يحرمونه. واختلف أهل العلم في تزويج إمائهن: فتأول قوم قول اللّه - تعالى -: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} على الحرائر، وتأوله آخرون على العفائف. وقد ذكرنا أن صرف التأويل إلى العفائف أشبه؛ بدلالة قوله: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} ومع ما لو كانت المحصنات هاهنا هن الحرائر، لم يكن فيه حظر نكاح إماء الكتابيات؛ لأنه إباحة نكاح الحرائر من الكتابيات، وليس في إباحة شيء في حال حظر غيره فيه، وقد ذكرنا الوجه في ذلك فيما تقدم، فالمجوسية ليست عندنا من أهل الكتاب؛ والدليل على ذلك قول اللّه - تعالى -: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا) فأخبر اللّه - تعالى - أن أهل الكتاب طائفتان؛ فلا يجوز أن يجعلوا ثلاث طوائف، وذلك خلاف ما دل عليه القرآن؛ ألا ترى أنه لو قال رجل: " إنما لي عليك يا فلان، درهمان "، لم يكن له أن يدعي عليه أكثر من ذلك، ولو قال: " إنما لقيت اليوم رجلين "، وقد لقي ثلاثة، كان كاذبًا؛ لأن قوله: " إنما لقيت رجلين "، كقوله: لقيت اليوم رجلين، ولا يجوز مثل هذا في أخبار اللّه؛ لأنه الصادق في خبره عَزَّ وَجَلَّ. فَإِنْ قِيلَ: هذا شيء حكاه اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - عن المشركين، وقد يجوز أن يكونوا غلطوا، فحكي اللّه - تعالى - عنهم ما قالوا. قيل له: لم يحك اللّه - تعالى - هذا القول عن المشركين، ولكن قطع بالقرآن عذرهم، فقال: {أُنْزِلَ الْكِتَابُ}؛ لئلا يقولوا: {إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ}، فهذا كلام اللّه واحتجاجه على المشركين، وليس بحكاية عنهم. ومن الدليل على أن المجوس ليسوا من أهل الكتاب ما قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - وهو في مجلس بين القبر والمنبر: ما أدري كيف أصنع بالمجوس، وليسوا بأهل الكتاب؟ "، فقال عبد الرحمن بن عوف: سمعت رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول: " سُنُوا بِالمَجُوسِ سُنَّةَ أَهْلِ الكِتَابِ ". صرح عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - بأنهم ليسوا أهل الكتاب، ولم ينكر عبد الرحمن ذلك عليه، ولا أحد من الصحابة - رضوان اللّه عليهم أجمعين - فلو كانوا أهل الكتاب لقال: " هم أهل الكتاب "، لم يقل: " سُنُّوا بِهِم سُنَّةَ أَهْلِ الكِتَابِ ". وكذلك روي عن الحسن بن مُحَمَّد أنه قال: كتب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى مجوس هجر، فقال: " أَدْعُوكم إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللّه، وَأَني رَسُولُ اللّه فَإِنْ أَسْلَمْتُم فَلَكُم مَا لَنَا وَعَلَيكُم مَا عَلَينَا، وَمَنْ أَبَى فعَلَيهِ الْجِزيَةُ، غَيرَ آكِلي ذَبَائِحِهِمِ، وَلَا نَاكِحِي نِسَائِهِم ". وإلى هذا ذهب أصحابنا - رحمهم اللّه - في قولهم: إن المجوس ليسوا بأهل كتاب. وأما نصارى بني تغلب: فإن عليًّا - رضي اللّه عنه - قال: لا تحل ذبائح نصارى العرب؛ فإنهم ليسوا بأهل كتاب، وقرأ: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ}. وقال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - تؤكل، وقرأ: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ. . .}. والآية الأولى تدل على أنهم أهل كتاب؛ لأن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - قد جعلهم منهم بقوله: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ}، فحكمهم حكمهم؛ إذ أخبر اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - أنهم منهم. ومما يدل على ذلك -أيضًا- قول رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث قال: " لَا يَخْتَلِجَنَّ فِي صَدْرِكَ طَعَامٌ ضًارَعت فِيهِ النَّصْرَانِية "؛ لأنه عم فيه النصارى؛ فدخل فيه عربهم وعجمهم؛ لأنهم دانوا بدينهم، وكل من دان بدين قوم فهو منهم. ومن الدليل على أن العرب إذا دانوا بدين أهل الكتاب فهم من أهل الكتاب -: أن العجم لما أسلموا صار حكمهم حكم عرب أهل الإسلام؛ فإن ارتد أحد منهم، وسأل أن تؤخذ منه الجزية؛ كما كانت تؤخذ في الابتداء من المجوس - لم يُجَبْ إلى ذلك، وقيل له: إما أن تسلم، وإما أن تقتل، فهو بمنزلة عربي مسلم لو ارتد عن الإسلام، فلما كان حكم العجمي إذا دان بدين النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حكم العرب - وجب أن يكون حكم العربي إذا دان بدين العجم من أهل الكتاب أن يجعل حكمه حكمهم، وباللّه التوفيق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}: ذكر إيتاء أجورهن، وقد يحللن لنا إذا لم نؤت أجورهن؛ دل أن ذكر الحكم في حال لا يوجب حظره في حال أخرى؛ فهو دليل لنا في جواز نكاح الإماء من أهل الكتاب، وإن ذكر في الآية المحصنات. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ. . .} الآية. أي: ومن يكفر بالذي عليه الإيمان به، وهو الْمُؤْمَنُ به، أي: اللّه؛ لأنه لا يكفر بالإيمان، ولكن يؤمن به، وهو كقوله: {حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}، أي: الموقَن به؛ فعلى ذلك الأول معناه: ومن يكفر بالذي عليه الإيمان به، وهو الْمُؤْمَنُ به {فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، وباللّه العصمة والهداية. * * * |
﴿ ٥ ﴾