سُورَةُ الْأَنْعَامِ

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {الْحَمْدُ للّه الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} الحمد: هو الثناء عليه بما صنع إلى خلقه من الخير.

ألا ترى أن الذم نقيضه في: الشاهد، ويحمد المرء بما يصنع من الخير، ويذم على ضده.

فالتحميد: هو تمجيد الرب، والثناء عليه، والشكر له بما أنعم عليهم.

والتسبيح: هو تمجيد الرب وتنزيهه عما قالت الملحدة فيه من الولد وغيره.

والتهليل: هو تمجيد الرب وتنزيهه عما جعلوا له من الشركاء والأضداد، والوصف له بالوحدانية والربوبية.

والتكبير: هو تمجيد الرب والوصف له بالعظمة والجلال، وتنزيهه عمّا وصفوه

بالعجز والضعف عن أن يكون ينشئ من العظام البالية خلقًا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ}.

سفههم - عَزَّ وَجَلَّ - بما جعلوا له من الشركاء والأضداد على إقرار منهم أنه خلق السماوات والأرض، ولم يجعلوا له شركاء في خلقهما، وعلى علم منهم أنه تُعَلَّق منافع الأرض بمنافع السماء، مع بعد ما بينهما كيف جعلوا شركاء يشركونهم في العبادة والربوبية؟!.

وقوله - تعالى -: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ}.

قال الحسن: الظلمات والنور: الكفر والإيمان.

 وقال غيره من أهل التأويل: الليل والنهار في الحقيقة ما يكشف عما استتر من الأبصار: أبصار الوجوه، وأبصار القلوب.

والظلم ما يستر ويغطي على الأبصار: أبصار الوجوه، وأبصار القلوب، فالظلمة تجعل كل شيء مستورًا عليه، والنور يجعل كل شيء كان مستورًا عليه ظاهرًا باديًا، هذا هو تفسير الظلمة والنور حقيقة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} قيل: يشركون مع ما بيَّن لهم ما يدل على وحدانية الرب وربوبيته، أي: جعلوا كل ما يعبدونه دون اللّه عديلا للّه، وأثبتوا المعادلة بينه وبين اللّه - تعالى - وليس للّه - تعالى - عديل، ولا نديد، ولا شريك، ولا ولد، ولا صاحبة، تعالى اللّه عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.

وقال الحسن: {بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} أي " يكذبون.

٢

وقوله - تعالى -: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) أي: خلق آدم أبا البشر من طين، فأما خلق بني آدم من ماء؛ كقوله تعالى: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ}، أخبر اللّه - تعالى - أنه خلق آدم من الطين، وخلق بني آدم - سوى عيسى عليه السلام - من النطفة، وخلق عيسى - عليه السلام - لا من الطين ولا من الماء؛ ليعلموا أنه قادر على إنشاء الخلق لا من شيء، وأنه لا اختصاص للخلق بشيء، ولا ينكرون -أيضًا- إنشاء الخلق وإحياءهم وموتهم، وذلك لأنه لا يخلوا إما أن صاروا ترابًا أو ماء، أو لا ذا ولا ذا، فإذا رأوا أنه خلق آدم من الطين، وخلق سائر الحيوان من الماء، وخلق عيسى - عليه السلام - لا من هذين، كيف أنكروا إنشاء الخلق بعد الموت، وهو لا يخلو من هذه الوجوه التي ذكرنا؛ فيكون دليلا على منكري البعث بعد الموت،

على الدهرية في إنشاء الخلق لا من شيء؛ فإنهم ينكرون ذلك ويحيلونه؛ ولهذا وقعوا

في القول بقدم العالم، واللّه الهادي.

ويحتمل قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} أن يراد به في حق جميع بني آدم، وأضاف خلقنا إلى الطين، وكأن الخلق من الماء؛ لما أُبقِيَ في خلقنا من قوة ذلك الطين الذي في آدم وأثره، وإن لم يُرِه تلك القوة وذلك الأثر، وهذا كما أن الإنسان يرى أنه يأكل، ويشرب، ويغتذي، ويحصل به زيادة قوة في سمعه وبصره، وفي جميع جوارحه، وقد يحيا بها جميع الجوارح، وإن لم ير تلك القوة، فكذلك هذا.

ويحتمل -أيضًا- على ما روي في القصة أنه يمازج مع النطفة شيئًا من التراب، فيؤمر الملك بأن يأخذ شيئًا من التراب من المكان الذي حكم بأن يدفن فيه، فيخلط بالنطفة، فيصير علقة ومضغة، فإنما نسبهم إلى التراب لهذا.

ويحتمل النسبة إلى التراب وإن لم يكونوا من التراب؛ لما أن أصلهم من التراب، وهو آدم.

وقوله - تعالى -: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ}

فالقضاء يتوجه إلى وجوه كلها ترجع إلى معنى انقطاع الشيء وتمامه، وقد يكون لابتداء فعل وإنشائه؛ كقوله - تعالى -: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ}، ويقال: قضيت هذا الثوب، أي: عملته وأحكمته.

وقد يكون بمعنى الأمر؛ قال اللّه - تعالى -: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} أي: أمر ربك؛ لأنه أمر قاطع حتم.

وقد يكون بمعنى الإعلام؛ قال - تعالى -: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ}، أي: أعلمناهم إعلامًا قاطعًا. وقد يكون لبيان الغاية والانتهاء عنه والختم؛ كقوله - تعالى -: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا} أي: ختم ذلك وأتمه، وقد يكون غير ما ذكرنا.

 ثم قوله: {قَضَى أَجَلًا} يحتمل هذا كله سوى الأمر.

ثم قوله: {قَضَى أَجَلًا} وقيل: هو الموت، {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} يوم القيامة، أطلعنا على أحد الأجلين وهو الموت؛ لأنا نرى من يموت ونعاين، ولم يطلعنا على الآخر وهو الساعة والقيامة.

وقيل: {قَضَى أَجَلًا}: أجل الدنيا من خلقك إلى أن تموت، {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} ويوم القيامة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ}.

أي: تشكون وتكذبون بعد هذا كله.

٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ اللّه فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ ... (٣) هذا - واللّه أعلم - صلة قوله: {الْحَمْدُ للّه الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} فإذا كان خالقهما لم يَشْرَكْهُ أحد في خلقهما، كان إله من في السماوات وإله من في الأرض لم يَشْرَكْهُ أحد في ألوهيته، ولا في ربوبيته.

ويحتمل قوله: {وَهُوَ اللّه فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} أي: إلى اللّه تدبير، ما في السماوات وما في الأرض، وحفظهما إليه؛ لأنه هو المتفرد بخلق ذلك كله؛ فإليه حفظ ذلك وتدبيره.

وقوله: {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} اختلف فيه.

قيل: {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ}: ما تضمرون في القلوب {وَجَهْرَكُم}: ما تنطقون، {وَيَعْلَمُ مَا تكسِبُونَ}: من الأفعال التي عملت الجوارح؛ أخبر أنه يعلم ذلك كله؛ ليعلموا أن ذلك كله يحصيه ليحاسبهم على ذلك؛ كقوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللّه}، أخبر أنه يحاسبهم بما أبدوه وما أخفوه، فعلى ذلك الأول قد أفاد أن ذلك كله يحصيه عليهم، ويحاسبهم في ذلك؛ ليكونوا على حذر من ذلك وخوف. وقيل: {يَعْلَمُ سِرَّكُم}: ما خلق فيهم من الأسرار، من نحو السمع، والبصر وغيرهما؛ لأن البشر لا يعرفون ماهية هذه الأشياء وكيفيتها، ولا يرون ذلك كما يرون غيرها من الأشياء، ولا يعرفون حقائقها؛ أخبر أنه يعلم ذلك وأنتم لا تعلمون.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَجَهْرَكُم} أي: الظواهر منكم، {وَيَعْلَمُ مَا تكسِبُونَ}: من الأفعال والأقوال.

٤

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ}

يحتمل: ما تأتيهم من آية من آيات توحيده، أو من آيات إثبات رسالة مُحَمَّد ونبوته - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويحتمل في إثبات البعث والنشور بعد الموت؛ لما أخبر أنه خلقهم من طين، فإذا ماتوا صاروا ترابًا، فإذا كان بدء إنشائهم من طين، فإذا عادوا إليه يقدر على إنشائهم ثانيا؛ إذ ليس إنشاء الثاني بأعسر من الأول. ثم يحتمل الآيات آيات القرآن.

ويحتمل الآيات ما كان أتى به رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من الآيات سوى آيات القرآن.

ثم أخبر عن تعنتهم ومكابرتهم بقوله: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ}، فإذا أعرضوا عنها لم ينتفعوا بها؛ ليعلم أنه إنما ينتفع بالآيات من تأملها ونظر فيها لا من أعرض عنها.

ثم سورة الأنعام إنما نزلت في محاجة أهل الشرك، ولو لم يكن القرآن معجزًا كانت

سورة الأنعام معجزة؛ لأنها نزلت في محاجة أهل الشرك في إثبات التوحيد والألوهية للّه والبعث، فكيف يكون وقد جعل اللّه القرآن آية معجزة عَجَزَ البشرُ عن إتيان مثله،

 ولم يكونوا يومئذ يعرفون التوحيد والبعث، كانوا كلهم كفارًا عبدة الأوثان والأصنام لا يحتمل أن يكون رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ألف ذلك وأنشأه من ذات نفسه؛ ليعلم أنه إنما عرف ذلك باللّه.

وفيه دلالة إثبات المحاجة في التوحيد والمناظرة فيه؛ لأن أكثرها نزلت في محاجة أهل الشرك، وهم كانوا أهل شرك، وينكرون البعث والرسالة، فتنزل أكثرها في محاجتهم في التوحيد وإثبات البعث والرسالة.

وفيه أنه إذا ثبت فساد قول أحد الخصمين، ثبت صحة قول الآخر؛ لأن إبراهيم لما قال: {هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ}، أثبت فساد عبادة من يعبد الآفل بالأفول.

٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ ... (٥) يحتمل الحق: الآيات التي كان يأتي بها رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من آيات التوحيد وآيات البعث.

ويحتمل القرآن، ولو لم يكن يأتي رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بآية كانت نفسه آية عظيمة من أول نشأته إلى آخر عمره؛ لأنه عصم حتى لم يأت منه ما يستسمج ويستقبح قط؛ فدل أن ذلك إنما كان لما جعل آية في نفسه، وموضعًا لرسالته، وعلى ذلك تخرج إجابة أبي بكر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - في أول دعوة دعاه إلى ذلك لما كان رأى منه من آيات، فلما دعاه أجابه في ذلك مع ما كان منعه من آيات عظيمة، وأعلام عجيبة.

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} معناه - واللّه أعلم - أن يأتيهم وينزل بهم ما نزل بالمستهزئين، وإلا كان أتاهم أنباء ما نزل بالمستهزئين، ولكن معناه ما ذكرنا، أي: ينزل بهم ويحل ما نزل وحل بالمستهزئين.

ويحتمل قوله وجهًا أَخر: {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} وهو العذاب؛ لأن الرسل كانوا يوعدونهم أن ينزل بهم العذاب بتكذيبهم الرسل، فعند ذلك يستهزئون بهم؛ كقوله: {عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا}، وكقوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ}، وغير ذلك؛ إذ قالوا: {اللّهمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}، فأخبر أنه ينزل بهم ذلك كما نزل بأُولَئِكَ.

٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ ... (٦) قال الحسن: ألم يروا: ألم يعتبروا {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ}.

وقال أبو بكر الكيساني: {أَلَمْ يَرَوْا} قد رأوا {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ} قال: وهو واحد، قد رأوا آثار الذين أهلكوا بتكذيبهم الرسل، وتعنتهم ومكابرتهم، لكنهم لم يعتبروا بذلك.

- وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ}

قَالَ بَعْضُهُمْ: أعطيناهم من الخير والسعة والأموال ما لم نمكن لكم يا أهل مكة أي: لم نعطكم، ثم إذا كذبوا الرسل أهلكهم اللّه - تعالى - وعاقبهم بأنواع العقوبة.

ويحتمل: مكناهم في الأرض من القوة والشدة؛ كقوله: {وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً}، ثم مع شدة قوتهم أهلكوا إذ كذبوا الرسل.

ويحتمل وجها آخر: {مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} أي: في قلوب الخلق، من نفاذ القول، وخضوع الناس لهم؛ لأنهم كانوا ملوكًا وسلاطين الأرض، من نحو نمرود، وفرعون، وعاد، مع ما كانوا كذلك أهلكوا إذ كذبوا الرسل، وأنتم يا هَؤُلَاءِ ليس

لكم شيء من ذلك، أفلا تهلكون إذا كذبتم الرسل؟! وإنما حملهم على تكذيب الرسل - واللّه أعلم - لما كانوا ذوي سعة وقوة، فلم يروا الخضوع لمن دونهم في ذلك لما رأوا الأمر بالخضوع لمن دونهم في ذلك جورًا غير حكمة، وإنما أخذوا ذلك من إبليس اللعين؛ حيث قال عند أمره بالسجود لآدم، فقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} فعلى ذلك هَؤُلَاءِ الكفرة رأوا الأمر بالخضوع لمحمد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - جورًا منه، حتى قالوا: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا} قَالَ الْقُتَبِيُّ: مدرارا بالمطر: أي غزيرا، من درَّ يدرُّ.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: أي: درت عليهم السماء بالمطر، أي: كثر ودام وتتابع واحدا بعد واحد في وقت الحاجة {وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ} أخبر عن سعة، أُولَئِكَ،

 وما أنعم عليهم من كثرة الأمطار والأنهار ما لم يكن ذلك لهَؤُلَاءِ، ثم مع ما كان أعطاهم ذلك أهلكهم إذ كذبوا الرسل.

فَإِنْ قِيلَ: كيف ذكر إهلاك هَؤُلَاءِ، وخوف أُولَئِكَ ذلك بتكذيبهم الرسل، وقد أهلك الرسل والأولياء من قبل؟

قيل: لأن إهلاك أُولَئِكَ إهلاك عقوبة وتعذيب؛ لأنه كان أهلكهم هلاك استئصال واستيعاب؛ خارجًا عن الطبع، وأهلك أُولَئِكَ الرسل والأولياء لا إهلاك عقوبة خارجًا عن الطبع؛ لذلك كان ما ذكر.

* * *

٧

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} يخبر بشدة تعنتهم أنهم وإن أتوا ما سألوا من الآيات لم يؤمنوا به؛ لأنهم كانوا سألوا رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن ينزل كتابًا يعاينونه، ويقرءونه، كقوله: {وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ} وكقوله: {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً}، ونحوه من الآيات،

وقوله: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ} أي: في صحيفة، مكتوبًا، يعلمون أنه لم يكتب في الأرض، ولمسوه بأيديهم، وعاينوه لم يؤمنوا به، ولا صدقوه، وقالوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} يخبر رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنهم لا يؤمنون، ويخبره بشدة تعنتهم أنهم لا يؤمنون وإن جئت بكل آية؛ إذ قد أتاهم من الآيات ما إن تأملوا ولم يتعنتوا لدلتهم على ذلك، لكنهم أعرضوا عنها، ولم يتأملوا فيها لتعنتهم، وشدة مكابرتهم، واللّه أعلم.

٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ... (٨) أن مشركي العرب كانوا لا يعرفون

 الرسل، ولا الكتب، ولا كانوا آمنوا برسول ولا كتاب، فقالوا: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا}، ونحوه من السؤال، فيسألون إنزال الملك.

ثم يحتمل سؤالهم إنزال الملك لما لم يكونوا رأوا الرسل يكونون من البشر، وإنما رأوا الرسول إن كان يكون ملكًا، فقالوا: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ}.

ويحتمل أن يكون سؤالهم إنزال الملك سؤال عناد وتعنت، لا سؤال طلب الرسول من الملائكة، فقال: {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا} على ما سألوا {لَقُضِيَ الْأَمْرُ} أي أن الملك إذا نزل على إثر سؤال العناد والتعنت ينزل بالعذاب والهلاك، فهذا يبين أن سؤالهم سؤال تعنت وعناد.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ} أي أنهم كانوا يسألون إنزال الملك آية لصدقه - عليه السلام - فقال: {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ} أي: يهلكون؛ لأن الآيات إذا نزلت على إثر سؤال القوم ثم خالفوا تلك الآيات وكذبوها لنزل بهم العذاب والهلاك، وإن جاءت الآيات على غير سؤال، فكذبوها يمهلون، ولا يعذبون عند تكذيبهم إياها، واللّه أعلم.

٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا ... (٩)

قيل: آدميًّا بشرًا، ويحتمل هذا وجوهًا:

أحدها: أي: لو بعثنا الرسول ملكًا لجعلناه على صورة البشر؛ لأنه لو كان على صورة الملائكة لصعقوا ودهشوا؛ لأنه ليس في وسع البشر رؤية الملك على صورته.

ألا ترى أن جبريل - عليه السلام - إذا نزل على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم ينزل على صورته، ولكن كان ينزل على صورة البشر، حتى ذكر أنه كان ينزل عليه على صورة

دحية الكلبي، وأنه متى رآه على صورته صعق وتغير حاله، فإذا رأوا ذلك في وجهه قالوا: إنه لمجنون، فقال: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا} ويكون فيه ما في رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من اللبس به.

والثاني: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا}؛ لأنهم لا يعرفون صدقه، فيحتاجون إلى الدلائل، والآيات التي تدلهم على أنه ملك، وعلى صدقه، فذلك لا يعرف إلا بالبشر؛ لأنهم لا يعرفون صدقه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ. . .} الآية.

قالوا: لا يجوز إضافة اللبس إلى اللّه - تعالى - إلا على المجازاة للبس، كالاستهزاء،

والمكر، والخداع.

ويحتمل قوله: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} أي: لو جعلناه ملكًا للبسنا عليهم ما لبس أُولَئِكَ على صنيعهم؛ حيث قالوا: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}، و {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا}، وغير ذلك من الكلام، لكنا لا نفعل حتى لا يكون ذلك لبسًا؛ إذ ليس في وسعهم النظر إلى الملك، ولو جعلنا ذلك ملكًا لكان ذلك لبسًا.

فإن قال لنا ملحد في قوله: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ} سألوا أن ينزل على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ملك،

وقال: {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ}، وأنتم تقولون: إنه قد أنزل عليه الملك، وهو أخبر لو أنزل عليه الملك لقضي الأمر، ولم يقض الأمر، كيف لآيات لكم إنما اختار ذلك من نفسه؛ لأن اللّه أنزل عليه ذلك.

قيل: إنهم إنما سألوا أن ينزل عليهم الملك - وإن لم يذكر في الآية السؤال - لما ذكر في آية أخرى؛ كقولهم: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا}، أو سألوا أن

 تأتيهم الملائكة وتأتيه، قالوا: كيف يخَصُّ هو بإتيان الملائكة دوننا وهو كواحد منا؛ كقوله: {لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}، وهذا جائز أن يكون أسئلة لم تذكر، ويكون في الجواب بيان ذلك، على ما ذكرنا من قبل في غير موضع.

١٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (١٠)

يصبر رسوله على تكذيب قومه ليعلم أنه ليس هو أول مكذب، ولكن قد كذب الرسل الذين من قبلك، ويخبره أنه يلحق هَؤُلَاءِ بتكذيبك كما لحق أُولَئِكَ بتكذيبهم الرسل.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَحَاقَ}.

قال أَبُو عَوْسَجَةَ: " حاق " أي: رجع، يقال: حاق يحيق حيقًا، أي: رجع عليهم.

وقال الكيساني: حاق بهم أي: أحاط بهم ونزل.

١١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١) ليس على الأمر بالسير في الأرض، ولكن على الاعتبار والتفكر فيما نزل بأُولَئِكَ بتكذيبهم الرسل؛ لأنه - عَزَّ وَجَلَّ - أراهم آيات عقلية وسمعية، فلم ينفعهم ذلك، فأراد أن يريهم آيات حسية ليمنعهم ذلك عن التكذيب والعناد.

* * *

١٢

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ للّه}.

يحتمل وجهين:

أحدهما: أن يخرج مخرج البيان لهم وأنه ليس على الأمر؛ لأنه لو كان على الأمر لكان يذكر سؤاله لهم، ولم يذكر وإن سألهم، لا يحتمل ألا يخبروه بذلك، فلما لم يذكر

سؤاله لهم عن ذلك، ولا يحتمل أن يأمره بالسؤال ثم لا يسأل، أو يسأل هو ولا يخبرونه - فدل أنه على البيان خرج لا على الأمر.

والثاني: على أمر سبق؛ كقوله - تعالى -: (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ للّه)، وكقوله: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ. . .}، إلى قوله: {سَيَقُولُونَ للّه}،

وقوله: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، ونحوه، كان على أمر سبق، فسخرهم - عَزَّ وَجَلَّ - حتى قالوا: اللّه؛ كقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّه} ذلك تسخير منه إياهم حتى قالوا: اللّه.

وفي حرف ابن مسعود، وأبي بن كعب - رضي اللّه عنهما - {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ للّه} هذا يدل على أنه كان على أمر سبق.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: سلهم، فإن أجابوك فقالوا: للّه، وإلا فقل لهم أنت: للّه.

وقال قائلون: فإن سألوك لمن ما في السماوات والأرض؟ قل للّه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}.

قال الحسن: كتب على نفسه الرحمة للتوابين إن شاء أن يدخلهم الجنة، لا أحد يدخل الجنة بعمله، إنما يدخلون الجنة برحمته، وعلى ذلك جاء الخبر عن نبي اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " لا يدخل أحد الجنة بعمله " قيل: ولا أنت يا رسول اللّه؟ قال: " ولا أنا إلا أن يتغمدني اللّه برحمته ".

وقيل: كتب على نفسه الرحمة أن يجمعهم إلى يوم القيامة، أي: من رحمته أن يجمعهم إلى يوم القيامة، حيث جعل للعدو عذابًا، وللولي ثوابًا، أي: من رحمته أن يجمعهم جميعًا، يعاقب العدو ويثيب الولي.

وقيل: أي: من رحمته أن جعل لهم الجمع، فأوعد العاصي العذاب، ووعد

 المطيع الثواب؛ ليمنع العاصي ذلك عن عصيانه، وليرغب المطيع في طاعته، وذلك من رحمته.

وقال قائلون: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} لأمة مُحَمَّد ألا يعذبهم عند التكذيب، ولا يستأصلهم، كما عذب غيرهم من الأمم، واستأصلهم عند التكذيب، فالتأخير الذي أخرهم إلى يوم القيامة من الرحمة التي كتب على نفسه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} قيل: {إِلَى} صلة، ومعناه: ليجمعنكم يوم القيامة.

وقيل: {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} أي: ليوم القيامة، كقوله: {لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ}.

وقال قائلون: قوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} في القبور {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} ثم يجمعكم يوم القيامة والقرون السالفة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَا رَيْبَ فِيهِ} أي: لا ريب في الجمع والبعث بعد الموت عند من يعرف أن خلق الخلق للفناء خاصة، لا للبعث والإحياء بعد الموت للثواب والعقاب، ليس لحكمة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} قد ذكرناه.

١٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣) في الآية - واللّه أعلم - إنباء أن الخلق كلهم تحت قهر الليل والنهار وسلطانهما، مقهورين مغلوبين؛ إذ لم يكن لأحد من الجبابرة، والفراعنة الامتناع عنهما، ولا صرف أحدهما إلى الآخر،

بل يدركانهم، شاءوا أو أبوا، وسلطانهما جار عليهم ليعلموا أن لغير فيهما تدبيرا، وأن قهرهما الخلق وسلطانهما كان بسلطان من له التدبير والعلم، ثم جريانهما على سنن واحد ومجرى واحد يدل على أن منشئهما واحد، ومدبرهما عليم حكيم.

وقال بعض أهل التأويل: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}، ما استقر في الليل والنهار، من الدواب والطير، في البر والبحر، فمنها ما يستقر نهارًا وينتشر ليلا، ومنها ما يستقر بالليل وينتشر بالنهار.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} وذلك أن كفار أهل مكة أتوا رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وقالوا: يا مُحَمَّد، إنا قد علمنا أنه ما يحملك على هذا الذي تدعو إليه إلا الحاجة، فنحن نجعلك في أموالنا حتى تكون أغنانا رجلا، وترجع عما أنت عليه؛ فنزلت: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ}؛ لمقالة أُولَئِكَ.

{العَلِيمُ} من أين يرزقهم، لكن الوجه فيه ما ذكرنا آنفًا أن الخلق كلهم تحت قهرهما وسلطانهما.

وفيهما وجوه من الحكمة:

أحدها: بعض ما ذكرنا ليعلم أن مدبرهما واحد، وفيه نقض قول الفلاسفة؛ لأنهم

 يقولون: الظلمة كثافة ستارة، والنور دقيق دراك.

وفيهما ما ذكر من المنافع بقوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا} وغيره من المنافع.

وقوله - عزَّ وجلَّ -: {وَهُوَ السَّمِيعُ} لمن دعا له، {الْعَلِيمُ}: بمصالح الخلق وحاجتهم.

١٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قُلْ أَغَيْرَ اللّه أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ} وفي حرف ابن مسعود - رضي اللّه عنه -: {رَبًّا}؛ كأن هذا صلة قوله: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ للّه} فإذا أقررتم أن ذلك كله للّه فكيف تتخذون له شركاء فتعبدون غير اللّه وهو فاطر السماوات والأرض ومنشئهما ومنشئ ما فيهما، كيف صرفتم العبادة إلى غير اللّه؟ وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ}.

قال أهل التأويل: هو يرزق ولا يرزق، ليس كمن له عبيد في الشاهد يرزق بعضهم بعضًا، الموالي من العبيد، والعبيد من السادات، ينتفع بعضهم من بعض، فأما اللّه - سبحانه وتعالى - خلق الخلق لا لمنفعة نفسه؛ لأنه غني بذاته، والخلق فقراء إليه؛ كقوله - تعالى -: {أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللّه وَاللّه هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ}.

قال الحسن: أول من أسلم من قومه، وأصله: {إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} أي: أُمرت أن أسلم وأخضع أنا أولا، ثم آمركم بذلك.

 واحتج بعض الناس بظاهر هذه الآية أن الإسلام لا يلزم إلا بالأمر والدعاء إليه، وقالوا: إن من مات قبل أن يؤمر به، وقبل أن يدعي إليه - فإنه لا شيء عليه، وعلى ذلك من مات في وقت الفترة وانقطاع الرسل والوحي؛ لأنّه قال: {إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} أخبر أنه أمر بذلك، وإذا لم يكن ثَمَّ أمر لم يلزم، لكن الوجه في الآية ما ذكرنا، أي: أمرت أن أسلم وأخضع أولا ثم آمر غيري، فإذا كان التأويل هذا بطل أن يكون في ذلك حجة لهم.

١٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥)

قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: قل يا مُحَمَّد لكفار أهل مكة: {إِنِّي أَخَافُ}، أي أعلم {إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} فعبدت غيره، {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}.

هذا التأويل صحيح إن كان ما ذكر من سؤالهم رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعرضهم المال عليه ليعود ويرجع إلى دينهم، فيخرج هذا على الجواب لهم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله - تعالى -: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} وعلى الخوف، لكن لقائل أن يقول: كيف خاف عذاب يوم عظيم وقد أخبر أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟! وكيف قال: {إِنْ عَصَيْتُ} وقد أخبر أنه عصمه وغفر له؟

قيل: يحتمل أن تكون المغفرة له على شرط الخوف غفر له ليخاف عذابه.

١٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ ... (١٦) قال بعض المعتزلة: الرحمة هاهنا: الجنة؛ لأن اللّه - تعالى - جعل في الآخرة دارين؛ إحداهما:

النار، سماها سخطًا.

والأخرى: الجنة، سماها رحمة.

وإنما حملهم على هذا أنهم لا يصفون اللّه بالرحمة في الأزل، فعلى قولهم يكون قول رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إلا أن يتغمدني اللّه برحمته "، أي: يثيبني الجنة.

ولكن سميت الجنة رحمة عندنا لما برحمته يدخلون الجنة، لا بأعمالهم؛ لما روينا عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث قال: " لا يدخل أحد الجنة بعمله " قيل: ولا أنت يا رسول اللّه؟ قال: " ولا أنا إلا أن يتغمدني اللّه برحمته ".

وعلى قول المعتزلة فيكون اللّه بالملائكة رحيمًا لأنه [ ..... ]، ولا ثواب، ولكن الوجه فيه ما ذكرنا أنها سميت رحمة لما برحمته يدخل فيها.

وعلى هذا يخرج ما سمي المطر رحمة لما برحمته ينزل، وكذلك كل ما سمي رحمة

 في الشاهد يخرج على ما ذكرنا، واللّه أعلم.

ثم قوله: {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ}.

قيل: من يصرف عنه العذاب يومئذ فقد رحمه، وكذلك روي في حرف حفصة: {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ}، وفي حرف ابن مسعود: (من يصرف عنه شر ذلك اليوم فقد رحمه).

ويحتمل أن يكون قوله: {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ} صلة قوله: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}.

وكذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال في قوله - تعالى -: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ}: قل لكفار أهل مكة حين دعوه إلى دينهم، على ما ذكر في بعض القصة: (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ}.

وذلك الصرف - يعني: صرف العذاب - الفوز المبين، وإنما ذكره - واللّه أعلم - فوزا مبينًا؛ لأنه فوز دائم، لا زوال له، وليس كفوز هذه الدنيا يكون في وقت ثم يزول عن قريب، ولا كذلك فوز الآخرة.

١٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللّه بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧)

فيه إخبار أن ما يصيب العبد من الضرّ والخير إنما يصيب به، ثم الضر المذكور في الآية لا يخلو من أن يراد به سقم النفس، أو ضيق العيش، أو شدة وظلم يكون من

 العباد لا يخلو من هذه الأوجه الثلاثة، فإذا كان كذلك فدل إضافة ذلك إلى اللّه - تعالى - على أن للّه فيه فعلا، وهو أن خلق فعل ذلك منهم، فهو على كل شيء قدير من كشف الضر له، والصرف عنه، هاصابة الخير لا يملك ذلك غيره.

١٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨)

في هذه الآية والآية الأولى ذكر أهل التوحيد؛ لأنه أخبر أن ما يصيب العباد من الضر والشدة لا كاشف لذلك إلا هو، ولا يدفع ذلك عنهم ولا يصرفه إلا اللّه، وأن ما يصيبهم مق الخير إنما يصيبهم بذلك اللّه، وأخبر أنه على كل شيء قدير.

وفي قوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} وإخبار أنه قاهر يقهر الخلق، عزيز، قادر، وله سلطان عليهم، وأنهم أذلاء تحت سلطانه.

وفي قوله: {فَوْقَ عِبَادِهِ} إخبار بالعلوية، والعظمة، وبالتعالي عن أشباه الخلق.

{وَهُوَ الْحَكِيمُ}: يضع كل شيء موضعه.

{الْخَبِيرُ}: بما يسرون وما يعلنون، إخبار ألَّا يخفى عليه شيء، وأنه يملك وضع كل شيء موضعه، وأن ما يصيبهم من الضر والشدة إنما يكون به، لا يملك أحد صرفه، وأن ما ضر أحد أحدًا في الشاهد، أو نفع أحد أحدًا إنما يكون ذلك باللّه في الحقيقة.

وفي هذه الأحرف: إخبار عن أصل التوحيد وما يحتاج إليه لما ذكرنا من الوصف له بالقدرة والقهر، والوصف له بالعلو والعظمة، والتعالي عن أشباه الخلق، والوصف له بالحكمة في جميع أفعاله، والعلم بكل ما كان ويكون.

١٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً ... (١٩)

كأن في الآية إضمارًا - واللّه أعلم - أي {قُلْ} يا مُحَمَّد {أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً}،

فيقولون: اللّه؛ لأنهم كانوا يقرون أنه خالق السماوات والأرض، وأنه أعظم من كل شيء؛ لكنهم يشركون غيره في عبادته، ويقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى}، وإلا كانوا يقرون بالعظمة له والجلال، فإذا سئلوا: {أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً}، فيقولون: اللّه.

ويحتمل -أيضًا- أن يقول لنبيه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إنهم إذا سألوا: {أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً}؟ قل: اللّه، فإنك إذا قلت لهم ذلك يقولون هم أيضًا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قُلِ اللّه شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}.

في كل اختلاف بيننا وبينكم في التوحيد، والبعث بعد الموت، ونحوه.

ويحتمل: {قُلِ اللّه شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} وفي كل حجة وبرهان أتاهم الرسول به.

وفي قوله: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ}: دلالة أنه يقال له شيء؛ لأنه لو لم يجز أن يقال له شيء لم يستثن الشيء منه، وكذلك في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} أنه

قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللّه شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ

شيء؛ لأن " لا شيء " في الشاهد، إنما يقال إما للنفي أو للتصغير، ولا يجوز في الغائب النفي ولا التصغير؛ فدل أنه إنما يرادب " الشيء " الإثبات لا غير وباللّه العصمة.

ذكر في بعض القصة في قوله: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً} أن رؤساء مكة أتوا رسول اللّه، فقالوا: يا مُحَمَّد، أما وجد اللّه رسولا يرسله غيرك، ما ترى أحدًا يصدقك بما تقول، ولقد سالنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر، ولا صفة، ولا مبعث، فأرنا من شهد لك أنلث رسول اللّه كما تزعم. فقال اللّه - تعالى -: يا مُحَمَّد، قل لهم: {أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً}، يقول: أعظم شهادة؛ يعني: البرهان، مُحَمَّد حجة وبرهان، فإن أجابوك فقالوا: اللّه، وإلا فقل لهم: اللّه أَكْبَرُ شهادة من خلقه أني رسوله، واللّه شهيد بيني وبينكم في كل اختلاف بيننا وبينكم، في التوحيد، وإثبات الرسالة، والبعث، وكل شيء.

وذكر في هذه القصة أنهم لما قالوا: من يشهد أن اللّه رسلك رسولا، قالوا: فهلا أنزل إليك ملك. فقال اللّه لنبيه: قل لهم: {أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً}؛ فقالوا: اللّه أَكْبَرُ شهادة من غيره، فقال اللّه:، قل لهم يا مُحَمَّد: اللّه شهيد بيني وبينكم أني رسول اللّه، وأنه {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ}، ومن بلغه القرآن من الجن والإنس فهو نذير له.

ثم قال لهم: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّه آلِهَةً أُخْرَى}، قالوا: نعم، نشهد. فقال اللّه لنبيّه: قل لهم: لا أشهد بما شهدتم، ولكن أشهد أنما هو إله واحد، وإنني بريء مما تشركون.

وقوله - عَزَّ وَجَلََّ: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}.

كأنه قال: أوحي إليَّ هذا القرآن الذي تعرفون أنه من عند اللّه جاء؛ لأنه قال لهم: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ}، فعجزوا عن إتيان مثله، فدل عجزهم عن إتيان مثله أنهم عرفوا أنه جاء من عند اللّه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}: لا ينذر بالقرآن ولكن ينذر بما في القرآن؛ لأنه فيه أنباء ما حل بأشياعهم بثكذيبهم الرسل، وما يحل بهم من العذاب في الآخرة بتكذيبهم الرسل، وإلا فظاهر القرآن ليس مما لنذر به، {وَمَنْ بَلَغَ} كأنه قال: وأوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم به، وأنذر من بلغه القرآن، صار رسول اللّه نذيرًا ببلوغ القرآن لمن بلغه، فإذا صار نذيرًا به لمن بلغه وإن كان هو في أقصى الدنيا يصير هو نذيرًا في أقصى الزمان، في كل زمان، وهو - واللّه أعلم - كقوله - تعالى -: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} ورسول اللّه هاد لقومه إلى يوم القيامة.

وفي الآية دلالة أن البشارة والنذارة يكونان ببعث آخر يبشر أو ينذر، وهو دليل لقول أصحابنا: إن من حلف: أيُّ عبدٍ من عبيدي بَشَّرَنِي بكذا فهو حرّ، فبشره برسول أو بكتاب، يكون بشارة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّه آلِهَةً أُخْرَى} فهذا في الظاهر استفهام، ولكنه في الحقيقة إيجاب أنكم لتشهدون أن مع اللّه آلهة أخرى، بعد ما ظهر

 عندكم آيات وحدانيته، وحجج ربوبيته لما عرفتم أنه خالقكم وخالق السماوات والأرض، به تعيشون وبه تحيون، وبه تموتون، مع ما ظهر لكم هذا أشركتم مع اللّه آلهة أخرى، وليس ذلك مما تشركون في عبادته وألوهيته، وأنا لا أشهد، وإنما أشهد أنه إله واحد وإنني بريء مما تشركون في ألوهيته وربوبيته.

* * *

٢٠

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ}.

قيل: نزلت سورة الأنعام في محاجة أهل الشرك، إلا آيات نزلت في محاجة أهل الكتاب، إحداها هذه.

وجائز أن يكون أهل الشرك يعرفون أنه رسول كما يعرفون أبناءهم، ويكون الكتاب هو القرآن - هاهنا - لما قرع أسماعهم هذا القرآن، وأمروا أن يأتوا بمثله، فعجزوا عنه، وبما

 كانوا يختلفون إلى أهل الكتاب، ويسألونهم عن نعته وصفته، ويخبرونهم، فعرف أهل الشرك أنه رسول، كما عرف أهل الكتاب بوجود نعته وصفته في كتابهم.

وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال لعبد اللّه بن سلام: إن اللّه قد أنزل على نبيه - عليه السلام - بمكة: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ}، فكيف يا عبد اللّه المعرفة؛ فقال عبد اللّه: يا عمر، لقد عرفته فيكم حين رأيته كما أعرف ابني إذا رأيته مع الصبيان يلعب، وأنا أشد معرفة بمُحَمَّد مني لابني، فقال: كيف ذلك؟ فقال: أنا أشهد أنه رسول اللّه حق من اللّه، ولا أدري ما صنع النساء، أو ما أحدث النساء، وقد نعت في كتابنا. فقال له عمر: صدقت وأصبت.

٢١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّه كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١)

قال أهل التأويل: لا أحد أظلم ممن افترى على اللّه كذبا، لكن هذا - في الحقيقة - كأنه سؤال واستفهام؛ كأنه قال: من أظلم من الظالمين، قال: من افترى على اللّه كذبًا، يقال: من فعل هذا؟ قال: فلان، أو من قال هذا؟ قال: فلان، فهو - واللّه أعلم - على السؤال والاستفهام. ثم قيل الذين افتروا على اللّه كذبًا: إن معه شريكًا كقولهم: إن مع اللّه آلهة أخرى.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِ}.

قيل: مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

وقيل: القرآن.

 {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: إنه لا يفلح الظالمون بظلمهم، لكن عندنا قوله: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} ما داموا في ظلمهم، أو نقول: لا يفلح الظالمون إذا ختموا وماتوا على الظلم والكفر.

٢٢

{ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}.

ذكر - هاهنا - شركاءهم، أضاف ذلك إليهم؛ لأنهم كانوا من جنسهم وجوهرهم، يفنون كما يفنون هم، وذكر في آية أخرى: {شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}، أنهم شركائي.

٢٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللّه رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣)

قال الحسن: الآية نزلت في المنافقين، وذلك أنهم كانوا يكذبون في الدنيا فيما بينهم، فظنوا أن يتروج كذبهم في الآخرة كما كان يتروج في الدنيا، وسماهم مشركين؛ لأنهم كانوا مشركين لأنهم أشركوا في السر، فقالوا: {وَاللّه رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}.

وقال غيره من أهل التأويل: الآية نزلت في أهل الشرك من العرب؛ وذلك أنهم كانوا يشركون مع اللّه آلهة، وكانوا ينكرون البعث بعد الموت، وينكرون الرسالة، فلما أن عاينوا ذلك أنكروا أن يكونوا أشركوا غيره في ألوهيته وربوبيته.

وقوله - تعالى -: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا}.

أي: لم يكن افتتانهم في الدنيا بافترائهم على اللّه الكذب وإشراك غيره معه، وتكذيبهم آيات اللّه، إلا أن قالوا في الآخرة: {وَاللّه رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}.

وذكر في بعض القصة أن المشركين في الآخرة لما رأوا كيف يتجاوز اللّه عن

 أهل التوحيد، قَالَ بَعْضُهُمْ لبعض: إذا سئلنا فقولوا: إنا كنا موحدين، فلما جمعهم اللّه وشركاءهم فقال: {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} في الدنيا بأنهم معي شريك.

قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ}.

قال أهل التأويل: معذرتهم وجوابهم إلا الكذب حين سئلوا ففالوا: {وَاللّه رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} تبرءوا من ذلك.

٢٤

ثم قال اللّه: (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ... (٢٤) في الآخرة، {مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}: من الشرك في الدنيا.

قيل: لما أنكروا أن يكونوا مشركين في الدنيا ختم اللّه على ألسنتهم، وشهدت الجوارح عليهم بالشرك.

وقيل: انظر كيف كذبوا على أنفسهم، يقول: كيف صار وبال كذبهم عليهم؟!.

{وَضَلَّ عَنْهُمْ} قيل: واشتغل عنهم.

قوله تعالى: {مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} يقول: يكذبون.

وأصله: أنه يذكر نبيه شدة تعنتهم وسفههم أنهم كيف يكذبون عند معاينة العذاب، فإذا كانوا بنأي منه وبعد كانوا أشدّ تكذيبا وأكثر تعنتًا؛ لأنهم يطلبون الرد إلى الدنيا بقولهم {فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}، فقال: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}.

* * *

٢٥

 وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ... (٢٥) وكانوا يستمعون إليه ليجادلوه، على ما ذكر، {احَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ} دل هذا أنهم كانوا يستمعون إليه للمجادلة معه والخصومة.

وقيل في بعض الحكايات: إن الناس كانوا ثلاث فرق في أخبار الرسل والأنبياء - عليهم السلام -: منهم من يستمع للجمع والاستكثار.

ومنهم من يستمع ليأخذ عليهم سقطاتهم وما يجري على لسانهم من الخطأ.

ومنهم من يستمع ليأخذ الحق منه ويترك الباقي، ولكن هَؤُلَاءِ كانوا يستمعون إليه ليخاصموه في ذلك وليجادلوه؛ ليعرف قومهم أنهم يستمعون إليه، ويعرفون ما يقول ليصدوا بذلك أتباعهم.

والثاني: أنهم يستمعون ويحاجون في ذلك ليعرفوا أنهم أهل حجاج وعلم ليصدوهم عنه.

ثم يحتمل أن يكونوا أهل نفاق؛ لأنهم كانوا يرون ويظهرون الموافقة لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ويضمرون الخلاف له.

ويحتمل أن يكونوا أهل الشرك، أي: رؤساؤهم؛ ليستمعوا إليه، ويجادلوه فيما يستمعون إليه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا}.

أخبر أن على قلوبهم أكنة وفي آذانهم وقرًا.

وقال: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ}.

نفى عنهم ذلك لما لم ينتفعوا بذلك كله، وإن لم يكونوا - في الحقيقة - صما، ولا بكمًا، ولا ما ذكر، لما لم ينتفعوا بما أنشأ فيهم من السمع والبصر والعقل، فنفى عنهم ذلك.

ثم قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً}.

لا يخلو إضافة ذلك إلى نفسه من أن يكون خلق منهم فعل الكفر، أو خلق الظلمة التي في قلوبهم، يعني ظلمة الكفر؛ لأن ظلمة الكفر تستر وتغطي كل شيء، ونور الإيمان ينير منه كل شيء، فإضافة الفعل إليه لا تخلو من أحد هذين الوجهين، إما لخلق فعل الكفر منهم، ففيه دلالة خلق أفعالهم، وإما لخلق ظلمة الكفر في قلوبهم. وفيه ردّ قول المعتزلة لإنكارهم خلق فعل العباد.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا}.

قيل: الوقر: هو الثقل في السمع، يقال: وقرت أذنه، توقر وقرا، فهي موقورة، وأما الوقر فهو الكفر في قلوبهم.

 وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الوقر: الصدع في العظم أيضًا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا}.

يحتمل كل آية: آية وحدانيته، وربوبيته، وقدرته على البعث، وآية رسالته ونبوته.

ويحتمل: كل آية سألوا أن يأتي بها؛ يقول: وإن أوتيت بكل آية سألوك لا يؤمنون بك بعد ذلك أبدًا، كقولهم: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا} ونحو ذلك مما سألوا من الآيات؛ يقول: إنك وإن جئت بما سألوك من الآيات لا يؤمنون بك، ولا يصدقونك، يقولون: {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} أي ما هذا إلا أساطير الأولين، قيل: أحاديث الأوّلين، والأسطورة: الكتاب، يقولون ذلك تعنتًا منهم؛ لأنهم كانوا يعرفون أنه حق، وأنه ليس بكلام البشر؛ لأنهم عجزوا عن إتيان مثله، ولو كان هو مفترى على ما قالوا لقدروا هم على أن يأتوا بشيء مثله، حيث قيل لهم: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ}، فعلموا بعجزهم عن إتيان مثله أنه ليس من كلام البشر، وأنه سماوي.

٢٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ... (٢٦) ينهون الناس عن طريقته ومتابعته وينأون عنه، أي: يتباعدون عنه وينهون غيرهم عن اتباعه ويتباعدون هم.

ويحتمل ما ذكر في القصّة أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان عند أبي طالب يدعوه إلى الإسلام

اجتمعت قريش عنده ليريدوا بالنبي سوءًا قال أبو طالب وأنشد فيه:

واللّه لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أوسد في التراب دفينا

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة ... وابشر وقرّ بذاك منك عيونا

فدعوتني وزعمت أنك ناصحي ... ولقد صدقت وكنت ثمَّ أمينا

وعرضت دينا قد علمت بأنه ... من خير أديان البرية دينا

لولا الملامة أو حذاري سُبَّة ... لوجدتني سمحًا بذاك مبينا

كان ينهى الناس عن أذى مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويتباعد هو عنه فلا يتبع دينه، فنزل هذا.

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} أي لا يشعرون، أنهم بذلك يسعون في هلاك أنفسهم.

* * *

٢٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ}.

عن الحسن قال: سترى إذ وقفوا على النار.

وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: (ولو ترى إذ عرضوا على النار) وكذلك في: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ}، إذ عرضوا على ربهم. ولولا ما روي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - وقفوا: عرضوا على النار، وإلا يجوز أن يحمل قوله: {إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ}، أي: عند النار، أو في النار " على " مكان " عند "، أو مكان " في "، وذلك جائز في اللغة، ولكن ما روي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أقنعنا عن ذلك.

ثم يحتمل - واللّه أعلم - أن يكون هذا صلة قوله {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} كأنه يقول: ولو ترى يا مُحَمَّد إذ وقفوا على النار لرحمتهم؛ لما كان منهم من القول فيك {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}، وهكذا الواجب

 على كل أحد أن يرحم عدوه إذا كان عاقبته النار والتخليد فيها، وألا يطلب الانتقام منه بما كان منه بمكانةٍ، وأن يقال: ولو تراهم إذ وقفوا على النار من الذل والخضوع لرحمتهم بما كان منهم من التكبر والاستكبار في الدنيا، وهو كقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} الآية، أخبر عن ذلهم وخضوعهم في الآخرة بما كان منهم في الدنيا من الاستكبار والاستنكاف؛ فعلى ذلك يخبر نبيّه عما يصيبهم من الذلّ بتكبرهم في الدنيا، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وجل -: {فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.

تمنوا عند معاينتهم العذاب العود والرد إلى الدنيا. ثم فيه دليلان:

أحدهما: أنهم عرفوا أن ما أصابهم أإنما أصابهم، بتكذيبهم الآيات وتركهم الإيمان، حيث قالوا: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا}.

والثاني، أن الإيمان هو التصديق الفرد لا غير؛ لأنهم إنما فزعوا عند معاينتهم العذاب فتمنوا الرد والعود إلى الدنيا؛ لأن يكونوا من المؤمنين، ولم يفزعوا إلى شيء آخر من الخيرات - دل أن الإيمان هو التصديق الفرد لا غير، وأنه ضد التكذيب، والتكذيب هو درد فعلى ذلك التصديق.

٢٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ ... (٢٨)

قيل فيه وجوه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله - تعالى -: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ}، إنما نزل في المنافقين، يدل على ذلك قوله: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ}، وهو سمة أهل النفاق أنهم كانوا يظهرون الموافقة للمؤمنين، ويضمرون الخلاف، ويخفون العداوة لهم.

ويحتمل قوله - تعالى -: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} ورؤساؤهم كانوا عرفوا في الدنيا أنه رسول، وأن ما (أنزل) عليه هو من ربه، وعرفوا أن البعث حق، لكنهم أخفوا ذلك على أتباعهم، وستروه، ثم ظهر ما كانوا يخفون على أتباعهم.

وقيل: قوله: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} وذلك أنهم حين قالوا: {وَاللّه رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}.

وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ}، يحتمل قوله {وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} أي: حبسوا إذ لو وقف حبس، والنار لا يوقف عليها، بل يكون فيها ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ}،

وقال: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ}، ويحتمل الوقف عندها قبل الدخول في حال الحساب للمساءلة؛ كقوله: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ. . .} الآية، {وَلَو تَرَى} أي: لو ترى ذلهم وخضوعهم، كقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ}، ولم يذكر جواب " لو "، وقد يترك جواب (لو) لما يعلم ربما يعلم بالتأمل أو بالذكر؛ كقوله: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا}، بمعنى ظننتم، أو على ما ذكر في موضع آخر؛ نحو قوله: {قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} وكذلك قوله: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللّه عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللّه تَوَّابٌ حَكِيمٌ}، وغير ذلك، فلعل معناه: لو ترى ذلهم بعد استكبارهم لرحمتهم على ما هم عليه، ولهان عليك التصبر لأذاهم، ولأشفقت عليهم.

ويحتمل قوله: ولو ترى ما ينزل بهم من نقمة اللّه، ويحل بهم من عذابه، لعلمت أن القوة للّه جميعًا، وأنه بحلمه ورحمته يملي لهم ويسترجعهم؛ كقوله: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ للّه جَمِيعًا}.

ويحتمل أن يكون جوابه فيما ذكر من تمنيهم العود، وندامتهم على ما سلف منهم، وشدة تلهفهم على صنيعهم لرأيت ذلك أمرًا عظيمًا، وجزاء بالغًا، لما يكون ما ينزل بهم أعظم عندك مما تلقى منهم.

وقد يخرج الخطاب لرسول اللّه على تضمن تنبيه كل مميز وتبصير كل متأمّل، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ}.

قيل: إلى الدنيا.

وقيل: إلى المحنة من حيث لا يحتمل كون الدنيا بعد كون الآخرة، لكن هذا تكلف تحقيق مراد قوم ظهر سفههم، ولعله ليس عندهم هذا التمييز، أو يقولون سفها كما قالوا كذبًا بقوله: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - {بِآيَاتِ رَبِّنَا}.

قال الحسن: بدين ربنا.

وقال قوم: بحجج ربنا، فيكون في الآية اعتراف أنهم على التعنت كذبوا في الأوّل لا على الجهل، وإن كان ثم آيات عاندوها، وهم قوم قد سبق من اللّه الخبر عنهم مما فيه العناد منهم؛ كقوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللّه رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِ} وذلك يدل على تعنتهم في القول؛ ليتخلصوا عما بلوا بجميع ما يحتمل وسعهم، لا أن ذلك كذلك في قلوبهم؛ لذلك - واللّه أعلم - قال اللّه - تعالى - {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}.

ثم دل قوله: {وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أنهم قد عرفوا أن الإيمان هو التصديق لوجهين:

أحدهما: أنهم جعلوا الإيمان مقابل التكذيب؛ ليعلم أنه التصديق.

والثاني: أنهم ذكروا الآيات، والآيات يكذب بها ويصدق لا أن يعمل.

وبعد، فإن الذي في حد إمكان الإتيان مما فات هو التصديق؛ إذ مشكلة الغير لو توهم الأمر ليوجد ما سبق من الترك والتصديق لو أمر، فهو لما سبق من التكذيب على أنه أجيع ألا يؤمر من آمن بقضاء شيء مما فات، فثبت أنهم أرادوا به التصديق، وفيه أنه اسم لذلك حتى عرفه أهله وغير أهله معرفة واحدة، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} قيل فيه بوجوه فقَالَ بَعْضُهُمْ: إنه، يخرج على أوجه:

أحدها: على أن الآية في أهل النفاق أظهرت ما قد أضمروا من الكفر.

والثاني: أن تكون الآية في رؤساء الكفرة العلماء بالبعث، وبأن الرسل تكون من

البشر، وألا شريك للّه، فبدا للأتباع ما كان الرؤساء يخفون في الدنيا.

ويحتمل: وبدا لهم من صنيعهم ما قد أسروه وأضمروه في أنفسهم ظنوا أنه لا يطلع على ذلك أحد، وذلك كقوله: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ}،

وقوله: {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ}، وغير ذلك.

ويحتمل: ما كانوا يخفون من الخلق، أو بدا لهم ذلك بالجزاء.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَوْ رُدُّوا} أي: إلى ما تمنوا أن يردوا إليه.

{لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ}.

أخبر اللّه عن علمه بما قد أسروه في ذلك الوقت إنما كان في علمه أن يكون، وإن كان من حكمه ألا يردوا في ذلك وأن الآية لا تضطر صاحبها، ولا قوة إلا باللّه.

وقال قوم: إن الخلود يلزم في النار بما هم في علم اللّه أنهم يلزمون ما هم عليه لو مكثوا للأبد.

وقال قوم: لم يجز لزوم العذاب بما يعلم اللّه من العناد من أحد لو امتحن بلا محنة ولا خلاف، فعلى ذلك أمر الخلاف، لكن الآية في خاص منهم، وهم الذين اعتدوا وعاندوا الحق بعد الوضوح، على ما ذكر في كثير من الكفرة أنهم لا يؤمنون أبدا، ثم أمهلهم على ذلك، وهذا يبين أنه ليس يمنع الإعادة لما يعودون له لو كان يحتمل في الحكمة الإعادة؛ إذ قد أمهل وأبقى على العلم بذلك، فعلى ذلك الإفادة، لكنه أخبر عن تعنتهم.

ثم ظنت المعتزلة أن اللّه لو علم أنهم يؤمنون لردهم إلى ذلك وإذ بين أنهم لا يؤمنون فيستدلون بهذا على أنه ليس للّه قبض روح مَنْ يعلم أنه لو لم يقبضه يؤمن يومًا من الدهر وقد بينا نحن أن ذلك لا يجب، وإن كان أُولَئِكَ في علم اللّه لن يعودوا إلى ذلك بما قد يترك في الدنيا من يعلم أنه يلزم الكفر، وينجي عن المهالك من يعلم أنه يعود، ثم قد يترك من يعود إلى الكفر على وجود ما به النجاة عنه، واللّه أعلم.

وبعد، فإن اللّه - تعالى - قال: {وَلَوْ بَسَطَ اللّه الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ} فبين أنه لم يبسط لئلا يبغوا،

وقال: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ. . .} الآية، ثم قد جعل لكثير ممن ضل بهم قوم نحو الفراعنة ولكثير منهم وقد بغوا في الأرض؛ إذ لو لم يكن البسط لفرعون لم يكن ليدعي الألوهية لكن الأول: طريق الفضل يفضل به، والثاني: طريق العدل وما يجوز في الحكمة، فعلى ذلك الإمهال، يبين لك ما كان اللّه يأمر بقتل من لعله يؤمن لو أمهل بما ندب إلى القتال، ولا يحتمل أن يأمر في قتل من ليس له قبض روحه، وقد يبقى من به يهلك ويضل، وإن قبض كثيرًا منهم بما يضل به لو أبقى؛ كما قال: {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا}، واللّه أعلم.

وظنت الخوارج بهذه الآية أن كل من يرتكب كبيرة يظهر منه كذبه فيما وعد أنه لا

يفعل " إذ اللّه سماهم كذبة بما في علمه أنهم يعودون إلى ذلك.

فإذا تقرر عندنا من أحد ركوب ما كان في عهده وإيمانه أنه لا يرتكب يظهر به كذبه.

وذلك خطأ، لما لو كان كذلك لكان الصغائر والكبائر واحدًا، ومن كذب في أمر الصغائر في العهد أو رد يكفر، ومن ارتكب الصغيرة، لم يصر كذلك، فعلى ذلك الكبائر. لكن الآية تخرج على أوجه:

أحدها: أنها في قوم أرادوا بذلك دفع العذاب لا أن عزموا على ما ذكروا، دليله فتنتهم بقوله: {وَاللّه رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}.

والثاني: أنه ذكر كذبهم، أنطق اللّه جوارحهم، فشهدت عليهم بما كتموا من الشرك، فتمنوا عند ذلك العود والرد.

ويحتمل: {بَدَا لَهُم}: ظهر لهم ما كانوا يخفون من نعت مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصفته في الدنيا وكتموه، واللّه أعلم.

وقوله - تعالى -: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} تعلق بظاهر هذه الآية الخوارج والمعتزلة.

أما المعتزلة فإنهم قالوا: إنهم لما طلبوا الرد ولم يردهم لما علم أنه لو ردهم لعادوا إلى التكذيب ثانيًا، ولو علم منهم أنهم لا يعودون لكان يردهم، فدل أنه إنما لم يردهم لما علم منهم أنهم يعودون إلى ما كانوا من قبل، فيستدلون بظاهر هذه الآية على أن اللّه لا يفعل بالعبيد إلا الأصلح لهم في الدِّين، وقالوا: لو علم منهم الإيمان لكان لا يجوز له ألا يردهم.

ومن قولهم: إنه إذا علم من كافر أنه يؤمن في آخر عمره لم يجز له أن يميته.

وغير ذلك من المخاييل والأباطيل.

وقالت الخوارج: أخبر أنه لو ردهم لعادوا لما نهوا عنه، وسماهم بالقول كاذبين بما في علمه أنهم لا يفعلون بما يقولون، فعلى ذلك كل صاحب كبيرة إذا كان في اعتقاده الذي أظهره أنه لا يأتي بها، فإذا أتى بها يصير فيما اعتقده ألا يأتي بها كاذبًا؛ ولذلك يجعلون أصحاب الكبائر كذبة في القول الأول أنهم لا يأتون بها، وعلى ذلك كانت المبايعة بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللّه. . .} الآية، فإذا سرقن صرن كاذبات في البيعة، كما جعل من ذكر كاذبًا في الوعد إذا أخلف،

وعلى ذلك يجعلونه كافرًا.

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}.

يحتمل {لَكَاذِبُونَ} أي: ليكذبون لو ردوا، أو أنهم لكاذبون في قولهم: {وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي: يضمرون أنهم لا يؤمنون؛ كقوله - تعالى -: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّه} إلى قوله: {وَاللّه يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}، يقولون: إنك لرسول اللّه، لكنهم لما أضمروا خلاف ذلك في قلوبهم سماهمم كاذبين، فعلى ذلك هَؤُلَاءِ لما أضمروا في أنفسهم التكذيب وإن ردوا فهم كاذبون في ذلك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَوْ رُدُّوا}.

قيل: إلى الدنيا، ولكن لو ردوا إلى المحنة ثانيًا لعادوا لما نهوا عنه.

والثاني: أنه ذكر كذبهم بما اعتادوا العناد، وظهر منهم الجحود في القديم، فبذلك سماهم كذبة، كما سمي أهل النار كفرة بما كان من كفرهم قبل أن يصيروا إليها؛ فعلى ذلك هذا.

والثالث: أن يكون على الخبر عن عاقبتهم أنهم يصيرون كاذبين لو ردوا، وعرض عليهم ذلك، وبعث إليهم الرسل بالآيات، لا أن يكذبوا في ذلك الوعد.

٢٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩)

قوله تعالى: {إِن هِيَ} يحتمل {هِيَ}: الحياة الدنيا، ويحتمل {هِيَ} الدنيا.

ثم هذا القول يحتمل أن يكون من الدهرية؛ لأنهم ينكرون البعث والحياة بعد الموت، ويقولون: إن هذا) الخلق كالنبات ينبت ثَم يثلاشى؛ فعلى ذلك الخلق يموتون ويصيرون ترابًا، ثم يحيون في الدنيا؛ كقوله: {نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ}.

ويحتمل أن هذا القول كان من مشركي العرب لما لم يروا إلا الدهر، ولم يشاهدوا غيره، فظنوا أنه ليس يهلكهم إلا ذلك الدهر الذي تدور الدنيا عليه، فإن كان ذلك منهم، فإنما كان ذلك من كبرائهم ورؤسائهم على علم منهم بذلك، أي: بالبعث، يلبسون ذلك على السفلة والأتباع؛ ليكونوا أشد اتباعًا لهم وانقيادًا؛ لأنهم لو أعلموا الأتباع بالبعث بعد الموت لعلهم يتركون طاعتهم واتباعهم؛ لما يشتغلون بالاستعداد لذلك والعمل له، ففي ذلك ترك اتباعهم وطاعتهم.

٣٠

وقوله عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠)

أي: لربهم؛ كقو " له - تعالى -: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}، وكقوله -

 تعالى -: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ}، أي: للنصب، وأصله: ما روي في حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: (ولو ترى إذ وقفوا إذ عرضوا على ربهم).

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ}.

يحتمل قوله: {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ}، أي: البعث بعد الموت؛ لأنهم كانوا ينكرون البعث، ويقولون: إنه باطل.

ويحتمل: بما كانوا أوعدوا العذاب إن لم يؤمنوا، فكذبوا ذلك، فقال: أليس ما أوعدتم في الدنيا حقًا، فأقروا فقالوا: {بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}: في الدنيا.

* * *

٣١

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللّه}.

يحتمل قوله - تعالى -: {كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللّه}، أي: كذبوا لقاء وعد اللّه ووعيده في الدنيا وعلى هذا يخرج قوله: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللّه}، أي: يرجو لقاء وعد اللّه في الدنيا، ووعيده خسروا في الآخرة بتكذيبهم ذلك في الدنيا، وعلى ذلك يخرج ما روي في الخبر: " من أحبَّ لقاء اللّه " أي: أحب لقاء ما أعد اللّه له " ومن كره لقاء اللّه " أي: كره لقاء ما أعد له، وأصله: من أَحبَّ الرجوع إلى اللّه أحب اللّه رجوعه، ومن كره الرجوع إلى اللّه كره اللّه رجوعه إليه، والمحبة للّه اختيار أمره وطاعته؛ وعلى

ذلك ما روي في الخبر عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " الدنيا جنة الكافر، يلعب فيها ويركض في أمانيها، وسجن المؤمن، وراحته بالموت ".

وأصله: أنها سجن المؤمن؛ لأن المؤمن يمنعه دينه من قضاء شهواته لما يخاف هلاكه، ويحذره مما يفضي به إلى الهلاك، والكافر لا يمنعه شيء من ذلك عما يريد من قضاء شهواته في الدنيا، فتكون له كالجنة، وللمؤمن كالسجن، على ما ذكرنا.

ويحتمل قوله وجهًا آخر: وهو أن الكافر عند الموت يعاين مكانه وما أعدَّ له في النار، فتصير عند ذلك الدنيا كالجنة له يكره الرجوع، والمؤمن يعاين موضعه في الجنة، فتصير كالسجن له.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً}.

قيل: سميت القيامة ساعة لسرعتها، ليست كالدنيا؛ لأن في الدنيا يتغير فيها على المرء الأحوال، يكون نطفة، ثم يصير علقة، ثم مضغة، ثم يصير خلقًا آخر، ثم إنسانا ثم يكون طفلا ثم رجلا يتغير عليه الأحوال، وأما القيامة فإنها لا تقوم على تغير الأحوال فسميت الساعة لسرعتها بهم.

وقيل: سميت القيامة الساعة لأنها تقوم في ساعة، وهو كقوله: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ}.

وقيل: سميت الساعة لما تقوم ساعة فساعة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {بَغتَة} أي: فجأة.

وقوله - عَزَّ وَجَلََّ: {يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا}.

قيل: التفريط: هو التضييع، فيحتمل قوله: {مَا فَرَّطْنَا فِيهَا}، أي: ما ضيعنا في الدنيا من المحاسن والطاعات.

ويحتمل: ما ضيعنا في الآخرة من الثواب والجزاء المجزيل بكفرهم في الدنيا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ}.

هو - واللّه أعلم - على التمثيل، ليس على التحقيق، وهو يحتمل وجهين:

يحتمل: أنه أخبر أنهم يحملون أوزارهم على ظهورهم بما لزموا أوزارهم وآثامهم، لم يفارقوها قط، وصفهم بالحمل على الظهر، وهو كقوله - تعالى -: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ}، لما لزم ذلك صاروإنه في عنقه.

والثاني: إنما ذكر الظهر؛ لما بالظهر يحمل ما يحمل، فكان كقوله: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}، و {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ}، لأن الكفر لا يكتسب بالأيدي ولا يقدم بها، لكن اكتساب الشيء وتقديمه لما كان باليد ذكر اكتساب اليد وتقديمها.

وكقوله: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ}، أنهم لما تركوا العمل به والانتفاع، صار كالمنبوذ وراء الظهر؛ لأن الذي ينبذ وراء الظهر هو الذي لا يعبأ به ولا يكترث إليه.

ويحتمل وجهًا آخر: ما ذُكر في بعض القصة أنه يأتيه عمله الخبيث على صورة قبيحة، فيقول له: كنت أحملك في الدنيا باللذات والشهوات، وأنت اليوم تحملني،

 فيركب ظهره؛ فذلك قوله - تعالى -: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}.

٣٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ... (٣٢)

يحتمل أن يكون هذا صلة قوله: {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} قال: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ}.

أي: الحياة الدنيا للدنيا خاصة؛ لأن العمل إذا لم يكن لعاقبة تتأمل فهو عبث، كبانٍ يبني بناء لا لعاقبة تتأمل وتقصد ببنائه فهو لعب، وعبث، فعلى ذلك الحياة الدنيا، لا لدار أخرى يتأمل ويرجى بها الثواب والعقاب فهذا ليس بحكمة، وإنما هو لعب ولهو؛ وعلى ذلك يخرج قوله - تعالى -: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا. . .} الآية، أخبر أن خلقه إياهم إذا لم يكن للرجوع إليه فهو عبث، فعلى ذلك الحياة الدنيا، إذا لم يكن هناك بعث ولا حياة بعد الموت للثواب والعقاب، فهي لعب ولهو.

واللّهو: ما يقصد به قضاء الشهوة خاصة، لا يقصد به العاقبة، واللعب: هو الذي لا حقيقة له ولا مقصد.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}.

أي: الدار الآخرة خير للذين يتقون الشرك والفواحش كلها من الحياة الدنيا، وأصله: أن الحياة الدنيا على ما عند أُولَئِكَ الكفرة لعب ولهو؛ لأن عندهم أن لا بعث، ولا ثواب، ولا عقاب، فإذا كانت عندهم هكذا فتصير لعبًا ولهوًا؛ لأنه يحصل إنشاء لا عاقبة له، فيكون كبناء البناء الذي ذكرنا إذا كانت عاقبته غير مقصودة، فهو لا انتفاع به.

* * *

٣٣

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ... (٣٣) هذا - واللّه أعلم - إخبار منه نبيه - عليه السلام - أنه عن علم منه بتكذيبهم إياك بعثك إليهم رسولا، وأمرك بتبليغ الرسالة إليهم، وكان عالمًا بما يلحقك من الحزن بتكذيبهم إياك، ولكن بعئك إليهم رسولا مع علم منه بهذا كله لتبلغهم، يذكر هذا - واللّه أعلم - ليعلم رسوله ألا عذر له في ترك تبليغ الرسالة، وإن كذّبوه في تبليغها.

ثم الذي يحمله على الحزن يحتمل وجوهًا:

يحتمل: يحزنه افتراؤهم وكذبهم على اللّه.

أو كان يحزن لتكذيب أقربائه وعشيرته إياه فإذا أكذبته عشيرته، انتهى الخبر إلى الأبعدين فيكذبونه، فيحزن لذلك.

أو يحزن حزن طبع؛ لأن طبع كل أحد ينفر عن التكذيب.

أو كان يحزن إشفاقًا عليهم بما ينزل عليهم من العذاب بتكذيبهم إياه وآذاهم له؛ كقوله - تعالى -: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ. . .} الآية. وكقوله - تعالى -: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} اختلف في تلاوته: قرأ بعضهم بالتخفيف، وبعضهم بالتشديد والتثقيل:

فمن قرأ بالتخفيف: قراءة (لا يُكْذِبُونَكَ أي: لا يجدونك كاذبًا قط.

ومن قرأ بالتثقيل: {لَا يُكَذِّبُونَكَ}، أي: لا ينسبونك إلى الكذب، ولا يكذبونك في نفسك.

 ويحتمل قوله: ولا يكذبونك في السر، ولكن يقولون ذلك في العلانية، والتكذيب هو أن يقال: إنك كاذب.

قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ}.

أي: عادة الظالمين التكذيب بآيات اللّه.

و {الظَّالِمِينَ} يحتمل وجهين:

أحدهما: الظالمين على نعم اللّه عادتهم التكذيب بآيات اللّه.

الثاني: والظالمين على أنفسهم؛ لأنهم وضعوها في غير موضعها.

٣٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا ... (٣٤)

يخبر نبيه - عليه الصلاة والسلام - ويصبره على تكذيبهم إياه وأذاهم بتبليغ الرسالة، يقول: لست أنت بأول مكذب من الرسل، بل كذب إخوانك من قبلك على تبليغ الرسالة، فصبروا على ما كذبوا وأوذوا، ولم يتركوا تبليغ الرسالة مع تكذيبهم إياهم؛ فعلى ذلك لا عذر لك في ترك تبليغ الرسالة وإن كذبوك في التبليغ وآذوك، وهو ما ذكرنا أنه يخبره أنه بعثك رسولا على علم منه بكل الذي كان منهم من التكذيب والأذى.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا}.

أخبر اللّه أنه نصر رسله، ثم يحتمل ذلك (النصر) وجوهًا.

أحدها: ينصرهم أي: أظهر حججه وبراهينه، حتى علموا جمعا أنها هي الحجج

 والبراهين، وأنهم رسل اللّه، لكنهم عاندوا وكابروا.

ويحتمل: النصر لهم بما جعل آخر أمرهم لهم، وإن كان قد أصابهم شدائد في بدء الأمر.

أو نصرهم لما استأصل قومهم وأهلكهم بتكذيبهم الرسل، وفي استئصال القوم وإهلاكه إياهم، وإبقاء الرسل نَصْرهم، وكذلك قوله - تعالى -: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا}

وقوله: {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ}، يخرج على الوجوه التي ذكرناها.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّه} وهو ما ذكرنا من النصر لهم، واستئصال قومهم، وما أوعدهم من العذاب؛ فذلك كلمات اللّه.

ويحتمل قوله: {لِكَلِمَاتِ اللّه}: حججه وبراهينه؛ كقوله: {وَيُحِقُّ اللّه الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ}، أي: بحججه وآياته، وكقوله - تعالى -: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي}، أي: حجج ربي.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} يحتمل ما ذكرنا من إهلاك القوم وإبقاء الرسل، قد جاءك ذلك النبأ.

ويحتمل قوله - تعالى -: {وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} من تكذيب قومهم لهم وأذاهم إياهم، فإن كان هذا ففيه تصبير رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

٣٥

وقوله (وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ ... (٣٥) كان يشتد على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويشق عليه كفر قومه وإعراضهم عن الإيمان، حتى كادت نفسه تتلف وتهلك لذلك إشفاقًا عليهم؛ كقوله: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}.

وقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}، ونحو ذلك من الآيات، يشفق عليهم بتركهم الإيمان لما يعذبون أبدًا في النار، فعلى ذلك قوله: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ}.

أو كان يكبر عليه ويثقل إعراضهم لما كانوا يطلبون منه الآيات، حتى إذا جاء بها لا يؤمنون؛ من نحو ما قالوا: {وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ} وغير ذلك من الآيات التي سألوها، فطمع رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في إيمانهم إذا جاء بما سألوا من الآيات، فكان اللّه عالمًا بأنه وإن جاءتهم آيات لم يؤمنوا، وإنَّمَا يسألون سؤال تعنت لا سؤال طلب آيات لتدلهم على الهدى، فقال عند ذلك: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ}.

أو أن يكون قوله: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ} ونهيًا عن الحزن عليهم، أي: لا تحزن عليهم كل هذا الحزن بما ينزل بهم، وقد تعلم صنيعهم وسوء معاملتهم آيات اللّه.

وكذلك روي في القصة عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أن نفرًا من قريش قالوا: يا مُحَمَّد، ائتنا بآية كما كانت الأنبياء تأتي قومها بالآيات إذا سألوهم: فإن أتيتنا آمنا بك وصدقناك، فأبى اللّه أن يأتيهم بما قالوا، فأعرضوا عنه، فكبر ذلك عليه وشق، فأنزل اللّه: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ. . .}. يقول: إن قدرت {أَنْ تَبْتَغِيَ} يقول: أن تطلب {نَفَقًا فِي الْأَرْضِ} يقول: سربًا في الأرض كنفق اليربوع نافذًا أو مخرجًا فتوارى

فيه منهم {أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ} يكون سببًا إلى صعود السماء، {فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} التي سألوكها فافعل.

قَالَ الْقُتَبِيُّ: النفق في الأرض: المدخل، وهو السرب، والسلم في السماء: المصعد.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: النفق: الغار، والأنفاق: الغيران، والغار واحد.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَوْ شَاءَ اللّه لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى}.

قال الحسن: أي: لو شاء اللّه لقهرهم على الهدى وأكرههم، كما فعل بالملائكة؛ إذ من قوله إن الملائكة مجبورون مقهورون على ذلك، ثم هو يفضل الملائكة على البشر ويجعل لهم مناقب، لا يجعل ذلك لأحد من البشر، فلو كانت الملائكة مجبورين مقهورين على ذلك، لم يكن في ذلك لهم كبير منقبة؛ ففي قوله اضطراب.

وأما تأويله عندنا: {وَلَوْ شَاءَ اللّه لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى}، أي: لجعلهم جميعًا بحيث اختاروا الهدى وآثروه على غيره، ولكن لما علم منهم أنهم يختارون الكفر على

 الهدى، لم يشأ أن يجمعهم على الهدى، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم ألا يكون الهدى في حال القهر والجبر، وإنما يكون في حال الاختيار.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ}.

يحتمل وجوهًا:

يحتمل: فلا تكونن من الجاهلين: من قضاء اللّه وحكمه.

ويحتمل: لا تكونن من الجاهلين: من إحسانه وفضله، أي: من إحسانه وفضله يجعل لهم الهدى.

ويحتمل: لا تكونن من الجاهلين أنه يؤمن بك بعضهم وبعضهم لا يؤمن.

قال أبو بكر الكيساني في قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللّه لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} أي: لو شاء اللّه ابتلاهم بدون ما ابتلاهم به ليخف عليهم، فيجيبون بأجمعهم، أو يقول: لو شاء اللّه، لوفقهم جميعًا للّهدى فيهتدون، وهو قولنا، لكن لم يشأ؛ لما ذكرنا أنه لم يوفقهم لما علم منهم أنهم يختارون الكفر.

وقوله: {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ}، بأن اللّه قادر لو شاء لجعلهم جميعًا مهتدين.

ثم معلوم أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان معصومًا، لا يجوز أن يقال إنه يكون من الجاهلين أو من الشاكرين، على ما ذكر، ولكن ذكر هذا - واللّه أعلم - ليعلم أن العصمة لا ترفع الأمر والنهي والامتحان، بل تزيد؛ لذلك كان ما ذكر، واللّه أعلم.

* * *

٣٦

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} معناه - واللّه أعلم - إنما يستجيب الذين ينتفعون بما يسمعون، وإلا كانوا يسمعون جميعًا، لكن الوجه فيه ما ذكرنا أنه إنما يجيب الذين ينتفعون بما يسمعون، وهو كقوله - تعالى -: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} كان النبي - عليه السلام - ينذر من اتبع الذكر ومن لم يتبع، لكن انتفع

بالإنذار من اتبع الذكر، ولم ينتفع من لم يتبع، وهو ما ذكر - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}، أخبر أن الذكرى تنفع المؤمنين ولا تنفع غيرهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّه}:

اختلف فيه؛

قَالَ بَعْضُهُمْ: {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّه} أنه على الابتداء؛ يبعثهم اللّه ثم إليه يرجعون. وقال قائلون: أراد بالموتى الكفار، سمي الكافر ميتًا والمؤمن حيًّا في غير موضع من القرآن؛ كقوله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ}، فهو - واللّه أعلم - أن جعل لكل بشر سمعين وبصرين وحياتين؛ سمع أبدي في الآخرة، وبصر أبدي في الآخرة؛ وكذلك جعل لكل أحد حياتين: حياة أبدية في الآخرة، وحياة منقضية وهي حياة الدنيا؛ وكذلك سمع أبدي وهو سمع الآخرة، وسمع ذو مدة لها انقضاء وهو سمع الدنيا، ثم نفى السمع والبصر والحياة عمن لم يدرك بهذا السمع والبصر والحياة التي جعل له في الدنيا،

ولم يقصد سمع الأبدية وبصر الأبدية والحياة الأبدية؛ لأنه إنما جعل لهم هذا في الدنيا؛ ليدركوا بهذا ذاك؛ وكذلك العقول التي ركبت في البشر إنما ركبت ليدركوا بها ويبصروا ذلك الأبدي، وإلا لو كان تركيب هذه العقول في البشر لهذه الدنيا خاصة، لا لعواقب تتأمل للجزاء والعقاب - فالبهائم قد تدرك بالطبع ذلك القدر، وتعرف ما يؤتى ويتقى، وما يصلح لها [ .... ]؛ فدل أن تركيب العقول فيمن ركب إنما ركب لا لما يدرك هذا؛ إذ يدرك ذلك المقدار بالطبع من لم يركب فيه وهو البهائم التي ذكرنا.

والسمع والبصر والحياة قد جعلت في الدنيا لمعاشهم ومعادهم؛ وكذلك جعل لهم

 اللسان؛ لينطق بحوائجهم في الدنيا، ويعرف بعضهم من بعض حاجته في الدنيا، ويدرك به الأزلي، فإذا لم ينتفعوا بذلك أزال عنهم ذلك وسماهم العُمْي والصم والبكم؛ ألا ترى أنه قال: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ}، لما لم ينتفعوا بذلك؟!

ألا ترى أنه إذ لم يدرك الأزلي والأبدي من ذلك سماه أعمى؛ حيث قال: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا}.

والحياة حياتان: حياة مكتسبة: وهي الحياة التي تكتسب بالهدى والطاعات.

وحياة منشأة: وهي حياة الأجسام؛ فالكافر له حياة الجسد وليس له حياة مكتسبة، وأما المؤمن: فله الحياتان جميعًا المكتسبة والمنشأة فيسمى كل بالأسماء التي اكتسبها فالمؤمن اكتسب أفعالا طيبة فسماه بذلك، والكافر اكتسب أفعالا قبيحة فسماه بذلك.

٣٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّه قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً ... (٣٧)

هَؤُلَاءِ قوم همتهم العناد والمكابرة وإلا قد كان أنزل عليه آيات عقليات وسمعيات وحسيات،

فأما الآيات العقليات: فهي ما ذكر: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ. .} الآية.

وأما الآيات السمعيات: فهي ما أنباهم عن أشياء كانت غائبة عنهم، من غير أن كان له اختلاف إلى من يعلمها وينبئه عنها.

والآيات الحسيات: هي ما سَقى أقوامًا كثيرة بلبن قليل من قصعة، وما قطع

مسيرة شهرين بليلة واحدة، ونطق العناق الذي شوي له، وحنين المنبر، وغير ذلك من الأشياء مما يكثر ذكرها. لكنهم عاندوا، وكانت همتهم العناد.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قُلْ إِنَّ اللّه قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً}: التي سألوك، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}: يحتمل وجهين:

يحتمل: أن يكون أن أكثرهم لا يعلمون أنه إذا أنزل آية على أثر السؤال لأنزل عليهم العذاب واستأصلهم إذا عاندوا.

ويحتمل قوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}: أنه لا ينزل الآية إلا عند الحاجة أبهم، إليها.

ويحتمل ألا يسألوا الآية ليعلموا، ولكن يسألون؛ ليتعنتوا.

 أو إن أنزل آية، على أثر سؤال، فلم يقبلوها، ولم يؤمنوا بها؛ أهلكهم على ما ذكرنا من سنته في الأولين، لكنه وعد إبقاء هذه الأمة إلى يوم القيامة.

٣٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ... (٣٨) يشبه أن يكون هذا صلة قوله: {قُلْ إِنَّ اللّه قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً}؛ لأنه ذكر " دابة "، والدابة: كل ما يدب على وجه الأرض من ذي الروح، وذكر الطائر، وهو: اسم كل ما يطير في الهواء. لما كان قادرًا على خلق هذه الجواهر المختلفة، وسوق رزق كل منهم إليهم، فهو قادر على أن ينزل آية؛ ولو أنزل آية لاضطروا جميعًا إلى القبول لها والإقرار بها، ولكنه لا ينزل لما ليست لهم الحاجة إليها، والآيات لا تنزل إلا عند وقوع الحاجة بهم إليها، وعلى هذا يُخرَجُ مخرج قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُم لَا يَعْلَمُونَ}.

ومن الناس من استدل بهذه الآية على أن البهائم والطير ممتحنات؛ حيث قال: {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ}، ثم قال: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ}.

ثم اختلف في قوله تعالى: {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ}:

عن أبي هريرة - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال في قوله - تعالى -: {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ}: أي: إلا سيحشرون يوم القيامة كما تحشرون، ثم يقتص البهائم بعضها من بعض، ثم يقال لها: كوني ترابًا، فعند ذلك يقول الكافر: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا}؛ كالبهائم.

وعن ابن عَبَّاسٍ قال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ}؛ أي: يفقه بعضها من بعض كما يفقه بعضكم من بعض، وأمم أمثالكم في معرفة ما يؤتى ويتقى.

ويحتمل: {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} في الكثرة، والعدد، والخلق، والصنوف تعرف بالأسامي

 كما تعرفون أنتم.

وأصله: إن ما ذكر من الدواب والطير {أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ}: سخرها لكم لم يكن منها ما يكون منكم من العناد والخلاف، والتكذيب للرسل والخروج عليهم، بل خاضعين لكعمم مذللين تنتفعون بها.

ويحتمل قوله: {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ}: في حق معرفة وحدانيته وألوهيته، أو حق الطاعة للّه؛ كقوله - تعالَى -: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}.

اختلف فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: {مَا فَرَّطْنَا} أي: ما تركنا شيئا إلا وقد ذكرنا أصله في القرآن.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنهما - قال: ما تركنا شيئًا إلا قد كتبناه في أم الكتاب: وهو اللوح المحفوظ.

وقيل: {مَا فَرَّطْنَا}: ما ضيعنا في الكتاب مما قد يقع لكم الحاجة إليه أو منفعة إلا قد بيناه لكم في القرآن.

قوله تعالى: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}.

قيل: الطير والبهائم يحشرون مع الخلق، وقيل: {إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}: يعني بني آدم.

٣٩

وقوله: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ... (٣٩)

قاله الحسن: {بِآيَاتِنَا} ديننا.

وقال غيره: {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا}: حججنا: حجج وحدانيته وألوهيته، وحجج الرسالة والنبوة.

ويحتمل: آيات البعث، كذبوا بذلك كله، وقد ذكرنا هذا في غير موضع.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {صُمٌّ وَبُكْمٌ}.

هو ما ذكرنا أنه نفى عنهم السمع، واللسان، والبصر؛ لما لم يعرفوا نعمة السمع، ونعمة البصر، ونعمة اللسان.

ولا يجوز أن يجعل لهم السمع والبصر واللسان، ثم لا يعلمهم ما يسمعون بالسمع، وما ينطقون باللسان، دل أنه يحتاج إلى رسول يسمعون منه، ويستمعون إليه، وينطقون ما علمهم، فإذا لم يفعلوا صاروا كما ذكر {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ}، لما لم يشْفعوا به، ولم يعرفوا نعمته التي جعل لهم فيما ذكر.

أو نفى عنهم السمع والبصر واللسان؛ لما ذكرنا أن السمع والبصر، والحياة على ضربين: مكتسب، ومنشأ، فنُفِي عنهم السمع المكتسب، والبصر المكتسب، والحياة المكتسبة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فِي الظُّلُمَاتِ}.

يحتمل وجهين:

يحتمل: ظلمات الجهل والكفر.

والثاني: هم في ظلمات: يعني ظلمات السمع، والبصر، والقلب.

وهم في الظلمتين جميعًا: في ظلمة الجهل والكفر، وظلمة السمع، والبصر؛ كقوله - تعالى -: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ}، والمؤمن في النور؛ كقوله - تعالى -: قوله تعالى: {نُورٌ عَلَى نُورٍ}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مَنْ يَشَإِ اللّه يُضْللّه وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.

وصف - عَزَّ وَجَلَّ - نفسه بالقدرة، وجعلهم جميعًا متقلبين في مشيئة، وأخبر أنه شاء لبعضهم الضلال، ولبعضهم الهدى، فمن قال: إنه شاء للكل الهدى لكن، لم يهتدوا، أو شاء للكل الضلال - فهو خلاف ما ذكره عَزَّ وَجَلَّ؛ لأنه أخبر أنه شاء الضلال لمن ضل، وشاء الهدى لمن اهتدى.

وأصله: أنه إذا علم من الكافر أنه يختار الكفر، شاء أن يضل وخلق فعل الكفر منه،

 وكذلك إذا علم من المؤمن أنه يختار الإيمان والاهتداء، شاء أن يهتدي وخلق فعل الاهتداء منه.

* * *

٤٠

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّه}.

الذي وعدكم في الدنيا أنه يأتيكم.

{أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ}.

لأنه كان وعدهم أن يأتيهم العذاب، أو كان يعدهم أن تقوم الساعة، فقال: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّه أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّه تَدْعُونَ}: في رفع ذلك، وكشفه عنكم.

{إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أن معه شركاء وآلهة.

أو {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}: أن ما تعبدون شفعاؤكم عند اللّه، أو تقربكم عبادتكم إياها إلى اللّه.

وقوله - تعالى - {أَغَيْرَ اللّه تَدْعُونَ}.

يحتمل: حقيقة الدعاء عند نزول الجلاء.

ويحتمل: العبادة، أي: أغير اللّه تعبدون على رجاء الشفاعة لكم، وقد رأيتم أنها لم تشفع لكم عند نزول البلايا، ثم أخبر أنهم لا يدعون غير اللّه في دفع ذلك وكشفه عنهم، وأخبر أنهم إلى اللّه يتضرعون في دفع ذلك عنهم، وهو ما ذكر - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ}، وكقوله: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ}.

٤١

 وكقوله: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}: ذكر هذا - واللّه أعلم - أنكم إذا مسكم الشدائد والبلايا لا تضرعون إلى الذين تشركون في عبادته وألوهيته، فكيف أشركتم أُولَئِكَ في ربوبيته في غير الشدائد والبلايا، (وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (٤١)، أي: تتركون ما تشركون باللّه من الآلهة؛ فلا تدعونهم أن يكشفوا عنكم؟

٤٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ ... (٤٢)

اختلف فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: البأساء: الشدائد التي تصيبهم من العدو، والضراء: ما يحل بهم من البلاء والسقم السماوي.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: البأساء: هو ما يحل بهم من الفقر والقحط والشدة.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: قوله، {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ}: الزمانة والخوف، {وَالضَّرَّاءِ}: البلاء والجوع.

{لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ}.

أي: ابتلاهم بهذا، أو امتحنهم لعلهم يتضرعون، ويرجعون عما هم عليه.

٤٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا ... (٤٣)

يذكر في ظاهر هذا أنه قد أصابهم البلاء والشدة، ولم يتضرعوا ولكن قست قلوبهم، ويذكر في غيره من الآيات أنه إذا أصابهم البلاء والشدائد تضرعوا ورجعوا عما كانوا عليه؛ وهو كقوله - تعالى -: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ}،

وقوله: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ}، وغيرهما من الآيات. لكن يحتمل هذا وجوهًا:

أن هذا كان في قوم، والأول كان في قوم آخرين، وذلك أن الكفرة كانوا على أحوال ومنازل: منهم من كان على حال، فإذا أصابه خير اطمأن به، وإذا زال عنه وتحول تغير؛ وهو كقوله - تعالى -: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّه عَلَى حَرْفٍ. . .} الآية. ومنهم من يتضرع ويلين قلبه إذا أصابه الشدة والبلاء، وعند السعة والنعمة قاسي القلب معاند؛ وهو كقوله: {دَعَوُا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ. . .} إلى آخر الآية؛ وكقوله - تعالى -: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ}. ومنهم: من

كان فرحًا عند الرحمة والنعمة، وعند الشدة والبلاء كفورًا حزينا؛ كقوله - تعالى -: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ}. ومنهم: من كان لا يخضع ولا يتضرع في الأحوال كلها، لا عند الشدة والبلاء، ولا عند الرخاء والنعمة، ويقولون: إن مثل هذا يصيب غيرنا، وقد كان أصاب آباءنا، وهم، كانوا أهل الخير والصلاح؛ وهو كقوله؛ {وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ}: كانوا على أحوال مختلفة، ومنازل متفرقة؛ فيشبه أن يكون قوله: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ}: في القوم الذين لم يتضرعوا عند إصابتهم الشدائد والبلايا.

وجائز أن يكونوا تضرعوا عند حلول الشدائد، فإذا انقطع ذلك وارتفع، عادوا إلى ما كانوا من قبل؛ كقوله: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}؛ ويشبه أن يكون قوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ}،

وقوله: {دَعَوُا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}: فيما بينهم وبين ربهم، وهذا فيما بينهم، وبين الرسل؛ لأن الرسل كانوا يدعونهم إلى أن يقروا، ويصدقوهم فيما يقولون لهم ويخبرون، فتكبروا عليهم، وأقروا للّه وتضرعوا إليه، تكبروا عليهم ولم يتكبروا على اللّه.

ويحتمل أن يكون قوله: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا}: في الأمم السالفة إخبار منه أنهم لم يتضرعوا.

ويحتمل قوله أيضًا: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} وجهين:

أحدهما: أنهم لم يتضرعوا إذ جاءهم بأس اللّه، ولكن عاندوا وثبتوا على ما كانوا عليه.

والثاني: تضرعوا عند نزول بأسه؛ لكن إذا ذهب ذلك وزال عادوا إلى ما كانوا، فيصير كأنه قال: فلولا لزموا التضرع إذ جاءهم بأسنا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.

أي: زين لهم صنيعهم الذي صنعوا، ويقولون: إن هذا كان يصيب أهل الخير، ويصيب آباءنا وهم كانوا أهل خير وصلاح.

 أو زين لهم الشيطان ما كانوا يعملون من الشرك والتكذيب، ويقول لهم: إن الذي أنتم عليه حق.

٤٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ ... (٤٤) يحتمل: ابتداء ترك، أي: تركوا الإجابة إلى ما دعوا وتركوا ما أمروا به.

ويحتمل: نسوا ما ذكروا به من الشدائد والبلايا.

{فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ}.

يحتمل وجهين:

يحتمل أبواب كل شيء مما يحتاجون إليه، {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً}.

ويحتمل: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ}، أي: تركوا ما وعظوا به، يعني: بالأمم الخالية لما دعاهم الرسل فكذبوهم {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ}، أي: أنزلنا عليهم أبواب كل شيء من أنواع الخير بعد الضر والشدة الذي كان نزل بهم.

{حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ}.

اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ المبلس: الآيس من كل خير.

قَالَ الْقُتَبِيُّ: المبلس: الآيس الملقي بيديه.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: المبلس: هو الحزين المغتم الآيس من الرحمة وغيرها من الخير.

وقال الفراء: المبلس هو المنقطع الحجة، وقيل: لذلك سُمي إبليس لعنه اللّه إبليس لما أيس من رحمة اللّه.

٤٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ... (٤٥)

قيل: استؤصل القوم الذين ظلموا بالهلاك جميعًا، والظلم هاهنا: هو الشرك، وقيل: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا}، أي: أصلهم.

وقيل: دابر القوم، أي: آخرهم

وكله واحد، وذلك أنه إذا هلك آخرهم وقطعوا، فقد استؤصلوا.

 ويشبه أن يكون قوله: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا}، أي: قطع افتخارهم وتكبرهم الذي كانوا يفتخرون به ويتكبرون.

وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: {وَالْحَمْدُ للّه رَبِّ الْعَالَمِينَ}.

الحمد في هذا الموضع على أثر ذلك الهلاك يخرج على وجوه، وإلا الحمد إنما يذكر على أثر ذكر الكرامة والنعمة، لكن هاهنا وإن كان نقمة وإهلاكًا فيكون للأولياء كرامة ونعمة؛ لأن هلاك العدو يعد من أعظم الكرامة والنعمة من اللّه، فإذا كان في ذلك شر للأعداء والانتقام فيكون خيرًا للأولياء وكرامة، وما من شيء يكون شرا لأحد إلا ويجوز أن يكون في ذلك خير لآخر، فيكون الحمد في الحاصل في الخير والنعمة.

والثاني: أنه يجوز أن يكون في الهلاك نفسه الحمد إذا كان الهلاك بالظلم؛ لأنه هلاك بحق إذ للّه أن يهلكهم، ولم يكن الهلاك على الظلم خارجًا عن الحكمة، فيحمد عز وجل في كل فعل: حكمةٍ.

والئالث: يقول: {وَالْحَمْدُ للّه رَبِّ الْعَالَمِينَ} وعلى إظهار حججه بهلاكهم.

* * *

٤٦

قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّه سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّه يَأْتِيكُمْ بِهِ}.

اختلف فيه؛

قَالَ بَعْضُهُمْ: يراد بأخذ السمع والبصر والختم على القلوب: أخذ منافع هذه الأشياء، أي: إن أخذ منافع سمعكم، ومنافع بصركم، ومنافع عقولكم، من إله غير اللّه يأتيكم به: أي يأتيكم بمنافع سمعكم، ومنافع بصركم، ومنافع عقولكم، فإذا كانت الأصنام والأوثان التي تعبدون من دون اللّه وتشركون في ألوهيته وربوبيته لا يملكون ردّ تلك المنافع التي أخذ اللّه عنكم، فكيف تعبدونها وتشركونها في

 ألوهيته؟!

وقيل: يراد بأخذ السمع والبصر وما ذكر: أخذ أعينها وأنفسها، أي: لو أخذ اللّه سمعكم وبصركم وعقولكم، لا يملك ما تعبدون رد هذه الأشياء إلى ما كانوا عليه: لا يملكون رد السمع إلى ما كان، ولا رد البصر والعقل الذي كان إلى ما كان، فكيف تعبدون دونه وتشركون في ألوهيته؟! يُسفّهُ أحلامهم لما يعلمون أن ما يعبدون ويجعلون لهم الألوهية لا يملكون نفعًا ولا ضرًّا، فمع ما يعرفون ذلك منهم يجعلونهم آلهة معه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ}.

أي: نبين لهم الآيات في خطئهم في عبادة هَؤُلَاءِ، وإشراكهم في ألوهيته.

{ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ}.

أي: يعرضون عن تلك الآيات.

٤٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّه بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧)

معناه - واللّه أعلم -: أنهم يعلمون أن العذاب لا يأتي ولا يأخذ إلا الظالم، ثم مع علمهم أنهم ظلمة؛ لعبادتهم غير اللّه، مع علمهم أنهم لا يملكون نفعًا ولا ضرًا يسألون العذاب كقوله: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ}.

وقوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ}.

وقوله: {عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ}.

٤٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ... (٤٨) أخبر أنه لم يرسل الرسل إلا مع بشارة لأهل الطاعة، ونذارة لأهل معصيته، وفيه أن الرسل ليس إليهم الأمر والنهي، إنما إليهم إبلاغ الأمر والنهي.

ثم بين البشارة فقال: {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}.

{فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ}: لما ليس لذلك فوت ولا زوال، ليس نعيمها كثواب الدنيا

 وأنه على شرف الفوت والزوال.

{وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}: لأنه سرور لا يشوبه حزن، ليس كسرور الدنيا يكون مشويًا بالحزن والخوف.

٤٩

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩) هذه هي النذارة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ}.

ذكر المس - واللّه أعلم - لما لا يفارقهم العذاب، ولا يزول عنهم.

والفسق في هذا الموضع: الكفر، والشرك، وما ذكر من الظلم هو ظلم شرك وكفر.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللّه وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ... (٥٠)

لم يحتمل ما قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - حيث قال: إنهم قالوا لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم ينزل اللّه عليك كنزًا تستغني به؛ فإنك محتاج، ولا جعل لك جنة تأكل منها فتشبع من الطعام؛ فإنك تجوع، فنزل عند ذلك هذا. لا يحتمل أن يقولوا له ذلك، فيقول لهم: إني لا أقول لكم إني ملك، وليس عندي خزائن اللّه ولا أعلم الغيب، فإن كان من السؤال شيء من ذلك، فإنما يكون على سؤال سألوا لأنفسهم؛ كقوله:

(وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (٩١)،

ونحو ذلك من الأسئلة التي سألوا لأنفسهم، فنزل عند ذلك ما ذكر، فهذا لعمري يحتمل، فيقول لهم: إنه ليس عندي خزائن اللّه فاجعل لكم هذا، ولا أعلم الغيب؛ ولا أقول لكم: {إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ}.

والثاني: جائز أن يكون النبي - عليه السلام - أوعدهم بالعذاب وخوفهم، فسألوا العذاب استهزاء وتكذييًا، فقالوا: متى يكون؟! كقوله: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}، فقال عند ذلك: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللّه} ومفاتيحه، أُنْزِلُ عليكم العذاب متى شئت، {وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} ومتى وقت نزول العذاب عليكم، {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} نزلت من السماء بالعذاب، إنما أنا رسول، بشر مثلكم، ما أتبع إلا

ما يوحى إليَّ، هذا محتمل جائز أن يكون على أثر ذلك نزل.

ويحتمل وجهًا آخر وهو: أنه يخبر ابتداء في: {لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللّه}؛ لأني لو قلت: عندي خزائن اللّه، وأنا أعلم الغيب، وإني ملك - كان ذلك أشد اتباعًا لي وأرغب وأكثر لطاعتي، لكن أقول: إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليَّ ما أتبع إلا ما يوحى إليَّ، لتعلموا أني صادق في قولي، ومحق فيما أدعوكم إليه.

* * *

٥٠

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللّه وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ}.

يعلم بالإحاطة أن هذا ونحوه خرج على الجواب لأسئلة كانت منهم لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لكن لسنا نعلم ما كانت تلك الأسئلة التي كانت من أُولَئِكَ، حتى كان هذا جوابًا لهم، فلا نفسر، ولكن نقف؛ مخافة الشهادة على اللّه.

ويحتمل: أن يكون جوابًا لما ذكر في آية أخرى، وهو قولهم: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ)، فقال عند ذلك: {لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللّه}،

وقال: {وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} جوابًا لسؤال عن وقت الساعة، أو وقت نزول العذاب.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} جواب لقولهم: {أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ} فقال عند ذلك: لا أقول: إني أعلم الغيب؛ حتى أعلم وقت نزول العذاب

 أو قيام الساعة، ولا أقول: إني ملك حتى أرقى في السماء.

وقوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ}.

أي: تعرفون أنتم أنه لا يستوي الأعمى، أي: من عمي بصره، والبصير: أي: من لم يعم بصره، فكيف لا تعرفون أنه لا يستوي من عمي عن الآيات ومن لم يعم عنها؟!

أو نقول: إذا لم يستو الأعمى والبصير، كيف يستوي من يتعامى عن الحق ومن لم يتعام؟! {أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} أنهما لا يستويان.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ}.

في آيات اللّه وما ذكركم.

أو نقول: {أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} في وعظكم، باللّه تعالى.

٥١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١)

اختلف فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: هو صلة قوله: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللّه وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ. . .} الآية، أيئس الكفرة عما سألوا من الأشياء رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ثم أمر بالإنذار الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم وهم المؤمنون، أي: يعلمون أنهم يحشرون إلى ربهم، وأن ليس لهم ولي يدفع عنهم ما يحل بهم، ولا شفيع يسأل لهم ما لم يعطوا.

وجائز أن يكون تخصيص الأمر بإنذار المؤمنين لما كان الإنذار ينفعهم ولا ينفع غيرهم، وليس فيه لا ينذر غيرهم؛ وهو كقوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ}، ليس فيه أنه لا ينذر من لم يتبع الذكر ولا خشي الرحمن ولكن أنبأ أنه إنما ينفع هَؤُلَاءِ؛ كقوله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}، أخبر أن الذكرى تنفع المؤمنين ولا تنفع أُولَئِكَ، ينذر الفريقين: من اتبع، ومن لم يتبع، ومن انتفع، ومن لم ينتفع، ويكون قوله: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ}، يعني: ليس لأُولَئِكَ أولياء ولا شفعاء؛ لأنهم يقولون: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّه}، {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى}، ونحوه أخبر أن ليس لهم ولي ولا شفيع دونه.

٥٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ... (٥٢)

يذكر في بعض القصة أن رجالا من أصحاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كانوا يسبقون إلى مجلس رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيجلسون قريبًا منه، فيجيء أشراف القوم وساداتهم، وقد أخذ أُولَئِكَ المجلس فيجلس هَؤُلَاءِ ناحية، فقالوا: نحن نجيء فنجلس ناحية، فذكروا ذلك لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: إنا سادات قومك وأشرافهم، فلو أدنيتنا منك في المجلس، فهمّ أن يفعل ذلك، فأنزل اللّه هذه الآية يعاتب نبيه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بقوله: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ. . .} الآية.

وإلى هذا يذهب عامة أهل التأويل، لكنه بعيد؛ إذ ينسبون رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى أوحش فعل وأفحشه ما لو كان فيه إسقاط نبوته ورسالته؛ إذ لا يحتمل أن يكون النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقرب أعداءه ويدني مجلسهم منه، ويبعد الأولياء، هذا لا يفعله سفيه فضلا أن يفعله رسول اللّه المصطفى على جميع بريته، أو يخطر بباله شيء من ذلك، وكان فيه ما يجد الكفرة فيه مطعنا يقولون: يدعو الناس إلى التوحيد والإيمان به والاتباع له، فإذا فعلوا ذلك وأجابوه طردهم وأبعد مجلسهم منه، هذا لعمري مدفوع في عقل كل عاقل، ولكن إن كان فجائز أن يكون منهم طلب ذلك طلبوا منه أن يدني مجلسهم ويبعد أُولَئِكَ؛ هذا يحتمل، وأما أن يهم أن يفعل ذلك أو خطر بباله شيء من ذلك فلا يحتمل.

وجائز أن يكون هذا من اللّه ابتداء تأديبًا وتعليمًا؛ يعلم رسوله صحبة أصحابه ومعاملته معهم؛ كقوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} ونهاه أن يمد عينه إلى ما متَّع أُولَئِكَ؛ كقوله: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ. . .} الآية، ويخبره عن عظيم قدرهم عند اللّه.

وقد ذكرنا أن العصمة لا تمنع النهي والحظر، بل العصمة تزيد في النهي والزجر، وأخبر أن ليس عليه من حسابهم من شيء، وما من حسابك عليهم من شيء، فإنما عليك البلاغ وعليهم الإجابة؛ وهو كقوله:

{فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ}.

يشبه أن يكونوا يجتمعون إلى رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في كل غداة ومساء، فيسمعون منه، ثم يفترقون على ما عليه أمر الناس من الاجتماع في كل غداة ومساء عند الفقهاء وأهل العلم.

وجائز أن يكون ذكر الغداة والعشي كناية عن الليل كله وعن النهار جملة؛ كقوله:

(وَالضُّحَى (١) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (٢)، ليس يريد بـ {وَالضُّحَى} الضحوة خاصة ولكن النهار كله.

ألا ترى أنه قال: {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} ذكر الليل دل أنه كان الضحى كناية عن النهار جملة؛ فعلى ذلك الغداة والعشي يجوز أن يكون كناية عن الليل والنهار جملة، واللّه أعلم.

وجائز أن يكون أصحاب الحرف والمكاسب، لا يتفرغون للاجتماع إلى رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والاستماع منه في عامة النهار، ولكن يجتمعون إليه ويستمعون منه بالغداة والعشي، فكان ذكر الغداة والعشي لذلك أو لما ذكرنا.

وجائز أن يكون المراد بذكر الغداة والعشي صلاة الغداة، وصلاة العشاء؛ يقول: لا تطرد من يشهد هاتين الصلاتين، وإنَّمَاكان يشهدهما أهل الإيمان، وأما أهل النفاق: فإنهم كانوا لا يشهدون هاتين الصلاتين، ويحتمل غير ما ذكرنا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ}

الظلم على وجوه: ظلم كفر، وظلم شرك، وظلم يكون بدونه، وهو أن يمنع أحدا حقه أو أخذ منه حقا بغير حق؛ فهو كله ظلم.

والظلم - هاهنا واللّه أعلم -: يشبه أن يكون هو وضع الحكمة في غير أهلها؛ لأنه لو كان منه ها ذكر من طرد أُولَئِكَ وإدناء أُولَئِكَ، لم يكن أهلا للحكمة، ويجوز أن يوصف واضع الحكمة في غير موضعها بالظلم؛ على ما روي في الخبر: " أن من وضع الحكمة في غير أهلها فقد ظلمها، ومن منعها عن أهلها فقد ظلمهم ".

٥٣

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ... (٥٣)

قوله: {وَكَذَلِكَ} لا يتكلم إلا على أمر سبق، فهو - واللّه أعلم - يحتمل أن يقول لما قالوا: يا مُحَمَّد أرضيت بهَؤُلَاءِ الأعبد من قومك، أفنحن نكون تبعًا لهَؤُلَاءِ، ونحن سادة القوم وأشرافهم؟! فقال عند ذلك: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} أي: كما فضلتكم على هَؤُلَاءِ في أمر الدنيا فكذلك فضلتهم عليكم في أمر الدِّين، ويكونون هم المقربين إلى رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والمدنين مجلسهم إليه، وأنتم أتباعهم في أمر الدِّين، وإن كانوا هم أتباعكم في أمر الدنيا؛ فكذلك امتحان بعضهم ببعض.

ويحتمل وجهًا آخر: وهو أن يقال: كما كان له امتحان كل في نفسه ابتداء محنة؛ كقوله: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}.

وكقوله: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ}.

وقوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ. . .} الآية.

فعلى ذلك له أن يمتحن بعضكم ببعض.

وأشد المحن أن يؤمر المتبوع ومن يرى لنفسه فضلا بالخضوع للتابع ومن هو دونه عنده، يشتد ذلك عليه ويتعذر؛ لما كانوا يرون هم لأنفسهم الفضل والمنزلة في أمر الدنيا، فظنوا أنهم كذلك يكونون في أمر الدِّين؛ وعلى ذلك يخرج امتحانه إبليس بالسجود لآدم لما رأى لنفسه فضلا عليه فقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ}، ولم ير الخضوع لمن دونه عدلا وحكمة، فصار ما صار؛ فعلى ذلك هَؤُلَاءِ لم يروا أُولَئِكَ الضعفة أن يكونوا متبوعين عدلا وحكمة، وظنوا أنهم لما كانوا مفضلين في أمر الدنيا، وكان لهَؤُلَاءِ إليهم حاجة - يكونون في أمر الدِّين كذلك، ويقولون: {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} ونحوه من الكلام.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللّه عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: هو موصول بالأول بقوله: {فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا} يقول الكافر قول الكفر والمؤمن قول الإيمان. ثم ابتدأ فقال: {أَهَؤُلَاءِ} أي: يقول الكفرة {أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللّه عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا}. ليس بمفصول من قوله {لِيَقُولُوا} وولكن موصول به {لِيَقُولُوا} يعني الكفرة {أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللّه عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا}.

 ثم يحتمل قوله {أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللّه عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} وبالحظ بالتقريب والإدناء في المجلس وجعلهم متبوعين من بيننا بعد ما كانوا أتباعًا لنا فقال عند ذلك {أَلَيْسَ اللّه بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} أي: عرف هَؤُلَاءِ نعمة اللّه تعالى، ووجهوا شكر نعمه إليه وأنتم وجهتم شكر نعمه إلى غيره بعد ما عرفتم أنه هو المنعم عليكم والمسدي إليكم.

* * *

٥٤

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} هذا يدل على أن النهي عن الطرد ليس للإبعاد خاصة في المجلس، ولكن في كل شيء في بشاشة الوجه واللطف في الكلام وفي كل شيء؛ لأنه قال {فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وقَالَ بَعْضُهُمْ {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} هو هو أن يبدأهم بالسلام فذلك الذي كتب على نفسه الرحمة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ قوله {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} أي: لم يأخذهم في أول ما وقعوا في المعصية ولكن أمهلهم إلى وقت وجعل لهم المخرج من ذلك بالتوبة وعلى ذلك ما روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قال: " فتح اللّه للعبد التوبة إلى أن يأتيه الموت ".

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي: كل من عمل سوءًا بجهالة ثم تاب من بعد ذلك وأصلح أنه يغفر له ما كان منه.

ومن قرأها بالنصب عطفه على قوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} لذلك.

وجائز أن يكون قوله {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} أي: كتب على خلقه الرحمة أن يرحم بعضهم بعضًا.

وجائز ما ذكرنا أنه كتب على نفسه الرحمة أي: أوجب أن يرحم ويغفر لمن تاب.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ} جائز أن يكون الآية في الكافر إذا

 تاب يغفر اللّه له ما كان منه في حال الكفر والشرك كقوا له: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّه فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ. .} الآية،

وقوله: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}.

وجائز أن تكون في المؤمنين.

ثم ذكر عملا بجهالة وإن لم يكن يعمل بالجهل لأن الفعل فعل الجهل وإن كان فعله لم يكن على الجهل؛ وكذلك ما ذكر من النسيان والخطأ في الفعل؛ لأن فعله فعل ناس وفعل مخطئ وإن لم يفعله الكافر على النسيان والخطأ، وإلا لو كان على حقيقة الخطأ والنسيان لكان لا يؤاخذ به؛ لقوله {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ}، لكن الوجه ما ذكرنا أن الفعل فعل نسيان وخطأ وإن لم يكن ناسيًا ولا مخطئًا فيه، وعلى ذلك الفعل فعل جهل وإن لم يكن جاهلا والفعل فعل جهل وإن لم يكن بالجهل، والمؤمن جميع ما يتعاطى من المساوي يكون لجهالة؛ لأنه إنما يعمل السوء إما لغلبة شهوة أو للاعتماد على كرم ربه بالعفو عنه والصفح عن ذلك ويعمل السوء على نية التوبة والعزم عليها في آخره. على هذه " الوجوه الثلاثة يقع المؤمن في المعصية وأما على التعمد فلا يعمل.

٥٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥) قرئ بالياء والتاء جميعًا.

فمن قرأ بالتاء نصب السبيل بجعل الخطاب لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أي: لتعرف سبيل المجرمين.

ومن قرأ بالياء رفع " السبيل " كأنه قال نفصل الآيات وجوهًا.

أي: نبين الآيات ما يعرف السامعون أنها آيات من عند اللّه غير مخترعة من عند الخلق ولا مفتراة ما يبين سبيل المجرمين من سبيل المهتدين.

والثاني: نفصل الآيات ما بالخلق حاجة إليها وإلى معرفتها.

والثالث: نبين من لآيات ما بين المختلفين، أي: بين سبيل المجرمين وبين سبيل المهتدين.

{وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} تأويله ما ذكرنا أن من قرأ بالتاء حمله على خطاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أي: نبين من الآيات لتعرف سبيل المجرمين بالنصب.

ومن قرأ بالياء نبين من الآيات ليتبين سبيل المجرمين من سبيل غير المجرمين، واللّه أعلم.

٥٦

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٥٦) معناه - واللّه أعلم -: إني نهيت بما أكرمت من العقل واللب أن أعبد الذين تعبدون من دون اللّه.

أو يقول: إني نهيت بما أكرمت من الوحي والرسالة أن أعبد الذين تدعون من دون اللّه.

{قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} ثم أخبر أن ما يعبدون هم من دون اللّه إنما يعبدونه اتباعًا لهوى أنفسهم وأن ما يعبده هو ليس يتبع هوى نفسه، ولكن إنما يتبع الحجة والسمع وما يستحسنه العقل؛ ألا ترى أنه قال {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} أي: على حجة من ربي؟! يخبر أن ما يعبده هو يعبده اتباعًا للحجة والعقل، وما يعبدون اتباعًا لهوى أنفسهم، وما يتبع بالهوى يجوز أن يترك اتباعه ويتبع غيره لما تهوى نفسه هذا ولا تهوى الأول وأما ما يتبع بالحجة والسمع وما يستحسنه العقل فإنه لا يجوز أن يترك اتباعه ويتبع غيره وفيه تعريض بسفههم؛ لأنه قال {قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} أي: لو اتبعت هواكم لضللت أنا، وأنتم إذا اتبعتم أهواءكم لعبادتكم غير اللّه ضلال ولستم من المهتدين؛ فهو تعريض بالتسفيه لهم والشتم منه.

٥٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ... (٥٧) قيل: على بيان من ربي وحجة، وقيل على دين من ربي.

وقوله عَزَّ وَجَلَّ {وَكَذَّبْتُمْ بِهِ} قيل بالقرآن، وقيل: العذاب ما أوعدتكم ويحتمل كذبتم ما وعدتكم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} أي: العذاب كقوله - تعالى -: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ}، وغيره فقال ما عندي ما تستعجلون به من العذاب. ثم هذا يدل على أن قوله: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللّه وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} أن المراد بالخزائن العذاب أي: ليس عندي ذلك، إنما ذلك إلى اللّه وعنده ذلك وهو قوله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للّه}، أي: ما الحكم والقضاء إلا للّه.

{يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} اختلف في تلاوته وتأويله: قرأ بعضهم بالضاد وآخرون بالصاد.

فمن قرأ بالصاد {يَقُصُّ} ويقول يبين الحق؛ لأن القصص هو البيان. وقال آخر {وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} أي: خير المبينين.

ومن قرأ بالضاد يقول يقضي بحكم.

 ثم اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ أي: يقضي بالحق وكذلك روي في حرف ابن مسعود رضي اللّه عنه أنه قرأ (يقضي بالحق) وقيل فيه إضمار، أي: يقضي ويحكم وحكمه الحق.

{يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} أي: القاضين والفصل والقضاء واحد؛ لأنه بالقضاء يفصل واللّه أعلم.

٥٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللّه أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (٥٨)

عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: {قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} لأهلكتكم.

وقيل: {لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}، أي: لعجلته لكم بالقضاء فيما بيننا، يخبر عن رحمة اللّه وحلمه، أي: لو كان بيدي لأرسلته عليكم، لكن اللّه بفضله ورحمته يؤخر ذلك عنكم.

ثم فيه نقض على المعتزلة في قولهم بأن اللّه لا يفعل بالعبد إلا الأصلح في الدِّين؛ لأنه قال: {قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}، ثم لا يحتمل أن تأخير العذاب والهلاك خير لهم وأصلح، ثم هو يهلكهم ويكون عظة لغيرهم وزجرًا لهم، ثم إن اللّه - تعالى - أخر ذلك العذاب عنهم وإن كان فيه شر لهم؛ فدل أن اللّه قد يفعل بالعبد ما ليس ذلك بأصلح له في الدِّين.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاللّه أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ}.

أي: عليم بمن الظالم منا؟ وهم كانوا ظلمة.

* * *

٥٩

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ}.

هذا - واللّه أعلم - يحتمل أن يكون صلة قوله: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللّه وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ}، وصلة قوله: {مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} كانوا يطلبون منه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويسألونه أشياء من التوسيع في الرزق، وغير ذلك مما كان يعدهم من الكرامة والمنزلة والسعة، وكان يوعدهم بالعذاب ويخوفهم بالهلاك، فيستعجلون ذلك منه ويطلبون منه ما أوعدهم فقال: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ}، ليس ذلك عندي، لا يعلم ذلك إلا هو.

ومفاتح: من المفتح، ليس من المفتاح؛ لأن المفتاح، يكون جمعه مفاتيح، والمفتح: يقال في النصر والمعونة؛ يقال: فتح اللّه عليه بلدة كذا، أي: نصره وجعله غالبًا عليهم، ويقال فيما يحدثه ويستفيد منه: فتح فلان على فلان باب كذا، أي: علمه علم ذلك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ}.

أي: من عنده يستفاد ذلك ومنه يكون، ومن نصر آخر إنما ينصر به، ومن علم آخر علما إنما يعلمه به، ومن وسع على آخر رزقًا إنما يوسعه باللّه، كل هذا يشبه أن يخرج تأويل الآية.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}.

هذا يحتمل وجوهًا؛ يحتمل أي يعلم ما في البر والبحر من الدواب، وما يسكن فيها من ذي الروح، كثرتها وعددها وصغيرها وكبيرها، لا يخفى عليه شيء.

والثاني: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}، أي: يعلم رزق كل ما في البر والبحر من الدواب ويعلم حاجته، ثم يسوق إلى كل من ذلك رزقه.

يذكر هذا - واللّه أعلم - ليعلموا أنه لما ضمن للخلق لكل منهم رزقه، يسوق إليه رزقه من غير تكلف ولا طلب؛ كما يسوق أرزاق كل ما في البر والبحر من غير طلب ولا تكلف، لا تضيق قلوبهم لذلك، فما بالكم تضيق قلوبكم على ذلك، وقد ضمن ذلك لكم كما ضمن لأُولَئِكَ؟!

والثالث: يعلم ما في البر والبحر من اختلاط الأقطار بعضها ببعض، ومن دخول بعض

في بعض، يخرج هذا على الوعيد: أنه لما كان عالمًا بهذا كله يعلم بأعمالكم ومقاصدكم.

فَإِنْ قِيلَ: هذا الذي ذكر كله في الظاهر دعوى، فما الدليل على أنه كذلك؟

قيل: اتساق التدبير في كل شيء وآثاره فيه يدل على أنه كان بتدبير واحد؛ لأن آثار التدبير في كل شيء واتساقه على سنن واحد ظاهرة بادية، فذلك يدل على ما ذكر.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} الآية.

يحتمل الكتاب - هاهنا -: التقدير والحكم اختلف فيه؛

قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} أي: محفوظ كله عنده؛ يقول الرجل لآخر: عملك كله عندي مكتوب، يريد الحفظ، أي: محفوظ عندي، وذلك جائز في الكلام.

وقيل: الكتاب - هاهنا -: هو اللوح المحفوظ، أي: كله مبين فيه.

وقال الحسن - رحمه اللّه -: إن اللّه يخرج كتابًا في كل ليلة قدر،

 ويدفعه إلى الملائكة، وفيه مكتوب كل ما يكون في تلك السنة؛ ليحفظوه على ما يكون. أو كلام نحو هذا، واللّه أعلم.

٦٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ... (٦٠)

قال بعض أهل الكلام: إن لكل حاسة من هذه الحواس روحًا تقبض عند النوم، ثم ترد إليها، سوى روح الحياة فإنها لا تقبض؛ لأنه يكون أصم بصيرًا متكلمًا ناطقًا، ويكون أعمى سميعًا، ويكون أخرس سميعًا بصيرًا، فثبت أن لكل حاسة من حواس النفس روحًا على حدة تقبض عند النوم، ثم ترد إليها إذا ذهب النوم.

وأما الروح التي بها تحيا النفس: فإنه لا يقبض ذلك منه إلا عند انقضاء أجله وهو الموت.

وقالت الفلاسفة: الحواس هي التي تدرك صور الأشياء بطينتها.

وقوله: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ}.

فيه دلالة أن ليس ذكر الحكم في حال أو تخصيص الشيء في حال دلالة سقوط ذلك في حال أخرى؛ لأنه قال: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ}، ليس فيه أنه لا يعلم ما جرحنا

بالليل، بل يعلم ما يكون منا بالليل والنهار جميعًا، وليس فيه أنه لا يتوفانا بالنهار وألا نجرح بالليل، لكنه ذكر الجرح بالنهار والوفاة بالليل؛ لما أن الغالب أن يكون النوم بالليل والجرح بالنهار؛ فهو كقوله - تعالى: {وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا}، ليس ألا يبصر بالليل، لكن ذكر النهار، لما أن الغالب مما يبصر إنما يكون بالنهار؛ فعلى ذلك الأول.

ثم فيه دلالة أن النائم غير مخاطب في حال نومه؛ حيث ذكر الوعيد فيما يجرحون بالنهار ولم يذكر بالليل.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: جرحتم، أي: أثمتم بالنهار.

وقيل: يعلم ما كسبتم بالنهار.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ}

يستدل بقوله: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} على الإحياء بعد الموت؛ لأنه يذهب أرواح هذه الحواس ثم يردها إليها من غير أن يبقى لها أثر، فكيف تنكرون البعث بعد الموت وإن لم يبق من أثر الحياة شيء؟!

ثم القول في الجمع بعد التفرق مما الخلق يفعل ذلك ويقدر عليه؛ نحو ما يجمع من التراب المتفرق فيجعله طينًا، ورفع البناء من مكان، ووضعه في مكان آخر، وغير ذلك من جمع بعض إلى بعض، وتركيب بعض على بعض؛ فدل أن الأعجوبة في رد ما ذهب كله حتى لم يبق له أثر، لا في جمع ما تفرق، واللّه أعلم.

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ}.

أي: يوقظكم، ويرد إليكم أرواح الحواس.

{لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى}.

أي: مسمى العمر إلى الموت.

{ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.

خرج هذا على الوعيد لما ذكرنا؛ ليكونوا على حذر.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ}،

وقوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}.

يعلم كل ما يغيب عن الخلق ولا يخفى عليه شيء؛ لأنه عالم بذاته لا يحجبه شيء، ليس كعلم من يعلم بغيره، فيحول بينه وبين العلم بالأشياء الحجب والأستار، فأما اللّه - سبحانه وتعالى - فعالم بذاته لا يعزب عنه شيء، ولا يكون له حجاب عن شيء.

٦١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً ... (٦١) فيه جميع ما يحتاج أهل التوحيد في التوحيد؛ لأنه أخبر أنه قاهر لخلقه وهم مقهورون، ومن البعيد أن يشبه القاهر المقهور بشيء، أو يشبه المقهور القاهر بوجه، أو يكون المقهور شريك القاهر في معنى؛ لأنه لو كان شيء من ذلك لم يكن قاهرا من جميع الوجوه، ولا كان الخلق مقهورًا في الوجوه كلها، فإذا كان اللّه قاهرًا بذاته الخلق كله كانت آثار قهره فيهم ظاهرة، وأعلام سلطانه فيهم بادية؛ دل على تعاليه عن الأشباه والأضداد، وأنه كما وصف {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}.

وقوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ}.

يكون على وجهين:

أحدهما: وهو القاهر وهو فوق عباده.

الثاني: على التقديم والتأخير؛ وهو فوق عباده القاهر.

ويحتمل قوله: {فَوْقَ عِبَادِهِ}: بالنصر لهم والمعونة والدفع عنهم؛ كقوله: {يَدُ اللّه فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}، أي: بالنصر والمعونة، والعظمة والرفعة والجلال، ونفاذ السلطان والربوبية.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً}.

أخبر أنه القاهر فوق عباده، وأنه أرسل عليهم الحفظة؛ ليعلموا أن إرسال الحفظة عليهم لا لحاجة له في ذلك لما أخبر أنه قاهر فوق عباده ولو كان ذلك لحاجة له، لم يكن قاهرًا؛ لأن كل من وقعت له حاجة صار مقهورًا تحت قهر آخر، فاللّه - تعالى - يتعالى عن أن تمسه حاجة، أو يصيبه شيء مما يصيب الخلق، بل إنما أرسلهم عليهم لحاجة الخلق: إما امتحانًا منه للحفظة على محافظة أعمال العباد والكتابة عليهم، من غير أن تقع له في ذلك حاجة، يمتحنهم على ذلك، وللّه أن يمتحن عباده بما شاء من أنواع المحن، وإن أكرمهم ووصفهم بالطاعة في الأحوال كلها بقوله: {لَا يَعْصُونَ اللّه مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}، وغير ذلك من الآيات.

والثاني: يرسلهم عليهم بمحافظة أعمالهم والكتابة عليهم؛ ليكونوا على حذر في ذلك العمل، وذلك في الزجر أبلغ وأكثر؛ لأن من علم أن عليه رقيبًا في عمله وفعله كان أحذر في ذلك العمل. وأنظر فيه، وأحفظ له ممن لم يكن عليه ذلك، وإن كان يعلم كل مسلم أن اللّه عالم الغيب لا يخفى عليه شيء، عالم بما كان منهم وبما يكون أنه كيف يكون؟ ومتى يكون؟

ثم اختلف في الحفظة هاهنا:

قَالَ بَعْضُهُمْ: هم الذين قال اللّه أفيهم: (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (٢).

وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (٥) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (٨) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (١٠) كِرَامًا كَاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (١٢). يكتبون أعمالهم ويحفظونها عليهم.

وقال آخرون: هم الذين يحفظون أنفاس الخلق، ويعدوز عليهم إلى وقت انقضائها وفنائها، ثم تقبض منه الروح ويموت؛ ألا ترى أنه قال على أثره: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ}؛ دل على أن الحفظة - هاهنا - هم الذين سلطوا على حفظ الأنفاس، والعد عليهم إلى وقت الموت، واللّه أعلم.

ثم في قوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} دلالة خلق أفعال العباد؛ لأنه ذكر مجيء الموت وتوفي الرسل،

وقال: {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ}، ومجيء الموت هو توفي الرسل وتوفي الرسل هو مجيء الموت.

ثم أخبر أنه خلق الموت دل أنه خلق توفيهم، فاحتال بعض المعتزلة في هذا

وقال: إن الملك هو الذي ينزع الروح ويجمعه في موضع، ثم إن اللّه يتلفه ويهلكه. فلئن كان ما قال، فإذن لا يموت بتوفي الرسل أبدًا؛ لأنهم إذا نزعوا وجمعوا في موضع تزداد حياة الموضع الذي جمعوا فيه؛ لأنه اجتمع كل روح النفس في ذلك الموضع، فإن لم يكن دل أن ذلك خيال، والوجه فيه ما ذكرنا من الدلالة، وهو ظاهر بحمد اللّه، يعرفه كل عاقل يتأمل فيه ولم يعاند، وباللّه التوفيق.

ثم اختلف في قوله: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا}:

قَالَ بَعْضُهُمْ: هو ملك الموت وحده، وإن خرج الكلام مخرج العموم بقوله: {رُسُلُنَا}، والمراد منه الخصوص؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ}، أخبر أنه هو الموكل والمسلط على ذلك.

 وقال آخرون: يتوفاه أعوان ملك الموت، ثم يقبضه ملك الموت ويتوفاه.

وقال قائلون: يكون معه ملائكة تقبض الأنفس، ويتوفاه ملك الموت.

لكن ذكر ذلك لا ندري أن كيف هو؟ ليس بنا إلى معرفة ذلك حاجة، ولكن إلى معرفة ما ذكرنا.

وقوله: {وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} وفيه إخبار عن شدة طاعة الملائكة ربهم، وأن الرأفة لا تأخذهم فيما فيه تأخير أمر اللّه وتفريطه؛ لأن من دخل على من في النزع، أخذته من الرأفة ما لو ملك حياته لبذل له، فأخبر عَزَّ وَجَلَّ أنهم لا يفرطون فيما أمروا ولا يؤخرونه؛ لتعظيمهم أمر اللّه وشدة طاعتهم له، وعلى ذلك وصفهم: {غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللّه مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}، وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}،

وقال: {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ}.

٦٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللّه مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ ... (٦٢)

ذكر الرد إلى اللّه، وأنه مولاهم الحق، وإن كانوا في الأحوال كلها مردودين إلى اللّه، وكان مولاهم الحق في الدنيا والآخرة.

وكذلك قوله: {وَبَرَزُوا للّه جَمِيعًا}، وكذلك قوله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} كان الملك له في الدنيا والآخرة، وكانوا بارزين له جميعًا في الأوقات كلها؛ لما كانوا أصحاب الشكوك، فارتفع ذلك عنهم، وخلص بروزهم وردهم إلى اللّه خالصًا لا شك فيه؛ وكذلك كان الملك له في الدنيا والآخرة وهي الأيام كلها، لكن نازعه

 غيره في الملك في الدنيا، ولا أحد ينازعه في ذلك اليوم في الملك، فقال: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ للّه الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}؛ وعلى ذلك قوله: {مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ}، كان مولاهم الحق في الأوقات كلها والأحوال، ولكن عند ذلك يظهر لهم أنه كان مولاهم الحق.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللّه}.

يحتمل: ردوا إلى ما وعدهم وأوعد.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَلَا لَهُ الْحُكْمُ}.

يحتمل قوله: {أَلَا لَهُ الْحُكْمُ}: في تأخير الموت والحياة، وقبض الأرواح، وتوفي الأنفس.

ويحتمل قوله: {أَلَا لَهُ الْحُكْمُ} في التعذيب في النار والثواب والعقاب ليس يدفع ذلك عنهم دافع سواه، ولا ينازعه أحد في الحكم.

{وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ}.

عن الحسن قال: هو سريع العقاب؛ لأنه إنما يحاسب ليعذب كما روي: " من نوقش الحساب عذب " وهو أسرع الحاسبين؛ لأنه لا يحاسب عن حفظ ولا تفكر، ولا يشغله شيء، وأما غيره: فإنما يحاسب عن حفظ وتفكر وعن شغل، فهو أسرع الحاسبين؛ إذ لا يشغله شيء.

* * *

٦٣

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} وليس هذا على الأمر له، ولكن على المحاجة؛ كقوله - تعالى -: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ}، ليس على الأمر بالسير في الأرض، ولكن على الاعتبار بأُولَئِكَ الذين كانوا من قبل، والنظر في آثارهم وأعلامهم أن كيف صاروا بتكذيبهم الرسل،

وماذا أصابهم بذلك؛ فعلى ذلك هذا، فيه الأمر بالمحاجة معهم في آلهتهم: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} آلهتكم التي تعبدون من دون اللّه، وتشركونها في ألوهيته وربوبيته، أو اللّه الذي خلقكم؟ فسخرهم حتى قالوا: اللّه هو الذي ينجينا من ذلك، فقال: {قُلِ اللّه يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ}، فإذا كان هو الذي ينجيكم من هذا لا آلهتكم التي تعبدونها؛ فكذلك هو الذي ينجيكم من كل كرب ومن كل شدة.

ويحتمل قوله - تعالى -: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}.

أي: لا أحد ينجيكم من ظلمات البر والبحر؛ كقوله: {وَمَنْ أَظلَمُ}، أي: لا أحد أظلم من تخافون على آلهتكم الهلاك كما تخافون على أنفسكم؛ فلا أحد سواه ينجيكم من ذلك ومن كل كرب.

قال أبو بكر الكيساني: هم عرفوا في الدنيا أنه هو الذي ينجيهم من ذلك كله، وهو الذي يعطي لهم ما أعطوا بما قامت عليهم الحجج، ولم يعرفوا أنه هو الذي ينجيهم في الآخرة ويهلكهم، وهو هكذا: عرفوا اللّه في الدنيا، ولم يعرفوه في الآخرة.

ثم اختلف في ظلمات البر والبحر:

قَالَ بَعْضُهُمْ: الظلمات: هي الشدائد والكروب التي تصيبهم بالسلوك في البر والبحر.

وقال آخرون: الظلمات هي الظلمات لأن أسفار البحار والمفاوز إنما تقطع بأعلام السماء، فإذا أظلمت السماء بقوا متحيرين لا يعرفون إلى أي ناحية يسلكون، ومن أي طريق يأخذون، فعند ذلك يدعون اللّه تضرعًا وخفية.

قال الحسن: التضرع: هو ما يرفع به الصوت، والخفية: هي ما يدعي سرًّا وهو من الإخفاء.

وفي حرف ابن مسعود: (تدعونه تضرعًا وخيفة) وهي من الخوف.

 قال الكلبي: في خفض وسكون، وتضرع إلى اللّه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}.

قال أبو بكر {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}، أي: لا نوجه الشكر إلى غيرك، والشكر - هاهنا -: هو التوحيد، أي: لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الموحدين لك من بعد؛ لأنهم كانوا يوحدون اللّه في ذلك الوقت، لكنهم إذا نجوا من ذلك أشركوا غيره في ألوهيته.

٦٤

ألا ترى أنه قال: (قُلِ اللّه يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٦٤)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} بعد علمكم أن الأصنام التي تعبدونها لم تملك الشفاعة لكم، ولا الزلفى إلى اللّه؛ يذكر سفههم في عبادتهم الأوثان على علم منهم أنها لا تشفع لهم، ولا تملك دفع شيء عنهم.

٦٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ... (٦٥)

اختلف في نزول الآية فيمن نزلت؟

قَالَ بَعْضُهُمْ: نزلت في مشركي العرب - وهو قول أبي بكر الأصم - لأنها نزلت على أثر آيات نزلت في أهل الشرك، من ذلك قوله: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللّه وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ}.

وقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّه سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ. . .} الآية.

وقوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً. . .}، إلى قوله - تعالى -: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللّه مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ}: هذه الآيات كلها نزلت في أهل الشرك، فهذه كذلك نزلت فيهم؛ لأنها ذكرت على أثرها؛ ولأن سورة الأنعام نزل أكثرها في محاجة أهل الشرك، إلا آيات منها نزلت في أهل الكتاب، وسورة المائدة نزل أكثرها في محاجة أهل الكتاب؛ لأنه يذكر فيها: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ}.

ومنهم من يقول: نزلت في أهل الإسلام، وهو قول أبي بن كعب،

وقال: هن أربع، فجاء منهن ثنتان بعد وفاة رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: ألبسهم شيعًا، وأذاق بعضهم بأس

بعض.

أما لبس الشيع: هي الأهواء المختلفة، {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} هو السيف والقتل، هذان قد كانا في المسلمين، وبقي ثنتان لابد واقعتان.

ومنهم من يقول: كان ثنتان في المشركين من أهل الكتاب، وثنتان في أهل الإسلام،

وهو قول الحسن قال: قد ظهر في أهل الإسلام الأهواء المختلفة والقتل والفتن، وأما اللذان في أهل الشرك من أهل الكتاب: فهما الخسف في الأرض، والحجارة من السماء.

ثم اختلف في قوله: {عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ}.

عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: {عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ}، أي: من أمرائكم، {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}.

أي: من سفلتكم؛ لأن الفتن ونحوها إنما تهيج من الأمراء الجائرين ومن أتباعهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا}.

قال: الأهواء المختلفة.

وقوله - تعالى -: {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ}.

أي: يسلط بعضهم على بعض بالقتل والعذاب.

ومن قال بأن الآية نزلت في أهل الشرك يقول: كان في أشياعهم ذلك كله، أما العذاب من الفوق فهو الحصب بالحجارة؛ كما فعل بقوم لوط، ومن تحت أرجلهم وهو الخسف، كما فعل بقارون ومن معه.

وقوله: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا}.

يقول: فرقا وأحزابًا، وكانت اليهود والنصارى فرقًا مختلفة، اليهود

فرقًا والنصارى كذلك؛ كقوله: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}

وقوله: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}.

وقوله: {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ}.

هو الحرب والقتال.

وقول الحسن ما ذكرنا أنه ظهر في أهل الإسلام الأهواء المختلفة وظهر الحرب والقتل.

وأما الخسف والحصب: فلم يظهرا؛ فهما في أهل الشرك.

ويحتمل قوله: {عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُم} أرسلها عليهم؛ لأنهم قد أقروا أنه هو رفع السماء، فمن قدر على رفع شيء يقدر على إرساله.

وقوله: {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}.

لأنهم عرفوا أنه بسط الأرض، ومن ملك بسط شيء يملك طيه ويخسف بهم.

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ}.

قيل: أي: نردد الآيات ليعلم كل مزدجره. أو يقول: كيف نصرف الآيات ليعلم كل صدقها وحقيقتها أنها من اللّه جاءت.

{لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ}: يحتمل وجوهًا:

صرفها ليفقهوا، وذلك يرجع إلى المؤمنين خاصة.

والثاني: {لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ}، أي: ليلزمهم أن يفقهوا، وقد ألزم الكل أن يفقهوا، لكن من لم يفقه إنما لم يفقه؛ لأنه نظر إليه بعين الاستخفاف.

والثالث: {نُصَرِّفُ الْآيَاتِ} أي: نصرف الرسل ونبلغها إليهم على رجاء أن يفقهوا، لكي يفقهوا؛ إن نظروا فيها وتأملوها.

وذكر {لَعَلَّهُم}؛ لأن منهم من فقه، ومنهم من لم يفقه.

٦٦

(وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ ... (٦٦)

يحتمل به: القرآن، ويحتمل: بما ذكر من الآيات، ويحتمل: الإيمان به والتوحيد.

{وَهُوَ الْحَقُّ} وكذب به قومك

وهم أحق أن يصدقوك بما جئت به وأنبأتهم؛ لأنك نشأت بين أظهرهم، فلم تأت كذبًا قط، ولا رأوك تختلف إلى أحد يعلمك، فهم أحق أن يصدقوك بما جئت به وأنبأتهم، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ}.

قال عامة أهل التأويل: الوكيل: الحفيظ، والوكيل: هو القائم في الأمر، أي: لست بقائم عليكم؛ لأكرهكم على التوحيد والإيمان شئتم أو أبيتم، ولست بحافظ على

 أعمالكم إنما عليَّ التبليغ؛ كقوله: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ}.

٦٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧)

قَالَ بَعْضُهُمْ: لكل أمر حقيقة.

وقيل: لكل خبر غاية ينتهي إليها.

ويحتمل: أن يكون صلة قوله: {قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ}؛ {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ}، أي: لست عليكم بوكيل، لكن لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ في أن أغنم أموالكم وأسبي ذراريكم؛ كقوله: (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ).

ويحتمل قوله: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ} أي: بما كان وعد وأوعد، واللّه أعلم.

وفي قوله: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأنا نعلم أن للخلق حقيقة الفعل في القتل والحرب والأهواء المختلفة، ثم أضاف ذلك إلى نفسه؛ دل أن له صنعًا في أفعالهم، وليس كما تقول المعتزلة: إنه لا يملك ذلك.

وكذلك ما ذكر من إضافة تلبيس الشيع إليه رد لقولهم؛ لأنهم يقولون: هم يختلفون، وقد أخبر أنه هو يجعلهم شيعًا، وذلك ظاهر النقض عليهم؛ لأنه أخبر أنه يذيق بعضهم بأس بعض، وهم يقولون: هو لا يذيق ولكن ذلك القاتل أو الضارب أو المعذب هو يذيقهم دون رب العالمين؛ وكذلك قوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّه بِأَيْدِيكُمْ} وهم يقولون: هو لا يعذبهم ولكن الخلق يعذبونهم؛ وكذلك قوله: {أَنْ يُصِيبَكُمُ اللّه بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا}، وهم يقولون: هو لا يملك تعذيبهم بأيديهم، وذلك رد لظاهر الآية وتركها جانبًا.

* * *

٦٨

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ}.

 يشبه أن يكون قوله: {يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أن يكون، أي: يكفرون بها ويستهزئون بها؛ كما قال في سورة النساء: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّه يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا}، فيكون خوضهم في الآيات الكفر بها والاستهزاء بها، ويكون قوله - تعالى -: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ}، أي: لا تقعد معهم؛ كما قال: {فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ}.

يحتمل: النهي عن القعود معهم على ما ذكرنا من قوله: {فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ}.

ويحتمل الإعراض: الصفح عنهم وترك المجازاة لمساويهم؛ كقوله - تعالى -: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ}؛ أو كقوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا}، وفيه الأمر بالتبليغ فينهى عن القعود معهم والأمر بالتبليغ.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ومعناه - واللّه أعلم -: أن الشيطان إذا أنساك القعود معهم فلا تقعد بعد ذكر الذكرى، ومعنى النهي بعد ما أنساه الشيطان، أي: لا تكن بالمحل الذي يجد الشيطان إليك سبيلا في ذلك.

٦٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩)

قيل فيه رخصه الجلوس معهم؛ وهو كقوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ}، ثم نسخ ذلك بقوله - تعالى -: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّه يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ}، وكان النهي عن مجالستهم ليس للجلوس نفسه، ولكن ما ذكرنا من خوضهم في آيات اللّه بالاستهزاء بها والكفر بها هو الذي كان يحملهم على ذلك، ليس ألا يجوز أن تجالسهم، وكذلك ما نهانا أن نسبهم ليس ألا يجوز لنا أن نسبهم، ولكن لما كان سبُّنَا إياهم هو الذي يحملهم على سبِّ اللّه.

 {وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}.

يحتمل النهي عن القعود معهم وجهين.

أحدهما: نهى هَؤُلَاءِ عن القعود معهم لما كان أهل النفاق يجالسونهم، ويستهزئون بالآيات ويكفرون بها، فنهى هَؤُلَاءِ عن ذلك؛ ليرتدع أهل النفاق عن مجالستهم.

والثاني: أنه نهى المؤمنين عن مجالستهم؛ ليمتنعوا عن صنيعهم حياء منهم؛ لأنهم لو امتنعوا عن مجالستهم فيمنعهم ذلك عن الاستهزاء بها والكفر بها، لما كانوا يرغبون في مجالسة المؤمنين، فيتذكرون عند قيامهم عنهم، فيتقون الخوض والاستهزاء، ولا يخافون أن يعرفوا في الناس بترك مجالستهم المؤمنين، فيحملهم ذلك على الكف عن الاستهزاء بالآيات وبرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

٧٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا ... (٧٠) أي: وذر الذين اتخذوا لعبا ولهوا دينا؛ على التقديم والتأخير.

والثاني: اتخذوا اللعب واللّهو دينهم؛ حتى لا يفارقوا اللعب واللّهو؛ لأن الدِّين إنما يتخذ للأبد، فعلى ذلك اتخذ أُولَئِكَ اللعب واللّهو للأبد كالدِّين.

ثم هو يخرج على وجوه:

أحدها: اتخذوا دينهم عبادة ما لا ينفع ولا يضر، ولا يبصر ولا يسمع ولا يعلم، ومن عبد من هذا وصفه، واتخذ ذلك دينا - فهو عابث لاعب.

والثاني: اتخذوا دينهم ما هوته أنفسهم، ودعتهم الشياطين إليه، ومن اتخذ دينه بهوى نفسه، وما دعته نفسه إليه - فهو عابث لاعب.

والثالث: صار دينهم لعبًا وعبثًا؛ لأنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث، ومن لم يقصد بدينه الذي دان به عاقبة فهو عابث مبطل؛ كقوله - تعالى -: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا. . .} الآية، صير عدم الرجوع إليه عبثًا.

وقوله: {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}.

أي: شغلهم ما اختاروا من الحياة الدنيا والميل إليها عن النظر في الآيات والبراهين والحجج.

أو أن يكون قوله: {وَغَرَّتْهُمُ}، أي: اغتروا بالحياة الدنيا؛ أضاف التغرير إلى الحياة الدنيا لما بها اغتروا، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ}.

قيل: وذكر به قبل أن تبسل نفس بما كسبت، وإنَّمَا يذكرهم بهذا لئلا يقولوا غدًا: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}.

وأصل الإبسال: الإهلاك، أو الإسلام للجهناية والهلاك.

ثم اختلف في قوله: {أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ}: عن ابن عَبَّاسٍ قال: أن تفضح نفس بما كسبت.

وقيل: تبسل: تؤخذ وتحبس؛ وهو قول قتادة؛ وكذلك قال في قوله: {أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا}، أي: حبسوا بما كسبوا.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: {أُبْسِلُوا} أي: فضحوا؛ على ما قال في

{تُبْسَلَ}.

وعن الحسن: {تُبْسَلَ}، أي: تسلم وعن مجاهد كذلك.

قال أَبُو عَوْسَجَةَ: {تُبْسَلَ نَفْسٌ}: أي: تسلم، وذلك أن الرجل يجني جناية، فيسلم إلى أهل الجناية.

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: {تُبْسَلَ} أي تسلم للّهلكة.

وعن الكيساني: {تُبْسَلَ}: تجزَى نفس بما كسبت.

وقال الفراء: {تُبْسَلَ}: ترهن.

وأصل الإبسال: هو الإسلام، وتفسيره ما ذكر على أثره، وهو قوله: {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللّه وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ}؛ كما يكون بعضهم شفيعًا لبعض في الدنيا، وأعوانًا لهم وأنصارًا في دفع المضار والمظالم عنهم وجر المنافع إليهم، وأما في الآخرة: فإن كل نفس تسلم بما كسبت، لا شفيع لها ولا ولي؛ كقوله: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ}.

وكقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً}، وغير ذلك من الآيات تسلم كل نفس إلى كسبها لا شفيع لها ولا ولي.

وقوله: {وَذَكِّرْ بِهِ}، يحتمل بالقرآن والآيات ويحتمل {بِهِ}، أي: باللّه، أي: عظ به أن تهلك نفس بما كسبت.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا}.

اختلف فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: العدل: الفداء؛ يقول: وإن فدت نفس كل الفداء

لتتخلص مما حل بها، لم يؤخذ منها ولم يقبل منها ذلك.

وقال الحسن: العدل: كل عمل البر والخير، أي: وإن عملت كل عمل البر والخير من الفداء والتوبة، لم يقبل منها ذلك؛ يخبر أن الدار الآخرة ليست بدار العمل، ولا يقبل فيها الرشا كما تقبل في الدنيا، وأخبر ألا يكون شفعاء يشفعون لهم، ولا أولياء ينصرونهم، ليس كالدنيا؛ لأن من أصابه في هذه الدنيا شيء، أو حل به عذاب أو غرامة - فإنما يدفع بإحدى هذه الخلال الثلاثة، إما بشفعاء يشفعونه، أو بأولياء ينصرونه، أو بالرشا، فأخبر أن الآخرة ليست بدار تقبل فيها الرشا، فتدفع ما حل بهم، أو أولياء ينصرونهم في دفع ذلك عنهم، أو شفعاء يشفعونهم.

فَإِنْ قِيلَ: ما معنى ذكر العدل والفداء، وليس عنده ما يفدي ولا يبذل وما يمكَّن من العمل؟

قيل: معناه - واللّه أعلم - أي: لو مكن لهم من الفداء ما يفدون في دفع ذلك عن أنفسهم، ومكن لهم من العمل ما لو عملوا، لم يقبل ذلك منهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا}.

قد ذكرنا الاختلاف في الإبسال، وأصله: الإسلام يسلمون لما اكتسبوا لا يكون لهم

 شفعاء ولا أولياء، ولا يقبل منهم الرشا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ}.

قيل: الحميم: هو ماء حار قد انتهى حره يغلي ما في البطن إذا وصل إليه، فيشبه أن يكون لهم من الشراب ما ذكر؛ لما تناولوا في الدنيا من الشراب المحرم، فكان لهم في الآخرة الحميم مكان ذلك، والعذاب الأليم؛ لما أعطوا أنفسهم في الدنيا من الشهوات واللذات جزاء ذلك.

* * *

٧١

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللّه مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا}: يحتمل هذا وجوهًا:

يحتمل: أن يكون أُولَئِكَ الكفرة دعوا رسول اللّه أو المؤمنين إلى عبادة الأصنام التي كانوا يعبدونها، فقال عند ذلك: {أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللّه مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا}، بعدما عبدنا اللّه الذي يملك نفعنا وضرنا.

أو كان أهل الكفر يدعون أهل الإسلام إلى عبادة الأوثان التي كانوا يعبدونها: إما طمعًا بشيء يبذلونه؛ ليرجعوا إلى عبادة الأوثان والأصنام عن عبادة اللّه، أو تخويفًا منهم لهم، فقال: قل يا مُحَمَّد أندعو من دون اللّه ما لا يملك نفعنا إن عبدناه، ولا يملك ضرنا إن تركنا عبادته، بعدما عبدنا الذي يملك نفعنا إن عبدناه، ويملك ضرنا إن تركنا عبادته؟!

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللّه مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا}: هذا مثل ضربه اللّه للأصنام التي عبدوها دون اللّه، ومن يدعو إليها وللدعاة الذين يدعون إلى اللّه وإلى عبادته؛ كمثل رجل ضل به الطريق؛ فبينما هو ضال إذ ناداه مناد: يا فلان بن فلان هلم إلى الطريق وله أصحاب يدعونه يا فلان هلم إلى الطريق.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا}: في الكفر والشرك.

{بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّه كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ}.

يقول: مثلهم إن كفروا بعد الإيمان كمثل رجل كان مع قوم على الطريق، فضل الطريق فحيرته الشياطين واستهوته في الأرض، وأصحابه على الطريق، فجعلوا يدعونه إليهم يقولون: ائتنا؛ فإنا على الطريق، قال: فلم يأتهم؛ فذلك مثل من تبعكم بعد المعرفة بمُحَمَّد، ومُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - هو الذي يدعوهم إلى الطريق وهو الهدى.

ويحتمل أن يكون المثل الذي ضربه من وجه آخر، وهو أن مثل هَؤُلَاءِ كمثل من كان في بعض المفاوز والبراري، فضل الطريق به فذهب به الغيلان حتى أوقعوه في الهلكة؛ وهو الذي تقدم ذكره.

ويشبه أن يكون قوله: {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا} أنه ما من أحد: من مشرك ومؤمن، إلا وله أصحاب يدعونه: أما المؤمن: فله أصحاب من الملائكة يدعونه إلى الهدى، والكافر: له شياطين يدعونه إلى الشرك؛ هذا أشبه أن يحمل عليه، لكن أهل التأويل حملوا الآية، على ما ذكرنا.

قال قتادة: هذه خصومة علمها اللّه محمدا يخاصم بها أهل الشرك؛ لأن سورة الأنعام نزل أكثرها في محاجة أهل الشرك.

قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: {اسْتَهْوَتْهُ}: أضلته.

قال أَبُو عَوْسَجَةَ: أي: ذهبت به، استهوته وأهوته واحد، أي: دعته إلى الهلكة، وقيل: أضلته.

 

وقوله: {وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا}.

أي: نرجع عن الإيمان إلى الشرك، {بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّه}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللّه هُوَ الْهُدَى}.

قيل: بيان اللّه هو البيان.

وقيل: إن دين اللّه هو الهدى وهو الدِّين.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}.

قيل: هذا صلة قوله: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللّه مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا} {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}.

٧٢

وقَالَ بَعْضُهُمْ: ليس على الصلة، ولكن على الابتداء: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}، وقل لهم: (أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ (٧٢)

{وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} قد ذكرناه.

٧٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ... (٧٣)

قيل: قوله: {بِالْحَقِّ}، أي: خلق السماوات والأرض بالحق لم يخلقهما باطلا؛ كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا}.

قيل: لم يخلقهما باطلا، ولكن خلقهما بالحق، وهو يحتمل وجوهًا:

قيل: خلقهما للعاقبة؛ لأن كل أمر لا عاقبة له فهو باطل ليس بحق، فإنما خلق السماوات والأرض وما بينهما للعاقبة وذلك لأمر عظيم؛ كقوله: (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٦).

وقيل: قوله: {بِالْحَقِّ}، أي: خلقهما ليمتحن فيهما ولمحنة سكانهما، لم يخلقهما لغير شيء.

وقيل: {بِالْحَقِّ}، أي: خلقهما بالحكمة من نظر فيهما وتدبر؛ للدلالة على أن لهما خالقًا ومدبرًا، والدلالة على أن مدبرهما ومنشئهما واحد، فإذا كان كذلك كان خلقهما بالحق بالحكمة والعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {كُنْ فَيَكُونُ}.

قد ذكرنا أن قوله: (كُن) هو أوجز كلام في لسان العرب يعبر به فيفهم منه، لا أَنْ كَانَ مِنَ اللّه كاف أو نون، لكنه ذكر - واللّه أعلم - ليعلموا أن ليس على اللّه في الإحياء والإنشاء بعد الموت مؤنة؛ كما لم يكن على الخلق في التكلم بـ " كن " مؤنة، ولا يصعب عليهم ذلك؛ فعلى ذلك ليس على اللّه في البعث بعد الموت مؤنة ولا صعوبة.

والثاني: ذكر هذا لسرعة نفاذ البعث؛ كقوله: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ}، أخبر أن خلقهم وبعثهم ليس إلا كخلق نفس واحدة، وبعث نفس واحدة؛ وكقوله: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ}، يخبر لسرعة نفاذ الساعة وبعثهم، وذلك أن الرجل قد يلمح البصر وهو لا يشعر به؛ فعلى ذلك القيامة قد تقوم وهم لا يشعرون.

والثالث: يذكر هذا - واللّه أعلم - أن البعث بعد الموت والإحياء إعادة، وإعادة الشيء عندكم أهون من ابتداء إنشائه؛ وعلى ذلك يخرج قوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} أي: هو أهون عليه عندكم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -.: {قَوْلُهُ الْحَقُّ}.

يحتمل: {قَوْلُهُ الْحَقُّ}، أي: البعث بعد الموت حق على ما أخبر.

ويحتمل: {قَوْلُهُ الْحَقُّ}، أي: ذلك القول منه حق يكون كما ذكر.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَهُ الْمُلْكُ} أي: ملك ذلك اليوم؛ كقوله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ للّه الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}؛ وكقوله: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للّه}، ذكر هذا - واللّه أعلم - لما لا ينازعه أحد في ملك ذلك اليوم، وقد نازعه الجبابرة في الملك في الدنيا، وإن لم يكن لهم ملك ولا ألوهية.

ويحتمل قوله: {وَلَهُ الْمُلْكُ}، أي: ملك جميع الملوك له في الحقيقة؛ كقوله: {مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -. {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ}:

قَالَ بَعْضُهُمْ: النفخ: هو الروح، والروح من الريح، والروح إنما تد - خل، بالنفخ {فَنَفَخنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا}.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا يكون هناك في الحقيقة نفخ، ولكن يذكر لسرعة نفاذ الساعة؛ لأن

 الرجل قد يتنفس وهو لا يشعر به، فذكر هذا لسرعة نفاذ الساعة؛ لأنه ليس شيء أسرع جريانًا ونفاذًا من الريح.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو على حقيقة النفخ وهو ما ذكرنا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فِي الصُّورِ}

قَالَ بَعْضُهُمْ: في صور الخلق،

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الصور قرن ينفخ فيه إسرافيل فلا ندري كيف هو، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة سوى أن فيه ما ذكرنا من سرعة نفاذ البعث.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {عَالِمُ الْغَيْبِ}.

أي: يعلم ما يغيب الخلق بعضهم من بعض.

{وَالشَّهَادَةِ}.

ما يشهد بعضهم بعضًا.

أو يحتمل عالم الغيب، أي: يعلم ما يكون إذا كان كيف كان، أو يعلم وقت كونه، والشهادة: ما كان وشوهد؛ يخبر أنه لا يغيب عنه شيء ولا يعزب عنه.

{وَهُوَ الْحَكِيمُ}: في خلق السماوات والأرض، وخلق ما فيهما، والحكيم: في بعثهم، والحكيم، هو واضع الشيء موضعه.

{الْخَبِيرُ} بكل شيء.

* * *

٧٤

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ}.

قيل: آزر: هو اسم أبي إبراهيم، عليه السلام. والحسن يقرأ: {آزرُ}، بالرفع ويجعله اسم أبيه.

وقال آخرون: هو اسم صنم، فهو على التقديم والتأخير؛ كأنه قال: وإذ قال إبراهيم لأبيه أتتخذ آزر أصنامًا آلهة.

وقوله: {أَتَتَّخِذُ}.

استعظامًا لما يعبد من الأصنام دون اللّه؛ لأن مثل هذا إنما يقال على العظيم من الفعل.

وقال أبو بكر الكيساني: قوله: (آزر) هو قيل: هو اسم عيب عندهم؛ كأنه قال: يا ضال أتتخذ أصنامًا آلهة؛ كقول الرجل لآخر: يا ضال.

وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة كان اسم أبيه أو اسم صنم.

وفي الآية دلالة أن أباه كان من رؤساء قومه بقوله: {إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}.

وفيه دلالة أن لا بأس للرجل أن يشتم أباه لمكان ربه؛ لأن إبراهيم - عليه السلام - سماه ضالا. وفيه دلالة أن الإيمان والتوحيد يلزم أهل الفترة في حال الفترة؛ لأن إبراهيم - عليه السلام - سماهم ضلالا وهو لم يكن في ذلك الوقت رسولًا، إنما بعث رسولًا من بعد، واللّه أعلم.

وقوله - تعالى -: {إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} أي: ضلالًا لا شك فيه ولا

 شبهة، وهو ما ذكر في آية أخرى حيث عبد ما ذكر؛ حيث قال: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا}، هذا الضلال البين.

٧٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥) ذكر كذلك - واللّه أعلم - على معنى كما أريناك ملكوت السماوات والأرض والآيات؛ كذلك كنا أرينا إبراهيم.

و {نُرِي} بمعنى: أرينا وذلك جائز في اللغة، و " كذلك " لا تذكر إلا على تقدم شيء، لكن الوجه فيه ما ذكرنا كما أريناك من السماوات والأرض من الآيات والحجج والبراهين؛ كذلك كنا أرينا إبراهيم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}.

اختلف فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: سلطان السماوات والأرض.

وقيل: الشمس والقمر والكواكب.

وقيل: فرجت له السماوات السبع، حتى نظر إلى ما تحت العرش وما فيهن؛ وكذلك فرجت له الأرضون حتى رأى ما فيهن.

وقيل: {مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: خبئ إبراهيم - عليه السلام - من الجبابرة في سرب، فجعل اللّه في أصابعه رزقًا، فإذا مص إصبعا من أصابعه وجد فيها رزقًا، فلما خرج أراه اللّه الشمس والقمر، فكان ذلك ملكوت السماوات، وملكوت الأرض: الجبال والبحار والأشجار.

وقيل: نظر إلى ملك اللّه فيها حتى نظر إلى مكانه ورأى الجنة، وفتحت له الأرضون حتى نظر إلى أسفل الأرضين، فذلك قوله: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا}،

قال: أري مكانه في الجنة.

وقيل: أجره الثناء الحسن.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: {مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} من الملك؛ وكذلك قال أبو عبيدة، وهو كجبروت ورحموت ورهبوت؛ فكذلك ملكوت.

وأصله: ما ذكر من الآيات والعجائب، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}.

الإيقان بالشيء هو العلم بالشيء حقيقة بعد الاستدلال والنظر فيه والتدبر؛ ولذلك لا يوصف اللّه باليقين، ولا يجوز للّه - تعالى - أن يقال: موقن؛ لما ذكرنا أنه هو العلم الذي يعقب الاستدلال، وذلك منفي عنه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥).

قيل في قوله: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ} أي: كما أريناك ملكوت ما ذكر، فقوله: {نُرِي} بمعنى أرينا.

وقوله: {وَكَذَلِكَ} له وجهان:

أحدهما: أنه كما أريناك ما أيقنت به أن الربوبية للّه، وأنه الواحد لا شريك له من الآيات والأدلة، أريناه -أيضًا- ما ذكر حتى أيقن، فهو - واللّه أعلم - على التسوية بين الأسباب الدالة على الوحدانية للّه والربوبية في المعنى، وإن كانت لأعيانها مختلفة، وعلى أن طريق المعرفة الاستدلال بما أنشأ اللّه من الدلالة لا السمع والحس، وإن كان في حجة السمع تأكيد.

والثاني: أن يكون {وَكَذَلِكَ نُرِي} على ما أظهر من الحجج على قومه؛ وهو كقوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ}، وأعطاه ما أراه وأشعر قلبه من

الحجج التي ألزم قومه بها أنطق بها اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - لسانه ليلزم حججه خلقه، واللّه الموفق.

{مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: الملك في الحقيقة من الوجه الذي يكون آية للإيقان ودليلا للإحاطة بالحق.

ثم اختلف في وجه ذلك:

فمنهم من قال: هو ما أرى بصره، أعني: بصر الوجه؛ نحو الذي ذكر من فتح السماء حتى رأى ما فيها من العجائب والآيات إلى العرش، أو حيث قد زوى الأرض حتى رأى ما فيها من أنواع الخلق إلى الثرى، أو حيث بلغ.

ومنهم من قال: رفع إلى السماء حتى كانت الأرض بمن فيها له رأي العين، وكان له - صلوات اللّه عليه مثل هذا من الأمور؛ نحو: أمر النار بالهجرة إلى حيث لا ضرع ولا زرع، وما جعل رزقه في أصابعه، وأمر بلوغ صوته في قوله - تعالى -: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ}، أن كان على ما سمع منه، واللّه أعلم.

ومنهم من قال: هو ما أرى بصر قلبه من وجوه العبر وأنواع الأدلة عند التأمل في خلق اللّه بالفكر من غير أن كان في الخلق تغير على الأحوال التي كانت عليه، وهو أحق من يكون له في الذي كان كفاية عن حدوث أحوال تدل إذ هي حجج اللّه يستدل على قومه، من الوجه الذي جعل لجميع الخلق، لا من جهة خصوص آيات؛ فثبت أن ذلك كان له بهذا الوجه.

ثم هو يخرج على وجوه؛ منها: ما رأى من تسخير القمر والشمس والنجوم، وقطعها في كل يوم وليلة أطراف السماء والأرض جميعًا، ومسيرها تحت الأرض إلى أن يعود كل إلى مطلعه، يسير كل ذلك ما فوق الأرض إلى السماء، واستواء أحوال ذلك على ما عليه حد في كل عام وشهر، لا يزداد ولا ينقص ولا يتقدم ولا يتأخر، مع

 عظيم ما بها من المنافع لأنواع دواب الأرض والطير جميعًا حتى يوقن كل متأمل أن مثل هذا لا يعمل بالطباع إلا أن يكون له مدبر حكيم جعله ذلك الطبع وسواه على ما شاء من الحد، وألا يتسق الأمر على التدبر والحكمة، إلا أن يكون مدبر ذلك، بحيث لا يحتاج إلى معين، ولا يجوز أن يكون له فيه منافع، ثم هو بذاته عليم قدير، وما في الأرض من تدبير الليل والنهار وأنهما يتعاقبان أبدًا، ويسيران يقهران ما فيها من الجبابرة والفراعنة، حتى إن اجتمع جميع أهل الأرض على زيادة في واحد أو نقصان، أو تقديم أو تأخير؛ لما لهم من الحاجة، أو بما فيهم من القوة والقدرة مع معونة الجميع لهم في ذلك لم يتهيأ لهم، ولا بلغ توهم أحد في احتمال ذلك حتى يصير عند وجود كل كان الآخر لم يكن قط، ثم عند العود إليهم كأنه لم يفارقهم قط، مع ما أودع أهل الأرض بهما من المنافع، وعليهم فيها أنواع مضار، ولهما سلطان على أعمارهم، على ما فيهما من أثر التسخير والتذليل الذي كل مقهور بالآخر، إذا جاء سلطانه وبلغ حده، وليس في واحد منهما امتناع عن قهر الآخر، وإن كان هو الظاهر القوي جريا جميعًا على حد واحد وسنن واحدة، ولا على ذلك على ما دل عليه الأول، مع ما فيهما من أثر العيث أمرًا ظاهرًا لا يحتمل أن يجهله إلا سفيه معاند، واللّه أعلم.

ثم النور والظلمة والظل ونحو ذلك الذي يبسط بسعة جميع أطراف السماء والأرض يستر واحد كل شيء، ويبدي آخر عن كل شيء، ويحيط الثالث بكل شيء، ثم تعلق منافع الأهل بها على اختلافها، وبالسماء والأرض على تباعد ما بينهما، وبالسهل والجبل والبحر والبر على تضاد معانيهما؛ وعلى ذلك جميع الأمور، فكان - صلوات اللّه عليه - بما أرى من المعنى وغيره من الموقنين أن لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه وجه إليه نفسه، وأن كل شيء نسب إليه الألوهية، محال أن يكون فيه وله إمكان ذلك، ولا قوة إلا باللّه.

٧٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ. . . (٧٦) إلى قوله: {وَمَآ أَنا مِن الْمُشركِينَ}.

تكلموا في تأويل الآية على وجوه ثلاثة:

فمنهم من جعل الأمر على ما عليه الظاهر: أنه غير عارف بربه حق المعرفة إلى أن عرف من الوجه الذي بأن له عند الفراغ من آخر ما نسب إليه الربوبية أنه لا يعرف من جهة درك الحواس ووقوعها عليه، ولكن من جهة الآيات وآثار العقل، فقال: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ. . .} الآية، لكن أهل هذا القول اختلفوا على وجوه ثلاثة:

أحدها: ما روي في التفسير أنه ربّي في السرب، ولم يكن نظر إلى شيء من خلق السماء، فنظر عن باب السرب في أوّل الليل، فرأى الزهرة بضوئها وتلاللّها، وكان في علمه أن له ربا وأنه يرى، فلم ير أضوأ منها ولا أنور، فقال: هذا ربي، فلما أفل وله علم أن الرب دائم لا يزول، فقال: لا أحبُّ، بمعنى: ليس هذا برب؛ كقوله: {مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ}، أي: ليس لنا، وقول عيسى حيث قال: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ}، بمعنى: ما قلت ذلك، لكن أهل هذا التفسير حملوا الأفول على غيبوبته بنفسه، وهو عندنا على غيبوبته في سلطان القمر وقهر سلطان القمر، لما طلع سلطان النجم، وعنده أن الرب لا يقهر وأن سلطانه لا يزول؛ وعلى ذلك أمر القمر والشمس بظلمة الليل، وفي ذلك أنه لو كان عنده أن الرب لا يقهر وأن سلطانه لا يزول وأنه لا يرى، لأنكر من ذلك الوجه أن يكون ربه بل أقر به، وأنكر الأفول والزوال، وهذا ينقض قول من يصفه بالزوال والانتقال من حال إلى حال.

ومنهم من يقول: كان هذا أمنه في وقت، لم يكن جرى عليه القلم سمع الخلق يقولون في خلق السماء والأرض ونحو ذلك، وينسبون ذلك إلى اللّه؛ وعلى ذلك أمر جميع أهل الشرك؛ كقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّه}

وقوله: {قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ. . .}، إلى قوله: {مَا اتَّخَذَ اللّه مِنْ وَلَدٍ}

ثم رآهم عبدوا الأصنام وسموها آلهة، فتأمل فوجدها لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر، علم أن مثلها لا يحتمل أن يكون يخلق ما ذكر، وأن الذي ذلك فعله لعلي عظيم، يجب طلب معرفته من العلو بما كان يسمع نسبة الملائكة إلى السماء ونزول الغيث منها، ومجيء النور والظلمة وكل أنواع البركات وغيرها منها، فصرف تدبير الطلب الذي نسب إليه الخلق إليها.

ثم أوّل ما أخذ في التأمل والنظر لم يقع بصره على أحسن وأبهى من الذي ذكر، فظنه ذلك، ثم لما قهر وقد كان علم بأن خالق من ذكر لا يجوز أن يقهر، فمن ذلك علم أنه ليس هو وقال لِمَنْ قَهَرَ، وذلك إلى أن قهر الليل ضوء الشمس، وصار بحيث لا يجري له السلطان، ورأى في الكل آثار التسخير والتذليل، ولم ير فيها أعلام من له الأمر والخلق، فعلم أن الرب لا يدرك من ذلك الوجه، ولا يعرف من جهة الحواس، فرجع إلى ما سمع من أنه خلق السماوات والأرض، فوجه نفسه إليه بالعبودية، واعترف له بالربوبية بما في الخلق من آثار ذلك، وفي القول من تسمية من له الخلق ربا وإلها، فآمن به، وذلك كان أول أحوال احتماله علم الاستدلال وبلوغه المبلغ الذي من بلغه يجري عليه الخطاب، ولا قوة إلا باللّه.

ومنهم من قال: إنه كان بالغًا قد جرى عليه القلم، وقد كان رأى ما ذكر غير مرة، لكن اللّه لما أراد أن يهديه ألهمه ذلك وألقاه في نفسه، فانتبه انتباه الإنسان لشيء كان عنه غافلا من قبل، فرأى كوكبًا أحمر يطلع عند غروب الشمس، فراعاه إلى أن أفل، فأراد إذن من اللّه قربة، وعلم أن ربه لا يزول ولا يتغير، ففزع إليه

وقال: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ}؛ وكذا ذكر في القمر والشمس إلى أن عرف اللّه، فتبرأ مما كانوا يشركون، وتوجه بالتوحيد والعبادة إليه؛ وإلى هذا التأويل ذهب الحسن.

الأول: روي عن ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللّه عَنْهُ.

والثاني: قال به جماعة أهل الكلام، ونحن نتبرأ إلى اللّه أن نجعله رجلا بالغًا جرى عليه القلم، وهو كان - عن اللّه - بهذه الغفلة حتى يتوهمه في معنى نجم أو قمر أو شمس، مع ما يرى فيها الظهور بعد أن لم يكن، والأفول بعد الوجود، ثم آثار التسخير والعجز عن التدبير بما هو في جهد وبلاء، ومن له يحمل في راحة وسرور، ثم لا يرى في شيء من العالم أو له معنى يدل على رجوع التدبير إليه، فيتحقق له القول بذلك، واللّه يصفه بقوله: {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}، قيل: سليم من الشرك لم يشبه بشيء،

وقال: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ}، وما يذكرونه إنما آتاه على نفسه إذ هو في الغفلة عنها، والجهل بمن له الآيات شريك قومه، وقد قال - أيضًا - {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، ومعلوم أن ذلك على معاينته أو أنه قد أرى كلا منهما، ولكن على ما بينت من الوجهين وفيهما حقيقة ذلك.

وليس في قوله: {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} دلالة الشك في الابتداء، أو الجهل في الحال التي يحتمل العلم به فسمى به عَزَّ وَجَلَّ، ولكن على أنه على ذلك الوجه يكون الإيقان ممن لا يقع عليه الحواس، ولا يوجب علمه الضرورات، إنما هو الاستدلال بالآثار أو تلقى الأخبار، ولا قوة إلا باللّه.

وذلك كقوله: {اللّه الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا}، لا عن وضع كان،

وقوله: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}، لا أن كانوا من قبل في الظلمات، وقول يوسف - عليه السلام -: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللّه} لا عن كونه فيها؛ وهكذا أمر الإيقان: أن يكون العبد في كل وقت موقنا باللّه، وأن لا إله غيره، لا عن شك فيما تقدمه من الوقت أو الجهل، فمثله أمر إبراهيم، عليه السلام.

والوجه الثاني - مما تكلم في التأويل: أن يكون إبراهيم - عليه السلام - كان مؤمنًا في ذلك الوقت، عارفًا بربه حق المعرفة، ولكنه كلم قومه كلام مستدرج بإظهار المتابعهّ لهم على هواهم؛ فيكونون به أوثق وإليه أميل، وذلك أبلغ في الحجاج وألطف في المكيدة، فيبين لهم ما أراد من غير جهة النقض والعناد، فبدأ بتعظيم ما عظموه؛ إذ هم

قوم كانوا يعظمون النجوم، وبالعلم بأمرها أخبروا نمرود بولادة من يهلك على يده هو ويزول ملكه، وهذا كما ذكر أنه نظر نظرة في النجوم في مقاييسها وعلمها؛ لا أنه نظر إليها، ثم قال الذي ذكر لا من حيث علم النجوم، ولكن من حيث علمه أنه يموت ومن يَمُت يسقم، لكن أراهم الموافقة في العلم الذي لهم في ذلك الباب دعوى؛ فكذلك ما نحن فيه.

وعلى ذلك أمر الند الذي كان يعبده قوم عظَّمه الحواريُّ الذي أرسل إليهم، حتى اطمأنوا إليه وصدروا عن تدبيره وبلوا بعد، وكاد يحيط بهم، فدعاهم إلى دعاء الند ليكشف لهم؛ إذ لمثله يعبد حتى أيسوا، فدعاهم إلى اللّه فكشف عنهم، فآمنوا به، فمثله الأول.

وإلى هذا التأويل يذهب الْقُتَبِيّ، لكنه ذكر أنهم كانوا أصحاب نجوم وكهانة، ومن ذلك قوله لا يعبد النجم ولا يراه ربا فكيف أظهر الموافقة بتسمية النجم ربا، ثم النقض عليه بالأفول؟!

ولكن ذلك لو كان فإنما كان في قوم يعبدون النجوم والشمس والقمر، فألزمهم بالأفول؛ إذ فيه تسخير وغلبة سلطان على سلطان، وهذا الوجه يجوز أن يظهر على إضمار معنى في نفسه مستقيم: كالمكره على عبادة صليب يقصد قصد عبادة اللّه ونحوه،

والمكره على شتم مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقصد قصد مُحَمَّد آخر يصوره في وهمه ونحو ذلك، فهو على ما قال: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ}، على جعل {إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} شرطا في نفسه في قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا}، واللّه أعلم.

وقيل في الاستدراج من غير هذا الوجه، على التسليم أنهم أهل كهانة ونجوم، وهو أنه لما رآهم يعبدون الأصنام والأوثان، دعاهم من طريق المقابلة؛ إذ هم مالوا إلى ذلك بما رأوا من حسن ذلك في البصر، بما قد زين بأنواع الزينة وحلي بأنواع الحلي، فأراهم أنه يعبد النجم وما ذكر، وأن الذي ذكر أحسن وأعظم نورًا وضياء؛ إذ هو بجوهره ونفسه كذلك، وما كانوا يعبدون بما فعلوا به وجعلوه كذلك؛ ليكره إليهم عبادتهم الأصنام، ويستنقذهم عما اعتادوه بالمعنى الذي ذكرت، ثم ألزمهم فساد ما مالوا إليه وقبلوا منه، قبل أن يقر ذلك في قلوبهم وتطمئن إلى ذلك أنفسهم، بما أظهر من فساد أن يكون الذي بذلك الوصف من التسخير أو ملكه على شرف الزوال، أو يصير بحيث يقر في قلوبهم عبادة من لا يشهدونه وقت العبادة؛ فيلزمهم على ذلك عبادة المستحق لها.

أو أن يقول: إذا كانت النجوم وما ذكر مع ضيائها ونورها وكثرة منافع الخلق بها لم تصلح لها الألوهية عند الجميع بالأفول والتسخير، فالذي كانوا يعبدون على ما سخرهم كانوا تحت البشر أذلاء، لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع أحق ألا يكون له الربوبية، وألا توجه إليه العبودية، واللّه أعلم.

فهذا النوع من الاستدراج فيما لو ظهر أنهم لم يكونوا يتخذون النجوم أربابًا يعبدونها؛ وكذلك الذي ذكره الْقُتَبِيّ.

والتأويل الثالث للآية يخرج مخرج الإنكار والاستهزاء، ويكون في ذلك معنى الاستدراج؛ إذ هو الإلزام من حيث لا يشعر به، أو نقض أسباب الشبه درجة فدرجة في حلول المقت ولزوم المقصود بتعاطي ذلك الابتداء بالكشف عن الأسباب.

ثم قيل في هذا بأوجه:

أحدها: أنهم كانوا يعبدون النجوم وما ذكر، ويدعون إلى ذلك الأولاد والصبيان - وإبراهيم منهم - فيما كانوا يدعونه إليه، فقال لما رأى النجم: هذا الذي تعبدون ربي،

أي: إلى عبادته تدعونني، أي: هذا ربي الذي تدعونني إلى عبادته، فلما رآه طالعًا سائحًا غائبًا ثبت عنده أنه سخر، فقال: لا أحب عبادته، لكن ذا قد يكون في خاص نفسه متفكرًا في الذي دعوه إليه؛ ليعرف دفع قولهم من الوجه الذي يقر ذلك في القلوب إذا قابلهم به.

وقد يكون في ملأ منهم يظهر لهم قوله: {هَذَا رَبِّي} على إضمار: تدعونني إليه؛ ليلزمهم بما بأن له فساد الربوبية، فيكون استدراجًا أيضًا؛ لأنه ألزمهم بعد ظهور الوفاق منه لهم.

وقد يكون ذكر هذا الذي تدعونني إليه أنه ربي سرا، ويهزأ بهم بإظهار الموافقة، يبين لهم ذلك بما ألزمهم أن الابتداء لم يكن على المساعدة؛ إذ ذلك المعنى الذي به ألزم كان ظاهرا عنده في الابتداء وعندهم جميعًا.

والثاني: أن يكون قوله: {هَذَا رَبِّي} على ما يقال: هذا فلان الذي تخبرونني عنه، بمعنى: أهذا هو؟! على إنكار أنه ليس بالمحل الذي أخبرتموني عنه، أو على الاستفهام ليقرره عنده.

وأي الوجهين كان فقد هزئ بهم، وظهر في المتعقب أن الأول كان على الهزء بهم والإنكار، أو الاستفهام؛ وذلك كقوله: {خَلَقُوا كَخَلْقِهِ}، على أنهم لم يخلقوا كخلقه، يوضح قوله: {قُلِ اللّه خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} في الأول: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ}.

ويجوز أن يكون هذا أضمر في قوله: {هَذَا رَبِّي}، أي: رب هذا ربي إلى آخر ما ذكر، ثم رجع إليه عند التقرير عندهم أنه لا يليق بالربوبية الذي ظنوا أنه ساعدهم عليه.

ثم قد بينا الدليل على أنه لم يكن كافرًا في ذلك الوقت مع ما قد ثبت من عصمة الرسل عن الكبائر، فكيف يبلون بالكفر واللّه يقول: {اللّه أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)}وكل متمكن فيه الكفر شريك أمثاله، فلا وجه لتخصيص الأهل.

ثم جملة ذلك أن اللّه تعالى لو أراد أن يبين حقيقة الحال، أو كانت بنا إلى معرفة

حقيقة ذلك من المراد والوقت حاجة في أمر الدِّين - لكان يبين ذلك، أو يرد في ذلك عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لكن العلم بحقيقة ذلك إذ هو علم الشهادة بما ليس لنا، وعلينا بالوصول عمل تكلف، ولا تكلف الشهادة بوقت القول، وهو متمكن فيه فحقه أن يتأمل وجه الحكمة في ذكر القصة وما فيها من الحجة في أمر الدِّين، فهو - واللّه أعلم - يخرج على وجوه:

أحدها: على جعل ذلك حجة لرسالة رسوله؛ إذ هو من أنباء الغيب، ونبي اللّه نشأ بمكة ولم يكن ثم من يعلمه ذلك، ولا فارق قومه واختلف إلى من عنده علم الأنبياء بتوارثهم كتب الأنبياء، ولا كان رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ممن يخط بيمينه أو يقف على المكتوب؛ دل أنه علمه باللّه سبحانه وتعالى، مع ما كان في القصة حجج التوحيد ودفع عبادة الأصنام وتسفيه أهل ذلك، فلم يحتمل أن يكون تعليم مثل ذلك من الدافعين لذلك المدعين على إبراهيم اليهودية والنصرانية؛ وبعد فإن كتبهم بغير لسانه، وفي العبارة بلسان غيره توهم الاختلاف والتغيير، فلا يحتمل الاحتجاج بمثله بما يحتمل الإنكار والدفع.

الثاني: وفيه استعطاف قوم رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ إذ هم من ذرية إبراهيم - عليه السلام - بما يدعوهم إلى دين آبائهم، مع ما كانوا هم أصحاب تقليد وحفظ آثار الآباء، فألزمهم القول في آبائهم بما لا مدفع لهم القول بغير الذي قلدوا؛ إذ إبراهيم - عليه السلام - عند جميع المشركين إمام يؤتم به أحق من كل أب، مع ما كان كل مولود على دينه مذكورًا محفوظًا في الخلق، ومن خالفهم فهو ممحوق الاسم والذكر جميعًا، فكان في ذلك أعظم الدليل أن هَؤُلَاءِ من الأنبياء أحق بالتقليد من الذين اتبعوه؛ وعلى ذلك اتفاق أهل الكتاب على موالاة إبراهيم من غير أن تهيأ لهم دفع ما أثبت رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من توحيده، ولا ما قرره عندهم من دينه بشيء يجدونه خلافًا لذلك في كتبهم.

والثالث: أن إبراهيم - عليه السلام - صرف معرفة الرب من جهة خلقه، ودان بدينه من جهة النظر في الآيات والبحث عنها، دون أن يقلد أباه أو قومه؛ ليعرف سبيل طلب الحق ووجه اتباعه؛ ليكون ذلك تذكرة لجميع ذريته.

والرابع: أنه ذكر الخبر عن أحواله بمخرج ظاهر يوهم المكروه، وله وجه الصرف إلى ما أليس، فيه نفار عنه للطبع، ولا يأباه للعقل؛ ليمتحن عباده بالقول فيه والوقف في أمره.

والخامس: ليعلم أن المحاجة في الدِّين على قدر ما تحتمله العقول لازمة؛ إذ بها أفحم إبراهيم قومه وأظهر دين ربه، فيبطل بذلك قول كثير من المسلمين الذين يكرهون المناظرة في الدِّين، ويرون في ذلك تقليد الإسنادين وظواهر ما جاءت به الآثار، التي في اتباع أمثالها تناقض عند العقلاء، ولا قوة إلا باللّه.

والسادس: أن المناظرة تكون بوجهين: بطلب الدلالة في تثبت القول، وبإظهار الفساد بما يتمكن فيه من العيب؛ إذ هو رد ما ادعوا من الربوبية فيمن ذكر، بما في ذلك من آثار التدبير لغيره؛ وكذلك قال في الأصنام: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا}،

وقال: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي}، وقال في موضع آخر: {الَّذِي خَلقَنِي}، إلى آخر ما أخبر؛ فمرة أبطل قولهم بالمعنى الذي بضده احتج في ثبات قوله، وجائز في كل ذلك أن يقول لهم: ما الدليل على ما تدعون لما تذكرون من الربوبية؟

والسابع: جواز التسليم بإظهار الموافقة، وإن كان المسلم بحقيقة ذلك منكرا وله دافعًا، إذا كان في المساعدة بذلك في الظاهر نيل الفرصة والظفر بالبغية؛ إذ على ذلك خرجت مناظرته قومه، وعلى ذكر ما احتج به في قوله: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ}، إذ قال خصمه: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ}، وإقباله على حجة هي أوضح من ذلك وأقهر للعقل وألزم في الطبع، فقال: {فَإِنَّ اللّه يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ}.

والثامن: أن يعلم أن اللّه لم يهمل القوم في شيء من الأزمنة دون أن يجعل لهم أدلة للحق يظفرون بها لو تأملوا، ولا ألزم خلقه في زمان من الأزمان بشيء لو بحث عنه لا يوقف عليه ولا يتهيأ له؛ ولذلك أظهر الحجج وآثار البينات؛ ليعلم أنه جعل أوامره كلها تالية الأدلة والبراهين؛ ليقطع بها عذر من تأبى نفسه القيام بها.

والتاسع: أن يعلم أنه لا أحد يقوم بالحجاج ولا ينطق بحسن البيان إلا بعطية اللّه وامتنانه عليه بما ينطق به لسانه ولوفقه للقيام به بقوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ}.

ثم العاشر: أن يكون بفضله ينال الدرجات في أمر دينه، ويرتقي إلى منازل الفضل والشرف بمشيئته؛ كما قال: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَا}، وأنه متى شاء الرفع كان، واللّه أعلم.

وقد قال بعض أصحاب الإمامة في تأويل الآية: زعم أنهم أخذوه من شرح على أن تأويل النجم: المأذون، والقمر: اللاحق، والشمس: الإمام، بمعنى: أنه قال للمأذون: هذا ربي عنى به رب التربية رباه بالعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَلَمَّا أَفَلَ}.

أي: فني ما عنده رغب عنه

وقال: لا أحب هذا، ثم ظفر باللاحق، ثم كذلك بالإمام، ثم توجه نحو التالي بالقبول من الرسول؛ إذ التالي عندهم هو الذي فطن ما ذكر، فلما جاوز درجة المتم - وهو الإمام - صار إلى درجة الرسالة، وهو القابل من التالي بالخيال والمصور للشرائع عندهم، فألزموا بهذا عبادة أرباب، وأن الارتفاع من درجة إلى درجة بأُولَئِكَ.

وذلك أمر متناقض على المتأمل؛ لأنه لما فني ما عند المأذون صار إلى اللاحق، والمأذون كان به مأذونًا فلم يكن الثاني بما يصير إليه أحق من الأول؛ إذ لو كان به صار مأذونًا ولو كان ثم درجة أخرى، فإما أن يكون ينال تلك في الوقت الذي يلقى المأذون ذلك إلى غيره أو لا: فإن كان لا ينال فلا أسفه من المأذون؛ حيث امتنع عما يُعْليه إلى الدرجة الثانية وبلغ غيره أو ينال معه، فإذا صار هو معه في درجة المتم فكيف قال: لا أحبه، وهو آثر الذي ذلك وصفه؟! ثم كيف قال لا أحب وذهاب ما به أخذ بحظه عن الأخذ من الآخر؟!

أو كيف صار ربه قبل أن يربيه، فلما رباه تبرأ من ربوبيته وآثر ربا آخر؟!

فإذا عاقبة شكره وسعى ربه في شأنه كفرانه به؛ وكذلك درجة فدرجة حتى يكفر بالتالي ثم بالعقل، ثم يصير إلى رب العالمين، وهو الربُّ في الابتداء والانتهاء، لا رب لأحد سواه جل عن الشركاء؛ إذ إليه حاصل الأمر ومصير الخلق، ولو كان كل مرتق حدا يرتقي أَخر لكانت تلك الحدود يكون أبدا آخرها، فيكون الكل توالى أو مطلقًا، ويبطل الأولاء والمأذونون والأئمة جميعًا، وقد كرم اللّه - تعالى - عليا - كرم اللّه وجهه - عن هذا الخيال، وعصمه عن هذا الوسواس، والحمد للّه.

* * *

٨٠

(وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ ... (٨٠) ذكر محاجة قومه ولم يبين فيما حاجوه، لكن في الجواب بيان أن المحاجة فيما كانت، وهو قوله: {قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّه}.

ثم تحتمل المحاجة في اللّه: في توحيد اللّه ودينه. وتحتمل في اتباع أمر اللّه وطاعته.

وذكر في بعض القصة عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ}: في آلهتهم وخوفوه بها، وقالوا: إنا نخاف آلهتنا، وأنت تشتمها ولا تعبدها، أن تخبلك وتفسدك. وذلك محتمل؛ وهو كقول قوم هود لهود - عليه السلام - {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ}.

ثم قال لهم إبراهيم - عليه السلام -: لما لا تخافون أنتم منها؟.

قالوا: كيف نخاف ونحن نعبدها؟! قال: لأنكم تسوون بين الصغير والكبير، والذكر والأنثى، أما تخافون الكبير إذ سويتموه بالصغير، وما تخافون الذكر إذ سويتموه بالأنثى؟!

ويحتمل أنهم خوفوه باللّه بترك عبادة آلهتهم، لما كانوا يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى}، ويقولون: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّه}، فخوفوا إبراهيم باللّه بترك عبادتهم لما كان عندهم أن عبادتهم إياها تقربهم إلى اللّه

 زلفى وترك العبادة لها يبعدهم، فقال: {وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} وقد هداني، ولا أخاف مما تشركون به.

ويحتمل قوله: {وَقَدْ هَدَانِ} أما ذكرنا في قوله {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّه وَقَدْ هَدَانِ}، الدِّين والتوحيد وهداني طاعته والاتباع لأمره فقال: كيف أخاف وقد هداني.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} هذا يحتمل وجهين.

الأول: يحتمل لا أخاف إلا إن عصيت ربي شيئًا، فعند ذلك أخاف، وأما إذا هداني ربي فإني لا أخاف بتركي عبادتهم.

والثاني: {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي} إلا أن يبتليني ربي بشيء من المعصية، فعند ذلك أكون في مشيئته إن شاء عذبني، وإن شاء لم يعذبني.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا}.

أي: علم ذلك كله عنده عصيت أو أطعت.

٨١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللّه مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) عن ابن عَبَّاسٍ، {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ} به من الأصنام {وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللّه مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا} يقول: عذرًا في كتابه {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ} أي: أهل دينين أنا وأنتم {أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أني أعبد إلهًا واحدًا، وأنتم تعبدون آلهة شتى؟!

وقيل: إنهم كانوا يخوفونه بتركه عبادة آلهتهم وإشراكه إياها في عبادة اللّه، فقال: وكيف أخاف ما أشركتم أنتم باللّه من الآلهة، ولا تخافون أنتم بما أشركتم باللّه غيره ما لم ينزل به عليكم سلطانًا؟! أي: حجة بأن معه شريكًا.

ثم قال: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ} وإنا أو أنتم من عبد إلها واحدًا يأمن عنده،

 أحق، أم من عبد آلهة شتى صغارا وكبارًا ذكورًا وإناثًا؟!

أو أن يقال: إني كيف أخاف آلهتكم التي تعبدون من دون اللّه بتركي عبادتها، وهي لا تملك ضرا إن تركت ذلك، ولا نفعًا إن أنا فعلت ذلك، ولا تخافون أنتم بترككم عبادة إلهي، وهو يملك الضر إن تركتم عبادته، والنفع إن عبدتموه، فأي الفريقين أحق بالأمن: من عبد إلها يملك الضر والنفع، أو من عبد إلها لا يملك ذلك؟!

٨٢

فقيل: رد عليه قومه فقالوا: (الَّذِينَ آمَنُوا ... (٨٢) برب واحد يملك الضر والنفع، {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ} قيل: لم يخلطوا تصديقهم وإيمانهم بشرك، ولم يعبدوا غيره دونه، {أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}: من الضلالة والشرك.

قيل: الظلم - هاهنا -: الشرك؛ روي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال:

 لما نزلت هذه الآية: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شق ذلك على المسلمين فقالوا: يا رسول اللّه، فأينا لا يظلم نفسه؟! قال: " ليس ذلك إنما هو الشرك، أو لم - تسمعوا ما قال لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللّه إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}.

وعن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال لأصحابه: ما تقولون في هاتين الآيتين: {الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللّه ثُمَّ اسْتَقَامُوا}، {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}؛ فقالوا: {الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللّه ثُمَّ اسْتَقَامُوا}: ثم عملوا له واستقاموا على أمره، {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}، أي: لم يذنبوا فقال: لقد حملتمونا على أمر شديد، {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}: بشرك، {الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللّه ثُمَّ اسْتَقَامُوا}: عليها فلم يعدلوا عنها بشرك ولا غيره.

فإن ثبثت هذه الأخبار فهو ما ذكر فيها أن الظلم هو الشرك، وإلا احتمل الظلم ما دون الشرك أن من لم يظلم ولم يذنب فهو في أمن من اللّه، ومن ارتكب ذنبًا أو ظلمًا فله الخوف، وهو في مشيئة اللّه: إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له وعفا عنه.

٨٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ... (٨٣) الآية: ينقض

قول من يقول بأن إبراهيم كان غير مؤمن في ذلك الوقت ولا عارفًا بربه؛ لأنه أخبر أنه آتاه حجته على قومه، ولو كان هو على ما قالوا لكانت الحجة التي آتاه عليه، فلما أخبر أنه آتاه حجته على قومه، دل أنه ليس على ما قالوا، ولكن كان عارفًا بربه مخلصًا له على ما سبق ذكره.

فإن قال قائل: إن الحجة التي أخبر أنه آتاها إبراهيم على قومه هي قوله: وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّه وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ. . .) إلى آخر ما ذكر.

فيقال: إن هذه ليست بمحاجة، إنما هو تقرير التوحيد والدِّين.

ألا ترى أنه قال: {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} الآية، والمحاجة ما ذكر في قوله: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ}،

وقوله: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، وغيرها من الآيات التي فيها وصف توحيد الربّ - عَزَّ وَجَلَّ - وألوهيته وفساد آلهتهم، من ذلك قوله: (أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللّه خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (٩٦)،

وقوله: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا}،

وقوله: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ. . .}، إلى قوله: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}.

وفيه دليل نقض قول المعتزلة؛ لأنه قال: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} والإيتاء هو الإعطاء، والنجوم والشمس، والقمر وما ذكر قد كانت؛ دل أن الذي آتى إبراهيم هو محاجته قومه بما ذكرنا واحتجاجه عليهم بذلك؛ دل أن له في محاجة إبراهيم قومه صنعًا حيث أضافها إلى نفسه، وهو أن خلق محاجته قومه، وباللّه العصمة.

وقوله - تعالى -: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ}: الذين كانوا يعبدون الأصنام والأوثان، وهو ما بين سفههم في عبادتهم الأصنام، حيث قال في غير آية وعلى نمرود حين قال: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ. . .} إلى آخر الآية.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ}.

فيه -أيضًا- دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأنهم يقولون: إن اللّه قد شاء لكل أحد أن يبلغ المبلغ الذي إذا بلغ ذلك يصلح للنبوة والرسالة، لكنهم شاءوا ألا يبلغوا ذلك المبلغ،

 يجعلون المشيئة في ذلك إلى أنفسهم دون اللّه، واللّه أخبر أنه يرفع درجات من يشاء وهم يقولون - لا يقدر أن يرفع، بل هم يملكون أن يرفعوا درجات أنفسهم؛ فدلت الآية على أن من نال درجة أو فضيلة إنما ينال بفضل اللّه ومنه.

ثم قوله: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ}: تحتمل الدرجات وجوهًا.

تحتمل: النبوة، وتحتمل: الدرجات في الآخرة أن يرفع لهم.

وتحتمل: الذكر والشرف في الدنيا لما يذكرون في الملأ من الخلق.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}.

أي: حكيم في خلق الخلائق، خلق خلقًا يدل على وحدانيته، ويدل على أنه مدبر ليس بمبطل في خلقهم، ثم عليم بأعمالهم وعليم بمصالح الخلق وبما يصلح لهم، أوبما لا يصلح، والحكيم: هو الذي لا يلحقه الخطأ في التدبير.

* * *

٨٤

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ}.

يحتمل ما ذكرنا من رفع الدرجات ما ذكر من هبة هَؤُلَاءِ.

وفيه دليل أن ما يكون له من الفضل في هبة أولاده يكون ذلك في أولاد أولاده.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ}:

الهداية هدايتان: هداية إصابة الحق، وهداية العلم بالحق، وهي هداية البيان، فهذه الهداية مما يشترك فيها المسلم والكافر جميعًا.

وأما هداية إصابة الحق: فهي خاصة للرسل والأنبياء والمسلمين جميعًا.

والهداية - هاهنا - هي إصابة الحق لا العلم بالحق؛ لأنهم اشتركوا جميعًا في العلم بالحق: الكافر والمسلم.

{وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ}: ذرية إبراهيم.

وقيل: ذرية نوح كانوا جميعًا من ذرية نوح وإبراهيم ومن ذكر من الرسل.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}.

 أي: كذلك نجزي المحسنين، بالذكر والشرف والثناء الحسن إلى يوم القيامة؛ كما جزى هَؤُلَاءِ الرسل بالذكر والشرف والثناء الحسن في ملأ الناس.

ويحتمل أن يذكروا في ملأ الملائكة؛ كما ذكروا في ملأ الخلق في الأرض.

ويحتمل: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} وفي الآخرة بالثواب ورفع الدرجات والجزاء الجزيل، ثم ذكر في فريق: أنه {كذَلِكَ نجَرى الْمُحْسِنِينَ}، وذكر في فريق آخر: {كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ}، وذكر في فريق: {وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ}، وهذا - واللّه أعلم - ليس على تخصيص كل فريق بما ذكر من الذكر، ولكن على الجمع أنهم محسنون صالحون مفضلون على العالمين.

ثم يحتمل التفضيل لهم بالنبوة: أنهم فضلوا على العالمين بالنبوة.

ويحتمل: أنهم كانوا مفضلين على العالمين بالإحسان والصلاح، لو لم يكن لهم رسالة ولا نبوة.

ثم يحتمل أنه سماهم محسنين باختيارهم الحال التي كانوا أهلا للرسالة والنبوة، فإن كان هذا فهم الرسل خاصة.

ويحتمل: محسنين باختيارهم الهداية وإصابة الحق، فإن كان هذا فهو مما يشترك الأنبياء وأهل الإسلام فيه.

٨٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧) أما آباؤهم: من تقدمهم، وذرياتهم: من تأخرهم، وإخوانهم: الذين يقارنونهم.

وقيل: ذرياتهم مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

وقيل: المؤمنين من بعدهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ}.

يحتمل: اجتباهم بالنبوة والرسالة.

{وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}: فذلك لهم خاصة.

ويحتمل: اجتبيناهم بالتوحيد ودين الإسلام، فذلك يعم الأنبياء والمؤمنين جميعًا؛ لأنه اجتباهم بذلك جميعًا.

 ويحتمل: اجتباهم بما ذكر من رفع الدرجات والفضائل، ويكون صلة قوله: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ}، وذلك -أيضًا- يعم الرسل والمؤمنين، واللّه أعلم بذلك.

وفي قوله: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ. . .} الآية: دلالة أن من آبائهم وذرياتهم من لم يجتبهم بقوله: {وَمِنْ}؛ إذ " من " هو حرف للتبعيض.

* * *

٨٨

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذَلِكَ هُدَى اللّه يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي: ذلك الهدي الذي هدى هَؤُلَاءِ فبهداه اهتدوا.

وفي الآية دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأنهم يقولون: إن اللّه قد شاء أن يهدي الخلائق كلهم لكن لم يهتدوا، وعلى قولهم لم يكن من اللّه إلى الرسل والأنبياء من الهداية والفضل إلا كان ذلك إلى جميع الكفرة، فالآية تكون مسلوبة الفائدة على قولهم؛ لأنه ذكر أنه يهدي من يشاء وهم يقولون: شاء أن يهدي الكل لكن لم يهتدوا، فإن كان كما ذكروا لم يكن لقوله: {مَنْ يَشَاءُ} فائدة؛ دل أنه من الخلائق من قد شاء ألا يهديهم إذا علم منهم أنهم لا يهتدون ولا يختارون الهدى، وباللّه التوفيق.

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.

هذا بناء على الحكم فيهم لو أشركوا إلا أنهم لا يشركون؛ لأن اللّه قد عصمهم واختارهم لرسالته واختصهم لنبوته، فلا يحتمل أن يشركوا، لكن ذكر هذا؛ ليعلموا أن حكمه واحد فيمن أشرك في اللّه غيره وضيعا كان أو شريفًا.

وقوله: {لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}: من الحسنات والخيرات التي كانت قبل الإشراك.

٨٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (٨٩) قيل: الكتب التي أعطى الرسل. {وَالْحُكْمَ} قيل: العلم والفقه والفهم.

وقيل: الأحكام التي أعطاهم، والنبوة هي أنباء الغيب؛ وقد ذكرنا هذا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ}.

قيل: {بِهَا} كناية عن أنباء الغيب، والنبوة التي ذكر.

وقيل: {بِهَا} كناية عن الكتب التي أنزلها على الرسل

وقيل: هي كناية عن الآيات والحجج التي أعطى رسوله.

وقوله: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}.

اختلف فيه

قَالَ بَعْضُهُمْ: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا} - يعني: أهل مكة - {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}: أهل المدينة من الأنصار والمهاجرين؛ وهو قول ابن عَبَّاسٍ.

 وقيل: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}، يعني: من عد من الرسل والأنبياء.

وقيل: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}، يعني: أهل قرابتك وأهل وصلتك، فقد وكلنا بها قومًا من غير أهل قرابتك ليسوا بها بكافرين.

وقيل: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ}، يعني: أهل زمانك، {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا}: من تقدمهم من آبائهم وأجدادهم، {لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}.

وقيل: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ}، يعني: أهل الأرض، {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا}، يعني: أهل السماء، {لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}.

قال الحسن - رحمه اللّه -: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ}، يعني: أمتك، فقد وكل اللّه بها النبيين والصالحين من الأمم الخالمة، {لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}، واللّه أعلم بذلك وهو كما ذكرنا.

٩٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّه فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ... (٩٠)

يحتمل فبهداهم الذي هدوا هم، اهدِ أنت أمتك.

ويحتمل: فبهداهم الذي هدوا هم اهتد أنت؛ يأمره - عَزَّ وَجَلَّ بالاقتداء بإخوانه الذين مضوا من الرسل.

والهدى: هو اسم ما يدان به ليس هو اسم الأفعال، لا يقال: لتارك الصلاة والزكاة والصيام: هداك، إنما يقال ذلك لمن دان بضد الهدى.

أمر رسوله أن يقتدي بهم بذلك، وذلك يدل على أن الأنبياء والرسل كانوا على دين واحد، وأن الدِّين لا يحتمل النسخ والتغيير.

ألا ترى أنه قال في آية أخرى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} أخبر أنه شرع لنا الدِّين الذي وصى به نوحًا، وذلك يدل على أن الدِّين واحد لا يحتمل النسخ، وأما الشرائع: فهي مختلفة؛ لأنها تحتمل النسخ، وتحتمل الأمر بالاقتداء بهم ما ذكر.

{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} أي: اقتد بمن تقدم من الرسل، ولا تأخذ على تبليغ الرسالة أجرا كما لم يأخذوا هم.

وفي قوله: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} دليل نقض قول من يجيز أخذ الأجر على تعليم القرآن والعلم ورواية الحديث وغير ذلك من العبادات؛ وكذلك قوله:

{أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ}؛ كأنه - واللّه أعلم - يجعل لهم العذر في ترك الإجابة له بما يلحقهم من ثقل الأجر والغرم، واللّه أعلم.

وفيه -أيضًا- دلالة نقض مذهب القرامطة؛ لأنهم يعرضون مذهبهم على الناس، ويأخذون منهم المواثيق والجعل في ذلك، وإنما أخذ المواثيق من الرسل على تبليغ الرسالة إلى قومهم، وأمروا بتأليف قلوب الخلق، وفي أخذ الجعل منهم نفور قلوبهم وطباعهم عن ذلك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ}.

* * *

أي: ما هذا القرآن إلا ذكرى، أي: عظة وزجر للعالمين.

٩١

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا قَدَرُوا اللّه حَقَّ قَدْرِهِ ... (٩١) قيل: نزلت سورة الأنعام في محاجة أهل الشرك إلا آيات نزلت في محاجة أهل الكتاب، إحداها هذه: {وَمَا قَدَرُوا اللّه حَقَّ قَدْرِهِ. . .} الآية، وذكر في موضع آخر: {مَا قَدَرُوا اللّه حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللّه لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}، وقال في آية أخرى {وَمَا قَدَرُوا اللّه حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا. . .} الآية.

ثم قال بعض أهل التأويل: ما عرفوا اللّه حق معرفته.

وقال غيرهم ما عظموا اللّه حق عظمته؛ ذكروا أن هَؤُلَاءِ لم يعظموا اللّه حق عظمته، ولا عرفوه حق معرفته، ومن يقدر أن يعظم اللّه حق عظمته، أو أن يعرفه حق معرفته، أو من يقدر أن يعبد اللّه حق عبادته؟!

وكذلك روي في الخبر: " أن الملائكة يقولون يوم القيامة: يا ربنا ما عبدناك حق عبادتك "، مع ما أخبر عنهم أنهم: {لَا يَعْصُونَ اللّه مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}

وقال: {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ}، فهم مع هذا كله يقولون: " ما عبدناك حق عبادتك "، ومن يقدر أن يعرفه حق معرفته، أو يعظمه

حق عظمته؟!

ولكن تأويله - واللّه أعلم - أي: ما عرفوا اللّه حق المعرفة التي تعرف بالاستدلال، ولا عظموه حق عظمته التي تعظم بالاسندلال، هذا تأويلهم، وإلا لا أحد يقدر أن يعرف اللّه حق معرفته، ولا يعظمه حق عظمته حقيقة.

وهو يخرج على وجهين:

أحدهما: ما قدروا اللّه حق قدره، ولا اتقوه حق تقواه مما كلفوا به وأطاقوه ومما جرى الأمر بذلك، وإنَّمَا تجري الكلفة منه على قدر الطاقة والوسع، وإلا لا يقدر أحد أن يعظم ربه حق عظمته ولا يتقيه حق تقواه، لكن ما ذكرنا مما جرت به الكلفة.

والثاني: ما قدروا اللّه حق قدره ولا حق تقاته على القدر الذي يعملون لأنفسهم، أي: لو اجتهدوا في تقواه وعظمته القدر الذي لو كان ذلك العمل لهم فيجتهدون، ويبلغ جهدهم في أذلك، ذلك فقد اتقوا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللّه عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ}.

لو كان هَؤُلَاءِ في الحقيقة أهل الكتاب ما أنكروا الرسل ولا الكتب؛ لأن أهل الكتاب يؤمنون ببعض الرسل وببعض الكتب، وإن كانوا يكفرون ببعض، لكن هَؤُلَاءِ أنكروا الرسل لما كانوا أهل نفاق، ويكون من اليهود أهل نفاق، كما يكون من أهل الإسلام، كانوا يظهرون الموافقة لهم، ويضمرون الخلاف لهم والموالاة لأهل الشرك، ويظاهرون عليهم؛ كما كان يفعل ذلك منافقو أهل الإسلام؛ كانوا يظهرون الموافقة لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويضمرون الخلاف له، ويظاهرون المشركين عليه، فأطلع اللّه رسوله على نفاقهم؛ ليعلم قومهم خلافهم، وأن ما كان من تحريف الأحكام وتغيرها وكتمان نعت مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصفته إنما كان من هَؤُلَاءِ.

وذكر في بعض القصة أنها نزلت في شأن مالك بن الصيف، وكان من أحبار اليهود، وكان سمينا فدخل على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يومًا فقال له رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " هل تجد في التوراة أن اللّه يبغض كل حبر سمين؟ قال: نعم، فقال له النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: فأنت حبر سمين يبغضك اللّه، فغضب فقال: ما أنزل اللّه على بشر من شيء أنكر الرسل والكتب جميعًا، فأكذبه اللّه تعالى، وأظهر نفاقه عند قومه، فقال: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا}، قيل: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ}، يعني: صحفًا، أي: كتبتموه في الصحف، ثم تنكرون أنه ما أنزل اللّه على بشر من شيء، أي: ما الذي كنتم كتبتموه إن لم ينزل اللّه على بشر من شيء {تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا}، يقول: تظهرون من الصحف ما ليس فيه صفة رسول اللّه ونعته - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وتخفون ما فيه صفثه ونعته وتغيرون.

وقيل: {تُبْدُونَهَا} أي: تظهرون قراءتها {وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} مما فيه نعته - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أو ما فيه من الأحكام التي لا تطيب بها أنفسهم من أمر الرجم والقصاص وغير ذلك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ}، سمى - عَزَّ وَجَلَّ - جميع كتبه نورًا وهدى، وهو نور من الظلمات، أي: يرفع الشبهات،

ويجليها، وهدى من الضلالات، أي: بيانًا ودليلا من الحيرة والهلاك، وباللّه العصمة والنجاة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّه ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} قال مجاهد: نزلت الآية في المسلمين؛ يقول: علموا ما لم يَعْلَمُوا ولا آباؤهم.

وقال الحسن: الآية في الكفرة، أي: علمتم ما لم تعاموا أنتم ولا آباؤكم من تحريف أُولَئِكَ الكتاب وتغييرهم إياه.

وقيل: وعلمتم ما في التوراة ما لم تعلموا أنتم ولم يعلمه آباؤكم.

ثم قاله: {ثُمَّ ذَرْهُمْ}:

قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {قُلِ اللّه ثُمَّ ذَرْهُمْ} هو صلة قوله: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا} وقل يا مُحَمَّد اللّه أنزله على موسى.

وقيل: صلة قوله: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا}، قل يا محمد اللّه: {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ}، قال: قل يا مُحَمَّد اللّه علمكم.

ويحتمل أن يكون - عَزَّ وَجَلَّ - سخرهم حتى قالوا ذلك، فكان ذلك حجة عليهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ}.

هذا يحتمل وجهين:

الأول، يحتمل: ذرهم ولا تكافئهم بصنيعهم؛ كقوله {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ}.

 الثاني: أنه قد أقام عليهم الحجج وظهرت عندهم البراهين، لكنهم كابروا وعاندوا، فأمره أن يذرهم لا يقيم عليهم الآيات والحجج بعد ذلك، ولكن يدعوهم إلى التوحيد لا يذر دعاءهم إلى التوحيد، ولكن يذرهم ولا يقيم عليهم الحجج.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فِي خَوْضِهِمْ}؛ أي: في باطلهم وتكذيبهم يعمهون.

٩٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ... (٩٢)

قيل: القرآن أنزلناه مباركًا؛ سماه مرة: مباركًا، ومرة نورا، ومرة هدى ورحمة، ومرة شفاء، ومجيدًا وكريمًا وحكيمًا، وليس يوصف هو في الحقيقة بنور، ولا مبارك، ولا رحمة، ولا هدى، ولا شفاء، ولا مجيد، ولا كريم ولا حكيم؛ لأنه صفة ولا يكون للصفة صفة توصف بها، ولو كان هو في الحقيقة نورًا،

ورحمة، وهدى أو ما ذكر لكان يكون لكل واحد نورًا وما ذكر، فلما ذكر أنه عمى على بعض، وأخبر أنه يزداد بذلك رجسًا إلى رجسهم دل أنه ليس هو في الحقيقة كذلك؛ لأنه لو كان كذلك لكان لكل أحد، لكن سماه بهذه الأسماء:

سماه نورًا لما يصير نورًا للمسترشدين، ويصير شفاء ورحمة للمتبعين ليشفوا من الداء الذي يحل في الدِّين. وسماه روحا لما يحيى به الدِّين. وسماهحكيمًا لما يصير من عرف بواطنه واتبعه حكيمًا.

وكذلك سماه مجيدًا كريمًا لما يدعو الخلق إلى المجد والكرم، فمن اتبعه تخلق بأخلاق حميدة؛ فيصير مجيدًا كريمًا.

وسماه مباركًا لما به ينال كل بركة، والبركة اسم لشيئين: اسم كل بر وخير والثاني: اسم لكل ما يثمر وينمو في الحادث، فمن اتبعه نال به كل بر وخير وكل ثمرة ونماء في الحادث؛ هذا وجه الوصف بما ذكرنا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ}

من الكتب؛ لأنه كان يدعو الخلق إلى ما كان يدعو سائر الكتب التي أنزلها على الرسل، من توحيد اللّه والنهي عن إشراك غيره في الألوهية والربوبية، ويدعو إلى كل عدل وإحسان، وينهى عن كل فاحشة ومنكر؛ وكذلك سائر الكتب دعت الخلق إلى ما دعا هذا، لم يخالف بعضهم بعضا، بل كانت موافقة بعضها لبعض؛ لذلك قال: {مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ}، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا}

قيل: أم القرى: مكة، وسميت أم القرى لوجهين:

 أحدهما: لأنها متقدمة، ومنها: دحيت الأرض على ما ذكر أهل التأويل.

والثاني: سميت: أم القرى؛ لأنها مقصد الخلق في الحج، وفيها تقضى المناسك، وإليها يقصدون ويأمون، وإليها يتوجهون في الصلوات، وهي مقصد أهل القرى.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى} أي: أهل أم القرى.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ}.

فَإِنْ قِيلَ: أخبر أن من آمن بالبعث يؤمن بهذا الكتاب، وأهل الكتاب يؤمنون بالبعث ولا يؤمنون به، فما معناه؟

قيل: يحتمل هذا وجوهًا:

أحدها: أن يكون هذا في قوم مخصوصين إذا آمنوا بالبعث آمنوا به؛ كقوله: {أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}، هذا في قوم مخصوصين؛ لأنه قد آمن كثير منهم بالإنذار؛ فعلى ذلك الأول.

والثاني: قوله: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} بالعلم والحجج آمنوا بالقرآن؛ لأن القرآن جاء في تأييد حجج البعث وتأكيده، فلا يجوز أن يؤمنوا بما يؤيده القرآن ولا يؤمنوا بالقرآن.

والثالث: يحتمل أن يكون إخيارا عن أوائلهم: أنهم كانوا مؤمنين بالبعث بالآيات والحجج راغبين فيه، فلما جاء آمنوا به.

وأمكن أن تكون الآية في المؤمنين، أخبر أنهم آمنوا بالآخرة وآمنوا بالقرآن؛ ألا ترى أنه قال: {وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}.

ويحتمل أن الذين يؤمنون بالآخرة يحق لهم أن يؤمنوا بالقرآن؛ لأنه به يتزود للآخرة.

ويحتمل غير ما ذكرنا من الوجوه.

٩٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّه كَذِبًا ... (٩٣)

هذا في الظاهر استفهام وسؤال لم يذكر له جواب، لكن أهل التأويل فسروا فقالوا: لا أحد أظلم ممن افترى على اللّه كذبا، وهذا جواب له ليس هو تفسيره، لكن ترك ذكر

الجواب لمعرفة أهل الخطاب به وقد يترك الجواب لمعرفة أهله به.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَنْ أَظْلَمُ}: أكثرهم قد ظلموا أو كلهم قد ظلموا؛ لكن كأنه قال: لا أحد أفحش ظلمًا ممن افترى على اللّه؛ لأنه يتقلب في نعم اللّه في ليله ونهاره وأحيانه، فهو أفحش ظلمًا وأوحش كذبًا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ}.

في الآية دلالة أن نافي الرسالة عمن له الرسالة في الافتراء على اللّه والكذب؛ كمدعي الرسالة لنفسه وليست له الرسالة، سواء، كلاهما مفتر على اللّه كذبا؛ وكذلك من ادعى أنه ينزل مثل ما أنزل اللّه، أو من ادعى أنه لم ينزل اللّه شيئًا، فهو في الافتراء على اللّه كالذي ادعى أنه ينزل مثل ما أنزل اللّه النافي والمدعي في ذلك سواء شرعا؛ فعلى ذلك يكون نافي الشيء ومثبته في إقامة الحجة والدليل سواء، واللّه أعلم.

وذكر أهل التأويل أن قوله: {أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} نزل في مسيلمة الكذاب،

ونزل قوله: {وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللّه} في عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح، لكن ليس لنا إلى معرفة هذا حاجة؛ هم وغيرهم ومن ادعى وافترى على اللّه كذبًا سواء في الوعيد.

وقوله: {وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللّه}.

ادعى بعضهم أنهم يقولون مثل ما قال اللّه إنكارا منهم له؛ كقوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ}.

عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: قوله: {فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ}: نزعات الموت وسكراته وغشيانه {وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ}: يقول ملك الموت وأعوانه الذين معه من

ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، {بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ}: يقول: ضاربون بأيديهم أنفسهم يقولون لها: اخرجي، يعني الأرواح، وهو قوله: {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} وهو عند الموت؛ وكذلك يقول قتادة.

وقال الحسن: ذلك في النار في الآخرة ضرب الوجوه والأدبار.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ}، أي: كثرة العذاب وشدته؛ يقال للشيء الكثير: الغمر؛ وهو كقوله؛ {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ}، أي: أسباب الموت، ولو كان هناك موت يموت لشدة العذاب.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ}: بضرب الوبروه والأدبار، {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ}: على حقيقة الخروج منها؛ كقوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا}، والأول ليس على حقيقة الخروج، ولكن كما يقال عند نزول الشدائد: أخرج نفسك.

وقال مجاهد: هذا في القتال تضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم، يعني: الأستاه، ولكنه يكون - وهو كقول ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللّه عَنْهُ وقتادة -: عند الموت.

قال أَبُو عَوْسَجَةَ: غمرات الموت: سكراته وشدائده، والغمر: هو الماء الكثير، والغمر: العداوة، والغمر: الذي لم يجرب الأمور، والغمر: الدسم، والغُمر: القدح

 الصغير من الخشب، وغمرة الحرب: وسطها.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ}: قيل: عذاب الهون لا رأفة فيه ولا رحمة، أي: الشديد {بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّه غَيْرَ الْحَقِّ}، بأن معه شريكًا وآلهة، قوله تعالى: {وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ}، أنه لم ينزل شيئًا ولم يوح إليه شيء، وإنما يوحي إليَّ وغير ذلك من الافتراء الذي ذكروا، وباللّه العصمة.

٩٤

وقوله - عَزَّ وَجَلََّ: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ... (٩٤)

يحتمل هذا - واللّه أعلم - وجوهًا:

الأول: أي: أعدناكم وبعثناكم فرادى بلا معين ولا ناصر؛ كما خلقناكم أول مرة بلا معين ولا ناصر.

والثاني: أعيدكم وأبعثكم فرادى بلا أعوان لكم ولا شفعاء يشفعون لكم يعين بعضكم بعضا؛ كما خلقناكم في الابتداء فرادى، لم يكن لكم شفعاء ولا أعوان.

وقيل: يبعثكم وبعيدكم بلا مال ولا شيء من الدنياوية؛ كما خلقكم في الابتداء، ولم يكن لكم مال ولا شيء من الدنياوية.

وجائز أن يكون قوله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى} ليس معكم ما تفتخرون به من الخدم والأموال والقرابات التي افتخرتم بها في الدنيا؛ وليس معكم ما تفتخرون به، كما خلقناكم أول مرة.

وجائز أن يكون قوله: {كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} منفصلا عن قوله: {وَلَقَدْ جِئْتمُونَا}، لكن جواب سؤال: أن كيف يبعثون؟ فقال: أي تبعثون كما خلقناكم أول مرة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} يحتمل وجهين:

يحتمل تركتموه وراء ظهوركم لا تلتفتون إليه ولا تنظرون؛ كالمنبوذ وراء

ظهوركم، إنما نظرتم إلى أعمالكم التي قدمتموها.

والثاني: لم تقدموا ما خولناكم، ولم تنتفعوا منه، بل تركتموه وراء ظهوركم لا تنتفعون به، إنما منفعتكم ما قدمتموه وأنفقتم منه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {خَوَّلْنَاكُمْ}.

قيل: أعطيناكم.

وقيل: رزقناكم.

وقيل: مكناكم؛ وهو واحد.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ}.

أنهم كانوا يجعلون للّه شركاء في عبادته وألوهيته، ويقولون: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّه} و: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى}، يقول اللّه: وما نرى معكم شفعاءكم، الذين زعمتم أنهم شركاء للّه في عبادتكم، وزعمتم أنهم شفعاؤكم عند اللّه بل شُغِلُوا هُم بأنفسهم؛ يخبر عن سفههم وقلة نظرهم فيهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ}: قرئ بالرفع والنصب جميعًا.

فمن قرأ بالرفع يقول: لقد تقطع تواصلكم.

ومن قرأ بالنصب يقول: لقد تقطع ما كان بينكم من الوصل.

يخبر عَزَّ وَجَلَّ عن قطع ما كان بينهم من التواصل، وتعاون بعضهم بعضا في هذه الدنيا، أنهم كانوا يتعاونون ويتناصرون بعضهم بعضا - يخبر أن ذلك كله ينقطع في الآخرة، ويصير بعضهم أعداء بعض، ويتبرأ بعضهم من بعض؛ كقوله: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُو}؛ وكقوله: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}؛ وكقوله - تعالى -: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً}؛ وكقوله: {سَيَكفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ} الآية؛ يصير المعبودون أعداء للعابدين، والعابدون أعداء للمعبودين، وتصير الوصلة والمودة التي فيما بينهم في

 هذه الدنيا عداوة، والرحم والقرابة اللتين كانتا بينهم منقطعًا، حتى يفر بعضهم من بعض؛ كقوله - تعالى -: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥)، الآيات.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}.

أي: ذهب عنكم وبطل ما كنتم تزعمون أنهم شفعاؤكم عند اللّه، وباللّه العصمة والنجاة.

* * *

٩٥

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ اللّه فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى}.

قيل: فالق الحب والنوى كما قال اللّه - تعالى -: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ وكقوله تعالى: {قُلِ الَّذِي فَطَرَكُم}، أي: خلقكم يخبر أنه خالق الحب والنوى، خص الحب والنوى بالذكر لما منهما خلق جميع ما في الدنيا من الأنزال والحبوب؛ كقوله تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} منذ ما خلق ما في الدنيا من البشر، فأضاف ذلك إليه؛ فعلى ذلك لما خلق هذه الأنزال كلها من الحب والنوى، ومنها أخرج، أضاف إليها ذلك، واللّه أعلم.

ويحتمل: أن يكون ليس بإخبار عن ابتداء إنشاء، ولكن إخبار عن لطفه.

والفلق: هو الشق، يخبر أنه يشق النواة مع شدتها وصلابتها، ويخرج منها نبتًا أخضر لينًا، ما لو اجتمع كل الخلائق على إنفاذه وإخراج مثله من غير أذى يصيب ذلك النبت ما قدروا عليه، يخبر عن لطفه وقدرته، أي: من قدر على هذا لقادر على إعادة الخلق

وبعثهم بعد إماتتهم وإفنائهم، وإن لم يبق لهم أثر؛ كما قدر على هذا، يعرفهم قدرته أنها غير مقدرة بقدرة الخلق وبقوتهم، بل خارجة عن قوتهم؛ لأن قوته وقدرته ذاتية أزلية بلا سبب، وقوتهم وقدرتهم بأسباب؛ وكذلك ما يشق من الورق الضعيف اللين الشجر والنخل مع شدته وصلابته، ما لو اجتمع الخلائق كلهم على شق ذلك الشجر بذلك الورق مع لينه ما قدروا عليه، يعرفهم لطفه وقدرته أنه لا يعجزه شيء.

وفيه أن ذلك فعل واحد؛ لأنه لو كان فعل عدد لكان إذا أراد هذا شقه منع الآخر عن ذلك.

وفيه أنه على تدبير خرج لا جزافًا؛ حيث اتفق ذلك في كل عام على قدر واحد.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ}.

إن الحب والنوى التي ذكر ميت، فيخرج منهما النبات الأخضر حيًّا، ثم يميت ذلك ويخرج منه حبًّا ونوى.

وفيه دلالة البعث بعد الموت؛ يقول: إن الذي قدر على إخراج النبات الأخضر الحي من حبة ميتة أو نواة ميتة، وليس فيها من أثر ذلك الحي شيء - لقادر أن يبعثهم ويحييهم بعد الموت، وإن لم يبق من أثر الحياة شيء، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم في غير موضع.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذَلِكُمُ اللّه فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}

أي: ذلكم الذي يفعل ذلك هو اللّه - تعالى - لا الأصنام التي تعبدونها وأشركتم في عبادتكم للّه وألوهيته أي أيُّ حجة تصرفكم عما ذكر؟ أي: لا حجة لكم في صرف الألوهية عنه إلى غيره، ولا صرف العبادة إلى الأصنام.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}.

قيل: فأنى تصرفون عما ذكر من دلالات وحدانيته وألوهيته وربوبيته.

والإفك: هو الصرف في اللغة؛ كقوله: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا}،

 أي: لتصرفنا. وقيل: تؤفكون: تكذبون، أي: ما الذي حملكم على الكذب؟ والكذب والصرف واحد في الحقيقة؛ لأن الكذب هو صرف قول الحق إلى الباطل، وهما واحد.

٩٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَالِقُ الْإِصْبَاحِ ... (٩٦)

هو يحتمل الوجهين اللذين ذكرتهما في قوله: {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى}: خبر عن ابتداء خلقه.

ويحتمل الشق، أي: يشق النهار من الليل، والليل من النهار بعد ما تلف كل واحد منهما حتى لم يبق له أثر، ففيه دليل البعث والإحياء بعد الموت، أي: أن الذي قدر على إنشاء النهار من الليل والليل من النهار بعد ما تلف وذهب أثره - لقادر على إنشاء الخلق، وبعثهم بعد الموت وذهاب آثارهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا}.

جعل اللّه الليل سكنًا وراحة للخلق، والنهار معاشًا لهم يعيشون فيه، وجعلهما آيتين من آيات ربوبيته ووحدانيته مسخرين، يغلبان الخلائق ويقهرانهم، ويكونون تحت سلطانهما ويجريان على سنن واحد؛ ومجرى واحد دل أن لهما مدبرا خالقًا عليما، ولو كانا يجريان بطباعهما لكان يختلف جريانهما، ولم يتسق، فدل اتساقهما وجريانهما مجرى واحدًا أن لغير فيهما تدبيرا؛ وكذلك الشمس والقمر جعلهما مسخرين لمنافع الخلق؛ لنضج الأنزال وينعها، ولمعرفة عدد الأيام والشهور والسنين، ويجريان مجرى

 واحدًا ومسلكًا واحدًا غير مختلف " دلّ ذلك أنهما كانا بمدبر عليم حكيم.

وفي قوله: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} ودلالة نقض قول المعتزلة؛ لأن الإصباح هو فعل الخلق؛ لأنه مصدر أصبح، وكذلك السكن هو فعل الخلق، ثم أضاف ذلك كله إلى نفسه؛ دل أنه خالق أفعالهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا}

واختلف فيه؛ قال أبو عبيد: هو من الحساب، وهو جمع حساب، يقال: حساب وحسبان؛ مثل: شهاب وشهبان؛ وهو كقوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ}. وقيل: (حسبانًا) أي: جريانا، يجريان ويدوران أبدًا لا يستريحان؛ دل أنهما كانا بغير مسخرين للخلق؛ لأنهما لو كانا بطباعهما لكانا يستريحان. وقيل: حسبانًا، أي: ضياء؛ كقوله: {جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا}، واللّه أعلم بذلك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}.

أي: ذلك الجريان الذي ذكر، أو تلك المنافع التي جعلت فيها تقدير العزيز العليم.

قال الحسن: العزيز: هو الذي لا يعجزه شيء، والعزيز: هو الذي به يعز كل عزيز.

وقال بعض أهل التأويل: العزيز: المنيع في سلطانه، المنتقم من أعدائه، العليم بمصالح الخلق وبما كان ويكون وبحوائجهم، وباللّه التوفيق.

٩٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ... (٩٧)

والمراد منه: الظلمات، وذكر في قوله: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}

وأراد بالظلمات: الشدائد والأهوال التي تصيبهم.

ألا ترى أنه قال: {تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}، عند الشدائد والأهوال كانوا يدعون ربهم تضرعًا وخفية، على ما ذكرهم هاهنا عظيم سلطانه وقدرته لما يدفع عنهم الشدائد وينجيهم من الأهوال التي تنزل بهم، فالدافع عتهم ذلك هو لا الأصنام التي يعبدون من دون اللّه ويشركونها في عبادته.

ويذكر في قوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} عظيم ما أنعم عليهم بما جعل لهم من السماء نجومًا ليهتدوا بها للطرق والمسالك في البحار والبراري عند أشتباهها عليهم.

وفيه دليل وحدانية الرب وتدبيره وحكمته؛ لأنه جعل في السماء أدلة يهتدون بها، ويستدلون على معرفة الطرق مع بعد ما بينهما من المسافة، وتسوية أسباب الأرض بأسباب السماء، وتعلق منافع بعضها ببعض؛ ليعلموا أنه كان بواحد مدبر عليم حكيم؛ إذ لو كان بعدد أو بمن لا تدبير له ولا حكمة، لم يحتمل ذلك، ولم يتسق ما ذكرنا؛ دل أنه كان بالواحد العليم الحكيم، مع علمهم أن الأصنام التي يعبدونها وأشركوها في عبادته لا يقدرون على ذلك، لكنهم يعبدونها ويشركونها في ألوهيته سفهًا منهم وعنادًا، وباللّه العصمة والتوفيق.

وفي قوله: {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى}،

وقوله: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ}

وقوله: {جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا}، وغير ذلك من الآيات التي ذكر تذكير نعمه وإحسانه إليهم ليتأدى بذلك شكرهم وجعل السعي له.

وجائز أن يستدل به على تذكير قدرته وسلطانه: أن من قدر على ما ذكر لا يحتمل أن يعجزه شيء.

وفيه تذكير تدبيره وعلمه وحكمه على ما ذكرنا من اتساق الأمور والحال على أمر

 واحد.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ}: قيل: صرفنا الآيات، أي: صرفنا كل آية إلى موضعها الذي يكون لهم دليلا عند الحاجة إليها.

وقيك: {قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ} قد، يينا الآيات {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}، أي: لقوم ينتفعون بعلمهم وإذا انتفعوا بها صارت الآيات لهم؛ لأن من انتفع بشيء يصير ذلك له؛ لذلك ذكر لقوم يعلمون؛ لأنهم إذا لم ينتفعوا بها لم تصر الآيات لهم.

٩٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨)

فيه دلالة أنه يبدئ ويعيد من غير شيء؛ لأنه أخبر أنه خلق البشر كله من نفس واحدة، والخلائق كلهم لو اجتمعوا ما احتملت الأرض، ولم تكن الخلائق بأجمعهم في تلك النفس الواحدة، دل أنه قادر على الابتداء والإعادة لا من شيء: إذ لم يكن لتلك النفس التي خلق الخلائق منها تقدمة شيء.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ}.

قال الحسن: مستقر في الآخرة بعمله الذي ختم به: إن ختم بعمل الخير يبقى أبدًا في الخير، وإن ختم بشر يبقى أبدًا في شر، ومستودع في أجله، بنتقل من وقت إلى وقت ومن حال إلى حال.

وقيل: مستقر في الدنيا. ويشبه أن يكون مستقر ومستودع في كل حال وكل وقت مستقر في أرحام النساء ومستودع في أصلاب الرجال، وهو قول عامة أهل التأويل، وقيل مستقر في القبر، ومستودع في الدنيا، ويشبه؛ أن يكون {فَمُسْتَقَرٌّ}، في حال القيام حتى ينتقل إلى حال أخرى، {وَمُسْتَوْدَعٌ} لما هو على شرف الانتقال إلى أخرى. وجائز

 أن يكون قوله {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ}: مستقر، في الآخرة بالجزاء لأعمالهم التي عملوا، ومستودع في الدنيا.

ويحتمل: مستقر بالليالي، ومستودع بالنهار، والأول لبني آدم خاصة.

ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}، {لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} الفقه هو معرفة الشيء بمعناه الدال على نظيره، والعلم ما يعرف نفسه؛ ولهذا لا يقال: اللّه فقيه، ويقال: عالم؛ لأنه عالم بالأشياء بذاته لا بأغيارها ونظائرها، والفقيه: هو الذي يعرف الأشياء بأغيارها ونظائرها ودلائلها.

٩٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ ... (٩٩)

يذكرهم عَزَّ وَجَلَّ عظيم منته بما ينزل من السماء من الماء، ويخرج به نبات كل شيء؛ كما ذكرهم من النعم بما جعل لهم من الشمس والنجوم؛ ليهتدوا، بها في الظلمات واشتباه الطريق، وما جعل الليل للسكون والراحة، والنهار للمعاش والتقلب، وما جعل لهم من الشمس والقمر، وجعل لهم فيهما من المنافع من نضج الأنزال والزروع وينعهما ومعرفة عدد السنين والحساب والآجال التي يجعلون للعقود، وغير ذلك من النعم التي أنعمها عليهم؛ لئلا يرجعوا شكر هذه النعم إلى غيره، ولا يتخذوا إلهًا سواه، وقد ذكرنا أن سورة الأنعام نزل أكثرها في محاجة أهل الشرك في إثبات الوحدانية له والألوهية للّه، وإثبات الرسالة والنبوة، وإثبات البعث بعد الموت؛ لأنهم كانوا ينكرون ذلك كله.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ}.

يحتمل قوله: {نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ}، ما بالخلق حاجة إليه؛ ليعلم أن كل ما يخرج في الأرض أصله من الماء به ينبت مما يكون غذاء البشر وغذاء الحيوان كلهم والطيور؛ كقوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ}، يذكرهم عظيم ما جعل

لهم في الماء من المنافع، على ما أخبر أنه به يخرج نبات كل شيء، وبه حياة كل شيء، ثم من الأوقات ما لو نزل من السماء ماء لم يُنبت؛ دل أنه إنما ينبت بتدبير غير لا بالماء.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا}.

قيل: به يخرج أول ما يخرج خضرا يكون ابتداء كل نبت أخضر، ثم يتحول إلى لون آخر، ومنهم من قال: به يعني بالماء وهو ما يبقى أخضر لولا الماء وإلا يبس وتغير عن حال ابتدائه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا} ويخبر عن لطفه وصنعه بما يخرج من الحب متراكبًا بعضه على بعض، ما لو اجتمع الخلائق كلهم لم يقدروا على تركيب مثله؛ ليعلموا أن لغير في ذلك تدبيرا وصنعا.

وفيه دلالة أنه قد ينشئ الأشياء من لا شيء ولا سبب، وإن كان قد أنشأ بعضها بأسباب؛ نحو أن أخرج من الحبة والنواة نباتا أخضر، ولم يكن في الحب نبات ثم أخرج، من ذلك النبات الأخضر حبوبًا، ولم تكن الحبوب في النبات؛ ليعلموا أنه قادر على إنشاء الأشياء لا من شيء ولا سبب.

وفيه نقض قول الدهرية في كون الأشياء في شيء واحد كما هي؛ لأنه لا يحتمل أن يكون عشرة آلاف نواة أو حبة في نواة واحدة أو في حبّة واحدة، أو تكون الشجرة مع طولها وغلظها وعظمها في نواة أو حبة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمِنَ النَّخْلِ}.

أي: يخرج من النخل طلعها بالماء، وفيه من عظيم لطفه وتدبيره أن جعل النخيل والأشجار تتشرب بعروقها الماء، ثم ينتشر ذلك في أصلها إلى أغصانها، ثم يخرج منه ويظهر خضرًا؛ ليعلم عظيم تدبيره ولطفه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ}.

قيل: القنوان: العروق يكون فيها التمر والثمار، واحدها: قنو.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {دَانِيَةٌ}: قال الحسن: دانية بعضها إلى بعض مجتمعة غير متفرقة، على ما يكون من الأعناب والثمر والحبوب، فإن كان هذا فهو في الكل.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: دانية: قريبة ملتزقة بالأرض، يناله القائم والقاعد جميعًا.

وعن ابن عَبَّاسٍ: {قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ}: قصار النخل اللاصقة عذوقها بالأرض.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ}.

أي: أخرج بالماء جنات وكروما.

{وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ} قيل: أخرج بالماء -أيضًا- الزيتون والرمان أو

قَالَ بَعْضُهُمْ: (الزيتون والرمان)، {مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} أي: يشبه ورق الزيتون في المنظر ورق الرمان. {وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ}: ثمرتها في اللون والطعم، ولكن هو على الكل على كل الثمار، ولا يشبه بعضها بعضًا: منها ما يشبه ساق هذا بساق آخر والثمار والحبوب مختلف. ومنها ما يشبه في اللون، والطعم مختلف. ومنها ما يشبه في الطعم، واللون مختلف. ليعلموا أن لغير في ذلك تدبيرا وصنعًا لطيفًا لم يكن كذلك بالماء؛ لأنه لو كان كذلك بالماء لكان لا يختلف كل هذا الاختلاف في اللون والطعم والساق والورق؛ دل أنه كان كذلك لغير - عليم مدبر حكيم - أنشأه على ما أراد بلطفه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ}: يحتمل الأمر بالنظر وجوهًا: أي يحتمل: انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه أي: كيف يقلبها، ويحولها من حال إلى حال، ومن لون إلى لون، وأنه يخرج في ساعة لطيفة ما لو اجتمع الخلائق على تقديره ومعرفته أي كم خرج وأي مقدار خرج لم يقدروا عليه؛ ليعلموا أنه قادر على

 إحياء الخلق بمرة واحدة.

وفي إنزال المطر من السماء مع بعدها آية عجيبة وحكمة بالغة، وهو أن ينزله واحدًا واحدًا حتى لا يختلط بعضه ببعض مع كثرة المطر وازدحامه وبعد السماء ما لو اجتمع الخلائق على حفظ مثله ما قدروا عليه دل أنه كان بمدبر عليم حكيم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.

قد ذكرنا أنها تصير آيات لمن صدق بها وآمن، وأما من عاند وكابر ولم يتأمل فيها لم يفهم ما فيها من عجيب آياته وعظيم منته.

وفي قوله: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} وجهان آخران من الحكمة:

أحدهما: أن انظروا إلى ثمره إذا أثمر أنه أول ما يخرج يخرج على لون واحد وعلى قدر واحد وعلى طعم واحد، ثم يختلف ألوانها وطعمها وتتفاوت أقدارها؛ ليعلموا أنه كان بتدبير واحد عليم حكيم قادر على خلق الأشياء بلا سبب؛ لأنه لو كان كذلك بسبب لا بتدبير فيه كان سبب هذا كله واحدًا، فيجيء أن يخرج كله على سنن واحد؛ دل أنه خالق بذاته لا بسبب.

والثاني: أن انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه أنه جعل ما يطيب منه للبشر، وعلمهم أسبابا يتخذون بها الطيبات من ذلك من نحو النضج والطبخ وغيره، وجعل لغيرهم من الحيوان كما هو خارج من الأرض؛ ليعلموا أن غيرهم من الحيوان والدواب إنما جعلهم لمنافع البشر مسخرين لهم، وأن البشر هم المقصودون في خلق الأشياء كلها، وباللّه الحول والقوة، وله المنة والفضل.

* * *

١٠٠

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَجَعَلُوا للّه شُرَكَاءَ الْجِنَّ} أي: قالوا للّه شركاء؛ وكذلك قوله: {وَيَجْعَلُونَ للّه الْبَنَاتِ} أي: يقولون للّه البنات، أو وصفوا للّه، دليله ما ذكر في آخره: (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ) دل هذا أن قوله: {وَجَعَلُوا للّه شُرَكَاءَ} أي: وصفوه

بالشركاء والولد.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {شُرَكَاءَ الْجِنَّ}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا كقوله: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا}.

وقيل: إنهم لم يعبدوا الجن، ولا قصدوا قصد عبادة الشيطان؛ حيث قال: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}؛ لأن جميع أهل الكفر على اختلاف مذاهبهم يبغضون الشيطان، ويلعنون عليه، ولكن معناه: أن الشيطان هو الذي دعاهم إلى عبادة الأصنام والأوثان، فإذا عبدوا الأصنام بدعائه فكأنهم عبدوه إذ بأمره وبدعائه يعبدونها.

أو أن يكون كما روي في الخبر " أن الشمس إذا طلعت تطلع بين قرني شيطان "، فإذا

عبدوها فكأنهم عبدوا الشيطان مثل هذا يحتمل، واللّه أعلم.

فَإِنْ قِيلَ: فإذا صاروا كأنهم عبدوا الشيطان، ومن ذكر من الجن بدعائهم إلى ذلك، وبأمرهم بذلك حتى نسب وأضاف العبادة إليهم، كيف لا صار المؤمنون كأنهم عبدوا الرسل؛ لأنهم إنما عبدوا اللّه بدعاء الرسل وبأمرهم؟

قيل: لأن الرسل إنما دعوهم إلى عبادة اللّه وأمروهم بذلك؛ لأن اللّه - تعالى - أمرهم بذلك، وأما أُولَئِكَ إنما دعوهم إلى عبادة من ذكر بذات أنفسهم.

وفي قوله: {وَجَعَلُوا للّه شُرَكَاءَ الْجِنَّ} إخبار لأوليائه وتذكير لهم حسن صنيعه إلى أعدائه من الإنعام عليهم، والإحسان إليهم، وقبح صنيع أُولَئِكَ إليه من وصفهم إياه بالولد والشركاء؛ ليعاملوهم معاملة الأعداء أو معاملة أمثالهم {وَخَلَقَهُمْ} أي: يعلمون أنه هو خلقهم، ثم يشركون غيره في ألوهيته وعبادته، لا يوجهون شكر نعمه إليه.

والثاني: قوله: {وَخَلَقَهُمْ}، أي: خلق هذه الأصنام التي يعبدونها، ويعلمون أنها مخلوقة مسخرة مذللة، فمع ما يعلمون هذا يشركون في ألوهيته وعبادته، فكيف يكون المخلوق المسخر شريكًا له؟!

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ}.

هم كانوا فرقًا وأصنافا؛ منهم من يقول بأن عيسى ابنه وهم النصارى، ومنهم من يقول بأن عزيرًا ابنه وهم اليهود، وقال مشركو العرب: الملائكة بنات اللّه، فقال:

 (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (٢١) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (٢٢)،

وقال: {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ}،

وقال: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ}.

قال: أَنِفْتُم أنتم من البنات؛ كيف نسبتم البنات إليه؟!

في هذه الآية تصبير لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على أذاهم بقوله، مع كثرة ما كان لهم من اللّه من النعم والمنن يشركون في عبادته غيره؛ فأنت إذا لم يكن منك إليهم شيء من ذلك فأولى أن تصبر على أذاهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ}.

أي: يعلمون هم أن ليس له ولد ولا شريك؛ ولكن كانوا يكابرون، ويحتمل {بِغَيْرِ عِلْمٍ}: على جهل يقولون ذلك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ).

هو حرف تعظيم وتنزيه جعل فيما بين الخلق: به يعظمون، وبه ينزهون، وبه ينفون كل عيب فيهم؛ فعلى ذلك ذكر عند وصف الكفرة بالولد والشريك والعيوب؛ تنزيهًا وتبرئة عن كل عيب وصفة، وتعاليًا عن جميع ما قالوا فيه، وهو - واللّه أعلم - كما يقولون: معاذ اللّه؛ تعظيمًا وتبريئًا من ذلك.

وفي قوله: (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ) ونقض قول المعتزلة؛ لقولهم: إن صفات اللّه ليست إلا وصف الواصفين، فلو لم يكن إلا وصف الواصف، لا غير لكان لا معنى لذم بعض الواصفين وحمد بعضهم؛ فثبت أن في ذلك صفة سوى وصف الواصفين.

١٠١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ ... (١٠١)

قوله: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: أنشأهما بلا احتذاء ولا امتثال بغير، وقوله هذا يرد على القرامطة قولهم؛ لأنهم يقولون: خالق، ولا يقولون مبدع، ويقولون: المبدع الثاني هو أول مخلوق خلق منه جميع العالم، فلو كان أول خلق خلق مبدعًا فهو مبدع، والإبداع: هو إحداث شيء لم يسبق له أصل ولا مثال؛ ولهذا يقال لمن أحدث في دينه شيئًا: مبتدع؛ لأنه أحدث فيه شيئًا لم يسبق له أصل ولا مثال.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ}.

أي: من قدر على إبداع السماوات والأرض، لا عن أصل سبق ولا عن مثال تقدم؛ فأنى يقع له الحاجة إلى الولد؟! والولد في الشاهد إنما يتخذ؛ لإحدى خصال ثلاث: إما للانتصار على الأعداء والانتقام منهم، وإمّا لوحشة تأخذهم، وإما لحاجة تمسهم؛ فاللّه - سبحانه وتعالى - يتعالى عن ذلك كله فأنى يتخذ ولدًا؟!

والثاني: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ}، أي: تعرفون أن الولد لا يكون في الشاهد إلا عن صاحبة وليست له صاحبة، فأنى يكون له ولد؛ كأن الخطاب كان في قوم ينفون عنه الصاحبة، وإنما الحاجة إلى الصاحبة؛ للشهوات التي مكنت فيهم؛ فالشهوة هي التي تقهر المرء وتحمله على الحاجة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ}.

فيه نقض قول المعتزلة؛ لأنه أخبر أنه خلق كل شيء، وعلى قولهم: لم يخلق جزءًا من ألف جزء من الأشياء؛ لأنهم يقولون: إن اللّه لم يخلق أفعال العباد، ولا حركاتهم، ولا سكناتهم، ولا قيامهم، ولا قعودهم، ولا شيئًا من ذلك، ثم لا يجوز أن تصرف الآية إلى الخصوص، وهو يخرج مخرج الامتداح، ولو جاز أن يصرف هذا على شيء دون شيء لجاز لغيرهم أن يصرفوا قوله: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} إلى شيء دون شيء وكذلك قوله: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وعلى قول المعتزلة هو خالق بعض الأشياء ليس هو بخالق الأشياء كلها؛ على ما أخبر فلئن جاز صرفه إلى بعض الأشياء دون بعض؛ لجاز - أيضًا - صرف قوله {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}.

 وقيل: إلى بعض دون بعض، حفظ بعض الأشياء ولم يحفظ الكل، فإن لم يجز هذا؛ لأنه خرج مخرج الامتداح؛ فعلى ذلك لا يجوز صرف الأول إلى بعض دون بعض؛ لأنه امتداح، ولئن جاز أن يقال بأن العبد هو خالق ذلك، جاز أن يقال: هو خالق الكل، والقادر عليه؛ فهذا سمج بيِّن، نسأل اللّه العصمة عن السرف في القول، والزيغ عن الحق؛ فإنه لا حول ولا قوة إلا باللّه.

١٠٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذَلِكُمُ اللّه رَبُّكُمْ}

أي: ابتدع خلق السماوات والأرض، وما ذكر من أنواع المنن والنعم التي أنعمها عليهم؛ من نحو: ما جعل لهم من النجوم؛ ليهتدوا بها في الظلمات، وما ذكر أنه أنشأهم من نفس واحدة، وما ذكر من إنزال الماء من السماء، وإخراج ما أخرج به من النبات والثمار والحبوب والأعناب، وغير ذلك من عجيب حكمته، ذلك كله باللّه الذي {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}، منشئ ذلك كله.

{فَاعْبُدُوهُ} أي: إليه وجهوا شكر نعمه، ولا توجهوا إلى غيره، قال الكيساني: بديع السماوات والأرض، وبادع السماوات والأرض واحد؛ كما يقال: عليم وعالم، و (بدع) و (ابتدع): بمعنى واحد.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو مثل قوله: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}.

١٠٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ... (١٠٣)

قيل: كنى بالأبصار عن الخلق؛ كأنه مال: لا يدركه الخلق، وهو يدرك الخلق، وإنما كنى بالأبصار عن الخلق؛ لما بالأبصار تدرك الأشياء ويحاط بها؛ لذلك كان معنى الكناية، واللّه أعلم.

وقيل: هو على حقيقة الأبصار، وكذلك بصر القلب؛ لما به نفع المعارف، فإن كان بصر الوجه، ففيه دليل إثبات الرؤية؛

لأنه نفى عنه الإدراك، فلو لم يكن يحتمل الرؤية لم يكن لنفي الإدراك معنى؛ لأنه لا يدرك ما لا يرى؛ فدل نفي الإدراك على أن هنالك رؤية، لكنه لا يدرك ولا يحاط بها؛ على ما ذكر: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا}؛ إذ من الأشياء الظاهرة مما يقع عليها البصر يكون لها سر، وفيها خفاء؛ من نحو: البصر، والسمع واللسان، والأنف، واليد، وغير ذلك من الأشياء: مما لا يدرك حقيقة ماهيتها وكيفيتها ولا تقديرها: يبصر بالبصر أشياء لا يعرف حقيقة كيفية البصر ولا ماهيته، وكذلك السمع: لا يدري أنه كيف هو؟ ولا بم يسمع؟ وكذلك هذا في كل جارحة وحاسة: تجد اليوم خشونة الشيء الذي تمسه ولينه، لا تعرف: بم تجد ذلك وتعرفه؟ وكذلك الكلام من اللسان، والشم من الأنف لا يدري ما هو؟ وكيف؟ وبم يجد تلك الرائحة والنتن؟

فإذا كانت معارف الخلق في الأشياء الظاهرة التي يقع عليها البصر لا يدرك حقيقة ماهيتها، ولا يعرف كيفيتها، ولا يحاط بها علما؛ فاللّه - سبحانه - الذي بحكمته وضع ذلك، وبلطفه ركب - أبعد عن الإدراك، وأحرى ألا يحاط به، ولا يدرك.

وهذا يرد على المجسمة مذهبهم؛ لأنهم يصورون ربهم في قلوبهم، ويمثلونه، فعلى ذلك يعبدونه، فهم مشبهة.

وأصله أن اللّه - تبارك وتعالى - يعرف بالآيات والدلائل، لا بالمحسوسات

والمشاهدات، وكل شيء سبيل معرفته الآيات والدلائل: فهو غير محاط به ولا يدرك؛ فهو على ما وصف نفسه: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا}، {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ}؛ لأن الإدراك والإحاطة إنما يقعان بالمحسوسات، لا بما يعرف بالآيات والدلائل، وعلى ذلك جاءت دلائل الرسل به نحو ما قال موسى - حين سأله فرعون -: (فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (٤٩) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (٥٠)، وقال إبراهيم: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ}،

وقال: {فَإِنَّ اللّه يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ} دلالة على ألوهيته ووحدانيته من جهة الآيات والدلائل، لا من غيره.

وعلى ذلك دل اللّه الخلق على معرفة وحدانيته وربوبيته، بقوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا}،

وقال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ}،

وقال: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} إلى آخر ما ذكر، دلهم على ما به يعرفون ألوهيته ووحدانيته من جهة الآيات والدلائل، لا من جهة ما تقع به، الإحاطة والإدراك، وباللّه الهداية والرشاد.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}.

قيل: اللطيف: في أفعاله، الخبير بخلقه وبأعمالهم.

وقيل: اللطيف: البار الرحيم.

وقيل: اللطيف: هو العليم بخفيات الأشياء.

والخبير بظواهر الأشياء. ثم هو اللطيف: العظيم، والعظيم في الشاهد: غير اللطيف، واللطيف: غير العظيم؛ لأن؛ العظيم في الشاهد هو الذي به كثافة، واللطيف: ما يلطف في نفسه ويرق، وكل واحد منهما. مما يناقض الآخر؛ ليعلم أنه لطيف عظيم، لا من الوجوه التي تعرف في الخلق؛ وكذلك، قوله -: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} هو أول وآخر وظاهر وباطن، وفي الخلق: من كان أولا لم يكن آخرًا، ومن

 كان ظاهرًا لم يكن باطنا؛ ليعلم أنه أول وآخر وظاهر وباطن، لا من الوجه الذي يعرف ويقهم من الخلق؛ ولكن مما وصف نفسه.

* * *

١٠٤

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ}.

قيل: بينات من ربكم.

وقيل البصائر الهدى، بصائر في قلوبهم، وليست ببصائر الرءوس وهو قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.

وقيل: بصائر، أي: بيان، وهو واحد.

وقيل: بصائر شواهد، أي قد جاءكم من اللّه شواهد تدلكم على ألوهيته، وهو كقوله

 تعالى: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ}، أي: بل الإنسان من نفسه بصيرة، أي: شاهدة؛ فشهدت كل جارحة منهم على وحدانية اللّه وألوهيته.

ألا ترى أنه قال: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}؛ هذا - واللّه أعلم - لأنهم كانوا يقلدون آباءهم في عبادة الأوثان والأصنام، ويقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى}، {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّه}؛ فيقول: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ} من الآيات والرسل ما لو اتبعتموهم، لكانوا لكم شفعاء عند اللّه.

والثاني: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ}: ما لو تفكروا وتدبروا ونظروا فيها، لعرفوا أنها بصائر من اللّه؛ لأن البشر أنشئوا بحيث ينظرون في العجيب من الأشياء؛ فكانوا على أمرين: منهم من نظر وتفكر وعرف أنها بصائر، لكنه عاند وكابر ولم يعمل بها، ومنهم من ترك النظر فيها؛ فعمي عنها، ما لو تفكروا ونظروا لتبين لهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا}.

أي: أبصر الحق والهدى وعمل به، فلنفسه عمل، ومن أبصر وعمي عنها - أي: ترك العمل - فعليها ترك؛ كقوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا}.

فَإِنْ قِيلَ: ذكر في آية أخرى: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} أخبر أن من هلك هلك عن بينة، ومن حي حي عن بينة، وهاهنا يقول: {فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا}: ذكر عمي عليها؛ فكيف وجه التوفيق بينهما؟!

قيل: يحتمل قوله: {عَمِيَ} بعد ما تبين له، فترك العمل به؛ فعليها ذلك؛ لأنه أبصرها، وعرف أنها من اللّه، لكنه عاندها وكابرها.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ}.

أي: قد جاءكم بصائر من ربكم، فليس علينا إلا التبليغ؛ كقوله: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ}.

١٠٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ... (١٠٥)

أي: نردّها في الوجوه التي تتبين لقوم يطلبون البيان.

أو نقول {نُصَرِّفُ الْآيَاتِ}، أي: نضع كل آية ونصرفها إلى الوجوه التي تكون بالخلق

إليها حاجة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ}.

فيه لغات: دَرَسْتَ، ودَارَسْتَ. ودَرَسَتْ: قرأت، ودارست: تعلمت.

وقيل: دارست أهل الكتاب: جادلتهم، ودرست بالجزم، قيل: تعاونت، فهذا

الاختلاف فيه؛ لاختلاف قول كان من الكفرة لرسول اللّه؛ منهم من يقول: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ}، فهو تأويل دارست، ومنهم من يقول: {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}، فهو تأويل قوله: درست، ومنهم من يقول: {مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى}، وهو تأويل درست؛ فعلى اختلاف أقاويلهم خرجت القراءة.

ثم اختلف في تأويل قوله - تعالى -: {وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ}

قَالَ بَعْضُهُمْ: لئلا يقولوا درست، فهو صلة قوله: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ} لئلا يقولوا: درست.

وقال الحسن قوله: {وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ}، أي: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ}؛ لِيَقُولُوا دَرَسْتَ؛ لأن من قوله: إنه بعث الرسل، وأنزل الكتب؛ ليكون من الكافر قول كفر، ومن المؤمن قول إيمان.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ}.

يخرج - واللّه أعلم - على معنى التعجب: يعجب أصحاب النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن قبح صنيع الكفرة وسوء معاملتهم رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وقد جاءهم بصائر من ربهم وبينات وحجج، ثم هم بعد هذا كله يستقبلونه بالرد والتكذيب.

وهو على ما قلنا: إن اللّه ذكر نعمه عليهم بما أنشأ لهم: من الأنعام، والجنات المعووشات، والزرع، والنخيل، وما أخبر عنه، وقد علموا ذلك كله، ثم جعلوا له بعد معرفتهم هذا {شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ}، ولا بينة؛ فهو على التعجب أنهم كيف جعلوا له شركاء، وقد علموا أن الذي جعل هذا كله لهم هو اللّه؟! فعلى ذلك هذه الآية أنهم كيف قذفوه بالدراسة، وقد تبين لهم صدقه، وأنه من عند اللّه بالآيات والدلائل، وبما كان لا يخط كتايا، ولا شهدوه يختلف إلى من عنده علم ذلك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}.

 أي: لنبينه يعني القرآن، وقيل البصائر التي ذكر لقوم ينتفعون بعلمهم.

١٠٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦)

فَإِنْ قِيلَ: ما معنى قوله: {مِنْ رَبِّكَ}، وإنَّمَا أوحي إليه من ربه، ويكفي قوله: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}؟!

ولكن معناه على الإضمار - واللّه أعلم - كأنه قال للذي أوحى إليه على يديه: قل {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}، ثم أمر نبيه باتباع ما أوحي إليه من ربه، أي: اعمل بما أوحي إليك.

ثم الأمر بالعمل يحتمل وجهين:

يحتمل: الأمر بالاعتقاد بذلك.

ويحتمل: نفس العمل، أي: اعمل.

ويشبه أن يكون الأمر بالاتباع ما أوحي إليه صدقًا في الخبر وعدلا في الحكم؛ كقوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا}.

قيل: صدقًا في الأخبار، وعدلا في الأحكام؛ فعلى ذلك أمكن أن يكون الأمر بالاتباع اتباع ما أوحي إليه صدقا في الأخبار، وعدلا في الأحكام، ثم على ما أمر نبيه باتباع ما أوحي إليه وأنزل من ربه أمر أمته كذلك، وهو قوله: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ}، أمرهم باتباع ما أنزل إليهم من ربهم، ونهاهم عن اتباع من اتخذوا من دونه أولياء؛ فعلى ما نهاهم عن اتخاذ أولياء دونه قال في الآية التي أمر رسوله باتباع ما أوحي إليه من ربه؛ فقال: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}

وقوله: {وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} واحد؛ لأنه أمر باتباع ما أوحي إليه من ربه، ونهي أن يتبع دونه أولياء؛ لأنه أخبر أن لا إله إلا هو.

وقوله - عزَّ وجلَّ -: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}.

يحتمل: أمره بالإعراض عن المشركين وجوهًا:

 يحتمل ألا تكافئهم على أذاهم؛ ولكن اصبر، ويحتمل الأمر بالإعراض عنهم: النهي عن قتالهم؛ كأنه نهى عن قتالهم في وقت.

ويحتمل أن تكون الآية في قوم خاصة، قال: أعرض عنهم؛ فإنهم لا يؤمنون، ولا تقم عليهم الآيات والحجج؛ لما علم منهم أنهم لا يؤمنون، ثم على ما أمر نبيه بالإعراض عنهم أمر المؤمنين -أيضًا- بالإعراض عنهم، وهو قوله: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ}.

١٠٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ شَاءَ اللّه مَا أَشْرَكُوا ... (١٠٧)

قالت المعتزلة: المشيئة هاهنا مشيئة قهر وجبر، أي: لو شاء اللّه لأعجزهم ومنعهم عن الشرك على دفع الابتلاء والامتحان.

وأما عندنا: المشيئة: مشيئة اختيار، والطوع على قيام الابتلاء والامتحان، وبعد: فإن مشيئة الجبر هي خلقه، وقد كانوا جميعًا غير مشركين بالخلقة؛ فلا معنى لتأويلهم الذي تأولوا في المشيئة.

ثم لا يحتمل أن يكون قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللّه مَا أَشْرَكُوا} مشيئة قهر وجبر؛ لأنه لا يكون في حال الجبر والقهر إيمان ولا كفر؛ إنما يكون ذلك في حال الاختيار والطوع؛ لأن الجبر والقهر يمنع من أن يكون له فعل حقيقة؛ بل يتحول الفعل عنه ويسقط، ويثبت للذي جبر وقهر؛ وذلك بعيد؛ فدل أنه ما ذكرنا، وباللّه الرشاد.

وفي قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللّه مَا أَشْرَكُوا} دلالة أن طريق الإسلام الإفضال والإنعام، وللّه أن يخص به من كان أهلا للإفضال والإنعام باللطائف التي عنده، ويحرم بعضًا ذلك، وله أن يجعل بعضهم أهلا لذلك؛ إفضالا منه، ولا يجعل البعض؛ عدلا منه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ}.

أي: لم يؤخذ عليك حفظ أعمالهم، أو لا تسأل أنت عن صنيعهم؛ إنما عليك التبليغ، وهو كقوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} وكقوله - تعالى -: {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ}، ونحوه.

 وقيل: الحفيظ والوكيل واحد، وقيل: الوكيل هو الكفيل، وقد ذكرناه في غير موضع فيما تقدم.

١٠٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه فَيَسُبُّوا اللّه عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ... (١٠٨)

نهانا اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - عن سبِّ من يستحق السبَّ؛ مخافة سبِّ من لا يستحق السبَّ.

فَإِنْ قِيلَ: كيف نهانا عن سبِّ من يستحق السبَّ؛ مخافة سبِّ من لا يستحق، وقد أمرنا بقتالهم، وإذا قاتلناهم قاتلونا، وقتل المؤمن بغير حق من المناكير، وكذلك أمر رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بتبليغ الرسالة والتلاوة عليهم، وإن كانوا يستقبلونه بالتكذيب؟!

قيل: إن السبَّ لأُولَئِكَ مباح غير مفروض، والقتال معهم فرض، وكذلك التبليغ فرض يبلغ إليهم، وإن كانوا ينكرون ما يبلغهم، وكذلك القتال نقاتلهم، وإن كان في ذلك إهلاك أنفسنا وأصله أن ما خرج الأمر به مخرج الإباحة فإنه ينهى عما يتولد منه ويحدث، وما كان الأمر به أمر فرض ولزوم لا ينهى عن المتولد منه والحادث.

ويجوز أن يستدل بهذا على تأييد مذهب أبي حنيفة - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - في قوله: إن من قطع يد آخر بقصاص فمات في ذلك أخذ بالدية، وإذا قطع اليد بحدٍّ لزمه

فمات، لم يؤخذ بها؛ لأنه أبيح له قطع يده، والقصاص لم يفرض عليه، وفي الحدّ، تلزم إقامة الحد للّه، فإذا كان قيامه بفعل أبيح له الفعل، ينهى عما يتولد منه، ويؤخذ به، واذأ كان قيامه بفعل فرض عليه، لم يؤخذ بما تولد منه؛ وعلى هذا يخرج قوله في الأمر بالختان إذا تولد من ذلك الموت؛ لأنه أمر بإقامة السنة، وكذلك الأمر

بالحجامة؛ لأنه يفرض عليه الحجامة في حال إذا خاف عليه الهلاك؛ إذا لم يحتجم وأما الأمر بالدق وغيره مما يشاكله: فهو - أمر إباحة، لا أمر إلزام؛ لذلك ضمن ما تولد منه؛ فعلي ذلك السب الذي يسب آلهتهم إذا حملهم ذلك على سب اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - وسب رسوله لا يسبون، وإن كانوا مستحقين لذلك؛ لأنه قد ينهى الرجل أن يعود نفسه السب؛ فعلى ذلك يجوز أن ينهوا عن سب آلهتهم؛ مخافة الاعتياد لذلك نهوا عن سبّ آلهتهم.

ثم ذكر في القصة أن أصحاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كانوا يسبون آلهتهم فيسبون اللّه؛ عدوا بغير علم، وذكر أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ذكر آلهتهم بسوء؛ فقالوا: لتنتهينَّ عن ذلك أو لنهجونَّ ربك.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - وذلك حين قال لهم رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه حَصَبُ جَهَنَّمَ} الآية، فقالوا عند ذلك ما قالوا؛ فنزل: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ}، ولكن لا ندري كيف كانت القصة، ولكن فيه ما ذكرنا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}.

قال الكيساني وأَبُو عَوْسَجَةَ: {عَدْوًا}؛ من الاعتداء، وهو مجاوزة الحد.

وقال أبو عمرو: {عَدْوٌ}: بالرفع،

وقال: إنما العدو من عدو الرجلين؛ وكذلك قال في يونس: {عَدْوٌ}.

وقيل: فلما نزل قوله: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه فَيَسُبُّوا} الآية، قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لأصحابه: " لا تسبوا ربكم فأمسكوا عن سبّ آلهتهم ".

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ}.

قال أبو بكر الكيساني: إن صلة قوله: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه فَيَسُبُّوا اللّه عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} أنهم كانوا يعبدون هذه الأصنام والأوثان؛ رجاء أن تقرب عبادتهم إياها إلى اللّه؛ لا أنهم كانوا يعبدونها ويتخذونها آلهة دون اللّه؛ فإذا سبّوا معبودهم فكأنهم سبوا اللّه عدوًا بغير علم؛ إذ العبادة في الحقيقة للّه، فيرجع سبّهم إياها إلى اللّه؛ لذلك كان معنى السحت فقال؛ فعلى ذلك رجع قوله: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ}؛ حتى امتنعوا عن سبّ اللّه، فذلك الذي زين عليهم.

وقال الحسن: قوله: {زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ}، أي: زينا عليهم أعمالهم فيما أمروا به، وفرض ويجب عليهم أن يفعلوا، لا فيما لا يفرض ولا يحل لهم أن يفعلوا.

وكذلك يقول جعفر بن حرب والكعبي وغيرهما من المعتزلة: إنه زين عليهم

عملهم الذي فرض عليهم أن يعملوا وياتوا به، وأما ما لا ينبغي أن يقولوا فلا؛ كقوله: {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} الآية ذكر في الإيمان: التزيين، وفي الكفر: التكريه، ويقولون: إنه أضاف التزيين إلى الشيطان بقوله: {زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ}،

وقوله: {الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ}، والشيطان يزين لهم المعاصي والفسوق؛ فلا يحتمل أن يكون اللّه يزين لهم ما يزين الشيطان؛ فدل أنه إنما يزين لهم ما يؤمرون به ويفرض عليهم، ولكن يضاف إليه التزيين ما أضيف إليه حرف الإضلال والإغواء.

وأما عندنا: فالتزيين على وجهين:

تزيين في العقول، وهو تحسين من طريق الآيات والبراهين، فذلك لا يحتمل فعل الكفر والضلال أن يكون مزينا من جهة الآيات والحجج.

والثاني: تزيين في الطباع: بالشهوات، والأماني، وفعل كل أحد مزين بالشهوة والحاجة التي مكنت فيه، ولا شك أن كل كافر لو سئل عن فعله الكفر والضلال؛ فيقول: هذا الذي زين لي، وليس إضافة فعل التزيين إلى اللّه بأكبر وأبعد من إضافة الإضلال والإغواء، وقد ذكرنا معنى إضافة الإضلال والإغواء إليه في غير موضع؛ فعلى ذلك التزيين.

ويقولون -أيضًا-: إن التزيين: تزيين وعد وثواب؛ فالكافر متى يؤمن بالوعد في الآخرة والثواب فيها، وهو ليس يؤمن بالآخرة، فهذا بعيد.

 ولا يحتمل ما قال الكيساني -أيضًا- لأنه لا كل الكفرة كانوا يعبدون الأصنام؛ ليقربهم ذلك إلى اللّه زلفى؛ بل أكثرهم لا يعرفون أن لهم خالقًا وربًّا.

وتحتمل إضافة التزيين إلى الشيطان على جهة التمني والتشهي؛ كقوله: {وَلَأُمَنِّيَنَّهُم} وإضافته إلى اللّه على القدرة عليه والسلطان، أو أن يخلق أعمالهم مزينة عندهم مسولة. وإضافة فعل الضلال والغواية إلى الشيطان على الدعاء إليه والترغيب فيه، وإضافته إلى اللّه على أن يخلق فعل الضلال منهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ}.

قد ذكرناه.

{فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.

في جزيل الثواب، أو في أليم العذاب؛ فهو على الوعيد.

* * *

١٠٩

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَقْسَمُوا بِاللّه جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}.

قالوا: جهد أيمانهم: أيمانهم باللّه، فهذا يخرج على وجوه:

أحدها: أن الحنث في اليمين يخرج مخرج الاستخفاف والتهاون، وإن كان المسلم لا يقصد قصد الاستخفاف باللّه تعالى، وإن كان في اليمين التعظيم، وفي الحنث استخفاف، ففي اليمين باللّه جهد اليمين.

ويحتمل وجهين سوى هذا، وذلك ما قيل: إن الكفرة كانوا لا يحلفون باللّه إلا عند العظيم من الأمور، والجليل منها، وفي غير ذلك كانوا يحلفون بدونه؛ فسمي اليمين باللّه جهد اليمين؛ تعظيمًا للّه وتبجيلا.

والثاني: يحتمل أنهم كانوا يحلفون بأشياء، ويؤكدون اليمين باللّه ويشددونه؛ كقوله: {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا}.

قيل: إنهم كانوا يقسمون جهد أيمانهم {لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا}، كانوا يسألون رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - آيات: لئن جاءتهم ليؤمنن بها؛ من نحو ما قالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا}، وكقولهم: {وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ}، وغير ذلك من الآيات؛ فقال: (قُل) يا مُحَمَّد: {إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللّه} هو الذي يرسلها وينزلها، وأنا لا أملك إرسالها ولا إنزالها؛ كقوله: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللّه}، وغير ذلك من الآيات؛ إنباء منه أنه لا يملك إنزال ما كانوا يسألونه من الآيات، ثم قال: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} واختلف فيه:

قال الحسن وأبو بكر الأصم: إنه خاطب بقوله: {وَمَا يشُعِرُكُم} أهل القسم الذين أقسموا باللّه جهد أيمانهم: لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها؛ فقال: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ}، أي: ما يدريكم أنكم تؤمنون إذا جاءكم آية ثم استأنف، فقال: {أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ}، وهكذا كان يقرؤه الحسن بالخفض: {إِنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} على الاستئناف

 والابتداء.

وقال غيرهم من أهل التأويل: الخطاب لأصحاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ وذلك أنهم لما قالوا: {لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا}؛ ظنوا أنهم لما أقسموا باللّه جهد أيمانهم أنهم يؤمنون إذا جاءتهم آية، يفعلون ذلك ويؤمنون على ما يقولون؛ فقال لهم: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ}، على طرح لا، أي ما يدريكم أنها إذا جاءت يؤمنون ويحتمل فيه وجهًا آخر غلى الإضمار، وكأنه قال: وما يشعركم فاعلموا أنها إذا جاءت لا يؤمنون على الوقف في قوله {وَمَا يشُعِرُكُم} ثم ابتدأ فقال: اعلموا أنها إذا جاءت لا يؤمنون، وهذا كأنه أقرب.

ويحتمل وجهًا آخر: وهو أن أهل الإسلام قالوا: إنهم - وإن جاءتهم آية - لا يؤمنون؛ فقال عند ذلك: {وَمَا يشُعِرُكُم} خاطب به هَؤُلَاءِ {أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ}.

والثاني: أنهم، وإن آمنوا بها، إذا جاءت؛ فنقلب أفئدتهم من بعد.

وعلى هذا التأويل أن خلق تقلب أفئدتهم وأبصارهم كقوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللّه قُلُوبَهُمْ}، أي: خلق زيغ قلوبهم؛ فكذلك الأول.

١١٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠)

أي: نقلب أفئدتهم وأبصارهم بالحجج والآيات، ويردونها؛ فلا يؤمنون كما لم يؤمنوا به أول مرة. وقال أهل التأويل: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ}، أي: نحول بينهم وبين

 الإيمان لو جاءتهم تلك الآيات؛ فلا يؤمنون؛ كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة.

ويحتمل وجهًا آخر: وهو أن، يقلب في أفئدتهم وأبصارهم آيات وحدانيته وألوهيته؛ فلا يؤمنون كما لم يؤمنوا به أول مرة.

ثم تخصيص الأقئدة والأبصار دون غيرها من الجوارح؛ لأن القلب والبصر لا يقع إلا على ما يشهد به على وحدانية اللّه وألوهيته.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: إن هَؤُلَاءِ، وإن جاءتههم آية، فإنهم لا يؤمنون كما لم يؤمن أوائلهم من الأمم الخالية لما سألوا الآيات قبلهم؛ فكذلك هَؤُلَاءِ لا يؤمنون بها، وإن جاءتهم الآية بعد السؤال.

وقال، غيرهم: قوله: {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي: قد جاءتهم آيات قبل هذا على غير سؤال، فلم يؤمنوا بها؛ فكذلك إن جاءتهم بالسؤال، فلا يؤمنون بها.

ويحتمل وجهًا آخر: وهو أن مشركي العرب كانوا يقسمون باللّه: أنه إن جاءهم نذير يؤمنون به، وهو قوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللّه جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ} يعنون - واللّه أعلم - اليهود والنصارى، أي: لو جاءهم نذير ليكونون أهدى من اليهود والنصارى، {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا} يخبر أنهم كما لم يؤمنوا بالنذير عند سؤالهم النذير في الابتداء إذا جاءهم نذير، فكذلك -أيضًا- لا يؤمنون عند سؤالهم الآيات، وإن جاءتهم آيات.

يخبر نبيه وإنهم ليسوا يسألون الآيات سؤال استرشاد، ولكن يسألون سؤال عناد ومكابرة، وهذا التأويل كأنه أقرب.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}.

إذا علم أنهم لا يؤمنون، تركهم في ظلمات ضلالتهم يعمهون، ويتحيرون، والعمه: الحيرة في اللغة.

١١١

(قوله: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى ... (١١١)

قيل: هذه الآية صملة قوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللّه جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} إلى قوله: - {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ}، ثم قال: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا} الآية: أخبر أنهم وإن نزل إليهم الآيات بعد السؤال منهم الآيات: من إنزال الملائكة، وتكليم الموتى - أنهم لا يؤمنون؛ إذ سؤالهم الآيات سؤال تعنت واستهزاء وعناد، لا سؤال استرشاد؛ لأنهم قد جاءتهم آيات لو لم يعاندوا لآمنوا بها، ثم إذا علم منهم أنهم لا يؤمنون، وأن ما يسألون من الآيات إنما يسألون سؤال تعنت وعناد جعل فيهم خصالا على الخذلان من نحو قساوة القلب، حتى أخبر أن قلوبهم أقسى من الحجارة، ومن نحو البغض والجهالة، وغير ذلك من الخصال ما يدل على ما ذكرنا، وهو كقوله: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ}، يخبر عن تعنتهم ومكابرتهم.

وفيه دليل أن الآيات لا تضطر أهلها على الإيمان؛ لأنه قال: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا. .} الآية، لو كانت آيهَ تضطرهم إلى الإيمان لكانت هذه، وهذا يدل على أن معنى قوله: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ}، أنهم لا يؤمنون بالآية، ولكن إذا شاء أن يؤمنوا لآمنوا، ولو كانت الآيات تضطر أهلها إلى الإيمان به لكان لا آية أعظم من القيامة، ولا أبين منها، ثم أخبر عنهم أنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه،

وقال: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللّه رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}، قد كذبوا عند معاينتهم القيامة والعذاب؛ فهذا يدل على أن الآية لا تضطر أهلها إلى الإيمان بها، ويدل أن تأويل قوله: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ}، أنهم يخضعون إذا شاء أن يخضعوا، لا أن الآية تضطرهم على الخضوع بالدلائل التي ذكرنا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللّه}.

قال الحسن: هذه المشيئة مشيئة القدرة، أي: لو شاء اللّه أن يعجزهم حتى يؤمنوا، وهو كقوله - تعالى - {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ}، {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ}، ونحوه فهذه المشيئة؛ مشيئة القدرة، لكنا نقول: إنه أخبر أنه لو شاء أن يمسخهم لمسخهم؛ فقل -أيضًا-: إنه لو شاء أن يهديهم لهداهم، ولو شاء أن يهتدوا لاهتدوا، وكذلك يقول المعتزلة: إن المشيئة - هاهنا - مشيئة القهر والجبر، وقد ذكرنا ألا يكون في حال القهر والجبر إيمان؛ فيصير على قولهم: إلا أن يشاء اللّه أن يؤمنوا فآمنوا فلا يكون إيمانًا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا}: اختلف في تلاوته وتأويله: أعن الحسن، قال {قُبُلًا}: عيانًا، وعن قتادة كذلك {قُبُلًا}: عيانًا: حتى يعاينوا ذلك معاينة.

{مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللّه}، وهو على ما ذكرنا إلا أن يشاء اللّه أن يؤمنوا فيؤمنوا.

وعن مجاهد: {قُبُلًا}، أي: أفواجا قبيلًا، وفي حرف أبي عمرو بن العلاء: {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا}، يقول: جيلا فجيلا.

وفي حرف أبي: {قَبِيلًا}، أي: قبيلة.

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: {قُبُلًا}، أي: جماعة جماعة، وقبلا، أي: أصنافًا.

 ويقال: القبيل: الكفيل؛ كقوله: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللّه وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا}، أي: ضمينا كفيلا.

قال الكيساني: من قرأها {قُبُلاً} فقد تكون جمع (القبيل)؛ مثل (الجبيل) و {الجُبُل}، وقد يكون (القبيل) -أيضًا- من معنى الإقبال؛ كقوله: من قبل ومن دبر.

ومن قرأها {قِبَلا}: أراد معاينة.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: {كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا}، يقال أتانا الناس قبلا، أي: كلهم؛ وقبلا: من المقابلة، وتأويله ما ذكرنا: أن لو فعلنا هذا كله: من إنزال الملائكة إليهم، وتكليم الموتى إياهم، {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا}، فأخبروهم بالذي يقول مُحَمَّد إنه حق {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللّه} لهم الإيمان فيؤمنوا، وفيه ما ذكرنا من الدليل أن الآيات لا تضطر أهلها إلى الإيمان بها إلا أن يشاء اللّه أن يؤمنوا؛ فحينئذ يؤمنون.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ}.

أي: لكن أكثرهم لا ينتفعون بعلمهم.

١١٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا ... (١١٢)

قيل: كما جعلنا لكل نبي من قبل عدوا كذلك نجعل لك عدوا، ويحتمل

أن يكون صلة قوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} ثم قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا}، قال الحسن: إن من حكم اللّه أن بعث رسلا، وأن كل من اتبع رسله يكون وليا له، ومن عصى رسله يكون عدوا له، هذا حكم اللّه في الكل.

وقال جعفر بن حرب والكعبي وغيرهما من المعتزلة: إن قوله: {جَعَلْنَا}، أي: خلينا بينهم وبين ما اختاروا من الكفر والعداوة، يقال: جعل فلان كذا إذا كان مسلطًا على ذلك، وهو يقدر أن يمنعه عن ذلك؛ ويصير التأويل على قول المعتزلة، أي: لم نجعل لكل نبي عدوا؛ ولكن هم جعلوا أنفسهم أعداء لكل نبي.

وقلنا نحن: إن قوله: {جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا}، أي: خلقنا لكل نبي عداوة كل عدو، والجعل من اللّه: هو الخلق؛ كقوله: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا}.

وقوله: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ}. (١)

وقوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا}.

كل جعل أضيف إلى اللّه فهو خلق؛ فعلى ذلك قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا}، أي: خلقنا لكل نبي عداوة كل عدو، ولو كان الحكم على ما قال الحسن، وما قال أُولَئِكَ من التخلية لكان يجوز أن يضاف فعل الكفر وفعل الضلال إلى اللّه، وذلك بعيد.

والثاني: لم يوفق لهم فعل الولاية؛ لما علم منهم أنهم يختارون فعل العداوة على فعل الولاية.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}.

اختلف فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: الشياطين كلهم يكونون من الجن، ثم إنهم يوحون إلى الإنس؛ فيكونون هم الذين يدعون الخلق إلى معصية اللّه؛ فيكونُ من الجن وحيًا إلى الإنس، ومن الإنس إلى الخلق قولا ودُعاء.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: يكونُ من الجن شياطين، ومن الإنس شياطين، تدعو شياطين (١) قال الإمام فخر الدين الرازي:

لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْجَعْلَ عِبَارَةٌ عَنِ الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ، بَلْ لَهُ مَعَانٍ أُخَرُ سِوَى الْخَلْقِ.

أَحَدُهَا: جَعَلَ بِمَعْنَى صَيَّرَ، قَالَ اللّه تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً [الْفُرْقَانِ: ٤٧]. وَثَانِيهَا: جَعَلَ بِمَعْنَى وَهَبَ، نَقُولُ: جَعَلْتُ لَكَ هَذِهِ الضَّيْعَةَ وَهَذَا الْعَبْدَ وَهَذَا الْفَرَسَ. وَثَالِثُهَا:

جَعَلَ بِمَعْنَى الْوَصْفِ لِلشَّيْءِ وَالْحُكْمِ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزُّخْرُفِ: ١٩]،

وَقَالَ: وَجَعَلُوا للّه شُرَكاءَ الْجِنَّ [الْأَنْعَامِ: ١٠]. وَرَابِعُهَا: جَعَلَهُ كَذَلِكَ بِمَعْنَى الْأَمْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً [الْأَنْبِيَاءِ: ٧٣] يَعْنِي أَمَرْنَاهُمْ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ،

وَقَالَ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً [البقرة: ١٢٤] فَهُوَ بِالْأَمْرِ. وَخَامِسُهَا: أَنْ يَجْعَلَهُ بِمَعْنَى التَّعْلِيمِ كَقَوْلِهِ: جَعَلْتُهُ كَاتِبًا وَشَاعِرًا إِذَا عَلَّمْتَهُ ذَلِكَ.

وَسَادِسُهَا: الْبَيَانُ وَالدَّلَالَةُ تَقُولُ: جَعَلْتُ كَلَامَ فُلَانٍ بَاطِلًا إِذَا أَوْرَدْتَ مِنَ الْحُجَّةِ مَا يُبَيِّنُ بُطْلَانَ ذَلِكَ، إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَنَقُولُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَصْفَهُمَا بِالْإِسْلَامِ وَالْحُكْمِ لَهُمَا بِذَلِكَ كَمَا يُقَالُ: جَعَلَنِي فُلَانٌ لِصًّا وَجَعَلَنِي فَاضِلًا أَدِيبًا إِذَا وَصَفَهُ بِذَلِكَ. اهـ (مفاتيح الغيب. ٤/ ٥٢).

الجن - الجن إلى معصية اللّه وهكذا من دعا آخر إلى معصيته والكفر به، ويدعو شياطين الإنسِ الإنسَ إلى ذلك، يدعو كل فريق قومه إلى معصية اللّه، وهكذا من دعا آخر إلى معصية اللّه، فهو شيطان، وكذلك كبراء الكفرة ورؤساؤهم الذين كانوا يدعون أتباعهم وسفلتهم إلى الكفر والضلال باللّه؛ فهم شياطينهم؛ ألا ترى أنه قال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا}.

وقوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا}.

وقوله: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ}.

وغيره من الآيات؛ أن كلَّ من دعا غيره إلى معصية اللّه والكفر به، فهو شيطان.

والشيطان هو البعيدُ من رحمة اللّه؛ شطن أي: بَعُدَ.

وقيل: إن إبليس وكَّلَ شياطين الإنس، يضلونهم ويدعونهم إلى معصية اللّه، ووكَّلَ شياطين بالجن يضلونهم. وهو تأويل الأول.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} أي: يزين بعضهم لبعض القول غرورا، يغرون به.

قَالَ الْقُتَبِيُّ - رحمه اللّه -: زخرف القول غرورا: ما زين به وحسن وموه.

وقال واصل: الزخرف: الذهب؛ ويقال: زخرف الشيء، أي: حسنه.

قال أَبُو عَوْسَجَةَ: الوحي أن يَحْيَى بعينه أو بشفتيه، وهي إشارة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ}

قَالَ بَعْضُهُمْ: لو شاء، ربك خلقهم خلقا لم يركب فيهم الشهوات والحاجات حتى أطاعوه ولم يعصوا؛ كما خلق الملائكة لم يركب فيهم الشهوات والحاجات والأماني، فلم يعصوه.

وقالت المعتزلة: لو شاء ربك لأعجزهم وقهرهم؛ حتى لا يقدروا على معصية اللّه والكفر به فآمنوا واهتدوا.

وعندنا أنه لو شاء ربك لهداهم لاهتدوا، لكن لما علم منهم أنهم يختارون الضلال على الهدى شاء ألا يهديهم. وقد ذكرنا قبح تأويلهم الآية في غير موضع.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} هذا يخرج على الوعيد لهم؛ كقوله: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا}، وكقوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} أي:

 ذرهم وما يختارون؛ فإنك تراهم في العذاب.

١١٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ... (١١٣) قيل: ولتميل قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة إلى زخرف القول الذي كان يوحي ويلقي شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض {وَلِيَرْضَوْهُ} لما كان الذي أوحى وألقى بعضهم إلى بعض من زخرف القول الذي يوافق هواهم، وكل من ظفر بما يوافق هواه فإنه يرضى به؛ كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا}، لأنهم كانوا لا يؤمنون بالآخرة ولا يرجون لقاءه وكانت همتهم هذه الدنيا ورضوا بها واطمأنوا فيها.

ويحتمل قوله: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ} أي: إلى الكتاب {أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ}؛ أي: ليس ميل قبول منهم له، ولكن ميل طلب الطعن فيه، وهكذا كانت همة أُولَئِكَ الكفرة، وعادتهم طلب الطعن فيه، والأول أشبه.

ثم إن كان زخرف القول الذي أوحى بعضهم إلى بعض من كبرائهم وعظمائهم، فقد أشرك - تعالى - هَؤُلَاءِ وأُولَئِكَ في الكذب الذي كان منهم كان من الكبراء الدعاء إلى ذلك، ومن الأتباع الرضا والإجابة؛، وكان منهم التزيينُ والزخزفة، ومن الأتباع القبولُ والرضا به، فقد اشتركوا جميعًا في ذلك الكذب، والقول: الغرور.

وقوله: {وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} اختلف فيه:

قال قائلون: قوله: {وَلِيَقْتَرِفُوا} يعني: هَؤُلَاءِ الأتباع {مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} أي: ليكتسبوا هَؤُلَاءِ الأتباع من الكذب ما كان. أُولَئِكَ يكتسبون من العذب.

وقيل: {وَلِيَقْتَرِفُوا} أُولَئِكَ المتبوعون من الكذب {مَا هُم} يعني: هَؤُلَاءِ الأتباع {مُقْتَرِفُونَ} من القول الغرور والزخرف.

ثم اختلف في الاقتراف:

قَالَ بَعْضُهُمْ: الاكتسابُ؛ اكتسابُ كل شيء.

 وقال قائلون: الاقترافُ هو موافقة الذنب والإثم واللّه أعلم.

١١٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَفَغَيْرَ اللّه أَبْتَغِي حَكَمًا}:

كان أُولَئِكَ الكفرة دعوا رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى حكم يحكم بينهم في منازعة وقعت بينهم؛ إما في الرسالة وإما في الكتاب، فقال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: {أَفَغَيْرَ اللّه أَبْتَغِي حَكَمًا} ثم بين فقال: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} كيف أبتغي حكما غير اللّه وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا، ما تعلمون أنه من عند اللّه نزل عجز الخلائق عن إتيان مثله.

ثم اختلف في قوله: {مُفَصَّلًا} قيل مُفَصَّلًا، بالحجج والبراهين ما يعرف كل عاقل لم يكابر عقله أنه من عند اللّه نزل.

وقيل: مُفَصَّلًا بالأمر، والنهي، والتحليل، والتحريم، فيقول كيف أبتغي حكما غير ما أنزل اللّه، وقد أنزل كتابًا مُفَصَّلًا مبينًا، فيه ما يحل وما يحرم، وما يؤتى وما يتقى، فلا حاجة تقع إلى غير اللّه.

وقيل: مُفَصَّلًا بالوعد والوعيد وما يكون له عاقبة؛ لأن العمل الذي يكون للعاقبة يكون فيه وعد ووعيد.

وقيل: مُفَصَّلًا مفرقًا؛ أي: أنزله بالتفاريق لم ينزله مجموعًا جملة، ما يقع بمسامع

 كل أحد علم ذلك وبيانه، فأنى تقع بي الحاجة إلى حكم غيره.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} اختلف فيه:

قيل: الذين آتيناهم الكتاب أي: أهل التوراة، والإنجيل يعلمون أنه منزل من ربك بالحق.

وقيل: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ}؛ يعني: من أعطى هذا الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق؛ لما عجزوا عن إتيان مثله وتأليفه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}.

يحتمل: لا تكونن من الممترين: أنهم قد غيروا ما في كتابهم من الأحكام ومن نعتك وصفتك.

ويحتمل: فلا تكونن من الممترين: أنه من عند اللّه نزل، مع علمه أن رسوله لا يكون من الممترين؛ ليعلم الخلق أنه إذا نهى رسوله عن مثل هذا، فغيره أحق.

أو أن يخاطب من طلب حكم غيره، ويقول: لا تكونن من الممترين أنه من عند اللّه نزل.

١١٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ... (١١٥)

قيل: صدقا في الأنباء والوعد، وعدلا في الأحكام.

تمت أنباؤه بالصدق وأحكامه بالعدل؛ حتى يعرف كل أحد صدق أنبائه وعدلَ أحكامه.

وقيل: وتمت كلمة ربك صدقًا وعدلا بالحجج والبراهين؛ لما يعرف كل من تأمل فيها ونظر صدقها وعدلها: أنها من اللّه.

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} هذا تفسيرُ التمام: أنها تمت تمامًا لا يردُ عليها النقص ولا الجور ولا الخلف، ليس ككلمات الخلقِ؛ أنها تبدل وتنقص وتمنع؛ لما يكون فيها من النقصان والفساد، فإنها تبدل وتنقص ويعجزون عن وفاء ما وعدوا، ويمنعون عن ذلك، فاللّه يتعالى عن أن يبدل كلماته، أو يمنع عن وفاء ما وعد وأنبأ؛ إذ يجوز في حكمه.

ويجوز أن يستدل بقوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} لقول أصحابنا؛ حيث قالوا: من قال لامرأته: " أنت طالق أتم الطلاق وأعدل الطلاق " فإنه يقع بما وافق السنة، ليس يرجع ذلك إلى التمام وإلى العدد؛ لأنه أخبر أن تمت كلمته صدقًا وعدلا، والموافق للسنة هو الحق وهو العدل.

ويحتمل الاستبدال لكلماته {لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} أي: لا مبدل لوعده ووعيده؛ يكونُ ما وعد وأوعد.

ويحتمل: لا مبدل لحججه وبراهينه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَهُوَ السَّمِيعُ} أي: السميع بما ألقى الشياطين وأوحى بعضهم إلى بعض {العَلِيمُ} بأفعال هَؤُلَاءِ وإجابتهم إياهم وأهل التأويل يصرفونه إلى خاص من القول؛ وبعضهم يقولون: إن قوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} هو قوله: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}.

وقال آخرون: إن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - دعاه أهل الكفر إلى عبادة الأوثان.

ولكن هو يرجع - واللّه أعلم - إلى كل نبأ ووعد ووعيد وكل خبر يخبر.

١١٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللّه ... (١١٦) في

 الآية دلالة أن أكثر أهل الأرض كانوا ضلالا، أوعباد الأوثان، والأصنام؛ لأنه قال: {أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يُضِلُّوكَ} لأنهم إلى الضلال كانوا يدعونه.

ثم الخطاب وإن كان لرسول اللّه في الظاهر، فهو لكل مؤمن؛ إذ معلوم أن رسوله لا يطيعهم فيما يدعونه إلى عبادة الأوثان في الأرض.

وفيه أن في الأرض كان من يعبد اللّه وكان على دين الأنبياء والرسل.

وقوله: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللّه} ذكر في القصة أن أهل الكفر دعوا رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى عبادة الأوثان، ويقولون: إنهم يعبدون اللّه في الحقيقة؛ كقولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى}، ويقولون {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّه}، كأنهم يعبدون الأوثان ويرتكبون الفواحش ويقولون اللّه أمرنا بها فأخبر رسوله: أنك لو أطعت هَؤُلَاءِ إلى ما يدعونك من عبادة هذه الأصنام أضلوك عن سبيل اللّه؛ لأنهم لا يعبدون هذه الأصنام إلا ظنُّا يظنون؛ كقوله: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} أي: ما يتبعون إلا الظن {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} ما هم إلا يكذبون على اللّه في قولهم: إن ذلك يقربهم إلى اللّه زلفى، وقولهم: {وَاللّه أَمَرَنَا بِهَا}.

١١٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧)

يعلم من يزيغ ويضل عن سبيله {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}، ويعلم من يهتدي به.

وفي قوله: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ}. دلالة على أنه على علم منه بالضلال والتكذيب بعث الرسل إليهم وأرسل الكتب، لا عن جهل منه، لكن صار بعث ما بعث من الرسل والكتب إليهم حكمة على علم منه بما يكون منهم؛ لأنه إنما يبعث لمكان المرسل إليهم ولحاجتهم.

١١٨

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّه عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} صرف أهل التأويل الآية إلى أهل الكفر وقالوا: ما بالكم تأكلون ذبائحكم التي ذبحتم ولا تأكلوا ما ذبح اللّه وذكاه صرفوا الخطاب به إلى أهل الشرك.

والأشبه أن يصرف الخطاب به إلى أهل الإسلام؛ لأنه ذكر في آخره {إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} ومثل هذا لا يذكر في أهل الشرك إنما ذكر لخطاب أهل الإسلام، كقوله: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّه فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}،

وقوله: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، ونحوه من الآيات.

فعلى ذلك: الأشبه أن يصرف الخطاب بها إلى أهل الإسلام؛ كأنَّ قومًا من أهل الإسلام منعوا أنفسهم عن التناول من هذه الذبائح واللحوم، فنهوا عن ذلك؛ من

نحو ما روي في بعض القصة: " أن نفرا من أصحاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - هموا أن يخصوا أنفسهم وألا يعطوا أنفسهم شهواتهم وألا يتناولوا شيئًا من الطيبات، فنهوا عن ذلك.

وقيل: فيهم نزل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّه لَكُمْ} فيشبه أن يكون قوله: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّه عَلَيْهِ}، فيهم أو لما علم أن قومًا من المتقشفة والمتزهدة يحرمون ذلك على أنفسهم، فنهوا عن ذلك.

فإن كان ما قال أهل التأويل فهو - واللّه أعلم - كأنه قال: فكلوا مما ذكر اسم اللّه عليه إن كنتم بآياته مؤمنين، بما تعلمون أن الخلق والأمر له، وقد أنشأ لكم من الآيات

 ما تعلمون به ذلك، فكيف تحرمون ما ذكر اسم اللّه عليه، ثم أمر بأكل ما ذكر اسم اللّه عليه، وعاتب من ترك الأكل مما ذكر اسم اللّه عليه

١١٩

 بقوله: (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّه عَلَيْهِ ... (١١٩) ولم يبين بم وبأي وجه بالذبح أو بغيره؟ وكذلك قوله: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}، ولم يبين من أي وجه، لكن الناس اتفقوا على صرف ذلك إلى الذبح، فكان الذبح مضمرا فيه؛ كأنه قال: كلوا مما ذبح بذكر اسم اللّه عليه، وما لكم ألا تأكلوا مما ذبح بذكر اسم اللّه عليه.

ثم لا يخلو اتفاقهم بمعرفة ذلك: إما أن عرفوا ذلك بالسماع من رسول اللّه، أو عرفوا ذلك بنوازل الأحكام؛ إذ ليس في الآية بيانُ ذلك.

فكيفَما كان، ففيه دلالة نقض قول من يقول بأن من عرف نوازل الأحكام أو كان عنده رواية، فتركَ روايته، يفشَق؛ لأنه لما لم يذكر هاهنا النوازل ولا السماع دل أنه لا يفسق؛ إذ كان قوله: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّه عَلَيْهِ} ذكر لمكان قول الثنوية؛ لأنهم

يحرمون الذبائح ويقولون: ليس من الحكمة إيلام من لا ذنب له. أو ذكر لمكان قول من يقول: إنكم أكلتم ما تذبحون بأيديكم ولا تأكلون ما تولى اللّه قتله.

ثم قوله: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّه عَلَيْهِ}،

وقوله: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّه عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} أباح - عَزَّ وَجَلَّ - من الأنعام ما ذكر اسم اللّه عليه، وحظر ما لم يذكر اسم اللّه عليه، ونهى عن أكله بقوله: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّه عَلَيْهِ} وبقوله: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّه بِهِ}، جعل المهَلَّ لغير اللّه ميتةً حراما، وجعل المذكور اسم اللّه عليه ذكيًّا حلالا؛ فدل أن التسمية شرطٌ في أكل الذبيحة؛

لأنه لو لم تكن شرطا في حل الذبيحة لم يكن الْمُهلُّ به لغير اسم اللّه ميتة حراما، ولأنه سمى ما لم يذكر اسم اللّه عليه فسقا، والفسقُ هو الخروج عن أمر اللّه؛ كقوله: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}، أي: خرج؛ فدل أن التسمية شرط فيها.

ولهذا يحل لنا ذبائح أهل الكتاب إذا سمعناهم يذكرون اسم اللّه عليه، وإن كانوا ما يذكرون في الحقيقة غير اللّه؛ لأنهم لا يعرفون اللّه حقيقة، ولكن إذا ذكروا اسم اللّه عليه تحل لنا.

ولا يحل ذبائح أهل الشرك؛ لأن أهل الشرك لا يرون الذبائح رأسًا؛ يذهبون مذهب الزنادقة، والزنادقة لا يرون الذبائح؛ يقولون لنا: إنكم تقولون: إن ربكم رحيم حكيم، وليس من الحكمة والرحمة أن يأمر أحدًا بذبح آخر ويقتله؛ فيأكلون الميتة ولا يرون أكل الذبيحة، ويقولون: ليس هذا أمرَ مَن كان موصوفًا بالرحمة أو بالحكمة.

لكنا نقول: إن كراهة الذبح والنفور عنه نفور طبع وكراهته كراهة طبع لا كراهة العقل.

فما يكرهه الطبع وينفر عنه يجوز أن يباح لما يعقب نفعًا في المتعقب نحو ما يباح الافتصاد والحجامة والتداوي بأدوية كريهة لنفع يعقب ويتأمل، وإن كان الطبع يكرهه وينفر عنه وليس هو مما يقبحه العقل إنما لا يجوز أن يباح بفعل ويؤمر به مما يقبحه العقل ويكرهه.

وأما كراهة الطبع ونفوره فإنه يجوز أن يباح لما ذكرنا ويرتفع ذلك بالعادة؛ فعلى ذلك الذبح كراهته كراهة الطبع لا كراهة العقل ونفوره.

والثاني: أن هذه الأشياء كلها إنما خلقت لنا وسخرت لمنافعنا لم تخلق لأنفسها، فإذا كان كذلك يحل لنا ذبحها والتناول منها بأمر الذي أنشأها لنا وسخرها لنا.

وبعد، فإن من مذهبهم أن العالم إنما كان بامتزاج النور والظلمة، والروحُ من النوراني والجسم من الظلماني ففي الذبح استخراج الروح ورده إلى أصله؛ إذ من قولهم: إنه يرجع كل إلى أصله في العاقبة، على ما كان في الأول.

وأما الجواب عما قاله أهل الشرك: " أكلتم ما ذبحتم أنتم وتركتم ذبيحة اللّه " فوجهان:

أحدهما: ما قاله أهل التأويل: أن الخلق له وله الحكم عليهم؛ فأحل لهم هذا وحرم عليهم هذا.

والثاني: تعبدنا بذكر اسمه عليها؛ فصار فيما ذكر اسم اللّه إقامة عبادة تعبدنا بها، وفيما لم يذكر لم يكن عبادة؛ لذلك حل لنا ما كان في ذلك إقامة عبادة، ولم يحل لنا ما لم يكن فيها إقامة عبادة واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّه عَلَيْهِ} هو في الظاهر أمر، لكن الأمر الذي يرجع إلى شهوات النفس ولذاتها فإنه يخرج على وجهين:

إما أن يخرج على بيان ما يحل، أو النهي عما لا يحل؛ فهاهنا خرج على بيان ما يحل وتحريم ما لا يحل؛ كأنه قال: كلوا مما ذكر اسم اللّه عليه، ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم اللّه عليه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ}.

هو صلة قوله: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّه عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} أي: ما لكم ألا تأكلوا وقد بيِّن لكم ما حرم عليكم من الميتة والدم ولحم الخنزير.

{إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ} لأن أهل الشرك والزنادقة كانوا لا يرون أكل الذبيح، ويأكلون الميتة والدم فلهم خرج الخطاب {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّه عَلَيْهِ} وقد بين لكم ما حرم عليكم، وهو الميتة والدم: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ}.

قال الحسن: له أن يتناول من الميتة حتى يشبع؛ لأنه أحل له التناول، وعلى قولنا: لا يحل له الشبع؛ لأنه إنما أحل عند الاضطرار أوهو غير مضطر إلى

الشبع.

ويقول الحسن: لو ترك التناول منها حتى هلك لا شيء عليه؛ يقول: لأنه إنما أحلت له رخصة ورحمة، وليس على من لم يعلم بالرخص إثم، ولكن عندنا أنها أبيحت في حال الاضطرار؛ فإذا ترك التناول منها حتى هلك صار ملقيا نفسه في التهلكة، وقد حرم اللّه علينا أن نهلك أنفسنا أو نلقيها في التهلكة بقوله: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}، ولا فرق بين ترك التناول من الميتة - وقد أحل لنا التناول منها - حتى مات وبين ترك التناول من غيرها من الأطعمة المحللة، أو يأتي بأسباب إتلاف النفس؛ فهما سواء.

ويقول -أيضًا-: له أن يتناول عند الاضطرار من مال غيره بلا بدل، وإذا نهى صاحبه عن ذلك يضمن بدل ذلك بالغًا ما بلغ فهذا بعيد.

لا يجوز أن يتناول من مال غيره ولا يلزمه البدل، وإذا نهاه عن ذلك يلزمه البدل؛ لأن

من كان له حق التناول من مال آخر بغير بدل، ثم إذا نهى أو منع يلزمه البدل دل أنه

 ليس له التناول إلا ببدل، وقد ذكرنا هذا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ}، دل هذا على أن الكل منهم لم يكونوا يضلون؛ ولكن البعض، هم الأئمة منهم والرؤساء؛ لأن الأتباع منهم كانوا لا يضلون الناس؛ إنما كانوا يضلون الكبراء منهم والعظماء، {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ}.

وقد ذكرنا هذا فيما تقدم.

١٢٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ... (١٢٠)

اختلف فيه:

فقيل: وذروا ظاهر الإثم بظاهر الجوارح وباطنها، ظاهر الجوارح من نحو: اليد، والرجل، واللسان، والعين.

وباطن الجوارح: القلوب، والضمائر.

وقيل: ذروا الإثم في ملأ من الخلق، وفي الخلاء منهم.

وقيل: ظاهر الإثم: ما ذكرنا، وباطنه: الزنا.

قال أبو بكر الكيساني: الزنا هاهنا لا يحتمل؛ لأن الآية في ذكر أما يحل من الأطعمة وما لا يحل، ولكن يجوز أن ابتدأ النهي عن الزنا، وإن كان أول الآية في ذي الأطعمة؛ ويصير قوله: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} كأنه قال: وذروا المآثم كلها ما ظهر منها وما بطن.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ}.

لا يتركون وما عملوا؛ ولكن يجزون جزاء ما عملوا من الإثم، وهو وعيد

 لمن {يَكسِبُونَ الإثمَ} ويصرون عليه ولا يتوبون ولا ينقلعون عنه حتى ماتوا على ذلك بما ذكر.

١٢١

وقوله: (وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّه عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ... (١٢١)

قَالَ بَعْضُهُمْ: هو الميتة، وهو قول ابن عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللّه عَنْهُ.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: ما أهل به لغير اللّه.

وقلنا نحن: هو ما لم يذكر اسم اللّه عليه؛ لأن اللّه قد صرح بتحريم الميتة بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} وصرح بتحريم ما أهل لغير اللّه به بقوله: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّه بِهِ}: فإذا كان الميتة وما أهل لغير اللّه به تصريح وتحريم في غير هذا الموضع؛ رجع هذا الخطاب إلى تحريم ما لم يذكر اسم اللّه عليه وكذلك صرح بتحريم الميتة وما أهل لغير اللّه به بقوله؛ {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا. . .} الآية؛ فقوله - تعالى -: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} كان لا يجد في ذلك الوقت ثم وجد ما لم يذكر اسم اللّه عليه محرمًا في حادث الوقت، وكذلك وجد كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير محرمًا في حادث الأوقات، كان لا يجد في ذلك الوقت محرمًا إلا ما ذكر، ثم وجد أشياء

محرمة من بعد.

وقَالَ بَعْضُهُمْ من أهل التأويل قوله: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّه عَلَيْهِ}: حين قالوا: ما قتلتم وذبحتم أنتم فتأكلونه، وما قتل ربكم فتحرمونه، وأنتم تعظمون ربكم؟! وهو من زخرف القول الذي يوحي بعضهم إلى بعض ما ذكر {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ}.

لكنا نقول إن ما ذبح وقتل هو ذبيح باللّه، وقتيل به أيضا؛ فقد أذن لنا بأكل بعض الذبيح وحرم أكل بعض، وللّه أن يفعل ذلك، له أن يأذن في أكل بعض وتحريم أكل بعض، على ما أذن لنا في أكل بعض ما خلق اللّه من الأنعام ولم يأذن في أكل بعض؛ فعلى ذلك قد أذن في أكل بعض ما ذبح به وقتل ولم يأذن في بعض، وهو كله ذبيح باللّه وقتيل به، وله ذلك.

والثاني: أن الخلق كله له ملكه، ولا يقال لأحد في ملكه: لم فعلت ذا؟ ولم تفعل ذا؟ إنما يقال ذلك في غير ملكه: كشريك يقول لشريكه: لم تعطني حقي، ولم توفر على نصيبي، فأما أن يقول في ذي ملك في ملكه فلا.

والثالث: ما ذكرنا: أنه تعبدنا بذكر اسم اللّه عليه فكان في ذكر اسم اللّه عليه إقامة عبادة؛ لذلك لم يجز هذا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}، أخبر أنه ما لم يذكر اسم اللّه عليه فسق، كما أخبر أن التناول من الميتة وما أهل لغير اللّه به فسق، والفسق: هو الخروج عن أمر اللّه، والذي ترك ذكر اسم اللّه عليه: خارج عن أمر اللّه - تعالى - كالميتة التي ذكرنا، فإن قال قائل: إن قول اللّه: {لَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّه عَلَيْهِ}؛ فكيف يجوز لكم أن تطلقوا أكل الذبيحة إذا ترك ذكر اسم اللّه ناسيًا؟! قيل الخطاب بهذا لم يرجع إلى الذبيحة التي ترك ذكر اسم اللّه عليها ناسيًا، لأن الذبائح إنما هي من عمل القصَّابين والصبيان؛ فهم لم يعودوا أنفسهم ذكر اسم اللّه حتى يؤاخذوا بها على حفظ ذلك.

وهذا أصلنا: أن من لم يعود نفسه فعلًا يعذر في تركه وارتكابه في حال السهو والنسيان؟! كالأكل في شهر رمضان ناسيًا؛ لأنه عود نفسه الأكل والشرب، والصوم هو الكف عما اعتاد؛ فعذر في التناول منه والعود إلى العادة على السهو؛ لأنه يشتد على الناس حفظ النفس على خلاف العادة، ولأن اللّه - تعالى - قال: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}، ولا خلاف في أن من نسي أن يسمي اللّه على ذبيحة - فليس بفاسق؛ وإنما يفسق من تركها عامدًا؛ فدل أن الخطاب بالآية رجع إلى الذبيحة التي تركت التسمية عليها عمدًا.

فَإِنْ قِيلَ: ليس يجوز أن يكون قوله: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}: يريد به أن الذي يأكل منها إذا لم يسم اللّه عليها عامدً أو ساهيًا - فاسق، وإن كان هذا هو التأويل؛ فالآية على الأكل، الدليل، على أن، قوله: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} إشارة إلى الذبيح الذي ترك ذكر اسم اللّه عليه عمدًا، دون أن يكون ذلك، إشارة إلى أن الأكل من تلك الذبيحة فسق - قول اللّه - تعالى -: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّه بِهِ}: فكان الإهلال بالذبيحة لغير اللّه فسقًا لمن فعله؛ فوجب أن يكون ترك اسم اللّه على الذبيحة فسقًا ممن تعمده، وذلك يوجب أن يكون قول اللّه: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّه عَلَيْهِ} خاصًّا في المتعمد لترك التسمية.

فَإِنْ قِيلَ: كيف لم تجعلوا تارك التسمية ناسيًا كتاركها عمدًا؛ كما قلتم في التكبيرة الأولى في الصلاة: إن عمده وسهوه سواء؟

قيل: من قبيل أن الذبيحة إذا تعمد صاحبها ترك التسمية عليها إنما حرمت بنص القرآن؛ لأنه فسق فقلنا: متى زال الفسق عن الذابح زال التحريم عن الذبيحة؛ لأن التحريم إذا وقع لعلة، فزالت العلة - زال التحريم، ولم نقل: إن صلاة التارك للتكبيرة الأولى فسدت صلاته؛ لأنه فسق بتركه التكبيرة عمدًا؛ فيلزمنا أن نفرق بين سهوها وعمدها؛ بل فسدت صلاته لأنه صلى بغير تكبير؛ فالتارك للتكبير عامدًا أو ساهيًا؛ تارك؛ فهما سواء، وروي في الخبر ما يؤيد ما قلنا: رُويَ عن راشد بن سعد قال: قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " ذبيحةُ المسلم حلالٌ سمى أو لم يسم ما لم يتعمد ".

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - في رجل ذبح ونسي أن يذكر اسم اللّه، قال: " اسم اللّه في قلب كل مسلم؛ فليأكل ".

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ}.

أهل التأويل صرفوا تأويل هذا إلى أن زخرف القول الذي يوحي بعضهم إلى بعض، في الآية الأولى هو مجادلتهم في الذبيحة " حيث قالوا: ما قتلتم بأيديكم فتأكلونه، وما قتل اللّه فلا تأكلونه؟! يعنون: فتلك مجادلتهم إياهم، ولكن يجادلون في هذا في وحدانية اللّه - تعالى - وفي إثبات الرسالة، والبعث بعد الموت، وفي كل شيء؛ حيث قالوا: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} فأخبر أنهم لو أطاعوهم إنهم لمشركون أي: لو أطعتموهم فيما يجادلونكم ويوحون إليكم {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}.

١٢٢

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا}.

يشبه أن يكون المثل الذي ضرب اللّه للمؤمن والكافر في الآية أن من كان في ظلمات البطن لا يبصر ولا يسمع ولا يعقل شيئًا، ثم أخرج من ذلك؛ فأبصر وسمع وعقل كمن ترك في تلك الظلمات ولم يخرج منها لا يبصر، ولا يسمع، ولا يعقل، يقول - واللّه أعلم -: لا يستوي من أخرج من ظلمات البطن بعد ما كان لا يبصر، ولا يسمع، ولا يعقل، ولا يفهم، ثم أبصر وسمع وعقل - والذي ترك في تلك الظلمات على الحال التي كان كما هو: لا يبصر، ولا يسمع، ولا يعقل؛ فعلى ذلك لا يستوي المؤمن الذي يبصر الحق ويسمع ويعقل كل خير ويعلمه، وجعلنا له نورا يمشي به في الناس بنوره، وله أصحاب يدعون الناس إلى الهدى والخير - والكافر: الذي لا يبصر الخير ولا يسمع ولا يعقل، وليس له أصحاب يدعونه إلى الهدى والخيرات، أي: ليس هذا الذي يبصر ويسمع ويعقل كالذي لا يبصر ولا يسمع ولا يعقل.

وجائز أن يكون المثل الذي ضرب اللّه: أن يكون المؤمن والكافر جميعًا حيين في الجوهر، لكن المؤمن اكتسب ما به يحيا أبدًا من العلم، والقرآن، والإيمان.

والكافر لم يكتسب من ذلك شيئًا؛ فهو كالميت الذي لا يبصر ولا يسمع الحق ولا يعقل.

ويحتمل هذا المثل وجهًا آخر، وهو أن المؤمن يكتسب في الدنيا الخيرات، والأعمال الصالحة، ويكون له نور في الآخرة بالأعمال التي اكتسب في الدنيا، ويمشي بنور ذلك فيما بين الناس في الآخرة، وأما الكافر فإنه لم يكتسب من ذلك شيئًا؛ فيبقى في الظلمات، كقوله: {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ}: والمعتزلة يقولون: هم جعلوا لأنفسهم نورا يمشون به في الناس، وقد أخبر أنه هو الذي يجعل لهم ذلك النور؛ فذلك تحريف منهم ظاهر للقرآن.

وكذلك قوله: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}؛ وهم يقولون: هو قدير على بعض الأشياء.

وقال: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}: وهم يقولون: هو خالق بعض الأشياء.

وقال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ}، وهم يقولون: يشاء ألا يفعلوا ما فعلوا، ولكن فعلوا غير ما شاء اللّه.

وكذلك قوله: {جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا}: وهم يقولون: لم يجعل لكل نبي عدوا وهم جعلوا أنفسهم لهم أعداء.

وكذلك قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا}:

وهم يقولون: جعل الأكابر فيها؛ لئلا يمكروا فيها.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.

اختلف فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: كما زينا للمؤمنين عبادة اللّه كذلك زينا للكافرين عبادة اللّه، لكنهم عاندوا وصرفوا العبادة إلى غير اللّه، وهو تأويل المعتزلة.

وقال قائلون: زين لهم أعمالهم التي يعملونها.

ثم اختلف في الذي زينها: قال الحسن: زين الشيطان أعمالهم لهم.

وقال غيره: زينها الأكابر على الأصاغر.

وقال قائلون: زينها اللّه، ولكن ما أضيف إلى الشيطان من التزيين والإضلال إنما يضاف إلى ما يدعوهم ويحثهم على ذلك ويوحي إليهم، وما يضاف إلى الأكابر: القول والدعاء إلى ذلك، وما يضاف إلى اللّه من: التزيين، والإضلال، والإزاغة، وغير ذلك يضاف للخلق، أي: خلق منهم: فعل الضلال، وفعل التزيين، وفعل الزيغ، يضاف إلى اللّه خلقًا، وإلى الشيطان والأكابر: دعاء ووحيًا وإلقاء، على هذا يخرج جميع الإضافات، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا}.

أي: جعل في كل قرية من أهل الكفر أكابر مجرميها، وعظماءها، كما جعل في قريتك أكابر مجرميها؛ يصبر رسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على ذلك ليعلم أنه ليس بمخصوص هو بهذا دون غيره من الأنبياء.

ثم اختلف في قوله: {جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا}، وقد ذكرنا أقاويلهم في قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا}، ثم قوله: {جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا}.

قالت المعتزلة: لم يجعل الأكابر فيها ليمكروا فيها؛ ولكن لما وسع الدنيا وبسطها عليهم مكروا فيها، وكذلك قالوا في قوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} لا يجوز أن يخلقهم لجهنم؛ ولكن لما عملوا أعمال الكفر والضلال صاروا لجهنم.

وقالوا: هو على الإضمار؛ كأنه قال: كذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها لئلا

يمكروا أفيها، لكنهم مكروا فيها لما ذكرنا.

لكن قوله: {جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا} ليكون أدعى وأظهر للحجج؛ لأنه لو كان بعث الرسل أكابر لكان الناس يتبعون الأكابر وإن لم يأتوا بالحجج وغيرهم لا يتبعون إلا بالحجج والآيات.

ومنهم من يقطع قوله: {لِيَمكُرُوا فِيهَا} عن قوله: {جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ}، يقول: معناه: وكذلك جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر، ثم قال: {لِيَمْكُرُوا فِيهَا}، أي: ما جعل ذلك لهم ليمكروا.

ومنهم من يقول: هو إخبار عمَّا إليه صار أمرهم؛ كقوله: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا}: وهم لم يلتقطوه ليكون لهم عدوا وحزنًا؛ إنما التقطوه ليكون لهم وليًّا، لكنه لما صار في العاقبة عدوا لهم أخبر عما آل إليه أمره؛ فعلى ذلك قوله: {لِيَمْكُرُوا فِيهَا}: أخبر عما إليه صاروا من المكر.

وعندنا: لا يخلو هذا إما أن يقال: إنه يخلقهم لغير المكر والضلال، وهو يعلم أنهم لا يكونون لما يخلقهم؛ فذلك ليس فعل حكيم: أن يعمل عملا يعلم أنه لا يكون، نحو: من يبني بناء يعلم أنه لا يسكن، أو يقصد قصد موضع يعلم أنه لا يصل إليه؛ فهو بالقصد عابث ليس بحكيم؛ فعلى ذلك اللّه - سبحانه - لا يجوز أن يخلقهم للّهدى والعبادة له مع علمه أنهم لا يكونون لما يخلقهم، أو أن يخلقهم لذلك وهو لا يعلم أنهم يكونون كذلك؛ فهو جهل بالعواقب؛ فاللّه يتعالى عن ذلك؛ فدل أنه خلقهم ليكونوا على ما علم أنهم يكونون ويختارون ذلك.

وقوله: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا}: كان عند اللّه أنهم يلتقطونه ليكون لهم عدوًّا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}.

أي: ما يشعرون أن عاقبة مكرهم ترجع إليهم أو واقع فيهم.

وأصله أن اللّه - تعالى - جعلهم وخلقهم على ما علم منهم أنهم يختارون ويكون

 منهم ذلك.

١٢٤

وقوله: (وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّه ... (١٢٤)

يخبر - عَزَّ وَجَلَّ - عن غاية سفههم وتعنتهم وأنهم على علم يعاندون ويتكبرون على رسول اللّه لأنهم علموا أن ما نزل على رسول اللّه آية، وأنه رسول حيث قالوا: لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل اللّه وعلموا أن الرسالة لا تجعل إلا في المعظم عند اللّه والمفضل لديه حيث تمنوا أنهم لا يؤمنون حتى يؤتوا من الآيات مثل ما أوتي رسل اللّه، ولو لم يكن كذلك لم يكونوا يتمنون إيتاء ما أوتي الرسل، وعلموا أن هذا القرآن الذي أنزل على مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - آية وحجة، وأنه من عند اللّه نزل؛ حيث قالوا: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}، وعلموا -أيضًا- أن الرسالة لا تجعل إلا في عظماء من البشر وكبرائهم؛ حيث قالوا: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}، لكنهم ظنوا أنها إنما تجعل في العظماء الذين هم عند الخلق عظماء؛ فقال اللّه - تعالى -: {اللّه أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} فتناقضت أقاويلهم وحجاجهم بما ذكرنا من إقرارهم بالرسل والآيات، وتفضيلهم على غيرهم من البشر ثم قال: {اللّه أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}.

جملة جواب ما قالوا: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}

على أن يقال: إنكم عرفتم أن اللّه عالم قادر؛ فهو أعلم حيث يجعل رسالته. ثم اختلف في قوله: {اللّه أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}:

قَالَ بَعْضُهُمْ: جعل الرسالة في أوساط الناس أظهر للحجج وأبين من جعلها في أكابر الناس وعظمائهم في الدنياوية؛ لأن الناس مجبولون على اتباع الأكابر والأعاظم؛ فلو جعلت الرسالة فيهم لكانت الحجج لا تظهر؛ لأنهم جبلوا على اتباعهم، وأما أوساط الناس في الدنياوية: إذا جعلت فيهم الرسالة لظهرت الحجج والبراهين؛ لأنهم لم يجبلوا على اتباع الأوساط من الناس؛ فكان اتباعهم للحجج والبراهين.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {اللّه أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} أي لا تجعل الرسالة فيمن

 يضيع وليس هو بأهل لها ولا موضعها؛ لأنه لو جعل لكان في ذلك تضييع الرسالة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللّه}.

أخبر أن من تكبر على رسول اللّه وعانده يكن له عند اللّه: صغار، ومذلة، وعذاب شديد؛ بصنيعهم الذي صنعوا.

١٢٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنْ يُرِدِ اللّه أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ... (١٢٥)

قيل: سئل رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن هذه الآية؛ فقال: " نورٌ يُقذف فيه "؛ فقالوا: وهل لذلك من علامة قال: " نعم، إذا دخل النورُ في القلب انشرحَ وانفسح "؛ قالوا يا رسول اللّه، وهل لذلك من علامة يعرف بها؟ قال: " نعم، الإنابةُ إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعدادُ للموت قبل نزول الموت "؛ فلو ثبت هذا عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وكان هذا انشراح الصدر للإسلام فقليلا ما يوجد على هذا الوصف، إلا أن يريد به: الاعتقاد واليقين بما ذكر.

ثم اختلف في تأويل قوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللّه أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا}.

قال بعض أهل التأويل: الإرادة صفة فعل كل فاعل يفعل على الاختيار؛ كأنه قال: فمن يهد اللّه يشرح صدره للإسلام، ومن يضله يجعل صدره ضيقًا حرجا.

وقال فريق من المعتزلة من نحو جعفر بن حرب والكعبي وهَؤُلَاءِ: تأويله: {فَمَنْ يُرِدِ اللّه أَنْ يَهْدِيَهُ}، أي: من قَبِلَ هداية اللّه في الابتداء شرح اللّه صدره بعد ذلك بخيرات؛ ثوابًا لما قبل من الهداية، ومن ترك قبول هداية اللّه في الابتداء عاقبه اللّه بضيق صدره؛

عقوبة له في ترك قبول الهداية؛ إذ للّه أن يهدي الخلق كلهم وأن يشرح صدرهم للإسلام، لكنهم لم يهتدوا.

وقال فريق منهم: {فَمَنْ يُرِدِ اللّه أَنْ يَهْدِيَهُ} طريق الجنة في الآخرة شرح صدره في الدنيا للإسلام، ومن يرد اللّه أن يضله طريق الجنة في الآخرة جعل صدره في الدنيا ضيقًا حرجًا؛ فيقال لهم: كذلك هو - كما يقولون - قد قلتم: إنه أراد أن يضلهم، ثم يقال لهم: تقولون إنه أراد أن يهدي الخلق كلهم ويشرح صدرهم للإسلام، ثم تقولون: إنه يضل طريق الجنة في الآخرة؛ فهذا على زعمكم جور؛ لأنه أراد في الدنيا أن يهديهم ويريد في الآخرة -أيضًا- لهم أن يضلهم عن طريق الجنة لأُولَئِكَ بعينهم فذا جور على قولكم.

وظاهر الآية يرد قولهم وينقض مذهبهم؛ لأنه قال: {فَمَنْ يُرِدِ اللّه أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ. . .} جعلهم على صنفين: صنف أراد منهم أن يهديهم، وصنف أراد أن يضلهم: من علم منه أنه يختار الهدى ويقبله أراد أن يهديه ويشرح صدره للإسلام، ومن علم منه أنه يختار الضلال أراد أن يضله ويجعل صدره ضيقًا حرجًا، ولا يجوز أن يريد هو ممن يعلم منه أنه يختار الضلال وعداوته الولاية منه؛ لأن ذلك من الضعف: من أراد عداوته وهو يريد ولايته، أو يريد منه غير الذي علم كونه منه واختاره.

والمعتزلة يقولون: قد أراد أن يهدي الكل لكنهم أرادوا ألا يهتدوا فلم يهتدوا، غلبت إرادتهم إرادة اللّه - تعالى - فذلك وحش من القول سمج؛ فنعوذ باللّه من السرف في القول والزيغ عن الحق، ولا قوة إلا باللّه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ضَيِّقًا حَرَجًا}.

قيل: الحرج ضيق الضيق، وهو شدة الضيق:

وصف قلب المؤمن بالسعة والفسح، ووصف قلب الكافر بالضيق والحرج، وليس قلب هذا في رأي العين أوسع من قلب الآخر، لكنه - واللّه أعلم - وصف قلب المؤمن بالسعة؛ لما انتفع بقلبه في الدنيا والآخرة، والكافر لم ينتفع بقلبه؛ فوصفه بالضيق والحرج، وهو كما وصف الكافر بالصمم والبكم والخرس؛ لما لم ينتفع بهذه الحواس، وكذلك سماه ميتًا؛ لما لم ينتفع بحياته، وسمى المؤمن حيًّا؛ لما انتفع بحياته؛ فعلى ذلك هذا: وصف الكافر بضيق الصدر؛ لما لم ينتفع به.

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ}.

قيل: كالمتكلف للصعود إلى السماء لا يقدر عليه.

وقيل: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ}: كأنما يشق عليه الصعود.

وروي عن عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قال: ما تصعد في شيء ما تصعده في الخطبة، أي ما يشق عليَّ شيء ما شق عليَّ الخطبة.

وقوله: {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّه الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ}.

اختلف في الرجس قيل: الرجس: الإثم، أي: كما جعل قلوبهم ضيقة حرجة بكفرهم كذلك يجعل في قلوبهم الإثم.

وقيل: الرجس: اللعن والغضب، أي: جعل في قلوبهم اللعن والغضب؛ دليله قوله: {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ}.

* * *

١٢٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا}.

لم يشر بهذا إلى شيء لكن يحتمل قوله: {وَهَذَا}: الإسلام الذي سبق ذكره: أن يشرح به صدر المؤمن، ويحتمل قوله: {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا}: الذي يدعى إليه الخلق، وهو التوحيد.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ}، أي: بينا وأقمنا دلائل التوحيد وحججه، وقد ذكرناه.

{لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}.

أي: لقوم يت ظون بالمواعظ.

ويحتمل: لقوم يقبلون الدلائل والحجج، ولا يكابرون.

١٢٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ ... (١٢٧)

يحتمل السلام اسم الجنة أي: لهم الجنة؛ كقوله: {وَاللّه يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ}

ويحتمل السلام: هو اسم اللّه، أي: لهم دار اللّه، وهي الجنة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، قيل: هو أولى بهم، أي: أولى بالمؤمنين؛ كقوله: {فَاللّه أَوْلَى بِهِمَا}، ويحتمل قوله: {وَهُوَ وَلِيُّهُمْ}، أي: حافظهم وناصرهم.

وقد ذكرنا فيما تقدم " يَصَّعَّدُ " و " يصَّاعد " و " يَصْعد ": كله لغات، والمعنى واحد.

والضيق: قال الكيساني: الضيق من الضيق في المعاش، فأما في الأمر فإنه الضَيق، ومنه قوله: {وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ}.

وأما قوله: {حَرَجًا} ففيه لغتان: حَرَج وحَرِج، قَالَ الْقُتَبِيُّ: الحرج: الذي ضاق فلم بجد منفذا.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الحرج: الضيق، يقال منه: حرج يحرج حرجا؛ فهو حرج.

١٢٨

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ... (١٢٨)

يعني: من تقدم ذكره من الجن، والإنس، أو نحشر الأولين والآخرين.

{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ}.

هو على الإضمار؛ كأنه قال: يوم نحشرهم جميعًا أيا معشرأ الجن والإنس، ثم نقول للجن: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ}، كقوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى} أي: يقولون: ما نعبدهم إلا لِيُقَرِّبُونَا إلى اللّه زلفى؛ فكذلك هذا هو على الإضمار.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ}.

قال أهل التأويل في قوله: {قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ} أي: أضللتم كثيرًا من الإنس، وهم قد استكثروا من الأتباع من الإنس: في عبادة غير اللّه، ومخالفة أمر اللّه وتوحيده أو: قد استكثرتم عبادا من الإنس.

{وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ}.

اختلف فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: تعاون بعضنا ببعض في معصية اللّه ومخالفة أمره: هَؤُلَاءِ بالدعاء وأُولَئِكَ بالإجابة.

وقال قائلون: ربنا استمتع بعضنا ببعض أي: انتفع بعضنا ببعض بأنواع المنافع: ما ذكر - في بعض القصة - أن الرجل من الإنس إذا سافر فأدركه المساء بأرض القفر خاف؛ فيقول: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه؛ فيأمن في ذلك بالتعوذ إلى سيدهم؛ فذلك استمتاع الإنس بالجن؛ فذلك قوله: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} الآية.

وأمَّا استمتاع الجن بالإنس فهو ما يزداد لهم الذكر والشرف في قومهم، يقولون: لقد سودتنا الإنس. ويحتمل استمتاع الجن بالإنس ما ذكر - إن ثبث - أنه جعل طعامهم العظام التي يستعملها الإنسان، ويكون ذلك غذاءهم، وعلف دوابهم أرواث دواب الإنس.

وقال الحسن: ما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت الإنس، فعلمت ذكر جواب الإنس لهم، ولم يذكر جواب الجن لهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا}.

قيل: الموت.

وقيل: البعث يوم القيامة؛ لأنهم كانوا ينكرون البعث؛ فأقروا عند ذلك: بأنا قد بلغنا أجلنا الذي أجلت لنا وكنا كذبناه، أقروا بما كانوا ينكرون.

{قَالَ} أي، اللّه: {النَّارُ مَثْوَاكُمْ} أي مقامكم. {خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللّه}.

اختلف فيه: قال الحسن: {إِلَّا مَا شَاءَ اللّه}: وقد شاء اللّه، أن يخلدهم في النار.

وقال غيره: الاستثناء من وقت البعث إلى وقت الخلود، وهو وقت الحساب أووقت الحساب، هو وقت الثنيا، {خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللّه} وما داموا في الحساب.

وقيل: الاستثناء للمؤمنين الذين اتبعوهم في فعل المعاصي والجرم ولم يتبعوهم في الاعتقاد؛ ففيه دليل إدخال المؤمنين النار بالمعاصي، والعقوبة لهم بقدر معصيتهم، ودليل إخراجهم منها، إن ثبت.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِلَّا مَا شَاءَ اللّه} ويحتمل وجوهًا ثلاثة:

أحدها: أن خلود الآخرة أكبر من خلود الدنيا؛ لأن خلود الدنيا على الانقضاء، وخلود الآخرة لا على الانقضاء.

والثاني: وقع الثنيا قبل دخولهم في النار.

والثالث: لمن لم يتبعهم في الكفر.

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}.

أي: حكيم بما حكم ووضع كل شيء موضعه، عليم بذلك.

١٢٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩)

الآية تنقض على المعتزلة قولهم؛ لأن الولاية إنما تكون بأفعالهم ثم أضاف الولاية إلى نفسه دل أنه من اللّه في ذلك صنع، وهو أن خلق سبب الولاية، منهم، ثم ذكر أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض بقوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، وذكر أن الكافرين بعضهم أولياء بعض بقوله: {لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}.

١٣٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ... (١٣٠)

اختلف فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: لم يكن من الجن رسل إنما كان الرسل من الإنس، لكنه أضاف إلى الفريقين جميعًا؛ كقوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ}، وإنما يخرج من أحدهما، وكقوله: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا}: وإنما جعل في واحدة منهن، وكقول الناس: في سبع قبائل مسجد واحد: وإنما يكون في واحد منها، وقد يضاف الشيء إلى جماعة والمراد منه واحد؛ فعلى ذلك ما ذكر من إضافة الرسل إلى الإنس والجن.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: كان من الفريقين جميعًا: الرسول من الجن جني، ومن الإنس إنسي؛ لأن الجن يسترون من الإنس، فإنما يرسل إلى الإنس رسلا يظهرون لهم؛ فبعث إلى كل فريق الرسول من جوهرهم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: كان الرسل من الإنس إلى الفريقين جميعًا، وكان من الجن نذير؛ كقوله: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ. . .} الآية. ذكر النذر منهم

ولم يذكر الرسل، ومرتبة النذر دون مرتبة الرسل، كرتبة الأنبياء من الرسل، ولكن يجوز أن يقوي الرسل - وإن كان من الإنس - على الإظهار لهم، وليس فيما يسترون عنهم منع بعث الرسل إليهم من الإنس، وليس لنا إلى معرفة هذا حاجة؛ إنما الحاجة إلى معرفة الآيات والحجج التي يأتي بها الرسل، وقد عجز الخلائق جميعًا عن إتيان مثل هذا القرآن؛ لقوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} فقد أعجز الجن والإنس عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن، وإن كان الجن أقوى على الأشياء من الإنس؛ فدل أنه آية ودل عجز الجن عن ذلك وإن كانوا أقوى على أن غيرهم أعجز.

ألا ترى: أنه أنزل هذا القرآن على لسان العرب ثم عجزوا هم عن إتيان مثله؛ فدل عجزهم عن ذلك على أن العجم له أعجز.

وجائز أن يكون الرسل إن كانوا من الإنس فإن الجن يستمعون من الرسل؛ فيلزمهم الحجة والعيل بذلك والتبليغ إلى قومهم، من غير أن يعلم الرسل بذلك، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي}.

يحتمل يتلون عليكم آيأتي، ويحتمل: {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} يبينون لكم ما في آيات وحدانيته وألوهيته، وآيات البعث الذي تنكرون.

{وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا}، أي: لقاء يومكم الذي تلقون ودل قوله: {وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} على أن ذلك إنما يقال لهم في الآخرة.

{قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا}.

هذا منهم إقرار لما كان منهم من التكذيب؛ كقوله: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ}، أي شهدنا على أنفسنا بأنا كنا كذبنا الرسل في الدنيا بما قالوا وأخبروا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}.

 إن للدنيا معنيين: ظاهرًا وباطنًا، فيكون للظاهر غرور من كان نظره إلى الظاهر، يغره، ولها باطن ومن نظر إلى ذلك الباطن يعظه.

أما ظاهرها: من تزيينها، وزخرفها فالكافر نظر إلى ظاهرها فاغتر بها.

وأما باطنها: فهو انتقالها من حال إلى حال وزوالها وفناؤها فمن نظر إلى ذلك اتعظ به ويعلم معناها ويعرف أنه لم يخلق لهذه ولكن لعاقبة تتأمل. ثم إضافة الغرور إليها، أي: يكون منها ما لو كان ذلك من ذي عقل وذهن كان ذلك غرور.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ}.

هذا اعتراف بما كان منهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ}.

يحتمل قوله: {ذَلِكَ} ما تقدم من قوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ}، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا}، ونحوهما من الآيات التي ذكر فيها العذاب.

ويحتمل ذلك إشارة إلى الهلاك الذي كان بالأمم الخالية: أن لم يكن يهلك القرى بظلم ظلموا أنفسهم إهلاك تعذيب واستئصال إلا بعد ما يقدم الوعيد لهم في ذلك وسؤال كان منهم بالعذاب، ولا يهلك -أيضًا- وهم غافلون عن الظلم والعصيان، لا أنه لا يسعه؛ ولكن سنة فيهم ألا يهلك إلا بعد تقدم ما ذكرنا؛ لئلا يحتجوا فيقولوا: {لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، وإن لم يكن لهم الاحتجاج بذلك لما مكن لهم وركب فيهم ما به يعرفون أنه لم يخلقهم ليتركهم سدى؛ ولكن خلقهم لعاقبة، لكن سنته قد مضت في الأمم الماضية: أنه لا يهلك قومًا إهلاك تعذيب واستئصال إلا بعد ما يسبق منه وعيد وإنذار، والعلم لهم بالظلم، وظهور العناد منهم والمكابرة، والسؤال بالعذاب سؤال تعنت، وذلك منه فضل ورحمة، لا أنه لا يسعه ذلك.

١٣٢

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ... (١٣٢)

استدل بعض الناس بظاهر هذه الآية أن الجن لهم ثواب بالطاعات وعقاب بالمعاصي؛ لأنه أخبر أن لكل أمنهم، درجات مما عملوا، وإنما تقدم ذكر الفريقين جميعًا بقوله: {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ}، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} وقوله، {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ}: ذكر ما كان من الفريقين جميعًا من المعاصي والجرم؛ فعلى ذلك قوله: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ}: راجع إلى الفريقين جميعًا، لكل درجات منهم: إن عملوا خيرا فخير، وإن عملوا شرا فشر وبه قال أبو يوسف ومُحَمَّد - رحمهما اللّه - واحتجوا لأبي حنيفة - رحمه اللّه - أن قوله: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ} إنما ذكر على أثر آيات كان الخطاب بها للكفرة دون المؤمنين؛ فعلى قوله: (وَ {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} ويكون لهم هذا الوعيد خاصة، ويكون قوله: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ}، أي: دركات ومراتب من العذاب والعقاب؛ مما عملوا من المعاصي والتكذيب للرسل، ولأن الثواب لزومه لزوم فضل ومنَة، والعذاب توجبه الحكمة؛ لأن في الحكية أن يعاقب من عصاه وخالف أمره وأمّا الثواب فوجوبه الفضل؛ لأنه كان من اللّه إلى الخلق من النعم والإحسان أما لو حمدوا كل حمدهم، ما قدروا على أن يؤدوا شكر واحد من ذلك، فتكون طاعتهم شكرًا لما أنعم عليهم، فإذا كان كذلك لا يكون لأعمالهم ثواب إلا بالبيان من اللّه، كما لا يقال للملائكة: إن لهم ثوابًا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}، يحتمل وجهين:

وما ربك بغافل عن أعمالهم التي يعملونها في معصية اللّه - تعالى - ولكن يؤخر تعذيبهم؛ رحمة منه، وهو كقوله: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللّه غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ. . .} الآية.

والثاني: عن علم بأعمالهم، وصنيعهم خلقهم، لا عن جهل، لكن خلقهم على علم

 بذلك؛ لما كان ضرر أعمالهم ومنافعها ترجع إليهم لا إليه.

١٣٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ}، هذا يرد على الثنوية مذهبهم؛ لأنهم يقولون: إنه إنما - خلق الخلائق لمنافع نفسه؛ لأنه ليس بحكيم من فعل فعلا لا يقصد منفعة نفسه، فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه غني بذاته، وإنما يقصد غيره المنفعة بفعله لحاجة تقع له، وضرورة تصيبه يقصد بالفعل، قصد قضاء الحاجة ودفع الضرورة عن نفسه.

فأما اللّه - سبحانه وتعالى - فهو الغني بذاته، إنما خلق الخلائق لمنافع أنفسهم، وهو غني عن خلقه على ما أخبر.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ}.

يحتمل: غني عن تعذيب أُولَئِكَ الكفرة، أي: لا لمنفعة له في تعذيبهم يعذبهم أو لحاجة له؛ ولكن الحكمة توجب ذلك. أو أن يكون صلة قوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ}.

يقول: لم يرسل إليكم، ولا امتحنكم بالذي امتحنكم لحاجة نفسه أو لمنفعة له؛ إذ هو غني بذاته.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذُو الرَّحْمَةِ}.

يحتمل وجهين:

يحتمل: ذو الرحمة فلا يعجل عليهم بالعقوبة.

والثاني: ذو الرحمة لما خلق الخلائق، وجعل لبعض ببعض الانتفاع بهم والاستمتاع، وإنما خلقهم لمنافع أنفسهم.

ويحتمل قوله: {ذُو الرَّحْمَةِ}: مَنْ قَبِلَ رحمته صار أهلا لها، فأما من لم يقبل رحمته فإنه ذو انتقام منه.

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ}.

لأنه غني بذاته لم يخلقكم لمنافع نفسه أو لحاجته، إن شاء أذهبكم واستخلف غيركم، ولو كان خلقه الخلق لمنافع نفسه لكان لا يذهب بهم ويستخلف من بعدهم ما يشاء.

{كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ}.

يخبر عن غناه عنهم، وعن سلطانه، وقدرته أنه يقدر على إهلاككم واستئصالكم وإنشاء قوم آخرين.

كأن خلق الخلائق من جواهر مختلفة لا توالد فيهم، ثئم جعل في الآخر التوالد والتناسل ويستخلف بعض من بعض بالتوالد والتناسل.

١٣٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ ... (١٣٤)

من الوعد والوعيد.

أو أن يكون قوله: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ}: من النصر لرسوله والمعونة له لآت وكائن.

{وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ}.

قيل: بفائتين ربكم.

وقيل: وما أنتم سابقين اللّه بأعمالكم الخبيثة حتى لا يجزيكم اللّه بها. وأصله: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ}، أي: لا تعجزون ربكم عن تعذيبكم وعقوبتكم.

١٣٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ ... (١٣٥)

قيل: على جديتكم.

وقيل: على منازلكم وجدتكم.

ولكن تأويله - واللّه أعلم -: {عَلَى مَكَانَتِكُمْ} أي: ما أنتم عليه، ثم يحتمل هذا وجوهًا:

يحتمل {عَلَى مَكَانَتِكُمْ}، أي: على ما أنتم عليه من أمر الدِّين، {إِنِّي عَامِلٌ}: على ما أنا عليه من أمر الدِّين؛ كقوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}.

ويحتمل أن يكونوا هموا أن يمكروا برسول اللّه؛ فقال: امكروا بي إني ماكر بكم؛ كقوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّه}.

ويحتمل أن يكونوا يطلبون الدوائر والهلاك على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويكيدونه؛ كقوله: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ}، هذه الكلمة تستعمل في انتهاء المكابرة غايتها وجود المعاندة غايتها بعد الفراغ من الحجج والآيات؛ كقوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}.

يحتمل فسوف تعلمون من تكون له العاقبة.

ويحتمل: فسوف تعلمون بالهلاك من كان محقا بالوعيد.

أو سوف تعلمون من المحق بما أوعد وخوف.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} يحتمل: لا يفلح الظالمون، ما داموا في ظلمهم.

ويحتمل: أن يكون ذلك في قوم مخصوصين.

ويحتمل: في الآخرة: لا يفلح الظالمون.

* * *

١٣٦

 قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلُوا للّه مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا للّه بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللّه وَمَا كَانَ للّه فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (١٣٦)

يخبر - عَزَّ وَجَلَّ - عن سفههم من وجوه:

أحدها: أنهم كانوا يجعلون للّه نصيبًا مما كان للّه في الحقيقة مع علمهم أن اللّه هو الذي أنشأ لهم تلك الأشياء وهو ذرأها، ثم يجعلون للّه في ذلك نصيبًا وللأصنام نصيبًا، يسفههم لأنهم إذا علموا أن اللّه هو الذي ذرأ لهم تلك الأشياء وأنشاها لهم، فإليه الاختيار في جعل ذلك لا إليهم إذ علموا، أنهم إنما يملكون هم بجعل اللّه لهم، وهو المالك عليها حقيقة.

والثاني: ما يبين سفههم -أيضًا- أنهم يجعلون للّه في ذلك نصيبًا وللأصنام نصيبًا من الثمار والحروث وغيرها، ثم إذا وقع أشيء، مما جعلوا للّه وخالط ما جزءوا وجعلوه لشركائهم تركوه، وإذا خالط شيء مما جعلوا لشركائهم، ووقع فيما جعلوه للّه أخذوه وردوه على شركائهم وانتفعوا به، وتركوا الآخر للأصنام إيثارًا للأصنام عليه، وإعظاما لها.

أو إذا زكا نصيب الأصنام ونما، ولم يزك نصيب اللّه، ولم ينمُ تركوا ذلك للأصنام، ويقولون: لو شاء اللّه لأزكى نصيبه، وإذا زكا الذي كانوا يجعلون للّه، ولا يزكو نصيب الأصنام أخذوا نصيب اللّه فقسموه بين المساكين وبين الأصنام نصفين.

يسفههم - عَزَّ وَجَلَّ - بصنيعهم الذي يصنعون ويبين عن جوهرهم بإيثارهم الأصنام، وإعظامهم إياها، والتفضيل في القسمة والتجزئة، مع علمهم أن اللّه هو الذي ذرأ ذلك وأنشأه لهم، وأن الأصنام التي أشركوها في أموالهم وعبادتهم للّه لا يملكون من ذلك شيئًا.

وذلك منهم سفه وجور؛ حيث أشركوا في أموالهم وعبادتهم مع اللّه أحدًا لا يستحق بذلك شيئًا، وهو كما جعلوا للّه البنات، وهم كانوا يأنفون عن البنات، كقوله: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالأُنثَى. . .} الآية:

وقال: {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ}،

وقال: {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى}، تأنفون أنتم عن البنات وتضيفونهن إليه؟! فهو إذًا جور وظلم؛ فعلى ذلك تفضيل الأصنام في القسمة وإيثارهم إياها على اللّه، وإشراكهم مع اللّه، مع علمهم أنه كان جميع ذلك باللّه، وهو أنشأه لهم - جور وسفه.

ثم أخبر أنهم: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}.

أي بئس الحكم حكمهم.

١٣٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ... (١٣٧) أي: كما زين لهم جعل النصيب للأصنام والتجزئة لها، وصوف ما خلق اللّه لهم عنه إلى الأصنام كذلك زين لهم قتل أولادهم.

أو كما زين لهم تحريم ما أحل اللّه لهم من السائبة والوصيلة والحامي كذلك زين لهم شركاؤهم قتل أولادهم.

وأصله: أن الشفقة التي جعل اللّه في الخلق لأولادهم والرحمة التي جبلت طبائعهم عليها تمنعهم عن قتلهم، وخاصة أولادهم الضعفاء والصغار، وكذلك الشهوة

التي خلق فيهم تمنعهم عن تحريم ما أحل اللّه لهم، لكن زين لهم ذلك شركاؤهم، وحسنوا عليهم تحريم ما أحل لهم وقتل أولادهم، فما حسن عليهم الشركاء وزين لهم من تحريم ما أحل لهم وقتل أولادهم غلب على الشفقة التي جبلت فيهم، والشهوة التي خلق ومكن فيهم.

ثم اختلف في شركائهم:

قَالَ بَعْضُهُمْ شركاؤهم: شياطينهم التي تدعوهم إلى ذلك.

وقيل: شركاؤهم: كبراؤهم ورؤساؤهم الذين يستتبعونهم.

ثم يحتمل: قتل الكبراء أولادهم؛ تكبرا منهم وتجبرا؛ لأنهم كانوا يأنفون عن أولادهم الإناث، وقتل الأتباع؛ مخافة العيلة والفقر.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لِيُرْدُوهُم}.

قيل: ليهلكوهم، إنهم كانوا يقصدون في التحسين والتزيين الإرداء والإهلاك، وإن كانوا يرونهم في ذلك الشفقة، وكذلك كانوا يقصدون بالتزيين تلبيس الدِّين عليهم.

وقوله - عزّ وجل -: {وَلَوْ شَاءَ اللّه مَا فَعَلُوهُ}.

يحتمل: وجوهًا:

قَالَ بَعْضُهُمْ: لو شاء اللّه لأهلكهم فلم يفعلوا ذلك.

وقيل: لأعجزهم ومنعهم عن ذلك؛ كقوله: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ}.

وقيل: {وَلَوْ شَاءَ اللّه مَا فَعَلُوهُ}، أي: لأراهم قبح فعلهم؛ حتى لم يفعلوا.

وأصله: أنه إذا علم منهم أنهم يفعلون ما فعلوا ويختارون ما اختاروا من التزيين ولبس الدِّين عليهم شاء ما فعلوا واختاروا، وقد ذكرنا ذلك في غير موضع.

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}.

أي: ذرهم ولا تكافئهم بافترائهم على اللّه.

ويحتمل: ذرهم وما يفترون؛ فإن اللّه يكافئهم ولا يفوتون.

ويحتمل: ذرهم وما يفترون؛ فإن ضرر ذلك الافتراء عليهم، ليس علينا ولا عليك، واللّه أعلم بذلك.

١٣٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ ... (١٣٨)

قيل: هذه الآية صلة قوله: {وَجَعَلُوا للّه مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا للّه بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} هذا الذي جعلوا للشركاء هو الحجر الذي ذكر في هذه الآية؛ لأنهم كانوا لا ينتفعون بذلك ويحرمونه، وهو حجر.

وأصل الحجر: المنع، وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: الحجر: ما حرموا أنفسهم من أشياء: من الوصيلة، والسائبة، والحامي، وتحريمهم ما حرموا من أشياء: كانوا يحلون أشياء حرمها اللّه، ويحرمون أشياء أحلها اللّه في الجاهلية من الحرث والأنعام.

وفي حرف أُبي، وابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنهما -: (حرج)، على تأخير الجيم وتقديم الراء.

وعن الحسن: {حُجْرٌ}، برفع الحاء.

وأصل الحجر: المنع، ممنوع: محجور، يقال: حجرت عليه، أي: منعته، والحجر أيضًا: موضع بمكة، والاحتجار: الاستئثار، وهو أن يأخذ الشيء ولا يعطي منه أحدًا شيئًا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {إِلَّا مَنْ نَشَاءُ}، يعني: لا يطعمها إلا من يشاء اللّه بزعمهم؛ لأنهم كانوا يحرمون أشياء ويأتون أشياء فواحش، فيقولون: إن اللّه أمرهم بذلك؛ كقوله في الأعراف: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللّه أَمَرَنَا بِهَا}.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله {إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ} يعني: الذين سنوا لهم، أي: لا يطعمها إلا من يشاء أُولَئِكَ الذين سنوا ذلك، وحرموا ذلك على نسائهم؛ على ما روي عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " إن شئت قد ذكرت لكم أول من بدل دين إسماعيل، وبحر البحيرة والسائبة ".

فعلى ذلك أضافوا المشيئة إلى أُولَئِكَ الذين سنوا لهم ذلك، وحرموا على إناثهم وأحلوا لذكورهم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ قوله: {إِلَّا مَنْ نَشَاءُ} هَؤُلَاءِ الرجال، كانت مضافة إلى الرجال دون النساء، وفي ذلك تسفيه أحلامهم؛ لأنهم كانوا ينكرون الرسالة لما كان يحرمون من الطيبات، ثم يتبعون الذي حرم عليهم الطيبات التي أحلها اللّه لهم لأنهم ينكرون الرسالة

 لما كان، من البحيرة، والسائبة، ونحوهما.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا} هو ما ذكر من البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحامي، وهو الحجر الذي ذكر في هذه الآية، يجعلون تلك الأشياء لشركائهم، لا ينتفعون بها.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّه عَلَيْهَا}.

قيل فيه بوجوه:

قيل: {لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّه عَلَيْهَا}، أي: لا ينتفعون بها؛ ليعرفوا أنعم اللّه؛ ليشكروا اللّه عليها.

وقيل: {لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّه عَلَيْهَا}، أي: لا يذبحون للأكل، ولا يذكرون اسم اللّه عليها.

ويحتمل: لا يذكرون اسم اللّه عليها وقت الركوب؛ كما يذكر اسم اللّه عليها وقت الركوب، وهو قوله: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا} الآية؛ لأنهم كانوا لا يركبونها؛ ولكن يسيبونها.

وقيل: لا يحجون عليها.

والأول كأنه أقرب: كانوا لا ينتفعون بها؛ ليعرفوا نعم اللّه، ويشكروه عليها.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}.

بأن اللّه أمرهم بذلك، وهو حرم عليهم، وهو أحل؛ فذلك هو الافتراء على اللّه، أو بما أشركوا شركاءهم في عبادة اللّه وفي نعمه.

١٣٩

(وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا ... (١٣٩)

قيل: هو صلة قوله: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ}، يحرمون على النساء،

 ويحلون للرجال، يعني إذا ولدوا حيًا كان ينتفع بذلك رجالهم دون نسائهم، وإذا ولدوا ميتًا اشتركوا فيه الإناث والذكور ويذكر في هذا كله سفه أُولَئِكَ في صنيعهم، ويذكر - في قوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ} إلى آخر منته ونعمه التي أنعم عليهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {سَيَجْزِيهِم وَصْفَهُم}.

أي: افتراءهم على اللّه، وتحريمهم ما أحل اللّه لهم، وتحليلهم ما حرم عليهم.

١٤٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللّه افْتِرَاءً عَلَى اللّه ... (١٤٠)

أخبر أنهم قد خسروا بقتلهم الأولاد، وتحريمهم ما أحل لهم ورزقهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}. وباللّه الهداية والرشاد.

* * *

١٤١

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ}.

ذكر هذا - واللّه أعلم - مقابل ما كان منهم من تحريم ما أحل اللّه لهم ورزقهم من الحرث، والزرع، والأنعام، والانتفاع بها، فقال: أنشأ جنات وبساتين من تأمل فيها وتفكر، عرف أن منشئها مالك حكيم مدبر؛ لأنه ينبتها ويخرجها من الأرض في لحظة ما لو اجتمع الخلائق على تقديرها: أن كيف خرج؟ وكم خرج؟ وأي قدر ثبت؟ ما قدروا على ذلك؛ كقوله: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ}، ويخرج من الورق

والثمار على ميزان واحد: ما لو جهدوا كل الجهد أن يعرفوا الفضل والتفاوت بين الأوراق والثمار ما قدروا، وما وجدوا فيها تفاوتًا. ويخرج -أيضًا- كل عام من الثمار والأوراق ما يشبه العام الأول؛ فدل ذلك كله أن منشئها ومحدثها مالك حكيم، وضع كل شيء موضعه، وأن ما أنشأ أنشأ لحكمة وتدبير لم ينشئها عبثًا؛ فله الحكم والتدبير في الحل والحرمة والقسمة، ليس لأحد دونه حكم ولا تدبير في التحريم والتحليل؛ {هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ}، وهذا لهذا وهذا لهذا؛ إنما ذلك إلى مالكها؛ فخرج هذا - واللّه أعلم - مقابل ما كان منهم من قوله: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ}،

وقوله: {هَذَا للّه بِزَعْمِهِمْ}، {وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا}، وقوله - تعالى -: {وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّه عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ}، وغير ذلك من الآيات التي كان فيها ذكر تحكمهم على اللّه، وإشراك أنفسهم في حكمه.

ثم اختلف في قوله: {مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ}:

قيل: معروشات: مبسوطات ما ينبت منبسطا على وجه الأرض، {وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ}: ما يقوم بساقه، لا ينبسط على الأرض.

وقيل: معروشات: ما يتخذ له العريش، من نحو العرجون والقرع وغيره، وغير معروشات: ما لا يقع الحاجة إلى العرش؛ من نحو: النخيل والأشجار المثمرة، وهما واحد.

وقيل: على القلب، معروشات: ما تقوم بساقها، وغير معروشات: ما لا ساق لها، واللّه أعلم. وتعريشه ما ذكر على أثره.

{وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ}.

منها ما يكون متشابهًا في اللون مختلفًا في الأكل والطعم، ومنها ما يكون مختلفًا في

اللون والمنظر متشابهًا في الطعم والأكل؛ ليعلموا أن منشئها واحد، وأنه حكيم أنشأها على حكمة، وأنه مدبر: أنشأها عن تدبير، لم ينشئها عبثًا.

ومن الناس من يقول: إن قوله: {مُتَشَابِهَا} في الذي ذكر، وهو الرمان والزيتون؛ لأن ورقهما متشابه، والثمرة مختلفة.

ومنهم من يقول: فيهما وفي غيرهما، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ}.

كأنه قال: كلوا من ثمره إذا أثمر، ولا تحرّموا؛ خرج على مقابلة ما كان منهم من التحريم، أي كلوا منها، ولا تحرموا؛ ليضيع ويفسد.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}.

ذكر - عَزَّ وَجَلَّ - الإيتاء مما يحصد بعد ذكر النَّخيل، والزرع، والزيتون، والرمان، حبّا وغير حب، وما يقع فيه الكيل وما لا يقع، مجملا عاما ولم يفصل بين قليله وكثيره.

ففيه دلالة وجوب الصدقة والعشر في قليل ما تخرج الأرض وكثيره.

وكذلك قوله - تعالى - في سورة البقرة: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ}.

وحديث معاذ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " في كل ما أخرجت الأرض العشر، أو نصف العشر ".

وحديث ابن عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه كتب إلى أهل اليمن بذلك.

وما روي عن أنس - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه، قال: " فيما أخرجت الأرض - قليله وكثيره - العشر ".

وخبر معاذ، قال: بعثني رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى اليمن، فأمرني أن آخذ من كل حالم دينارا، أو عدله معافريًّا، وأمرني أن آخذ من كل أربعين مسنة، ومن كل ثلاثين تبيعًا، ومن كل ما سقت السماء العشر، وما سقي بالديالي نصف العشر.

إلى هذا كله يذهب أبو حنيفة - رحمه اللّه - ويوجب الصدقة في قليل الخارج من الأرض وكثيره.

ثم اختلف أهل التأويل في تأويل الحق الذي ذكره اللّه في قوله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}:

قال قوم هي صدقة سوى الزكاة؛ واحتجوا بأن الآية مكية، وأن الزكاة فرضت

بالمدينة، وهي منسوخة بآية الزكاة.

وقال قوم: هي الزكاة، فإن نسخ إنما نسخ قدرها، لم ينسخ الحق رأسًا؛ لأنهم كانوا يتصدقون بالكل، فما نسخ إنما نسخ بآية الزكاة قدرها.

ألا ترى أنه قال في آية أخرى: {وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}.

والإسراف في اللغة هو المجاوزة عن الحد الذي حد له كقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}.

وقيل في قوله: {وَلَا تُسْرِفُوا}، أي: لا تمنعوا الكل ولكن كلوا بعضه، وآتوا حقه من بعضه.

وقيل: الإسراف - هاهنا - هو الشرك؛ كأنه قال: ولا تشركوا آلهتكم فيما رزقكم اللّه من الحرث والأنعام؛ فتحرموه ولا تنتفعوا به، والإسراف هو الذي لا ينتفع به أحد، وما كانوا جعلوا لشركائهم لا ينتفعون به هم ولا انتفع به أحد؛ يكون مقابل قوله: {هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ. . .} الآية.

وأما أبو يوسف ومُحَمَّد - رحمهما اللّه - فإنهما يذهبان إلى ما رُويَ عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، ولا فيما دون خمس ذود صدقة، ولا فيما دون خمسة أواق صدقة " وعن أبي

سعيد الخدري قال: قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، " لا صدقة في الزرع، ولا في الكرم، ولا في النخل، إلا ما بلغ خمسة أوسق "، وذلك مائة فرق.

وعن ابن عمر وعبد اللّه بن عمرو وأبي هريرة - رضي اللّه عنهم - عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مثله.

وما روى موسى بن طلحة أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " ليس في الخضراوات صدقة " وعن عمر مثله، وعن عليٍّ مثله، وكذلك رُويَ عن جماعة السلف: أن لا صدقة إلا في الحنطة والشعير والحبوب، وقال أبو حنيفة - رحمة اللّه عليه - معنى ذلك كله لا صدقة، تؤخذ إلا فيما بلغ خمسة أوسق "، وليس في الخضراوات صدقة تؤخذ، وما عليه في نفسه صدقة يؤديها هو.

ثم إن كان ذلك الحق الذي ذكر في الآية الزكاة، فإن الآية تدل - واللّه أعلم - على أن

زكاة الحب والثمار إنما تجب فيما بيّن: الجنات المعروشات وغير المعروشات؛ فدخل في ذلك - واللّه أعلم - العنب، وغير العنب، والثمار كلها،

وقال: {وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ}، فدخل جميع ما تخرج الأرض من كل الأصناف التي سبق ذكرها،

وقال: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}، فجعل الحق الواجب فيه يوم يحصد؛ فيجوز أن يكون عُفي عما قبل ذلك.

فإن كان هذا هو التأويل، فهو - واللّه أعلم - معنى ما روي عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولو لم يكن قوله - تعالى -: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} عفوا عن صدقة ما يؤكل منه ما كان في ذلك فائدة؛ لأن الثمرة تؤكل ولا تصلح لغير ذلك إلا للوجه الذي ذكرنا، وهو أنهم كانوا يحرمونها ولا ينتفعون بها؛ فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: كلوا وانتفعوا به، ولا تضيعوه.

وإذا كان قوله: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ} عفوا عن صدقة ما يؤكل منه، ظهرت فائدة الكلام، وهو على هذا التأويل - واللّه أعلم - ما روي أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فالربع ".

وعن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " ليس في العرايا صدقة ".

وعن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه كان يبعث أبا خيثمة خارصا للنخل، ويقول له: " إذا وجدت أهل بيت في حائطهم، فلا تخرص بقدر ما يأكلون ".

وعن مكحول قال: قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " خفضوا على الناس في الخرص؛ فإن في المال العرية والوصية ".

فدلت هذه الأحاديث على أنه لا صدقة فيما يؤكل من الثمر رطبًا إذا لم يكن فيما يأكلون إسراف.

وقدر النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لذلك الثلث أو الربع، وذلك - واللّه أعلم - يشبه ما دلت عليه الآية على تأويل من جعل الحق زكاة؛ لأن اللّه - تعالى - قال: {وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}؛ فاحتمل أن يكون -أيضًا- معنى ذلك: ولا تسرفوا في الأكل؛ فيجحف ذلك بأهل الصدقة، ويحتمل أن يكون ذلك نهيًا عن الإسراف في جميع الأشياء، على ما ذكرنا من قبل.

وإذا صح أن لا صدقة فيما يؤكل من الرطب والعنب والثمار بهذه الأخبار، وأن الصدقة إنما تجب فيما يلحقه الحصاد يابسا يمكن ادخاره - فالواجب ألا يكون في شيء من الخضر التي تؤكل رطبة صدقة، وألا تكون الصدقة واجبة إلا فيما يبس منها، ويمكن أن يدخر.

 فأما البقول والرطاب والبطيخ والقثاء والخيار والتفاح وأشباهها: فلا صدقة فيها، هذا كله يدل لأبي يوسف ومُحَمَّد - رحمهما اللّه - إلا أنا لا نعلم مخالفا أن فيما يباع من الرطب صدقة، وإن كان يؤكل كهيئته، فهذا يفسد ما احتججنا به لأبي يوسف ومُحَمَّد ومن وافقهما، وتأويل ما روي " أن لا صدقة في الخضراوات "، " وليس في أقل من خمسة أوسق صدقة تؤخذ "، وإنما عليه في نفسه أن يؤديها، واللّه أعلم.

وجائز أن يكون قوله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}: على أُولَئِكَ خاصة في ذلك الوقت، أو يقول: وآتوا حقه ولا تصرفوا إلى الأصنام التي تصرفون إليها، واللّه أعلم.

١٤٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّه ... (١٤٢)

هو صلة قوله: {أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} إلى آخر ما ذكر، وأنشأ - أيضًا - من الأنعام حمولة وفرشًا.

ثم اختلف فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: الحمولة: ما يحمل عليها أنشأها للحمل، والفرش: الصغار منها التي لا تحمل.

وقيل: الحمولة: من نحو الإبل والبقر والبغال وغيرها من الحيوان، والفرش: هو الغنم والمعز التي تؤكل وأنشأها للحم.

ويحتمل الفرش: ما يؤخذ من الأنعام، ويتخذ منه الفرش والبسط.

وقال الحسن: الحمولة: ما يحمل عليها وهو خالص، والفرش: كل شيء من أنواع المال من الحيوان وغيره؛ يقال: أفرشه اللّه له، أي: جعله له.

قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: الحمولة: الإبل والخيل والبغال والحمير، وكل شيء يحمل عليه، وأما الفرش فالغنم.

وعن ابن عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: الحمولة: الإبل، والفرش: البقر والغنم.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الحمولة: مراكب النساء، والفرش: ما يكون للنتاج.

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الحمولة: كبار الإبل التي يحمل عليها، والفرش: صغارها التي لم تدرك أن يحمل عليها، وهي ما دون الحقاق، والحقاق: هي التي تصلح أن تركب، أي: حق ذلك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّه وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}.

قوله: {كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّه} ووجهوا شكر ذلك إليه، {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} في تحريم ما أحل اللّه لكم، وجعل ذلك لكم، رزقا؛ كقوله: {وَجَعَلُوا للّه مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا للّه بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا}.

 

وقوله: {هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّه عَلَيْهَا}،

وقوله: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا}، يقول: كلوا مما رزقكم اللّه؛ وكذلك قوله: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ}، وانتفعوا به، {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}: في تحريم ذلك على أنفسكم، واعرفوا نعمه التي أنعمها عليكم، ووجهوا شكر نعمه إليه، ولا توجهوها إلى غيره.

ثم قوله: {خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}.

قيل: آثار الشيطان.

وقيل: أعمال الشيطان.

وقيل: دعاء الشيطان وتزيينه، وكله واحد.

وأصله: أن كل من أجاب آخر إلى ما يدعو إليه ويأتمر بأمره، يقال: قد اتبع أثره، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}.

أي: إنه فيما يدعوكم إلى تحريم ما أحل اللّه لكم ورزقكم - يقصد قصد إهلاككم وتعذيبكم، لا قصد منفعة لكم في ذلك، وكل من قصد إهلاك آخر فهو عدوّ له، وهو يخرج على ما ذكرنا من تذكير المنن والنعم التي أنعمها عليهم، يقول: هو الذي جعل لكم ذلك؛ فلا تصرفوا شكوه إلى غيره.

١٤٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ... (١٤٣) إلى آخر ما ذكر.

أي: أنشأ -أيضًا- ثمانية أزواج، على ما ذكر: أنشأ جنات معروشات وغير معروشات، وأنشأ من الأنعام -أيضًا- حمولة وفرشًا، وأنشأ -أيضًا- ثمانية أزواج مما عد علينا.

ويحتمل أن يكون قوله: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ. . .} إلى آخر ما ذكر هو تفسير قوله: {وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا} ويكون {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} التي ذكر في الآية بيان الحمولة والفرش التي ذكر في الآية الأولى.

ثم في قوله: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ}: في الآية تعريف المحاجة مع الكفرة وتعليمها من اللّه؛ لأنهم كانوا يحرمون أشياء على الإناث ويحللونها

للذكور؛ كقوله: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ}؛ فقال اللّه - عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ}: يعرفنا المحاجة معهم، وطلب العلة التي بها حرم، فقال: {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ}، فإن قالوا: حرم الذكر، فيجب أن كل ذكر محرم، ثم من الذكور ما يحل، فتناقضوا في قولهم، وإن قالوا: حرم الأنثى، فيجب أن كل أنثى -أيضًا- تكون محرمة، فإذا لم تحرم كل أنثى ظهر تناقضهم؛ لأنه لا يجوز أن يجب حرمة شيء أو حله لمعنى، ثم يرتفع ذلك الحكم والمعنى موجود، أو حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين، فإن كان لهذا، فيجب أن لكل مشتمل عليه أرحام الأنثيين محرم، فإذا لم يحرم ذلك دل أن التحريم لم يكن لهذا.

وفيه دلالة أن الحكم إذا وجب لعلة، فذلك الحكم واجب ما دامت العلة قائمة

موجودة، وفيه الأمر بالمقايسة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.

أي: ليس عندهم علم يعلمون ذلك وينبئونه، ذكر - هاهنا - {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}: في مقالتكم: إنه حرم، وقال في الآية التي تليها: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللّه بِهَذَا}، أي: بتحريمها، أي: ليس لكم شهداء على تحريم ما تحرمون: لا من جهة الكتاب، ولا رسول، ولا استدلال؛ لأن العلوم ثلاثة: علم استدلال وهو علم العقل، وعلم المشاهدة والعيان وهو علم الحس، وعلم السمع والخبر؛ فيخبر أنه ليس لهم من هذه العلوم شيء.

أما علم الاستدلال: فلا عقل يدل على تحريم ما حرمتم.

ولا علم مشاهدة؛ لأنكم لم تشاهدوا اللّه حرم ذلك.

ولا علم من جهة السمع والخبر؛ لأنهم كانوا لا يؤمنون بالكتب، ولا صدقوا الرسل فيقولون: أخبرنا الرسل بتحريم ذلك، أو وجدنا في الكتب حُرْمتها، فبهتوا في ذلك وضجروا.

وفي الآية دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد ونبوته - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنهم كانوا لا يحرمون هذه الأشياء ظاهرا فيما بينهم، ورسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - نشأ بين أظهرهم منذ كان صغيرًا إلى كبره، وعرفوا أنه لم يختلف إلى أحد عرف ذلك، ثم أخبر اللّه - عَزَّ وَجَلَّ -، عن حل ما حرموا وفساد ما صنعوا؛ ليدلهم أنه إنما عرف ذلك باللّه، وبه علم حل ما حرموا، وحرمة ما أحلوا، لا بأحد من الخلائق.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّه كَذِبًا}.

أي: لا أحد أظلم ممن افترى على اللّه كذبا؛ لأنه هو الذي أنشأهم وأنشأ لهم جميع ما يحتاجون إليه ويقضون حوائجهم، وبه كان جميع نعمهم التي يتنعمون ويتقلبون فيها؛ فلا أحد أظلم ممن افترى على اللّه كذبا، فقال: حرم كذا ولم يكن حرم، أو: أمر بكذا ولم يكن أمر.

ألا ترى: أنه قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّه حَدِيثًا}، و {قِيلًا}، فكما لم يكن أحد أصدق منه حديثًا، فعلى ذلك لا أحد أظلم ممن افترى على اللّه كذبا بعد علمه: أنه هو الفاعل لذلك كله، وهو المنشيء ما ذكر.

وقوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ}. في الظاهر استفهام، ولكن في الحقيقة إيجاب؛ لأنه لا يحتمل الاستفهام؛ كأنه قال: لا أحد أفحش ظلمًا ممن افترى على اللّه كذبا على الإيجاب.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ}.

لأنه يقصد بالافتراء على اللّه قصد إضلال الناس وإغوائهم.

{إِنَّ اللّه لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.

أي: لا يهديهم وقت اختيارهم الكفر والظلم.

وقيل: {لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أي أنهم يختمون بالكفر.

ويحتمل: لا يهديهم؛ إذا كانوا هم عند اللّه ظلمة كفرة، وإن كانوا عند أنفسهم عدولا على الحق.

 

١٤٥

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ}.

قوله: {قُلْ لَا أَجِدُ} يحتمل وجهين:

أحدهما، أي: لا أجد مما تحرمون أنتم فيما أوحي إليَّ، وأما مما لا تحرمون فإنه يجد.

والثاني: لا أجد فيما أوحي محرما في وقت، ثم وجده في وقت آخر.

وأيهما كان فليس فيه دليل حل سوى ما ذكر في الآية على ما يقوله بشر.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ}.

مثل هذا الخطاب لا يكون إلا في معهود أو سؤال، وإلا مثل هذا الخطاب لا يستقيم على الابتداء.

فإن كان في معهود فهو يخرج جواب ما كانوا يحرمون من أشياء من الأنعام والحرث، وما ذكر في الآيات التي تقدم ذكرها، وما كانوا يحرمون من البحيرة والسائبة، والوصيلة، والحامي؛ فقال: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا}: مما تحرمون أنتم، {عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا}.

أو كان جواب سؤال في نازلة؛ فقال: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} إلا فيما ذكر في الآية، أو لم يجده محرما في وقت إلا ما ذكر، ثم وجده في وقت آخر، ففي أيهما كان لم يكن لبشر علينا في ذلك حجة؛ حيث قال إن الأشياء كلها محللة مطلقة بهذه الآية: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} إلا ما ذكر: من الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل لغير اللّه به، فقال: لا يحرم من الحيوان إلا ما ذكر.

ويقول: إن النهي الذي جاء عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أنه نهى عن كل ذي ناب من

السباع، وعن كل ذي مخلب من الطير "، إنما هو خبر خاص من أخبار الآحاد، وخبر

الواحد لا يعمل في نسخ الكتاب، وقد قال: {لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا}.

وبعد: فإن ذلك الخبر من الأخبار المتواترة؛ لأنه عرفه الخاص والعام،

وعملوا به وظهر العمل به حتى لا يكاد يوجد ذلك يباع في أسواق المسلمين؛ دل أنه من المتواتر.

قال الشيخ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: وعندنا أن لفظة " التحريم " على الإطلاق لا تقال إلا في النهايات من الحرمة، ونحن نقول: لا تطلق لفظة التحريم في الحيوان إلا فيما ذكر في الآية من الميتة، والدم المسفوح، والخنزير، ولكن يقال: منهي عنه مكروه، ولا يقال: محرم مطلقا، ويقال: لا يؤكل ولا يطعم.

وبعد: فإن الآية لو كانت في غير الوجهين اللذين ذكرناهما، لم يكن فيها دليل حل ما عدا المذكور في الآية؛ لأنه قال: {لَا أَجِدُ}، ولم يوجد في وقت، ثم وجد في وقت آخر، وهذا جائز.

وفي قوله: {مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} دلالة أن الجلد يحرم بحق اللحمية؛ لأنه أمكن أن يشوى فيؤكل؛ فحرمته حرمة اللحم، فإذا دُبغ خرج من أن يؤكل؛ فظل هو

مخرج، عن قوله: {عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ. . .} هو، واللّه أعلم.

ثم في قوله: {مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ. . .} الآية دلالة أن الحرمة التي ذكر في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّه بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ. . .} إلى آخر ما ذكر حرمة الأكل والتناول منها؛ لأنه لم يبين في تلك الآية ما الذي حرم منها سوى ما ذكر حرمته تفسرها هذه الآية.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} دل هذا أن الحرمة في تلك الآية الأكل والتناول منها؛ وكذلك قوله: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ}: ذكر الحل، ولم يذكر الحكم، لماذا؟ ثم جاء التفسير في هذه الآية أنه للأكل، ثم الميتة التي ذكر أنها محرمة ليست هي التي ماتت حتف أنفها خاصة.

ألا ترى أنه ذكر: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ}، {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّه بِهِ}.

وقال: {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ}، كل هذا الذي ذكر لم يمت حتف أنفه، ولكن بأسباب لم يؤمر بها؛ فصارت ميتة؛ فدل أن كل مذبوح أو مقتول بسبب لم يؤمر به فهو ميتة، لا يحل التناول منها إلا في حال الاضطرار.

وفي قوله: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا}.

دلالة أن المحرم من الدم هو المسفوح، والدم الذي يكون في اللحم ويخالط اللحم ليس بحرام، والدم المسفوحُ حرامٌ.

 قال أَبُو عَوْسَجَةَ: المسفوح المصبوب؛ تقول: سفحت: صببت.

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: مسفوحًا، أي: سائلا.

وقال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: المسفوح: هو الذي يهراق.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَحْمَ خِنْزِيرٍ}.

ذكر اللحم وذكر حرمة الميتة؛ ليعلم أن الخنزير بجوهره حرام، والميتة حرمتها لا بجوهرها، لكن لما اعترض؛ لذلك قلنا: إنه لا بأس بالانتفاع بصوف الميتة ووبرها وعظمها، ولا يجوز من الخنزير شيء، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ}.

قيل: غير باغ: يستحله في دينه، ولا عاد، أي: ولا متعد بألم يضطر إليه فأكله. وقد ذكرنا أقاويلهم والاختلاف في تأويله في صدر الكتاب.

{فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ}، لأكله الحرام في حال الاضطرار، {رَحِيمٌ}، حيث رخص الحرام في موضع الاضطرار، وهذا -أيضًا- قد مضى ذكره في غير موضع.

١٤٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ... (١٤٦)

قيل: مثل هذا النعامة والبعير.

وقيل: كل ذي ظفر: مثل الديك، والبط، والبعير، وكل ما لم يكن منفرج

الأصابع والقوائم.

وقيل: حرمنا كل ذي حافر من نحو حمار الوحش والوز وغيره.

وقيل: {حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ}: كل ذي مخلب من الطير، وكل ذي ناب من السباع، ومن الدواب: كل ذي ظفر منشق؛ مثل: الأرنب والبعير وأشباههما، وهو قول ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنهما - والأشبه أن يكون ما ذكر من تحريم كل ذي ظفر عليهم هو ما يحل أكله لا ما يحرم وهو ما ذكر بعضهم أنه البعير والغنم لأنه ذكر، في آية أخرى {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ. . .} الآية.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا}.

قيل: تحرم شحوم بطونهما، ومن الثروب، وشحم الكليتين.

{أَوِ الْحَوَايَا}. وهي المباعر والمصارين، أي: الشحم الذي عليهما.

{أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ}.

قيل: الألية.

وقيل: قوله: {إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا}: هو سمن اللحم، قيل فيه أقاويل مختلفة في هذا، وفي الأول في قوله: {حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ}، لكن ليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة؛ لأن تلك شريعة قد نسخت، والعمل بالمنسوخ حرام، فإذا لم يكن علينا العمل بذلك فليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة كان ذا أو ذا، وإنَّمَا علينا أن نعرف: لم كان ذلك التحريم عليهم؟ وبم كان تحريم هذه الأشياء عليهم؟

فهو - واللّه أعلم - ما ذكر في قوله: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللّه كَثِيرًا. . .} الآية، أخبر أن ما حرم عليهم من الطيبات؛ بظلمهم للذين ظلموا؛ ولذلك قال اللّه - تعالى -:

{ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ}.

أخبر أن ذلك جزاء بغيهم الذي بغوا.

والثاني: أنهم كانوا يدعون ويقولون: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللّه وَأَحِبَّاؤُهُ}، يقول: لو كنتم صادقين في زعمكم أنكم أبناء اللّه وأحباؤه، لكن لا أحد يعاقب ولده أو حبيبه بأدنى ظلم، ولا يحرم عليه الطيبات، فإذا كان اللّه حرم عليكم الطيبات، وجزاكم بتحريم أشياء؛ عقوبة لكم بظلمكم وبغيكم - ظهر أنكم كذبتم في دعاويكم، وافتريتم بذلك على اللّه.

 وفيه دليل إثبات رسالة مُحَمَّد ونبوته - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لأنهم كانوا يحرمون هذه الأشياء فيما بينهم، ولا يقولون: إنهم ظلمة، وإن ما حرم عليهم كان بظلم كان منهم وبغي، ثم أخبرهم النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن ما حرم عليهم من الطيبات إنما حرم بظلمهم وبغيهم؛ دل أنه إنما أخبر بذلك عن اللّه، وبه عرف ذلك؛ فدل أنه آية من آيات نبوته - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ}.

أي: ذلك التحريم عقوبة لبغيهم وظلمهم.

{وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} أي: إنا لصادقون، بالإنباء أن ذلك كان بظلمهم وبغيهم، أو إنا لصادقون في كل ما أخبرنا وأنبانا.

١٤٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ ... (١٤٧)

قال الحسن: فإن كذبوك فيما تدعوهم إليه وتأمرهم به: من التصديق، والتوحيد له، والربوبية فقل: ربكم ذو رحمة واسعة، إذا رجعتم عن التكذيب، وصدقتم وعرفتم أنه واحد لا شريك له، يغفر لكم ما كان منكم في حال الكفر، ويكفر عنكم سيئاتكم التي كانت.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ}.

كأنه على التقديم والتأخير، كأنه يقول: فإن كذبوك فقل: {وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ}.

ثم قل: {رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ}: يسع في رحمته العفو إذا تبتم.

وقال غيره من أهل التأويل: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ} يا مُحَمَّد حين أنبأتهم بما حرم اللّه عليهم بظلمهم وبغيهم، {فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} لا يهلك أحدًا وقت ارتكابه المعصية، ولا يعذبه حالة ذلك، لكنه يؤخر، {وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ} أي: عذابه إذا نزل بقوم مجرمين بجرمهم، واللّه أعلم.

١٤٨

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللّه مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ}.

قيل: الآية في مشركي العرب.

قالوا ذلك حين لزمتهم المناقضة، وانقطع حجاجهم في تحريمهم ما حرموا من الأشياء، وأضافوا ذلك إلى اللّه، وهو صلة قوله: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ. . .} إلى آخر ما ذكر إلى قوله: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللّه بِهَذَا}، فلما لزمتهم المناقضة وانقطع حجاجهم فزعوا عند ذلك إلى هذا القول: {لَوْ شَاءَ اللّه مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ}، فيقول اللّه لنبيه: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}: من الأمم الخالية رسلهم كما كذبك هَؤُلَاءِ، وكانوا يقولون لرسلهم ما قال لك هَؤُلَاءِ: {لَوْ شَاءَ اللّه مَا أَشْرَكْنَا. . .} إلى آخر ما ذكر.

ثم اختلف في تأويل قوله: {لَوْ شَاءَ اللّه مَا أَشْرَكْنَا} إلى آخر ما ذكر.

قال الحسن، والأصم: إن المشيئة - هاهنا -: الرضا؛ قالوا: رضي اللّه بفعلنا وصنيعنا، حيث فعل آباؤنا مثل ما فعلنا، وصنعوا مثل ما صنعنا، فلم يحل اللّه بينهم وبين ذلك، ولا أخذ على أيديهم، ولا منعهم عن ذلك، فلو لم يرض بذلك منهم لكان يحول ذلك عنهم ويمنعهم عنه.

وإنما استدلوا بالرضا من اللّه والإذن فيه بما كانوا يخوفون إياهم الهلاك والعذاب بصنيعهم الذي كانوا صنعوا، ثم رأوهم ماتوا على ذلك ولم يأتهم العذاب، فاستدلوا بتأخير نزول العذاب عليهم على أن اللّه رضي بذلك، واللّه أعلم.

وليس للمعتزلة في ظاهر هذه الآية أدنى تعلق؛ لأنهم يقولون: إن اللّه - تعالى - قد ردّ ذلك القول الذي قالوا، وعاتبهم على ذلك القول بقوله: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا}، وأوعدهم على ذلك وعيدًا شديدًا، فلو كان يجوز إضافة المشيئة إلى اللّه تعالى في ذلك على ما تضيفون أنتم لم يكن يرد ذلك عنهم، ولا عاتبهم على ذلك، ولا أوعدهم وعيدًا في ذلك؛ دل أنه لا يجوز أن يقال ذلك، ولا إضافة المشيئة إليه في ذلك.

فنقول - وباللّه التوفيق -: إن المشيئة - هاهنا - تحتمل وجوهًا:

أحدها: ما قال الحسن والأصم من الرضا؛ قالوا: إن اللّه رضي بذلك.

والثاني: الأمر والدعاء إلى ذلك؛ يقولون: إن اللّه أمرهم بذلك، ودعاهم إلى ذلك.

والثالث: كانوا يقولون ذلك على الاستهزاء والسخرية، لا على الحقيقة، وهكذا أمر المجوس أنهم إذا قيل لهم هذا: لم لا تؤمنون وتسلمون؟ يقولون ما قال هَؤُلَاءِ: لو شاء اللّه لآمنا ولا أشركنا؛ فهذا العتاب الذي لحقهم والوعيد الذي أوعدهم إنما كان لما قالوا ذلك استهزاء منهم، أو لما ادعوا من الأمر والدعاء على اللّه وافتروا عليه، أو الرضا أنه رضي بذلك.

على هذه الوجوه الثلاثة تخرج المشيئة في هذا الموضع - واللّه أعلم - لا على ما قاله المعتزلة، وهو ما ذكر في آية أخرى: {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} هي كلمة حق، لكن قالها استهزاء وهزؤا، فلحقه العتاب.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} أي: هل عندكم من بيان وحجة من اللّه فتبينوه لنا وتظهروه على زعمكم أن اللّه أمركم بذلك ودعاكم إليه أو ترككم على ذلك لما رضي بذلك دون أن أمهلكم ليعذبكم، أو ليس قد ترك من خالفكم في ذلك، ثم لم يدل تركه إياهم على أنه رضي بذلك، فقال اللّه:

 {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ}.

أي: ما تتبعون في ذلك إلا الظن.

{وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ}

أي: ما هم إلا يخرصون ويكذبون في ذلك، ليست لهم حجة ولا بيان على ما يدعون من الأمر والدعاء إلى ذلك، والترك على ما هم عليه من الرضا به.

١٤٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ فَللّه الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ... (١٤٩)

قيل: الحجة البالغة: التي إذا بلغت كل شبهة أزالتها، وكل غافل نائم نبهته وأيقظته.

وقيل: الحجة البالغة: التامة القاهرة، الظاهرة على كل شيء، الغالبة عليه، لم تبلغ شيئًا إلا قهرته وغلبته.

وقال الحسن: الحجة البالغة في الآخرة: لا يعذب أحدًا ولا يعاقبه إلا لحجة تلزم، لا يعاقب بهوى أو انتقام أو شهوة على ما يعاقب في الشاهد ولا غيره، ما من أحد من الخلائق إلا وللّه عليه الحجة البالغة، أما الملك المقرب: فإن اللّه جبله على الطاعة فلا يعصيه، منًّا من اللّه عليه طولا وفضلا، فهو مقصر عن شكر نعمة اللّه عليه، وأما النبي المرسل والعبد الصالح: فللّه عليهما السبيل والحجة من غير وجه.

ثم تحتمل الحجة البالغة وجوهًا:

أحدها: هذا القرآن الذي أنزله على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - آية معجزة وحجة بالغة ما عجز الخلائق عن إتيان مثله، فدل عجزهم عن إتيان مثله على أنه آية من آيات اللّه، وحجة من حجج اللّه أرسلها إلى نبيه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

والثاني: أنه جعل في كلية الخلائق والأشياء ما يشهد أن الخلائق والأشياء كلها له شهادة خلقه، وتدل كلية الأشياء على وحدانيته، فهو حجة بالغة.

والثالث: ألسن الرسل وأنباؤهم؛ حيث لم يؤاخذوهم بكذب قط فيما بينهم، ولا جرى على لسانهم كذب قط، ولا فحش؛ عصمهم - عَزَّ وَجَلَّ - عن ذلك، فدل ذلك على أنهم إنما خصوا بذلك؛ لما أن اللّه جعلهم حججًا وآيات على وجه الأرض حجة بالغة، وباللّه العصمة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {فَللّه الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} في تحريم الأشياء وتحليلها، ليس لهَؤُلَاءِ الذين يحرمون أشياء لهم في تحريمهم حجة، إنما يحرمون ذلك بهوى أنفسهم، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}.

قال الحسن: المشيئة - هاهنا -: مشيئة القدرة،

وقال: لو شاء قهرهم وأعجزهم حتى لم يقدروا على معصية قط؛ على ما جعل الملائكة جبلهم على الطاعة حتى لا يقدروا على معصية قط، ثم هو يفضل الملائكة على الرسل والأنبياء والبشر جميعًا، ويقول: هم مجبورون على الطاعة، فذلك تناقض في القول لا يجوز من كان مقهورًا مجبورًا على الطاعة يفضل على من يعمل بالاختيار مع تمكن الشهوات فيه، والحاجات التي تغلب صاحبها وتمنعه عن العمل بالطاعة، أو يقول: فضلهم بالجوهر والأصل، فلا يجوز أن يكون لأحد بالجوهر نفسه فضل على غير ذلك الجوهر؛ لأن اللّه - تعالى - لم يذكر فضل شيء بالجوهر إلا مقرونًا بالأعمال الصالحة الطيبة؛ كقوله: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّه مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّه الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (٢٦). وغيره.

وقوله: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ}،

وقوله: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}، ونحوه، لم يفضل أحدًا بالجوهر على أحد، ولكن إنما فضله بالأعمال الصالحة؛ لذلك قلنا: إن قوله يخرج على التناقض، وتأويل قوله: {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} عندنا ظاهر، لو شاء لهداهم جميعًا، ووفقهم للطاعة، وأرشدهم لذلك، وهو كقوله: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ. . .} الآية، فإذا كان الميل إلى الكفر لمكان ما جعل لهم من الفضة والزينة، فإذا كان ذلك للمؤمنين آمنوا، ثم لم يجعل كذلك، دل هذا على أن قولهم: {لَوْ شَاءَ اللّه مَا أَشْرَكْنَا} هو الأمر والرضا، أو ذكروا على الاستهزاء؛ حيث قال: {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}.

والمعتزلة يقولون: المشيئة - هاهنا - مشيئة قسر وقهر، وقد ذكرنا ألا يكون في حال القهر إيمان، وإنَّمَا يكون في حال الاختيار، والمشيئة مشيئة الاختيار، ولا تحتمل مشيئة الخلقة؛ لأن كل واحد بمشيئة الخلقة مؤمن، فدل أن التأويل ما ذكرنا.

١٥٠

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللّه حَرَّمَ هَذَا ... (١٥٠) الذي تحرمون أنتم من الوصيلة، والسائبة، والحامي، وما حرموا من الحرث والأنعام {فَإِنْ شَهِدُوا}. أن اللّه حزمه {فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ}.

كيف قال: {هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللّه حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ}

دعاهم إلى أن يأتوا بالحجة، فإذا أقاموها لا تشهد معهم، لكن هذا - واللّه أعلم - أنهم يعلمون أن التحريم إلى اللّه، ليس إلى أحد من الخلائق، فإن شهدوا بأنه حرم، فلا تشهد معهم؛ فإنهم شهدوا بباطل.

ويحتمل: أن يكون أمره أن يسألهم شهداء من أهل الكتاب يشهدون لهم بأن اللّه حرم هذا؛ لأن هَؤُلَاءِ كانوا أهل شرك، وعبدة الأوثان يسألون أهل الكتاب وأهل الرسل يشهدون لهم بذلك، فإن شهدوا فلا تشهد معهم أي: لا يشهدون لهم بذلك، فلا تشهد أنت -أيضًا- معهم؛ على الإخبار أنهم لا يشهدون؛ وهو كقوله: {لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ. . .} الآية، أخبر عن المنافقين أنهم قالوا: {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللّه يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. . .}، ثم أخبر عنهم أنهم {لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ. . .} الآية، لكنه أخبر أنهم لا يقاتلون رأسًا، وإلا لو نصروهم لا يولون الأدبار؛ فعلى ذلك قوله: {هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللّه حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ}؛ لأنهم لا يشهدون، واللّه أعلم.

ويشبه أن يسألوا حتى يأتوا بآبائهم حتى يشهدوا؛ لأنهم كانوا يقولون: إنا وجدنا عليها آباءنا، واللّه أمرنا بها، وإن اللّه رضي بصنيع آبائنا؛ حيث لم يهلكهم، وتركهم على ذلك، فيسألون أن يأتوا بأُولَئِكَ حتى يكونوا هم الذين يشهدون على ذلك، فلن يجدوا إلى ذلك سبيلا أبدًا؛ وهو كقوله: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّه إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}، فلا يجدون أبدًا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا}.

دل أن ما كانوا يحرمون إنما يحرمون بهواهم، لا بحجة وبرهان.

{وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}.

 أي: يعدلون الأصنام في العبادة والألوهية بربهم.

١٥١

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}، يقول: تعالوا أقرأ عليكم ما حرم ربكم، وأبين لكم ما حرم بحجة وبرهان، وأن ما حرمتم أنتم حرمتم تقليدًا منكم لآبائكم، أو حرمتم بهوى أنفسكم، لا حرمتم بأمر أو حجة وبرهان.

ثم بين الذي حرم عليهم فقال: {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}.

الشرك حرام بالعقل، ويلزم كل من عقل التوحيد ومعرفة الرب؛ لما كان منه من تركيب الصور وتقويمها بأحسن صور يرون ويعرفون أنه لم يصورها أحد سواه، ولا قومها، ولا يشركه آخر في ذلك، وما كان منه إليكم من أنواع الإحسان والأيادي، فكيف تشركون غيره في ألوهيته وربوبيته؟! فذلك حرام بالعقل والسمع.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}.

يخرج على وجهين:

أحدهما: على الوقف والقطع على قوله: {عَلَيْكُمْ}، والابتداء من قوله: {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}؛ كأنه لما قال: {أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}.، فقالوا: أي شيء الذي حرم علينا ربنا؟ فقال: {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}.

والوجه الآخر: على الوصل بالأول، ولكن على طرح " لا "؛ فيكون كأنه قال: حرم ربكم عليكم أن تشركوا به شيئًا، وحرف " لا " قد يطرح ويزاد في الكلام.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}.

أي: برًّا بهما.

فَإِنْ قِيلَ: قال - تعالى -: {أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}، وهاهنا يأمر بالإحسان إليهما، ولم يذكر المحرم؟

قيل: في الأمر بالإحسان إليهما تحريم ترك الإحسان؛ فكأنه قال: حرم عليكم ترك الإحسان إلى الوالدين، وفرض عليكم برهما والإحسان إليهما.

ثم فيه: إنكم تعرفون بالعقل أن الإحسان إلى الوالدين واجب، والإساءة إليهما حرام عليكم، ولم يكن منهما إليكم من الإحسان أكثر ممّا كان من اللّه إليكم، فكيف تختارون الإساءة إلى اللّه والإشراك في عبادته غيره، ولا تختارون الإساءة إلى الوالدين؟! بل تختارون الإحسان إليهما.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ}.

إنهم كانوا يقتلون أولادهم خشية الفقر والفاقة، فهو مما حرم عليهم، وهذا يدل على أن الحظر في حال لا يوجب الإباحة في حال أخرى؛ لأنه قال: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ}، ليس فيه إباحة القتل إذا لم يكن هنالك خشية الإملاق، لكن ذكر هذا؛ لأنهم أإنما، كانوا يقتلون في ذلك الحال، ففي ذلك خرج النهي.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}.

أي: على ما يخرج لكم من الزرع والثمار، والنبات، فرزقكهم من ذلك، فعلى ذلك يرزق أولادكم مما يخرج من الأرض من النبات والزروع والثمار، فلا تقتلوهم، فإذا لم تقتلوا أنفسكم خشية الفقر والفاقة، كيف تقتلون أولادكم لذلك؛ فالذي يرزقكهم هو الذي يرزق أولادكم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}.

يحتمل قوله: {وَلَا تَقْرَبُوا}، أي: لا تواقعوها.

ويحتمل: لا تدنوا منها، ولكن اجعلوا بينكم وبين الفواحش والمحرمات حجابًا من الحلال، وهكذا الحق على المسلم ألا يدنو من الحرام، ويجعل بينه وبين ذلك حجابًا وسترًا من الحلال.

ثم اختلف في قوله: {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}:

قيل: الفواحش: الزنا، ما ظهر منها: المخالطة باللسان، والمجالسة معهن، {وَمَا بَطَنَ}: فعل الزنا نفسه؛ كانوا يجتمعون، ويجالسونهن، ولكن لا يجامعونهن بين أيدي الناس، ثم إذا خلوا بهن زنوا بهن.

وقيل: كانوا يزنون بالحرائر سرا، وبالإماء ظاهرًا؛ فحرم ذلك عليهم.

وقيل: {مَا ظَهَرَ مِنهَا}: نكاح الأمهات، {وَمَا بَطَنَ}: هو الزنى، وكان

نكاح الأمهات ظاهرًا، وهو قول ابن عَبَّاسٍ وسعيد بن جبير، رضي اللّه عنهما.

وقيل: الفواحش: المحرمات جملتها، فما ظهر منها: فيما بينهم وبين الخلق، وما بطن. فيما بينهم وبين اللّه تعالى.

وقيل: {مَا ظَهَرَ مِنهَا}: ما يكون بالجوارح، {وَمَا بَطَنَ}: ما يكون بالقلب.

وعن مجاهد قال: {مَا ظَهَرَ}: الجمع بين الأختين، وتزوج الرجل امرأة أبيه وما بطن منها: الزنى، وما حرم أيضا.

ويحتمل قوله: {مَا ظَهَرَ}: ما يرى غيرُهُ ويبصر، {وَمَا بَطَنَ}: ما يكون بالعين والقلب؛ على ما رُويَ عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " العينان تزنيان، واليدان تزنيان " وما بطن: يكون زنى العين والقلب؛ لأنه لا يعلمه غير الناظر، واللّه أعلم؛ فيصير كأنه ذكر التحريم في كل حرف من ذلك، أي: حرم عليكم الشرك، وحرم عليكم ترك الإحسان إلى الوالدين، وحرم قتل الأنفس إلا بالحق؛ فيصير كأنه ذكر التحريم في كل من ذلك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّه إِلَّا بِالْحَقِّ}.

قيل: بالحق: إذا ارتد يقتل به، وفي القصاص، وفي الزنى إذا كان محصنًا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ}.

{ذَلِكُمْ} يعني: المحرمات التي ذكر {وَصَّاكُمْ بِهِ} اختلف فيه:

قيل: {وَصَّاكُمْ بِهِ}: فرض عليكم.

وقيل: {وَصَّاكُمْ بِهِ}: أمركم به.

وقيل: {وَصَّاكُمْ بِهِ}: بين لكم المحرم. وكله يرجع إلى واحد.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أنه لم يحرم إلا ما ذكر ولم يحرم ما حرمتم

 أنتم من الأنعام وغيرها.

و {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي: لكي تنتفعوا بعقولكم.

أو نقول: إن ذلكم وصاكم به لتعقلوا؛ لأن حرف " لعل " من اللّه على الوجوب، أي يعقلون عن اللّه بما خاطبهم به وأمرهم.

١٥٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ... (١٥٢)

قال أبو بكر الكيساني: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ}؛ أي: لا تأكلوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن.

وقال: ثم اختلف في الوجه الذي يحسن:

قَالَ بَعْضُهُمْ: هو أن يعمل له فيأكل من ماله أجرًا لعملِهِ.

وقال آخرون: يأكله قرضًا، وذلك مما اختلفوا فيه.

وقال غيرهم: هو أن ينتفع بدوابه، ويستخدم جواريه، ونحو ذلك،

وقال: وذلك مما لا يحتمل تأويل الآية.

وعندنا أن الآية باحتمال هذا أولى؛ لما يقع لهم الضرورة في استخدام مماليكه، وركوب دوابه، والانتفاع بذلك؛ لما يقع لهم المخالطة بأموال اليتامى؛ كقوله: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّه يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ}، فإذا كان لهم المخالطة، لا يسلمون عن الانتفاع بما ذكرنا.

وقال الحسن: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، أي: إلا بالوجه الذي جعل له، والوجه الذي جعل له هو أن يكون فقيرًا، وهو ممن يفرض نفقته في ماله، فله أن يقرب ماله، وعندهم أن نفقة المحارم تفرض في مال اليتيم إذا كانوا فقراء، فبان أن

جعل له التناول في ماله، وإن كان لا يفرض نفقته في ماله.

ثم الآية تحتمل وجهين عندنا:

أحدهما: ألا تقربوا مال اليتيم إلا بالحفظ والتعاهد له، أمر كافل اليتيم أن يحفظ ماله ويتعاهده.

والثاني: يقرب ماله بطلب الزيادة له والنماء؛ ولذلك قال أبو حنيفة - رضي اللّه عنه - بأنه يجوز لكافل اليتيم إذا كان وصيًّا أن يقرب ماله بيعًا إذا كان ذلك خيرًا لليتيم؛ إذا وقع له الفضل، وطلب له الزيادة والنماء.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}.

قال أبو بكر: قوله: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} أي: حتى يبلغ الوقت الذي يتولى أموره؛ كقوله: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا. . .} الآية.

وقال غيره من أهل التأويل: الأشد: ثمانية عشر سنة.

ويشبه أن يكون الأشد هو الإدراك، أي حتى يدركوا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} يشبه أن يكون قوله: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ} في اليتامى أيضًا، أمر أن يوفوا لهم الكيل والميزان، ونهاهم ألا يوفوا لهم على ما نهاهم عن قربان مالهم إلا بالتي هي أحسن، وكذلك قوله: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}، أمكن أن يكون هذا في اليتامى أيضًا، أي: إذا قلتم قولا لليتامى، فاعدلوا في ذلك القول، وإن كان ذا قربى منكم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَبِعَهْدِ اللّه أَوْفُوا}.

أي: بعهد اللّه الذي عهد إليكم في اليتامى، أوفوا بقوله: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}،

وقوله: {وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا}، وغير ذلك؛ أوفوا بما عهد إليكم فيهم.

ويحتمل أن يكون قوله - تعالى -: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ}: في اليتامى وفي غيرهم في كل الناس، وهو لوجهين:

أحدهما: أن في ترك الإيفاء اكتساب الضرر على الناس، ومنع حقوقهم، فأمر بإيفاء ذلك كقوله: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}.

والثاني: للربا؛ لأنه لزم مثله كيلا في الذمة، فإذا لم يوفه حقه وأعطاه دونه، صار ذلك الفضل له ربا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}.

يحتمل هذا وجهين:

يحتمل: لا نكلف أحدًا ما في تكليفنا إياه تلفه، وإن كان يجوز له تكليف ما في التكليف تلفه؛ كقوله: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ. . .} الآية، وعلى ما أمر من بني إسرائيل بقتل أنفسهم.

والثاني: لا نكلف أحدًا ما في تكليفنا إياه منعه؛ نحو: من يؤمر بشيء لم يجعل له الوصول إلى ذلك أبدًا، ويجوز أن يؤمر بأمر وإن لم يكن له سبب ذلك الأمر بعد أن يجعل لهم الوصول إلى ذلك السبب؛ نحو: من يؤمر بالصلاة وإن لم يكن معه سبب ذلك وهو الطهارة، ونحو: من يؤمر بالحج بقوله: {وَللّه عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} هذا يدل على أن من جعل في وسعه الوصول إلى شيء، يجوز أن يكلف على ذلك، ويصير باشتغاله بغيره مضيعًا أمره.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا}.

قال بعض أهل التأويل: هذا في الشهادة؛ كقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للّه وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ. . .} الآية.

ويحتمل قوله: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا}: كل قول، والقول أحق أن يحفظ فيه العدالة من الفعل؛ لأنه به تظهر الحكمة من السفه، والحق من الباطل؛ فهو أولى.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَبِعَهْدِ اللّه أَوْفُوا} أي: بعهد اللّه الذي عهد إليكم في التحليل والتحريم، والأمر والنهي، وغير ذلك.

 {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.

ذكر - هاهنا - {تَذَكَّرُونَ}، وفي الآية الأولى: {تَعْقِلُونَ}، وفي الآية الأخيرة: {تَتَّقُونَ}، إذا عقلوا تفكروا واتعظوا، وعرفوا ما يصلح وما لا يصلح أثم اتقوا المحرمات وما لا يصلح. أو. {تَذَكَّرُونَ}، أي: تتعظون بما وعظكم به وزجركم عنه، وتعقلون مهالككم وتتقون محارمكم.

١٥٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣) يحتمل وجوهًا:

يحتمل: {وَأَنَّ هَذَا} الذي ذكر في هذه الآيات من أمره ونهيه، وتحريمه وتحليله {صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} على ما قاله أهل التأويل: إنها آيات محكمات، لم ينسخهن شيء في جميع الكتب، وهنّ محرمات على بني آدم كلهم.

ويحتمل قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا}: الذي دعا إليه الرسل من كل شيء هو صراطي مستقيمًا {فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ}؛ لأن الرسل يدعون إلى ما يدعون بالحجج والبراهين.

ويحتمل قوله: {هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} أصل الدِّين، ووحدانية اللّه، وإخلاص الأنفس له على غير إشراك في عبادته وألوهيته، وأن يكون قوله: وأن الذي جاء به مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أو الذي ذكر في القرآن، وإلا ذكر هذا ولم يشر إلى شيء بعينه، فيحتمل ما ذكرنا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}.

أمر - عَزَّ وَجَلَّ - باتباع ما ذكر من الصراط المستقيم، ونهى عن اتباع السبل؛ لأن غيره من الأديان المختلفة والأهواء المتشتتة لا حجة عليها ولا برهان، وما ذكر من الصراط المستقيم هو دين بحجة وبرهان، لا كغيره من الأديان، وإن كان يدعي كلٌّ مِنْ ذلك أن الذي هو عليه دين اللّه وسبيله.

{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُو}

المحرمات والمناهي والمعاصي التي ذكر في هذه الآية، أو لعلكم، تتقون السبل والأديان المختلفة.

وأصله: أن السبيل المطلق: سبيل اللّه، والدِّين المطلق: دين اللّه، والكتاب المطلق: كتاب اللّه.

١٥٤

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا}.

اختلف فيه؛ قال الحسن: قوله: {تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ}، أي: من أحسن صحبته، تمت نعمة اللّه وكرامته عليه في الآخرة.

وقيل: {تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ}، يعني: على المحسنين والمؤمنين، و " على " بمعنى: للذي أحسن وللذي آمن، ويجوز " على " في موضع اللام؛ كقوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} أي: للنصب.

وقتادة قال: فمن أحسن فيما آتاه اللّه، تمت عليه كرامة اللّه في جنته ورضوانه، ومن لم يحسن فيما آتاه اللّه، نزع اللّه ما في يده، ثم أتى اللّه ولا عذر له.

وقال أبو بكر الكيساني في قوله: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ}: أي: ثم آتيناكم من الحجج والبيان تمامًا من موسى وكتابه، أي: موسى وكتابه مصدق وموافق لما أعطاكم؛ بهقوله: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً. . .} الآية.

ويحتمل: تمام ما ذكرنا تمامًا بالنعمة والكرامة.

ويحتمل: تمامًا بالحجة والبيان، وتمامًا بالحكمة والعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -. {عَلَى الَّذِي أَحسَنَ}.

 أي: للذي أحسن.

وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: {تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ}، أي: تبيانا لكل شيء، وهدى من الضلال والشبهات، ونعمة، ورحمة من العذاب والعقاب.

{لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ}.

أي: ليكونوا بلقاء ربهم يؤمنون؛ هو على التحقيق.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: {تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} يقول: أتم له الكتاب على أحسنه على الذي بلغ من رسالته، وتفصيل كل شيء: بيان كل شيء {وَهُدًى}، أي: تبيانا من الضلالة {وَرَحْمَةً}، أي: نعمة، {لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ}، أي: بالبعث بعد الموت، {يُؤْمِنُونَ}، أي: ليكونوا مؤمنين بالبعث.

ومنهم من يقول في قوله: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ}: إنه وإن أتى بحرف الترتيب، فإنه على الإخبار؛ كأنه قال: ثم قد كنا آتينا موسى الكتاب تمامًا، معناه: وقد آتيناه.

١٥٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ ... (١٥٥) يعني: القرآن أنزلناه.

{مُبَارَكٌ}.

قال أبو بكر الكيساني: البركة هي التي من تمسك بها أوصلته إلى كل خير وعصمته من كل شر، وهو المبارك.

وقال الحسن: هو المبارك لمن أخذه واتبعه وعمل به، فهو مبارك له، وسمي هذا القرآن مباركًا؛ لما يبارك فيه لمن اتبعه، هو مبارك لمتبعه والعامل به، وإلا من لم يتبعه فليس هو بمبارك له، بل هو عليه شدة ورجس؛ كقوله - تعالى -: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ)، فهو ما ذكرنا مبارك لمن اتبعه وتمسك به، وسمي مجيدًا -أيضًا- وكريمًا لمن اتبعه يصير مجيدًا

 كريمًا، وكذلك سمي روحًا ووحيًا؛ لما يحيا به من اتبعه.

وأصل البركة: هو أن ينتفع بشيء على غير تبعة، فهو البركة؛ وعلى ذلك يخرج قول الناس بعضهم لبعض: بارك اللّه لك في كذا، أي: جعل لك فيه منافع لا تبعة عليك فيه؛ فعلى هذا يجيء أن يكون القرآن مباركًا بكسر الراء، لكن قيل: مبارك؛ لانتفاع الناس به. والبركة تحتمل وجهين:

أحدهما: اسم لكل خير يكون أبدًا على النماء والزيادة.

والثاني: اسم لكل منفعة لا تبعة عليه فيها، ولا مؤنة، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا}.

أي: اتبعوا إشاراته، {وَاتَّقُوا} أي: اتقوا مخالفته {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}؛ أي: لكي ترحموا، من اتبع أوامره وإشاراته واتقى، نواهيه ومحارمه رُحِمَ.

١٥٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (١٥٦)

قال أهل التأويل: أنزل الكتاب على الطائفتين: اليهود والنصارى، ومن أنزل الكتاب على اليهود والنصارى إنما أنزله على المسلمين، لكن المعنى - واللّه أعلم -: إنما أنزل الكتاب على طائفتين، أي: إنما يظهر نزول الكتاب التوراة والإنجيل عند الخلق بطائفتين من قبلنا سموا يهود ونصارى بالتوراة والإنجيل، وإلا لم يكن وقت نزول التوراة يهود، ولا وقت نزول الإنجيل نصارى.

ثم قوله: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ} هو صلة قوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ} لئلا تقولوا: إنما أنزل الكتاب على طائفتين من فبلنا ولم ينزل علينا.

ويجوز " أن " بمعنى " لن "، أي: لن تقولوا: إنما أنزل الكتاب؛ كقوله: {أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ}، أي: لن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ}.

 أي: وقد كنا عن دراستهم لغافلين، ويجيء أن يكون عن دراستها؛ لأنها دراسة الكتب، لكن أضيف إليهم، أي: أُولَئِكَ القوم.

١٥٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ ... (١٥٧)

هو على ما ذكرنا لئلا تقولوا: لو أنا أنزل علينا الكتاب.

{لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ}.

أنزل اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - هذا القرآن؛ قطعًا لحجاجهم، ومنعًا لعذرهم، وإن لم يكن لهم الحجاج والعذر، وعلى ذلك يخرج قوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّه حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} لا يكون لهم حجة على اللّه، وإن لم ينزل الرسل والكتب.

ثم يحتمل عذر هَؤُلَاءِ أن يقولوا: إنما أنزل الكتاب بلسانهم، لم ينزل بلساننا، ونحن لا نعرف لسانهم، وكنا عن دراستهم لغافلين، ولو كان لهم العذر والاحتجاج بهذا، لكان للعجم الاحتجاج والعذر في ترك اتباع القرآن؛ لما لم ينزل بلسان العجم، ولم يعرفوا هم لسانهم، أعني: لسان العرب، ثم لم يكن للعجم الاحتجاج بذلك؛ لما جعل لهم سبيل الوصول إلى معرفته؛ فعلى ذلك لا عذر للعرب في ترك اتباع ما في الكتب التي أنزلت بغير لسانهم؛ لما في وسعهم الوصول إلى معرفتها، والتعلم منهم، والأخذ عنهم، وهذا يدل على أنه يجوز التكليف بأشياء ليست معهم أسبابها، بعد أن جعل لهم سبيل الوصول إلى تلك الأسباب.

والثاني: من احتجاجهم أن يقولوا: إن اليهود والنصارى قد اختلفت وتفرقت تفرقًا لا اجتماع بينهم أبدًا، فكيف نتبعهم في ذلك؟!

فيقال: إن مذاهبهم وكتبهم إنما تفرقت بهم وبقولهم، فقد أنزل من الحجج والبيان ما يعرف ذلك الذي تفرق بهم، فلا حجة لهم في ذلك؛ وهذا كقوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللّه جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا}، وقد جاءتهم آيات فلم يؤمنوا بها؛ فعلى ذلك قوله: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا}،

وقوله: {أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ}.

وفي الآية دلالة على أن المجوس ليسوا من أهل الكتاب؛ لأنهم لو كانوا أهل كتاب

صار أهل الكتاب ثلاث طوائف، وقد أخبر أنه إنما أنزل الكتاب على طائفتين، وذلك محال.

 فَإِنْ قِيلَ: إنما هذا حكاية من اللّه - تعالى - عن المشركين، قلنا: معناه - واللّه أعلم -: إني أنزلت عليكم الكتاب؛ لئلا تقولوا: إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا، فلم يقولوا ذلك، ولكن اللّه قطع بإنزاله الكتاب حجتهم التي علم أنهم كانوا يحتجون بها لو لم ينزله، وإن لم يكن لهم في ذلك حجة ولا عذر، وهو ما ذكرنا، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ}.

قيل: القرآن.

وقيل: مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

{وَهُدًى}.

أي: هدى من الضلالة وكل شبهة.

{وَرَحْمَةٌ}.

أي: ذلك منه رحمة ونعمة.

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّه}.

أي: لا أحد أظلم ممن كذب بآيات اللّه.

قيل: بآيات اللّه: حجج اللّه.

وقيل: دين اللّه، وقد ذكرناها في غير موضع.

وقد ذكرنا أن قوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ} حرف استفهام في الظاهر، ولكن ذلك من اللّه على الإيجاب؛ كأنه قال: لا أحد أوحش ظلمًا ممن كذب بآيات اللّه وصدف عنها

وقوله: {وَصَدَفَ عَنْهَا} أي أعرض عنها {سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ} يعرضون ويبدلون. . . الآية ظاهرة.

١٥٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا ... (١٥٨)

قال أهل التأويل: ما ينظرون، وحرف " هل " هو حرف استفهام وتعجب، لكن

أهل التأويل قالوا: ما ينظرون، حملوا على الجواب؛ لأنه لم يخرج له جواب، فجوابه ما قالوا: ما ينظرون؛ كما قالوا في قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّه كَذِبًا} أي: لا أحد أظلم ممن كذب، هو جواب؛ لأن جوابه لم يخرج، فجوابه ما قالوا: لا أحد أظلم؛ لأنه سؤال واستفهام، فجوابه ما ذكروا؛ فعلى ذلك قوله: {هَل يَنظُرُونَ} هو استفهام ولم يخرج له الجواب، فجوابه: لا ينظرون؛ كقوله: {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً}.

ثم قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ}.

هذا - واللّه أعلم - يشبه أن تكون الآية في المعاندين منهم والمتمردين، الذين همتهم العناد والتعنت، خرج على إياس رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، من أُولَئِكَ الكفرة، وكان رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حريصًا على إيمانهم مشفقًا على أنفسهم؛ حتى كادت نفسه تذهب حسرات عليهم؛ حرصًا على إيمانهم وإشفاقًا على أنفسهم؛ كقوله: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} وكقوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ. . .} الآية، ونحوه، فآيسه اللّه - تعالى - عن إيمان أُولَئِكَ الكفرة؛ لئلا يطمع في إيمانهم وإسلامهم بعد ذلك، ولا تذهب نفسه حسرات عليهم؛ ليتخذهم أعداء ويبغضهم، ويخرج الشفقة التي في قلبه لهم، وليتأهب لعدوانهم، ويتبرأ منهم؛ كما فعل إبراهيم: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للّه تَبَرَّأَ مِنْهُ}، وكما قال لنوح: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}: آيسه اللّه عن إيمان قومه إلا من قد آمن، ونهاه أن يحزن

عليهم وعلى فوت إيمانهم؛ فعلى ذلك هذا آيس رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن إيمانهم، ونهاه أن يحزن عليهم؛ كقوله: {وَلَا تَحزَن عَلَيهِم}، إلى الوقت الذي ذكر أنهم يؤمنون في ذلك الوقت، وهو وقت نزول الملائكة وإتيانهم بآياتهم، وهو قوله: {إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ}.

ثم

قَالَ بَعْضُهُمْ: تأتيهم الملائكة بقبض الأرواح مع اللعن والسخط؛ فعند ذلك يؤمنون باللّه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ قوله: {إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ} يوم القيامة، وهو كقوله: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ}.

على إضمار الأمر؛ كأنه قال: أو يأتي أمر ربك؛ على ما ذكر في سورة النحل: {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ}.

ثم الأمر فيه عذاب اللّه؛ كقوله - تعالى -: {فَلَمَّا جَآءَ أَمرُنَا} يعني: عذابنا؛ فعلى ذلك في هذا: أمر اللّه عذاب اللّه، والأصل فيما أضيف إلى اللّه في موضع الوعيد لا يراد به الذات، ولكن يراد به نقمته وعذابه وعقوبته؛ كقوله: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللّه نَفْسَهُ}، لا يريد به ذاته، ولكن يريد به نقمته، وعذابه؛ كقوله: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللّه}، لا يريد به لقاء ذاته؛ وكذلك قوله: {وَإِلَى اللّه الْمَصِيرُ} {وَإِلَى اللّه تُرْجَعُ الْأُمُورُ}، وغيرها من الآيات، لا يراد به ذاته، ولكن يراد به عذابه ونقمته.

أو نقول: إن كل شيء يراد به تعظيمه، يضاف إلى اللّه - تعالى - فيراد به تعظيم ذلك الشيء، أو تعظيم عذابه ونقمته.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ}: يحتمل بعض آياته ما قال - عز

وجل -: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللّه وَحْدَهُ. . .} الآية.

كقوله {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ. . .} الآية.

وكقوله: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ. . .} الآية، ونحوه من الآيات، يؤمنون عند معاينتهم العذاب، ولا ينفعهم الإيمان في ذلك الوقت.

ويحتمل ما قال أهل التأويل: طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدجال، وخروج الدابة، وعلى ذلك رُويَ عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " ثلاث إذا خرجن لم ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا "، وقال أبو هريرة - رضي اللّه عنه -: إن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " بادروا بالأعمال ستا: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، والدخان، والدابة، وخويصة أحدكم، وأمر العامة "، وخويصة أحدكم: الموت، وأمر العامة: الساعة إذا قامت.

وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: " التوبة معروضة حتى تطلع الشمس من مغربها "، ثم قال: " مهما يأتِ عليكم عام إلا والآخر شر " ونحوه من الأخبار. فإن ثبتت هذه الأخبار فهي المعتمدة.

وعن عائشة - رضي اللّه عنها - قالت: " إذا خرج أول الآيات، طرحت الأقلام، وجست الخطبة، وشهدت الأجساد على الأعمال ".

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ}.

أخبر أن الإيمان لا ينفع في ذلك الوقت؛ لأنه ليس بإيمان اختيار في الحقيقة؛ إنما هو إيمان دفع العذاب والبأس عن أنفسهم؛ كقوله: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللّه وَحْدَهُ}،

وقوله: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}، أخبر أنهم لو ردوا إلى الدنيا، لعادوا إلى تكذيبهم الرسل وكفرهم باللّه؛ فدل أن إيمانهم في ذلك الوقت إيمان دفع العذاب والبأس وإيمان خوف، وهو كإيمان فرعون؛ حيث قال: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ}، لم ينفعه إيمانه في ذلك الوقت؛ لأنه إيمان دفع الهلاك عن نفسه، لا إيمان حقيقة باختيار.

والثاني: أنه في ذلك الوقت - وقت نزول العذاب - لا يقدر أن يستدل بالشاهد على الغائب؛ ليكون قوله قولا عن معرفة وعلم، وإنما هو قول يقوله بلسانه لا عن معرفة في قلبه فلم ينفعه إيمانه في ذلك الوقت؛ لما ذكرنا، وهو كقوله: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ}؛ لأنه إيمان دفع الباس والعذاب، أو يبالغ بالاجتهاد؛ حتى يكون إيمانه إيمانًا باجتهاد؛ لذلك كان ما ذكرنا.

أو أن يكون في طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدجال، ودابة الأرض، وما ذكر من البلاء والشدة والعذاب ما يضطرهم إلى الإيمان به؛ فيكون إيمانهم إيمان اضطرار لا اختيار.

ويشبه أن تكون الأخبار، التي رويت عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه لا تقبل التوبة بعد طلوع الشمس من مغربها، وبعد خروج الدجال ودابة الأرض، أي: لا يثابون على طاعتهم، وإلا فمن البعيد أن يدعوا إلى الإيمان والطاعات، ثم إذا أتوا بها لم تقبل منهم، لكنه يحتمل ما ذكرنا بألا: لا يثابوا على ذلك، ويعاقبوا ما كان منهم من الكفر وكفران

النعم؛ لأن جهة وجوب الثواب إفضال وإحسان، وفي الحكمة ترك الإفضال بالثواب في الطاعات إذا كان من اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - من النعم ما يكون ذلك شكرًا له، والعقاب على الكفر مما توجبه الحكمة؛ لذلك كان ما ذكرنا واحدًا؛ ولهذا يخرج قول أبي حنيفة - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - حيث قال: لا ثواب للجن على طاعتهم؛ لأن طريق وجوبه

الإفضال ولم يذكر لهم ذلك، ويعاقبون بما كان منهم من الكفران والإجرام؛ لما ذكرنا من المعنى الذي وصفنا، واللّه أعلم بذلك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا}.

عند معاينة العذاب والبأس والآيات، إذا لم تكن آمنت من قبل.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا}.

أي: لا ينفع ذا إلا بذا: إذا عملت خيرًا ولم تكن آمنت لا ينفعها ذلك، ولم ينفعها إيمان عند معاينة العذاب والآيات، إذا لم تكن كسبت قبل ذلك خيرًا.

وقيل: قوله: {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا}، أي: لا ينفع نفسًا إيمانها إذا لم تعزم ألا ترتد ولا ترجع عنه أبدًا.

وقيل: {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ}، أي: لا ينفع نفسًا إيمانها، {أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} أي: وكسبت في نصديقها التعظيم للّه والإجلال؛ فعند ذلك تنفع صاحبها؛ لأنه لا كل تصديق يكون فيه التعظيم له والإجلال ينفي التعظيم والإجلال إذا لم يكن من التعظيم له.

وقيل: {أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا}، أي: لم تكن عملت في تصديقها خيرًا قبك معاينة الآيات.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ}، هو يخرج على الوعيد، أي: انتظروا إحدى هذه الثلاث التي ذكرنا؛ فإنا منتظرون، وهو كقوله: {قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ}، وانتظروا العذاب؛ فإنا منتظرون بكم ذلك.

* * *

١٥٩

 قوله: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا ... (١٥٩)

عن عائشة وأبي هريرة - رضي اللّه عنهما - قال

 أحدهما: [فتلكم في الكفرة] (١)، وقال الآخر: في أهل الصلاة.

وقيل: هم الحرورية.

وقيل: هم اليهود والنصارى.

ولكن لا ندري من هم، وليس بنا إلى معرفة من كان حاجة.

ثم يحتمل وجوهًا ثلاثة:

يحتمل: فارقوا دينهم حقيقة؛ لأن جميع أهل الأديان عند أنفسهم أنهم يدينون بدين اللّه، لا أحد يقول: إنه يدين بدين غير اللّه.

ألا ترى أنهم قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى}، {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّه}: فهم وإن كانوا عند أنفسهم أنهم يدينون بدين اللّه، فهم في الحقيقة فارقوا دينهم، وليسوا على دين اللّه.

ويحتمل قوله: فارقوا دينهم الذي أمروا به ودعا إليه الرسل والأنبياء - صلوات اللّه عليهم - فارقوا ذلك الدِّين.

ويحتمل: فارقوا دينهم الذي دانوا به في عهد الأنبياء والرسل بدين اللّه، ففارقوا ذلك الدِّين، واللّه أعلم؛ كقوله: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ}، وكقوله: {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ. . .} الآية.

كانوا مؤمنين به، وصاروا شيعًا، أي: صاروا فرقًا وأحزابًا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}. (١) في الأصل هكذا [فتيكم في الكفرة] وهي عبارة غير مفهومة ولعل الصواب ما أثبتناه. واللّه أعلم. (مصحح النسخة الإلكترونية).

 من الناس من صرف أتأويل قوله: {لَسْتَ مِنْهُمْ}، أي: لست أنت من قتالهم في شيء؛ كأنه نهاه عن قتالهم في وقت، ثم أذن له بعد ذلك، ثم نسخته آية السيف، وهذا بعيد.

ويحتمل: {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}، أي: لست من دينهم في شيء؛ لأن دينهم كان تقليدًا لآبائهم، ودينك دين بالحجج والبراهين؛ فلست منهم، أي: من دينهم في شيء.

ويحتمل: {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}، أي: لا تسأل أنت عن دينهم ولا تحاسب على ذلك؛ كقوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} الآية.

أو يخرج على إياس أُولَئِكَ الكفرة عن عود رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى دينهم؛ كقوله: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} الآية.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّه}.

يحتمل: أي الحكم فيهم إلى اللّه؛ ليس إليك، هو الذي يحكم فيهم.

أو أن يكون أمرهم إلى اللّه في القتال، حتى يأذن لك بالقتال.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}.

هو وعيد.

١٦٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (١٦٠)

ليس في قوله: {فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} إيجاب الجزاء في السيئة، وفي قوله: {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} إيجاب الجزاء؛ لأنه قال: فله كذا؛ فيه إيجاب الجزاء، وإنَّمَا إيجاب الجزاء في السيئة بقوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}، وغيره من الآيات.

وقد ذكرنا أن إيجاب الجزاء والثواب في الحسنات والخيرات إفضالٌ وإحسان؛ لأنه قد سبق من اللّه - تعالى - إلى كل أحد من النعم ما يكون منه تلك الخيرات جزاء لما أنعم عليه وشكرًا له، ولا جزاء للجازي إلا من جهة الإفضال والإكرام.

وأما جزاء السيئة فمما توجبه الحكمة؛ لما حرج الفعل منه مخرج الكفران لما أنعم

عليه؛ فيستوجب بالكفران العقوبة والجزاء على ذلك.

والثاني: أنه خرج الفعل منه في الخيرات والحسنات على موافقة خلقته وصورته وتقويمه وتسويته على ما خلقها اللّه وأنشأها وبناها؛ فلم يخرج الفعل منه على خلاف ما هو بني عليه؛ فلم يستوجب به الجزاء.

وأما السيئات: فهي إخراجها على خلاف خلقتها وتقويمها وصرفها إلى غير الوجه الذي كانت خلقتها وتقويمها؛ فاستوجب بذلك العقوبة والجزاء عليها؛ لقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}.

ليس هو على التحديد حتى لا يزاد عليه ولا ينقص منه، إنما خرج - واللّه أعلم - على التعظيم لذلك والإجلال؛ لأنه أخبر في النفقة التي تنفق في سبيل اللّه أنها تزداد وتنمو إلى سبعمائة، ولا يجوز أن يكون في الحسنة التي جاء بها في التوحيد ما يبلغ إلى ما ذكر، وإذا جاء بنفس ذلك التوحيد لا يبلغ ذلك أو يقصر عن ذلك، ولكنها - واللّه أعلم - على التعظيم له، أو على التمثيل؛ كقوله: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}، ذكر هذا؛ لما لا شيء عند الخلق أوسع منها، وكقوله: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ}، ومثله هو على التمثيل؛ خرج لعظيم ما قالوا في اللّه، ليس على أنها تنشق أو تنفطر؛ فعلى ذلك الأول أنه يخرج لما ذكرنا، لا على التحديد له والوقف.

ثم قوله: من جاء بالحسنة فله كذا، ومن جاء بالسيئة فله كذا: ذكر مجيء الحسنة ومجيء السيئة، ولم يقل: من عمل بالحسنة فله كذا، ومن عمل بالسيئة؛ ليعلم أن النظر إلى ما ختم به وقبض عليه؛ فكأنه قال: من ختم بالحسنة وقبض عليها فله كذا؛ لأنه قد يعمل بالحسنة، ثم يفسدها وينقضها بارتكاب ما ينقضه ويفسده من الشرك وغيره؛ على ما روي: " الأعمال بالخواتيم ".

ثم اختلف في قوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}:

قَالَ بَعْضُهُمْ: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها بعد التوحيد، ومن جاء بالسيئة بعد التوحيد فلا يجزي إلا مثلها.

وقال بعض أهل التأويل: من جاء بالحسنة يعني بالتوحيد فله عشر أمثالها، لكنه ليس على التحديد لما ذكرنا، ولكن على التعظيم له والقدر عند اللّه، أو على التمثيل.

ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها يعني: الشرك، لا يجزى إلا مثله. فكان التخليد في النار مثل الشرك؛ لأن الشرك أعظم السيئات.

وفي الآية دلالة أن المثل قد يكون من غير نوعه؛ حيث أوجب في الحسنة من الثواب عشر أمثالها ومن السيئة مثلها، وليس واحد منهما من نوع الأصل والعمل الذي يثاب عليه.

وقيل: من جاء بالحسنة في الآخرة: بالتوحيد، فله عشر أمثالها، في الأضعاف. ومن جاء بالسيئة في الآخرة، يعني: الشرك فلا يجزى إلا مثلها في العظم؛ فجزاء الشرك النار؛ لأن الشرك أعظم الذنوب، والنار أعظم العقوبة، وذلك كقوله {جَزَآءً وِفَاقًا} أي: وفاق العمل.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَهُم لَا يُظْلَمُونَ} جميعًا لا يزاد على المثل ولا ينقص مما ذكر.

١٦١

قوله - عز وجل -: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.

قال أبو بكر الكيساني: قوله {هَدَانِي}، أي: دلني ربي إلى صراط مستقيم، لكن هذا بعيد؛ لأنه خرج مخرج ذكر ما منَّ عليه بلطفه، وليس في الدلالة والبيان ذلك؛ إنما عليه البيان، وكان رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يدل على الهدى ويبين لهم طريقه.

ثم أخبر أنه لا يهدي من أحب بقوله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللّه يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}، دل أن ذلك إكرام من اللّه - تعالى - بالهداية بالتوفيق له والعصمة بلطفه، لا الدلالة والبيان.

وكذلك قوله - تعالى -: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللّه يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ}؛ فلو كان على الدلالة والبيان لكان منه ذلك، ثم أخبر إن المنة عليهم للّه - تعالى - لا لرسوله؛ دل أنه لما ذكرنا من الهداية نفسها لا الدلالة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {دِينًا قِيَمًا}.

قيل: قائمًا مستقيمًا لا عوج فيه؛ كقوله: (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (١) قَيِّمًا)

والعوج: هو الذي فيه الآفة، فأخبر أن لا آفة فيه ولا عوج.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ}.

إن أهل الأديان جميعًا يدعون أن الذي هم عليه هو دين إبراهيم، فأخبر أن دين إبراهيم هو الدين الذي عليه رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لا هم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {حَنِيفًا}.

قيل: مسلما، والحنف: هو الميل، وهو حنيف، أي: مائل إلى دين اللّه، أخبر أنه يدعو إلى دين اللّه - تعالى - إلى الدِّين الذي كان عليه آباؤه وأجداده، أعني به: الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام.

{وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.

برأه - عَزَّ وَجَلَّ - من الشرك.

وقيل: كان حنيفًا خالضا للّه مخلصًا لم يشرك أحدا في ربوبيته ولا في عبادته، على ما فعل أُولَئِكَ الكفرة.

وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - وحفصة: (دينًا قيما فطرتكم التي فطرتم عليها ملة إبراهيم حنيفًا).

ويقرأ: {قَيِّمًا}، بالتشديد، و {قِيَمًا} بالتخفيف. أو يخرج قوله: {إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} على الشكر له والحمد على ما أنعم عليه وأفضل له، من الإكرام له بالهداية بالطريق المستقيم.

والمستقيم يحتمل: القائم بالحق والبرهان وكذلك قوله؛ {دِينا قِيَمًا} بالحجج والبراهين، ودين أُولَئِكَ دين بهوى أنفسهم؛ ولذلك قال: {حَنِيفًا}.

وقوله: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.

١٦٢

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للّه رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٦٢)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قُلْ أَغَيْرَ اللّه أَبْغِي رَبًّا}.

خاطب اللّه بهذه الآيات رسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والمرادُ به: الخلقُ كله، فمن بلي بمثل ما كان بلي رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من السؤال والدعاء، فله أن يقرأ أو يذكر ما في هذه الآيات.

ولو كان المراد بالخطاب بهذا رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خاصة، لكان لا يقول له: {قُلْ}، ولكن يقول له: افعل كذا، ولا تفعل كذا؛ وعلى ذلك الخطاب في الشاهد في خطاب بعض بعضا ألا يقولوا: (قُل)؛ فدل أنه على ما ذكرنا، وكذلك قوله: {قُلْ هُوَ اللّه أَحَدٌ}: من استوصف صفات اللّه، فعليه أن يصف له ما في سورة الإخلاص، ورسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وغيره من الخلائق سواء في ذلك الخطاب.

ثم في قوله: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. . .} الآية ذكر منَّته بما هداه، والاستسلام إلى شكر ما أنعم عليه. وفي قوله: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي} والأمر بإخلاص العبادة للّه - عَزَّ وَجَلَّ - وإسلام النفس له في جميع أحواله محياه ومماته.

وفي قوله: {قُلْ أَغَيْرَ اللّه أَبْغِي رَبًّا}.

فيه الدعاء إلى وحدانية اللّه وربوبيته.

ثم في قوله: {إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي} دلالة رد قول من يستثني في إيمانه؛ لأنه أمره أن يقول: {إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، من غير أن يأمره بالثنيا؛ فمن استثنى فيه لا يخلو استثناؤه من أحد معنيين:

إما أن يكون لشك فيه.

أو لكتمان ما أنعم اللّه عليه؛ فعلى كل من أنعم اللّه عليه أن يظهر ذلك، وأن يشكر له على ذلك؛ على ما أمر رسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بذلك.

وقوله: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للّه رَبِّ الْعَالَمِينَ}.

يخرج على وجهين:

أحدهما: يخرج على الأمر بالدعاء لنفسه؛ لأنه قال: قل: أجعل صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي للّه رب العالمين.

والثاني: على المنابذة مع أُولَئِكَ الكفرة والفجرة، يقول: أنا أجعل صلاتي وعبادتي

 ومحياي ومماتي للّه، لا أجعل لغيره شركاء، كما جعلتم أنتم لغيره شركاء في عبادته وصلاته ونسكه، واللّه أعلم.

ثم اختلف في قوله: {صَلَاتِي}:

قَالَ بَعْضُهُمْ: الصلاة المفروضة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الصلاة: الخضوع والثناء؛ يقول: إن خضوعي وثنائي للّه، والصلاة: هي الثناء في اللغة.

وقوله: {وَنُسُكِي} اختلف فيه.

قال الحسن: نسكي: ديني؛ كقوله: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} أي: دينا.

وقيل: نسكي ذبيحتي للّه في الحج والعمرة وغيره.

وقيل: نسكي: عبادتي، والنسك: اسم كل عبادة؛ وعلى ذلك يسمى كل عابد ناسكا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للّه رَبِّ الْعَالَمِينَ}.

أي: أنا حي وميت للّه، لا أشرك أحدًا في عبادتي ونفسي، بل كله للّه لا شريك له في ذلك.

ويحتمل: أن يكون هذا على التقديم والتأخير؛ كأنه قال: قل إني أمرت أن أجعل صلاتي ونسكي للّه، أو إني أمرت أن أدعو وأسأل اللّه أن يجعل صلاتي ونسكي وعبادتي له، لا أشرك غيره فيه.

١٦٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣)

يحتمل قوله: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}، أي: وأنا أول من خضع وأسلم بالذي أمرت أن

 أبلغ؛ لأنه أمر بتبليغ ما أنزل إليه، فيقول: أنا أول من أسلم بالذي أمرت بالتبليغ.

ويحتمل: أن يكون لا على توقيت الإسلام؛ ولكن على سرعة الإجابة والطاعة له كقوله: {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا}: هو على الوصف بغاية العظم، ليس على أن بعضها أكبر وأعظم وبعضها أصغر؛ ولكن كلها أعظم وأكبر؛ فعلى ذلك هذا ليس على وقت الإسلام، ولكن لسرعة الإجابة، والطاعة له، واللّه أعلم.

الإسلام: هو جعل النفس وكلية الأشياء للّه سالمة، أي: أنا أول من جعل نفسه للّه سالمة.

١٦٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ أَغَيْرَ اللّه أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ... (١٦٤)

يحتمل هذا وجهين:

يحتمل: أغير اللّه أبغي ربا وقد تعلمون أن لا رب سواه؟!

ويحتمل: أغير اللّه أبغي ربا سواه، وفي كل أحد أثر ربوبحته وألوهيته قائم ظاهر، وفيما تدعونني إليه أجد آثار العبودية والربوبية للّه فيه، فكيف أتخذ ربا سواه؟!.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا}.

يحتمل وجهين:

الأول، يحتمل: لا تكسب كل نفس من سوء إلا عليها، أي: لا يتحمل ذلك غيره عنه في الآخرة؛ وكذلك قوله: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، وكقوله: {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ}.

الثاني ويحتمل: أن يكون قوله: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا}، أي: لا تكسب كل نفس - لو تركت وما تختار - إلا عليها، لكن اللّه بفضله يمنع بعضها وما تختار على نفسها؛ كقول يوسف - عليه السلام -: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي}: أخبر أنها كاسبة السوء إلا ما عصمها ربي.

وجائز أن يكون على الإضمار؛ كأنه يقول: ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولها، ومثله جائز في القرآن؛ كقوله - تعالى -: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}، وهو نذير

لقوم، بشير لقوم آخرين: نذير في حال، وبشير في حال.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}.

هو على الوعيد وروي عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه كان إذا كبر للصلاة، أتبع التكبير بهذه الآية: {إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي. . .} إلى آخره.

وعن علي - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: كان رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا افتتح الصلاة كبَّر، ثم قال: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، {إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي. . . . .} إلى قوله تعالى {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}.

وذكر أنه كان يدعو بعد ذلك دعاء طويلا.

وروي عن عائشة، وأبي سعيد الخدري أنهما قالا كان رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذاء منكبيه، ثم يقول: " سبحانك اللّهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك ".

فكان أبو حنيفة - رحمه اللّه - يختار من ذلك هذا في الفرائض.

وكذا روي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قام إلى الصلاة، فكبر، ثم قال: " سبحانك اللّهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك ".

وكذلك روي عن أبي سعيد أنه كان إذا افتتح الصلاة قال: " سبحانك اللّهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك ".

 وكان أبو يوسف يستحب أن يقول بهذه الكلمات والكلمات التي رواها علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - من غير إيجاب لذلك ولا حظر لما سواه.

وكان أبو حنيفة - رحمه اللّه - لا يستحب أن يزيد في الفرائض على ما روي عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وما روت عائشة - رضي اللّه عنها - عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وما روي عن عمر وعبد اللّه - رضي اللّه عنهما -.

وأما في النوافل فله أن يزيد ما شاء فيها من الثناء والدعوات؛ فيحتمل أن يكون ما رواه علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - من فعل رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان ذلك في النوافل.

* * *

١٦٥

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ}.

اختلف فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: {جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ}، يعني أصحاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - جعلهم خلائف من تقدمهم من المكذبين والصديقين؛ ليعلموا ما حل بالمكذبين برسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ليحذروا تكذيبه والخلاف له، ويرغبوا في تصديقه والموافقة له والطاعة؛ ليكون لهم بمن تقدمهم عبرة في التحذير والترغيب، ويكون لهم بمن تقدمهم قدوة وعبرة؛ ليعرفوا صحبة رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن كيف يجب أن يصحبوه ويعاملوه: من الإحسان إليه، والتعظيم له والتصديق، ويجتنبوا الإساءة إليه والتكذيب.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ}، يعني: البشر كلهم، جعل بعضهم خلائف بعض في الوجود وفي الأحوال في الحياة، والموت، والغناء، والفقر،

والصحة، والسقم، وفي العز، والذل، وفي كل شيء، وفي الصغر، والكبر؛ ليكون لهم في ذلك عبرٌ ودليل على معرفة منشئهم وخالقهم؛ لأنه لو أنشأهم جميعًا معًا - لم يعرفوا أحوال أنفسهم وتغيرهم من حال إلى حال، ولكن أنشأهم واحدًا بعد واحد وقرنًا بعد قرن؛ ليعرفوا أحوال أنفسهم وانتقالهم من حال إلى حال؛ ليعرفوا أن منشئهم واحد؛ لأنهم لو كانوا جميعًا معًا - لم يعرفوا مبادئ أحوالهم من حال نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، ثم من حال الصغر إلى حال الكبر، وكذلك هذا في جميع الأحوال: من الغنى والفقر، والصحة، والسقم، ولو كان كله على حالة واحدة - لم يعرفوا ذلك، لكن جعل بعضهم خلائف بعض؛ ليدلهم على ما ذكرنا.

ويحتمل ما قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: إنهم صاروا خلف الجان، فالأول يكون في بيان صحبة رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وحسن المعاملة معه.

والثاني في بيان وحدانية الربِّ.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ}.

يحتمل هذا في الأحوال، ويحتمل في الخلقة جعل لبعض فضائل ودرجات على بعض، وجعل بعضا فوق بعض بدرجات في الدنيا؛ ليكتسبوا لأنفسهم في الآخرة الدرجات والفضائل، على ما رغبوا في الدنيا في فضائل الخلقة ودرجات بعضها فوق بعض، ونفروا في الدون من ذلك؛ ليرغبهم ذلك في اكتساب الدرجات في الآخرة، وينفوهم عن اكتساب ما ينفرون عنه في الدنيا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ}.

يحتمل: ليبلوكم فيما آتاكم من الأحوال المختلفة: من الفقر والغناء، والسقم والصحة، والصغر والكبر، وغير ذلك من الأحوال.

ويحتمل: {فِي مَا آتَاكُمْ} من النعم، أي: ليبلوكم بالشكر على ما آتاكم من النعم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ}.

قَالَ بَعْضُهُمْ هو إخبار عن سرعة إتيان العذاب؛ لأن كل آتٍ قريب كأنه قد جاء، كقوله: {أَتَى أَمْرُ اللّه}، {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ}، {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ}، ونحوه: أنه إذا كان آتيًا لا محالة جعل كأنه قد جاء.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذلك إنباء عن شدة عذابه لمن عصاه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ}.

قيل: يبتلي الموسر في حال الغناء، والصحيح في حال صحته، ويبتلي الفقير في حال فقره، والمريض في حال مرضه، والابتلاء من اللّه - تعالى - على وجهين: إما أمرًا بالشكر على ما أنعم.

أو صبرًا على ما ابتلاه بالشدائد، والابتلاء منه هو ما بين السبيلين جميعًا سبيل الحق وسبيل الباطل، وبين أن كل سبيل إلى ماذا أفضاه لو سلكه: لو سلك سبيل الحق أفضاه إلى النعم الباقية والسرور الدائم، وإن سلك سبيل الباطل أفضاه إلى عذاب شديد وحزن دائم.

ثم خيره بين هذين؛ فهو معنى الابتلاء.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}.

للمؤمنين، وقد ذكرناه والحمد للّه رب العالمين.

* * *

﴿ ٠