٣٥

وقوله (وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ ... (٣٥) كان يشتد على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويشق عليه كفر قومه وإعراضهم عن الإيمان، حتى كادت نفسه تتلف وتهلك لذلك إشفاقًا عليهم؛ كقوله: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}.

وقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}، ونحو ذلك من الآيات، يشفق عليهم بتركهم الإيمان لما يعذبون أبدًا في النار، فعلى ذلك قوله: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ}.

أو كان يكبر عليه ويثقل إعراضهم لما كانوا يطلبون منه الآيات، حتى إذا جاء بها لا يؤمنون؛ من نحو ما قالوا: {وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ} وغير ذلك من الآيات التي سألوها، فطمع رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في إيمانهم إذا جاء بما سألوا من الآيات، فكان اللّه عالمًا بأنه وإن جاءتهم آيات لم يؤمنوا، وإنَّمَا يسألون سؤال تعنت لا سؤال طلب آيات لتدلهم على الهدى، فقال عند ذلك: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ}.

أو أن يكون قوله: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ} ونهيًا عن الحزن عليهم، أي: لا تحزن عليهم كل هذا الحزن بما ينزل بهم، وقد تعلم صنيعهم وسوء معاملتهم آيات اللّه.

وكذلك روي في القصة عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أن نفرًا من قريش قالوا: يا مُحَمَّد، ائتنا بآية كما كانت الأنبياء تأتي قومها بالآيات إذا سألوهم: فإن أتيتنا آمنا بك وصدقناك، فأبى اللّه أن يأتيهم بما قالوا، فأعرضوا عنه، فكبر ذلك عليه وشق، فأنزل اللّه: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ. . .}. يقول: إن قدرت {أَنْ تَبْتَغِيَ} يقول: أن تطلب {نَفَقًا فِي الْأَرْضِ} يقول: سربًا في الأرض كنفق اليربوع نافذًا أو مخرجًا فتوارى

فيه منهم {أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ} يكون سببًا إلى صعود السماء، {فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} التي سألوكها فافعل.

قَالَ الْقُتَبِيُّ: النفق في الأرض: المدخل، وهو السرب، والسلم في السماء: المصعد.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: النفق: الغار، والأنفاق: الغيران، والغار واحد.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَوْ شَاءَ اللّه لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى}.

قال الحسن: أي: لو شاء اللّه لقهرهم على الهدى وأكرههم، كما فعل بالملائكة؛ إذ من قوله إن الملائكة مجبورون مقهورون على ذلك، ثم هو يفضل الملائكة على البشر ويجعل لهم مناقب، لا يجعل ذلك لأحد من البشر، فلو كانت الملائكة مجبورين مقهورين على ذلك، لم يكن في ذلك لهم كبير منقبة؛ ففي قوله اضطراب.

وأما تأويله عندنا: {وَلَوْ شَاءَ اللّه لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى}، أي: لجعلهم جميعًا بحيث اختاروا الهدى وآثروه على غيره، ولكن لما علم منهم أنهم يختارون الكفر على

 الهدى، لم يشأ أن يجمعهم على الهدى، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم ألا يكون الهدى في حال القهر والجبر، وإنما يكون في حال الاختيار.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ}.

يحتمل وجوهًا:

يحتمل: فلا تكونن من الجاهلين: من قضاء اللّه وحكمه.

ويحتمل: لا تكونن من الجاهلين: من إحسانه وفضله، أي: من إحسانه وفضله يجعل لهم الهدى.

ويحتمل: لا تكونن من الجاهلين أنه يؤمن بك بعضهم وبعضهم لا يؤمن.

قال أبو بكر الكيساني في قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللّه لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} أي: لو شاء اللّه ابتلاهم بدون ما ابتلاهم به ليخف عليهم، فيجيبون بأجمعهم، أو يقول: لو شاء اللّه، لوفقهم جميعًا للّهدى فيهتدون، وهو قولنا، لكن لم يشأ؛ لما ذكرنا أنه لم يوفقهم لما علم منهم أنهم يختارون الكفر.

وقوله: {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ}، بأن اللّه قادر لو شاء لجعلهم جميعًا مهتدين.

ثم معلوم أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان معصومًا، لا يجوز أن يقال إنه يكون من الجاهلين أو من الشاكرين، على ما ذكر، ولكن ذكر هذا - واللّه أعلم - ليعلم أن العصمة لا ترفع الأمر والنهي والامتحان، بل تزيد؛ لذلك كان ما ذكر، واللّه أعلم.

* * *

﴿ ٣٥