٢ثم ابتدأ فقال: (كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) يقول: كتاب من ربك؛ لتنذر به عباده. {فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ}. يقول: فلا يضيقن صدرك عن الذي فرض اللّه عليك فيه من البلاع إلى قومك، وبما فرض عليك من البراءة منهم، ومما يعبدون من دون اللّه؛ فكأن الرسول - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يخاف ما خافت الرسل من بين يديه، فقال موسى: {فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} وقد كان يعرف قومه بالتسرع إلى القتل فيما ليس مثل ما يأتيهم به، فامنه اللّه منهم بقوله: {وَاللّه يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، وقال في آخر هذه السورة: {ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ}: يفهمونها عن اللّه - تعالى - فإنها من أعظم آيات اللّه لرسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أعلمه أنهم لا يصلون إلى ما يخاف منهم. وفي الأثر أن اللّه - تعالى - لما أرسله إلى قومه، فقال: " أي رب إذا يثلغوا رأسي فيذروه مثل خُبزَة " فأمنه اللّه - تعالى - من ذلك، فقال: {فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} من البلاع، ولا يضيقن صدرك بما فرض اللّه عليك من العبادة والحكم الدي تخالف فيه قومك. ثم وصف الكتاب فقال: {وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}. يقول: يتذكرون بما فيه ويتدبرونه فيعلمون به الحق من الباطل، ويذكرون به ما فرض عليهم. ويحتمل أن تكون هذه الحروف المقطعة خطابًا خاطب اللّه بها رسله يفهمونها لا يفهمها غيرهم، على ما يكون لملوك الأرض بينهم وبين خواصهم إشارات يفهمها خواصهم ولا يفهمها غيرهم، هذا متعارف فيما بين الخلق أن يكون لهم فيما بينهم وبين خواصهم ما ذكرنا؛ فعلى ذلك يحتمل أن تكون هذه الحروف المقطعة خطابات من اللّه خاطب بها رسله - وهم خواصه - يفهمونها ولا يفهمها غيرهم، ثم وجهُ فهمهم يكون لوجهين: يخبرهم فيقول: إني إذا أنزلت إليكم كذا فمرادي من ذلك كذا، أو كان البيان والمراد منها مقرونا بها وقت إنزالها ففهموا المراد منها بما أفهمهم اللّه وأراهم ما لم ير ذلك غيرهم؛ كقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّه} أرى رسله شيئا لم ير ذلك غيرهم، ولا أطلعهم على ذلك، فهو من المتشابه على غيرهم، وأما على الرسل فليس من المتشابه. وقال الفراء: يحتمل أن تكون هذه الحروف المقطعة المتفرقة التي أنزلها من أب ت ث إلى آخرها كأنه قال: إني جمعت هذه الحروف المقطعة فجعلتها كتابًا، فأنزلتها؛ من نحو: (المص) و (الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ) و (المر) ونحوه، واللّه أعلم بما أراد به ذلك. وقد ذكرنا هذا في صدر الكتاب مقدار ما حفظنا وفهمنا من أقاويل أهل العلم في ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ}. قيل: الحرج: هو الضيق في الصدر، ثم يحتمل ضيق الصدر وجوهًا: يحتمل ضيق الصدر ما يحل عليه في ذلك من الشدائد والخطورات بتبليغه إلى الكفرة الذين نشئوا على الكفر والشرك، وخاصة الفراعنة والملوك الذين همتهم القتل والإهلاك لمن استقبلهم بالخلاف. أو أن يوسوس في صدره الشيطان أنه ليس من عند اللّه، أو أن يقول له: إنه من أساطير الأولين؛ على ما قال أُولَئِكَ الكفرة: {مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}. ثم يحتمل قوله: {فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} على النهي، أي: لا يكن في صدرك منه حرج، أي: لا يضق صدرك مما حمل عليك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ}، أي: شك أنه من عند اللّه نزل. وقد ذكرنا أن العصمة لا تمنع النهي؛ لأنه بالنهي ما يكون عصمه. ويحتمل: ليس على النهي، ولكن على ألا تحمل على نفسك ما فيه هلاكك؛ كقوله: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ}، وكقوله: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}: ليس على النهي؛ ولكن على ألا تحمل على نفسك ما فيه هلاكك؛ فعلى ذلك هذا، واللّه أعلم. ثم إن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - أمنه عما كان يخاف من أُولَئِكَ بقوله: {وَاللّه يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، وأمنه من وساوس الشيطان؛ على ما روي في الخبر أنه قيل: ألك شيطان؟ فقال: " كان، ولكن أعنت عليه؛ فأسلم " أمَّن - عَزَّ وَجَلَّ - رسوله عن ذلك كله؛ لما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لِتُنْذِرَ بِهِ}. يحتمل أنه أمره أن ينذر به الكفرة، ويبشر به المؤمنين؛ كقوله: {لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ}؛ فعلى ذلك قوله: {لِتُنْذِرَ بِهِ} الكفرة. {وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}. أي: بشرى على ما ذكرنا، ويكون في الإنذار بشرى؛ لأنه إذا أنذر فقبل الإنذار، فهو له بشرى. ويحتمل قوله: {لِتُنْذِرَ بِهِ}، أي: الكل الموافق والمخالف جميعًا؛ كقوله: {لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}، {وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}، أي: الذي ينتفع به المؤمنون. |
﴿ ٢ ﴾