سُورَةُ الْأَنْفَالِ

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١

قوله - تعالى -: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفَال قُلِ الأَنفَالُ للّه وَالرَّسُول}.

اختلف فيه؛

قَالَ بَعْضُهُمْ: الأنفال: هي المغانم التي يغنمها المسلمون من أهل الحرب.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الأنفال: هي الفضول عن حقوق أصحاب الغنائم.

فإن كانت الأنفال الغنائم، فالسؤال يحتمل وجهين:

يحتمل أنهم سألوا عن حلها وحرمتها؛ لأن الغنائم كانت لا تحل في الابتداء.

قيل: إنهم كانوا يغنمونها ويجمعونها في موضع، فجاءت نار فحرقتها، فسألوا عن حلها وحرمتها، فقال: {الْأَنْفَالُ للّه وَالرَّسُولِ}، أي: الحكم فيها للّه والرسول، يجعلها لمن يشاء.

ويحتمل السؤال عنها: عن قسمتها، وهو ما روي في بعض القصة أن الناس

كانوا يوم بدر ثلاثة أثلاث: ثلث في نحر العدو، وثلث خلفهم ردء لهم، وثلث مع رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يحرسونه، فلما فتح اللّه عليهم اختلفوا في الغنائم؛ فقال الذين كانوا في نحر العدو: نحن أحق بالغنائم، نحن ولينا القتال. وقال الذين كانوا ردءًا لهم: لستم

بأولى بها منا، وكنا لكم ردءًا.

وقال الذين أقاموا مع رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: لستم بأحق بها منا، كنا نحن حرسًا لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فتنازعوا فيها إلى رسول اللّه، فنزل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ للّه وَالرَّسُولِ}.

وقال أبو أمامة الباهلي: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال، قال: فينا نزلت معشر أصحاب بدر حين اختلفنا وساءت فيه أخلاقنا، إذ انتزعه اللّه من أيدينا فجعله إلى رسوله، فقسمه على السواء.

ومجاهد وعكرمة قالا: كانت الأنفال للّه والرسول فنسخها: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للّه خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ}.

وكذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: الأنفال: المغانم كانت لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خالصة، ليس لأحد فيها شيء، ما أصابت سرايا المسلمين من شيء أتوه به،

فمن حبس منه إبرة أو سلكًا فهو غلول، فسألوا رسول اللّه أن يعطيهم منها، فقال: {قُلِ الأَنفَالُ للّه وَالرَّسُولِ}، ليس لكم فيها شيء.

ويحتمل أن تكون الأنفال هي فضول المغانم؛ على ما قَالَ بَعْضُهُمْ؛ نحو ما روي في الأخبار أن منهم من أخذ كبة فقال: اجعلها لي يا رسول اللّه، وأخذ الآخر سيفًا

وقال: اجعله لي، ونحو ذلك كانوا يسألون رسول اللّه ذلك، فقال: {قُلِ الأَنفَالُ للّه وَالرَّسُولِ}.

ويحتمل أن يكون سؤالهم عن التنفيل: أن ينفلهم الرسول بعد ما وقع في أيديهم، أو بعد ما انهزم الكفار وأدبر العدو، وإنما يجوز للإمام التنفيل في حال إقبال الحرب، وكذلك روي عن عبد اللّه بن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: النفل ما لم يلتق الزحفان أو الصفان، فإذا التقيا فهو مغنم.

وروي عن مصعب بن سعد عن أبيه سعد قال: نزلت في أربع آيات: جرى أنه يوم

بدر أصبت سيفًا، فأتيت به النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقلت: نفلنيه، فقال: " ضعه ثم أقام، "، فقلت: يا نبي اللّه، نفلنيه أجعل كمن لا عمل له؟! فقال النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " ضعه من حيث أخذته "، فنزلت هذه الآية: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ للّه وَالرَّسُولِ}.

ثم قال سعد: دعاني رسول اللّه فقال: " اذهب فخذ سيفك " فدل حديث سعد أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم ينفل قبل الحرب أحدًا شيئًا منه مما لا يأخذه؛ لأنه لو كان نفلهم لم يمنع سعدًا - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - السيف الذي جاء به، ويدل على أن النبي لم يؤمر في الغنيمة بشيء حتى نزلت آية النفل، فرد اللّه الأمر في الغنيمة إلى رسوله، فأطلق له رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما رد الأمر إليه.

ويجوز أن يكون النبي لم ينفل أحدًا قبل الحرب شيئًا، ولكنه كان ينفل مما يؤتى به من يشاء ممن قتل بغير إيجاب متقدم؛ يبين ذلك قول سعد: أجعل كمن لا عمل له؟!

وحديث عبادة يخبر أن النبي نفل ما يأخذون من أهل الحرب قبل أن يأخذوه، وهذا موضع الاختلاف بين الحديثين، والظاهر من ذلك أن الفعل قد كان وقع في الغنائم؛ لأن اللّه قد سماها أنفالًا قبل أن يحلها، فلولا أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان نفلهم إياها قبل الحرب أو بعدها، لم يسمها اللّه أنفالًا، واللّه أعلم.

وفي حديث عبادة أن قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للّه خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} نزل بعد ذكر النفل، وأنه الحكم الناسخ الثابت، وكذلك قول ابن

عباس يدل على ذلك.

وقد أجمع أهل العلم على ما ذكره عبادة في آخر حديثه، فقالوا جميعًا: إن الغنيمة

يخرج خمسها للأصناف الذين ذكرهم اللّه إلا ما اختلفوا فيه من سهم ذوي القربى،

ثم تقسم الأربعة الأخماس بين أهل القسمة، وجعلوا للإمام أن ينفل السلب وغيره،

فيقول: " من قتل قتيلًا فله سلبه "، يحرض بذلك المقاتلة، وينفل السرية ويخرج من العسكر شيئا بعد الخمس، ومما أجمعوا عليه من قسمة الغنيمة أخماسًا نزول القرآن، وقد روي عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " إن الغنيمة لم تحل لأحد قبلنا، وقد أحلت لنا ".

وروي عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لم تحل الغنيمة لقوم سود الرأس قبلكم، كانت نار تنزل من السماء فتأكلها "، فلما كان يوم بدر أسرع الناس في الغنائم، فأنزل اللّه - تعالى -: (لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللّه سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا)، ونحو ذلك، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ} يحتمل وجوهًا:

أحدها: يسألونك عمن له الأنفال، فقال: {قُلِ الْأَنْفَالُ للّه وَالرَّسُولِ}.

والثاني: يسألونك الأنفال: على إسقاط عن، وقد كانوا يسألون الأنفال والمغانم.

والثالث: يسأل كل عن نفل له الذي جعل له، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَاتَّقُوا اللّه وَأَصْلِحُوا}.

قال أهل التأويل: اتقوا اللّه في أخذ الأنفال، ولكن في الأنفال وفي غيرها اتقوا معصية اللّه ومخالفته في أمره ونهيه.

{وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ}.

أمر بإصلاح ذات البين؛ لما ذكر من عظيم منته ونعمه التي أنعم عليهم بقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّه جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّه عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}، أخبر أنهم كانوا أعداء فألف بين قلوبهم،

 وذلك من عظيم نعمه عليهم، فأمر - هاهنا - بإصلاح ذات البين؛ ليكونوا على النعمة التي أنعمها عليهم مجتمعين غير متفرقين.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَطِيعُوا اللّه وَرَسُولَهُ}.

أي: أطيعوا اللّه في أمره ونهيه، ورسوله في آدابه وسننه {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.

أو يقول: أطيعوا اللّه فيما دعاكم إليه ورغبكم فيه، ورسوله فيما بين لكم {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.

يعني: مصدقين به.

٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّه وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} إلى آخر ما ذكر.

يحتمل وجوهًا:

يحتمل قوله: إنما المؤمنون الذين حققوا إيمانهم بما ذكر من الأفعال.

والثاني: إنما المؤمنون الذين ظهر صدقهم عندكم بما ذكر من الأفعال من وجل القلب والخشية والثبات واليقين على ما كانوا عليه، ليس كالمنافقين الذين كانوا مرتابين

في إيمانهم، كما وصفهم في آية أخرى؛ حيث قال: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى}، وكانوا إذا أنفقوا أنفقوا كارهين، وكانوا لا يذكرون اللّه إلا قليلًا مراءاة للناس، وأما المؤمنون فهم الذين يقومون بوفاء ذلك كله حقيقة، فيظهر صدقهم بذلك، وهو ما وصفهم به في آية أخرى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّه وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّه أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}.

ويحتمل أن يكون على الاعتقاد خاصة، ليس على نفس العمل؛ كأنه قال: إنما المؤمنون الذين اعتقدوا في إيمانهم ما ذكر من وجل القلوب والخشية عند ارتكاب المعصية، والتقصير عن القيام بما عليه، وما يرتكب المؤمن من المعاصي إنما يرتكب عن جهالة ثم يتوب عن قريب؛ كقوله: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّه لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ}، يرتكب ذلك إما لغلبة شهوة، أو يعتقد التوبة من بعده، أو يرجو رحمة اللّه وفضله في العفو عن ذلك، فيكون قوله: إنما المؤمنون الذين اعتقدوا لإيمانهم ما ذكر من الأفعال؛ وهو كقوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}، هو على الاعتقاد والقبول له: أنهم إذا اعتقدوا ذلك وقبلوا، يخلى سبيلهم وإن لم يقيموا الصلاة وما ذكر وكذلك الأول يحتمل ذلك.

والرابع: يحتمل قوله: إنما المؤمنون هم الذين فعلوا هذا وأتوا بذلك كله، لكنهم أجمعوا: أن من آمن بقلبه وصدق كان مؤمنًا وإن لم يأت بغيره من الأفعال؛ نحو أن يؤمن ثم يخترم ويموت من ساعته مات مؤمنًا؛ فدل أنه لم يخرج ذلك على الشرط لما ذكرنا، ولكن على الوجوه الثلاثة التي ذكرنا، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّه وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} يخرج على وجوه:

أحدها: يخبر أن المؤمن هو على وصف ما ذكر.

أو يقول: إن المؤمنين الذين ينبغي أن يكونوا ما ذكر.

أو يقول: إنما المؤمنون المختارون ما ذكر، جعل اللّه تعالى ما ذكر من وجل القلب وغيره علمًا بين الذين حققوا الإيمان في الظاهر والباطن وبين الذين أظهروا الإيمان وأضمروا الكفر والخلاف، وكذلك ما ذكر في آية أخرى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّه وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} يحتمل قوله: {آيَاتُهُ}: حججه وبراهينه إذا تليت عليهم ذلك يزداد لهم ثباتًا وقوة على ما كانوا، وأما المنافقون فإن الآيات التي نزلت كانت تزداد لهم بها رجسًا وبعدًا فإن المؤمنين يزيد لهم ذلك ثباتًا وقوة. أو ذكر الزيادة؛ لأن للإيمان حكم التجدد والحدوث في كل وقت وكل ساعة، فإذا كان له حكم الحدوث والتجدد فهو زيادة على ما كان، فإن شئت سميتها زيادة وإن شئت سميتها ثباتًا. وقال أبو حنيفة - رحمه اللّه -: يزيد الإيمان بالتفسير على الإيمان بالجملة، فإذا فسروا لهم وقالوا: فلان رسول ونبي، ازداد بذلك له إيمانًا وإن كان قد آمن به بالجملة، وكذلك الإيمان بجميع الكتب والأمر وإن كنا نؤمن في الجملة أن له الخلق والأمر، فإذا عرف ذلك الأمر ازداد له إيمانًا في ذلك - واللّه أعلم - لأن من آمن باللّه وأن له الخلق والأمر فقد أتى بعقدة الإيمان، فإذا جاء بالتفسير واحدًا بعد واحد ازداد له إيمانه بالتفسير على إيمانه بالجملة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي: على ربهم يتقون ويعتمدون في كل أمورهم لا يتوكلون على غيره إنما يتوكلون على اللّه وليس كالمنافقين هم إنما يتوكلون على النعم التي أعطوا؛ كقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّه عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ}، ونحو ذلك، وأما المؤمن فإنه في جميع أحواله يتوكل على اللّه ومنه يخاف، وإن كان يصل ذلك إليه ويجري على يد غيره فهو في الحقيقة من اللّه.

٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) بحق اللّه الذي عليهم.

٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ... (٤) يحتمل وجهين:

يحتمل: أُولَئِكَ الذين حققوا إيمانهم.

والثاني: أُولَئِكَ المؤمنون الذين وعد لهم وعدًا حقًّا، وهو ما وعد لهم من الدرجات والمغفرة حق لهم ذلك الوعد، واللّه أعلم.

{لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} قيل: فضائل عند ربهم {وَمَغْفِرَةٌ} أي: يستر عليهم ذنوبهم التي كانت لهم في الدنيا في الجنة وينسونها؛ لأن ذكر ذلك [ينغص] عليهم نعمتهم التي أنعم عليهم {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} قيل: الحسن ورزق يكرم به أهله.

٥

قوله تعالى: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (٥)

يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} لم يخرج لهذا الحرف جواب في الظاهر؛ لأن جوابه أن يقول: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق يفعل بك كذا، ثم أهل التأويل اختلفوا في جوابه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: هو صلة قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ للّه وَالرَّسُولِ} يقول: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (٥) يُجَادِلُونَكَ) وكما كرهوا الخروج وجادلوك في قسمة الأنفال، جادلوك في أمر العير.

ومنهم من يقول: جوابه في أمره بالقتال، يقول: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وهم كارهون لذلك كذلك يكلفك القتال وهم كارهون لذلك.

ومنهم من يقول: جوابه في قوله: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} ويقول: كما أجبتم اللّه في الخروج للقتال على غير تدبير منكم في ذلك ولا نظر، فعلى ذلك يجيبكم في النعاس أمنة منه وإنزال الماء من السماء والتطهير به وتثبيت الأقدام، على غير علم منكم ولا تدبير.

ومنهم من يقول: قوله: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ} غير متأهبين للقتال ولا مستعدين

 له، كذلك يعدكم النصر والظفر، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {بِالْحَقِّ} يحتمل وجوها، يحتمل: بالحق الذي للّه عليهم من الأمر بالخروج والقتال، ويحتمل بالحق: بالوعد الذي وعد؛ إذ وعد لهم النصر والظفر، وقال بعض أهل التأويل {بِالْحَقِّ} أي بالقرآن، ولكن إن كان فهو ما ذكرنا بالأمر الذي يأمر القرآن.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} يحتمل وجهين:

يحتمل: فريقًا من المؤمنين في الظاهر وهم المنافقون كرهوا الخروج للقتال.

ويحتمل: أن يكون المؤمنون في الحقيقة كرهوا الخروج للقتال كراهة الطبع لا كراهة الاختيار، لما أمروا بالخروج للقتال أوهم غير متأهبين للقتال، ولا مستعدين؛ فكرهت أنفسهم ذلك كراهة الطبع لما لم يكن معهم أسباب القتال، لا أنهم كرهوا أمر اللّه كراهة الاختيار.

وفي هذه الآية دلالة أن الأمر قد يكون في الشيء وإن لم يعلم وقت الأمر فيما يؤمر، وفيه دليل جواز تأخر البيان؛ لأنهم أمروا بالخروج للقتال ولم يعلموا وقت الخروج على ماذا يؤمرون.

٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦) قيل: في القتال، وقيل: قوله: {فِي الْحَقِّ} الذي أمرت به أن تسير إلى القتال، ويحتمل أن يكون قوله: {فِي الْحَقِّ} الوعد الذي وعد لهم بالنصر والظفر. {بَعْدَمَا تَبَيَّنَ} يحتمل قوله: {بَعْدَمَا تَبَيَّنَ} الوعد الذي وعد لهم اللّه عَزَّ وَجَلَّ بالنصر.

وقوله عَزَّ وَجَلَّ: {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} فإن كانت الآية في المنافقين فهو ظاهر وهم كذلك، وصفوا بالكسل في جميع الخيرات والطاعات، كقوله: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللّه إِلَّا قَلِيلًا}. وإن كان في المؤمنين الذين حققوا الإيمان فهو لما كانوا غير مستعدين للقتال ولا متأهبين له كانوا

 كارهين لذلك كراهة الطبع لا كراهة الاختيار.

وقال قائلون قوله: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} أي: وإن فريقًا من المؤمنين أجابوا ربهم وإن كانوا كارهين للخروج من شدة الخوف وإن كانوا من الخوف كانما يساقون إلى الموت، فأجاب اللّه تعالى لهم بالنصر والظفر وأمنهم من ذلك الخوف، واللّه أعلم.

٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّه إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} ذكر في بعض القصة أن عير قريش حين أقبلت من الشام، خرج أصحاب رسول اللّه نحوهم على ما يخرج إلى العير غير متأهبين للحرب، وخرجت قريش من مكة تغيث عيرها فهي الطائفة الأخرى، ووعد لهم أن إحدى الطائفتين لهم إما العير وإما العسكر أنهم ينصرون عليهم {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} أي: التي ليس فيها حرب، ثم يكون لكم العير وهي أهون شوكة وأعظم غنيمة، كانوا يودون ذلك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} لما لم تكونوا مستعدين للقتال والحرب، وكان بهم ضعف وفي أُولَئِكَ قوة وعدة، واللّه أعلم.

قال اللّه تعالى: {وَيُرِيدُ اللّه أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} يحتمل - واللّه أعلم - يريد أن يظهر الحق بأنه منه من غير وجود الأسباب منهم، وهو كما ذكر في قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّه وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ}، أخبر أن في غلبة أُولَئِكَ مع ضعف أبدانهم وقلة عددهم وقصور أسباب الحرب من السلاح والعدة وغير ذلك، وقوة أبدان أُولَئِكَ وكثرة عددهم وعدتهم

 وتأهبهم واستعدادهم لذلك - آية عظيمة، فأراد أن يظهر الحق بالآية؛ ليعلم كل منهم أنه إنما كان ذلك باللّه لا بهم، وهو ما قال: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّه قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّه رَمَى}، أخبر أنه كان باللّه ذلك لا بهم.

ويحتمل قوله {بِكَلِمَاتِهِ} بالوعد الذي وعد رسول اللّه بمكة بالنصر والظفر لهم، فأراد أن يظهر ذلك ويحققه.

ويحتمل {بِكَلِمَاتِهِ} بعلمه وأمره.

ويحتمل {بِكَلِمَاتِهِ} بحججه، أي يوجب الحق، ويظهر بحججه وبراهينه.

ويحتمل {بِكَلِمَاتِهِ} البشارات التي بشر بها المؤمنين بالنصر لهم والظفر والعداوة التي كانت منهم.

ويحتمل {بِكَلِمَاتِهِ} ملائكته الذين بعثهم أمددا لهم، يوم بدر على ما ذكر، فأضافهم إليه تعظيمًا لهم وإجلالًا، على ما سمى عيسى روح اللّه وكلمته وموسى كليم اللّه؛ تعظيمًا لهم وإجلالًا، فعلى ذلك هذا، واللّه أعلم.

{وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} يحتمل: يقطع آثار الكافرين يقتلون جميعا ويستأصلون حتى لا يبقى لهم أثر، ويحتمل: يقطع ما أدبرهم حتى لا يأتيهم مدد.

٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨) أي ليظهر الحق ويوجبه، يقال: حق كذا، أي وجب: ويحتمل ليظهر حق الحق ويظهر بطلان الباطل، أو أن يقال: قوله: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} ما ذكرنا: يجب الحق ويجيء ويذهب الباطل؛ كقوله: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ}، أي ذهب، فعلى ذلك هذا: يجيء الحق ويجب، ويذهب الباطل وإن كره المشركون فَإِنْ قِيلَ في قوله {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ}.

٩

وقوله: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ (٩)] كيف خافوا كل هذا الخوف حتى

وصفهم بشدة الخوف كأنما يساقون إلى الموت وقد وعد لهم النصر والظفر بقوله: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّه إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} كيف استغاثوا ربهم في ذلك وقد سبق منه لهم الوعد بالظفر والنصر.

قيل: قد يمكن أن تصرف الآية إلى المنافقين، وهو قوله: {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} غير أنه ذكر في بعض القصة أنه لم يكن ببدر منافق بل كانوا كلهم مؤمنين حتى افتخر بذلك من شهد بدرا، أو إن كان في المؤمنين فهو ما ذكرنا لقلة عددهم وضعفهم وكثرة أُولَئِكَ وعدتهم كانوا كما وصف، واللّه أعلم.

لكن الآية تحتمل وجوهًا:

أحدها: أمكن أن يكون الوعد لهم بالنصر بين لرسوله ولم يبين لهم؛ فألقى في قلوبهم الرعب والخوف لما لم يبين لهم الوعد بالنصر.

أو بين لهم وبلغهم الوعد بذلك لكن لم يبين لهم الوقت متى يكون ذلك؛ ألا ترى أنهم أمروا بالخروج ولا يدرون إلى ماذا يؤمرون.

والثالث: يجوز أيضًا أن بين لهم الوعد بالنصر وبلغهم ذلك، غير أنهم خافوا ذلك وكرهوا خوف طبع وكراهة النفس لا كراهة الاختيار، وجائز الخوف في مثل هذا وكراهة الطبع وإن كانوا على يقين بالنصر والظفر وتحقيق ذلك لهم.

والرابع: يجوز أن يكون الوعد لهم بالنصر والظفر بالتضرع إليه والاستغاثة منه، على ما يكون في الدعوات، يكون شقاوة بعض ودخوله النار بمعاصي يرتكبها، وسعادة آخر ودخوله الجنة بخيرات يأتي بها فيصير من أهلها.

والخامس: جائز أن يكون ذلك من اللّه لهم محنة يمتحنهم بها كقوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ. . .} الآية، يحتمل معنى الآية الوجوه التي ذكرنا، واللّه أعلم.

ثم اختلف في قوله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ. . .} الآية؛ قال بعضهم: هو صلة قوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّه بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ}.

قالوا قوله: {بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} ألفان،

وقوله: {بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ}، فيكون خمسة آلاف مسومين.

ومنهم من يقول: ثلاثة كان في أحد؛ إذ ذكر على أثر قصة أحد، فإن كان ما ذكروا

 فكأن قوله: {مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} إما في أرداف الكفرة وهو المتتابع، تابع أهل بدر المشركين وهم منهزمون، أو أن يكون الإرداف الإمداد فيكون ألفان.

وقال بعض أهل التأويل: إن قوله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} هو رسول اللّه، وذلك أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما رأى كثرة المشركين ببدر علم أنه لا قوة لهم إلا باللّه، فدعا ربه وتضرع إليه، ولكن ذلك قولهم عندنا واللّه أعلم، أعني قول المؤمنين؛ ألا ترى أنه قال: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ} بكذا واللّه أعلم بذلك، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة، سوى أن فيه البشارة لهم بالنصر والطمأنينة لقلوبهم وإنباء أن حقيقة النصر إنما يكون باللّه لا بأحد سواه، وذلك

١٠

قوله: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللّه إِنَّ اللّه عَزِيزٌ (١٠) لا يذله شيء ولا يعجزه {حَكِيمٌ} في أمره ونهيه لا يأمر بشيء ولا ينهى عن شيء إلا وفيه حكمة، وفائدة ما ذكر من بعث مدد ألف ملك وثلاثة آلاف، وما ذكر لطمأنينة قلوب أُولَئِكَ المؤمنين، وإلا ملك واحد كاف لهم وإن كثروا لأنه يراهم ولا يرونه، وإهلاك مثله سهل.

١١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} ذكر النعاس بعد شدة خوفهم، والنعاس لا يكون ممن اشتد به الخوف ويغشيه إلا بعد الأمن، فذكر لطفه ومنته الأمن بعد شدة الخوف، ذكر عظيم ما منَّ عليهم من الأمن لما ذكر من إلقاء النعاس عليهم والنعاس إنما يكون بعد الأمن، بعد ما كان من حالهم ما ذكر حيث قال: {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ}.

وقوله: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} ذكر في بعض القصة أن المشركين سبقوا فأخذوا الماء؛ فبقي المسلمون في رمل لا تثبت أقدامهم عطشى، فوسوس إليهم الشيطان أنهم لو كانوا على حق ما بلوا يمثل ذلك في رمل لا تثبت أقدامهم عطشى؛ فأبدل اللّه مكان الخوف أمنًا يأمنون به، وأنزل عليهم من السماء ماء ليطهرهم به ويشربون ويشدد به الرمل وتثبت أقدامهم، فذلك قوله: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} قال أهل التأويل: الرجز: وسوسة الشيطان التي وسوس إليهم.

وقيل: الرجز: الإثم؛ أذهب ذلك عنهم؛ كقوله: {رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} ذكر هذا - واللّه أعلم - على المبالغة في المنة أنه أخبر أنه أنزل من السماء ماء فضل عن حوائجهم حتى وجدوا ماء لتطهير أنفسهم وأبدانهم، وأذهب عنهم رجز الشيطان؛ ذكر السبب الذي به يذهب الرجز؛ لأن الرجز هو العذاب، فذكر الرجز والمراد منه سبب الرجز.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ}.

يحتمل: حقيقة تثبيت الأقدام.

ويحتمل: الثبات على ما هم عليه.

والربط: هو الشد لشيء، فيحتمل قوله: {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} أي شدها حتى لا

يزول أحدهم عما هو فيه، ولا يزيغ عن ذلك، وإن ابتلاه اللّه - تعالى - بأنواع الشدائد والبلايا؛ ذكر في التوحيد والإيمان الربط والتثبيت بقوله: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ}

وقوله: {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ}،

وقوله: (وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ، وذكر في الشرك والكفر الطبع والختم والقفل ونحوه؛ فهو - واللّه أعلم - عقوبة لهم لما اختاروا ذلك.

وقوله: {وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ}.

قيل: وسوسة الشيطان، وهو ما ذكر في بعض القصة أن المسلمين أصابهم ضعف شديد، وألقى الشيطان في قلوبهم القنوط، ويوسوسهم، ويقول لهم: تزعمون أنكم أولياء اللّه وفيكم رسوله، وقد غلبكم المشركون على الماء، وأنتم تصلون مجنبين، فأمطر اللّه عليهم مطرًا شديدًا، فشرب المسلمون وتطهروا، وأذهب عنهم رجز الشيطان، ونشف الرمل حين أصابه المطر، فمشى الناس عليه والدواب فساروا إلى القوم، وأمدَّ

 اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - نبيه والمؤمنين بألف من الملائكة، فذلك قوله: {بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ}.

١٢

ثم قال: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ... (١٢)

الوحي وكان يسمى وحيا لسرعة قذفه في القلوب ووقوعه فيها؛ ولذلك سمى - واللّه أعلم - وساوس الشيطان: وحيًا بقوله: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} أي: يقذفون في قلوبهم، ويدعونهم إلى أشياء من غير أن علموا بذلك أنه ممن جاء ذلك، وما سبب ذلك؛ لسرعة قذفه ووقوعه في القلوب، وكذلك سمى الإلهام وحيًا لسرعة وقوعه في القلوب؛ قال - تعالى -: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ}.

وقيل: هو الإلهام؛ أي: ألهم النحل لتتخذ من الجبال بيوتًا، وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللّه إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ}، أخبر أن ليس له أن يكلمه إلا وحيًا، وهو ما ألهمه، سمى وحيًا لسرعة وقوعه في القلب وقذفه أفيه، على غير علم منهم أنه من أين كان؟ ومم كان.

وفيه دلالة أن غيرًا هو الذي أخطر ذلك في القلوب وقذفه فيها، لا أنه يحدث ذلك بنفسه على غير إخطار أحد ولا قذفه، فإن كان ما قذف فيه خيرًا فهو من الملك، وإن كان شرًّا فهو من قذف الشيطان ووسوسته؛ ففيه دليل ثبوت الملك والشيطان، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَنِّي مَعَكُمْ}.

قيل: إني معكم، في النصر، والمعونة، ودفع العدو عنكم.

أو يقول: إني معكم في التوفيق.

ويحتمل أن يكون قوله: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ} أي: أخبر المؤمنين أني معكم بما ذكرنا من النصر والمعونة والدفع.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا}.

أمر ملائكته أن يثبتوا الذين آمنوا بالنصر لهم والأمن، بعد ما كانوا خائفين فشلين جبنين لما أجابوا ربهم، مع ضعف أبدانهم، وقلة عددهم، فأبدلهم اللّه مكان الخوف لهم أمنًا، ومكان الضعف القوة والنصر، ومكان الذل العز، وأبدل المشركين مكان الأمن لهم خوفًا، ومكان العز الذل، ومكان الكثرة الضعف والفشل؛ فذلك - واللّه أعلم - قوله: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ}.

وقوله: {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا}.

جائز أن يكون نفس نزول الملائكة تثبيتهم؛ لأنهم سبب تثبيتهم، أو ثبتهم من غير أن علم المؤمنون بهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}.

قال قائلون: قوله: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} إذا ظفروا بهم ووقعوا في أيديهم، فعند ذلك يضرب فوق الأعناق، وهو الفصل الذي يبين الرأس بالضرب؛ لما نهى عن المثلة، وفي الضرب في غير ذلك مثلة.

ويحتمل قوله: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ}، أي: اضربوا الأعناق وما فوق الأعناق.

{وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} معناه - واللّه أعلم - أي: اضربوا على ما تهيأ لكم من الأطراف وغيرها.

وأما قوله: {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} في الحرب؛ لأنه لا سبيل في الحرب إلى أن يضرب ضربًا لا يكون مثلة؛ فكأنه قال: فاضربوا فوق الأعناق إذا قدرتم عليهم ووقعوا في أيديكم، {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} كيفما تقدرون، وحيثما تقدرون، واللّه أعلم.

١٣

وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللّه وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللّه وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللّه شَدِيدُ الْعِقَابِ (١٣)

يعني - واللّه أعلم -: ذلك الضرب والقتل.

{بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللّه}.

أي: حاربوا اللّه ورسوله، والمشاقة: الخلاف؛ خالفوا اللّه ورسوله.

{وَمَنْ يُشَاقِقِ اللّه وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللّه شَدِيدُ الْعِقَابِ}: له في الآخرة.

١٤

وقوله: (ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (١٤)

أي: ذلكم العقاب والعذاب.

{فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ}.

بالخلاف للّه ورسوله، والمحاربة معهم.

١٥

وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ}.

كان أول الأمر بالقتال وفرضه كان لبذل الأنفس للّهلاك؛ لأنه ذكر الزحف، والزحف هو الجماعة والعدد الذي لا يعد، وليس للواحد القيام للجماعة، فكان فرض القتال لبذل الأنفس للقتل؛ وعلى ذلك يخرج قوله: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} وليس في وسع الواحد القيام لعشرة إذا أحيط به، ويجوز أن يفرض بذل الأنفس للقتال؛ كقوله: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ}، أخبر أنه لو أمر بذلك لم يفعل إلا القليل منهم، فجائز الأمر بذلك امتحانًا منه لهم، فإن احتمل ما ذكرنا كان قوله: {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ} هو على التحقيق؛ إذ إلى ذلك يساقون.

ويحتمل وجهًا آخر، وهو أن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - أمر بذلك ليكون آية، ويعرف كل أحد

 أنه إنما قام باللّه، لا بقوة نفسه؛ إذ ليس في وسع أحد القيام لعشرة أو لجماعة بقوته إذا أحيط به، فهو على الآية إن كان فيه ما ذكرنا، واللّه أعلم.

وقوله: (فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (١٥)

١٦

 وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ ... (١٦)

والمتحرف للقتال: هو المتنقل من مكان إلى مكان للحرب، والمتحيز إلى فئة: هو الملتجئ إلى فئة على جهة العود إليهم والحرب، يقال: تحوزت وتحيزت، بالواو والياء جميعًا، وهما تحوز الحرب.

وفيه النهي عن الانهزام والتولي عن العدو، إلا ما ذكر من التحرف للقتال أو التحيز إلى الفئة على جهة العود إليهم.

ثم أخبر أن من ولى دبره بسوى ما ذكر {فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللّه وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.

قالت المعتزلة: دل ما أوعد المتحرف بغير قتال والمتحيز إلى غير الفئة بقوله: {فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللّه} - أن مرتكب الكبيرة يخلد في النار؛ لأنه ذكر في أول الآية المؤمنين، ولهم خرج الخطاب بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا}، ثم أوعد لهم الوعيد الشديد ما يوعد أهل النار غير أهل الإيمان؛ فدل أنه يخرج عن الإيمان بارتكاب الكبيرة، ويخلد في النار.

وقالوا: لا يجوز صرف الآية إلى أهل النفاق؛ لما ذكر في القصة أنه لم يكن يوم بدر منافق.

لكن هذا غلط؛ قال اللّه - تعالى -: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ}، وإنَّمَا قالوا ذلك يوم بدر؛ كذلك ذكر، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ}، فإن كان مستثنى من قوله: {فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللّه}، لم يكن فيه رخصة التولي، ولكن فيه دفع الوعيد الذي ذكر، وإن كان مستثنى من قوله: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ}، ففيه رخصة التولي إلى ما ذكر.

ثم الدلالة على أنه مستثنى من هذا دون الأول ما جاء عن غير واحد من الصحابة توليه الدبر إلى ما ذكر، وكذلك روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " أنا فئة لكل مسلم ".

وبعد، فإنه لم يكن لأهل الإسلام فئة يوم بدر يتحيزون إليها، فدل أنها في المنافقين

 وأهل الكفر، واللّه أعلم.

ثم يقال: يجوز أن يكون ما ذكر من الوعيد لمعنى في التولية عن الدبر والإعراض، لا لنفس التولية عن الدبر؛ إذ قد ذكر التولية عن الدبر في آية أخرى، والعفو عن ذلك، وهو قوله - تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا. . .} الآية.

فَإِنْ قِيلَ: لعل التوبة مضمرة فيه، تابوا فعفا عنهم.

قيل: إن جاز أن تجعل التوبة مضمرة فيها، جاز أن يضمر في التولية عن الدبر الردة، فليست تلك أولى بإضمار التوبة من هذه بإضمار الردة، وفي الآية معان تدل على الإضمار؛ إضمار ما يوجب الوعيد الذي ذكر - واللّه أعلم -:

أحدها: ذكر التحيز إلى الفئة، وإذا لم يكن للمسلم فئة يتحيز إليها، فإذا تحيز إنما يتحيز ليصير إلى العدو، فهو الردة التي ذكرنا.

والثاني: ما ذكر في بعض القصة أنه لما اصطف القوم رفع رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يديه، فقال: " يا رب، إن تهلك هذه العصابة، فلن تعبد في الأرض أبدًا "، ومن هرب أو ولى الدبر عن مثل تلك الحال، لم يول إلا لقصد ألا يعبد، فهو كفر.

والثالث: قد وُعِدَ لهم النصر والظفر على العدو، فمن ولى الدبر، لم يول إلا لتكذيب بالوعد الذي وُعِدَ لهم.

١٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّه قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّه رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧)

قيل فيه بوجوه:

يحتمل قوله: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ}، أي: لم تكن جراحاتكم التي أصابتهم بمصيبة المقتل، ولا عاملة في استخراج الروح، ولا كانت قاتلة، ولكن اللّه - تعالى - صيرها قاتلة مصيبة المقتل، عاملة في استخراج الروح؛ لأن من الجراحات ما إذا أصابت لم تصب المقتل، ولا عملت في استخراج الروح.

وقوله: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ. . .} الآية. يخرج على وجوه:

أحدها: أن العبد لا صنع له في القتل واستخراج الروح منه، إنما ذلك فعل اللّه، وإليه ذلك، وهو المالك لذلك؛ لأن الضربة والجرح قد يكون ولا موت هنالك؛ وكذلك الرمي، ليس كل من أرسل شيئًا من يده فهو رمي، إنما يصير رميا باللّه إنشاء السهم حتى يصل بطبعه المبلغ الذي يبلغ؛ فكأنه لا صنع له في الرمي.

ألا ترى أنه لا يملك رد السهم إذا أرسله، ولو كان فعله لملك رده؛ ولهذا قال أبو حنيفة - رحمه اللّه -: إن الاستئجار على القتل باطل.

والثاني: قتلوا بمعونة اللّه ونصره؛ كما يقول الرجل لآخر: إنك لم تقتله، وإنما قتله فلان، أي: بمعونة فلان قتلته؛ فعلى ذلك الأول.

وقوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّه رَمَى}، أي: ما أصاب رميك المقصد الذي قصدت، ولكن اللّه بالغ ذلك المقصد الذي قصدتم.

والثالث: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ}، أي: لم تطمعوا بخروجكم إليهم قتلهم؛ لأنهم كانوا بالمحل الذي وصفهم من الضعف وشدة الخوف والذلة كأنما يساقون إلى الموت، فإذا كانوا بالمحل الذي ذكر فيقول - واللّه أعلم -: لم تطمعوا بخروجكم إليهم وقصدكم إياهم قتلهم؛ لما كان فيكم من الضعف وقوة أُولَئِكَ، ولكن اللّه أذلهم، وألقى في قلوبهم الرعب والخوف حتى قتلتموهم؛ وكذلك قوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّه رَمَى} لا يطمع الإنسان برمي كف من تراب النكبة بأعدائه، ولكن اللّه رمى حيث بلغ ذلك، وغطى أبصارهم وأعينهم بذلك الكف من التراب؛ على ما ذكر في القصة أنه رمى كفًّا من تراب فغشى أبصار المشركين، فانهزموا لذلك.

 ويحتمل أن تكون نسبة هذه الأفعال إلى نفسه وإضافتها إليها، لما نسب وأضاف كل خير ومعروف إلى نفسه؛ من ذلك قوله: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا. . .} الآية.

وقوله: {وَلَكِنَّ اللّه يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}،

وقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}، وغير ذلك من الآيات التي فيها إضافة الأفعال التي خلصت للّه وصفت له؛ فعلى ذلك نسب فعلهم إلى نفسه؛ لخلوصه وصفائه له، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا}.

أي: نعمة عظيمة؛ حيث نصرهم على عدوهم مع ضعف أبدانهم، وقلة عددهم، وكثرة أعدائهم، وقوة أبدانهم وعدتهم، وهو ما ذكر في هلاك فرعون وقومه أنه بلاء من ربكم عظيم بقوله: {وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}؛ فعلى ذلك هذا، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ اللّه سَمِيعٌ}.

أي: سميع لدعائكم الذي دعوتم، وتضرعكم الذي تضرعتم إليه.

أو أن يقول: {سَمِيعٌ}، أي: مجيب لدعائكم، {عَلِيمٌ}: بأقوالكم وأفعالكم، التي تسرون وتعلنون، واللّه أعلم.

١٨

وقول - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّه مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (١٨)

قوله: {ذَلِكُمْ}، أي: ذلك كان بهم من القتل والأسر والهزيمة لما أوهن وأضعف كيدهم تعالى.

ويحتمل أن يكون صلة قوله: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا}، أي: ذلك الإنعام والإبلاء الذي من اللّه عليكم لما أوهن كيدهم، وذلك يكون في جملة المؤمنين، ما من مؤمن إلا وله من اللّه إليه إبلاء وإنعام في كل حال لإيهانه كيد الكافرين.

١٩

وقوله: (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ ... (١٩)

الاستفتاح يحتمل وجوهًا ثلاثة:

يحتمل الاستكشاف وطلب البيان، ويكون طلب النصر والمعونة؛ كقوله: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا}، أي: يستنصرون، ويكون طلب الحكم والقضاء بين الحق والباطل؛ يقال: فتح بكذا، أي: حكم به وقضى، فهو يخرج على وجهين: على طلب بيان المحق من المبطل، وطلب بيان أحق الدِّينين بالنصر والحكم؛ فقد بين اللّه لهم أحق الدِّينين ما ذكر في القصة أن أبا جهل قال: اللّهم اقض بيننا

وبين مُحَمَّد، فقال: اللّهم أينا كان أوصل للرحم وأرضى عندك فانصره. ففعل اللّه ذلك، ونصر المؤمنين، وهزم المشركين، فنزلت هذه الآية.

وقيل: إنه دعا: اللّهم انصر أعز الجندين وأكرم الفئتين وخير القبيلين؛ فكان ما ذكرنا؛ فقد بين اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - أحق الدِّينين، وأعز الجندين لما هزم المشركين مع قوتهم وعدتهم، وكثرة عددهم بفئة ضعيفة، ذليلة، قليلة العدد، وضعيفة الأبدان والأسباب - دل أنه قد بين لهم الأحق من غيره.

وقيل: إنهم استفتحوا بالعذاب، وكان استفتاحهم ما قالوا: {اللّهمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}، فجاءهم العذاب يوم بدر، وأخبرهم يوم أحد: {وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا. . .} الآية، والاستفتاح هو ما ذكرنا.

قال الحسن: الفتح القضاء.

ولذلك قال قتادة: قالوا: إن تستقضوا فقد جاءكم القضاء في يوم بدر؛ كقوله: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ. . .} الآية.

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: قوله: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا}: تسألوا الفتح، وهو النصر، {فَقَدْ جَاءَكُمُ} وهو ما ذكرنا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}.

يحتمل قوله: وإن تنتهوا عما كنتم، فهو خير لكم يغفر لكم؛ كقوله: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}.

 وقيل: وإن تنتهوا عن قتل مُحَمَّد، فهو خير لكم من أن ينتهي مُحَمَّد عن قتالكم.

وقوله: {وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ} يحتمل: وإن تعودوا إلى قتال مُحَمَّد، نعد إليكم من القتل، والقتال، والأسر، والقهر.

ويحتمل: وإن تعودوا نعد إلى البيان والكشف إلى ما كنتم من قبل البيان من التكذيب والكفر لمُحَمَّد، نعد إلى الانتقام والتعذيب؛ كقوله: {وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللّه مَعَ الْمُؤْمِنِينَ}.

بالنصر والمعونة.

فَإِنْ قِيلَ: ذكر أنه لن تغني عنكم فئتكم وكثرتكم، وقد أغناهم كثرتهم يوم أُحد؛ حيث ذكر أن الهزيمة كانت على المؤمنين.

قيل: هذا لوجهين:

أحدهما: أن عاقبة الأمر كانت للمؤمنين، وإن كان في الابتداء كان عليهم فلن يغني عنهم ذلك؛ على ما ذكر؛ لأنه لو أغناهم ذلك لكان لهم الابتداء والعاقبة.

والثاني: أنه لم تكن النكبة والهزيمة على المؤمنين إلا لعصيان كان منهم؛ لقوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّه وَعْدَهُ. . .} الآية، فما أصاب المؤمنين من النكبات إنما كان بسبب كان منهم، لا بالعدو؛ لذلك كان الجواب ما ذكر، واللّه أعلم.

٢٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّه وَرَسُولَهُ}.

أي: أطيعوا اللّه في أمره ونهيه، {وَرَسُولَهُ}: في بيانه، وفيما دعا إليه.

وقيل: أطيعوا اللّه في فرائضه، ورسوله في سننه وآدابه.

{وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ}: آياته وحججه.

٢١

(وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (٢١) أي: لا تكونوا في الإيمان والتوحيد والآيات.

 {كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا} بذلك {وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} أي: لا يجيبون، ولا يسمعون، ولا يؤمنون.

ويحتمل أن يكون: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا}: الآيات والحجج، {وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} أي: لا ينتفعون بسماعهم، أو لا يعقلون كالدواب وغيرها.

قال أبو بكر الأصم: قوله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} استثقالا، وبغضًا؛ أي: لا يستمعون إليه؛ لأن من استثقل شيئًا وأبغضه لم يستمع إليه؛ كقوله: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ}.

٢٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللّه الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (٢٢)

تأويله - واللّه أعلم -: أن الذي هو من شر الدواب عند اللّه هو الأصم الذي لا ينتفع بسمعه، والأبكم الذي لا ينتفع بلسانه ونطقه؛ لأنهم لم ينتفعوا بسمعهم لما جعل له السمع، ولم ينتفعوا بنطقهم لما جعل له النطق، ولم ينتفعوا بعقلهم لما جعل له العقل، فهم شر الدواب؛ كقوله: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ}، وأشر؛ لأن الدواب والأنعام انتفعت بهذه الحواس لما جعلت لها هذه الحواس، عرفت بهذه الحواس المهالك والمضار فتوقت عنها، وعرفت الملاذ والمنافع بها فترغب فيها وتقع، فانتفعت الدواب بالحواس التي جعلت لها لما جعلت، ولم يجعل لها هذه الحواس إلا للمقدار الذي عرفت وفهمت وانتفعت، وهَؤُلَاءِ الكفرة لم ينتفعوا بالحواس التي جعلت لهم لما جعلت له ذلك؛ ليعرفوا النافع لهم والملاذ في العاقبة كذلك ويعرفوا الضار لهم في العاقبة والمهلك فيتوقوا عنه، فلم ينتفعوا بحواسهم لما جعلت الحواس، والدواب انتفعت بها؛ لذلك كانوا أضل وأشر أمنها.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ} الذين اكتسبوا الصمم الدائم والعمى الدائع، وذلك في الآخرة؛ كقوله: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا}

وقوله: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ}، أي: تركوا اكتساب البصر الدائم، والسمع الدائم، والحياة الدائمة والباقية، سماهم صمًّا وبكمًا وعميًا؛ لما لم يكتسبوا بصر القلب، ونطق القلب، وسمع القلب؛ فهذه هي الحواس التي تكون

 بالاكتساب، ولم يكتسبوها، إنما لهم الحواس الظاهرة.

أو يقول: شر الدواب التي لم ينتفعوا بالذي ذكر من الحواس، وتركوا استعمالها، واللّه أعلم.

٢٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ عَلِمَ اللّه فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣)

قيل: نزلت الآية في المردة من الكفرة.

وقال ابن عَبَّاسٍ: هم نفر من بني عبد الدار، كانوا يسألون رسول اللّه آية بعد آية، وقد أعطاهم آية بعد آية قبل ذلك لم يقبلوها، فقال: {وَلَوْ عَلِمَ اللّه فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} أنهم يقبلون جواب المسائل التي سألوا، لأوحى إليهم ولأسمعهم، ولكن علم أنهم وإن أسمعهم جواب مسائلهم - لا يقبلون.

وقالت المعتزلة: دلت الآية أنه قد أعطاهم جميع ما كان عنده، لكنهم لم يقبلوا؛ لأنه قال: {وَلَوْ عَلِمَ اللّه فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ}، فدل أنه لم يكن عنده ما يعطي، وإلا لو كان عنده ما يقبلون لأسمعهم.

لكن هذا بعيد؛ لأنه لم يقل: لو علم اللّه عنده خيرًا لأسمعهم، ولكن قال: {وَلَو عَلِمَ اللّه فِيهِمْ خَيْرًا}، فإنما نفى أن عندهم خيرًا.

والوجه فيه ما ذكرنا أنه لو علم فيهم خيرًا يعملون به لأوحى إليهم وأسمعهم، لكنه علم أنهم لا يقبلون بقوله: {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ}، أي: مكذبون بجواب ما سألوا تعنتًا وتمردًا منهم، وأخبر أنهم يسألون سؤال تعنت وتمرد، لا سؤال استرشاد.

٢٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للّه وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ... (٢٤)

قَالَ بَعْضُهُمْ: هذه الآية صلة قوله: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ}، يقول - واللّه أعلم -: أجيبوا للّه وللرسول إلى ما يدعوكم، وإن كانت أنفسكم تكره الخروج لذلك؛ لقلة عددكم، وضعف أبدانكم، وكثرة عدد العدو وقوتهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}.

بالذكر، والشرف والثناء الحسن في الدنيا، والحياة في الآخرة اللذيذة الدائمة، وإن متم وهلكتم فيما يدعوكم إليه، يكون لكم في الآخرة حياة الأبد.

ويحتمل أن تكون الآية في جملة المؤمنين، أي: استجيبوا للّه في أوامره ونواهيه، وللرسول فيما يدعوكم إليه، وإنَّمَا كان يدعو إلى دار الآخرة؛ كقوله - تعالى -: {وَاللّه يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ}، ودار الآخرة هي دار الحياة؛ كقوله: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}؛ كأنه قال - واللّه أعلم -: أجيبوا للّه وللرسول، فإنه إنما دعاكم إلى ما تحبون فيها، ليس كالكافر الذي لا يموت فيها، ولا يحيا بتركه الإجابة.

{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ}.

يخرج على وجهين:

يحول بين قلب المؤمن وبين الكفر.

ويحول بين الكافر والإيمان.

وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ}.

أمكن أن يخرج هذا على الأول، أي: اعلموا أن اللّه يحول بين المرء وقلبه، يجعل القوي ضعيفًا، والعزيز ذليلًا، والضعيف قويًا، والذليل عزيزًا، والشجاع جبانًا، والخائف آمنًا، والآمن خائفًا، فأجيبوا للرسول بالخروج للجهاد، وإن كنتم تخافون لضعفكم

وقوتهم.

ويحتمل في جملة المؤمنين، أي: من أجاب للّه وللرسول إذا دعاه، يجعل قلبه هو الغالب على نفسه، والحائل بينه وبين ما تدعو إليه النفس، وإذا ترك الإجابة، يجعل نفسه هي الحائلة بينه وبين ما يدعو إليه قلبه والداعية إلى ذلك {وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}.

وقيل: {اسْتَجِيبُوا للّه وَلِلرَّسُولِ}: بالطاعة في أمر القتال، {إِذَا دَعَاكُمْ}: إلى الحرب، {لِمَا يُحْيِيكُمْ} يعني: بالحرب التي أعزكم اللّه؛ يقول: أحياكم اللّه بعد الذل، وقواكم بعد الضعف، وكان ذلك حياة.

{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} يخرج على وجهين:

أحدهما: يستعجل التوبة قبل أن ينزل به الموت؛ يقول: أجيبوا للّه وللرسول قبل أن

 يحال بين المرء وبين التوبة بالموت.

والثاني: يحول بين المرء وقلبه بالأعمال التي يكتسبها، ينشئ الفعل الذي يفعله طبع قلبه وختمه، وينشئ ظلمة تحول بينه وبين ما يقصده ويدعى إليه، واللّه أعلم.

٢٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ... (٢٥)

قَالَ بَعْضُهُمْ: (لا) هاهنا صلة؛ كأنه قال: " واتقوا فتنة تصيبن الذين ظلموا منكم

خاصة ".

أي: اتقوا الفتنة التي تصيب الظلمة منكم خاصة بظلمهم، وهي العذاب؛ كقوله: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}؛ فعلى ذلك قوله: واتقوا فتنة تصيبن الذين ظلموا في الآخرة، وهي العذاب، وذلك جائز في الكلام؛ نحو ما قرأ بعضهم قوله: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ}، بكسر الألف وطرح (لَا) {أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ}، أي: أنها وإن جاءت لا يؤمنون.

وأما على إثبات (لَا): فإنه يحتمل وجوهًا:

 قيل: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ}، أي: اتقوا أن تكونوا فتنة للذين ظلموا؛ كقوله: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}، ووجه جعله إياهم فتنة للذين كفروا: هو أن يجعل العدو غالبًا عليهم منتصرين وهم المغلوبون، فيظنون أنهم على حق والمؤمنون على باطل؛ فذلك معنى دعائهم: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}؛ لئلا يقولوا: لو كانوا على حق ما غلبوا، ولا قهروا، ولا انْتُصِرَ منهم.

وقيل: قوله: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا}: نهى الأتباع منهم؛ أن يسعوا فيما بين الظلمة بالفساد، ولا يغري بعضهم على بعض، فيقع فيما بينهم الفساد، فيكون هَؤُلَاءِ الأتباع فتنة للذين ظلموا بإغراء بعضهم على بعض، وذلك معروف فيما بين الخلق في الظلمة، يغري الأتباع بعضهم على بعض؛ فذاك فتنة.

ويحئمل وجهًا آخر: وهو أن اللّه - تعالى - يغير الأحوال في الخلق: مرة سعة وخصبًا، ومرة قحطًا وضيقًا، ومرة غلبة العدو على الأولياء، ونحوه، ويدفع العذاب عن الظلمة بمن لم يظلم ما لم يشاركوا الظلمة، فإذا شاركوا أُولَئِكَ يحل بأُولَئِكَ بظلمهم، وأهل الصلاح والعدل بتركهم الظلمة، وأهل الفساد ولهم قوة المنع لهم عن ذلك؛ فيقول: {لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}، ولكن تصيبهم وتصيبكم، فقال: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} أخذ الظلمة العذاب لمشاركة أهل العدل أُولَئِكَ، فيكونون فتنة لهم؛ كقوله: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللّه النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ}.

أو أن يدفع عن الظلمة البلاء والعذاب ما دام أهل العدل يأمرونهم بالمعروف، ويغيرون عليهم المنكر، فإذا تركوا ذلك، ولا يغيرون عليهم المنكر، نزل بهم البلاء، فيعمهم البلاء، الظالم وغيره.

والفتنة على وجهين:

الأول، فتنة الجزاء، جزاء أعمالهم، وتلك تأخذ أهلها خاصة.

والثاني، فتنة المحنة، وتلك تعم الخلق، واللّه أعلم.

٢٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦)

إن أهل الإسلام في ابتداء الأمر كانوا قليلي العدد، مستضعفين عند الكفرة، حتى كانوا يخافون أن يسلب الكفرة أرواحهم، وكانوا لا يأمنون على أنفسهم بالمقام في البلدان؛ لقلة عددهم وضعفهم؛ خوفًا على أنفسهم وإشفاقًا فتركوا المقام بالبلدان، وخرجوا إلى الجبال والغيران، فأقاموا فيها، وأكلوا الحشيش والكلأ طعام الأنعام؛ خوفا على أبدانهم وإشفاقًا على دينهم، ثم إن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - آواهم، وأنزلهم في البلدان والأمصار، وأيدهم ونصرهم على عدوهم، ورزقهم الطيبات طعام البشر بعد ما أكلوا الحشيمش طعام البهائم. {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}: ليلزمهم الشكر على ذلك، ولا يجوز لهم ألا يشكروا بعد ما أصابوا؛ ذكر هذا - واللّه أعلم - لنكون نحن من الإشفاق في الدِّين مثل أُولَئِكَ حين هربوا منهم، واتخذوا الجبال والغيران بيوتًا، والحشيش طعاما، وتركوا أموالهم ونعمهم، ورضوا بذلك؛ إشفاقًا على دينهم.

وقال عامة أهل التأويل: نزلت الآية في أهل بدر، وكانوا قليلي العدد والعدة، ضعيفي الأبدان، والعدو كثير العدد، وقوي الأبدان، فاشتد عليهم الخروج لذلك؛ كقوله: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ. . .} الآية.، فكيفما كان ففيه ما ذكرنا، واللّه أعلم.

وقوله: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ}.

أي: إذ كنتم قليلًا.

وفيه دلالة لقول أبي حنيفة - رحمه اللّه - فيمن قال: هذا الشيء لفلان اشتريته منه، صدق، ويصير كأنه قال: هذا الشيء كان لفلان اشتريته منه؛ دليله قوله: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ} أي: إذ كنتم قليلًا.

وقوله: {وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ}.

على هذا التأويل أي: بالملائكة.

 {وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ}.

المغانم التي رزقهم وأحل لهم.

٢٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللّه وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ}.

جعل اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - هذه الأمة وسطًا عدلًا بقوله: {جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}؛ فكأنه قال: يا أيها الذين آمنوا قد جعلكم اللّه أمناء عدلا وسطًا، فلا تخونوا اللّه فيه؛ كقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للّه وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ. . .} الآية،

وقال: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}، وقال. {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. . .}، أخبر أنه ألزمهم الأمانة - أعني: البشر - دون ما ذكر من الخلائق فمنهم من ضيّع تلك الأمانة؛ من نحو المنافقين والمشركين، وخانوا فيها، فلحقهم الوعيد بالتضييع، وهو قوله: {لِيُعَذِّبَ اللّه الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ. . .} الآية، فكأنه قال: يَا أَيُّهَا الذين آمنوا، قد قبلتم أمانة اللّه فلا تضيعوها، ولا تخونوا فيها؛ كما قال: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللّه إِذَا عَاهَدْتُمْ}، {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}، وغيرها من الآيات التي فيها ذكر الأمانات، نهاهم أن يخونوا فيها، فيكونون كأنهم خانوا أمانتهم.

ويحتمل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، إن أنفسكم وأموالكم للّه، وهي عندكم أمانة استحفظكم فيها، فلا تستعملوها في غير ما أذن لكم؛ لأن من استحفظ أحدًا في شيء ووضع عنده أمانة، فاستعملها في غير ما أذن له - صار خائنا فيها ضامنًا؛ فعلى ذلك

أنفسكم وأموالكم للّه عندكم أمانة استحفظكم فيها، فإن استعملتموها في غير ما أذن لكم فيها، خنتم اللّه والرسول فيها، فتخونوا أماناتكم التي لكم عند اللّه إذا ضيعتم

الأمانة؛ كقوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ}، أي: لا تخونوا اللّه والرسول، ولا تخونوا أماناتكم التي فيما بينكم.

وأصله: أنه - عَزَّ وَجَلَّ - امتحنهم فيما امتحنهم لمنافع أنفسهم ولحاجتهم، فيصيرون فيما خانوا فيما امتحنهم كأنهم خانوا أنفسهم وخانوا أماناتهم؛ كقوله: {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}،

وقوله: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}،

وقوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ. .} الآية.

ثم خيانة المنافقين والمشركين في الدِّين، وخيانة المؤمنين في أفعالهم، فوعدهم التوبة عن خيانتهم، وأوعد أُولَئِكَ على ما خانو! بقوله: {لِيُعَذِّبَ اللّه الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللّه عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.

أن أنفسكم وأموالكم ليست لكم، إنما هي للّه عندكم أمانة، فلا تخونوا فيها.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: الأمانة: الأعمال التي ائتمن اللّه عليها العباد، يعني: الفريضة؛ يقول: {لَا تَخُونُوا اللّه}، أي: [لا تنقضوها].

ثم اختلف أهل التأويل في نزول الآية:

قَالَ بَعْضُهُمْ: نزلت في أبي لبابة؛ وذلك أنه قيل في بعض القصة: إن النبي - عليه

 السلام - حاصر يهود قريظة، فسألوا الصلح على أن يسيروا إلى إخوانهم إلى أذرعات، فأبي النبي، إلا أن ينزلوا على الحكم، فأبوا، فقالوا: فأرسل إلينا أبا لبابة، وكان مناصحهم، فبعثه النبي إليهم، فلما أتاهم قالوا: يا أبا لبابة، أننزل على حكم مُحَمَّد؟ فأشار أبو لبابة بيده ألا تنزلوا على الحكم، فأطاعوه، وكان أبو لبابة ماله وولده معهم، فخان المسلمين؛ فنزلت الآية في شأنه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: نزلت في شأن - حاطب بن أبي بلتعة - حيث فعل ما فعل أبو لبابة.

وقيل: نزلت في شأن قوم بينهم وبين رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عهد الذين كانوا يعبدون الأوثان والأصنام.

لكنا لا ندري في شأن من نزلت، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة، سوى أن فيه ما ذكرنا من النهي عن الخيانة في أمانة اللّه، والأمر بحفظها، واللّه أعلم.

٢٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّه عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨)

 أي: لم يعطهم الأولاد والأموال لعبًا وباطلا، أو لتكون لهم الأموال والأولاد، ولكن أعطاهم محنة وابتلاء، وكذلك جميع ما أنشأ في الدنيا من الأشياء إنما أنشاها لنا فتنة ومحنة؛ كقوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ. . .} الآية،

وقوله: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}،

وقال: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ. . .} الآية، وغيرها من الآيات؛ يدل على أن جميع ما أنشأ فتنة ومحنة يمتحن به البشر؛ كقوله: {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} أي: محنة وابتلاء امتحنا به في أنواع التأديب والتعليم والحفظ والحقوق التي جعلها لهم عليهم، وهو كقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ. .} الآية، وأوجب في الأموال حقوقًا امتحننا بأداء تلك الحقوق التي فيها، وكذلك في جميع ما أمر اللّه به الخلائق بأمور ونهاهم إنما أمر ونهى لمنفعة الخلائق، ودفع الضرر عنهم، لا لمنفعة نفسه، أو ضرر، أو حاجة يدفع بها عن نفسه؛ إذ له ملك ما في السماوات والأرض، وهو العزيز بذاته لا تمسه حاجة، يتعالى عن ذلك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَنَّ اللّه عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}.

لمن لم يخن اللّه والرسول؛ وعدهم الأجر العظيم إذا قاموا بوفاء ما امتحنهم اللّه وابتلاهم به من الأموال والأولاد؛ حيث قال: {وَأَنَّ اللّه عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ عَظِيمٌ}.

٢٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللّه يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ... (٢٩)

قال بعض أهل التأويل: إن هذه الآية صلة ما سبق من الأمر بالجهاد ببدر والخروج إليه؛ كأنه قال: إن تتقوا اللّه وأطعتم اللّه وأجبتم له فيما دعاكم إليه، {يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا}، يحتمل قوله: {يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا}، أي: يجعل خروجكم إليه وجهادكم آية عظيمة يظهر بها المحق من المبطل؛ كقوله: {وَيُرِيدُ اللّه أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ}،

وقال: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} أي: ليظهر الحق من الباطل، وقد كان بحمد اللّه ذلك، وبانَ الحق من الباطل، والمحق من المبطل.

وقيل: قوله: {فُرْقَانًا}، أي: مخرجًا في الدِّين من الشبهات.

 وقيل: مخرجًا في الدنيا والآخرة.

ويحتمل: {فُرْقَانًا} أي: بيانًا لما ذكرنا؛ جعل اللّه - تعالى - التقوى مشتملة على كل خير، وأصلا لكل بر، وصيرها مخرجًا من كل شبهة، ومن كل ضيق وشدة، وجعلها سبيلًا يوصل به إلى كل لذة وسرور، وينال به كل خير وبركة؛ على ما ذكر في غير آي من القرآن.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}: التي سبقت، {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} أي: يستر عليكم ذنوبكم، لا يطلع أحدًا عليها، وذلك من أعظم النعم، وأصل المغفرة: الستر.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاللّه ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.

أي: عند اللّه فضل؛ يعطيكم خيرًا مما تطمعون بالتقوى الذي ذكر.

٣٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ}، من الناس من يقول بأن هذه الآية صلة قوله - تعالى -: {إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ}، كانوا ضعفاء أذلاء فيما بين الكفرة، خائفين فيما بينهم، فهموا أن يمكروا برسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، والمكر به ما ذكر من القتل والإثبات؛ وهو الحبس والإخراج؛ كأنهم تشاوروا فيما بينهم، واستأمروا ما يفعل به، فذكر في القصة أن بعضهم أشاروا إلى القتل، وبعضهم إلى الحبس، وبعضهم بالإخراج؛ فكأن مشاورتهم

وأمرهم رجعت إلى أحد هذه الوجوه: إما القتل، وإما الحبس، وإما الإخراج ثم أخرج اللّه رسوله من بين أظهرهم على الوجه الذي يكون مطيعًا للّه، متعبدًا له فيما كان خروجه بأمره، فيكون خروجه على غير الجهة التي أرادوا هم به، وسمى خروجه هجرة، وليعلموا أنه إنما علم بكيدهم ومكرهم به باللّه؛ لتكون آية من آيات نبوته ورسالته بعد خروجه من بين أظهرهم، ومفارقته إياهم كما كان له من الآيات وقت مقامه بين أظهرهم، وهو كما كان لعيسى آيات وقت مقامه بين أظهرهم، وآية كانت له بالرفع بعد مفارقة قومهم؛ فعلى ذلك الأول.

ولو كانوا لم يتوافقوا بما ذكرنا من القتل أو الحبس دون الإخراج، لم يكن. ليخرج رسوله من بين أظهرهم، وهم قد هموا بإخراجه، واللّه أعلم.

وفي قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ. . .} إلى آخر ما ذكر، تذكير ما أنعم على رسوله وأصحابه؛ لأنه آواهم إلى الأمن بعد ما كانوا خائفين فيهم، وأنزلهم المدينة بعد ما كانوا في الغيران في الجبال هاربين منهم، ورزقهم من الطيبات طعام البشر بعد ما كانوا يتناولون من طعام البهائم والسباع؛ يذكر نعمه عليهم باستنقاذه إياهم من بين ظهرانيهم، والحيلولة بينه وبين ما قصدوا وهموا بالمكر به والهلاك بقوله: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّه وَاللّه خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}.

فيه من الوجوه احتجاجًا عليهم وجهان:

أحدهما: ما ذكرنا أنهم تشاوروا فيما بينهم بالمكر به لم يطلعوا أحدًا، ثم علم ذلك هو فخرج؛ ليعلموا أن اللّه هو الذي أطلعه على ذلك.

والثاني: كان يخوفهم الهلاك بمكرهم برسوله، فخرج من بينهم من غير أن أصابه ما هموا به، وقد أصابهم من الهلاك الذي كان يخوفهم، وحل بهم ما كانوا هموا به وقصدوه، وذلك ما ذكر من مكر اللّه بهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّه وَاللّه خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: أرادوا هم بمكرهم به شرًّا، وهو أن يطفئوا هذا النور؛ ليذهب هذا الدِّين وتدرس آثاره، وأراد أن يسلم منهم نفر ليكونوا أعوانًا ونصرًا له، ليأخذوا حظهم

 بذلك؛ فهو خير الماكرين.

وقيل: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّه}، أي: أرادوا قتله، {وَيَمْكُرُ اللّه}: أراد قتلهم فقتلهم، ببدر، {وَاللّه خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} أي: أفضل مكرًا منهم، غلب مكره مكرهم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّه}، أي: يجزيهم جزاء مكرهم.

٣١

وقوله: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١)

يحتمل قوله: {آيَاتُنَا}: آيات القرآن التي كان يتلو رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

ويحتمل آياته: حججه وبراهينه التي توجب التوحيد وتصديق الرسل.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا}.

قالوا ذلك متعنتين؛ إذ كان يقرع أسماعهم قوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ}،

وقوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ. . .} الآية، ثم لم يكن يطمع أحد منهم أن يأتي بمثله، وتكلفوا في ذلك؛ دل أن قولهم: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} تعنت وعناد.

{إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} كذلك كان يقول العرب: إنه أساطير الأولين.

٣٢

وقوله: {وَإِذْ قَالُوا اللّهمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ. .} الآية.

يذكر نهاية سفههم، وغاية جرأتهم على اللّه، وبغضهم الحق، مع علمهم أن اللّه هو الإله، وأنه قادر على إنزال العذاب، وله السلطان على إمطار الحجارة بقولهم: {اللّهمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}، فلم يبالوا هلاك أنفسهم؛ لشدة سفههم، وجرأتهم على اللّه، وبغضهم الحق، وذكر

 هذا - واللّه أعلم - ليعلم الناس ما لحق رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بدعاء هَؤُلَاءِ السفهاء إلى دين اللّه الذين لم يبالوا هلاك أنفسهم؛ لشدة بغضهم الحق، وجرأتهم على اللّه، وما يتحمل منهم من العظيم.

٣٣

وقوله: (وَمَا كَانَ اللّه لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّه مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣)

يحتمل قوله. {وَأَنْتَ فِيهِم} أي: في جملة المؤمنين أنه لا يعذب أحدًا في الدنيا ما دام هو فيهم، وما دام مؤمن فيهم بقوله: {وَمَا كَانَ اللّه مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}، أي: يؤمنون، وهو كما ذكر أنه أرسله رحمة بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} ومن رحمته ألا يعذب أحدًا من أمته في الدنيا، إنما يؤخر ذلك إلى يوم التناد بقوله: {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ. . .}

وقوله: {وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ}.

ويحتمل أن يكون قوله: {وَأَنتَ فِيهِم}: في أهل مكة خاصة أنه لا يعذبهم ما دام هو فيهم، وما دام فيهم أحد من المسلمين؛ من نحو النساء والذراري؛ كقوله: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ. . .} الآية. أي: لا نعذبهم وأنت يا مُحَمَّد فيهم، أي: بين أظهرهم حتى نخرجك من بينهم، {وَمَا كَانَ اللّه مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}، أي: يصلون.

وقيل: يؤمنون؛ وكذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - ولكن يعذبهم تعذيب القتال والجهاد، ولا يعذبهم تعذيب استئصال على ما أهلك سائر الأمم.

ثم إن المعتزلة تعلقت بظاهر قوله - تعالى -: {وَمَا كَانَ اللّه مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}، أي سيؤمنون؛ أي: لا يعذبهم ما دام يعلم أن فيهم أحدًا يؤمن في آخر عمره، أو من قولهم ألا يجوز للّه أن يهلك أحدًا إذا كان في علمه أنه سيؤمن في آخر عمره؛ لقولهم في الأصلح: إن اللّه لا يفعل بخلقه إلا ما هو أصلح لهم في الدِّين؛ فعلى ذلك تأولوا ظاهر هذه الآية أنه لا يعذبهم م وهم يستغفرون، أي: سيؤمنون.

لكن لو كان كما قالوا، لكان لا يجوز الجهاد معهم أبدًا، ويسقط الأمر بالقتال؛ إذ لعل فيهم من يسلم، فإذا أمره بالجهاد والقتال معهم، دل أن ذلك ليس ما توهموا، واللّه أعلم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: {وَمَا كَانَ اللّه مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}: أي: وهم يدخلون في الإسلام.

وقيل: يسلمون.

٣٤

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}: بقية من بقي في مكة من المسلمين، فلما خرجوا منها قال: (وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللّه ... (٣٤)

وروي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: فيكم أمانان:

أحدهما: رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لقول اللّه تعالى: {وَمَا كَانَ اللّه لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ}.

والآخر: الاستغفار؛ لقول اللّه تعالى: {وَمَا كَانَ اللّه مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}.

قال: فذهب أمان، وهو رسول اللّه، وبقي أمان، وهو الاستغفار.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنهما - قال: إن اللّه جعل في هذه الأمة أمانين؛ لا يزالون معصومين من قوارع العذاب ما داما بين أظهرهم؛ فأمان قبضه اللّه إليه، وأمان بقي فيكم، وهو الاستغفار الذي ذكر.

وروي عن عبد اللّه بن عمر أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان ساجدًا في آخر سجوده في صلاة الآيات، فقال: " أف! أف! "، فقال: " رب ألم تعدني ألا تعذبهم وأنا فيهم؟ رب ألم تعدني ألا تعذبهم وهم يستغفرون ".

 وعن بعضهم: أمانان أنزلهما اللّه؛ أما

 أحدهما: فمضى، وهو نبي اللّه، وأما الآخر: فأبقاه اللّه - تعالى - بين أظهركم، وهو الاستغفار والتوبة.

وفي إثبات قول السفهاء ودعائهم بإمطار الحجارة عليهم، وجعل ذلك كتابًا يتلى عليهم في الصلوات - أوجه ثلاثة من الحكمة:

أحدها: تعريف لهذه الأمة المعاملة مع السفهاء عند ارتكاب المناكير من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أنهم إذا تمادوا في غيهم واستقبلوه بالمكروه والأذى ألا يترك الأمر لهم بالمعروف، ولا يؤيس من خيرهم اقتداء بالنبي أنه لم يترك دعاءهم، وأمرهم بالمعروف مع شدة سفههم وتمردهم.

والثاني: ليعلم الخلق أن حجة اللّه تلزم العباد وإن كانوا قد جهلوه، إذا كان التضييع جاء من قبلهم في ترك النظر والتفكر؛ إذ لو علموا حقيقة العلم أنه الحق، لم يكونوا ليدعوا على أنفسهم بالهلاك.

والثالث: يكون فيه بيان.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللّه وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ... (٣٤)

أي: ما لهم من عذر في صرف العذاب عن أنفسهم؛ إذ قد كان منهم من أنواع ما كان لو كان واحد من ذلك لكانوا يستوجبون العذاب؛ من تكذيبهم الرسول والآيات التي أرسلها إليهم، وصدهم الناس عن المسجد الحرام، وهو مكان العبادة، وسؤالهم بقولهم: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}، أي: ليس لهم عذر في صرف العذاب عن أنفسهم، والاحتجاج على اللّه أنه لم يرسل رسولاً بقولهم: {لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا. . .} الآية؛ بل أرسل إليهم الرسول، فكذبوه، وبعث إليهم الآيات فكذبوها، وصدّوا الناس عن المسجد الحرام، فلا عذر لهم في وجه من الوجوه أن يصرف العذاب عنهم، إلا أن اللّه بفضله ورحمته يصرف العذاب عنهم ببركة النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - واستغفار المؤمنين، وإلا قد كان منهم جميع أسباب العذاب التي يستوجبونه بها.

 

وقوله: {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}.

أي: عن الصلاة فيه.

ويحتمل أن يكونوا صدوا الناس عن رسول اللّه، لكنه ذكر المسجد لما كان رسول اللّه فيه؛ لئلا يروا رسول اللّه فيتبعوه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ}.

أي: لم يكونوا أولياء ليصرفوا العذاب عن أنفسهم بالولاية، وهو صلة قوله: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللّه}، وهم ليسوا بأوليائه.

ويحتمل قوله: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ}: أنهم كانوا يصدون الناس عن المسجد الحرام؛ لما ادعوا أنهم أولياؤه، وأنهم أولى بالمسجد الحرام منهم، أخبر أنهم ليسوا أولياءه، إنما أولياؤه المتقون الذين اتقوا ما أتوا هم، أو أولياؤه الموحدون، لا الذين أشركوا غيره في عبادته وألوهيته.

٣٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥)

قَالَ بَعْضُهُمْ: كان أحسن حالهم التي هم عليها هي حال الصلاة، فإذا كان صلاتهم مكاء وتصدية فكيف حالهم في غير الصلاة؟!

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} وذلك أن النبي - عليه السلام - وأصحابه إذا صلوا في المسجد الحرام، قام طائفة من المشركين عن يمين النبي وأصحابه، فيصفرون كما يصفر المكاء، وطائفة تقوم عن يسارهم فيصفقون بأيديهم؛ ليخلطوا على النبي وأصحابه صلاتهم، فنزل قوله - تعالى -: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}.

ثم اختلف في المكاء والتصدية؛

قَالَ بَعْضُهُمْ: المكاء: هو مثل نفخ البوق، التصدية هي طوافهم على الشمال

 وقَالَ الْقُتَبِيُّ: المكاء: الصفير؛ يقال: مكا يمكو، وهو مثل ما قيل للطائر: مكاء؛ لأنه يمكو، أي: يصفر، يعني: يصوت، والتصدية: هي التصفيق؛ يقال: صدى: إذا صفق بيديه.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: المكاء: شبه الصفير، والتصدية: ضرب باليدين، وهو من الصدى؛ من الصوت.

وقيل: المكاء: صفير كان أهل الجاهلية يلعبون به، والتصدية: الصد عن سبيل اللّه ودينه.

وقوله: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}.

قال بعض أهل التأويل: ذوقوا العذاب يوم بدر، وهو الهزيمة والقتل الذي كان عليهم يوم بدر.

ويحتمل قوله: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ}: في الآخرة؛ بكفرهم في الدنيا.

٣٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللّه. . .} الآية.

يذكرهم - واللّه أعلم - النعم التي أنعمها عليهم؛ من أنواع النعم:

أحدها: ما أنزلهم في بقعة خصَّت تلك البقعة وفضلت على غيرها من البقاع؛ وهو مكان العبادة، ثم صدوا الناس عن الدخول فيها والعبادة فيها، ومن ذلك بعث

الرسول منهم فيهم فكذبوه، وما أعطاهم من الأموال، فانفقوها في الصد؛ صذ الإنسان عن مكان العبادة وإقام العبادة فيه.

ثم اختلف في معنى الصد؛

قَالَ بَعْضُهُمْ: إن كفار قريش استأجروا لقتال بدر رجالا من قبائل العرب؛ عونًا لهم على قتال النبي - عليه السلام - وأصحابه؛ فذلك نفقتهم التي أنفقوا، فصار ذلك حسرة عليهم لما كانت الهزيمة عليهم.

روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه سئل عن هذه الآية؟ فقال: تلك قد خلت؛ إن ناسًا في الجاهلية كانوا يعطون ناسًا أموالهم فيقاتلون نبي اللّه، فأسلموا عليها، فطلبوها، فكانت عليهم حسرة.

وعن سعيد بن جبير قال: نزلت في أبي سفيان بن حرب، استأجر يوم أحد أجراء من الأحابيش من كنانة، فقاتلهم النبي، عليه السلام.

ويحتمل أن يكون قوله: {تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} يوم القيامة، أي: النفقة التي أنفقوها تصير عليهم حسرة في الآخرة؛ لما أنفقوها في غير حل؛ لصد الناس عن سبيل

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}.

أي: يجمعون، وهو ظاهر، يجمعون إلى جهنم بكفرهم باللّه.

٣٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيَمِيزَ اللّه الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٣٧)

جعل اللّه - تعالى - الخبيث مختلطًا بالطيب في الدنيا في سمعهم، وبصرهم، ونطقهم، وجميع جوارحهم، ولباسهم، وطعامهم، وشرابهم، وجميع منافعهم من الغنى، والفقر وأنواع المنافع، جعل بعضهم ببعض مختلطين في الدنيا؛ على ما ذكرنا، لكنه ميز بين الطيب والخبيث في الآخرة بالأعلام، يعرف بتلك الأعلام الخبيث من الطيب؛ من نحو ما ذكر في الطيب: قوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (٢٣). (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩)، وقال في الكافرة: (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (٤١)،

وقال: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا}

وقوله: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا}،

وقال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا. . .}، وغير ذلك من الآيات؛ ميز اللّه - تعالى - بين الخبيث والطيب بالأعلام التي ذكرنا في سمعهم، وبصرهم، ووجوههم، ولباسهم، ومأكلهم، ومشربهم؛ حتى يعرفوا جميعًا با لأعلام.

ويحتمل ما ذكر من التمييز بين الخبيث والطيب: بالمباهلة التي جرت بين أبي جهل وبين النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ حيث قال أبو جهل: انصر من أهدانا سبيلًا، وأبرنا قسمًا، وأوصلنا رحمًا، فأجيب بنصر رسوله وأصحابه، فميز بين المحق والمبطل.

ويحتمل ما ذكر من التمييز في الآخرة؛ كقوله: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا}.

هذا يحتمل وجهين:

أحدهما: أن يجعلهم دركات بعضها أسفل بعض؛ كقوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ}.

والثاني: يحتمل أن يجعل بعضهم على بعض مقرنين في الأصفاد.

 {فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا} وقيل: يجمعه جميعًا بعضهم على بعض.

ويحتمل قوله: {فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا} إخبارًا عن الضيق؛ كقوله: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا}.

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: {فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا}، أي: يجعله ركامًا بعضه فوق بعض.

وكذلك قال أَبُو عَوْسَجَةَ: يقال: ركمت المتاع: إذا جعلت بعضه فوق بعض.

وقوله: {فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ}.

الجهنم: هو المكان الذي يجمع أهل النار في التعذيب.

٣٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}.

ذكر - عَزَّ وَجَلَّ - غاية كرمه وجوده بما وعدهم من المغفرة والتجاوز عمّا كان منهم من الإشراك في ألوهيته، وصرف العبادة إلى غيره، وصدّ الناس عن عبادته وطاعته، ونصب الحروب التي نصبوا بينهم وبين المؤمنين، وغير ذلك من أنواع الهلاك، فمع ما كان منهم وعدهم المغفرة بالانتهاء عن ذلك؛ ليعلم غاية كرمه وجوده.

والمغفرة تحتمل التجاوز أي يتجاوز عنهم؛ ما كان منهم لا يؤاخذهم بذلك.

ويحتمل: يستر عليهم معاصيهم التي كانت منهم، ولا يذكرون ذلك؛ لأنهم لو ذكروا ذلك تنغص عليهم النعم.

وفيه دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأنه أخبر أنهم إن انتهوا وتابوا غفر لهم ما قد كان منهم، وإنَّمَا كانوا منتهين بالإيمان، ولم يجعل بين الإيمان والكفر منزلة ثالثة، وهم يجعلون بينهما منزلة ثالثة، ويقولون: إذا ارتكب كبيرة خرج من الإيمان، ويخلد في النار أبدًا، ولم يكن داخلًا في الكفر.

وفيه دليل نقض قول من يقول بأن على الكافر فعل العبادات؛ من نحو الصلاة، والزكاة، والصيام؛ لأنه ذكر الانتهاء، والانتهاء عما كان من ترك العبادات القيام

بقضائها، وإذا ما تركوا، فلما لم يجب عليهم أداء شيء من ذلك، دل أنه لم يكن عليهم في حال كفرهم فعل تلك العبادات، إنما عليهم اعتقاد تلك العبادات؛ إذ لو كانت عليهم لكان الانتهاء بقضاء ذلك؛ كقوله - عليه السلام -: " من نام عن صلاة أو نسيها، فعليه أن

 يصليها إذا ذكرها أو إذا استيقظ، وذلك كفارته "؛ وكذلك قوله - تعالى -: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}، ليس على الفعل، ولكن في حق الاعتقاد أنه لا سبيل إلى القيام بفعل ما ذكر إلا بعد حول ووقت طويل.

وفي هذه الآية دلالة على أن ليس بين الشرك والإيمان منزلة ثالثة؛ على ما يقوله المعتزلة في صاحب الكبيرة؛ لأنه لو كان بين الكفر والإيمان منزلة ثالثة، لكانوا إذا انتهوا عن الكفر ولم ينتهوا عن تلك المنزلة لا يغفر لهم؛ على قولهم؛ فدل ما ذكر من المغفرة على أن ليس بينهما منزلة، ولكن إذا انتهوا عن الكفر دخلوا في الإيمان.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: {وَإِنْ يَعُودُوا} إلى الكفر وقتال مُحَمَّد بعد ما انتهوا عنه، {فَقَدْ مَضَت. . .}، يعني: القتال.

ويحتمل أن يكون قوله: {يَعُودُوا} أي: ما داموا فيه، لا أن كانوا خرجوا منه؛ نحو قوله - تعالى -: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}، كانوا فيه، لا أن كانوا خرجوا منه ثم دخلوا في غير ذلك.

ثم يحتمل وجهين بعد هذا:

أحدهما: أن للكفر حكم التجدد في كل وقت.

والثاني: ما ذكرنا أن ذكر العود فيه لدوامهم فيه وإن لم يخرجوا منه، وذلك جائز في اللسان؛ كقوله: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} ابتداء إخراج من غير أن كانوا فيه، وكقوله: {رَفَعَ السَّمَاوَاتِ} ابتداء رفع، لا أن كانت موضوعة فرفعها من بعد؛ فعلى ذلك قوله: {وَإِنْ يَعُودُوا} يحتمل: أي: داموا فيه.

وقوله: {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ}.

مضت، يحتمل ما ذكرنا من القتال.

والثاني: سنة الأولين: الهلاك الذي كان.

٣٩

وقوله: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للّه فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللّه بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩)

قيل: الفتنة: الشرك، أي: قاتلوهم حتى لا يكون الشرك، {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للّه}.

ويحتمل قوله: {حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي: محنة القتال؛ كأنه قال: قاتلوهم إلى الوقت الذي ترتفع فيه المحنة، وهو يوم القيامة.

وفيه دلالة لزوم الجهاد إلى يوم الدِّين، والفتنة: هي المحنة التي فيها الشدة،

{وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للّه}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للّه}.

 يخرج على وجهين:

أحدهما: ويكون من الدِّين الذي هو الدِّين كله للّه، لا نصيب لأحد فيه، وهو السبيل التي كانت للشيطان؛ كأنه قال: وتكون الأديان التي يدان بها دينًا واحدًا، وهو دين اللّه الذي يُدعى الخلق إليه، وبذلك بعث الرسل والكتب، واللّه أعلم.

والثاني: يحتمل أن يكون الحكم كله للّه؛ كقوله: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ}، أي: في حكم الملك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللّه بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.

٤٠

وقوله: (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه مَوْلَاكُمْ ... (٤٠)

قيل: ناصركم.

وقيل: المولى: المليك.

{نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}.

أي: نعم الناصر والمعين، {وَنِعْمَ النَّصِيرُ}؛ لأنه لا يعجزه شيء.

وقيل: {مَوْلَاكُمْ}، أي: أولى بكم.

٤١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للّه خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى}.

قال عامة أهل التأويل: إن الغنيمة: هي التي أصاب المسلمون من أموال المشركين بالقتال عنوة، والفيء: ما يعطون بأيديهم صلحًا.

والغنيمة يأخذ الإمام الخمس منها، والباقي يقسم بينهم، والفيء يأخذه الإمام فيضعه في مصلحة المسلمين، وليس فيه الخمس.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الغنيمة والفيء واحد.

ثم قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للّه خُمُسَهُ. . .} إلى آخر ما ذكر، ذكر الخمس، ولم يذكر الأربعة أخماس أنها لمن، لكنها للمقاتلة بقوله: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا}، فكانت الغنيمة كلها لمن غنمها بظاهر هذه الآية، إلا ما استثنى اللّه منها بالآية الأولى، وهو الخمس، وهذا مما أجمع عليه أهل العلم، وعلى ذلك تواترت الأخبار عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعن صحابته موقوفة من بعده.

روي أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سئل عن المال - يعني الغنيمة - فقال: " لي خمسه، وأربعة أخماسه لهَؤُلَاءِ " يعني: المسلمين.

وروي أنه قسمها بين المقاتلة، يعني: الأربعة الأخماس.

وفي بعض الأخبار أن أبا الدرداء وعبادة بن الصامت والحارث بن معاوية كانوا

جلوسًا، فقال أبو الدرداء: أيكم يذكر حديث رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث صلى إلى بعير من المغنم، فلما انصرف فتناول من وبر البعير، فقال: " ما يحل لي من غنائمكم ما يزن هذه إلا الخمس، ثم هو مردود فيكم ".

وعن ابن عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: كانت الغنائم تجزأ خمسة أجزاء، ثم يسهم عليها، فما صار لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فهو له.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: كانت الغنيمة تغتنم على خمسة أخماس؛ فأربعة منها لمن قاتل عليها.

وغير ذلك من الأخبار، وعلى ذلك اتفاق الأئمة.

ومنهم من يقول: يقسم على ستة: سهم للّه يجعل في ستر الكعبة، وسهم لرسوله ينتفع به.

ومنهم من قال: يقسم على خمسة: سهم لرسوله، وأربعة أخماسه لمن غنم.

ومنهم من يقول: يقسم على أربعة: سهم لرسوله، وثلاثة أرباعه لمن غنم.

ثم قوله: {فَأَنَّ للّه خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} تحتمل إضافة ذلك إلى نفسه وجهين:

أحدهما: لما جعل ذلك لإقامة العبادات وأنواع البر والخير والقرب التي هي للّه، فأضيف إليه على ما أضيفت المساجد إليه بقوله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للّه}، وإن كانت البقاع كلها للّه، وكذلك ما سمى الكعبة: بيت اللّه، وإن كانت البيوت كلها

للّه؛ لما جعلها لإقامة العبادات وأنواع القرب، فأضيف إلى اللّه ذلك؛ فعلى ذلك تحتمل إضافة ذلك السهم إلى اللّه؛ لما جعله لإقامة العبادات والقرب وأنواع البر، واللّه سبحانه أعلم.

والثاني: أضاف ذلك إلى نفسه خصوصية لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذ كان ذلك لرسوله، وكان رسول اللّه في جميع أحواله وأموره أللّه، خالصًا، لم يكن لنفسه ولا لأحد من الخلق؛ فعلى ذلك جميع ماله وما كانت تحويه يده لم يكن له، إنما كان ذلك للّه خالصًا، يصرف ذلك في أنواع القرب والبر؛ في القرابة، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل، الأحياء منهم والأموات جميعًا، والقريب منهم والبعيد جميعًا.

ألا ترى أنه قال: " إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة "، هذا يدل أن ما يتركه صدقة لا يورث عنه، ولو كان له لتوارث ورثته ما يورث عن غيره؛ دل أن نفسه وماله كان للّه خالصًا، وكذلك جميع أموره للّه.

ألا ترى أنه روي في الخبر أنه كان يجوع يومًا، ويشبع يومًا، ويجوع ثلاثًا، وكان يربط الحجر على بطنه للجوع.

فإذا كان ذلك، كان إضافة ذلك الخمس إلى اللّه لخصوصية له، وخلوص نفسه وماله له، وإن كان جميع الخلائق وما تحويه أيديهم للّه حقيقة، لكن لهم فيها الانتفاع وقضاء الحوائج والتدبير لأنواع التصرف في ذلك، ولمشاركته غيره في ذلك لم يخصه بالإضافة إليه، وإن كان ذلك كله للّه حقيقة.

ولما كانت نفس رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وما تحويه يده للّه لا تدبير له في ذلك، ولا شرك لأحد فيه، خصّ بإضافة ذلك إليه وكله للّه حقيقة، وهذا كما قال - واللّه أعلم -: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للّه}،

وقال: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ للّه}،

وقال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}،

وقال: {وَبَرَزُوا للّه جَمِيعًا}، خصّ بالذكر ملك ذلك اليوم والبروز له؛ لما ينقطع يومئذ تدبير جميع ملوك الأرض، ويذهب سلطانهم

عنهم، ويصفو البروز له، وإن كان الملك في الأحوال كلها والأوقات جميعًا، وكذلك البروز له، والمصير إليه، وإن كان ذلك راجعا إليه في كل الأحوال؛ فعلى ذلك الأول، واللّه أعلم.

ثم ليس في ظاهر الآية دليل أن المراد بقوله: {وَلِذِي الْقُرْبَى} قرابة رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بل في ظاهرها دلالة أنه أراد به قرابة أهل السهام في ذلك؛ لأنه خاطب به الكل بقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للّه خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى}، وظاهره أنه أراد به قربى من خاطب، وكان الخطاب لهم جميعًا.

ألا ترى أنه لم يفهم من قوله: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ}، قرابة رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولكن قرابة المخاطبين، وكذلك لم يرجع قوله: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}، إلى قرابة رسول اللّه بل إلى قرابة المخاطبين به؛ فعلى ذلك الظاهر من قوله: {وَلِذِي الْقُرْبَى}، إلا أن يقال: أراد قرابة رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بدلالة أخرى سوى ظاهر الآية، وهو ما روي أنه قسم الخمس بين بني هاشم، وما روي أنه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " مالي من هذا المال إلا الخمس، والخمس مردود فيكم " وما روي أن نجدة كتب إلى ابن عَبَّاسٍ يسأله عن سهم ذي القربى فكتب إليه: كتبت تسألني عن سهم ذي القربى لمن هو؟ وهل هو لنا أهل البيت، وقد كان عمر دعانا إلى أن ينكح منه

أيمنا، ويقضي منه مغرمنا، فأبينا إلا أن يسلمه إلينا، فأبى ذلك علينا.

فدل فعل عمر هذا على أن التأويل في الخمس كان عنده أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يصل به قرابته، ويسد بالخمس حاجتهم؛ إذ كان جعل سبيل الخمس ما ذكرنا أنه للّه، بمعنى أنه يصرف في وجوه التقرب إليه، فلو كان الخمس حقًا لجميع القرابة أعطى من ذلك غنيهم وفقيرهم، وما يأخذه الأغنياء من الخمس فإنه لا يجري مجرى الصدقة، ولا يجري مجرى القرابة، فبان بذلك أنه لا يعطى منه أغنياؤهم؛ بل يصرف إلى فقرائهم على قدر حاجتهم؛ إذ لم يكن له مكاسب سواه يصل بها كما يكون لغيره من الناس من المكاسب وأنواع الحرف.

ومما يدل على أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أعطى بعض القرابة دون بعض: ما روي عن جبير بن مطعم قال: لما قسم رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سهم ذي القربى بين بني هاشم وبني المطلب، أتيت أنا وعثمان، فقلنا: يا رسول اللّه، هَؤُلَاءِ بنو هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك اللّه فيهم، أرأيت بني المطلب أعطيتهم ومنعتنا، وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة، فقال: " إنهم لا يفارقوني في جاهلية ولا إسلام، وإنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد "، وشبك بين أصابعه.

وقوله: {فَأَنَّ للّه خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ. . .} إلى آخر ما ذكر، بين أن خمس الغنيمة يصرف في وجوه البرّ والقرب إلى اللّه، ثم فسر تلك الوجوه فقال: {وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}، فكانت تسمية هذه الأصناف - واللّه أعلم - تعليمًا لنا أن الخمس يصرف فيمن ذكر من أهلها دون غيرهم، وليس ذلك إيجابًا منه لكل صنف منهم شيئًا معلومًا، ولكن على بيان الأصل والموضع، وهو كقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ. . .} الآية، حمل أصحابنا ذلك على أن الصدقة لا تجوز إلا لمن كان من أهل هذه الأصناف دون غيرهم، ولم يحملوا الأمر على أن لكل صنف منهم شيئًا معلومًا محدودًا، ولكن على بيان أهلها، وعلى ذلك روي عن جماعة من الصحابة - رضي اللّه عنهم - منهم: عمر، وعلي، وحذيفة، وابن عَبَّاسٍ، وجماعة من السلف ممن يكثر عددهم، قالوا: إذا وضعت الصدقة في صنف واحد أجزأك.

فلو كان لأهل كل صنف الثمن منها، كان المعطى بها صنفًا واحدًا مخالفًا لما أمر به؛ فعلى ذلك قوله: {فَأَنَّ للّه خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى. . .} الآية، معناه - واللّه أعلم - أن الخمس الذي يتقرب به من الغنيمة إلى اللّه لا يستحقه إلا الرسول ومن كان من الأصناف التي ذكرها، فإلى أيهم دفع ذلك الخمس أجزأه.

وإذا كان التأويل ما وصفنا لم يكن لأحد من أهل هذه الأصناف أن يدعي منه خمسًا ولا ربعًا، ولكن يعطى كل من حضر منهم بقدر فاقته وحاجته، وعلى قدر ما يراه الإمام، فإذا جاء فريق آخر، أعطوا مما يدفع إلى الإمام من ذلك الخمس من المال كفايتهم.

وكذلك روي عن ابن عمر أن ابن عَبَّاسٍ قال: كان عمر يعطينا من الخمس نحوًا مما كان يرى أنه لنا، فرغبنا عن ذلك، وقلنا: حق ذي القربى خمس الخمس، فقال عمر: إنما جعل اللّه الخمس لأصناف سماها، فأسعدهم بها أكثرهم عددًا وأشدهم فاقة، فأخذ ذلك ناس. وتركه ناس، وكذلك فعل عمر لما ولي الأمر؛ روي عن ابن عَبَّاسٍ قال: عرض علينا عمر أن يزوج من الخمس أيمنا، ويقضي منه مغرمنا، فأبينا عليه إلا أن يسلمه إلينا، فأبى ذلك علينا.

فدل فعل عمر على أن القرابة يعطون من الخمس قدر حاجتهم وما تسد به فاقتهم؛ إذ لو كان الخمس حقا لجميع القرابة أعطى من ذلك غنيهم وفقيرهم.

ومما يدل أيضًا على أن الخمس لو كان حقًّا لجميع القرابة غنيهم وفقيرهم؛ لقسمه رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيهم كما قسم أربعة الأخماس بين المقاتلة؛ بل أعطى منه بعض القرابة وحرم بعضًا كما ذكرنا في جبير ابن مطعم.

ومما يدل -أيضًا- أن ذلك لأهل الحاجة منهم دون الكل: ما روي أن الفضل ابن عَبَّاسٍ وفلان دخلا على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وهو يومئذ عند زينب بنت جحش، فقال: يا رسول اللّه، أنت أبر الناس وأوصل الناس، وقد بلغنا النكاح.

فجئناك لتأمرنا على هذه الصدقات، فنؤدي إليك ما يؤدي العمال، ونصيب منها ما يصيبون، فسكت طويلا حتى أردنا أن نكلمه ثانيًا، حتى جعلت زينب تلمح إلينا من وراء الحجاب ألا تكلماه، ثم قال: " ألا إن الصدقة لا تنبغي لآل مُحَمَّد، إنما هي أوساخ الناس ادعوا إليَّ محمية، " - وكان على الخمس - ونوفل بن الحارث بن أعبد، المطلب، فجاءاه، فقال لمحمية: " أنكح هذا الغلام ابنتك: للفضل " فأنكحه، وقال

لنوفل: " أنكح هذا الغلام ابنتك " فأنكحه، ثم قال لمحمية: " أصدقهما من الخمس " وكذا دل هذا على أن الحق لهم فيه لأهل الحاجة منهم.

ومما يدل أيضا على ذلك ما روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " ما لي من هذا المال إلا الخمس، والخمس مردود فيكم " لم يخص القرابة بشيء منه، كان سبيلهم سبيل أمر المسلمين يعطي من يحتاج منهم كفايته؛ وعلى هذا أمر الأئمة الراشدين، ولم يغيره علي - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - لما ولي الأمر، وكان ذلك عندنا مما لا يجوز مخالفتهم عليه.

فَإِنْ قِيلَ: لو كان قرابة النبي إنما يعطون من الخمس على سبيل الفقر والحاجة، فهم على هذا يدخلون في عموم المساكين، فما وجه ذكره إياهم إذن؟

قيل: إن اللّه تبارك - وتعالى - قال في الصدقات: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ}، ثم روي عن النبي - عليه السلام - قال: " لا تحل الصدقة لمُحَمَّد ولا لآل مُحَمَّد ".

فلو لم يسهم لهم في الخمس، جاز أن يقول قائل: لا يجوز أن يعطوا من الخمس، وإن كانوا فقراء؛ كما لا يجوز أن يعطوا من الصدقة وإن كانوا فقراء، فكان سبب ذكر اللّه إياهم في الخمس لذلك، واللّه أعلم.

ثم اختلف أهل العلم بعد وفاة رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في سهم الرسول وسهم ذي القربى.

فقال طائفة: سهم الرسول - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - للخليفة من بعده، وسهم ذي القربى لقرابة الخليفة.

وقال طائفة: سهم القربى لقرابة الرسول.

وقال الحسن: سهم القرابة لقرابة الخلفاء.

وقال غيره: القرابة قرابة رسول اللّه.

وقد ذكرنا أنه يحتمل أنه كان له يصل به قرابته بحق الصلة، أو يعطيهم بحق القرابة ما دام حيًّا.

ثم قد ثبت عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " لا نورث، ما تركناه صدقة "، فإذا لم يورث عنه ما قد حازه من سهامه، فكيف يورث عنه ما غنم بعد وفاته؟! ولو كان سهمه

الذي لم يلحقه موروثًا عنه، كان سهمه الذي قد حازه أحرى أن يورث عنه، فإذا لم يورث الذي قد حازه وملكه عنه، لا يورث الآخر، واللّه أعلم.

وعن عائشة أن فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وهما حينئذ يطلبان أرضه من فدك، وسهمه من خيبر، فقال أبو بكر: سمعت رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول: " لا نورث، ما تركناه صدقة، إنما يأكل آل مُحَمَّد في هذا المال حق الغنائم " أي: من الغنائم، واللّه، لا أدع أمرًا رأيت رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يصنعه فيه إلا أصنعه.

وفي بعض الأخبار قال: " لا يقسم ورثتي دينارًا ولا درهمًا، ما تركت سوى نفقة عاملي ومؤنة نسائي فهو صدقة ".

وعن عمر: كان لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مما أفاء اللّه عليه نفقة سنة، ويجعل ما بقي في مال اللّه.

وروي -أيضًا- عنه أنه قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء اللّه على رسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -

وكانت له خالصة، وكان ينفق منها على أهله نفقة سنة، وما بقي جعله في الكراع والسلاح.

فهذه الأخبار تبين أنه لم يورث سهم النبي بعد وفاته، فهي تدل على ألا نقدر بعد موت النبي من خمس الغنائم للخليفة شيئًا، وأن ذلك إنما كان خصوصًا لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، كالصفي الذي كان له خاصة دون غيره، وكما لم يوجف عليه المسلمون بخيل

ولا ركاب، فكان له ذلك خاصة، فليس لأحد غير النبي - عليه السلام - خصوص من الخمس؛ كما ليس له خصوص من الصفي وغيره، وإذا كان الأمر في سهم الرسول - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كما وصفنا، ولم ينقص من الخمس الذي هو للّه شيء بعد موت النبي، ويخرج ذلك الخمس كله من الغنيمة - فذلك يدل على أن الخمس ليس لأهل هذه السهام حقا مقسومًا، ولكن يعطون منه بقدر فاقتهم.

ويدل ذلك -أيضًا- على أنه لا يجب لكل صنف من هذه الأصناف سهم معلوم؛ لأنا قد رددنا سهم النبي من الخمس على سائر السهام، فكما جاز أن يرد عليهم سهم النبي، فكذلك يجوز أن يجعل سهم اليتامى أو بعضه للمساكين إذا حضروا وطلبوا ولم يحضر اليتامى؛ لأن المعنى في الآية - واللّه أعلم - ألا يعطى إلا من كان من أهل هذه الأصناف فقد وضع الحق في موضعه، ولم يتعد به إلى غيره.

ثم الخطاب في قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} لا يحتمل كلا في نفسه؛ كالخطاب بأداء الزكاة وغيرها من الحقوق، بل الخطاب راجع إلى الجماعة الذين غنموا.

ألا ترى أن العسكر أو السرايا إذا دخلوا دار الحرب، فتفرقوا فيها، فغنم واحد منهم - يجب ضم ذلك إلى جميع العسكر والسرايا، فعند ذلك يخرج الخمس منه؟! دل أن الخطاب بذلك راجع إلى جماعة، وهي الجماعة التي لهم منعة يقومون للعدو، لا أنه خاطب كل أحد في نفسه؛ فهذا يدل على أن الواحد أو الاثنين إذا دخلوا دار الحرب بغير إذن الإمام فغنم غنائم لا يخمس، ولكن بسلم الكل له، وأمَّا الغنيمة نفسها لا يحتمل أن ترجع إلى أحد معلوم، أو مقدار محدود؛ كالزكاة وسائر الحقوق؛ لأن الغنيمة شيء يؤخذ من أيدي الكفرة، وإنما يؤخذ قدر ما يظفر به ويوجد؛ فلا يحتمل أن يرجع الخطاب به إلى قدر، دون قدر؛ بل القليل من ذلك والكثير سواء، لا حد في ذلك ولا مقدار، ليس كالزكاة وغيرها من الحقوق التي جعل فيها حدًّا، ومقدارًا للوجه الذي ذكرنا.

وأما المصيبون لها والآخذون فلهم في ذلك مقدار، وهم الذين لهم منعة.

ثم نذكر مسألة في قسمة السهام بين الرجالة والفرسان، وإن لم يكن في الآية ذكر ذلك:

روي عن ابن عمر قال: أعطى رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يوم خيبر الراجل سهمًا، والفارس ثلاثة أسهم سهمًا له وسهمين لفرسه.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنهما - قال: أسهم رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يوم خيبر للراجل سهمًا، وللفارس ثلاثة أسهم، سهما له وسهمين للفرس.

وعن زيد بن ثابت أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أعطى الزبير يوم خيبر أربع أسهم: سهم ذي القربى وسهم له وسهمين للفرس.

ثم روي -أيضًا- عن ابن عمر أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يقسم للفارس سهمين، وللراجل سهمًا.

وعن المقداد أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أسهم له يوم بدر سهما، ولفرسه سهمًا.

وعن علي قال: للفارس سهم.

وعن المنذر قال: بعثه عمر في جيش إلى مصر، فأصاب غنائم، فقسم للفارس سهمين وللراجل سهم فرضي بذلك عمر.

فجعل بعض أهل العلم ما ذكر في هذه الأحاديث من الإسهام للخيل، وقول بعض الرواة ثلاثة أسهم للفرس سهمين.

وقول بعضهم: أسهم للفارس سهمين - اختلافًا وتضادا، فحملوا على التناسخ، وقد يجوز ألا يكون كذلك، وقد تكون زيادته التي زادها النبي للفرس على سهم إن كان محفوظًا ثابتًا لنفل نفله للأفراس حينئذ؛ ترغيبًا منه للمقاتلة في اتخاذها

وتحريضًا؛ كما يجوز أن يقول الإمام: من قتل قتيلًا فله سلبه، ومن جاء برأس كذا فله كذا؛ يحرض بذلك المقاتلة في القتال؛ فعلى ذلك زيادة سهم لمكان الأفراس ترغيبًا منه وتحريضًا على اتخاذها.

فأما إذا كثرت الأفراس، فإن سهمانها لا تكون أكثر من سهمان أصحابها؛ لأن الفارس كثر غنمه من فرسه، فإن لم يزد عليه لم ينقص عنه بسهم.

وكان أبو حنيفة - رحمه اللّه - يسهم للفارس بسهمين، وأبو يوسف - رحمه اللّه - يرى أن يسهم للفرس سهمين، ولصاحبه بسهم.

واحتج في ذلك بقوله: قال اللّه - تعالى -: {وَمَا أَفَاءَ اللّه عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ}، فكانت النضير خالصة لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولم يكن لمن حضرها من المسلمين شيء؛ إذ لم يوجفوا عليها بخيل ولا ركاب، وقد أتوها مشاة، فلما منع الرجالة من السهمان؛ لاستغنائهم في فتحها عن الخيل، جاز أن تزاد الخيل في السهمان على سهمان الرجالة، إذا كان الرجالة يمنعون السهام، وإن حضروا إذا لم يلجئوا إلى ركوب الخيل.

لكن الحجة على هذا ما ذكرنا أن أصحاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يحاربوا على النضير فرسانًا ولا رجالة، ولو احتاجوا إلى الحرب لاحتاجوا إلى الخيل، فمن حيث لم يحاربوا عليها لم يستحقوا منها شيئًا، وإنَّمَا ذكرنا اللّه - تعالى - على سهولة أمرها،

وأنهم لم يحاربوا عليها خيلا ولا ركابًا، وإذا لم يحاربوا على مدينة فغنموا مالا، فهو مصروف في مصالح المسلمين لا تجري فيه السهام، فكانت النضير على ما ذكر خالصة للنبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، يأخذ منها نفقة نسائه، ويصرف سائرها إلى مصالح المسلمين.

ومن الدليل على أن النضير لو احتيج فيها إلى حرب حاربهم النبي وأصحابه رجالة وجرت في غنائمهم القسمة -: أن قومًا من المسلمين لو حاربوا اليوم على مدينة من مدائن الشرك رجالة، قسم ما يغنم منها؛ كما يقسم لو كان معهم فرسان.

ومن الدليل على ذلك -أيضًا-: أن الرجالة إذا كانوا مع الفرسان في الحرب، قسم لهم كما يقسم للفارس خاصة، فلو كانت الغنيمة إنما تقسم لسبب الخيل ما أعطى الرجالة منها شيئًا؛ إذ لا أفراس لهم، وذلك يفسد ما ذكرنا لأبي يوسف.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّه}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: هو صلة قوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للّه}، ثم قال: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه مَوْلَاكُمْ} أي: وإن تولوا هم وقد آمنتم أنتم، فاعلموا أن اللّه مولاكم، ليس بمولى لهم.

وقالت طائفة: قوله: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّه} ليس على الشرط على ألا تكون غنيمة إذا لم يكونوا مؤمنين، ولا يجب العدل في القسمة إذا كانوا غير مؤمنين، ولكن على التنبيه والإيقاظ؛ كقوله: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، ليس على أنه لا يجب أن يذروه إذا لم يكونوا مؤمنين، ولكن على ما ذكرنا؛ فعلى ذلك الأول، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ}.

قيل: قوله: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا}: الملائكة الذين أرسلهم يوم بدر لنصرة المؤمنين، وأنزل عليهم المطر حتى شدّ الأرض بذلك، فاستقرت أقدامهم وثبتت بعد ما كانت لا تقر الأقدام فيها ولا تثبت، وشربوا منه ورووا بعد ما أصابهم العطش؛ إذ كان المشركون أخذوا المال.

 

وقوله: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ}.

قيل: يوم فرق بين الحق والباطل؛ لأنه - عَزَّ وَجَلَّ - جعل يوم بدر آية؛ حيث غلب المؤمنون المشركين مع قلة عددهم، وضعف أبدانهم، وفقد الأسباب التي بها يحارب ويقاتل، وكثرة العدو وقوتهم، ووجود أسباب الحرب والقتال؛ ليعلموا أنهم غلبوا أُولَئِكَ وهزموهم بنصر اللّه إياهم، فكان آية فرق المحق منهم والمبطل.

وقيل: هو يوم الفرقان، ويوم الجمع: جمع النبي والمؤمنين، وجمع المشركين، ويوم الافتراق: افتراق المشركين من المؤمنين أنهزامهم، وهو كما سمى يوم القيامة: {يَوْمَ الْجَمْعِ} في حال، ويوم الافتراق في حال أخرى، واللّه أعلم.

٤٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى ... (٤٢)

قَالَ بَعْضُهُمْ: العدوة القصوى: شفير الوادي الأقصى، والعدوة الدنيا: شفير الوادي الأدنى.

وكذلك قَالَ الْقُتَبِيُّ: العدوة: الشفير، شفير الوادي.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: العدوة: ناحية الوادي التي تليهم،

وقال: إنما سميت الدنيا؛ لأنها دنت منك، والآخرة؛ لأنها استأخرت.

وقيل في حرف ابن مسعود: (إذ أنتم بالعدوة العليا وهم بالعدوة السفلى).

وقال أبو معاذ: العِدْوَة والعُدْوَة لغتان، والركب والركبان والركاب والراكبون كله لغة.

قال في حرف حفصة: (إذ أنتم بالعدوة القصيا).

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {إِذْ أَنْتُمْ}: معشر المؤمنين، {بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا}: من دون الوادي على الشط مما يلي المدينة، {وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى}: من الجانب الآخر مما يلي مكة، يعني: مشركي مكة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ}.

يعني: أصحاب العير على ساحل البحر، أو على الماء.

وقال قتادة: جمع اللّه المشركين والمسلمين ببدر على غير ميعاد، وهما شفيرا الوادي، كان المسلمون بأعلاه، والمشركون بأسفله، {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ}: أبو سفيان انطلق بالعير في ركب نحو الحرب.

وقيل: إذ أنتم بأدنى المدينة، وهم بأقصى مما يلي مكة؛ على ما ذكرنا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ}.

يحتمل: أن: لو علمتم أنكم تخرجون إلى الحرب دون العير، لم تخرجوا إلا بميعاد لتتأهبوا للحرب والقتال فاختلفتم في الميعاد، إما للخروج نفسه، وإما للميعاد نفسه: أتخرجون أو لا تخرجون أو منكم من يؤخر الخروج عن وقت الميعاد، ومنكم من لا يخرج رأسًا لينقضي ذلك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللّه أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا}.

يحتمل: لينجز اللّه ما كان وعد من الظفر والنصر.

أو ليقضي اللّه أمرًا كان في علمه مفعولا، أن إحدى الطائفتين أنها لكم؛ كأنه قال: [(وعد اللّه مفعولا)]، أي: منجزًا.

ويحتمل القضاء: إنثاء وخلق، ولكن لينشيء اللّه ما قد علم أنه يكون كائنًا، واللّه أعلم.

وقوله: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ}.

قال بعض أهل التأويل: ليكفر من كفر بعد ذلك عن بينة وحجة أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان على الحق، وكان صادقًا ويؤمن من آمن على مثل ذلك.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ} قال: ليموت من مات، {وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} يقول: عن بيان وحجة.

وهو - واللّه أعلم - أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قد كان أتاهم بآيات حسية، فسموه ساحرًا، وأخبرهم بالأنباء الماضية التي كانت في كتبهم، فقالوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}، وقالوا: إنه معلم {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ}.

وقد كان رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يخالفهم في جميع صنيعهم من عبادتهم الأصنام والأوثان دون اللّه، وكان يخوفهم ويوعدهم بأشياء، وكان لا يخافهم، وهم كانوا رؤساء كبراء، لا يخالفهم أحد في أمرهم ونهيهم إلا من كان به جنون، فلما رأوا رسول اللّه خالفهم في جميع أمورهم نسبوه إلى الجنون، وقالوا: {سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ}، و {مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ}؛ فأراد اللّه أن يجعل له آية عظيمة؛ حتى لا يقدروا بالنسبة إلى شيء مما كانوا ينسبونه من قبل، فوعدهم النصر والفتح يوم بدر بعد ما علم أُولَئِكَ ضعف المؤمنين، وقلة عددهم، وقوة أنفسهم، وكثرة عددهم؛ لتكون حياة من حيي بعد ذلك عن بينة، وموت من مات على مثل ذلك، وإن كان له من الآيات ما لو لم يعاندوا ولا يكابروا عقولهم، لكانت واحدة منها كافية.

فَإِنْ قِيلَ: ما الحكمة في ذكر القصة من أولها إلى آخرها، وهم قد علموا ذلك كله وشاهدوه؟!

قيل: يذكرهم اللّه - واللّه أعلم - الحال التي كانوا عليها أمن الضعف والقلة والخوف وفقد أسباب الحرب والقتال وكثرة العدو وقوتهم ووجود أسباب الحرب والقتال؛ ليعلم الخلق أن النصر والغلبة ليس يكون بالكثرة، والقوة والأسباب؛ ولكن باللّه - عز

 وجل - لئلا يكلوا إلى الكثرة، ولا يعتمدوا على القوة، ولا يضعفوا، ولا يجبنوا، ولا يخافوا غيره؛ ليعرفوا أن ما أصابهم من الهزيمة والغلبة أصابهم لمعصية كانت منهم، أو إعجابًا بالكثرة، واعتمادًا بالقوة والأسباب، واللّه أعلم.

٤٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّه فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا ... (٤٣)

اختلف فيه؛

قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا} المنام نفسه، كان اللّه يرى رسوله المشركين في منامه قليلا، فأخبر بذلك أصحابه بما رأى، فقالوا: رؤيا النبي حق، القوم قليل، ليس كما بلغنا أنهم كثير. فلما التقوا ببدر، قلل اللّه المشركين في أعين المؤمنين؛ تصديقًا لرؤيا رسول اللّه.

وقال الحسن: قوله: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّه فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا} أي: في عينيك اللتين تنام بهما، وهو في اليقظة؛ لأنه ذكر أنه قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " تنام عيني ولا ينام قلبي "، وإنما أراه إياهم قليلا في العين التي بها ينام، وهما عينا الوجه، ويدل على ذلك ما روي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: لقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لصاحب لي: تراهم سبعين، فقال: أراهم مائة، حتى أخذنا رجلا منهم، فسألناه، فقال: كنا ألفًا.

فإن كان التأويل هذا الثاني أنه أراهم رسوله قليلا في اليقظة بالذي ينام، فهو ظاهر.

وإن كان أراه إياهم في المنام حقيقة، فلقائل أن يقول: إن رؤيا الرسول وحي، فكيف أراه إياهم قليلا وهم كثير خلاف ما هو في الحقيقة؟!

قيل: يحتمل أن يكون أراه بعضهم لا الكل، فهو حقيقة ما أراه إياهم؛ فكذلك قيل، واللّه أعلم.

وجائز أن يكون أرى أصحابه إياهم قليلًا، وإن أضاف ذلك إلى رسول اللّه؛ دليله ما ذكر في آخره؛ حيث قال: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ}، وذلك في القرآن كثير أن يخاطب به رسوله والمراد به غيره.

ألا ترى أنه قال: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} ومعلوم أن نزول هذه الآية بعد وفاة والديه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ} أي: لجبنتم.

{وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ}.

أي: اختلفتم في أمر القتال والحرب.

{وَلَكِنَّ اللّه سَلَّمَ}.

قيل: سلم وأتم للمسلمين أمرهم على عدوهم، فهزمهم ونصرهم عليهم.

ويحتمل قوله: {سَلَّمَ} أي: أجاب للمسلمين؛ لما استعانوا واستنصروه بالنصر والظفر لهم.

{إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}.

أي: عليم بما في قلوب المؤمنين من الجبن والفشل وأمر عدوهم، واللّه أعلم.

٤٤

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّه أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللّه تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤٤) يحتمل قوله: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ. . .} الآية، لما رأوا الملائكة لأنفسهم أنصارًا وأعوانًا؛ إذ كان قد وعدهم النصر والإعانة بالملائكة، وكان العدو مع الملائكة فاستقلوا؛ لأن العدو وإن كانوا كثيرًا فهم قليل مع الملائكة، فرأوهم قليلا على ما كانوا، وقلل هَؤُلَاءِ في أعين هَؤُلَاءِ؛ لأنهم كذلك كانوا قليلا، فرءوا على ما كانوا، ولم يروا الملائكة.

وقال بعض أهل التأويل: قلل هَؤُلَاءِ في أعين هَؤُلَاءِ، وهَؤُلَاءِ في أعين هَؤُلَاءِ، إذا التقوا؛ ليغري بعضهم على بعض وليجترئ بعضهم على بعض على القتال، واللّه أعلم.

وقوله: {لِيَقْضِيَ اللّه أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا}.

هو ما ذكرنا أنه لينجز ما كان وعدهم من النصر والظفر للمؤمنين، والغلبة والهزيمة على أُولَئِكَ، وكذلك ذكر في القصة أن قوله: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}، في بدر فيه وعد ذلك؛ كقوله: {كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا}.

ويحتمل قوله: {لِيَقْضِيَ اللّه}، أي: ليخلق اللّه وينشئ ما قد علم أنه يكون كائنًا، أو ليفصل بين الحق والباطل مما قد علم أنه يكون.

وقال بعض أهل التأويل: {لِيَقْضِيَ اللّه أَمْرًا كَانَ}: في علمه، {مَفْعُولًا}: كائنًا؛ يقول: فيوجب أمرًا لابد كائن؛ ليعز الإسلام وأهله بالنصر، ويذل الشرك وأهله بالقتل والهزيمة، واللّه أعلم. وهو قريب مما ذكرنا.

{وَإِلَى اللّه تُرْجَعُ الْأُمُورُ}.

أي: إلى اللّه يرجع تدبير الأمور وتقديرها، له التدبير في ذلك في الدنيا والآخرة.

وذكر في بعض القصة أن أبا جهل - لعنه اللّه - لما رأى قلة المؤمنين ببدر قال: واللّه لا يعبد اللّه بعد اليوم، فأكذبه اللّه وقتله، فقال: {وَإِلَى اللّه تُرْجَعُ الْأُمُورُ} لا إلى الخلق، واللّه أعلم.

وأمر بدر من أوله إلى آخره كان آية، حتى عرف كل أحد ذلك، إلا من عاند وكابر عقله.

٤٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا}.

قيل: الفئة: اسم جماعة ينحاز إليها، وهو من الفيء والرجوع، يفيئون إليها ويرجعون.

ذكر - هاهنا - الفئة، أوذكر في الآية التي تقدمت الزحف، وهو قوله: {إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا} مكان الفئة، ونهى أُولَئِكَ عن تولية الأدبار بقوله: {فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ}، وقال هاهنا: {فَاثْبُتُوا}؛ ليعلم أن في النهي عن تولية الأدبار أمر بالثبات، وفي الأمر بالثبات نهي عن تولية الأدبار، فيكون في النهي عن الشيء أمر بضده، والأمر بالشيء نهي عن ضده، واللّه أعلم.

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاذْكُرُوا اللّه كَثِيرًا}.

قال أبو بكر الكيساني: قوله: {وَاذْكُرُوا اللّه}: فيما تعبدكم من طاعته، ووعدكم من نصره، ولا تنظروا إلى الكثرة فتظفروا.

ويحتمل قوله: {وَاذْكُرُوا اللّه} فيما لكم من أنفسكم وأموالكم، أي: إن أنفسكم وأموالكم له، إن شاء أخذها منكم بوجه تتقربون به إلى اللّه، فاذكروا اللّه على ذلك، وهو ما ذكر في قوله: {إِنَّ اللّه اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ. . .} الآية.

ويحتمل: اذكروا اللّه كثيرًا في النعم التي أنعمها عليكم.

أو يقول: اذكروا المقام بين يدي رب العالمين، وذلك بالذي يمنعكم من المعاصي والخلاف لأمره، وبعض ما يرغبكم في طاعته؛ فيكون على هذا التأويل الأمر بذكر الأحوال.

ويحتمل الأمر بذكر اللّه باللسان، وذلك بعض ما يستعان به في أمر الحرب {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} لكي تفلحوا، بالنصر والظفر، أو {تُفْلِحُونَ} أي: تظفرون.

٤٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَطِيعُوا اللّه وَرَسُولَهُ ... (٤٦)

أطيعوا اللّه فيما يأمركم بالجهاد والثبات مع العدو، ورسوله فيما يأمركم بالمقام في المكان، والثبات، وترك الاختلاف والتنازع في الحرب، وذلك بعض ما يستعان به في الحرب.

{وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا}.

أي: لا تنازعوا رسوله فيما يأمركم في أمر الحرب وعما ينهاكم؛ كقوله: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ}؛ لأنكم إذا تنازعتم اختلفتم وتفرقتم، فإذا تفرقتم فشلتم وجبنتم؛ فلا تنصرون ولا تظفرون على عدوكم؛ بل يظفر بكم عدوكم.

 أو أن يقال: لا تنازعوا؛ لأنكم إذا تنازعتم تباغضتم، فيفشلكم التباغض بأنفسكم، في الجهاد مع العدو، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: يذهب نصركم وظفركم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: تذهب ريح دولتكم.

ويحتمل: {رِيحُكُمْ}، الريح التي بها تنصرون، وعلى ذلك ما روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور "، وهو ما ذكرنا: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا}.

وقوله: {وَاصْبِرُوا}.

أي: اصبروا للجهاد ولقتال عدوكم.

{إِنَّ اللّه مَعَ الصَّابِرِينَ}.

بالنصر والظفر.

وفي هذه الآية تأديب من اللّه للمؤمنين، وتعليم منه لهم فيما ذكرنا، أي: في أمر الحرب وأسباب القتال والمجاهدة مع العدو؛ لأنه أمرهم بالثبات، وأمرهم بذكر اللّه، ونهاهم عن التنازع والاختلاف، وذلك بعض ما يستعان به في الانتصار على عدوهم.

٤٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ ... (٤٧)

قوله: {بَطَرًا}، أي: كفرًا بنعم اللّه؛ كقوله: {وَضَرَبَ اللّه مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً. . .} الآية؛ فعلى ذلك خرجوا من ديارهم كفرًا بأنعم اللّه؛ لأنهم خوجوا إلى قتال مُحَمَّد، وهو من أعظم نعم اللّه على خلقه وهم كفروا تلك النعم حيث خرجوا لقتاله.

وكذلك قالوا في قوله: {بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا}، أي: كفرت.

 وقوله {بَطَرًا}، كفرانًا وتكبرًا، أي: خرجوا متكبرين كافى ين.

{وَرِئَاءَ النَّاسِ} يحتمل ومراءاتهم وجهين:

أحدهما: ومراءاتهم في الدِّين؛ لأنهم قالوا: اللّهم انصر أهدانا سبيلًا، وأوصلنا رحمًا، وأقرانا ضيفا عندهم أنهم على حق، وأن المؤمنين على باطل.

ويحتمل: ومراءاتهم في أمر الدنيا؛ لأنهم كانوا أهل ثروة ومال، وأهل عدة وقوة، خرجوا مرائين للناس.

وقوله: {وَرِئَاءَ النَّاسِ} لأنهم كانوا أهل الشرف عندهم، فخرجوا لمراءاة الناس.

{وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّه}.

أي: يصدون الناس عن دين اللّه؛ أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - عن خروج أُولَئِكَ الكفرة أنهم خرجوا لما ذكر، فكان فيه أمر للمؤمنين بالخروج على ضد ذلك؛ كأنه قال: اخرجوا على ضدّ ما خرجوا هم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاللّه بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}.

أي: علمه محيط بهم، لا يغيب عنه شيء من مكائدهم وحيلهم والمكر برسول اللّه في الدفع عنه والنصر له.

والثاني: محيط بما يعملون، يجزيهم ويكافئهم، ولا يفوت عنه شيء؛ على الوعيد، واللّه أعلم.

٤٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: زين لهم الشيطان أعمالهم بالوساوس،

وقال: {لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ}، وإنما قال لهم هذا ووسوس لهم لما ألقى إليهم: إنكم أهل حرم اللّه وسكان بيته وحفاظه، فيقول: يدفع عنكم نكبة هَؤُلَاءِ، يعني: أصحاب محمدٍ كما دفع عنكم فيما كان من قبل.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ}.

قيل: مجير لكم: مغيث؛ فعلى هذا التأويل كان قوله: {وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ}؛ كأنه يخبر عن اللّه أنه يغيثهم كما أغاثهم من قبل في غير مرة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن الشيطان تمثل في صورة رجل يقال له سراقة بن مالك بن جعشم، فأتاهم فقال: لا ترجعوا حتى تستأصلوهم، فإنكم كثير وعدوكم قليل فتأمن عيركم ونحو هذا من الكلام.

وقال صاحب التأويل الأول: لا يحتمل هذا؛ لأن أهل مكة كانوا جبابرة، وأهل قوة وبطش وبأس، فلا يحتمل أن يصدروا عن آراء رجل هو دونهم وهم بالوصف الذي ذكرنا.

وعلى هذا التأويل أنه تمثل به فلان يكون قوله: {وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} ما ذكر في بعض القصة أن أبا جهل وأصحابه اعتزلوا واستشاروا فيما بينهم، فأتاهم إبليس متمثلا بسراقة، فامتنعوا عنه واستأخروا، فلما رأى ذلك منهم، فقال: إني جار لكم وكان جارًا لهم؛ فتأويل هَؤُلَاءِ أشبه بما ذكر في آخر الآية.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ}، أي: رجع مستأخرًا مقبلا

 بوجهه إليهم فقال: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللّه وَاللّه شَدِيدُ الْعِقَابِ}: إذا عاقب.

قيل: رأى جبريل مع الملائكة ينزلون، فخاف منهم؛ ففيه دلالة أنه كان يخاف الهلاك قبل يوم الوقت المعلوم.

٤٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّه فَإِنَّ اللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٩)

قَالَ بَعْضُهُمْ: الذين في قلوبهم مرض هم المشركون {غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ}.

وعن الحسن: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}، قال: هم قوم لم يشهدوا القتال يوم بدر؛ فسموا منافقين.

وقال بعض أهل التأويل: إن قوما كانوا أسلموا بمكة، فأقاموا بها مع المشركين، ولم يهاجروا إلى المدينة، فلما خرج كفار مكة إلى بدر خرج هَؤُلَاءِ معهم، فلما عاينوا قلة المؤمنين وضعفهم، شكوا في دينهم وارتابوا فقالوا: {غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ}، يعنون: أصحاب مُحَمَّد.

يقول اللّه: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّه} فيثق بوعده في النصر ببدر؛ لقولهم: {غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ}، {فَإِنَّ اللّه عَزِيزٌ}: لا يعجزه شيء.

وقوله: {غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ}؛ لأنه لم يكن معهم عدة ولا أسباب الحرب من السلاح وغيره، فلم يكونوا يقاتلون إلا بقوة دينهم.

وقوله: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ}.

فَإِنْ قِيلَ لنا: ما الحكمة في ذكر قول المنافقين في القرآن حتى نتلوه في الصلاة؟!

قيل: ذكر - واللّه أعلم - لنعرف عظيم منزلة الدِّين وخطير قدره في قلوبهم، أعني: قلوب المؤمنين، وذلك أنهم بذلوا أنفسهم للّهلاك؛ لخروجهم لقتال عدوهم مع ضعفهم،

وقلة عددهم، وكثرة أعدائهم وقوتهم؛ رجاء أن يسلم لهم دينهم، يذكره لنا لنعرف عظيم محل الدِّين في قلوبهم؛ ليكون محل الدِّين في قلوبنا على مثل قدره.

وفي قوله: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ} دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد؛ لأنهم إنما قالوا ذلك سرا فيما بينهم، فأطلع اللّه رسوله على ذلك؛ ليعلم أنه عرف ذلك باللّه.

ثم اختلف في قوله: {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ}؛

قَالَ بَعْضُهُمْ: هم المشركون، قال المنافقون والمشركون للمؤمنين: {غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ}.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هم قوم أسلموا وقد كانوا ضعفاء في الإسلام والدِّين، فلما خرجوا إلى بدر، فرءوا ضعف أصحاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وقوة أُولَئِكَ القوم قالوا عند ذلك: {غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ}.

وقد ذكر في بعض القصة أن قومًا كانوا أسلموا بمكة، ثم أقاموا مع المشركين ولم يهاجروا إلى المدينة، فلما خرج كفار مكة إلى قتال بدر خرج هَؤُلَاءِ معهم، فلما عاينوا قهلة المسلمين شكوا في دينهم وارتابوا، فقالوا مع المنافقين: {غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ}، يعنون: أصحاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال اللّه: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّه}: من المؤمنين فيثق به في النصر ببدر؛ لقولهم: {غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ}.

وقوله: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}: يجيء أن يكون هم المنافقون؛ على ما فسره في آية أخرى، فإن كان على ذلك فيكون على إسقاط الواو، وكأنه قال: يقول المنافقون الذين في قلوبهم مرض، إلا أن يقال: إن المنافقين هم الذين أضمروا الكفر حقيقة، والذين في قلوبهم مرض هم الذين لم يضمروا الكفر، لكنهم ارتابوا وشكوا، واعترضهم شك وارتياب من بعد إذ رأوا تأخر الموعود.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ} يخرج على وجهين:

أحدهما: قالوا: غر هَؤُلَاءِ الموعود الذي وعدهم رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من الفتوح لهم والنصر في الدنيا؛ يقولون: غَرَّ هَؤُلَاءِ ذلك الموعود الذي كانوا به من الفتوح والنصر الذي وعدهم.

والثاني: يقولون: غَرَّ هَؤُلَاءِ الموعود الذي وعدوا في الآخرة من النعيم الدائم والحياة الدائمة.

 فيكون أحد التأويلين بالموعود في الآخرة، وهو بالإسلام يكون، والثاني بالموعود في الدنيا، وهو الفتح والنصر الذي ذكرناه.

وقوله: {غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ}.

لما رأوا أنهم تركوا آباءهم وأولادهم وجميع شهواتهم، وبذلوا أنفسهم للقتال؛ ليسلم لهم دينهم؛ لذلك قالوا: {غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ} لما لم يكن خروجهم وبذلهم أنفسهم لذلك إلا إشفاقًا وخوفًا على دينهم، وطلبوا - لما بذلوا أنفسهم - حياة الأبد في الآخرة فقالوا: {غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ} واللّه أعلم.

وقوله: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّه}.

أي: اعتمد على اللّه في حرب بدر - على ما ذكر أهل التأويل - والنصر فيه.

وقوله: {فَإِنَّ اللّه عَزِيزٌ}.

لا يعجزه شيء، يعز من يشاء بالنصر، ويذل من يشاء بالقتل والهزيمة.

أو يتوكل على اللّه في كل أموره، ويكل إليه أموره، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.

العزيز في هذا الموضع: هو الغالب، حكيم لما أمر بالقتل.

٥٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: الآية مقابلة قوله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ}؛ يقول - واللّه أعلم -: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا}، أي: يقبض أرواح الذين كفروا كيف يقبضون أرواحهم، وكيف يضربون وجوههم وأدبارهم؛ كأنه قال - واللّه أعلم -: لو رأيت الحال التي تقبض فيها أرواحهم وما ينزل بهم، لرأيت أن ما عملوا من

 صد الناس عن سبيل اللّه، واستكبارهم على المؤمنين، وخروجهم لقتال أصحاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إنما عملوا بأنفسهم، لا بالمؤمنين.

وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ}.

يحتمل ما ذكر من فعل الملائكة يوم بدر؛ لأن الآية ذكرت في قصة بدر.

ويحتمل أن يكون ذلك في كل كافر أن الملائكة يفعلون به ما ذكر؛ كقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ. . .} الآية، هذا في كل كافر.

وقوله: {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ}.

ليس على إرادة حقيقة الوجه والدبر، ولكن على إرادة إيصال الألم إليهم بكل ضرب وبكل جهة؛ كقوله: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ}، ليس على إرادة التحت والفوق، ولكن على إرادة إحاطة العذاب بهم؛ فعلى ذلك الأول.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: يضربون وجوههم في أحال، إقبالهم على المؤمنين، وإدبارهم وانهزامهم منهم.

٥١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّه لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (٥١)

ذكر تقديم اليد، وإن كان الكفر من عمل القلب؛ لما باليد يقدم في العرف.

وقوله: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّه لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}.

في الآية دلالة الرد على المجبرة؛ لأنهم لا يجعلون للعبيد في أفعالهم صنعًا، يجعلون حقيقة الأفعال للّه، وذكر {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ}، فلو لم يكن لهم صنع، لم يكن لقوله: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} معنى، وكذلك قوله: {وَأَنَّ اللّه لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}، فلو لم يكن لهم حقيقة الفعل، لكان الئعذيب ظلمًا؛ دل أن لهم فعلا، واللّه أعلم.

قوله: {لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}.

فيما شرع من القتال، والإهلاك، والتعذيب في الآخرة؛ لأنه مكن لهم ما يكسبون به النجاة والحياة الدائمة، فما لحقهم مما ذكر، إنما كان باكتسابهم واختيارهم.

٥٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللّه فَأَخَذَهُمُ اللّه بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللّه قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٥٢)

قَالَ بَعْضُهُمْ: صنيع هَؤُلَاءِ، أي: صنيع أهل مكة بمُحَمَّد كصنيع فرعون وقومه

 بموسى يعني في التكذيب والكفر بآياته.

وقال قائلون: صنع اللّه بأهل مكة من العقوبة كصنيعه بفرعون وآله ومن سبق من الأمم من الإهلاك والتعذيب، وقد فعل بأهل مكة يوم بدر بسوء معاملتهم رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، كما فعل ذلك بفرعون وآله بسوء معاملتهم موسى.

{كَدَأبِ}.

قيل: كصنيع.

وقيل: كفعل.

وقيل: كأشباه.

وقيل: كعمل؛ وهو واحد.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَأَخَذَهُمُ اللّه بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللّه قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.

وقوله: {شَدِيدُ الْعِقَابِ}، أي: لا يضعفه شيء يمنعه عما يريد.

٥٣

وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللّه لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣)

أي: ذلك العذاب والعقاب الذي ذكره.

{بِأَنَّ اللّه لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}.

قال قائلون: النعمة التي أنعمها عليهم هم الرسل الذين بعثهم إليهم والكتب التي أنزلها عليهم ألم يكن، مغيرا لتلك النعم {حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} بالتكذيب والرد وترك القبول، وهو كقوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}،

وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا. . .} الآية.

وقال قائلون: قوله: {لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}، أي: حتى يصرفوا شكر نعمه إلى غير اللّه ويعبدون دونه، أي: لا يغير النعم التي أنعمها عليهم حتى يغيروا ما بأنفسهم، يعبدون غير اللّه، ويشكرون غير الذي أنعم عليهم، فعند

 ذلك غير اللّه ما بهم من النعمة، وكذلك قال ابن عَبَّاسٍ: نعمة من النعم إن تولوا عن شكرها، غير اللّه عليهم وأخذها منهم.

والثاني: يحتمل النعمة الدِّينية، وهو تكذيبهم الرسل وردهم الكتب بعد ما أقسموا أنهم يكونون أهدى من إحدى الأمم، واختيارهم الشرك والكفر على الإسلام والتوحيد، فإذا اختاروا تغيير ذلك، غير عليهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللّه لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}.

يخرج على وجهين:

أحدهما: النعمة الدنيوية، لا تتغير تلك عليهم إلا بتغيير من قبلهم؛ إما بترك الشكر لها، وإما بصرفه إلى غير الذي أنعمها عليهم، ولو غيرت عليهم غيرت ببدل، فليس ذلك - في الحقيقة - تغيير {وَأَنَّ اللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.

قيل: أي: سميع لشكر من يشكره ويحمده، عليم بزيادة النعمة إذا شكر.

ويحتمل: {سَمِيعٌ} أي: مجيب، {عَلِيمٌ}: بمصالحهم.

ويحتمل أنه سميع لما أسروا من القول وجهروا به، عليم بما أضمروا من العمل والشرور.

٥٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (٥٤)

فَإِنْ قِيلَ: ما فائدة تخصيص ذكر آل فرعون من بينهم؟

وما الحكمة في تكرار قوله: {آلِ فِرْعَوْنَ}؟

قيل: لما كانوا أقرب إلى هَؤُلَاءِ من غيرهم ممن كان قبلهم.

ألا ترى أنه قال: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا}.

أو أن يذكر أهل الكتاب منهم؛ لما كانوا ينكرون بعث الرسل من غيرهم، ويقولون: إن محمدًا أمي بعث إلى الأميين مثله، فقال: إن موسى لم يكن من القبط، فبعث رسولا إليهم؛ فعلى ذلك مُحَمَّد وإن كان أميًّا فبعث إلى الأميين وغيرهم، واللّه أعلم بذلك.

وأما فائدة التكرار - واللّه أعلم -: فهو أنه ذكر في الآية الأولى الأخذ بالذنوب والتعذيب، ولم يبين ما كان ذلك العذاب، فبين في الآية الأخرى أن ذلك العذاب هو

 الإهلاك والاستئصال؛ حيث قال: {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ. . .} الآية.

ويحتمل قوله: {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} في الآخرة بكفرهم بآيات اللّه في الدنيا؛ ذكر في إحدى الآيتين العذاب في الآخرة، وفي الآية الأخرى الإهلاك في الدنيا؛ لأنه ذكر في الآية الأولى الكفر بآيات اللّه، ولم يبين ذلك، وذكر في الآية الأخرى التكذيب بآياته، فبين اللّه أن الكفر بآياته هو تكذيبها، والتكذيب إنما يكون في الأخبار، وكذلك التصديق.

وفيه دلالة أن الإيمان هو التصديق؛ لأنه جعل مقابله وضده التكذيب.

وفيه أن الإيمان ليس هو المعرفة؛ لأن مقابلها الجهل باللّه، ليس هو التكذيب، لكن بالمعرفة يكون التصديق، وبالجهل يكون التكذيب.

٥٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللّه الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} ذكر هاهنا شر الدواب عند اللّه الذين لا يؤمنون وذكر، في آية أخرى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللّه الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ}، هم شر الدواب؛ حيث سمعوا الآيات والحق وعقلوها فلم يؤمنوا بها، أي: لم ينتفعوا بما عقلوا مما وقع في مسامعهم، ومما درسوا كمن لا سمع له ولا لسان، نفى عنهم ذلك؛ لما لم ينتفعوا بما عقلوا.

ويحتمل أن يكون في الآخرة، أي: يبعثون يوم القيامة صمًّا بكمًا عميًا؛ لما لم ينتفعوا في الدنيا بهذه الحواس؛ كقوله: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا. . .} الآية.

 

وقوله: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللّه}.

{الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} وهو كما ذكر في آية أخرى: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ}، أخبر أن الذين كفروا وكذبوا بآياته أضل من الأنعام، وقد ذكرنا فائدة قوله: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} في موضعه.

ويحتمل قوله: {شَرَّ الدَّوَابِّ} أي: شر من يدب على وجه الأرض من الممتحنين {الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}، ثم ليكونوا بهذا الوصف إذا ختموا بالكفر وترك الإيمان.

ثم اختلف فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: نزل في بني قريظة؛ حيث عاهدوا رسول اللّه، ثم أعانوا مشركي مكة على رسول اللّه بالسلاح وغيره، فأقالهم رسول اللّه، وكانوا يقولون: نسينا وأخطأنا، ثم عاهدهم ثانية، فنقضوا العهد، فذلك

٥٦

 قوله: (ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (٥٦): نقض العهد، أو لا يتقون الشرك.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: نزل قوله: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ. . .} إلى آخر الآية، في المردة والفراعنة من الكفار، كانوا عقلوا ما سمعوا ودرسوا، ولكن غيروه فلم يؤمنوا به؛ على هذا حمل أهل التأويل تأويل الآية إلى ما ذكرنا، وإلا صرف الآية إلى أهل النفاق أولى؛ لأنهم هم المعروفون بنقض العهد مرة بعد مرة.

٥٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ ... (٥٧)

قيل: تأمرنهم في الحرب.

وقيل: تلقينهم في الحرب.

وقيل: تجدنهم في الحرب.

{فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ}.

قيل: نكل بهم من بعدهم، أي: اصنع بهم ما ينكلون من خلفهم، أي: يمتنعون.

وقيل: فعظ بهم من خلفهم، أي: من سواهم.

الآية نزلت في قوم علم اللّه أنهم لا يؤمنون، وكانت عادتهم نقض العهد، فأمر - عز

وجل - رسوله أن ينكل هَؤُلَاءِ؛ ليكون ذلك عبرة وزجرًا لمن بعدهم إن لم يكن ذلك لهم زجرًا، فيكون في تنكيل هَؤُلَاءِ منفعة لغيرهم، إذا رأي غيرهم أنه فعل بهَؤُلَاءِ ما ذكر يكون ذلك زجرًا لهم عن مثل صنيعهم؛ ولهذا قال: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}، من رأى أنه يقتل به امتنع عن قتل آخر، فيكون في ذلك حياة الخلق.

وكذلك جعل اللّه في القتال مع العدو ونصب الحرب فيما بينهم رحمة؛ لأن في الطباع النفار عن القتل، فإذا رأى أنه يقتل بتركه الإسلام أجاب إلى ذلك؛ إشفاقًا على نفسه، وخوفًا على تلف مهجته، فيكون في القتال رحمة، وكذلك جميع ما جعل اللّه فيما بين الخلق من العقوبات في النفس وما دون النفس جعل زواجر وموانع عن المعاودة إلى مثله؛ فعلى ذلك قوله: {فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ}: عظة وزجرًا لمن بعدهم.

{لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}.

لكي يذكروا النكال فلا ينقضوا العهد، وكذلك كل مرغوب في الدنيا ومرهوب جعل دواعي وزواجر لموعود في الآخرة، وجعل كل لذيذ وشهي في الدنيا لما وعد في الآخرة في الجنة، وكل كريه وقبيح زاجرًا له عن الموعود في الآخرة في النار؛ على هذا بناء أمر الدنيا.

والتشريد: قال أبو عبيدة: معناه من التفرقة، أي: فرق بهم.

 وقَالَ الْقُتَبِيُّ: قوله: {فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} أي: افعل بهم فعلا من العقوبة والتنكيل يتفرق به من وراءهم من الأعداء.

قال: ويقال: شرد بهم: سمع بهم، بلغة قريش.

وقيل: نكلهم، أي: اجعلهم عظة لمن وراءهم وعبرة، وهو ما ذكرنا.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: التنكيل: التخويف والرد عما يكره، والنكال: العذاب.

وقال غيره: {فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ}، أي: اخلفهم بهم بما صنع هَؤُلَاءِ.

وقال أبو عبيدة: التشريد في الكلام: التبديد والتفريق؛ وبعضه قريب من بعض.

قال أَبُو عَوْسَجَةَ: قوله: {فَشَرِّدْ بِهِمْ}، أي: نكل بهم حتى يخافك من خلفهم، والشريد: الطريد، والشريد -أيضًا-: القليل.

٥٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللّه لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (٥٨)

قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله تخافن: تعلمن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء.

أي: لا تفعل بهم مثل ما فعلوا من الخيانة فتكون أنت وهم في الخيانة سواء؛ لأن عندهم أنكم معاهدون على عهد بعد عهد، ولكن انبذ إليهم، ثم ناصب فيما بينهم الحرب.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو على حقيقة الخوف، يقول: إذا خفت منهم النقض أو الخيانة {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ}، أي: ألق إليهم نقضك؛ لتكون أنت وهم في العلم بالنقض سواء.

قال أبو عبيدة: قوله: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ}، أي: أظهر لهم أنك عدو، وأنك مناصب لهم؛ حتى يعلموا ذلك فيصيروا على ذلك سواء.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {سَوَاءٍ}، أي: على أمرين.

قال أبو عبيد: قال غير واحد من أهل العلم: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ}: أعلمهم أنك

تريد أن تحاربهم؛ حتى يصيروا مثلك في العلم؛ فذلك السواء.

قال الكيساني: السواء: العدل.

وقال: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ}، أي: سر إليهم، وقد علموا بك وعلمت بهم.

وبعضه قريب من بعض.

وحاصل التأويل: هو التأويلان اللذان ذكرتهما، واللّه سبحانه أعلم.

وأصل العهد ما ذكر عَزَّ وَجَلَّ في آية أخرى، وهو قوله: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ}

أمر - عَزَّ وَجَلَّ - بإتمام العهد إلى المدة، إذا لم ينقضونا شيئًا ولم يخونوا، ولم يظاهروا علينا أحدًا منهم، فإذا فعلوا شيئا من ذلك فلنا أن ننقض العهد الذي كان بيننا وبينهم.

وكذلك ابتداء العهد فيما بيننا وبينهم إذا سألونا ليس للإمام أن يعطي لهم العهد إذا لم يكن في العهد منفعة للمسلمين - منفعة ظاهرة - وخير لهم، فعلى ذلك ما دام يرجو في العهد منفعة للمسلمين وخيرًا لهم فعليه مراعاة ذلك العهد وحفظه، فإذا خاف منهم أو اطلع على خيانة منهم، فله نقضه، واللّه أعلم.

ثم إذا كانت تلك الخيانة من جملتهم أو ممن له منعة، فله أن يناصبهم الحرب، وإن لم ينبذ إليهم.

وإذا كان ذلك من بعض على سبيل التلصص والسرقة، فليس له أن يحاربهم إلا بعد النبذ إليهم.

٥٩

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (٥٩)

قَالَ بَعْضُهُمْ: لا تحسبن الذين نجوا وتخلصوا منك - يا مُحَمَّد - من المشركين يوم بدر أني لا أظفرك بهم في غيره من الحروب والمغازي، وأنهم يفوتون ويعجزون اللّه عن ذلك.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: ولا تحسبن الذين كفروا أنهم يعجزون ويفوتون عن نقمة اللّه وعذ ابه.

وقرأ بعضهم بنصب الألف: (أنهم لا يعجزون)، فمن قرأ بالنصب طرح " لا " وجعلها صلة،

وقال: لا تحسبن أنهم يعجزون.

وأما قراءة العامة: فهي بالخفض: {إِنَّهُمْ} فهو على الابتداء، فقال: إنهم لا يعجزون على الابتداء.

وقيل: العجز: السبق.

٦٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ... (٦٠)

قَالَ بَعْضُهُمْ: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة، ولا تخرجوا إلى الحرب في المغازي، كما خرجتم إلى بدر بلا سلاح ولا قوة؛ لأنه أراد أن يجعل حرب بدر آية؛ ليميز بين المحق والمبطل، وبين الحق والباطل؛ لذلك أمركم بالخروج إليها بلا سلاح ولا عدة،

وأما غيرها من الحروب والمغازي فلا تخرجوا إليها إلا مستعدين لها.

وبعد: فإنهم إنما تركوا الاستعداد طاعة لربهم، وفي الاشتغال بالاستعداد ترك للطاعة له، وأمر - عَزَّ وَجَلَّ - بالاعتداد لهم ما استطاعوا من الأسباب؛ لما أن ذلك أرهب للعدو من ترك الاستعداد، وإن كان - عَزَّ وَجَلَّ - قادرًا أن ينصرهم على عدوهم بلا سبب يجعله لأنفسهم، وهو كقوله: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللّه}.

فأمر اللّه بالأسباب في الحروب، وإن كان قادرًا على نصر أوليائه على عدوه بلا سبب، لكنه أمر بالأسباب؛ لما أن جميع أمور الدنيا جعلها بالأسباب، من نحو الموت والحياة وجميع الأشياء، وإن كان يقدر على إبقاء الإنسان والخلائق جميعًا بلا غذاء يجعل لهم، والموت بلا مرض ولا سبب، ولكن فصل بما ذكرنا.

ثم اختلف في قوله: {مِنْ قُوَّةٍ}؛

قَالَ بَعْضُهُمْ: القوة: الرمي، وعلى ذلك رووا عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} فقال: " ألا إن القوة الرمي "، قال ذلك ثلاثًا.

ويحتمل قوله: {مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}: ما تقوون به في الحروب.

قَالَ بَعْضُهُمْ: الفوة: السلاح.

وقال غيرهم: الخيل.

وأمكن أن تكون جميع أسباب الحرب.

وفيه دلالة أن القوة التي هي أسباب الفعل يجوز أن تتقدم، ويكون قوله: {لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ}، أراد استطاعة الأسباب لا استطاعة الفعل، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّه وَعَدُوَّكُمْ}، أمر برباط

الخيل والإعداد للحرب؛ رهبة للعدو.

{وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللّه يَعْلَمُهُمْ} اختلف أهل التأويل فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: ترهبون برباط الخيل المشركين.

وقال: {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ}.

اليهود والنصارى، وهَؤُلَاءِ الذين كانوا فيما بينهم يرهب هَؤُلَاءِ أيضًا.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ}: المنافقين الذين كانوا فيما بينهم لا يعرفونهم كانوا طلائع للمشركين وعيونًا لهم يخبرونهم عن حال المؤمنين ما يرهب هَؤُلَاءِ أيضًا.

وقال آخرون: قوله: {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ}: هم الشياطين، ورووا على ذلك خبرًا عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " هم الشياطين "،

وقال: " لن يخبل الشياطين إنسانًا في داره فرس عتيق ".

ويحتمل أن يكون قوله: {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ} هم الأعداء الذين يكونون من بعد إلى يوم القيامة {لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللّه يَعْلَمُهُمْ}، فإن كان ذلك، ففيه دلالة بقاء الجهاد إلى يوم القيامة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ}: الشياطين، {لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللّه يَعْلَمُهُمْ} وهو كقوله: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ}.

فَإِنْ قِيلَ: أي رهبة تقع للشياطين فيما ذكر من رباط الخيل والسلاح الذي ذكر؟ قيل: يكون لهم رهبة في قمع أوليائهم، أو يكون لأوليائهم رهبة نسب ذلك إليهم، وذلك كثير في القرآن.

وقوله: {عَدُوَّ اللّه وَعَدُوَّكُمْ}.

سمى عدوًا للّه وعدوًا للمؤمنين؛ ليعلم أن من اعتقد عداوة اللّه صار عدوًا للمؤمنين، ومن اعتقد ولاية اللّه صار وليا للمؤمنين، ومن كان وليًّا للمؤمنين يكون وليًّا للّه.

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّه يُوَفَّ إِلَيْكُمْ}.

أخبر أن ما أنفقوا في سبيل اللّه يوفى إليهم ذلك، إما الخلف في الدنيا؛ كقوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ}، وإما في الآخرة الثواب.

{وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} يحتمل وجهين:

يحتمل: {وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}:

فيما يأمركم بالجهاد في سبيل اللّه، واتخاذ العدة والإنفاق فيها؛ إذ أنفسكم وأموالكم للّه له أن يأخذها منكم.

والثاني: {وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} وفي الثواب في الآخرة، أي: يعطيكم الثواب في الآخرة أو الخلف في الدنيا، واللّه أعلم.

٦١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ... (٦١)

قرئ بالنصب: {لِلسَّلْمِ}، وقرئ بالخفض: {لِلسِّلْمِ}.

وقال أهل اللغة: من قرأ بالنصب: {لِلسَّلْمِ}، حمله على المصالحة والموادعة، ومن قرأ بالخفض: {لِلسِّلْمِ}، جعل ذلك في الإسلام.

وتأويله - واللّه أعلم -: أي: إذا خضعوا للصلح وطلبوه منك فاجنح لهم، أي: مل إليهم، ولا يمنعك عن الصلح معهم ما كان منهم من نقض العهد؛ على ما ذكر في قوله: {الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ}، يقول: لا يمنعك عن الصلح إذا طلبوا ذلك ما كان منهم من النقض ونكث العهود.

{وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّه}.

ولا تخف خيانتهم ونقضهم العهد، فإن اللّه يطلعك ويكفيك على ذلك.

ومنهم من قال: قوله: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ}، أي: إذا خضعوا وتواضعوا للإسلام، فاقبل منهم واخضع لهم؛ كقوله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} أمره بخفض الجناح لهم.

ذكر - هاهنا - أنهم إذا طلبوا الصلح منا يلزمنا أن نعطيهم، وإذا لم يطلبوا منا ذلك لا يحل لنا أن نطلب منهم الصلح، إلا أن نضطر إلى ذلك، وهو ما ذكر في آية أخرى؛ حيث قال: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ}، نهانا أن ندعوهم إلى الصلح ولنا قوة وعدة للقتال معهم، وأما إذا كانوا طلبوا منا ذلك أولا فيجابون إلى ذلك.

ويحتمل ما ذكرنا، أي: لا يمنعك ما كان منهم من نقض العهد.

وقوله: {فَاجْنَحْ لَهَا} يحتمل ذكره بالتأنيث، أي: للمسالمة والمصالحة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: السلم هو مؤنث؛ كقول القائل:

السلم تأخذ منا ما رضيت به ... والحرب يكفيك من أنفاسها جرع

 فَإِنْ قِيلَ: ما المعنى في قول من قال بالإسلام بقوله: {فَاجْنَحْ لَهَا} وهو كان يدعو إلى الإسلام، وهو لا شك أنه كان يقبل منهم الإسلام؟

قيل: يحتمل أن يكون الأمر بالقبول أمرًا بترك المؤاخذة بما كان منهم في حال نقض العهد؛ لأن من قولنا: أن ما أصابوا في حال العهد من الجراحات والأخذ يتبعون بها ويؤاخذون إذا أسلموا، وإذا نقضوا العهد ثم أصابوا شيئًا من ذلك ثم أسلموا، لم يؤاخذوا بذلك، فيحتمل أن يقول له: فاجنح لها، ولا تؤاخذهم بما كان منهم في حال نقض العهد.

وقال الحسن: هذا منسوخ، نسخه قوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللّه. . .} الآية.

وقَالَ بَعْضُهُمْ نسخه قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ. .} الآية.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: نسخه قوله: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ}.

والوجه فيه ما ذكرنا: أن الإمام إذا رأى الصلح والموادعة نظرًا للمسلمين، أجابهم إلى ذلك وصالحهم، فإذا طلبوا منه الصلح وبالمسلمين قوة القتال والحرب معهم، لم يجبهم إلى ذلك، وما ذكر هَؤُلَاءِ من نسخه فذلك لا نعرفه، واللّه أعلم.

٦٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ}.

في الصلح ويخونوك.

{فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّه}.

أي: مكنك اللّه منهم؛ كقوله: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللّه مِنْ قَبْلُ}.

فأمكن منهم، وإن كان قوله: {فَاجْنَحْ لَهَا} في الإسلام، فيكون قوله: {فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّه} أي: يطلعك اللّه على ما في قلوبهم من النفاق، أي: وإن خفت منهم أنهم يظهرون لك الإسلام في الظاهر ويكونون في السر على ما كانوا من قبل، فلا يمنعك ذلك عن قبول الإسلام منهم، فإن اللّه يطلعك على ذلك، ويكفيك ذلك، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ}.

يحتمل قوله: {وَبِالْمُؤْمِنِينَ}: بالملائكة الذين أنزلهم معونة للمؤمنين يوم بدر.

ويحتمل: بالمؤمنين الذين كانوا معه، فأخبر أنه يؤيده بنصره وبنصر المؤمنين، وكان النصر له باللّه في الحقيقة، فقوله: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللّه}، النصر من اللّه مرة يكون بالأسباب بالمؤمنين، وبغير ذلك من الأسباب، ومرة باللطف منه بلا سبب.

٦٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّه أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣)

قَالَ بَعْضُهُمْ: ألف بين قلوبهم بالدِّين الذي اجتمعوا عليه؛ كقوله: {إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ}، أخبر أنهم كانوا أعداء ما داموا في الكفر، فلما أسلموا صاروا إخوانا.

ولكن عندنا الإسلام يوجب التأليف والاجتماع بينهم، ولكن يجوز ألا يوجد التأليف - وإن وجد الإسلام؛ ليعلم أن اللّه هو الذي يؤلف بينهم بلطفه وفضله لقوله: {وَلَكِنَّ اللّه أَلَّفَ بَيْنَهُمْ}.

وقد يجوز أن يكون ما ذكر من تأليف القلوب يكون مرة بالدِّين، ومرة باللطف من اللّه، فإذا كان الخلاف والعداوة بينهم بسبب الدِّين فإنه إذا وجد الوفاق ارتفع الخلاف والعداوة، وإذا كان للأطماع فهو يرتفع باللطف من اللّه.

{إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.

عزيز: لا يعجزه شيء، حكيم: في أمره وحكمه.

٦٤

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّه وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤)

قَالَ بَعْضُهُمْ: حسبك اللّه وحسبك من اتبعك من المؤمنين، أي: كفاك اللّه في العون والنصر لك، وكفاك المؤمنين -أيضًا- فيما ذكرنا.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {حَسْبُكَ اللّه}: نصر اللّه، وحسبك نصر المؤمنين، وهو على ما ذكر: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ}.

والأول أشبه، واللّه أعلم.

٦٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ... (٦٥)

التحريض على القتال يكون بوجهين:

أحدهما: أن يعدهم من المنافع في الدنيا، ويطمع لهم ذلك، من نحو ما جاء من التنفيل: أن من فعل كذا فله كذا، أو يعدهم المنافع في الآخرة؛ كقوله: {إِنَّ اللّه اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. . .} الآية، وما ذكر من الثواب في الآخرة بالنفقة التي ينفقونها في سبيل اللّه؛ كقوله: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}. فما ذكرنا فيه وعد المنافع لهم في الدنيا والآخرة، ووعد النصر لهم.

والثاني: يكون التحريض بضرر يلحق أُولَئِكَ، ونكبة تصل إليهم؛ كقوله: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ. . .} الآية، إلى قوله: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّه بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّه عَلَى مَنْ يَشَاءُ)، جمع اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - في هذه الآية جميع أنواع الخير الذي يكون في القتال مع العدو، من وعد النصر للمؤمنين عليهم، وإدخال السرور في صدورهم، ونفي الحزن عنهم، وتعذيب أُولَئِكَ بأيديهم.

وفيه إغراء على العدو بقوله: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ}، فذلك كله يحرض على القتال، ويرغبهم في الحرب مع العدو، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا. . .} الآية.

اختلف في معنى هذا:

 

قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا. . .}، على الأمر، كأنه قال: ليكن منكم عشرون صابرون يغلبوا؛ أمر العشرة القيام للمائة؛ وقالوا: دليل أنه على الأمر قوله: {الْآنَ خَفَّفَ اللّه عَنْكُمْ} الآية، ولو لم يكن على الأمر والعزيمة، لم يكن لذكر التخفيف معنى.

وقال آخرون: هو على الوعد أنهم إذا صبروا وثبتوا لعدوهم غلبوا عدوهم؛ على ما أخبر: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّه. . .} الآية. ليس على الأمر؛ لأنه قال: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}، أخبر أنهم إذا صبروا غلبوهم، وهو كذلك - واللّه أعلم - إذ ظاهره وعد وخبر.

والأشبه: أن يكون على الأمر، ليس على الخبر، على ما ذكرنا من قوله: {الْآنَ خَفَّفَ اللّه عَنْكُمْ}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ}.

ما لهم وعليهم.

٦٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْآنَ خَفَّفَ اللّه عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ... (٦٦)

فَإِنْ قِيلَ: ما معنى قوله: {وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا}، وقد كان يعلم أن فيهم ضعفًا وقت ما أمر العشرة القيام لمائة، والعشرين لمائتين؟!

قيل: أمر بذلك مع علمه أن فيهم ضعفًا، وإن كان في ذلك إهلاك أنفسهم، وذلك منه عدل؛ إذ له الأنفس إن شاء أتلفها بالموت، وإن شاء بالقتل بقتل العدو، والتخفيف منه رحمة وفضل، أمر الواحد القيام لعشرة على علم منه بالضعف ابتداء؛ امتحانا منه، وله أن يمتحن عباده بما فيه وسعهم وبما لا وسع لهم فيه، وفي الحكمة ذلك؛ إذ له الأنفس، له أن يتلفها كيف شاء بما شاء، وهو ما ذكر بقوله: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ. . .} الآية. ولو لم يكن له في الحكمة ذلك لا يحتمل أن يكتب ذلك عليهم.

والثاني: يعلم فيهم الضعف كائنًا شاهدًا كما علم أنه يكون، وهو ما ذكرنا في قوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ. . .} الآية، أي: يعلمه مجاهدًا كما علم أنه يجاهد؛ فعلى ذلك هذا.

ثم ذكر العشرة والعشرين يحتمل على التحديد.

ويحتمل لا على التحديد.

ألا ترى أنه ذكر في الناسخ عددًا غير العدد الذي في المنسوخ؛ ذكر العشرين لمائتين، وفي الناسخ ذكر الألف لألفين بقوله: {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّه}.

فإن كان لا على التحديد فيلزم الواحد القيام لاثنين، وفي الأول الواحد لعشرة؛ وعلى ذلك روي عن عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: إذا لقي الرجل رجلين من الكفار فاستأسر، فلا فداء له علينا، فإذا لقي ثلاثة فأسر، فعلينا فداؤه.

ولم يجعل للواحد الفرار من اثنين؛ حيث لم يوجب عليه الفداء، وقد جعل له الفرار عن ثلاثة؛ حيث جعل عليه الفداء.

وكذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قال ذلك.

ويحتمل على التحديد، إذا كمل العدد الذي ذكر لم يسع الفرار، ويلزمهم القيام لهم، وإذا كانوا دون ذلك لم يلزم.

وكذلك قال الحسن: أمر أن يصبر عشرون لمائتين، إن فروا منهم لم يعذروا، وأن يصبر الألف لألفين، إن فروا منهم لم يعذروا.

قال: ثم أنزل اللّه: {الْآنَ خَفَّفَ اللّه عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} فأمر أن يصبر مائة لمائتين، وإن فروا منهم لم يعذروا، وأن يصبر الألف لألفين، إن فروا منهم لم يعذروا؛ فإن كان على التحديد، فهو على ما يقولون أنهم ما لم يكونوا منعة فإنه يسعهم ألا يقاتلوا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: الصبر: هو حبس النفس على ما أمر اللّه، وكفها عن جميع شهواتها ولذاتها، فإذا فعل ذلك غلب على العدو وقهره.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الصبر: هو أن يوطن نفسه في القتال مع العدو ويحبسها في ذلك.

والشكر، قيل: هو أن يبذل نفسه وما تحويه يده للّه، لا يجعل لغيره، فيكون الشكر والصبر في الحاصل سواء، وإن كانا في العبادة مختلفين؛ لأن الشكر: هو بذل النفس وما حوته يده للّه، والصبر: هو الكف والإحباس على جميع ما أمر اللّه، وأداء ما فرض اللّه عليه، فإذا حبسها عن غيره يكون باذلًا؛ ولهذا سمي الصبر إيمانًا بقوله: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ. . .} الآية، ذكر الصبر - هاهنا - مكان ما ذكر في غيرها الإيمان بقوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الآية.

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاللّه مَعَ الصَّابِرِينَ}.

في النصر لهم على عدوهم والغلبة عليهم.

٦٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ}.

قالا أبو بكر الكيساني: عاتب اللّه رسوله وأصحابه في أخذ الأسارى بقوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ}.

وبالغ في العتاب في أخذ الفداء من الأسارى بقوله: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّه يُرِيدُ الْآخِرَةَ}.

وكذلك روي عن رسول اللّه أنه لما استشار أصحابه في الأسارى، أشار أبو بكر إلى أخذ الفداء، وعمر إلى القتل، فقال: " لو نزل من السماء عذاب ما نجا إلا عمر ".

عاتبهم بالأخذ أخذ الأسارى، وأشد العتاب في أخذ الفداء، وأمر بالقتل وضرب الرقاب بقوله: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}، إنما أمر بضر الرقاب وضرب البنان، وكذلك يخرج قوله: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللّه سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} على العتاب؛ إلى هذا يذهب أبو بكر الأصم.

وعلن بن عَبَّاسٍ قال: لم يكن الأنبياء - صلوات اللّه عليهم - فيما مضى يكون لهم أسارى حتى يثخنوا في الأرض.

وعن سعيد بن جبير قال: لا يفادى أسارى المشركين، ولا يمن عليهم حتى يثخنوا بالقتل، ثم تلا: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ}؛ إلى هذا ذهب هَؤُلَاءِ.

وقوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى}.

يخرج تأويل الآية على وجهين:

 أحدهما: يقول: ما كان لنبي أن يأخذ من الأسرى الفداء، {حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} أي: يغلب، حتى إذا أخذ الفداء وسرحهم بعد ما غلب في الأرض، يكون رجوعهم إلى غير منعة وشوكة، وإذا لم يغلب في الأرض، أي: حتى يصير الدِّين كله للّه؛ كقوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} الآية، هذا كان لمن قبله، فرخص لرسوله ذلك.

وقيل في قوله: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللّه سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} بوجوه:

أحدها: ما قال أبو بكر الأصم: تأويله: لولا كتاب من اللّه سبق ألا يعذب المخطئين في عملهم على خلاف أمره، وإلا لمسكم العذاب فيما أخذتم من الأسارى والفداء منهم عذاب عظيم.

وقال آخرون: قوله: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللّه سَبَقَ}: أي: أحل الغنائم لهذه الأمة، وإلا لمسكم العذاب فيما أخذتم واستحللتم عذاب عظيم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: لولا كتاب من اللّه سبق أنهم يتوبون عما عملوا من الأخذ وغيره، وأنه يتوب عليهم، وإلا لمسكم العذاب أبذلك وأمكن أن يكون التأويل في غير هذا كان في قوله: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}، دلالة إباحة الأمر ورخصته؛ لأنه قال: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} وهو الإبانة من المفصل الذي تبان به الرءوس، وذلك قلما يمكن في القتال، ولا يقدر إبانة الرءوس في الحرب، إنما يمكن ذلك بعد ما أخذوا أو وقعوا في أيديهم.

وأما ما ذكر من ضرب البنان: فهو في الحرب؛ لأنه في الحرب إنما يضرب فيما ظفر ووجد السبيل إلى ذلك، ففيه دلالة.

٦٨

وتأويل قوله: (لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللّه سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٦٨) يحتمل أن يكون ملحقًا على ما سبق من قوله: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (٥) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ. . .) الآية، أي: لولا أن من حكم اللّه أن يجعل لكم الظفر على إحدى الطائفتين، وإلا لمسكم العذاب بمجادلتكم رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -

ومخالفتكم إياه في الخروج وإرادتكم العير.

أو أن يقال: لولا أن من حكم اللّه ألا يعذب أحدًا ولا يؤاخذه في الخطأ في العمل بالاجتهاد وإلا {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، ويكون قوله: {أَخَذْتُمْ} أي:

عملتم.

ثم قالت المعتزلة: في قوله: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّه يُرِيدُ الْآخِرَةَ} دلالة على أن اللّه لا يريد ما أراد العباد إذا أرادوا المعصية؛ لأنه أخبر أنهم أرادوا عرض الدنيا، وهو يريد الآخرة، فهم أرادوا المعصية، وهو يريد لهم الآخرة.

ولكن التأويل عندنا أن قوله: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّه يُرِيدُ الْآخِرَةَ}، أي: تريدون عرض الدنيا، واللّه يريد حياة الآخرة وعرضها.

وبعد، فإنه قد كان اللّه أراد لهم الآخرة وحياتها، وهم أرادوا العير وعرض الدنيا، وقد كان ما أراد اللّه لهم لا ما أرادوا هم، أي: اختار لهم غير ما اختاروا هم.

وأصله أن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - أراد الآخرة لأهل بدر، فكان ما أراد، ولأُولَئِكَ الكفرة النار، فكان ما أراد؛ كقوله: {يُرِيدُ اللّه أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ}.

والأشبه أن تكون الإرادة هاهنا - المودة والمحبة، أي: تودون وتحبون عرض الدنيا، واللّه يريد الآخرة، وهو ما ذكر في آية أخرى؛ حيث قال: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّه إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} كانوا يودون أن القتال مع غير ذات الشوكة؛ حتى تكون لهم الغنائم.

والإرادة التي تضاف إلى اللّه تخرج على وجوه ثلاثة:

أحدها: الرضا؛ كقوله: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللّه مَا أَشْرَكْنَا} كانوا يستدلون بتركه إياهم على أن اللّه قد رضي بصنيعهم.

والثاني: الإرادة: الأمر؛ كقوله: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللّه أَمَرَنَا}.

والثالث: الإرادة هي صفة فعل كل فاعل يخرج فعله على غير سهو وغفلة ولا طبع؛ بل يخرج على الاختيار.

وقال بعض أهل التأويل: إن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - استشار في أسارى يوم بدر أصحابه، فقال لأبي بكر: " يا أبا بكر، ما تقول فيهم؟ " فقال: يا رسول اللّه؛ قومك وأهلك، فاستبقهم واستأمنهم، لعل اللّه يتوب عليهم، وقال عمر: يا رسول اللّه؛ كذبوك وأخرجوك، قدمهم فاضرب أعناقهم، وقال عبد اللّه بن رواحة: يا رسول اللّه، انظر واديًا كثير الحطب، فأدخلهم فيه وأضرمه عليهم نارًا، فقال له العباس: قطعت رحمك، فسكت رسول اللّه فلم يجبهم شيئًا، ثم قام فدخل، فقال ناس: يقول بقول أبي بكر، وقال ناس: يقول بقول عمر، وقال ناس: يقول بقول عبد اللّه، ثم خرج عليهم رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال: " إن اللّه ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللين، وإن اللّه ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم، قال: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى؛ حيث قال: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ}، وإن مثلك يا عمر كمثل موسى؛ حيث قال: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ}،

وقال: يا عمر، إن مثلك كمثل نوح؛ حيث قال: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} ولا يسألن أحد منكم إلا بفداء أو ضربة عنق "، قال عبد اللّه: إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام، فسكت رسول اللّه، فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع علي حجارة في ذلك اليوم، حتى قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إلا سهيل بن بيضاء "، فأنزل اللّه: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} إلى آخر ما ذكر.

ثم يحتمل قوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} قبلكم، وأما أنتم فقد أحلت لكم الأسارى والغنيمة، ويدل -أيضًا- ما روي من الأخبار والآيات على أنه إذا أثخن في الأرض جاز له الأسر؛ لأنه لو لم يجز ذلك كما لا يجوز قبل الإثخان في الأرض، زالت فائدة الخصوص، وقد بين اللّه ذلك بقوله: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ}.

ثم اختلف أهل العلم في فداء الأسارى بالمال؛ قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - كان ذلك يوم بدر والمسلمون قليل، فلما كثروا واشتد سلطانهم أنزل اللّه - تعالى - في

الأسارى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً}، فجعل النبي والمؤمنين بالخيار: إن شاءوا فدوهم.

وعن الحسن قال: يصنع به ما صنع رسول اللّه بأسارى بدر يمن عليه أو يفادي. وقال غيرهم بخلاف ذلك.

وقال أصحابنا: إن احتاج الإمام إلى مال فاداهم.

وقد دل ما ذكرنا من الآيات والأخبار على جواز الفداء بعد الإثخان فيهم، فإن لم يكن إلى المال محتاجًا فله قتلهم؛ لأن ذلك إنكاء في العدو وأشد لرهبتهم من المؤمنين،

وقال: وله أن يسترقهم، فهو كما قالوا: إذا كان الأسير من أهل الكتاب أو من العجم، فأما عرب عبدة الأوثان فلا يسترقون؛ لأنا لا نعلم أحدًا منهم استرقه النبي لما أسره، ولم

 يبلغنا أن أبا بكر استرق واحدًا من أهل الردة، وكيف يجوز استرقاقهم وقد قال اللّه - تعالى -: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ}.

وأمَّا الفداء والقتل: فقد ظهر من فعل رسول اللّه في أسارى بدر.

وفيما روي من الاستشارة - استشارة النبي أصحابه في الأسارى - دلالة العمل بالاجتهاد، وفيما روي في الخبر عن نبي اللّه - عليه السلام - قال لأبي بكر، وعمر: " يا أبا بكر ويا عمر، إن ربي يوحي إلي أن أشاوركما، ولولا أنكما تختلفان ما عصيتكما، أو ما عملت بخلاف رأيكما فيه " - أنه لا يجوز لأحد أن يخالفهما، ورسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول: " لولا أنكما تختلفان ما عصيتكما، أو ما عملت بخلاف رأيكما ".

ثم ما أخذ من الأسارى من الفداء لا يدري على أي وجه أخذ على الترك أو الرد إلى أوطانهم من غير أن تركهم بالجزية؛ إذ من قولهم ألا يجوز أخذ الجزية منهم، والترك على ذلك.

وفي الآية دلالة ذلك، وهو قوله: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ}.

وفي الخبر: " لا يجتمع دينان في جزيرة العرب " إلا أن يقال: إن المفاد إلا التي ذكر كان هذا، وهذا كان بعده، واللّه أعلم.

٦٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللّه إِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩)

قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {حَلَالًا طَيِّبًا} واحد، كل حلال طيب، وكل حرام خبيث، وإنما يطيب إذا حل، ويخبث إذا حرم، ولكن يحتمل قوله: {حَلَالًا} بالشرع، {طَيِّبًا} في الطبع، وكذلك الحرام هو حرام بالشرع، وخبيث بالطبع، وإنما يتكلم بالحل والحرمة من جهة الشرع، والطيب والخبيث بالطبع.

والطيب: هو الذي يتلذذ به ولا تبعة فيه؛ لأن خوف التبعة ينغص عليه ويذهب بطيبه ولذته.

وجائز ما ذكر من الطيب - هاهنا - لما أن أهل الشرك كانوا يأخذون الأموال ويجمعونها من وجه لا يحل، وبأسباب فاسدة، فيكرهون التناول منها إذا غنموها لتلك الأسباب

الفاسدة، فطيب قلوبهم بقوله: {طَيِّبًا}.

وفيه دليل جواز التقلب في البيع الفاسد وطيب التناول منه، وإن كان مكتسبًا بأسباب

 فاسدة بعد أن يكون بإذن؛ فعلى ذلك الأول يحتمل ما ذكرنا.

وفيه دلالة أن أهل الكفر لا يؤاخذون بالأفعال التي كانت لهم في الكفر، ولا ما كانوا تركوا من العبادات؛ لما ليست عليهم، إنما يؤاخذون بالاعتقاد.

وقوله: {وَاتَّقُوا اللّه}.

فيما أمركم به ونهاكم عنه فلا تعصوه.

{إِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

لمن تاب ورجع عما فعل.

٧٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللّه فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠) قال عامة أهل التأويل: إن الآية نزلت في العباس بن عبد المطلب وأصحابه، وكذلك يقول ابن عَبَّاسٍ: قالوا للنبي: آمنا بما جئت به، ونشهد إنك رسول اللّه؛ فنزل: {إِنْ يَعْلَمِ اللّه فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا}، أي: إن يعلم اللّه اعتقاد الإيمان والتصديق له في قلوبكم، {يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ}، أي: إيمانا وتصديقًا، فيخلف عليكم خيرًا مما أصيب عليكم.

لكنها فيه وفي غيره: من فعل مثل فعله فهو في ذلك سواء، يكون له من الموعود الذي ذكر ما يكون له.

وقوله: {إِنْ يَعْلَمِ اللّه فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا}.

وهو الإيمان الذي علم أنهم اعتقدوا في قلوبهم.

وقوله: {يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ}.

أي: آتاكم خيرًا - وهو الإيمان - مما أخذ منكم من المال الذي ذكر في القصة.

 ويجوز " يفعل " مكان " نعل "؛ كقوله: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ}، أي: قال المنافقون، وذلك كثير في القرآن؛ فعلى ذلك قوله: {يُؤْتِكُمْ خَيْرًا}.

ويحتمل قوله: {يُؤْتِكُمْ} أيضًا، أي: يثيبكم ويعطيكم أفضل مما أخذ منكم في الآخرة، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّه غَفُورٌ} لما كان في الشرك؛ كقوله: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللّه غَفُورٌ}، للذنوب، وذو تجاوز، {رَحِيمٌ} يرحم في الإسلام.

ويحتمل قوله: {يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ} من الفداء، أو ما أخذ منهم بمكة؛ أخبر أنه يؤتهم خيرًا من ذلك في الدنيا من الأموال وغيرها.

والإثخان: قال ابن عَبَّاسٍ: القتل.

قال أبو معاذ: (يثخنون)، أي: يذلون، المثخن: الذليل.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: {حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} أي: يثخن في أهل الأرض، يكثر القتلى والجراحات؛ يقال: أثخنت في القوم: إذا أكثرت فيهم القتل والجراحات، ويقال: ضربه حتى أثخنه، أي: ضربه حتى لا يقدر على القيام، وهو ما ذكر مُحَمَّد في بعض مسائله: أنه إذا رمى صيدا بسهم فأصابه حتى أثخنه، ثم رمى آخر بسهم فأصابه - فإنه للأول؛ لما أنه صيره بالإثخان خارجًا من أن يكون صيدًا، وهو الضرب الذي وصفناه.

وثخن يثخن ثخانة فهو ثخين، وثخن يثخن ثخونة واحد، أي: غلظ.

٧١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللّه مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللّه عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧١)

يحتمل أن تكون الآية صلة ما سبق من الآيات، وهو قوله: {الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ. . .} الآية،

وقوله: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّه. . .} الآية، وغير ذلك {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً} ونحوه، فقال: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ}: في نقض العهد وغير ذلك من الأمانات، {فَقَدْ خَانُوا اللّه مِنْ قَبْلُ} يحتمل قوله: فقد خانوا اللّه من قبل، فيما عاهدوا أن يوفوا ذلك كقولهم: {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}، فقد أنجاهم اللّه عن ذلك فلم يكونوا من الشاكرين، وكقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّه لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ}، فقد آتاهم اللّه ذلك فلم يفوا ما عاهدوا، وغير ذلك من العهود التي عاهدوا، والأمانات التي اؤتمنوا فيها، فخانوا اللّه في ذلك.

أو ما عهد إليهم في أمر مُحَمَّد، وإظهار نعته وصفته في كتبهم، فكتموا ذلك، وحرفوه، وأظهروا خلاف نعته وصفته، فذلك منهم خيانة، فيقول: إنهم قد خانوا اللّه من قبل، فأمكن اللّه منهم، فإذا خانوك يمكنك اللّه منهم أيضًا.

وقوله: {فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ}

قَالَ بَعْضُهُمْ: أمكن منهم، أي: انتقم منهم جزاء خيانتهم،

وقَالَ بَعْضُهُمْ: أمكنك حتى انتقصت منهم.

وقوله: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ} ليس على الإرادة، ولكن على وقوع فعل الخيانة؛ كأنه قال: وإن خانوك فقد خانوا اللّه من قبل، لكنه ذكر الإرادة؛ لما هي صفة كل فاعل مختار؛ لما لا تكون الأفعال إلا بإرادة.

وقوله: {وَاللّه عَلِيمٌ}: بما يسرون ويضمرون من الخيانة ونقض العهود، {حَكِيمٌ}: في أمره وحكمه حيث أمكنك منهم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللّه مِنْ قَبْلُ} أي: خانوك بعد إسلامهم بالكفر بك.

{فَقَدْ خَانُوا اللّه مِنْ قَبْلُ} أي: فقد كفروا باللّه قبل هذا؛ يقول: إن خانوك أمكنك منهم فقتلتهم وأسرتهم؛ كما فعلت بهم ببدر.

{وَاللّه عَلِيمٌ}: بخلقه، {حَكِيمٌ}: في أمره.

٧٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّه ... (٧٢)

قوله: {آمَنُوا}، أي: صدقوا آيات اللّه وحججه، أو صدقوا رسوله في جميع ما جاء به؛ كأنه مقابل قوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ}، ذكر - هاهنا - التصديق مكان التكذيب في ذلك.

وقوله: {وَجَاهَدُوا}: في إظهار دين اللّه ونصره.

{بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} أي: بذلوا ذلك.

{وَالَّذِينَ آوَوْا} أي: ضموا النبي.

{وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} قال ابن عَبَّاسٍ وعامة أهل التأويل: الولاية التي ذكرت في الآية في التوارث، جعل الميراث للمهاجرين والأنصار دون ذوي الأرحام الذين آمنوا ولم يهاجروا إلى المدينة، وكذلك قالوا في قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} يعني: الميراث.

وروي عن عبد اللّه قال: قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة " والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة.

وعن جرير بن عبد اللّه، عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال:. . . كذلك روي.

وعن المسعودي عن القاسم قال: آخى رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بين أصحابه، فآخى بين

عبد اللّه بن مسعود والزبير بن العوام أخوة يتوارثون بها؛ لأنهم هاجروا وتركوا قراباتهم، حتى أنزل اللّه آية المواريث.

وعن ابن عَبَّاسٍ في قوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ}، قال: كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرثون الأنصار دون رحمهم بالأخوة التي آخى النبي بينهم، فلما نزل قوله: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ}، نسخها: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} من النصر، والنصيحة، والرفادة، ويوصي له ولا ميراث.

وعن الحسن في قوله - تعالى -: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّه} فكان

المسلطون يتوارثون بالهجرة، فكان الأعرابي لا يرثه المهاجر، والمهاجر لا يرثه الأعرابي، فحرضهم بذلك على الهجرة، حتى كثر المسلمون، فأنزل اللّه - تعالى -: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ. . .} الآية، فورث الأعرابي المهاجر وتوارثوا بالأرحام. إلى هذا يذهب عامة أهل التأويل، وكانوا يرون أن الهجرة كانت مفترضة، فزال فرضها بقول النبي - عليه السلام -: " لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية ".

وعن عائشة - رضي اللّه عنها - قالت: انقطعت الهجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، فإنما كانت الهجرة إلى اللّه ورسوله، والمؤمنون يفرون بدينهم من أن يفيئوا عنه، وقد أفشى اللّه الإسلام.

هذا الذي ذهب هَؤُلَاءِ في قوله: {بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} في التوارث محتمل.

ويحتمل غير هذا، وهو أن قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا. . .} إلى قوله: {وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} أي: بعضهم أولياء بعض، في تمام الولاية، في التناصير، والتعاون، والحقوق، والديانة، فهم أولى بعضهم ببعض من الذين آمنوا ولم يهاجراوا؛ لأنهم آمنو اوهاجروا، أي: تركوا منازلهم وأهلهم وقراباتهم وبلدهم الذي كانوا فيه مقيمين؛ إشفاقًا على دينهم، واستسلامًا لهم ولأنفسهم، والأنصار آووهم، وأنزلوهم في منازلهم، وبذلوا أنفسهم وأموالهم، وتحملوا جميع مؤنتهم من غير أن كان سبق منهم إليهم شيء، فصاروا لهم أعوانًا وأنصارًا، فصار بعضهم أولياء بعض في تمام ما ذكرنا من الولاية: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا}، أي: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ}، أي: من تمام ما ذكرنا من ولاية الدِّين، وليس لهم ولاية التناصر، والتعاون، والحقوق، والمنافع التي تكتسب بالدِّين.

وفي قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأنه جل وعلا أبقى في المهاجرين الذين لم يهاجروا اسم الإيمان، وكانت الهجرة عليهم مفروضة، وهم في تركهم الهجرة مرتكبين كبيرة، فدل أن صاحب الكبيرة لا يزول عنه اسم الإيمان.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}.

أي: أولو الأرحام إذا آمنوا وهاجروا بعضهم أولى ببعض من غيرهم؛ لأنهم إذا آمنوا وهاجروا ولهم قرابة سابقة ورحم متقدم، كانوا هم أولى من غيرهم الذين لا قرابة بينهم ولا رحم؛ إذ اجتمع فيهم الرحم، والمعونة، والنصر، والديانة، والحقوق، اجتمع فيهم أشياء أربعة، وفي أُولَئِكَ ثلاثة، فهم أولى بهم من غيرهم؛ هذا على التأويل الذي ذكرنا، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ}.

يعني: الذين لم يهاجروا؛ يحتمل وجهين:

الأول: يحتمل: إذا طلبوا منكم المعونة والنصرة على عدوهم، فعليكم النصر والمعونة لهم، إذا لم يكن بينكم وبين أُولَئِكَ ميثاق.

والثاني: إذا علمتم أنهم يخشون على أنفسهم من عدوهم ويخافونه فانصروهم {إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} أي: إذا استنصروكم في الدِّين على قوم بينكم وبينهم ميثاق فلا تنصروهم، أي: وليس عليكم أن تنصروهم، تأويله: حتى تنبذوا إليهم العهد؛ يقول: إذا استنصركم يا معشر المهاجرين - إخوانكم المؤمنين الذين لم يهاجروا إليكم فأتاهم عدوهم من المشركين فقاتلوهم ليردوهم عن الإسلام - فانصروهم، ثم استثنى فقال: {إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ}؛ يقول: إن استنصروكم الذين لم يهاجروا إلى المدينة على أهل عهدكم، فلا تنصروهم.

{وَاللّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}: في المعونة، والنصرة، ونحوه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}.

 قرئ بالخفض: {وِلَايَتِهِمْ}، وبالنصب جميعًا: {وَلَايَتِهِمْ} أعني: بنصب الواو وخفضها، وكذلك التي في الكهف: {هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ للّه. . .} الآية. بالخفض والنصب جميعًا.

ثم قال بعض أهل الأدب: الولاية - بفتح الواو -: النصرة والمعونة، والولاية - بخفض الواو -: السلطان، أي: السلطان للّه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الولاية - بالخفض -: المعونة والنصرة، والولاية: السلطان.

وقال آخرون: هما سواء، وهو النصرة والمعونة، والولاية في الإمارة والسلطان، والولاية في الدِّين.

٧٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ... (٧٣)

على قول ابن عَبَّاسٍ وعامة أهل التأويل: بعضهم أولياء بعض في التوارث؛ على ما قالوا في المهاجرين والأنصار بعضهم أولياء بعض.

ويحتمل ما ذكرنا أن بعضهم أولياء بعض في التناصر، والتعاون، والدِّين، والحقوق جميعًا؛ على ما ذكرنا في المؤمنين.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}.

قيل: فيه بوجوه:

 أحدها: أن إخوانكم الذين لم يهاجروا إذا استنصروكم على عدوهم فلم تنصروهم، تكون فتنة في الأرض وفساد كبير، أي: إن لم تكونوا بعضكم أعوانًا وأنصارًا لبعض، على ما كان أهل الكفر بعضهم أنصارا لبعض غِلبكم العدو وقهركم، فيكون في ذلك فتنة وفساد، ويكون كقوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للّه}.

وقال بعصهم: قوله: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ} ملحق بقوله: {إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ}، أي: إذا استنصركم إخوانكم على قوم بينكم وبينهم ميثاق فنصرتموهم، تكن فتنة وفساد كبير.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ} فيما أمركم به من جعل التوارث فيما بين المؤمنين، وجعلتم الميراث والتوارث فيما بينكم وبين الكفار {تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}؛ لأن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - ذكر المواريث، ثم ذكر في آخر الآية: {تِلْكَ حُدُودُ اللّه وَمَنْ يُطِعِ اللّه وَرَسُولَهُ}، وما ذكر من ترك حدود اللّه، وطاعة رسوله، وجعل الميراث في غير ما أمر - عَزَّ وَجَلَّ - {تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}.

٧٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّه وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤)

أي: ضموا رسول اللّه والمهاجرين ونصروهم.

{أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا}.

أي: المهاجرون والأنصار الذين ضموا {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا}؛ لما حققوا إيمانهم بأعمالهم؛ لأنهم هاجروا من بلادهم وأهلهم وأموالهم؛ إشفاقًا على دينهم، واستسلامًا له، وأجابوا رسول اللّه وأطاعوه في ذلك، وأُولَئِكَ الأنصار ضموهم إلى أنفسهم وأنزلوهم في منازلهم، وبذلوا لهم أنفسهم وأموالهم، ونصروهم على عدوهم، فقد حققوا جميعًا إيمانهم بأعمالهم التي عملوا.

ويحتمل قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} أي: صدقًا في السر والعلانية، ليس كإيمان

 المنافقين يكون في العلانية ولا يكون في السر؛ كقوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللّه الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ. . .} الآية،

وقال: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللّه الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ. . .} الآية.

ويحتمل قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا}، أي: وعدهم وعدًا حقًا، وهو ما ذكر في آية أخرى: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}.

ويحتمل: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا}، أي: أُولَئِكَ المؤمنون الذين حققوا الإيمان به.

وظ له: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}.

أي: حسن يكرم أهله به.

٧٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّه إِنَّ اللّه بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥)

أي: من آمن بعد هَؤُلَاءِ وهاجروا بعد مهاجرة أُولَئِكَ، فإنهم يلحقون أوائلهم في جميع ما ذكر في أُولَئِكَ الذين هاجروا من قبل؛ يذكر هذا - واللّه أعلم - لنعمل نحن على ما عمل أُولَئِكَ من الهجرة، والنصرة، وبذل الأنفس والأموال، وغير ذلك للدِّين، على ما بذل أُولَئِكَ وأشفقوا على دينهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّه}.

هم ما ذكرنا أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض بالتركة والتوارث من جملة المؤمنين، فإذا لم يكن أولو الأرحام فجملة المؤمنين أولى؛ على ذلك يخرج قول أصحابنا:

إن أولي الأرحام بالميراث أولى من جملة المؤمنين، وهو بيت المال، فما دام واحد من هَؤُلَاءِ فهو أولى بالميراث، وعلى ذلك يخرج قولهم في العقل: إنه على ذوي الأرحام ما داموا هم، فإذا لم يكن أحد منهم فهو على جملة المؤمين في بيت المال.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ اللّه بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} بالعباد وما يكون منهم، و {بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} بما يحتاجون وما لا يحتاجون، وهو حرف وعيد، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}.

أي: بعضهم أولى ببعض في حق التوارث من المؤمنين الذين هاجروا، فنسخت هذه الآية حكم الميراث الذي ذكر في قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}؛ لأنه كان جعل التوارث بينهم بحق الإيمان والهجرة، ثم نسخ ذلك وجعل الميراث بالرحم؛ حيث قال: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}؛ وكذلك ما ذكر في سورة الأحزاب حيث قال: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّه مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} فإذا لم يبق من الرحم أحد فبعد ذلك يكون جملة المؤمنين.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فِي كِتَابِ اللّه}.

في حكم اللّه، أو {فِي كِتَابِ اللّه}؛ لأنه ذكر في كتاب اللّه.

ثم لزوم الهجرة على الذين هاجروا مع رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعلى الذين تأخرت هجرتهم سواء، قد سوى بينهم في اللزوم، وجمع بين المهاجرين والأنصار في حق الشهادة لهم بالتصديق والإيمان؛ حيث قال: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤنِوُنَ حَقأ}، وجمع بينهم في حق الولاية وما يكتسب بها من المنافع؛ حيث قال: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا}، وجمع بينهم في الثواب والدرجة؛ حيث قال: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}، وجمع بينهم في هذه الخصال وإن قدم ذكر المهاجرين في غير واحدة من الآيات؛ لما كانوا مستوين في الأسباب التي استوجبوا ذلك؛ لأن من المهاجرين من ترك الأوطان والمنازل، والخروج منها والمفارقة عن أهليهم وأموالهم، وكان من الأنصار مقابل ذلك: إنزالهم في منازلهم وأوطانهم، وبذل أموالهم، وقيام أهليهم في خدمتهم؛ لذلك كان ما ذكر، واللّه تعالى أعلم، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم.

* * *

﴿ ٠