سُورَةُ الْأَنْفَالِ

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١

قوله - تعالى -: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفَال قُلِ الأَنفَالُ للّه وَالرَّسُول}.

اختلف فيه؛

قَالَ بَعْضُهُمْ: الأنفال: هي المغانم التي يغنمها المسلمون من أهل الحرب.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الأنفال: هي الفضول عن حقوق أصحاب الغنائم.

فإن كانت الأنفال الغنائم، فالسؤال يحتمل وجهين:

يحتمل أنهم سألوا عن حلها وحرمتها؛ لأن الغنائم كانت لا تحل في الابتداء.

قيل: إنهم كانوا يغنمونها ويجمعونها في موضع، فجاءت نار فحرقتها، فسألوا عن حلها وحرمتها، فقال: {الْأَنْفَالُ للّه وَالرَّسُولِ}، أي: الحكم فيها للّه والرسول، يجعلها لمن يشاء.

ويحتمل السؤال عنها: عن قسمتها، وهو ما روي في بعض القصة أن الناس

كانوا يوم بدر ثلاثة أثلاث: ثلث في نحر العدو، وثلث خلفهم ردء لهم، وثلث مع رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يحرسونه، فلما فتح اللّه عليهم اختلفوا في الغنائم؛ فقال الذين كانوا في نحر العدو: نحن أحق بالغنائم، نحن ولينا القتال. وقال الذين كانوا ردءًا لهم: لستم

بأولى بها منا، وكنا لكم ردءًا.

وقال الذين أقاموا مع رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: لستم بأحق بها منا، كنا نحن حرسًا لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فتنازعوا فيها إلى رسول اللّه، فنزل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ للّه وَالرَّسُولِ}.

وقال أبو أمامة الباهلي: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال، قال: فينا نزلت معشر أصحاب بدر حين اختلفنا وساءت فيه أخلاقنا، إذ انتزعه اللّه من أيدينا فجعله إلى رسوله، فقسمه على السواء.

ومجاهد وعكرمة قالا: كانت الأنفال للّه والرسول فنسخها: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للّه خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ}.

وكذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: الأنفال: المغانم كانت لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خالصة، ليس لأحد فيها شيء، ما أصابت سرايا المسلمين من شيء أتوه به،

فمن حبس منه إبرة أو سلكًا فهو غلول، فسألوا رسول اللّه أن يعطيهم منها، فقال: {قُلِ الأَنفَالُ للّه وَالرَّسُولِ}، ليس لكم فيها شيء.

ويحتمل أن تكون الأنفال هي فضول المغانم؛ على ما قَالَ بَعْضُهُمْ؛ نحو ما روي في الأخبار أن منهم من أخذ كبة فقال: اجعلها لي يا رسول اللّه، وأخذ الآخر سيفًا

وقال: اجعله لي، ونحو ذلك كانوا يسألون رسول اللّه ذلك، فقال: {قُلِ الأَنفَالُ للّه وَالرَّسُولِ}.

ويحتمل أن يكون سؤالهم عن التنفيل: أن ينفلهم الرسول بعد ما وقع في أيديهم، أو بعد ما انهزم الكفار وأدبر العدو، وإنما يجوز للإمام التنفيل في حال إقبال الحرب، وكذلك روي عن عبد اللّه بن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: النفل ما لم يلتق الزحفان أو الصفان، فإذا التقيا فهو مغنم.

وروي عن مصعب بن سعد عن أبيه سعد قال: نزلت في أربع آيات: جرى أنه يوم

بدر أصبت سيفًا، فأتيت به النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقلت: نفلنيه، فقال: " ضعه ثم أقام، "، فقلت: يا نبي اللّه، نفلنيه أجعل كمن لا عمل له؟! فقال النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " ضعه من حيث أخذته "، فنزلت هذه الآية: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ للّه وَالرَّسُولِ}.

ثم قال سعد: دعاني رسول اللّه فقال: " اذهب فخذ سيفك " فدل حديث سعد أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم ينفل قبل الحرب أحدًا شيئًا منه مما لا يأخذه؛ لأنه لو كان نفلهم لم يمنع سعدًا - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - السيف الذي جاء به، ويدل على أن النبي لم يؤمر في الغنيمة بشيء حتى نزلت آية النفل، فرد اللّه الأمر في الغنيمة إلى رسوله، فأطلق له رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما رد الأمر إليه.

ويجوز أن يكون النبي لم ينفل أحدًا قبل الحرب شيئًا، ولكنه كان ينفل مما يؤتى به من يشاء ممن قتل بغير إيجاب متقدم؛ يبين ذلك قول سعد: أجعل كمن لا عمل له؟!

وحديث عبادة يخبر أن النبي نفل ما يأخذون من أهل الحرب قبل أن يأخذوه، وهذا موضع الاختلاف بين الحديثين، والظاهر من ذلك أن الفعل قد كان وقع في الغنائم؛ لأن اللّه قد سماها أنفالًا قبل أن يحلها، فلولا أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان نفلهم إياها قبل الحرب أو بعدها، لم يسمها اللّه أنفالًا، واللّه أعلم.

وفي حديث عبادة أن قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للّه خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} نزل بعد ذكر النفل، وأنه الحكم الناسخ الثابت، وكذلك قول ابن

عباس يدل على ذلك.

وقد أجمع أهل العلم على ما ذكره عبادة في آخر حديثه، فقالوا جميعًا: إن الغنيمة

يخرج خمسها للأصناف الذين ذكرهم اللّه إلا ما اختلفوا فيه من سهم ذوي القربى،

ثم تقسم الأربعة الأخماس بين أهل القسمة، وجعلوا للإمام أن ينفل السلب وغيره،

فيقول: " من قتل قتيلًا فله سلبه "، يحرض بذلك المقاتلة، وينفل السرية ويخرج من العسكر شيئا بعد الخمس، ومما أجمعوا عليه من قسمة الغنيمة أخماسًا نزول القرآن، وقد روي عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " إن الغنيمة لم تحل لأحد قبلنا، وقد أحلت لنا ".

وروي عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لم تحل الغنيمة لقوم سود الرأس قبلكم، كانت نار تنزل من السماء فتأكلها "، فلما كان يوم بدر أسرع الناس في الغنائم، فأنزل اللّه - تعالى -: (لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللّه سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا)، ونحو ذلك، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ} يحتمل وجوهًا:

أحدها: يسألونك عمن له الأنفال، فقال: {قُلِ الْأَنْفَالُ للّه وَالرَّسُولِ}.

والثاني: يسألونك الأنفال: على إسقاط عن، وقد كانوا يسألون الأنفال والمغانم.

والثالث: يسأل كل عن نفل له الذي جعل له، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَاتَّقُوا اللّه وَأَصْلِحُوا}.

قال أهل التأويل: اتقوا اللّه في أخذ الأنفال، ولكن في الأنفال وفي غيرها اتقوا معصية اللّه ومخالفته في أمره ونهيه.

{وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ}.

أمر بإصلاح ذات البين؛ لما ذكر من عظيم منته ونعمه التي أنعم عليهم بقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّه جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّه عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}، أخبر أنهم كانوا أعداء فألف بين قلوبهم،

 وذلك من عظيم نعمه عليهم، فأمر - هاهنا - بإصلاح ذات البين؛ ليكونوا على النعمة التي أنعمها عليهم مجتمعين غير متفرقين.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَطِيعُوا اللّه وَرَسُولَهُ}.

أي: أطيعوا اللّه في أمره ونهيه، ورسوله في آدابه وسننه {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.

أو يقول: أطيعوا اللّه فيما دعاكم إليه ورغبكم فيه، ورسوله فيما بين لكم {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.

يعني: مصدقين به.

﴿ ١