سُورَةُ التَّوْبَةِ

١

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللّه وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} قال بعضهم من أهل التأويل: ذلك في قوم كان بينهم وبين رسول اللّه عهد على غير مدة مبينة، فأمر بنقض العهد المرسل وجعله في أربعة الأشهر التي ذكر في قوله: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ}.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هي في قوم كان لهم عهد دون أربعة أشهر، فأمر بإتمام أربعة أشهر؛ ودليله قوله: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ}.

وقال أبو بكر الكيساني: الآية في قوم كانت عادتهم نقض العهد ونكثه؛ كقوله: {الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ}، فأمر أن يعطي العهد أربعة أشهر التي ذكر في الآية ثم الحرب بعد ذلك.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: لما نزل قوله: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللّه وَرَسُولِهِ} بعث رسول اللّه، عليا إلى الموسم ليقرأه على الناس، فقرأ عليهم: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللّه وَرَسُولِهِ} من العهد غير أربعة

 أشهر {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.

على ما ذكرنا حمل هَؤُلَاءِ كلهم قوله: {بَرَاءَةٌ} على النقض.

وعندنا يحتمل غير هذا، وهو أن قوله: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللّه وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} في إمضاء العهد ووفائه، والبراءة هي الوفاء، وإتمامه ليس على النقض؛ لأنه قال: إلى الذين عاهدتم من المشركين والبراءة إليهم هي الأمان والعهد إليهم، ولو كان على النقض لقال: " من الذين عاهدتم من المشركين " فدل أنه هو إتمام إعطاء العهد إليهم، وإمضاؤه إليهم، ويؤيد هذا ما قال بعض أهل الأدب: إن البراءة هي الأمان؛ يقال: كتبت له براءة، أي: أمانًا؛ هذا الذي ذكرنا أشبه مما قالوا، أعني: أهل التأويل.

٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّه وَأَنَّ اللّه مُخْزِي الْكَافِرِينَ (٢)

أي؛ سيروا واذهبوا في الأرض {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} أي: في مدة العهد.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي}.

أي: اعلموا أن المؤمنين وإن أعطوا لكم العهد في وقت فإنكم غير معجزي اللّه وأولياءه، ولا فائتين عنكم في تلك المدة.

{وَأَنَّ اللّه مُخْزِي الْكَافِرِينَ} الخزي: هو العذاب الفاضح الذي يفضحهم ويظهر عليهم.

ويحتمل أن يكون ذلك العذاب والإخزاء الذي ذكر في الآخرة.

٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَذَانٌ مِنَ اللّه وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللّه بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّه وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٣)

قَالَ الْقُتَبِيُّ: {وَأَذَانٌ مِنَ اللّه وَرَسُولِهِ}، أي: إعلام، ومنه أذان الصلاة، وهو الإعلام؛ يقال: آذنتهم إيذانًا.

وكذلك قال أَبُو عَوْسَجَةَ.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَنَّ اللّه بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} يكون في قوله: {أَنَّ اللّه بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} دلالة ما قال أهل التأويل من النقض؛ لأن قوله: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللّه وَرَسُولِهِ} يكون فيه انقضاء العهد وإتمامه إلى المدة التي ذكر، ويكون ما روي في الخبر وذكر في القصة أن نبي اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما نزل {بَرَاءَةٌ} بعث أبا بكر على حج الناس، يقيم للمؤمنين حجهم، وبعث معه بـ {بَرَاءَةٌ} السورة، ثم أتبعه علي بن أبي طالب، فأدركه فأخذها منه، ورجع أبو بكر إلى النبي، فقال للنبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: بأبي أنت وأمي، نزل فِيَّ شيء؟ قال: " لا، ولكن لا يبلغ غيري أو رجل مني، أما ترضى يا أبا بكر أنت صاحبي في الغار، وأنت أخي في الإسلام، وأنت ترد على الحوض يوم القيامة؟! " قال: بلى يا رسول اللّه.

فمضى أبو بكر على الناس، ومضى علي بن أبي طالب بالبراءة، فقام على بالموسم، فقرأ على الناس: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللّه وَرَسُولِهِ}: من العهد، غير أربعة أشهر؛ فإنهم يسيحون فيها.

ثم قوله: {يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ}.

قال عامة أهل التأويل: هو يوم النحر؛ لأن فيه ذكر طواف البيت وحج البيت.

قَالَ بَعْضُهُمْ: هو يوم عرفة؛ لأنه هو الذي يوقف فيه بعرفة، وبه يتم الحج على

ما روي في الخبر: " الحج عرفة، ومن أدرك عرفة بليل وصلى معنا بجمع، فقد تم حجه وقضى تفثه، بإدراكه يتم الحج، وبفوته يفوت ".

وعن الحسن أنه سئل فقيل له: ما الحج الأكبر؟ فقال: سنة حج المسلمون والمشركون جميعًا، اجتمعوا بمكة، وفي ذلك اليوم كان لليهود عيد، وللنصارى عيد، لم يكن قبله ولا بعده، فسماه اللّه الحج الأكبر.

قال أبو بكر الأصم: لا يحتمل أن يسمي اللّه عيد النصارى واليهود يوم الحج الأكبر، وهو يوم نزول السخط عليهم واللعنة، ولكن جائز أن يسمى بذلك؛ لاجتماع الخلائق فيه من كل نوع؛ على ما سمي يوم الحشر يومًا عظيما؛ كقوله: (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ).

وقوله: {فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}.

أي: إن تبتم عما كنتم عليه فهو خير لكم؛ لأنهم يأمنون من الرعب الذي كان في قلوبهم ويكون ذلك الخوف والرعب في قلوب المشركين؛ على ما روي في الخبر أنه قال: " نصرت بالرعب مسيرة شهر ".

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ}: عما ذكرنا، {فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّه} أي: غير فائتين من نقمة اللّه وعذابه.

ويحتمل قوله: [{إِنْ تُبْتُمْ}] عن نقض العهد فهو خير لكم في الدنيا، والأول: فإن تبتم وأسلمتم فهو خير لكم في الدنيا والآخرة.

وروي في بعض الأخبار عن علي - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه سئل: بأي شيء بعثت؟ قال: بأربع: لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ومن كان بينه وبين النبي - عليه السلام - عهد فعهده أربعة أشهر، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الحرم مشرك بعد هذا.

وفي بعض الأخبار: ولا يحج المشرك بعد عامه هذا، وكذلك قال في الآية الأخرى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}، ففيه دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد؛ لأنه قال في ملأ من الناس بالموسم: لا يحج مشرك بعد هذا، مع كثرة أُولَئِكَ وقوتهم، وقلة المؤمنين وضعفهم، ثم لم يتجاسر بعد ذلك النداء أحد أن يدخل مكة للحج وغيره، دل أن ذلك كله كان باللّه - تعالى - لا بهم.

ثم من الناس من استدل بالخبر الذي روي أنه بعث أبا بكر الصديق على الحج وبعث معه ببراءة، ثم أتبعه عليًّا، فأدركه فأخذها منه، ورجع أبو بكر إلى النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال: هل

نزل في شيء؟ قال: " لا، ولكن لا يبلغ عني غيري أو رجل مني " - على أن عليًّا هو المستحق للخلافة، وهو الأحق بها دون أبي بكر؛ حيث قال: " لا يبلغ عني غيري أو رجل مني ".

 لكن يحتمل أنه وَلَّى ذلك عليًّا؛ لما كان من عادة العرب أنهم إذا عاهدوا عهدًا أنه لا ينقض ذلك عليهم إلا من هو من قومهم، فولى ذلك عليًّا؛ لئلا يكون لهم الاحتجاج عليه فيقولون: لم ينقض علينا العهد.

أو أن يقال: ولى عليًّا أمر الحرب، وهو كان أبصر وأقوى بأمر الحرب من أبي بكر، وولى أبا بكر إقامة الحج والمناسك، فكان أبو بكر هو المولى أمر العبادات، وعلي أمر الحروب، والحاجة إلى الخلافة لإقامة العبادات.

أو أن يقال: إن أبا بكر كان أمير الموسم، وعليَّا كان مناديه، فالأمير في شاهدنا أجل قدرًا وأعظم منزلة من المنادي، وأمر عليًّا ذلك؛ لما أن ذلك كان أقبل وأسمع من غيره من الأمير نفسه، واللّه أعلم.

٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا (٤)

قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا صلة قوله: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللّه وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ}.

أمر بإتمام العهد للذين لم ينقضوا المسلمين، ولا ظاهروا عليهم أحدًا، وأما الذين كانت عادتهم نقض العهد ونكثه فإنه لا يتم لهم، ولكن ينقض، وكذلك تأولوا قوله: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللّه وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}: النقض.

ويحتمل أن يكون صلة قوله: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}، ويكون العذاب الأليم هو القتل والأسر؛ كأنه يقول: وبشر الذين كفروا بالقتل والأسر {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا}.

ثم يحتمل قوله: {لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا} أي: لم يخونوكم شيئًا ما داموا في العهد، {وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا} أي: لم يعاونوا ولا أطلعوا أحدًا من المشركين عليكم، {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ}؛ كقوله: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} أمر بالنبذ إليهم عند خوف الخيانة، وأمر بالإتمام إذا لم يخونوا ولم

 يظاهروا عليهم أحدًا.

ودل قوله: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٣) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) على أن قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّه} أي: غير معجزي أولياء اللّه في عذاب الدنيا؛ لأنهم جميعًا سواء في عذاب الآخرة، مشتركون فيه.

وقوله: {إِلَى مُدَّتِهِمْ}

قَالَ بَعْضُهُمْ: مدة القوم أربعة أشهر بعد يوم النحر لعشر مضين من ربيع الآخر لمن كان له عهد، ومن لا عهد له إلى انسلاخ المحرم، خمسون ليلة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: إلا الذين عاهدتم من المشركين بالحديبية فلم يبرأ اللّه ورسوله من عهدهم في الأشهر الأربع ثم لم ينقصوكم في الأشهر الأربع، {وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا} أي: لم يعينوا على قتالكم أحدًا من المشركين، أي: إن لم يفعلوا ذلك {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} وهو الأربعة الأشهر {إِنَّ اللّه يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}: الذين اتقوا المعاصي والشرك.

٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)

قَالَ بَعْضُهُمْ: الأشهر الحرم هي أشهر

العهد والأمان، فإذا انسلخ تلك الأشهر ومضت، {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الأشهر الحرم هي الأشهر التي خلقها اللّه وجعلها حرامًا؛ كقوله: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللّه اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّه يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ}:

قَالَ بَعْضُهُمْ: حيث وجدتموهم وخذوهم في الأماكن كلها؛ لأن " حيث " إنما يترجم عن مكان، وأمر بقتلهم في الأماكن كلها؛ لأنه لم يخص مكانًا دون مكان.

وقال آخرون: هو في الأماكن كلها إلا مكان الحرم، دليله ما ذكر في السورة التي ذكر فيها البقرة، وهو قوله: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ}،

وقال: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، أمرهم بقتالهم في الأماكن كلها إلا المسجد الحرام.

وأمكن أن يكون أنهم يقتلون إلا أن يدخلوا الحرم، فإذا دخلوا الحرم وقد نهوا عن الدخول فيه والحج هنالك، على ما روي أن عليا نادى بالموسم: ألا لا يحجن بعد العام مشرك - فإذا دخلوا يقتلون، ويكون دخولهم فيه بعد النهي كابتداء مقاتلتهم إيانا، فإذا قاتلونا عند المسجد الحرام قاتلناهم؛ كقوله: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ}، واللّه أعلم.

وقوله: {وَخُذُوهُمْ} قيل: ائْسِروهم.

وقوله: {وَاحْصُرُوهُمْ} قيل: احبسوهم، {وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ}، والمرصد الطريق؛ كأنه أمر بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} بقتلهم إذا قدروا عليهم، وأمكن لهم ذلك، والأسر عند الإمكان والحبس إذا دخلوا الحصن، وحفظ المراصد عند غير الإمكان؛ لئلا يغروا، ويقال: أرصدت له، أي: انتظرت أن أجد فرصتي، ويقال: تر صد ته، أي: انتظرته.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {كُلَّ مَرْصَدٍ} أي: كل طريق يرصدونكم؛ كأنه أمر بذلك؛ ليضيق عليهم الأمر؛ ليضجروا وينقادوا.

وفيه دليل النهي عما يحمل إلى دار الحرب من أنواع الثياب والأمتعة وما ينتفعون به؛ لأنه أمر بالحصر وحفظ الطرق والمراصد؛ ليضيق عليهم الأمر ويشتد، فينقادوا، وفيما يحملون إليهم توسيع عليهم.

وقوله: {وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} يحتمل أن يكون قوله: {وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ} أي: أقيموا عليهم الحجج والبراهين؛ ليضطروا إلى قبول ذلك، فإذا انقادوا لكم وإلا فاقتلوهم حيث وجدتموهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}:

قَالَ بَعْضُهُمْ أمر اللّه في أول الآية بقتل المشركين، فقال: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}

وقال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}، فوجب بظاهر الآية أن نقاتل من آمن ولم يقم الصلاة ولم يؤت الزكاة؛ لأن اللّه - تعالى - إنما رفع القتل عنهم بالإيمان واقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فإذا لم يأتوا بذلك فالقتل واجب عليهم، وكذلك فعل أبو بكر الصديق لما ارتدت العرب ومنعتهم الزكاة حاربهم حتى أذعنوا بأدائها إليه.

روي عن أنس قال: لما توفي رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ارتدت العرب كافة، فقال عمر: يا أبا بكر، أتريد أن تقاتل العرب كافة؟! فقال أبو بكر: إنما قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إذا شهدوا أن لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه وأن محمدًا رسول اللّه، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، منعوني دماءهم وأموالهم " واللّه لو منعوني عناقا مما كانوا يعطون رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قاتلتهم عليه. قال عمر: فلما رأيت رأي أبي بكر قد شرح عرفت أنه الحق.

وفي بعض الأخبار قالوا: نشهد أن لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه، ونصلي، ولكن لا نزكي، فمشى عمر والبدريون إلى أبي بكر، فقالوا: دعهم؛ فإنهم إذا استقر الإسلام في قلوبهم وثبت أدَّوْا، فقال: واللّه، لو منعوني عقالا مما أخذ رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قاتلتهم عليه، قيل: أو قاتل رسول اللّه على ثلاث: شهادة أن لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وقال اللّه: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}، واللّه لا أسأل فوقهن ولا أقصر دونهن، فقالوا: إنا نزكي، ولكن لا ندفعها إليك، فقال: واللّه حتى آخذها كما أخذها رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأضعها مواضعها.

وقال آخرون: قوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} في قبولهم والاعتقاد بهما دون فعلهما، لما لا يحتمل حبسهم ومنعهم إلى أن يحول الحول فيؤخذون بأداء الزكاة - دل على أنه على القبول والإقرار بذلك، واستدلوا بما روي في بعض الأخبار عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها " وقالوا في بعض الأخبار: أمرت أن أقاتل

الناس حتى يقولوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه، وإني رسول اللّه، فإذا قالوا ذلك: عصموا مني. . . " كذا، وفي بعضها: " حتى يقولوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه، وإني رسول اللّه، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك منعوا مني. . . " كذا دل ما ذكرنا من الزيادات والنقصان أن ذلك في قوم مختلفين، وأنه على القبول لذلك والاعتقاد، لا على الفعل نفسه، فمن كان لا يقر بشيء من ذلك، فإذا قال: لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه، كان ذلك منه إيمانًا في الظاهر، ومن كان يقول: لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه، ولا يقول: مُحَمَّد رسول اللّه، فإذا قال ذلك كان ذلك منه إيمانا، ومن كان يقر بهذين ولا يقر بالصلاة والزكاة، فإذا أقر بذلك كان ذلك منه إيمانًا، فهو على الإقرار به والاعتقاد، لا على الفعل، ألا ترى أن للأئمة أن يأخذوا منهم الزكاة شاءوا أو أبوا؟! فلو كان الأداء من شرط الإيمان لكانوا غير مؤمنين بأخذ هَؤُلَاءِ.

واختلف الصحابة والروايات في الحج الأكبر:

روي عن عبد اللّه بن الزبير عن أبيه قال: قال النبي - عليه السلام - يوم عرفة: " هل تدرون أي يوم هذا؟ " قالوا: نعم، اليوم الحرام، يوم الحج الأكبر، قال: " فإن اللّه قد حرم دماءكم وأموالكم عليكم إلى يوم القيامة كحرمة يومكم هذا ".

وعن عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه سئل عن الحج الأكبر، فقال: يوم عرفة.

وعنه: أنه وقف عليهم يوم عرفة فقال: إن هذا يوم الحج الأكبر، فلا يصومنه أحد.

وعن ابن الزبير يقول: يوم عرفة هذا يوم الحج الأكبر.

وفي بعض الأخبار عنه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه خطب على ناقة حمراء يوم النحر، فقال رسول اللّه: " أتدرون أي يوم هذا؟ هذا يوم النحر، وهذا يوم الحج الأكبر ".

وفي بعض الأخبار عن ابن عمر قال: رأيت أو قال: سمعت - رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول

يوم النحر عند المحراب في حجة الوداع، فقال: " أي يوم هذا؟ "، قالوا: هذا يوم النحر، قال: " فأي بلد هذا؟ " قالوا: بلد حرام، قال: " فأي شهر هذا؟ "، قالوا: شهر حرام، قال: " هذا يوم الحج الأكبر، فدماؤكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام؛ كحرمة هذا البلد في هذا اليوم "، ثم قال: " هل بلغت ".

وعن الحارث قال: سألت عليًّا عن الحج الأكبر، فقال: يوم النحر.

وعن المغيرة بن شعبة: أنه خطب يوم العيد، فقال: " هذا يوم النحر، ويوم الأضحى، ويوم الحج الأكبر ".

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: " الحج الأكبر: يوم النحر ".

وفيه قول ثالث: ما روي أنه كان في كتاب رسول اللّه الذي كتبه لعمرو بن حزم: " والحج الأصغر العمرة ".

وعن ابن عَبَّاسٍ: العمرة: هي الحجة الصغرى.

وسئل عبد اللّه بن شداد عن الحج الأكبر، فقال: الحج الأكبر يوم النحر، والأصغر العمرة.

فأما حديث عمرو بن حزم: فهو حكاية عن كتاب، وليس فيه بيان عن يوم الحج الأكبر، إنما يذكر فيه الحج الأصغر، ولولا خبر علي وابن عمر لجاز أن يقال: يوم عرفة هو يوم الحج الأكبر؛ لأنه يقضي فيه فرض الحج وهو الوقوف، ومن فاته ذلك فقد فاته الحج، وجاز أن يقال: هو يوم النحر؛ لأنه فيه يقضي طواف الزيارة، وهو فرض ويقضي فيه أكبر مناسك الحج؛ بل يوم النحر أولى أن يكون يوم الحج الأكبر؛ لأن الحاج يفعل في يوم عرفة فرضًا من فرائض الحج، وهو الوقوف، ويقضي في يوم النحر فرضًا آخر من فرائضه، وهو طواف الزيارة، ويقضي مع ذلك أكثر مناسك الحج، فقد استوى هذان اليومان في أنه يُقْضَى في كل واحد منهما فرض من فرائض الحج، وزاد يوم النحر على يوم عرفة بما يفعل في يوم النحر من مناسك الحج، ولا يفعل في يوم عرفة شيئًا من النسك إلا الوقوف بعرفة.

واحتج بعض الناس بفرضية العمرة بما رواه عمرو بن حزم أن الحج الأصغر هو

العمرة، والأكبر هو الحج، بما سميت العمرة حجًّا، وقد ذكرنا الوجه في ذلك فيما تقدم.

وعن علي وأبي هريرة وابن أبي أوفى - رضي اللّه عنهم - أنهم قالوا: الحجة الكبرى: يوم النحر.

وعن عمر وابن عَبَّاسٍ أنهما قالا: يوم عرفة.

٦

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللّه ... (٦) وقد قال: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} الآية، فأمر بالآية الأولى عند الوجود بالإجارة، وفي هذه بالقتل والأسر، وأمر في الأولى بتبليغه مأمنه، وفي هذه بأن يقعد له كل مرصد، وحال هذه هي حال الأولى في رأي العين، ويتهيأ له في كل وقت يظفر به أن يستجير؛ لما ذكر، وفي كل حال يرصد له أن يحتال ليرد إلى مأمنه، وفي ذلك زوال القيام بما في إحدى الآيتين في الظاهر، فألزم ذلك طلب المعنى الموفق بين الأمرين من طريق التأمل بالأسباب التي هي تدل على حق المعاملة بالآيتين جميعًا.

فقال أصحابنا: إنه إذا قصد نحو مأمن أهل الإسلام غير مظهر أعلام الحرب، ولا بما يدل أنه على ذلك مجيئه؛ بل يمشي مشي من ينقلب لحاجة، ومن يتعاهد ومن ينادي إليه بالاستجارة - فيجار.

ولو كان مقبلا نحو مأمننا، كالطالب لأحد، عليه أعلام الحرب، لكنه كالغافل عن الذين يرصدون له أو الذين لهم منعة ولا قوة به - فلا يقبل قوله، وذلك على تسليم الأمر الغالب من الأحوال؛ إذ لا وجه لعلم الحقيقة في ذلك، وعلى ذلك عامة الأمور بين أهل الدارين، وما ذكرت من الآية في لزوم ذلك الاعتبار؛ إذ لا وجه له غيره هو دليله، واللّه أعلم.

ثم دل قوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} بعد العلم بأنه من مأمنه لا يقدر على الاستجارة لبعد مأمن كل من مأمن الآخر، ثم لا يكون مأمن الفريقين في إحدى الدارين؛ لما كان تحقيق أمن كل فريق منهما نفي أمن الآخر؛ إذ به خوفه؛ فثبت أنه قد يؤذن له بالخروج للاستجارة من مأمنه والدخول في مأمن المسلمين إلى أن يبلغوا مساكنهم فيستجيروا؛ فلذلك لا يوجب ذلك الوجود حق الأسر ولا القتل، ويجب رده لو لم يجر، ولم يسع تعرضه لشيء من ذلك.

ثم قوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} من غير أن يبين استجارته لماذا، يحتمل أن يكون ترك بيانه؛ لما في الجواب ذلك بقوله: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللّه}، وذلك كقوله: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ}، أنه في الجواب بيان ما استفتوا.

ويحتمل أن يكون ذلك لازم أن يسمع كلام اللّه بمعنى حجته لأي وجه دخل بأمان.

وذلك قريب؛ لأنا أمرنا بالتضييق عليهم ليسلموا، فإذا أبحنا لهم الدخول للحاجات بلا غرض، تذهب منفعة التضييق، فيكون المقصود بالعهد لما يرون من آثار الإسلام، وحسن رعاية أهل الإسلام، ويسمعون حججه وما به ظهور الحق فيه، رجاء أن يجيبوا، فلذلك يؤذنون، وإن كان في ذلك قضاء حاجاتهم.

وقد روي عن نبي اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه لم يكن يقاتل حتى يدعو؛ إلى الإسلام، فيما قد كان دعاهم غير مرة، فذلك المعنى عند الأمان أولى، واللّه أعلم.

قوله: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللّه} فالأصل أن حقيقة الكلام لا تسمع بالكلام نفسه؛ إذ الذي به يؤدي حروف الكلام بما يقلب الحروف ويؤلفه ولا صوت له يسمع؛ نحو

اللسان، والشفة، ونحو ذلك، وإنما يسمع بصوت يهيج من حيث الجارحة التي يتكلم وقوله فيبلغ كلامه أو حروف كلامه المسامع، فالسمع يقع على الصوت الذي به يدرك الكلام ويفهم، فصار سمع الكلام في الأصل مجازًا لا حقيقة؛ فعلى ذلك ما قيل من سماع كلام اللّه.

ثم هو يخرج على وجوه:

أحدها: أن يسمع المعنى الذي جعل له الكلام وهو الأمر، والنهي، والتحريم والتحليل، ونحو ذلك، وذلك مما ينسب إلى اللّه، فقيل بذلك كلام اللّه؛ لما إليه ينسب إلى الأمر به والنهي، ونحو ذلك.

والوجه الثاني: أن يكون اللّه ألفه ونظمه على ما أعجز خلقه عن مثله، فينسب إليه بما منه تأليفه على ما هو عليه، وإن كان مسموعًا من غيره؛ على ما تنسب القصائد إلى مبدعيها، والكتب إلى مؤلفيها، والأقاويل إلى الأوائل التي منهم ظهرت، وإن لم يكن الذي يقوله في الحقيقة قوله أو كلامه بما كان منه البداء الذي عليه يتكلم؛ فمثله معنى قوله: " حتى يسمع كلام اللّه ".

والثالث: أن يكون ذلك؛ لما بكلامه يعبر، وبه يوصف أن له كلامًا، وبه يرجع إلى ذلك، وإن كان اللّه - تعالى - يجل عن الوصف لكلامه بالحروف، والهجاء، والأبعاض، ونحو ذلك، فلما كان إليه المرجع، وإن كان حد ذلك غير متوهم هنالك ولا متصور، فنسب إليه؛ كما قال اللّه - تعالى -: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ}،

وقال: {خَلَقَكُمْ مِن تُرَابٍ}، من غير توهم كلية العالم في ذلك التراب أو النفس الواحدة؛ لما إليه مرجع الكل نسب إليه؛ فعلى ذلك أمر الكلام، وذلك على ما قيل من لقاء اللّه والمرجع إلى اللّه والمصير بما لا تدبير لأحد هنالك ذكر المصير إليه؛ لأن لذلك من صيرورة إليه - في الحقيقة - ورجوع لم يكن من قبل، فمثله لما قيل: كلام اللّه.

ثم اللّه - تعالى - يجل عن التصوير في الأوهام أو التقدير في العقول فعلى ذلك

صفته بل ذلك أحق وأولى، إذ نجد صفات الخلق لا تحد ولا تصور في الأوهام ولا تقدر بها العقول، إلا من طريق القول بالحقيقة لهم على ما هن أغيار لهم، فاللّه - تعالى - المتعالي عن التصور في الأوهام ووصفه بالعلم، والكلام، ونحو ذلك، أحق في إبطال توهم ذلك، فتدبر فيه.

وقال الثلجي: يقال: كلام اللّه، على الموافقة، لا على الحقيقة؛ كما يقال: ذا قول فلان، وكلام فلان، وليس غيره كلام المتكلم به، فالقائل الشاهد.

وقال أبو بكر: فهذا يدل على أن كلام اللّه يسمع من وجوه؛ فكأنه يذهب إلى مثل ما يقال: يعرف اللّه من وجوه، على تحقيق الوجوه، فمثله كلامه واللّه أعلم من غير توهم المعنى الذي به يعرف عن اللّه - سبحانه - كذلك سماع كلامه.

وفي قوله: {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} دلالة أنه لم يقبل ما سمع وعرض عليه؛ إذ لو قبل لكان يكون مأمنه هذه الدار، لا تلك، ولكان يحق عليه الخروج منها، لا العود إليها.

ثم معلوم أن كلام اللّه هو حجته، وأن الحجة قد لزمته؛ لوجهين:

أحدهما: ما ظهر عجز الخلق عن مثله، وانتشر الخبر في الآفاق على قطع طمع المقابلين لرسول اللّه بالرد، الباذلين مهجهم وما حوته أيديهم في إطفاء نوره، فكان ذلك حجة بينة لزمتهم.

والثاني: أن جميع ما يتلى منه لا يؤتى عن آيات إلا وفيها مما يشهد العقول على قصور أفهام الخلق عن بلوغ مثله من الحكمة وعجيب ما فيه من الحجة؛ مما لو قوبل بما فيه من المعنى وما يحدث به من الفائدة، ليعلم أن ذلك من كلام من يعلم الغيب، ولا يخفى عليه شيء، وإذا كان كذلك صار هو بالرد مكابرًا، وحق مثله الزجر والتأديب أنه لم يفعل ألما لم يكن يضمن أمانة القبول، ولا أن يعارضه بالرد، وذلك أعظم مما فيه الحدود، فالحد أحق ألا يقام عليه، واللّه أعلم.

ثم قوله: {أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} ويحتمل وجهين:

 أحدهما: أن يدعه ولا يمنعه عن العود إلى مأمنه؛ ليعلم أن حكم تلك الدار لم يزل عنه، وأنه لا تلزم الجزية إلا عن طوع أو دلالة عليه.

والثاني: أن يكون عليه حفظه إلى أن يبلغه مأمنه بدفع المسلمين عنه، وفي ذلك لزوم حق الأمان الجميع بإجارة بعض، وعلى ذلك كل مسلم.

ثم سماع كلام اللّه يخرج على القرآن، وفيه ما ذكرت من الدلالة، وعلى سماع أوامر اللّه ونواهيه في حق الفرض عليه، وعلى سماع حجج النبوة وآيات الرسالة والتوحيد من القرآن، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ}.

أي: ما لهم وما عليهم.

ويحتمل نفي العلم: بما لم ينتفعوا بما علموا.

ويحتمل ذلك تعليم من مع رسول اللّه كيفية معاملة الكفرة؛ إذ هم لم يكونوا يعلمون من قبل، واللّه أعلم.

٧

ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللّه وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللّه يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧)

هو - واللّه أعلم - أن كيف يستحقون العهد، وكيف يُعْطَى لهم العهد، وقد نقضوا العهود التي بينهم وبين ربهم وبين رسول اللّه؟!

فأما العهود التي بينهم وبين ربهم فهي عهد الخلقة؛ إذ في خلقة كل أحد الشهادة على وحدانية اللّه وألوهيته، والشهادة على الرسالة.

وما عهد إليهم في كتبهم من إظهار صفة مُحَمَّد ونعته للخلق، فنقضوا ذلك كله ونقضوا العهود التي بينهم وبين رسول اللّه ولم يحفظوها؛ يقول - واللّه أعلم -: كيف يستحقون أن يُعْطَى العهد لهم، وقد نقضوا العهد الذي عهد اللّه إليهم والعهود التي أعطاهم رسول اللّه؟! لا يستحقون ذلك، إلا أن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - بفضله وإحسانه أذن أن يعطي لهم العهود: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ}، أي: أوفوا لهم العهد إذا أوفوا لكم وإن انقضت المدة؛ يقول - واللّه أعلم -: إذا استقاموا لكم في وفاء العهد، فاستقيموا لهم في وفائه، وإن انقضت المدة.

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}.

استثنى الذين عاهدوا عند المسجد الحرام، يحتمل ألا يُعطى العهد إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام.

ويحتمل قوله: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ}، فإنهم إن وفوا لكم فأوفوا لهم، {إِنَّ اللّه يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} إن اللّه يحب من اتقى الشرك واتقى كل جور وظلم، واللّه أعلم.

٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (٨) يقول: كيف تعطون لهم العهد وكيف يستحقون العهد، ولو ظهروا عليكم لا يرقبون فيكم إلا ولا ذمة؟!

وقَالَ بَعْضُهُمْ: وكيف لا تقاتلونهم {وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً}، قال: الإل: اللّه، والذمة: العهد.

وقيل: الإل: القرابة.

وقيل: الإل: العهد، والذمة، وكذلك ذكر في حرف حفصة: {لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً}.

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الإل: العهد.

قال: ويقال: القرابة.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الإل: القرابة.

وقال أبو عبيدة: الإل: العهد، والذمة: التذمم.

 وقال ابن عَبَّاسٍ: الإل: اللّه، بمنزلة جبريل، تفسيره: عبد اللّه؛ لما قيل: جبريل هو عبد اللّه.

وقيل: الإل: الحرم؛ يقول: كيف تعطونهم العهد وهم وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم القرابة ولا العهد، ولا يرقبوا الحرم فيكم؟! وقد كانوا يحفظون فيما بينهم القرابة والرحم حتى يعاون بعضهم بعضا ويناصر، إذا وقع بين قرابتهم ورحمهم وبين قوم آخرين مباغضة وعداوة، وكانوا يرقبون حرم اللّه حتى لا يقاتلون في الأشهر الحرم وعند المسجد الحرام، وكانوا يحفظون العهود فيما بينهم من قبل، ولا يرقبونها فيكم ولا يحفظونها.

هذا - واللّه أعلم - تأويل قوله: {لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً}، وقد كانوا يرقبون من قبل.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ}.

بأنهم يوفون العهد ويحفظونه.

{وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ} إلا النقض.

وقوله: {وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} في نقض العهد.

والفسق: هو الخروج عن أمر اللّه؛ كقوله: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}.

٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللّه ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٩)

يحتمل: حججه وبراهينه.

ويحتمل: آيات القرآن ومُحَمَّد.

ويحتمل: آياته: دينه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ}.

أي: صدوا الناس عن متابعة النبي.

وقيل: صدوا الناس عن دين اللّه الإسلام.

{إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.

أي: بئس ما عملوا بصدهم الناس عن دين الإسلام ومتابعة مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، واللّه أعلم.

١٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ... (١٠) هذا قد ذكرناه.

 {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ}.

في نقض العهد، والاعتداء: هو المجاوزة عن الحد الذي جعل لهم.

١١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١)

قال بعض أهل التأويل: انظروا إلى كرم ربكم وجوده، قوم قد افتروا على اللّه كذبًا، وكذبوا رسول اللّه، وهموا بقتله وإخراجه من بين أظهرهم، وطعنوا في دينهم، وعملوا كل بلية من نصب الحروب والقتال فيما بينهم، ثم إنه وعدهم التوبة والمغفوة والتجاوز عما كان منهم بقوله: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}، وجعل فيما بينهم الأخوة والمودة بقوله: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ}،

وقال: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}،

وقال: {إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}، وغير ذلك من الآيات، وفيه أن من كان له بمكان آخر ذنب أو جفاء، فإذا رجع عن ذلك وتاب لزمه أن يتجاوز عنه وألا يذكر بعد ذلك ما كان منه من الذنب؛ على ما جعل اللّه فيما بين هَؤُلَاءِ الأخوة والمودة إذا تابوا،

وقال: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} وقد كان منهم ما كان، ومن حق الأخوة ألا يذكر ما كان منهم من المساوئ.

ثم قوله: {فَإِنْ تَابُوا} من الشرك وما كان منهم.

وقوله: {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ}.

يحتمل قوله: {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} وجهين:

الأول: يحتمل: الصلاة المعروفة والزكاة المعروفة، زكاة المال، وهو ما ذكرنا فيما تقدم من الإقرار بهما والاعتقاد والقبول لذلك دون فعلهما، وهو في الكبراء والقادة الذين كانوا يأنفون عن الخضوع لأحد، ولا يؤتون الزكاة، ولا يتصدقون؛ لما ظنوا أنهم يخلدون في الدنيا؛ إشفاقًا على أنفسهم.

والثاني: يحتمل أن يكون المراد من الصلاة: الخضوع والخشوع، لا الصلاة المعروفة، والمراد من الزكاة زكاة النفس وإصلاحها، فإن كان هذا فهو لازم في الأوقات كلها، ما من وقت إلا وله على كل أحد الخضوع له والخشوع له، ويزكي نفسه ويصلحها، وهو كقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا}.

وقوله: {وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي: نبين الآيات لقوم يعلمون ينتفعون بعلمهم.

 ويحتمل: {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي: لقوم إذا نظروا فيها وتدبروا يعلمون لا لقوم لا يعلمون.

١٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢) قوله: أيمانهم: العهود نفسها كقوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللّه إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}.

يحتمل قوله: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ} أيمانهم، أيمانًا يحلفونها بعد إعطاء العهد توكيدًا؛ لئلا ينقضوا العهد إذ عادتهم نقض العهد ونكثه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ} أطعنهم، في الدِّين ظاهر.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ}.

أي: أئمة الكفرة، وتخصيص الأمر بمقاتلة الأئمة؛ لما أن الأتباع أبدًا يقلدون الأئمة، ويصدرون عن آرائهم وتدبيرهم، فإذا قاتلوهم اتبع الأتباع لهم.

والثاني: لنفي الشبه أي: ليس الأئمة منهم كأصحاب الصوامع، وإن كانوا هم أئمة في العبادة، فلا تترك مقاتلتهم؛ كما تترك مقاتلة أصحاب الصوامع؛ لأن أصحاب الصوامع قد عزلوا أنفسهم عن الناس وعن جميع المنافع، وحبسوها للعبادة، والأئمة ليسوا كذلك.

والثالث: خصّ الأئمة بالقتال؛ لأنهم إذا قتلوهم لم يبق لهم إمام في الكفر، فيذهب الكفر رأسًا، وهو كقوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ. . .} الآية.

وقوله: {إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ}.

يحتمل: {لَا أَيْمَانَ لَهُمْ} أي: لا عهد لهم بعد نقضهم العهد، أي: لا توفوا لهم العهد الذي كان لهم إذا نقضوا.

 ويحتمل: {لَا أَيْمَانَ لَهُمْ} أي: لا يعطي لهم العهد مبتدأً بعدما نقضوا العهد؛ لأنهم اعتادوا نقض العهد.

والثاني: قال ذلك في قوم علم اللّه أنهم لا يؤمنون أبدًا.

وفيه لغة أخرى: {لَا إِيْمَانَ لَهُم}، بكسر الألف: {لَا إِيْمَانَ لَهُمْ} أي: لا يؤمنون أبدًا فإن كان كذلك وذلك في قوم علم اللّه أنهم لا يؤمنون أبدًا.

وفائدة قوله: {إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ} تخرج على وجهين:

أحدهما: أن أهل العهد إذا نقضوا العهد ينقض ذلك، ويتركون على النقض، ويقاتلون بعد النقض، وليس كأهل الذمة إذا نقضوا الذمة لا يتركون على ذلك، ولكن يردون إلى الذمة ولا تنقض الذمة فيما بينهم.

وقال الحسن: قوله: {لَا أَيْمَانَ لَهُمْ} يقول: لا تصديق لهم.

وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ}.

عن نقض العهد.

١٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّه أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣) أي: كيف لا تقاتلون قومًا نكثوا أيمانهم، وأيمانهم ما ذكرنا، وهو حرف الإغراء على مقاتلة من اعتقد نقض العهود والتحريش عليهم {وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ}.

يحتمل قوله: {وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ}: القتل، أي: هموا بقتله، وفي القتل

 إخراجه.

أو هو إخراجه من المدينة، على ما ذكر في بعض القصة: أن اليهود قالوا لرسول اللّه: إن مكان الأنبياء والرسل بيت المقدس، لا المدينة، فانتقل إليه.

وفي الآية دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه معلوم أنهم أسروا في أنفسهم وفيما بينهم إخراجه وقتله، لا أنهم أظهروا ذلك، ثم أخبرهم بذلك، دل أنهم إنما علموا أنه إنما عرف ذلك باللّه تعالى.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}.

يحتمل قوله: {وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} في نقض العهد، أي: هم بدءوكم بنقض العهد.

ويحتمل: بدءوكم بالقتال أول مرة والإخراج.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّه أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ} أي: لا تخشوهم واخشوا اللّه؛ فإنهم لا يقدرون أن تصل إليكم نكبة إلا بإقدار اللّه إياهم، فلا تخشوهم واخشوا اللّه.

ويحتمل قوله: {أَتَخْشَوْنَهُمْ} فاللّه القادر بنصركم وبقهر عدوكم {فَاللّه أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}: إذ هو القادر على منعهم عنكم ونصركم عليهم.

١٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّه بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤)

علم اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - كراهة القتل وثقله على الخلق، فأمر المؤمنين بمقاتلة الكفرة، ووعدهم النصر.

والتعذيب بأيديهم: يحتمل وجهين:

الأول: يحتمل: القتل والإهلاك.

والثاني: يحتمل الأسر والسبي.

{وَيُخْزِهِمْ} يحتمل أيضًا وجهين:

الأول: يحتمل: الهزيمة والإذلال.

والثاني: يحتمل قوله: {وَيُخْزِهِمْ}: في الآخرة؛ كقوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ}، الخزي: العذاب الذي فيه الفضيحة والذلة.

وفي قوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّه بِأَيْدِيكُمْ} دلالة نقض قول المعتزلة؛ لقولهم: إنه لا قدرة للّه على أفعال الخلق، وقد أخبر أنه يعذبهم بأيديهم، ولو كان غير قادر على

 أفعالهم، كان يعذبهم بيده لا بأيديهم.

{وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ}.

وعدهم النصر عليهم والظفر وخزي الكفرة، وهو ما ذكر: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللّه بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} وكذلك في قوله: {أَنْ يُصِيبَكُمُ اللّه بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا}، دلالة نقض قولهم أيضًا، لأنه أخبر أنهم يصيبهم العذاب من عنده أو بأيدي المؤمنين؛ كما ذكرناه.

وقوله: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ}.

يحتمل أن تكون قلوبهم توجعت وتألمت بكفرهم باللّه وتكذيبهم الرسول، فوعدهم شفاء صدورهم، وذلك يحتمل وجهين:

أحدهما: أنهم يسلمون، فيصيرون إخوانًا، فيدخل فيهم السرور والفرح بإزاء ما حزنوا وتألموا، وذلك شفاء صدورهم.

والثاني: يشف صدورهم بالقتل والهزيمة، يقتلون ويهزمون، ففي ذلك شفاء صدورهم، لما تألمت وتوجعت بالتكذيب والكفر باللّه وآياته.

١٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّه عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللّه عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥)

هذا يحتمل -أيضًا- وجهين:

يذهب الغيظ الذي كان في قلوبهم بتكذيبهم رسول اللّه وكفرهم بآيات اللّه بإسلامهم يسلمون فيكونون إخوانًا.

أو يقتلون ويهلكون فيذهب عنهم الغضب الذي كانوا غضبوا عليهم بالذي ذكرنا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَتُوبُ اللّه عَلَى مَنْ يَشَاءُ} أي: من شاء عذب، ومن شاء تاب عليه.

وفي الآية دلالة الرد على المعتزلة؛ لأنهم يقولون: شاء أن يتوب على جميع الكفرة، لكنهم لا يتوبون، فأخبر أنه يعذب بعضًا ويتوب على بعض، فإنما شاء أن يعذب غير الذي شاء أن يتوب عليه وشاء أن يتوب على غير الذي شاء أن يعذبه.

 {وَاللّه عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.

بما كان ويكون، أي: عن علم بما كان منهم خلقهم، لا عن جهل؛ إذ خلقه إياهم ليس لمنافع نفسه وحاجته، إنما خلقهم لحاجتهم ومنافعهم {حَكِيمٌ} وضع كل شيء موضعه.

ويحتمل: {عَلِيمٌ}: بما كان من هَؤُلَاءِ من التكذيب لرسول اللّه والكفر بآياته، {حَكِيمٌ} أي: فيما جعل عليهم من القتل والتعذيب والخزي كأنه وضع الشيء موضعه.

١٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّه الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ}.

وأيضًا قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّه الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}، وقوله أيضًا: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} الآية،

وقوله: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُترَكوا. . .} الآية هذه الآيات كلها في المنافقين الذين أظهروا الإيمان باللسان، وأروا المؤمنين الذين حققوا الإيمان وأخلصوا الإسلام الموافقة لهم، فقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا} على ما أظهرتم من الإيمان باللسان فلا تبتلون بالقتال؛ جعل للّه - تعالى - القتال مع الكفرة - واللّه أعلم - وأمر به لمعنيين:

أحدهما: تطهيرًا للأرض من الكفر؛ كقوله - تعالى -: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للّه}.

والثاني: امتحانًا للمنافقين؛ ليبين نفاق من أظهر الإيمان باللسان مراءاة، وصدق من أظهره حقيقة؛ ليعرف المحق المخلص من المنافق المرائي؛ لأن القتال هو أرفع أعلام يظهر بها نفاق المنافق؛ لأنهم إنما كانوا يظهرون الموافقة لهم؛ طمعًا في الدنيا؛ لتسلم

لهم المنافع التي كانوا ينتفعون بها، وفي الأمر بالقتال خوف الهلاك، فإذا خافوا الهلاك على أنفسهم امتنعوا عنه؛ كقوله: {قَدْ يَعْلَمُ اللّه الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} خوفًا وإشفاقًا على أنفسهم؛ لما ذكرنا أنهم إنما كانوا يظهرون الإيمان باللسان؛ ليسلم لهم ما طمعوا من المنافع؛ كقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّه عَلَى حَرْفٍ} الآية، هذا وصف المنافق.

وأما المؤمن المحق للإيمان، المخلص للإسلام: فإنه يسلم نفسه للّه في جميع أحواله، وإن كان فيه تلف نفسه؛ لما لم تكن عبادته للّه على حرف ووجه كالمنافق، ولكن على الوجوه كلها، والأحوال جميعًا، عبادته تكون للّه، لا يمنعه خوف الهلاك عن القتال؛ بل نفسه تخضع لذلك وترضى، ولا كذلك المنافق.

وقد ذكرنا أن حرف الاستفهام من اللّه يكون على الإيجاب والإلزام.

ثم قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ} يحتمل وجهين:

أحدهما: أي: قد حسبتم أن تتركوا على ما أظهرتم من الموافقة والخلاف في السر، ولا تبتلون وتمتحنون بما يظهر منكم ما أضمرتم، فلا تحسبوا ذلك.

والثاني: {أَمْ حَسِبْتُمْ} أي: لا تحسبوا أن تتركوا على ذلك، ولا تمتحنوا بالجهاد والقتال.

أحد التأويلين يخرج على النهي، والثاني على الإخبار عما حسبوا، وعما عندهم.

ثم قوله: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّه الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ}.

أي: ليعلم من قد علم أنه يجاهد مجاهدًا، ويعلم ما قد علم أنه يكون كائنًا، لا على حدوث علمه بذلك؛ إذ هو موصوف بالعلم بكل ما يكون في وقت ما يكون على ما يكون؛ فيكون قوله: ليعلم المجاهدين من كذا، وليعلم الصابرين من كذا؛ أي: ليعلم من قد علم أنه يجاهد مجاهدًا، وليعلم ما قد علم أنه يكون كائنًا؛ لأنه لا يجوز أن يوصف اللّه بالعلم بما ليس يكون أنه يعلمه كائنا، كما لا يجوز أن يوصف أنه يعلم من الجالس القيام في حال جلوسه، ومن المتحرك السكون في حال حركته، ومن المتكلم السكوت في حال كلامه، إنما يوصف بالعلم على الحال الذي عليه الخلق، لا يوصف بالعلم في حال غير الحال الذي هو عليه، واللّه الموفق.

ويحتمل هذا وجهًا آخر: أن فيما أضاف العلم إلى نفسه كان المراد منه أولياؤه؛

كقوله: {إِنْ تَنْصُرُوا اللّه يَنْصُرْكُمْ}، أي: إن تنصروا أولياءه ينصركم، أو إن تنصروا دينه ينصركم، أو إن تنصروا رسوله ينصركم؛ فعلى ذلك قوله: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّه الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ}، أي: ليعلم أولياءه المنافق المرائي، والمؤمن المحقق المخلص، وليبين لهم، كقوله: {يُخَادِعُونَ اللّه}، أي: يخادعون أولياءه إذ اللّه لا يخادع ولا ينصر؛ إذ هو ناصر كل أحد، ولا يخفى عليه شيء، عالم بما يكون في وقت ما يكون.

أو أن يكون المراد من العلم الذي ذكر المعلوم، وذلك جائز في اللغة جار، وفي القرآن كثير.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللّه وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً}.

أي: لم يجدوا ملجأ يلجئون إليه من دون ما ذكر، ولو وجدوا ذلك لاتخذوا ذلك، ولكن لما لم يجدوا لم يتخذوا؛ كقوله: (وَيَحْلِفُونَ بِاللّه إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً) الآية.

أخبر أنهم لو وجدوا ملجأ يلجئون إليه لولوا، ولا يظهرون ذلك.

وقوله: {وَلِيجَةً} قال بعض أهل الأدب: الوليجة: البطانة من غير المسلمين، وأصلها من الولوج، وهو أن يتخذ الرجل من المسلمين دخيلاً من المشركين وخليطًا ودودًا، وجمعه: الولائج.

وقال البعض: الوليجة أصلها من الدخول؛ كقوله: {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} يقال أيضًا: فلان وليجة فلان، أي: خاصته.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الوليجة: الخيانة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الوليجة: ما يلجأ إليه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة؛ وبعضه قريب من  بعض.

{وَاللّه خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.

هو على الوعيد خرج.

١٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللّه شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (١٧)

قال بعض أهل التأويل: نزلت الآية في العباس بن عبد المطلب أنه أسر يوم بدر، فأقبل ناس من المهاجرين والأنصار، منهم علي بن أبي طالب وغيره، وعيروه بالكفر باللّه، والقتال مع النبي، وقطيعة الرحم، فقال: ما لكم تذكرون مساوئنا وتذرون محاسننا؟! فقالوا: أَوَلكم محاسن؟ قال: إي واللّه، إنا لنعمر المسجد الحرام، ونحجب البيت، ونَسقي الحاج ونفك العاني. فأنزل اللّه ردًّا عليه.

لكن في آخر الآية دلالة أنه لا يحتمل أن تكون في العباس؛ على ما قالوا؛ لأنه

قال: {أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} والعباس قد أسلم من بعد، فلا يحتمل هذا الوعيد بعد الإسلام.

وقال غيرهم من أهل التأويل: قوله: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللّه}، أي: ما كان بالمشركين عمارة مساجد اللّه، إنما كان بهم خراب مساجد اللّه، إن المساجد إنما تعمر بالذكر فيها، والصلاة وإقامة الخيرات؛ كقوله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّه أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} الآية، وهم لم يعمروها لذكر اسم اللّه فيها، إنما عمروها لذكر الأصنام والأوثان، فكان بهم خراب المسجد، لا العمارة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللّه} على ما عندهم؛ لأن الذي منعهم عن الإيمان باللّه حبهم الدنيا وميلهم إليها، فما ينبغي لهم أن يعمروها وينفقوها، ويضيعوا أموالهم فيها، ولا ينتفعوا، أي الذي منعهم عن التوحيد والإيمان حبهم الدنيا، وشهواتهم، وميلهم إليها؛ فعلى ما عندهم ما ينبغي لهم أن يعمروها.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللّه} أي: ما كان على المشركين أن يعمروا مساجد اللّه؛ لأنهم لا ينتفعون بها في الآخرة، ولا يؤمنون بالآخرة، وإنما يقصد بعمارة المساجد والإنفاق عليها الثواب في الآخرة، وهم لا يؤمنون بها، فتضيع نفقتهم في ذلك؛ إذ لا مقاصد لهم ولا منفعة، إنما ذلك على المسلمين.

ويجوز " له " بمعنى عليه؛ كقوله: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}، أي: فعليها.

وقوله: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللّه} يحتمل هذا: أي: ما كان بالمشرك عمارة مساجد اللّه، إنما تكون عمارته بمن آمن باللّه واليوم الآخر، لا بمن أشرك باللّه وكفر بالآخرة.

وقوله: {شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ}

قَالَ بَعْضُهُمْ: {شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ}، أي: على نفس مُحَمَّد ومن آمن معه؛ سماهم أنفسهم؛ لأنهم من قرابتهم وأرحامهم، وقد سمى اللّه المتصلين بهم بذلك؛ كقوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ}

وقوله: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ}؛ فعلى ذلك الأول يحتمل ما ذكرنا.

أو {شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} عند الضرورات عند نزول العذاب بهم، وعند

 الهلاك؛ كقوله: {فَلَمَّا رَأَوا بَأْسَنَا} الآية، وغير ذلك من الأحوال التي كانوا يقرون بالكفر ويرجعون عنه، شهدوا عليهم بالكفر.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} أي أنفسهم، تشهد بالكفر عليهم؛ لأن خلقتهم تشهد على وحدانية اللّه، وأنفسهم تشهد على فعلهم بالكفر، وهو ما قال اللّه - تعالى -: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ}، قيل: بل الإنسان من نفسه بصيرة، أي: بيان من نفسه، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: [{أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ}]، إلى آخر الآية.

في قوم ماتوا على الكفر.

١٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّه مَنْ آمَنَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللّه فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨)

الوجوه التي ذكرنا في قوله: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللّه} إن لم يكن عليهم، فذلك كله على المسلمين أي: عليهم عمارة المساجد، وبهم تعمر المساجد، ولهم ينبغي أن يعمروها.

{وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} قد ذكرناه فيما تقدم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللّه}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: هو صلة قوله: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّه أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أمر أن يخشوا اللّه، ولا يخشوا غيره، ثم ذكر - هاهنا - {مَنْ آمَنَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللّه}.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الخشية: العبادة؛ كأنه قال: ولم يعبد إلا اللّه.

{فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} والعسى من اللّه واجب، أي كانوا من المهتدين.

١٩

وقوله: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ... (١٩)

في الآية إضمار فعل أو فاعل لكي تصح المقابلة؛ لأنه إنما يقابل فعل بفعل، أو فاعل بفاعل، لا يقابل فعل بفاعل، ولا فاعل بفعل، فهاهنا ذكر السقاية وعمارة المسجد مقابل من آمن باللّه، فهو - واللّه أعلم -: أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد كإيمان من آمن باللّه واليوم الآخر؟!

أو أن يقال: أجعلتم القائم بإصلاح سقاية الحاج وعامر المسجد الحرام كمن آمن باللّه واليوم الآخر؟! ليكون مقابلة شخص بشخص، أو فعل بفعل.

ثم لا يصح أن يجمع بين الكافر والمؤمن، فيقال: لا يستويان عند اللّه، وإن كان الكافر قد أتى بالمحاسن، إلا أن يقال: ليس من فعل محاسن في حال كفره ثم آمن من بعده كمن آمن وفعل محاسن وهو مؤمن، هذا يجوز أن يجمع فيقال: لا يستوون عند اللّه، وأما الكافر الذي مات على الكفر وإن عمل خيرات، والمؤمن الذي عمل الصالحات فمات على ذلك، فيجمع فيقال: لا يستويان فلا.

أو أن يقابل بالجهاد الذي ذكر: لا يستوي من بذل نفسه للقتل والتلف كمن سقى الحاج وعمر المسجد الحرام ولم يبذل نفسه لذلك؛ فأما أن يقال: لا يستوي الكافر والمؤمن، فذلك غير محتمل؛ لأنه إنما يقابل الشيء بالشيء إذا قرب بعضه من بعض، وأما عند البعد منه فلا يقال ولا يقابل.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاللّه لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.

ما داموا في ظلمهم، وما داموا اختاروا الظلم، لا يهديهم وقت اختيارهم الظلم، أو لقوم مخصوصين، وقد ذكرنا معناه في غير موضع.

٢٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّه بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللّه وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (٢٠) قوله: {آمَنُوا}، أي: صدقوا رسول اللّه في جميع ما يخبر عن اللّه أنه صادق، وفي جميع ما دعا إليه

وأمرهم به ونهاهم عنه أنه محق، وإلا كانوا مؤمنين باللّه؛ كقولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى}، وقولهم: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّه}، كانوا مؤمنين باللّه، لكنهم يكذبون الرسل ورسالتهم.

أي: فارقوا آباءهم وإخوانهم وعشيرتهم وأموالهم ومنازلهم وبلدهم، وهجروا جميع ما تحبه أنفسهم وتهواه، وتميل إليه القلوب مما ذكر في الآية التي تتلو هذه الآية، وفارقوا ذلك الكل؛ إشفاقًا على دينهم؛ ليسلم ما لو أعطوا قبل الإسلام الدنيا وما فيها مما أوعدوا بكل وعيد وخوف، ما فارقوا آباءهم وإخوانهم وعشائرهم وأولادهم الذين ذكر في الآية، ثم إذا أسلموا فارقوهم وأجابوا رسول اللّه في ذلك ابتغاء مرضاة اللّه، وطلبًا لرضوانه؛ ليعلم عظيم قدر الدِّين في قلوبهم، وخطير منزلته عندهم؛ ليعلم أن محن أصحاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أعظم وأشد من محننا؛ لأن محنهم كانت على خلاف عادتهم وخلاف ما طبعوا عليه؛ لأن الإنسان مطبوع على حب ما ذكرنا، مجبول عليه، فهم مع ذلك تركوا وفارقوا ذلك، وتحملوا كراهة ذلك؛ ابتغاء مرضاة ربهم.

وأما محننا: فإنها على سبق من العادة، فهي أهون وأيسر.

وقوله: {وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّه بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ}.

أي: بذلوا للّه ألذ الأشياء وأحبها وهي الأموال والأنفس.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللّه}.

قال بعض أهل التأويل: من صدقوا بتوحيد اللّه، وهاجروا إلى المدينة، وجاهدوا العدو بأموالهم وأنفسهم - أعظم درجة عند اللّه من الذين افتخروا بعمران البيت وسقاية الحاج وهم كفار.

وكذلك قالوا في قوله: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّه لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللّه} ولكن الوجه في ذلك عندنا ومعنى المقابلة: أُولَئِكَ الذين ذكر أعظم درجة عند اللّه من الذين أسلموا أمن بعد ولحقوا.

وقوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}.

 الفوز: هو الظفر في اللغة، أي: أُولَئِكَ هم الظافرون بنعيم اللّه وكرامته، والناجون من

٢١

عذاب اللّه ونقمته (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١)

يحتمل قوله: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ}: بالنصر لهم في الدنيا، والظفر لهم على عدوهم؛ كقوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّه بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ}، إلى آخر ما ذكر، كله إنما كان برحمته.

ويحتمل رحمة منه: الثواب لهم في الآخرة والكرامة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَرِضْوَانٍ}.

أي: يبشرهم -أيضًا- أن ربكم عنكم راض.

{وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ}.

٢٢

أي: يبشرهم بجنات لهم فيها نعيم مقيم دائم، وكرامة. (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّه عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢) قال الحسن: ما سمى اللّه عظيمًا فهو عظيم لا تدرك عظمته.

٢٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} تحتمل الولاية: الموافقة لهم في الحقيقة في الدِّين، ومن تولاهم - في الحقيقة - فهو منهم، وهو ظالم، فإن كان هذا فهو ظالم لا شك، فلم يكن لقوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} معنى.

وتحتمل الولاية: الموافقة لهم في الظاهر على غير حقيقة، لكن إظهار على غير

حقيقة يباح في حال إضرار عند خوف الهلاك وذهاب الدِّين، فيجوز أن يكون قوم أسروا الإيمان في أنفسهم وكتموه، ويظهرون الموافقة لهم في الظاهر؛ إشفاقًا على دينهم، وخوفًا على أنفسهم، فيباح لهم ذلك؛ لما ذكرنا.

فلما أن جعل اللّه الهجرة، وجعل للمؤمنين مأوى وأنصارًا يلجئون ويأوون إليهم - لم يعذروا في إظهار الموافقة لهم، وإن كانوا في السر ليسوا على دينهم؛ لما ذكرنا.

فهذا يدل على أن من أجرى كلمة الكفر على لسانه في غير اضطرار يصير كافرًا؛ على ما جعل هَؤُلَاءِ أولياء الكفرة حقيقة ظلمة مثلهم إذا تولوهم في الظاهر، وإن لم يكونوا في الحقيقة كذلك، وهذا أشبه، وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ. . .} الآية، لم يعذروا في تركهم الهجرة؛ فعلى ذلك هَؤُلَاءِ إذا أظهروا الموافقة لهم بعد ما جعل لهم المأوى والأنصار، صاروا هم - في الحقيقة - كذلك، نهانا عن موالاة الكفرة جملة بقوله: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ}

وقال: {لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ}،

وقال: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} هذا النهي لنا في جملة الكافرين، ثم نهانا عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء؛ كقوله: {لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ}، ثم نهانا أن نوالي المتصلين من الآباء والأمهات وغيرهم من القرابات؛ لما تقع الشبه في موالاة المختصين بهم، فخص النهي فيه، وكذلك في تخصيص اليهود والنصارى؛ لما بيننا وبينهم موافقة في التوحيد والكتب، فخص النهي في ذلك.

ثم الولاية التي نهانا عنها تخرج على وجوه:

 أحدها: المودة والمحبة، أي: لا تودوهم ولا تحبوهم.

والثاني: ألا نتخذهم موضع سرنا وبطانتنا؛ كقوله: {لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً. . .} الآية.

والثالث: ولاية الطاعة لهم، أي: لا تطيعوهم؛ كقوله: {إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ} الآية،

وقوله: {إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ}، نهانا أن نحبهم ونودهم، ونهانا -أيضًا- أن نتخذهم موضع سرنا، ونفشي إليهم سرائرنا، ونهانا أن نطيعهم فيما يدعوننا إليه ويسرون - واللّه أعلم - للخلاف الذي بيننا وبينهم في الدِّين.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ}.

أي: اختاروا الكفر على الإيمان، والمحبة - هاهنا - محبة الاختيار والإيثار.

٢٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا ... (٢٤)

هو مقابل قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّه بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ}، إلى آخره.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} وما ذكر، أي: إن كان طاعة هَؤُلَاءِ ورضاهم أححت إليكم من طاعة اللّه وطاعة رسوله ورضاه، وأحب من جهاد في سبيله {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللّه بِأَمْرِهِ}: هو حرف وعيد، أي: انتظروا {حَتَّى يَأْتِيَ اللّه بِأَمْرِهِ}، أي: بعذابه.

وقال أهل التأويل: حتى يأتي بأمره في فتح مكة.

ودل ما ذكر في قوله: {إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} على أن المراد من قوله: {لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ} الآباء والأبناء جميعًا، {وَإِخْوَانَكُمْ} الإخوان، وجميع المتصلين بهم؛ دليله ما ذكر في آخره؛ حيث قال: {إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ}، ذكر الأبناء والأزواج والعشيرة، واللّه أعلم.

وقوله: {وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: اكتسبتموها.

وقال أبو بكر الأصم: {وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا}، أي: أموال جعلوها حلالًا وحرامًا، ويقولون: اللّه أذن لنا في ذلك؛ كقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللّه لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللّه أَذِنَ لَكُمْ}.

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا}.

كانوا يخشون فواتها وذهابها، لا الكساد؛ إذ في الهجرة تركها رأسًا.

٢٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّه فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ}.

أي: نصركم في مواضع كثيرة كان فزعكم إلى اللّه - تعالى - ونصركم يوم حنين -

أيضًا - بعد ما هزمكم العدو بإعجابكم بالكثرة فصرفكم الفزع إلى اللّه، ونصركم - أيضًا - يوم حنين. {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا}.

يعني: الكثرة.

يذكرهم - عَزَّ وَجَلَّ - منته عليهم وفضله أن النصر والظفر متى كان إنما كان باللّه، لا بكثرتهم وقوتهم؛ لأنه لو كان على الكثرة لوكلوا إليها.

فَإِنْ قِيلَ: قد أمرنا بأخذ العدة والقوة ما استطعنا بقوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ. . .} الآية، فإنما أمرنا بما يعجبنا، فما معنى النهي عن الإعجاب بالكثرة والقوة؟ وكذلك نهانا عن التأسي على ما فاتنا، ونهانا أن نفرح بما يؤتينا، وقد كلفنا الشكر لما آتانا، والصبر على ما فات منا، فلو لم نفرح بما آتانا لم يلزمنا الشكر، ولا الصبر بما فاتنا، فما معناه؟

معناه - واللّه أعلم - أنه نهانا أن نفرح بما يؤتينا لنفس الإيتاء، ونتأسى لنفس ما يصيبنا ويفوتنا، إنما علينا أن نفرح بفضل اللّه ومنته الذي من علينا وخصنا به، وعلى ذلك نشكره، وعلى ذلك الصبر بما يصيبنا ويفوتنا؛ لما جعل لنا لذلك ثوابًا في الآخرة وأجرًا عظيمًا، وكذلك الكثرة، أمرنا بها، فإذا آتانا ذلك يعجبنا فضل اللّه ومنته في تلك الكثرة، لا الكثرة لنفسها والقوة، واللّه أعلم.

فَإِنْ قِيلَ: الإعجاب بالكثرة كان من بعضهم، لا من الكل، فكيف هزم الكل؟ وكذلك العصيان يوم حنين إنما كان من بعض، كيف عاقب الجميع؟

قيل: لأن له أن يتلف الكل ابتداء.

ألا ترى في أمر الواحد القيام لاثنين ثم في الأمر بالجهاد أمرًا على غير وسع، ولا كذلك في سائر العبادات؛ لأنه أمر الواحد القيام لاثنين منهم، وليس في وسع أحد القيام لاثنين، فهو - واللّه أعلم - لما أن له أن يكلف قتل أنفسهم وإتلافها.

ألا ترى أنه قال: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ. . .} الآية، ولو لم يجز له أن يكتب قتل أنفسهم لم يكن ليذكره، دل أن ذلك له، وأن له أن يميتهم ويهلكهم؛ فعلى ذلك له أن يأمر بقتل أنفسهم، فإذا كان له ذلك؛ إذ في وسعهم قتل أنفسهم؛ فعلى ذلك له أن يكلف الواحد القيام لاثنين ولعدد، وإن كان في ذلك تلف أنفسهم.

وكذلك أمرنا بمجاهدة الشيطان عدونا، وأخبر أنه يرانا ولا نراه نحن بقوله: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ}، والمحاربة مع عدو لا نراه وهو يرانا أمر صعب شديد، لكن اللّه علمنا أسباب ما نحارب معه ونجاهد فنغلبه، وقال في الشيطان: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّه}،

وقال: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا} الآية، علمنا أسبابًا نقاتل بها الشيطان فنغلبه ونقهره، وهي ما ذكر من ذكره لا يقوم هو لذلك، وكذلك قال في العدو الذي نراه من البشر؛ حيث قال: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللّه كَثِيرًا}،

وقال: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللّه مَعَ الصَّابِرِينَ}، قد علمنا أسباب الجهاد معه، وأعلمنا الحيل التي تجوز لواحد القيام لاثنين فصاعدًا بالحيل، وإذا لم يكن له الوسع به بالقوة نفسها.

ثم الفرق بين الجهاد وغيره من العبادات؛ لما يحتمل أن جعل اللّه الجهاد آية من آيات الحق والرسالة؛ ليعلم الخلائق أن النصر والظفر كان باللّه، لا بغيره؛ ليظهر الحق من الباطل، والمحق من المبطل، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ}.

هذا على التمثيل؛ يقال عند شدة الحزن والغضب وعند بلوغها الغاية والنهاية:

 ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، يقال ذلك، لسعة الأرض في أوهام الخلق.

٢٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ أَنْزَلَ اللّه سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (٢٦)

قَالَ بَعْضُهُمْ: السكينة: الملائكة؛ كقوله: {وَمَا جَعَلَهُ اللّه إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ. . .} الآية.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {أَنْزَلَ اللّه سَكِينَتَهُ}، أي: نصرته.

وقيل: وقاره.

وقيل: رحمته.

وقيل: طمأنينته.

وأصله: سكنت قلوبهم واطمأنت بعد شدة الخوف والحزن بأي وجه ما، تسكن بالملائكة أو بغيرها، فأسكن قلب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما اشتد عليه رجوع أصحابه ومفارقتهم إياه {وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا}: وهم الملائكة، {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا}: بالقتال والهزيمة، وذلك جزاؤهم.

وفي قوله: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللّه سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأنه سماهم مؤمنين بعد ما كان منهم التولي، والتولي لم يخرجهم من الإيمان على ما قالوا.

٢٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} اختلف فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: النهي عن دخول المسجد الحرام نفسه.

وعندنا أن النهي عن دخول المسجد الحرام نهي عن دخول مكة

نفسها للحج وإقامة العبادات؛ دليله وجوه: أحدها: قوله: {بَعْدَ عَامِهِم هَذَا} ولو كان لدخول المسجد، لكان ذلك العام أحق عن المنع في دخوله من غيره.

والثاني: قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ}.

والثالث: قوله: " ألا لا يحجن بعد العام مشرك ". وفي آخر الآية دلالة ذلك؛ لأنه قال:، {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ} وخوف العيلة إنما يكون عن دخول مكة؛ لأنه لو كان النهي عن دخول المسجد نفسه، لكان لا خوف عليهم في ذلك؛ لأنهم يحضرون ويدخلون مكة للتجارة، فلا خوف عليهم في ذلك.

أو أن يقال: إنه ذكر المسجد الحرام؛ لما أنهم كانوا يقصدون البيت والحج به، فيكون النهي عن دخول المسجد نهيًا عن الحج نفسه، وهو ما روي في الخبر أنه بعث عليًّا في الموسم بأربع، وأمره أن ينادي في الناس ألا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ومن كان بينه وبين رسول اللّه عهد فاجله إلى مدته، فإذا مضت مدته فإن اللّه بريء من المشركين ورسوله، ولا يطوفن بالبيت عريان، ولا يحج بعد العام مشرك.

فالنهي الذي ورد عن دخول المسجد إنما هو نهي عن الحج نفسه؛ لأن البيت هو الذي يقصد إليه فيه.

ألا ترى أنه قال: {وَللّه عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ. . .} الآية،

وقال: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ. . .} الآية،

وقال: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}، ذكر البيت، وهو المقصود بالحج في الإسلام والكفر جميعًا؛ فعلى ذلك خرج النهي، لكنه ذكر المسجد؛ لما أن البيت فيه.

فإذا كان ما ذكرنا: فإن شئت فاجعل آخر الآية تفسير أولها، وهو قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ}، وهو ما ذكرنا أن النهي لو كان لدخول المسجد

نفسه دون غيره من البقعة، لكان ليس عليهم خوف العيلة؛ لأنهم يدخلون مكة، ويتجرون فيها، ولا يدخلون المسجد.

وإن شئت فاجعل أول الآية تفسير آخرها، وهو قوله: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} وهو ما ذكرنا.

فإذا كان ما ذكرنا، دل أن المشرك لا يدخل المسجد الحرام، وخبر علي بن أبيِ طالب - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أيضًا يدل على ذلك، فأما من كان من أهل الذمة والعبيد منهم: فليسوا - واللّه أعلم - بداخلين في الآية إذا كانوا ممن لا يحج.

فَإِنْ قِيلَ: فقد روي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه نادى: ألا لا يدخل الحرم مشرك، ولم يذكر الحج.

قيل له: روي عنه أنه قال: ناديت ألا يحج بعد العام مشرك؛ فيكون قوله: لا يدخل الحرم مشرك؛ على الحج؛ على ما ذكرنا.

وقد روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه رخص في دخول المسجد للعبيد والإماء، وروي عن جابر بن عبد اللّه عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " لا يقرب المشركون المسجد الحرام بعد عامهم هذا، إلا أن يكون عبدًا أو أمة ". يحتمل استثناء العبد والأمة؛ لأن العبد لا يدخل للحج ولإقامة العبادة، إنما يدخل لخدمة المولى إذا كان مسلمًا.

وفي بعض الأخبار: " أو أحدًا من أهل الذمة ".

وعن جابر بن عبد اللّه موقوفًا كذلك: " أو أحدًا من أهل الذمة ".

وفيه دلالة لقول أبي حنيفة - رحمه اللّه -: " أن لا بأس للكافر أن يدخل المسجد "،

وقال: أرأيت لو أراد أن يسمع كلام اللّه ليؤمن فيمنع عن ذلك، ويؤمر الْمُستمعُ إتيان ذلك المشرك فيسمع كلامه، فيكون الآمر إبلاغ المأمن لذلك المشرك الإمام دل أنه لا بأس لذلك.

وقد ذكرنا أن ليس في ظاهر الآية دلالة النهي عن دخول المسجد؛ بل المراد من ذكر المسجد ما ذكرنا من الحج وإقامة العبادة لغير اللّه.

ألا ترى إلى قول اللّه: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} وأن سبيل مكة كلها هذا السبيل، وكذلك قوله: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} والحرم كله منحر؛ إلا أن المعنى في ذلك - واللّه أعلم - ما ذكرنا ألا يدخل المشركون حجاجًا؛ ألا ترى أنا نعلم أن المشركين لم يزالوا مقيمين في الحرم بعد النداء، ولم يخلو عنه.

ومما يدل على ذلك -أيضًا- قول اللّه: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ}، فإن كان يعني به موضع العهد، فإن ذلك العهد يوم الحديبية عند الشجرة، فقد صار ذلك الموضع من المسجد الحرام، وهو في المسافة بعيد منه، وإن كان يعني به الذين عوهدوا، فإنهم كانوا يوم نادى علي - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - فذلك خارج من مكة؛ لأن أهل مكة فد كانوا أسلموا قبل ذلك حين فتحها النبي، فحاضري المسجد الحرام هم من كان نازلًا خارج مكة في الحرم وما حوله.

وقوله: " ولا يقرب المسجد الحرام مشرك ".

يخرج على وجوه:

أحدها: لا تدعوهم يقربوا المسجد الحرام.

والثاني: قولوا لهم: لا تقربوا المسجد الحرام.

والثالث: على البشارة؛ أي: إذا قلتم لهم ذلك فلا يقربوا بعد ذلك.

وقوله: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} أي: أفعال المشركين نجس، والعبادات التي يأتون فيها نجس، وهو ما ذكر حيث قال: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} صير عمل الشيطان رجسًا؛ فعلى ذلك العبادات التي يقيمونها نجسة، فالنهي عن الحج نهي عن إقامة العبادات لغير اللّه؛ لأن تلك البقعة نزهت عن إقامة العبادة لغير اللّه.

ثم اختلف في قوله: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}

قَالَ بَعْضُهُمْ: هو نجس الأفعال.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو نجس الأحوال.

والأشبه أن يكون نجس الأفعال؛ لأن قوله: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} يخرج مخرج الذم، ولا يحتمل أن يذموا ويشتموا بنجاسة الأحوال؛ دل أنه إنما لحقهم ذلك الذم بما اكتسبوا من الأفعال الذميمة، وهو كقوله: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}، رجس نجس؛ فعلى ذلك جائز أن يكون قوله: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}، أي: نجسة الأفعال؛ لأن ذلك من كسبهم، فاستوجبوا المذمة لكسبهم، وأما الأحوال فلا صنع لهم فيها.

وقوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ}.

قيل: خافوا من العيلة لما نُفي المشركون من مكة؛ لأن معايش أهل مكة إنما كانت من الآفاق، وبأهل الآفاق كانت سعتهم وتجارتهم، لكن اللّه وعدهم السعة والغنى بقوله: {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ}،

قَالَ بَعْضُهُمْ: دل قوله: {إِنْ شَاءَ} على أنه إنما وعدهم الإغناء في بعض الأوقات.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {إِنْ شَاءَ} كان من رسول اللّه؛ لأنه أمر رسوله أن يعدهم الإغناء، وهو مأمور أن يستثني في جميع ما يعده؛ بقوله: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللّه).

ويحتمل أن يكون قوله: {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ}: بهَؤُلَاءِ الذين نفوا

 عنه؛ لأنه حبب إليهم التجارة والمكاسب وما ينالون الأرباح بها يحملهم ذلك على الإسلام فيسلمون، فيدخلون فيها يحملهم حب التجارة على الإسلام، فيكون لهم بهم غنى، كما كان يحملهم حب التجارة والربح على الهجرة،

وقوله: {وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا}، فعلى ذلك الأول.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ}: الجزية التي ذكرها في الآية التي تتلو هذه.

وقوله: {إِنَّ اللّه عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.

بما أضمروا من خوف العيلة أو {عَلِيمٌ} بما لهم وعليهم، وممن يكون لهم الغنى.

قوله تعالى: {حَكِيمٌ} في أمره وحكمه.

وفي قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه معلوم أنهم أضمروا ذلك في أنفسهم، ثم أخبرهم رسول اللّه بذلك؛ دل أنهم علموا أنه إنما عرف ذلك باللّه.

٢٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّه وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (٢٩)

ذكر أهل الكتاب اليهود والنصارى، أخبر أنهم لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر؛ وهم في الظاهر يقرون بوحدانية اللّه واليوم الآخر فما المعنى منه؟!

قيل: هم وإن آمنوا في الظاهر باللّه واليوم الآخر، فإنما يؤمنون بإلهٍ له ولد كما ذكره على أثره، وهو قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّه وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّه} فالإيمان بإلهٍ له ولد ليس بإيمان باللّه، فهم غير مؤمنين، وكذلك آمنوا بالبعث واليوم الآخر، ولكن لم يؤمنوا بالموعود في الآخرة، فالإيمان باليوم الآخر بغير الموعود فيه ليس بإيمان به.

أو أن يقال: إنهم وإن أقروا بما ذكرنا وآمنوا به، فقد استحلوا أشياء حرمها اللّه عليهم، وحرموا أشياء أحلها اللّه لهم، ومن آمن بالكتب كلها والرسل ولم يؤمن بآية منها أو برسول منهم، فهو غير مؤمن باللّه واليوم الآخر ولا مصدق له.

وقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ. . .} إلى آخر الآية.

فإن قال لنا ملحد: إنكم تقاتلون الكفرة للكفر، ثم إذا أعطوكم شيئًا من المال تركتم مقاتلتهم، فلو كان قتالكم إياهم لذلك لا لطمع في الدنيا، لكنتم لا تتركون مقاتلتهم لشيء يبذلونكم، وكذلك لو كانت المقاتلة للكفر نفسه، لكان النساء في ذلك والرجال سواء؛ إذ هم في الكفر شرعًا سواء.

وقالوا: لو كانت المقاتلة معهم لما ذكرنا، وهو حكمة، والآمر بذلك حكيم لكان الناس جميعًا في ذلك سواء، ولا تتركون أحدًا لشيء من ذلك؛ بل يقاتلون أبدًا ولا ترضون منهم غيره.

فيقال لهم: إنا لن نقاتل الكفرة للكفر، ولكنا ندعوهم إلى الإسلام، فإن أجابوا إلى ذلك وإلا قتلناهم ليضطرهم القتل إلى الإسلام؛ لهذا ما نقاتلهم لشيء سواه فإذا كان في أخذ الجزية، معنى ما ندعوهم إلى الإسلام، فإذا قبلوا ذلك تركناهم على ذلك؛ لعلهم يرغبون في الإسلام إذا رأوا شرائعنا وأحكامنا؛ لا أنا تركناهم رغبة فيما نأخذ منهم أو طمعًا في ذلك.

وأصله المحنة؛ إذ الدار دار المحنة، ليست بدار الجزاء، والمحنة تكون بمختلف الأشياء لا يجوز تلفها؛ مرة يمتحنهم بالقتال، ومرة بأخذ الأموال، ومرة بالشدائد؛ كقوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ. . .} الآية،

وقوله: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ}،

وقوله: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ}، ونحو ذلك، فإذا كان ذلك محنة لا جزاء جاز ذلك، وكان ذلك حكمة.

وأما قولهم بأنا نقاتل الرجال ولا نقاتل النساء ونسترقهن؛ لأنهن أتباع الرجال في جميع الأحوال وخدم لهم، فإذا أسلموا أسلمن؛ هذا معروف فيما بينهم؛ إذ هن في أيدي الرجال يفعلون بهن ما شاءوا، وأصله ما ذكرنا أن القتال محنة، ليس هو جزاء الكفر؛ إذ الدار دار محنة، فله أن يمتحن بعضًا بالقتل، وبعضًا بأخذ المال، وبعضًا لا بذا ولا ذاك،

ولو كان جزاء لسوى بينهم، وهو التخليد في النار أبدًا.

فَإِنْ قِيلَ: ما الحكمة في أخذ الجزية من سائر الكفرة إذا كانوا أهل الكتاب أو المجوس، وترك الأخذ من مشركي العرب؟

قيل: لوجوه:

أحدها: أن ليس لمشركي العرب دين يدينون به يقاتلون عن ذلك الدِّين، ولا لهم أصل يعتمدون عليه، أو كتاب يكلون إليه، إنما هم قوم يقاتلون عن قبائلهم، ويتناصرون بهم، ولغيرهم من الكفرة دين يدينون به، وأصل يعتمدون عليه، ويحاجون الناس بالحجاج التي

لهم؛ فإذا كان كذلك، أمكن إقامة الحجج على هَؤُلَاءِ، وإلزام البراهين، ولا كذلك مشركو العرب؛ إذ لا دين لهم ينسبون إليه، ولا مذهب يدعون غيرهم إليه بالحجاج، وأمكن في غيرهم؛ لذلك افترقا، واللّه أعلم بذلك.

والثاني: أنهم تمنوا أن يكون لهم رسول من جنسهم يتبعونه فيما يدعوهم إليه، ونذير يجيبونه، حتى أقسموا على ذلك، وأكدوا القول في ذلك؛ كقوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللّه جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} الآية، ولم يكن من غيرهم من الكفرة ما كان منهم؛ فإذا كان كذلك فهم يقاتلون أبدًا حتى يوفوا ما وعدوا؛ كقوله: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ}.

والثالث: لفضل رسول اللّه؛ إذ كان منهم ومن جنسهم، فلا يترك أحد في تلك البقعة على غير دينه.

وأمكن أن يكون وجه آخر: وهو أن مشركي العرب في حد القليل أمكن المقاتلة معهم والقيام لهم؛ فلا يرضى منهم إلا الإسلام، وأما غيرهم من الكفرة في بقاع مختلفة: فهم كثير، إذا اجتمعوا لم يكن في وسع أهل الإسلام القيام لهم والقتال معهم، فيلحق المسلمين في ذلك ضرر بين؛ لذلك كان ما ذكر.

وقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ. . .} الآية.

قد ذكرنا أنهم وإن كانوا يؤمنون باللّه واليوم الآخر عند أنفسهم أنهم - في الحقيقة - غير مؤمنين؛ لأن شرط إيمانهم الإيمان بالرسل جميعًا والكتب أجمع، فهم قد تركوا الإيمان ببعض الرسل، وببعض الكتب، ومن كفر برسول من الرسل، أو بكتاب من الكتب، أو بحرف منها - كان كافرًا باللّه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّه وَرَسُولُهُ}.

يحتمل أنهم لا يحرمون تحريف الكتب وكتمان نعت رسول اللّه، واللّه حرم ذلك عليهم.

أو لا يحرمون عبادة الأوثان، واللّه ورسوله يحرم ذلك.

أو لا يحرمون ما حرم اللّه ورسوله من الخمر والخنزير وغيره، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ}.

وهو الإسلام؛ لأنه دين توجبه العقول كلها، وتشهد به خلقة الخلائق كلها.

أو أن يقول: لا يدينون دين الذي له الحق، إنما يدينون بدين الذي لا حق له، وهو دين الشيطان، وهو ما يدعوهم إلى عبادة الأصنام، فيجيبونه، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}.

يحتمل قوله: {يُعْطُوا الْجِزْيَةَ}، أي: يقبلوها، لا على الإعطاء نفسه، وهو ما ذكرنا في قوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ}، هو على القبول لها، لا على الفعل نفسه.

ويحتمل: نفس الإعطاء، وهو - واللّه أعلم - لما جعلت الجزية لحقن الدماء، فتقدم؛ لتحقن بها الدماء.

وقوله: {عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}

قَالَ بَعْضُهُمْ: {عَنْ يَدٍ}، أي: لا يؤخر قبضها عن وقت قبولها؛ بل تؤخذ يدًا بيد،

وقَالَ بَعْضُهُمْ: عن يد، أي: عن قهر وغلبة.

وقيل: {عَنْ يَدٍ}، أي: عن طوع وطيب.

وقيل: عن جماعتهم.

لكنا لا ندري ما يعنون بالجماعة.

وقوله: {صَاغِرُونَ} قيل: ذليلون، وهو من الذل؛ يقال: صغر الرجل يصغر صغارًا، فهو صاغر، أي: ذل؛ فهو ذليل.

وقيل: {صَاغِرُونَ} أي: مذ مو مون.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: يمشون بها متبلين.

وأصله: الذلة، وهو الخضوع - واللّه أعلم - الذلة التي ذكر اللّه في قوله: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا}، فإذا قبلوا ذلك، فقد أذعنوا بالذل والصغار.

وقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللّه. . .} الآية، أما اليهود والنصارى: فلا خلاف بيهن أهل العلم في أن من بذل منهم الجزية، أخذت منه وأقر على دينه.

وأمّا المجوس: فإنه تؤخذ منهم الجزية؛ لما روي عن عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قال: ما أدري ما أصنع بالمجوس فإنهم ليسوا بمسلمين، ولا من أهل الكتاب قال عبد الرحمن بن عوف: أشهد أني سمعت رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب ".

وفي بعض الروايات: أشهد أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أخذ الجزية من مجوس هجر.

وعن علي أن أبا بكر وعمر أخذا الجزية من المجوس. وقال علي ابن أبي طالب: أنا أعلم الناس بهم، كانوا أهل كتاب يقرءونه، وأهل علم يدرسونه، فنزع ذلك من صدورهم. وعن أبي رزين عن أبي موسى قال: لولا أني رأيت أصحابي أخذوا الجزية من المجولس ما أخذتها.

وعن أبي عبيدة بن الجراح قال: كتب النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى المنذر: " من استقبل قبلتنا،

وصلى صلاتنا، وأكل ذبيحتنا - فذلك المسلم الذي له ذمة اللّه وذمة رسوله، ومن أحبَّ ذلك من المجوس فهو آمن، ومن أبى فعليه الجزية ".

وفي بعض الروايات: " استقبل قبلتنا، وصلى صلاتنا، وأكل ذبيحتنا، له ما لنا، وعليه ما علينا، ومن ترك ذلك فعليه الجزية ".

وعلى ذلك مضت الأئمة، ولم ينكر أحد من السلف، حتى قال قوم في المجوس: إنما أخذت منهم الجزية؛ لأنهم أهل كتاب، فأحلوا ذبائحهم ونساءهم، وذهبوا إلى ما روي عن علي.

وقال آخرون: ليسوا من أهل كتاب، ولكن الجزية تؤخذ منهم؛ اتباعًا لقول رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم، ولا آكلي ذبائحهم "، وما روي عن الصحابة وأئمة الهدى.

ثم المسألة في تقدير الجزية:

روي في بعض الأخبار عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه بعث معاذًا إلى اليمن، فقال له: " خذ من كل حالم دينارًا أو عدله معافريا ".

وروي عن عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه بعث عثمان بن حنيف إلى السواد، وأمره أن يضع على أهل السواد الخراج ثمانية وأربعين درهمًا، وأربعة وعشرين درهمًا، واثني

عشر درهمًا.

وفي بعض الروايات أنه ضرب على أهل الذهب أربعة دنانير، وعلى أهل الوَرِق أربعين درهمًا وجعل مع ذلك إرزافًا للمسلمين، وضيافة ثلاثة أيام.

وأصحابنا يجعلونهم ثلاث طبقات: أغنياء، وأوساطًا، وفقراء، فيأخذون من الغني

الموسر ثمانية وأربعين درهمًا، ومن الوسط أربعة وعشرين درهمًا، ومن الفقير المحترف اثني عشر درهمًا.

وفي بعض الأخبار: أربعين درهمًا وأربعة دنانير، وضيافة ثلاثة أيام وعشرين درهمًا

ودينارًا، وهو ما ذكرنا ثمانية وأربعين بغير الضيافة وغير المؤنة.

وما روي من أربعين درهمًا أو أربعة دنانير مع الضيافة والرزق الذي ذكر في الخبر، وهذا من عمر بحضرة المهاجرين والأنصار، فلم يأت عن أحد منهم النكير عليه ولا الرد،

فهو كالاتفاق منهم على ذلك.

ثم لا يحتمل أن يكون عمر قدر ذلك التقدير رأيًا منه؛ لأن المقدرات والمحدودات سبيل معرفتها التوقيف والسمع، لا العقل؛ فهو كالمسموع عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -

وما روي من حديث معاذ حين أمره النبي - عليه السلام - أن يأخذ من أهل اليمن من كل حالم دينارًا، فذلك يحتمل أن يكون أمر بذلك؛ لما كانوا أهل ضعف وفقر، على ما روي عن عمر في الضعفاء من أهل مصر والشام، وليس هو الحد الذي لا يلزم أكثر من ذلك؛ لما ذكرنا أن عمر ألزم المياسير أكثر من دينار، ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة؛ فدل فعلهم على ما وصفناه.

ثم المسألة في تمييز أصحاب الطبقات بين الموسر الغني، وبين الوسط والفقير.

قَالَ بَعْضُهُمْ: الفقير: من يحترف وليس له مال تجب في مثله الزكاة على المسلمين، وهم الفقراء المحترفون، فمن كانت له أقل من مائتي درهم فهو من أهل هذه الطبقة، والطبقة الثانية: أن يبلغ مال الرجل مائتي درهم.

فقَالَ بَعْضُهُمْ: إذا بلغ ماله أربعة آلاف درهم وزاد عليها، صار من أهل الطبقة الثالثة، واحتجوا بقول علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - وابن عمر؛ حيث قالا: أربعة آلاف فما دونها نفقة، وما فوق ذلك كنز.

وقد يجوز أن يجعل الطبقة الثانية من ملك مائتي درهم إلى عشرة آلاف درهم، وما زاد على ذلك يجعل من الطبقة الثالثة؛ لحديث روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - برواية أبي هريرة قال: " من ترك عشرة آلاف درهم، جعلت صفائح يعذب بها يوم القيامة ".

ثم في قوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} دلالة على أن الجزية إنما تؤخذ ممن يجب أن يقاتل إن لم يبذلها، والنساء والصبيان ألا يقاتلون، ولا يفتلن إن ظهر بهم، فلا يجب أن توضع عليهم الجزية بدليل الكتاب؛ إذ كان اللّه إنما أمر أن تؤخذ الجزية ممن يقاتل، وكذلك فعل عمر والأئمة بعده.

روي أن عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - كتب إلى أمراء الجيوش: لا تقاتلوا إلا من قاتلكم، ولا تقتلوا الصبيان والنساء، ولا تقتلوا إلا من جرت عليه المواسي.

وكتب إلى عماله: أن يضربوا الجزية، ولا يضربوها على النساء والصبيان.

وفي بعض الروايات أنه كتب إلى أمراء الأجناد: ألا تأخذوا الجزية إلا على من جرت عليه المواسي، قال: والجزية أربعون درهمًا أو أربعة دنانير.

وفي خبر معاذ دلالة لذلك؛ حيث قال: بعثني رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى اليمن، وأمرني أن آخذ من كل حالم دينارًا أو عدله معافريًّا.

بين معاذ أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أمره أن يأخذ ذلك من الرجال دون النساء والصبيان.

فَإِنْ قِيلَ: روي عن معاذ: قال: أمرني رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن آخذ من كل حالم وحالمة دينارًا.

وفي بعض الروايات عنه أنه قال: أن آخذ من كل حالم ذكرًا أو أنثى دينارًا؛ فإن كان هذا مثبتًا محفوظًا، فهو دليل لما يؤخذ من نصارى بني تغلب، ويكون حكم نساء

العرب من أهل الكتاب فيما يؤخذ منهم خلاف نساء العجم منهم.

أو أن يقال: إنه غير محفوظ؛ لما عمل الأمة بخلافه؛ لأن الوفاق قد جرى على أن لا جزية على النساء، ولو كان محفوظًا لظهر العمل به.

أو أن يكون قوله: " خذ من كل حالم وحالمة، دينارًا "، أي: خذ منهما دينارًا ولا

تأخذ من كل واحد دينارًا؛ كقوله: " لكل سهو سجدتان لا يلزمه أكثر من ذلك ".

ثم نذكر مسألة ليس في الآية ذكرها، وهي أن الجزية إذا ضربت، فدخلت سنة أخرى قبل أن يؤديها - أخذت منه للسنة الثانية، ولم تؤخذ للسنة الأولى الماضية، ليس كسائر الديون؛ لأن مجوسيًّا لو أسلم بعد مضي السنة لم يطالب بجزية العام الماضي، فلو كانت كسائر الديون لطولب بها المسلم كما يطالب بمال يكون عليه إذا أسلم أو بقي على مجوسيته، فلما لم يطالب، دل أنه ليست كسائر الديون.

فَإِنْ قِيلَ: أليس الخراج يطالب به من أخره من سنة إلى سنة؟!

قيل: ليست الجزية مثل الخراج؛ لأن الخراج يجب على المسلم في أرضه، فهو كسائر الديون.

فَإِنْ قِيلَ: إن المجوسي إذا أسلم بعد مضي السنة، طولب بالجزية للسنة الماضية.

قيل: روي عن عمر أنه رفع الجزية بالإسلام، فقال: واللّه، إن في الإسلام لمعاذًا إن فعل ترفع عنه الجزية.

وروي في بعض الأخبار عن نبي اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " ليس على مسلم جزية "، فمن طالبه بالجزية بعد الإسلام، فقد خالف الخبر.

فَإِنْ قِيلَ: إنما يزول عن المسلم ما كان عليه من الجزية في حال كفره؛ لأنه صار إلى حال لا يجوز أن توضع عليه ابتداء.

قيل: إن الذمي إذا اجتمع عليه الجزية سنتين، فصار إلى حال لا يجوز أن يلزم في الابتداء في مثلها أكثر من اثني عشر درهما لفقره - لم يجز أن يلزم أكثر منها؛ لأنه جعل حكم مستدبر الجزية التي وجبت، فأسلم صاحبها حكم الابتداء في توظيف الجزية عليه، فوجب أن يجعل حكم مستدبر من أتت عليه سنتان حكم ابتدائه، وأصله أن الجزية إنما جعلت لحقن الدم، فإذا مضت سنة، صار دمه محقونا في السنة الماضية؛ لذلك لم تؤخذ.

وقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللّه. . .} إلى آخره.

تضمنت هذه الآية أحكامًا: منها الأمر بقتال من لم يؤمن باللّه واليوم الآخر، وهم يقرون بالأمرين، لكنه يخرج على وجوه ثلاثة:

أحدها: أنهم مشبهة من تشبيههم اللّه بخلقه احتمل قولهم القول له بالولد؛ إذ الذين شهدوا من الخلائق على ذلك وجدوا بولد بعض من بعض، وإذا كان كذلك فهو غير مؤمن - في الحقيقة - باللّه الذي هو الحق حتى يؤمنوا به، وأنه به تكون الآخرة دون الذي ادعوه.

والثاني: أن الذي جبل عليه الخلق هو تعظيم رسل الملوك وأجلتهم حتى يوجد من بر الرسل بين ملوك قد ظهرت بينهم العداوة، فلما كذبوا رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مع البراهين التي قد أعجزت الخلائق، وشهادة كتبهم به، وتظاهر من عرفوا أنهم يكذبون بكتبهم وبرسلهم على من صدق بذلك - ثبت أنهم في الحقيقة مكذبون جميع الرسل والكتب وإن أظهروا الوفاق، وأن ذلك لا يكون إلا لتكذيب منهم باللّه؛ فعلى ذلك إيمانهم باللّه يكون بإيمانهم بالرسل، وعلى ذلك روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في وفد عبد قيس أنه قال: " آمر بأربع: آمركم بالإيمان باللّه "، ثم قال: " أتدرون ما الإيمان باللّه؟ أن تشهدوا أن لا إله إلا اللّه وأني رسول اللّه "؛ فلذلك لم يكن إيمانهم باللّه إيمانَا حتى يؤمنوا برسول اللّه، وعلى هذا يحاربون.

والثالث: أن يكون نفى عنهم الإيمان بنفي منفعة الإيمان عنهم؛ إذ أقل المنفعة به الإيمان برسله، والقبول عنهم بالتعظيم، فإذا ظهرت منهم هذه المنفعة تركوا القتال.

ثم الترك على قبول الجزية جائز، وإن كان الأمر قد تقدم بالقتل من غير أن يكون دليل، إما لأجل ذلك المال نقاتل، كما كتب على كل نفس الموت.

ثم قد يتركون على ما هم عليه من اختلاف الأديان وتفرق الأهواء، وإن كان لا يدل ذلك على الإقرار بما هم عليه، والرضا بما اختاروا، فمثله في الأول لا يدل على الرضا بكفرهم، ولا على القتال لأخذ تلك الأموال منهم.

ثم الأصل أن القتال لم يجعل ليكون القتل، عقوبة للكفر؛ إذ نوع القتل ومعناه قد يوجد في الأخيار والأشرار جميعًا، وهو الموت ثبت أنه لم يجعل لذلك، ولكن لوجهين: أن يضطرهم إلى الإجابة على ما فيه نجاتهم وبه نيل كرامة الأبد، وكان ذلك بعد أن ألزمناهم كل أنواع الحجج، فلم يقنعهم، قاتلناهم بما كان الذي يمنعهم عن النظر في الحجج حب اللذات وألذها الحياة، قاتلنا حتى ييأسوا عن تلك اللذة المانعة عن النظر في الحجج، والصادة عن الإجابة فتزول عنهم.

وفي قبول الجزية - قيل - بعض الذل والصغار الذي تنفر عنه الطباع، ويدعو إلى ما فيه الزوال، فينظرون في الحجج، ويقبلون ما دعوا إليه؛ فتكون به نجاتهم، وزيادة لنا في الكرامة.

والثاني: أن المحن كلها منقسمة على الحسنات والسيئات، والخيرات والشرور؛ ولذلك جعل الموت والحياة، وعلى ذلك جميع أمور الدنيا هو التقلب على مختلف الأحوال، فمثله الدعاء إلى الإسلام يكون مرة بمحاجة إليه، ومرة باللسان، ومرة بالترك، لا أن جعل شيء من ذلك لشيء، ولكن بما عليه أمر المحن؛ ليتذكر به وجود الموعود بالآثار له في أحوال المحن، فعلى هذا أمر القتال في قوم، والعفو عن قوم، والدعاء إلى الإسلام في قوم، وإلى قبول الذل في قوم على ما في علم اللّه من المصلحة، وعلى ما عليه حق الحكمة.

ثم الفرق بين مشركي العرب وغيرهم يخرج على وجوه:

أحدها: أنهم قد كانوا أقسموا باللّه جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم، فجاءهم، فكذبوه، ثم أقسموا لئن جاءهم نذير ليؤمنن به، فجاءتهم آيات

فلم يؤمنوا، فاستوجبوا القتال إلى أن يفوا بالعهد الذي سبق، والقسم الذي جهدوا به، وليس غيرهم هكذا.

أو على قوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ. . .} الآية، فبين الإياس عن إيمانهم إلا أن يشاء اللّه، فهو يخرج على وجهين:

أحدهما: الإياس عن إيمانهم.

وقبول الجزية ليخالطوا أهل شريعة اللّه، فيسمعوا منهم الحجج، ويعاينوا الأفعال المحمودة في العقول، والأخلاق الكريمة التي جاء بها الرسول فيؤمنوا، وهَؤُلَاءِ قد أيأس اللّه من إيمانهم، وأخبرهم أنهم ييأسون أبدًا؛ فلذلك لم يعط لهم عهد، وعلى ذلك ظهر نقضهم العقود مرة بعد مرة، واللّه أعلم.

والثاني: أنه استثنى فيهم ألا يؤمنوا بالآيات إلا أن يشاء اللّه، فلعل اللّه شاء أن يكون إيمانهم بالقتال خاصة، ففرض فيهم ذلك إلى أن يؤمنوا.

ووجه آخر: أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - هو بعث فيهم ومنهم؛ فأوجبت لهم الفضيلة به ألا يقبل منهم غير الإيمان، كما فضلت البقعة التي فيها بعث رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

ومنها ألا يترك فيها غير المؤمن تفضيلا.

ووجه آخر: أنهم قوم ليس لهم أسٌّ، ولا أئمة في الدِّين إليهم يرجعون في التأسيس، ومعلوم أن لا قوام في العقول لأمر الدِّين إلا بالأئمة؛ كالسياسات كلها والأمور فيها القوام من الملك وغيره؛ بل إنما كانوا جروا على عادتهم، وقاتلوا خن القبائل فلا يرجعون - في الحقيقة - إلا إلى عادة خارجة عن التدبير، وغيرهم يرجعون إلى مذاهب أسست مما أسس أمر الديانات، فقد تعلقوا بضرب من ذلك، فتركوا إذا خضعوا وأذعنوا لهم بحق التبع، فيتركون رجاء أن يتأملوا؛ إذ لكل مذهب نظر، وليس لأُولَئِكَ سوى العادة وتقليد الآباء، ومن ذلك وصفه لا ينظر فيمهل للنظر، واللّه أعلم.

وأيضًا: إن لسائر المذاهب أصول يكثر أهلها، وفي الإقامة على القتال إلى الفناء

 ينضم بعض إلى بعض فيتناصرون، فيخاف على المسلمين بما به رجاء التكثر الفناء، والعرب يقل عددهم حتى لم يكونوا يقدرون على المناوأة إلا بمعونة أهل الكتاب وغيرهم، فأمكن أن يضطروا به إلى القتل مع ما ليست لهم مذاهب معلومة؛ إذ لا يذكر في شيء من الكتب لهم مذاهب، وقد ذكر لجميع الفرق، فإنما أمرهم على العادة، وقد تترك العادات بما يعترض فيها ما يمنع الاستمرار عليها من القتال والحرب فيتركونها، وأهل المذاهب عندهم أنهم لزموا بالحجج، ومثل ذلك لا يترك إلا بالحجج، وذلك يكون بقبول الذمة والعهد.

وأيضًا: إنه يمكن إلزام كل ذي مذهب بما يوجد في مذهبه ما يثبت القول بالإسلام وبالعهد رجاء الوصول إليه، وليس لمشركي العرب ذلك؛ لما لم يُبْنَ مذهبهم على الحجج أو الشبه، إنما هو تقليد وعادة، واللّه أعلم.

٣٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّه وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّه}.

وقال في آية أخرى: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (٩١)، أخبر أن السماوات تكاد أن تتفطر، وتنشق الأرض، وتخر الجبال؛ لعظيم ما قالوا في اللّه - سبحانه - من البهتان والفرية عليه أن له ولدًا، ثم بين الذي ذكر ذلك فقال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّه وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّه}: فذكر الآية، وأخبر - واللّه أعلم - أنهم قالوا في اللّه ما قالوا لوجوه:

أحدها: دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن هَؤُلَاءِ المتأخرين لم يقولوا هذا، ولكن إنما قال ذلك أوائلهم، لكن كتموا ذلك، فأخبر رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن أوائلهم قالوا ذلك، وهم كانوا يكتمون عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ذلك؛ ليعلموا أنه إنما علم ذلك باللّه.

والثاني: يخبر رسوله سفه أوائلهم، ويصبره على سفه هَؤُلَاءِ؛ ليصبر على سفههم وأذاهم.

والثالث: يخبر أنهم مشبهة؛ لأنهم نسبوا المخلوق إليه، وقالوا: إن فلانًا ابنه؛ لما رأوا منه أشياء، فلولا أنهم عرفوا اللّه بمثل معرفتهم المخلوق وإلا ما قالوا ذلك، ولا اعتقدوا من التشبيه، وغير ذلك، واللّه أعلم.

وقوله: {ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ}.

أي: ذلك قول قالوه بلا حجة ولا برهان كان لهم في ذلك.

أو قالوا ذلك بأفواههم على غير شبه اعترضت لهم تحملهم على ذلك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ}.

يحتمل هذا أن قد كان قبل هَؤُلَاءِ من قد قال مثل قول هَؤُلَاءِ {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} من الشرك أو الكفر أو غير ذلك من الكذب والافتراء على اللّه، كقوله: {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} بالكفر وكقوله: {كَذَلِكَ يُحْيِ اللّه الْمَوْتَى} ليس أن يُحْيِ الموتى كلهم إحياء كما أحيا ذلك القتيل بضرب بعض من البقرة، ولكن يحييهم إحياء، فعلى ذلك قوله: {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} في الكفر نفسه.

ويحتمل: ضاهى قول النصارى قول اليهود، والمضاهاة: المشابهة والإشباه.

 وقوله أيضًا: {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ}، أي: يشبه النصارى بقولهم لعيسى إنه ابن اللّه قول اليهود من قبل: عزير ابن اللّه؛ فضاهى النصارى في عيسى اليهود قبلهم في عزير.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قَاتَلَهُمُ اللّه أَنَّى يُؤْفَكُونَ}.

هذه الكلمة كلمة اللعن، تستعمل عند مناكير القول والفعل من غير حصول المنفعة.

وقوله: {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} يحتمل: من أين يؤفكون ويفترون على اللّه على غير شبهة اعترضت لهم.

ويحتمل: {أَنَّى يُؤْفَكُونَ}، أي: كيف يؤفكون بلا منفعة تحصل لهم.

٣١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللّه وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١)

قيل: الأحبار: هم العلماء، والرهبان: هم العباد.

وقيل: الأحبار: هم أصحاب الصوامع من اليهود، والرهبان: من النصارى.

وقوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللّه} يحتمل أن يكون هذا في السفهاء والأتباع،

وقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّه وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّه}: في العلماء منهم والرؤساء، فاتخذ الأتباع أُولَئِكَ أربابًا يتبعونهم في جميع ما يدعونهم إليه، يأتمرون بهم في جميع أوامرهم ونواهيهم؛ لا أنهم عبدوهم، ولكن ذكر أربابًا لما ذكرنا من اتباعهم وانتظارهم إياهم فيما يدعونهم إليه ويأمرونهم؛ كقوله: {يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ}، وقول إبراهيم لأبيه: {لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ}، ولا أحد يقصد قصد عبادة الشيطان وطاعته، ولكن نسب العبادة إليه؛ لما يجيبونه في كل ما يدعوهم إليه ويأمرهم به؛ فعلى ذلك هذا.

ويحتمل ما روي في الخبر - إن ثبت - أنهم لم يعبدوهم، ولكن هم أحلوا لهم أشياء حرمها اللّه، عليهم فاستحلوها، أو حرموا عليهم أشياء أحل اللّه ذلك لهم، فحرموا ذلك فقيل: اتخذوهم أربابًا - واللّه أعلم - يخرج هذا في الأحبار والرهبان على

 التمثيل، أي: اتخذوهم في الطاعة لهم والاتباع لأمرهم؛ كأنهم اتخذوهم أربابًا، لا على التحقيق، وهو ما ذكر من عبادتهم الشيطان، لا أحد يقصد قصد عبادة الشيطان، لكن صاروا بالطاعة للشيطان والاتباع لأمره كأنهم عبدوه.

وأما في المسيح فهو على التحقيق؛ لأنهم قالوا: ابن إله، وقالوا: ابن الإله إله؛ فهو يخرج في المسيح على التحقيق، وفي الأحبار والرهبان على التمثيل.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا}.

يحتمل: إلا ليوحدوا إلهًا واحدًا الذي لا إله إلا هو.

ويحتمل: أي: ما أمروا أن يعبدوا آلهة على ما يعبدون من الأصنام والأوثان، ولكن أمروا أن يعبدوا إلهًا واحدًا.

٣٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللّه بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّه إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (٣٢)

قيل: {نُورَ اللّه}: ذكر اللّه وتوحيده.

وقيل: {نُورَ اللّه}: القرآن.

وقيل: {نُورَ اللّه}: هو الإسلام.

فإذا كان النور هو الذكر والتوحيد فهو - واللّه أعلم - أنهم لم يكونوا يعرفون ذكر اللّه، ولا يذكرونه، إنما كانوا يعرفون ذكر الأصنام، وإياها يذكرون، وبحق القرابة والرحم يتناصرون فيما بينهم، فلما أن بعث اللّه رسوله محمدًا بذكر اللّه وتوحيده، وأمر بالتناصر بحق الدِّين، أزادوا أن يطفئوا ذلك النور.

ومن قال: أراد بنور اللّه القرآن، أرادوا إطفاءه؛ كقوله: {مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} و {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}، و {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ}، ونحوه، أرادوا إطفاءه بنحو ما ذكرنا {مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى} وقولهم: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ. . .} الآية.

ومن قال: نور اللّه هو الدِّين؛ كقوله: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللّه صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ}،

وقال: {اللّه نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ. . .}، في

 حرف أُبي: (مثل نور المؤمن)، ومثله - أرادوا إطفاء هذا النور؛ لتسلم لهم المنافع التي كانت ألهم.

وقوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا} يحتمل وجهين:

{يُرِيدُونَ}، أي: يجتهدون أن يطفئوه، فما يقدرون على إطفائه.

ويحتمل: {يُرِيدُونَ}، أي: يحتالون أن يطفئوه بأسباب يتكلفونها ويحتالونها.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَأْبَى اللّه إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ}.

بالحجج والبراهين، أو بالنشر والإظهار، وقد أتمه؛ كقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}.

وقد كره الكافرون.

٣٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣)

يحتمل قوله: {بِالْهُدَى}: هدى يهديهم إلى ما به تكون جميع المحاسن والخيرات محاسن وخيرات؛ لأن المحاسن والخيرات إنما تقوم بالإيمان، وبه ينتفع بها، بعثه لذلك.

ويحتمل قوله: {بِالْهُدَى}: وهو القرآن، يهديهم، ويبين لهم المحاسن من المساوئ، والحسنات من السيئات، وهو هدى يهديهم إلى ذلك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَدِينِ الْحَقِّ} وهو دين الحق.

أي: الإيمان الذي به تصير المحاسن محاسن، والخيرات خيرات - هو دين الحق.

ويحمّمل قوله: {وَدِينِ الْحَقِّ} أي: أرسله بالهدى وبدين الحق.

ويحتمل قوله: ودين الحق، أي: دين اللّه؛ كقوله: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللّه هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}.

يحتمل وجوهًا:

 يحتمل: ليظهر رسوله على أهل الدِّين كله بالحجج والآيات، فقد أظهره بحمد اللّه على الأديان كلها بالحجج والبراهين، حتى لم يتعرض أحد في شبه ذلك فضلًا أن يتعرض في إبطاله.

ويحتمل: ليظهره على أهل الدِّين كله بالقهر والغلبة والإذلال، فقد كان، حق خضعوا له كلهم وذلوا، حتى لم يبق في جزيرة العرب مشرك ولا كافر إلا خضع له، وصار أهل الكتاب ذليلين صاغرين في أيدي المسلمين.

فإن كان المراد من قوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}، فهو بالحجج والبراهين كلها.

وإِن كان أراد به الدِّين أن يظهره على الأديان كلها فبعد لم يكن، ويكون - إن شاء اللّه تعالى - هو الظاهر على الأديان كلها يوم القيامة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}.

ولم يقل: على الأديان كلها؛ فالدِّين يتناول الأديان كلها؛ كقوله: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ} يدخل فيه كل إنسان.

وجائز أن تكون أديانًا مختلفة فهو واحد؛ لأن الكفر كله ملة واحدة، وهو دين الشيطان، فسماه بذلك.

٣٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّه وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّه فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٣٤)

أما الأحبار والرهبان فقد ذكرناهما.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ}.

لأنهم كانوا يأكلون أموالهم بما يحرفون كتاب اللّه ويبدلونه؛ كقوله: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ}،

وقوله: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ} الآية، فهم إنما حرفوا ذلك

وبدلوه؛ لتسلم لهم تلك الأموال، فذلك أكل بباطل؛ لأنهم خافوا ذهاب تلك المنافع والأموال إذا أسلموا، فيجوز أن يكون إنما سماهم أربابًا في الآية الأولى؛ لما أنهم جعلوا أموالهم أموالا لأنفسهم، وأنفسهم عبيدًا لهم، فهم كالأرباب لهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّه}.

يحتمل أن يكون هذا صلة ما قال: {لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّه}، أي: أخذوا أموالهم لصد الناس عن سبيل اللّه، وكنزوها، ولم ينفقوها في سبيل اللّه، إنما أنفقوها لصد الناس عن سبيله.

ومن الناس من حمل الآية في منع الزكاة.

روي في الأخبار عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعن بعض الصحابة - رضوان اللّه عليهم - أن كل مال أديت الزكاة عنه فهو ليس بكنز، وإن كان تحت سبع أرضين، وكل مال لم تؤدّ الزكاة عنه فهو كنز، وإن كان على وجه الأرض.

ومن أصحابنا من استدل بلزوم ضمّ الفضة والذهب بعضه إلى بعض في الزكاة بهذه الآية؛ لأنه ذكر الذهب والفضة جميعًا، وألحق الوعيد بترك الإنفاق من الفضة بقوله:

 {وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّه}، فلولا أن الضم واجب ويكون المؤدى عن أحدهما مؤدى عن الآخر، وإلا لم يكن لذلك معنى.

ثم في متعارف الناس أنهم يؤدون من الفضة عن الذهب؛ لأن الذهب أعز عندهم، والفضة دونه.

ثم إن كانت الآية في الكفرة فهي في القبول؛ كقوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}،

وقوله: {الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}، وذلك على القبول، لا في الأداء نفسه.

٣٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥)

جعل اللّه تعذيب الكفرة في الآخرة بالأسباب التي منعتهم عن طاعة اللّه، ودعتهم إلى مخالفة أمره، ويجمع بينهما في النار؛ كقوله: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}،

وقوله: {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ}

وقوله: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ}، ونحو ذلك؛ فعلى ذلك ما كنزوا يحمى عليها، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، يعذبهم بها؛ لما منعتهم تلك الأموال من طاعته، ودعتهم إلى صدّ الناس عن سبيل اللّه؛ يجعل عذابهم في الآخرة بها.

ويحتمل قوله: {وجِبَاهُهُمْ}: كناية عن التقديم إلى الآخرة، أي: لم يقدموها ولم ينفقوها في سبيل اللّه.

وقوله: {وَجُنُوبُهُمْ}: لما أخذوها مما يحل ومما لا يحل من كل جهة.

وقوله: {وَظُهُورُهُمْ}: لما أنفقوها في الصد عن سبيل اللّه.

ويحتمل ذكر هذا إحاطة العذاب بهم من كل الجهات؛ كقوله: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ}،

وقوله: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} أي: يحيط العذاب بهم؛ فعلى ذلك هذا - واللّه أعلم - كقوله: {أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي: يحيط بهم حتى لا يقدروا على دفعه عن وجوههم.

وقوله: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ. . .} الآية.

روي عن أبي هريرة أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي حقها، إلا جعلت له يوم القيامة صفائح، ثم أحمي عليها في نار جهنم، يكوى بها جنبه وجبهته وظهره، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين الناس، فيرى سبيله إما إلى الجنة، وإما إلى النار، وما من صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي حقها، إلا أتى بها يوم القيامة تطؤه بأظلافها، وتنطحه بقرونها " ثم ذكر فيه ما ذكر في الأول، قالوا: يا رسول اللّه، فصاحب الخيل؟ قال: " هي لثلاث: لرجل أجر، ولرجل ستر، ولرجل وزر؛ فأما من ربطها عدة في سبيل اللّه، فإنه لو أنه طول لها في مرج خصب أو في روضة، كتب اللّه له عدد ما أكلت حسنات، وعدد أرواثها حسنات، ولو انقطع طولها ذلك فاستنت شرفا أو شرفين، كتب اللّه له عدد آثارها حسنات، ولو مرت بنهر عجاج لا يريد السقي به فشربت، كتب اللّه له عدد ما شربت حسنات. ومن ارتبطها فخرًا وعزا على المسلمين، كان له وزر إلى يوم القيامة؛ ومن ارتبطها تغنيًا وتعففًا ثم لم ينس حق اللّه في رقابها وظهورها، كانت له سترًا من النار يوم القيامة ".

فإن ثبت هذا الخبر عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ففيه دلالة وجوب الزكاة في الخيل، وهو حجة لأبي حنيفة؛ لأنه قال: " ثم لم ينس حق اللّه في رقابها "، والحق الذي في رقابها هو

 الزكاة، والذي في ظهورها هو الجهاد عليها، واللّه أعلم.

٣٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللّه اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّه}.

من الناس من يقول: إن الشهور كانت التبست عليهم واختلطت؛ لكثرة ما كانوا يؤخرونها ويقدمونها، حتى لم يكونوا يعرفون الشهور بعينها كل شهر على حدة، فخطب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بمكة بالموسم، فقال: " ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب الذي هو بين جمادى وشعبان ".

ثم قال لهم: " أي بلد هذا؟ وأي شهر هذا؟ وأي يوم هذا؟ "، قالوا: بلد حرام، وشهر حرام، ويوم حرام، فقال: " ألا هل بلغت "، قالوا: بلى، قال: " اللّهم اشهد ".

وفي بعض الأخبار زيادة: فقال: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا. . .} الآية، وقالوا: وذلك أنهم كانوا يجعلون صفرًا عامًا حرامًا وعامًا حلالًا،

ويجعلون المحرم عامًا حرامًا وعامًا حلالًا، فكان النسيء من الشيطان.

وصف رسول اللّه في هذه الأحاديث الأشهر الحرم وبينها؛ فدل ذلك على أن النسيء كان يحرم القتال فيها؛ على ما كان أهل الجاهلية يحرمونه، وزاد ذلك بيانًا يصيب أصحاب النسيء؛ إذ كانوا يستحلون القتال في المحرم، ويؤخرونه إلى صفر، فيحرمون صفرًا مكان المحرم، فعاب اللّه عليهم تحليل ما حرم من الشهر، وجعله زيادة في الكفر،

وقال: {يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّه فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللّه} أي: عدة الأشهر الأربعة التي حرمها اللّه،

وقال: {فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللّه زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ}.

ومنهم من قال: إن اللّه جعل عدة الشهور اثني عشر شهرًا بالأهلة على ما عرفته العرب لما وفقوا إلى معرفة ذلك، ولم يوفق غيرهم، وإنَّمَا يعدون السنة بالأيام، والعرب تعرفها بالأهلة على ما خلقها اللّه يوم خلق السماوات والأرض {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: في الأشهر كلها لما جعل هذه الأشهر شهودًا عليهم، يشهدون بما يعملون فيها من المعاصي والخيرات، وبها تنقضي آجالهم؛ يخبر ألا تظلموا في هذه الأشهر التي تأتي لكم بكل خير، وبكل نعمة، فإنها تنصرف بما تعملون فيها من الخير والشر.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}.

أي: في الأربعة الحرم، خص الأربعة وإن كان الظلم في الأشهر كلها لا يحل على ما خص مكة بترك الظلم، وإن كان الظلم حرامًا في الأماكن كلها؛ كقوله: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ. . .} الآية، أي: لا تقاتلوا فيها؛ إذ كل ظلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}.

قيل: ذلك الحساب حساب الأشهر قيم، أي: صحيح مستقيم على ما خلقه اللّه.

 وقيل: ذلك الحساب هو القضاء العدل.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فِي كِتَابِ اللّه}.

يحتمل: {كِتَابِ اللّه}: اللوح المحفوظ؛ على ما قيل.

ويحتمل: {فِي كِتَابِ اللّه} أي: في حكم اللّه ذلك.

وقوله: {عِنْدَ اللّه}.

يحتمل ما ذكرنا من اللوح المحفوظ أن ذلك عند اللّه، لم يطلع عليه غيره.

ويحتمل {عِنْدَ اللّه} أي: في علمه؛ على ما عرفته العرب، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً}.

يحتمل قوله: {كَافَّةً} أي: مجتمعون، أي: قاتلوهم مجتمعين على ما يقاتلونكم هم مجتمعين.

ويحتمل: {كَافَّةً}، أي: جماعة.

ويحتمل: {كَافَّةً}: إلى الأبد، إلى يوم القيامة، أي: قاتلوهم إلى الوقت الذي يقاتلونكم كما يقاتلونكم.

{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه مَعَ الْمُتَّقِينَ}.

في النصر والمعونة.

٣٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّه فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللّه زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّه لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (٣٧)

كأن هذه الآية والتي قبلها قوله: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللّه اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} في مشركي العرب، وسائر الآيات التي قبلها وهو قوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللّه}،

وقوله: {إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ}، في أهل الكتاب.

يخبر أن ملوك العرب اتخذوا أنفسهم أربابًا والأتباع عبيدًا من دون اللّه حتى يتبعوهم في جميع ما يحلونه ويحرمونه، كما أن اليهود والنصارى اتخذوا أنفس أُولَئِكَ عبيدًا؛ فكأنه قال للمؤمنين: إن ملوك العرب وأحبار اليهود ورهبان النصارى اتخذوا أنفسهم أربابًا، والأتباع عبيدًا، فأنتم يا معشر المؤمنين لا تتخذوا أنفسكم أربابًا، والأتباع عبيدًا.

٣٨

ألا ترى أنه قال في الآية التي تتلو هذه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللّه اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ}،

قَالَ بَعْضُهُمْ: الآية في المنافقين الذين تخلفوا عن رسول اللّه في غزوة تبوك؛ كقوله: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. . .} الآية، فيفهم ذكر ذلك الوعيد.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الآية في المؤمنين؛ أمروا أن ينفروا في سبيل اللّه.

{اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ}.

قيل: استثقلتم النفر في سبيل اللّه وأقمتم.

ويحتمل التثاقل: هو أن يروا من أنفسهم الثقل من غير أن أقاموا؛ كما يقال: يتصامم ويتعامى، من غير أن كان به الصمم والعمى، ولكن لما يرى من نفسه ذلك.

وقال بعض أهل الأدب: قوله: {اثَّاقَلْتُمْ}.

أي: تثاقلتم وركنتم إلى المقام، وذلك في القرآن كثير؛ كقوله: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا} أي: تداركوا.

وقوله: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ}.

أي: ما متعكم في الدنيا قليل بما وعد أن يمتعكم في الآخرة.

أو أن يقال: متاع الحياة الدنيا من أولها إلى آخر ما تنتهي قليل من متاع الآخرة وكراماتها؛ لأن كرامات الدنيا على شرف الزوال، وكرامات الآخرة على الدوام أبدًا.

أو أن يقول: متاع الحياة الدنيا قليل من متاع الآخرة؛ لأن متاع الدنيا ومنافعها تشوبه الآفات والمضرات، ومتاع الآخرة لا تشوبه الآفات والمضرات.

وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللّه. . .} الآية.

عاتب المؤمنين بالتثاقل بالخروج إلى الأرض، ونهاهم عن الركون إلى الدنيا.

وقوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ}.

أي: لما أحدث أُولَئِكَ الملوك من تحليل ما حرم اللّه، وتحريم ما أحل اللّه زيادة في كفر أُولَئِكَ أحدثوا من وقت إحداثهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا}.

يحتمل وجهين:

يحتمل: {يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا}، أي: يهلك به الذين كفروا، أي: الذين أحدثوا.

ويحتمل: {يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: ما أحدثوا أُولَئِكَ الملوك إنما أحدثوا؛ ليضلوا به الأتباع {يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} على ما ذكر في القصة أنهم كانوا يستحلون المحرم عاما فيصيبون فيه الدماء والأموال، ويحرمونه عامًا فلا يستحلون فيه الدماء والأموال.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّه}، قيل: ليوافقوا عدد ما حرم اللّه؛ كان عندهم أن التحريم إنما كان لعدد الأشهر لا للأشهر؛ لما في الأشهر، فحفظوا عدد الأشهر، ولم يحفظوا الوقت، وذلك تأويل قوله: {لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّه فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللّه زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ} أي: زين تأخير المحلل وتقديم المحرم {وَاللّه لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}.

قيل: لا يهديهم وقت اختيارهم الكفر، ولا يهديهم في الآخرة طريق الجنة؛ لكفرهم في الدنيا، وقد ذكرنا تأويله في غير موضع.

قال أَبُو عَوْسَجَةَ: النسيء: التأخير؛ يقال: نسأت الشهر، أي: أخرته، ويقال: أنسأ اللّه في أجلك، أي: أخره اللّه.

وقوله: {لِيُوَاطِئُوا}.

المواطأة: أن يدخلوا شهرًا مكان شهر، وهو التتابع؛ يقال: تواطأ القوم على حديث كذا وكذا، أي: تتابعوا، وواطأت فلانًا، أي: تابعته.

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: النسيء: التأخير، وكانوا يؤخرون تحريم المحرم منها سنة، ويحرمون

 غيره مكانه؛ لحاجتهم إلى القتال فيه، ثم يردونه إلى التحريم في سنة أخرى؛ كأنهم ينسئون ذلك.

{لِيُوَاطِئُوا} أي: ليوافقوا {عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّه فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللّه}، يقول: إذا حرموا من الشهور عدد الشهور المحرمة، لم يبالوا أن يحلوا الحرام ويحرموا الحلال.

٣٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩)

أي: إن لم تنفروا يعذبكم عذابًا أليمًا، فإن كانت الآية في المنافقين فهو ظاهر، وإن كانت في المؤمنين فيحتمل قوله: {يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}: يحل بهم، ولم يبين ما ذلك العذاب.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: شدد اللّه الوعيد في تركهم النفر والخروج في سبيل اللّه، على ما شدد ببدر في التولية للدبر بقوله: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} الآية، غير أنه شدد يوم بدر لما لم يكن ملجأ، وكان نفارهم نفار نفاق، وهاهنا شدد لغير ذلك؛ لوجوه:

أحدها: لما في تخلف المؤمنين عنه موضع العذر للمنافقين بالتخلف عنه أنهم إن تخلفوا للعذر، فنحن نتخلف -أيضًا- للعذر، ولنا في ذلك عذر.

والثاني: يكون للكفار موضع الاحتجاج عليهم، يقولون: إنهم يرغبوننا في الآخرة ويحثوننا في ذلك، ثم إنهم ينفرون عن ذلك ويرغبون عنه.

والثالث: يكون في تخلفهم الشوكة على المؤمنين؛ إذ يقلون إذا تخلفوا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ}.

قيل فيه بوجوه: قيل: يستبدل الملائكة فينصروا رسول اللّه على ما استبدل يوم بدر ويوم حنين ويوم الأحزاب.

وقيل: يستبدل قومًا غيركم على ما استبدلكم يا أهل مكة فينصرونه.

وقال بعض من أهل التأويل: يستبدل قومًا غيركم، أي: ينشئ قومًا غيركم.

لكن تأويل الأول أشبه.

٤٠

 ألا ترى أنه قال في آخره: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّه إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللّه مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللّه سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّه هِيَ الْعُلْيَا وَاللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠)

وقوله: {وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا}.

هو ما ذكرنا، أي: لا تضروا رسول اللّه بالتخلف عنه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا تضروا اللّه شيئًا.

والأول أشبه؛ لما ذكرنا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّه} يقول: إن لم تنصروا رسول اللّه فاللّه ينصره، على ما نصره في الوقت الذي كان في الغار، لم يكن معه أحد من البشر إلا واحد، فإن لم تنصروه فاللّه كافيه في النصر، على ما كفاه ونصره في الحال التي لم يكن معه من البشر أحد إلا واحد، فاليوم لا ينصره ومعه من الأنصار والأعوان ما لا يحصى؟!

وكان ما استنفرهم رسول اللّه وأمرهم بالخروج إلى العدو، لم يكن يستنفرهم لمكان نفسه؛ إذ يعلم أن اللّه كافيه في نصره، ولكن إنما كان يستنفرهم ويأمرهم بالخروج لمكان أنفسهم؛ ليكتسبوا بذلك قربًا وثوابًا عند اللّه وزلفى؛ ألا ترى أنه قال: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}،

وقال: {وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا}، أي: إن لم تنفروا ولم تنصروا رسول اللّه فلا تضروه شيئًا؛ إذ اللّه كافيه في نصره.

وإِنَّمَا عاتبهم بترك النفر والخروج؛ لئلا يركنوا إلى الدنيا، ولا يرضوا بالحياة الدنيا من الآخرة على ما ركن أُولَئِكَ الكفرة؛ لأن ركونهم إلى الدنيا وحبهم إياها هو الذي منعهم عن اتباع مُحَمَّد، وهو الذي حملهم على الكفر باللّه، والتكذيب لرسوله، وترك الإجابة له فيما يدعوهم إليه، فيقول - واللّه أعلم - للمؤمنين: ولا تركنوا إلى الدنيا، ولا ترضوا بها من الآخرة؛ ليمنعكم ذلك عن النفر والخروج إلى ما يأمركم رسول اللّه، على ما منع أُولَئِكَ الكفرة؛ على ما ذكرنا.

وأصله: أنه إنما استنصرهم لا لحاجة له إلى نصرهم؛ إذ هو قادر أن ينصر رسوله بما شاء، لكن طلب منهم النصر له؛ ليكتسبوا بذلك ثوابًا لأنفسهم، وذكرًا في الأجل، وكذلك ما طلب منهم الشكر له على نعمه، لا لحاجة له في ذلك، ولكن ليستديموا النعمة، ويصلوا إلى الباقية الدائمة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا}.

أي: اضطروه إلى الخروج حين هموا بقتله، حتى خرج من بين أظهرهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ}.

ثاني اثنين، أي: لم يكن معه من البشر إلا واحد؛ ليعلموا أن النصر لم يكن بأحد من البشر، إنما كان باللّه - تعالى - إذ بالواحد لا تكون النصرة والحفظ من ألوف، يذكر فضل أبي بكر، وكان هو ثانيه في كل أمره.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللّه مَعَنَا} لم يكن حزن أبي بكر خوفًا على نفسه، ولكن إشفاقًا على رسول اللّه أن يصاب، وكذلك روي في الخبر أنه قال لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: يا رسول اللّه، إنك إن تُصبْ يذهب دين اللّه، ولن يعبد اللّه على وجه الأرض.

وفي بعض الأخبار أن أبا بكر كان يبكي إشفاقًا على رسول اللّه، فقال له رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " ما يبكيك؟ "، فقال له: " يا أبا بكر، ما ظنك باثنين ثالثهما اللّه ".

وقيل: إنهما لما أتيا باب الغار سبق أبو بكر فدخل الغار، وكان الغار معروفًا بالهوام، فألقمها أبو بكر قدميه، فأطال ذلك، فقال: إن كان فيه شيء بدا لي، أو كلام نحو هذا - واللّه أعلم -.

وقوله، {إِنَّ اللّه مَعَنَا}: ليس بنهى عن الحزن والخوف على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولكن على تخفيف الأمر عليه وتيسير الحال التي هو عليها.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَنْزَلَ اللّه سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ).

قيل: أنزل سكينته على أبي بكر حين قال له رسول اللّه: " ما ظنك باثنين ثالثهما

اللّه؟! "، حتى سكن قلب أبي بكر من الحزن والخوف على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: أنزل السكينة على رسول اللّه؛ فهو يخرج على وجهين:

أحدهما: أنه أنزل السكينة عليه حتى رأى هو جنودًا لم يروها هم؛ حيث قال: {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا}.

والثاني: أنزل سكينته بالحجج والبراهين، لكنه إن كان ما ذكر، فهو قد أنزل السكينة عليه في البدء؛ لأنه كان رسول اللّه لا يخاف سوى اللّه، ويعلم أنه ينصره، وكذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ قال: فأنزل اللّه، سكينته على أبي بكر؛ لأن النبي لم تزل السكينة معه؛ وهو أشبه.

وقوله: {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا}.

يحتمل: في ذلك الوقت.

ويحتمل: في الغزوات التي نصره بالملائكة يوم بدر وغيره؛ يخبر أنه قادر أن ينصره لا بالبشر؛ ليعلموا أنه إنما يأمرهم بالنصر، لا لنصر رسول اللّه، ولكن ليكتسبوا بذلك ما ذكرنا من الثواب.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّه هِيَ الْعُلْيَا}.

يحتمل {كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا}: وهو ما مكروا برسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وهموا بقتله جعل مكرهم ومكيدتهم واجتماعهم على ذلك هي السفلى وكلمة اللّه هي العليا.

أي: مكر اللّه بهم، ونصرة رسوله هي العليا؛ كقوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا. . .} الآية.

ويحتمل قوله؛ {كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا}: دينهم الذي يدينون به، ومذهبهم الذي ينتحلونه.

{السُّفْلَى}، أي: جعل ذلك السفلى بالحجج، وجعل دين مُحَمَّد هو العليا بالحجج والبراهين على ذلك ما كان.

 ويحتمل قوله: {كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى} أي: جعل أهل الكلمة الذين كفروا هم السفلى، وأهل دين اللّه هم الأعلون؛ كقوله: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاللّه عَزِيزٌ} لا يعجزه شيء {حَكِيمٌ}: في أمره.

٤١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا ... (٤١)

اختلف فيه؛ قيل: شبابًا وشيوخًا.

وقيل: مرضى وأصحاء.

وقيل: مشاغيل وغير مشاغيل.

وقيل: فقراء وأغنياء.

وقيل: نشاطًا وغير نشاط.

وأصله: انفروا مستخفين ومستثقلين، أي: انفروا، خف عليكم الخروج أو ثقل، وما ذكر أهل التأويل من الشيوخة والشغل والفقر والمرض؛ لأن ذلك بالذي يثقل الخروج والنفر.

وأصله ما ذكرنا أن انفروا، خف عليكم ذلك أو ثقل.

 

وقوله: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا}.

انفروا، خف على النفس أو ثقل، أو خف على العقل أو ثقل.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ}.

في الدنيا والآخرة، أي: اعلموا أن ذلك خير لكم من المقام وترك النفر، {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.

٤٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ}.

قال بعض أهل التأويل: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا}: أي: غنيمة قريبة، {وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ}: في غزاتك: {وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} يعني: المسير.

وقيل: العرض: الدنيا، {وَسَفَرًا قَاصِدًا}: ليس فيه مشقة.

وأصل قوله: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا} أي: منافع حاضرة، {وَسَفَرًا قَاصِدًا} أي: منافع غائبة، والعرض: هو المنافع؛ يقول: لو كانت لهم منافع حاضرة أو منافع غير حاضرة، لاتبعوك فيما استتبعتهم؛ لأن عادتهم اتباع المنافع، يعني: المنافقين؛ كقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّه عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} أخبر أنهم يعبدون اللّه على حرف، وهو ما ذكر: {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ}

 فمن عادتهم أنهم إنما يتبعون المنافع، وإليها يميلون، وأما المؤمنون فإنهم يعبدون اللّه في كل حال: في حال السعة، وفي حال الضيق، ويتبعون رسول اللّه، ولا يفارقونه، كانت لهم منافع أو لم تكن، أصابتهم مشقة أولا، هم لا يفارقون رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على كل حال.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّه لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ}.

أي: لو كان لنا ظهر وسلاح لخرجنا معكم، ولو كان لنا زاد وما نشتري ما نحارب به لخرجنا معكم.

ثم أخبر أن لهم استطاعة على ذلك، وأنهم كاذبون أنه لا استطاعة لهم؛ حيث قال: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً}.

وقالت المعتزلة: دل قوله: {لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} أن الاستطاعة تتقدم الفعل؛ لأنه أخبر أنهم كاذبون فيما يقولون: إنه ليس معنا ما ننفق وما نشتري به السلاح.

لكنا نقول: إن الاستطاعة على وجهين:

استطاعة الأسباب، والأحوال.

واستطاعة الأفعال، واستطاعة الأسباب والأحوال يجوز أن تتقدم، وهذه الاستطاعة هي استطاعة الأسباب والأحوال.

ألا ترى أنه قاك: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً}.

ومن قولهم أيضًا: إن استطاعة الأفعال لا تبقي أوقاتًا، ثم إن هذه أخبر أنها كانت باقية أوقاتًا؛ دل أنها هي استطاعة الأسباب والأحوال.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ}.

قيل: يهلكون أنفسهم بأيمانهم الكاذبة أنهم لا يستطيعون.

وقيل: يهلكون أنفسهم بتركهم الخروج؛ لأنهم يقتلون إذا تركوا الخروج؛ كقوله: {مَلْعُونِينَ. . .} الآية.

ويحتمل: يهلكون أنفسهم في الآخرة بنفاقهم في الدنيا.

٤٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَفَا اللّه عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ... (٤٣) بالتخلف.

 عَفَا اللّه عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ

{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ}.

يحتمل قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ}، أي: يطلعك اللّه على نفاقهم، فيكون ذلك آية من آيات النبوة إن لم تأذن لهم بالتخلف.

أو إن لم تأذن لهم يتبين لك نفاقهم؛ لأنهم يتخلفون ويفارقونك؛ وإن لم تأذن لهم، والذين صدقوا لا يفارقونك، فيتبين هَؤُلَاءِ من هَؤُلَاءِ، ويظهر كذب هَؤُلَاءِ من صدق هَؤُلَاءِ المؤمنين.

وفي قوله: {عَفَا اللّه عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} دلالة أن النبي إنما أذن لهم بالتخلف بلا أمر.

وفيه دلالة جواز العمل بالاجتهاد؛ لأنه لو كان أذن لهم بالتخلف بالأمر، لم يكن ليعاتبه على الإذن، دل أنه إنما أذن لهم بالتخلف بالاجتهاد لما ظن أنهم إنما يستأذنونه بالقعود للعذر.

فَإِنْ قِيلَ: كيف عاتب رسوله بما أذن لهم بالقعود، وقد أخبر أنه إنما كان يحكم بما أراه اللّه بقوله: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّه}.

قيل: يحتمل أنه إنما عاتبه على ترك الأفضل؛ لأن ترك الإذن لهم بالقعود أفضل من الإذن؛ إذ به يتبين له الصادق من الكاذب، ويكون فيه آية من آيات الرسالة، ويجوز أن يعاتب على ترك الأفضل.

ويحتمل أن يكون قوله: {عَفَا اللّه عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} تعليم من اللّه أن كيف يعامل الناس بعضهم بعضًا، ليس على العتاب.

ومن الناس من استدل على تفضيل رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على غيره من الأنبياء - صلوات اللّه عليهم - بهذه الآية؛ لأنه بدأ بذكر العفو، وكذلك في جميع ما ذكر من العتاب، لم يذكر زلته، وذكر في سائر الأنبياء الزلات.

٤٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللّه عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤)

٤٥

أي: لا يستأذنك الذين يؤمنون باللّه لغير عذر، إنما يستأذنونك لعذر (إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ... (٤٥) بالقعود لغير عذر.

{وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ}.

 أي: عن شكهم يترددون.

وعن الحسن قال: {لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّه} إلى قوله: {يَتَرَدَّدُونَ}.

نسختها الآية التي في سورة النور: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّه وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَرَسُولِهِ}.

لكن هذا لا يحتمل؛ لأنه ذكر أن سورة التوبة من آخر ما نزل.

أو أنهم إذا كانوا في أمر جامع لم يذهبوا إلا بعد الاستئذان؛ لأنهم كانوا يظهرون الموافقة للمؤمنين في الأمور الجامعة، وأما في الخلوات فلا.

٤٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللّه انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (٤٦)

يحتمل أن يكون هذا في غزوة تبوك؛ على ما قاله أهل التأويل، أمروا بالخروج والتأهب للغزو فعزموا ألا يخرجوا، فعوتبوا على ذلك.

ويحتمل أن يكون في جميع الغزاة عزموا واعتقدوا ألا يخرجوا، ولا يتأهبوا له قط، فقالوا: لو استطعنا لخرجنا معكم، فأكذبهم اللّه - تعالى - أنهم كذبة، وأنهم أغنياء، لكنهم عزموا ألا يخرجوا، ولا يعدوا له عدة، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللّه انْبِعَاثَهُمْ}.

يحتمل قوله: {كَرِهَ اللّه انْبِعَاثَهُمْ} أي: لم يرض اللّه بخروجهم وانبعاثهم.

ثم بين الوجه الذي لم يرض ما ذكر في قوله: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا}، أي: فسادًا، لم يرد اللّه خروجهم لما علم منهم أن خروجهم وانبعاثهم لا يزيد في الجهاد إلا ما ذكر من الخبال والفساد.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَثَبَّطَهُمْ}.

قيل: حبسهم، أي: إذا علم منهم أن خروجهم وانبعاثهم لم يزدهم إلا فسادًا، حبسهم.

ويحتمل: أن خلق منهم الفعل الذي كان منهم من الكسل والتثاقل.

وفيه دلالة خلق اللّه فعل الشر، ويكون في ذلك خير لغيره، وإن كان شرًّا لهم، فعلى ذلك خلق فعل المعصية من العاصي، وهو شر له، ويكون ذلك خيرًا لغيره.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ).

 يحتمل قوله: (وَقِيلَ اقْعُدُوا): لما استأذنوا رسول اللّه بالقعود، أذن لهم في ذلك؛ على ما وقع عنده أن لهم عذرًا في ذلك.

وإن كان من اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - فهو على التهديد والوعيد.

ويحتمل أن يكون من الشيطان، وسوس إليهم أن اقعدوا؛ ترغيبًا منه إياهم بالقعود والتخلف، واللّه أعلم.

٤٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّه عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧)

قوله: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ}، أي: لو كانوا خرجوا فيكم؛ ألا ترى أنه قال: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللّه انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ}؛ دل هذا أنهم لم يكونوا خرجوا، ولو كانوا خرجوا لم يكن يثبطهم، دل أنه ما ذكرنا.

والانبعاث: هو الخروج، وكذلك في حرف ابن مسعود: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللّه انْبِعَاثَهُمْ}.

والتثبيط: الحبس، وأصل التثبيط: التثقيل.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الانبعاث: هو القيام، والخبال: قيل: الفساد والشر.

وقيل: الغي، وهو واحد.

وقوله: {مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا}، يحتمل زيادة الخبال وجوهًا:

يحتمل: أن يكونوا عيونًا للعدو، ويخبروهم عن عورات المسلمين، أو كانوا يجبنون أهل الإسلام؛ كقولهم: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ}، ونحوه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ} قيل: هو من إيضاع الإبل {خِلَالَكُمْ} يتخلل فيما بينكم.

وقيل: {وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ}.

أي: رواحلهم حتى يدخلوا بينكم حتى لا يصيبهم الأذى، كانوا يستترون بالمسلمين؛ لئلا يصيبهم شيء من البلاء والشدة.

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: {وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ}: من الوضع، وهو سرعة السير.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: هو من الإيضاع يكون على الإبل.

وهو عندي من عدو الإبل، يقال: أوضعت البعير، وركضت الفرس، وأجريت الحمار.

{خِلَالَكُمْ}: بينكم.

وقيل: الخلال: القتال، وهو ما ذكرنا أنهم يدخلون فيهم النقصان والقتال والفشل.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ}.

قيل: يبغون منكم الفتنة، وهو الشرك الذي كانوا هم عليه.

ويحتمل ما ذكرنا من القتل، وإدخال الفشل والجبن فيهم، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}.

هذا يحتمل وجهين أيضًا:

يحتمل: أن هَؤُلَاءِ المنافقين يكونون سماعًا لهم وخبرًا وعيونًا، يخبرونهم عن عورات المسلمين وضعفهم.

ويحتمل قوله: {وَفِيكُمْ}: من المؤمنين.

{سَمَّاعُونَ لَهُمْ}؛ لأنه قيل: إنه كان من أصحاب النبي أهل محبة لهم وطاعة؛ لشرفهم فيهم.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}: كان الرجل يرى الجماعة من المسلمين فيضرب دابته حتى يدخل بينهم، ثم يقول: أبلغكم ما بلغني؛ إن العدو أمامكم قد غوروا المياه، وفعلوا كذا، وهيئوا.

ويحتمل قوله: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} أي: فيكم من المنافقين الذين قعدوا ولم يخرجوا يسمعون المؤمنين الذين لم يخرجوا -أيضًا- ما يكرهونه يقولون: الدبرة على المؤمنين، ونحو ذلك من الهزيمة.

وقوله: {وَاللّه عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}.

أي: لا عن جهل أمهلهم على ما هم عليه، ولكن أخرهم ليوم؛ كقوله: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللّه غَافِلًا. . .} الآية.

٤٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّه وَهُمْ كَارِهُونَ (٤٨) تحتمل الفتنة الوجهين اللذين ذكرتهما.

وقول - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ}.

أي: تكلفوا واجتهدوا ليطفئوا هذا النور، {وَظَهَرَ أَمْرُ اللّه} قيل: دين اللّه الإسلام.

ويحتمل: حجج اللّه وأدلته، وهو ما ذكر: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللّه بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّه إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ}.

ويحتمل قوله: {وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ}: ظهرًا لبطن؛ ليمكروا برسول اللّه، ويقتلوه؛ كقوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ. . .} الآية،

وقوله: {وَظَهَرَ أَمْرُ اللّه} ما ذكرنا من دين اللّه وحججه، {وَهُمْ كَارِهُونَ} لذلك؛ كقوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}، فظهر دين الإسلام وهم كارهون له.

٤٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (٤٩)

فيه دلالة أنه لا كل المنافقين قالوا، إنما قال ذلك بعضهم، وبعضهم قالوا غير هذا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا تَفْتِنِّي}.

قيل: لا تؤثمني.

وقيل: ولا تخرجني.

وقيل: ولا تكفرني، والكل واحد، يقول: ومنهم من قال: ولا تفتني، أي: لا تكن سبب فتنتي ومعصيتي، أي: لا تأمرني بالخروج، ولكن ائذن لي بالقعود؛ لأنك إن

أمرتني بالخروج ولم تأذن بالقعود والتخلف فقعدت وتخلفت، كنت عاصيًا، تاركًا لأمرك، فكنت أنت سبب عصياني وفتنتي.

والثاني: قوله: {وَلَا تَفْتِنِّي}، أي: لا تأمرني المشقة والشدة، ولكن الدعة والسعة والرخاء حيث كانوا مالوا إليهم؛ كقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّه عَلَى حَرْفٍ. . .} الآية يقول: لا تكن سبب إثمي وانقلابي.

ومنهم من قال: إن رجلًا منهم يقال له: الجد بن قيس قال: إني إذا رأيت النساء لم أصبر حتى أفتتن، ولكن أعينك بمال، ففيه نزل قوله: {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ}، وهو قول ابن عَبَّاسٍ؛ يقول: لا تأمرني بالخروج؛ فإني مولع بالنساء، لا أصبر إذا رأيتهن.

ولا ندري كيف كانت القصة، لكن الوجوه فيه ما ذكرنا آنفًا.

وقوله: {وَلَا تَفْتِنِّي}، أي: ولا تمتحني بالمحنة التي فيها الهلاك والمشقة، فقال: {أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} أي: ألا في المشقة والفتنة والبلاء والهلاك سقطوا؛ وهذا يدل أن أهل النفاق هم كفرة.

وقوله: {أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} أي: ألا في الشر والإثم سقطوا؛ على تأويل من تأول قوله: {وَلَا تَفْتِنِّي}: لا تؤثمنى، ولا تخرجني.

وعلى تأويل من قال: {وَلَا تَفْتِنِّي}: لا تشق على، ولا تأمرني بالمشقة والشدة والضيق، يقول: ألا في الشدة والضيق يسقطون.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}.

أي: تحيط بهم حتى لا يجدوا منقذا ولا مخلصًا.

أو تحيط بهم من تحت ومن فوق، وأمام وخلف، ويمين وشمال، تحيط بهم حتى تصيب كل جارحة منهم؛ كقوله: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ. . .}، أخبر أنها تحيط بهم.

وفيه دلالة: أن المنافقين هم كفار؛ لأنه ذكر في أول الآية صفة المنافقين، ثم أخبر أن جهنم تحيط بالكافرين.

٥٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ}.

قيل: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ}، أي: الغنيمة، والظفر، والنصر على الأعداء، يسؤهم ذلك، وإن تصبك مصيبة النكبة والهزيمة فرحوا بها. {يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ}.

أي: أخذنا أمرنا بالوثيقة والاحتياط؛ حيث لم نخرج معهم حتى لم يصبنا ما أصابهم.

ويحتمل أن يكون قوله: {قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ}، أي: قد أظهرنا الموافقة للمؤمنين في الظاهر، وكنا مع الكافرين في السر، وواليناهم في الحقيقة، وهو ما ذكر من انتظارهم أحد أمرين في قوله: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللّه قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ. . .} الآية.

{وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ}.

يحتمل: يتولوا أُولَئِكَ الكفرة وهم فرحون.

وفي الآية دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ونبوته؛ لأنه معلوم أن ما يسوءهم كانوا يضمرونه ويسرونه عنهم، ثم أخبر عما أسروا وأضمروا؛ دل أنه إنما علم ذلك باللّه.

٥١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللّه لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللّه فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥١)

قَالَ بَعْضُهُمْ: {إِلَّا مَا كَتَبَ اللّه لَنَا}، أي: قضى اللّه لنا، أي: لن يصيبنا إلا ما

 قضى اللّه لنا.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {إِلَّا مَا كَتَبَ اللّه لَنَا}، أي: ما جاء به القرآن، وهو قوله: {إِنَّ اللّه اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّه فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا}.

ويحتمل قوله: {لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللّه لَنَا}: من الكرامة، والمنزلة، والنعيم الدائم في الآخرة، أي: لن يصيبنا إلا ذلك، وإن كنتم أنتم تفرحون بذلك، فذلك الذي كتب اللّه لنا.

{هُوَ مَوْلَانَا}.

أي: هو ربنا ونحن عبيده، يكتب لنا ما يشاء من الخير والشر؛ أي: ما أكرمنا اللّه لنا، أي: ما أحل لنا وأباح، وأما القضاء فإنه قل ما يقال فيما يكون لهم، وإنما يقال فيما قضى عليهم، وأما الكتاب لهم فهو فيما ... ويحل لهم ويبيح.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَعَلَى اللّه فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}.

يحتمل وجهين:

الأول: يحتمل: على الإخبار، أي: على اللّه يتوكل المؤمنون، لا يتوكلون على غيره.

والثاني: يحتمل: أن يكون على الأمر، أي: على اللّه توكلوا أيها المؤمنون.

٥٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ... (٥٢)

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} يعني: الشهادة، والحياة، والرزق الدائم، والكرامة؛ كقوله - تعالى -: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّه أَمْوَاتًا. . .} الآية.

ويحتمل: إلا إحدى الحسنيين في الدنيا: الغنيمة والظفر؛ يقول: هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين: إما الحياة الدائمة في الآخرة، والرزق الحسن، والكرامة، وإما الغنيمة والنصر في الدنيا، هذا تتربصون بنا ونحن نتربص بكم أن يصيبكم اللّه بعذاب من عنده: العذاب في الآخرة إن قتلتم، أو بأيدينا، أي: القتل بأيدينا.

 {تَرَبَّصُونَ بِنَا} الشر {إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} العذاب بكم، هم كانوا لا يتربصون بنا إلا الدوائر والهلاك، وهو ما ذكر في آية أخرى حيث قال: {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ} هم كانوا لا يتربصون بنا الحسنى، ولكن ما ذكرنا من الدوائر، لكن ذلك وإن كان عند أُولَئِكَ المنافقين هلاك ودائرة، فهو للمؤمنين الحسنى في الآخرة.

٥٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (٥٣)

قَالَ بَعْضُهُمْ: الآية في الجهاد، أن المنافقين كانوا يؤمرون بالجهاد والقتال مع الكفرة على ما أمر أهل الإيمان بذلك، ثم منهم من كان يخرج للجهاد، ومنهم من كان يجهز غيره ويقعد، ومنهم من كان يخرج كارهًا، ونحوه، فنزل قوله: {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا}، أي: خوفًا، {لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ}.

ومنهم من قال: الآية في الزكاة؛ أن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - فرض الزكاة في أموال المؤمنين، والمنافقون قد أظهروا الإيمان، وكانوا ينفقون، ويؤدون الزكاة، لكن منهم من كان يؤدي طوعًا، ومنهم من يؤدي كرهًا، فقال: {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ}؛ لأنهم كانوا لا يرون الزكاة قربة، وكانوا ينفقون وهم كارهون في الباطن.

ألا ترى أنه قال: {وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ}؛ دل أنهم كانوا ينفقون جميعًا وهم كارهون لذلك في الباطن، ثم بين ما به لم يتقبل نفقاتهم، وهو ما ذكر: {إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ}.

٥٤

وقال: (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّه وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (٥٤) في الآية وجهان:

أحدهما: دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه أخبر أنهم لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى، وهم في الظاهر كانوا يأتون الصلاة على ما كان يأتي المؤمنون، ثم أخبر أنهم يأتونها كسالى؛ دل أنه إنما عرف ذلك باللّه، تعالى.

وكذلك أخبر أنهم ينفقون وهم كارهون لذلك، وكانوا ينفقون في الظاهر مراءاة لموافقيهم، ثم أخبر أنهم كانوا كارهين لذلك في السر؛ دل أنه إنما علم ذلك باللّه

 تعالى.

والثاني: ألا تقوم قربة ولا تقبل إلا على حقيقة الإيمان الذي هو شرط قيام هذه العبادات وقبول القرب، لا أن أنفسها إيمان؛ لأنهم كانوا يظهرون الإيمان ويسرون الكفر؛ دل أنه ما ذكرنا، وباللّه التوفيق.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ}.

أي: إنكم كنتم فاسقين.

ويحتمل قوله: {كُنْتُمْ}، أي: صرتم فاسقين بما أنفقتم وأنتم كارهون؛ إذ هم قد أظهروا الإيمان ثم تركوه؛ كقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا}، أخبر أنهم آمنوا ثم كفروا؛ فعلى ذلك الأول.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ {وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى} وكسلى وكسالى فيه لغات ثلاثة والمعنى واحد، وهو أنهم لا يأتون الصلاة إلا مستثقلين؛ لأنهم كانوا لا يرونها قربة.

٥٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (٥٥)

قَالَ بَعْضُهُمْ: هو على التقديم والتأخير؛ كأنه قال: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد اللّه ليعذبهم بها في الآخرة وفي الحياة الدنيا.

والتعذيب في الدنيا: هو ما فرض عليهم الجهاد وأمروا بالخروج للقتال، فكان يشق ذلك عليهم ويشتد، فذلك التعذيب لهم، وهو ما ذكر في آية أخرى: {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ. . .} الآية.

أو التعذيب في الدنيا هو القتل؛ يقتلون إن لم يخرجوا.

وفي الآية دلالة الرد على المعتزلة؛ لأنهم يقولون: لا يعطي اللّه أحدًا شيئًا إلا ما هو أصلح له في الدِّين، ثم قال لرسول اللّه: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ}، ولو كان لم يعطهم الأموال والأولاد إلا للخيرات والصلاح، فكأنه قال: لا يعجبك ما أعطيتهم من الخيرات والصلاح، فذلك بعيد؛ فدل أنه قد يعطي خلقه ما ليس بأصلح لهم في الدِّين.

وكذلك في قوله:

(أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ. . .). الآية، دلالة الرد على قولهم؛ لأنه قال: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ)، ثم قال: {بَلْ لَا يَشْعُرُونَ}، أنه يمدهم به لا للخيرات؛ دل أنه قد يعطي خلقه ما ليس هو أصلح لهم في الدِّين.

وفي قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} دلالة الرد عليهم أيضًا؛ لأنه أخبر أنه يعذبهم في الدنيا والآخرة، ولا يعذبهم مجانًا فيما لا فعل لهم في ذلك؛ دل أن لهنم صنغا في ذلك، وأنه إنما يعذبهم بفعل اكتسبوه.

وفي قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا} دلالة أن ليس كل ما يعطيهم إنما يعطيهم ليرحمهم به، ولكن يعطيهم لما علم منهم، فإن كان علم منهم أنهم يستعملون ما أعطاهم من الأموال وغيرها فيما فيه هلاكهم، أعطاهم لذلك، ومن علم منهم أنهم يستعملونه لنجاتهم أعطاهم ليرحمهم به، فإنما أعطي كلًّا ما علم أنه يكون منهم؛ لأنه لو أعطاهم على غير ما علم منهم يكون في إعطائه مخطئًا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ}.

قيل: تخرج أنفسهم وتهلك خوفًا.

قال أَبُو عَوْسَجَةَ: يقال: خرج نفسه من فمه.

وقيل: تذهب أنفسهم؛ كقوله: {وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} أي: - ذهب.

وكذلك قال أبو عبيد: تزهق، أي: تذهب.

 وفي الآية دلالة إثبات رسالة رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه أخبر أن أنفسهم تزهق وهم كافرون، فكان ما ذكر؛ دل أنه علم ذلك باللّه.

٥٦

قوله تعالى: (وَيَحْلِفُونَ بِاللّه إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَحْلِفُونَ بِاللّه إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ}.

في الباطن في الدِّين؛ لأنهم كانوا معهم في الظاهر.

وقال: {وَمَا هُمْ مِنْكُمْ}: في الباطن في الدِّين.

{وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ}، أي: يخافون القتل، فيظهرون الموافقة لهم.

٥٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧)

قيل: لو وجدوا حرزًا {أَوْ مَغَارَاتٍ} يعني: الغيران في الجبال، {أَوْ مُدَّخَلًا} أي: سربًا في الأرض في الجبال - {لَوَلَّوْا إِلَيْهِ}، أي: رجعوا إليه {وَهُمْ يَجْمَحُونَ}، أي: يسعون.

وعن ابن عَبَّاسٍ: قال: الملجأ: الحرز في الجبال، والمغارات: الغيران، والمدخل: السرب.

قال أَبُو عَوْسَجَةَ: المغارات مثل الملجأ، وهو شيء يتحصنون فيه، {مُدَّخَلًا}: هو موضع يدخلونه أيضًا: {وَهُمْ يَجْمَحُونَ} أي: يسرعون، يقال: جمحت الدابة، تجمح جماحًا، فهو جامح، وهو من الإسراع، وكذلك قَالَ الْقُتَبِيُّ.

وقال أبو معاذ: الجموح: الراكب رأسه وهواه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {أَوْ مُدَّخَلًا} لو يجدون ناسًا يدخلون بينهم، {لَوَلَّوْا إِلَيْهِ}: دونكم.

وأصله: أنهم لو وجدوا مأمنًا يأمنون {لَوَلَّوْا إِلَيْهِ} أي: لصاروا إليه مسرعين، ولا يظهرون لكم الإيمان، ولكن ليس لهم ذلك، واللّه أعلم.

٥٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمِنهُم} يعني: المنافقين {مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} اختلف فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: {يَلْمِزُكَ} ويزورك لمكان الصدقات؛ طمعًا فيها؛ لتعطيهم الصدقات، و {يَلْمِزُكَ}، أي: يزورك؛ ليسألك من الصدقات، أي: إنما يزورونك لمكان الصدقات لتعطيهم، لا يزورونك ولا يأتونك لمكان الرسالة، أو رغبة في الدِّين، ولكن لمكان الصدقات، فإن أعطوا منها رضوا عنك ويعظمونك، وإن لم تعطهم إذا هم يسخطون؛ لأن إتيانهم رسول اللّه وزيارتهم إياه لمكان الصدقة، فإذا لم يعطوا منها شيئًا سخطوا.

ومنهم من قال: قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} أي: يطعن عليك في الصدقات، أو في قسمة الصدقات.

روي عن أبي سعيد الخدري قال: بينا رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقسم قسمًا له، فجاءه رجل يقال له: ابن ذي الخويصرة التميمي، فقال: اعدل يا رسول اللّه، فقال له النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل أنا؟! "، فقال عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: ائذن لي يا رسول اللّه فأضرب عنقه، فقال له النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " دعه؛ فإن له أصحابًا يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم "؛ لحسن صلاتهم وصيامهم، فيحقر صلاته عند صلاة أُولَئِكَ، " يمرقون من الدِّين كما يمرق السهم من الرمية " ذكر حديثًا طويلًا، وهو كأنه

 كان من الخوارج، وهو الذي قتله علي بن أبي طالب، رَضِيَ اللّه عَنْهُ.

٥٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللّه وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللّه سَيُؤْتِينَا اللّه مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّه رَاغِبُونَ (٥٩)

ما آتاهم اللّه من الرزق، ورسوله من الصدقات.

{وَقَالُوا حَسْبُنَا اللّه سَيُؤْتِينَا اللّه مِنْ فَضْلِهِ}.

أي: من دينه ورسوله، وقالوا: حسبنا اللّه، كان خيرًا لهم مما طمعوا في هذه الصدقات، وطعنوا رسول اللّه في ذلك.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: لو رضوا ما آتاهم اللّه ورسوله من فضله مما رزق لهم، لكان خيرًا لهم مما فعلوا.

وقال بعض أهل التأويل: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللّه سَيُؤْتِينَا اللّه مِنْ فَضْلِهِ}، أي: من الصدقات التي كان أعطاهم رسول اللّه منها وإلى اللّه رغبوا، لكان خيرًا مما طمعوا في تلك الصدقات، وطعنوا رسول اللّه، وسخطوا عليه.

ويقرأ (ويلمُزك): برفع الميم.

قال أَبُو عَوْسَجَةَ: اللمز: العيب؛ يقال له: لماز ولامز، وهماز وهامز.

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: {يَلْمِزُكَ}، أي: يعيبك ويطعن عليك؛ يقال: همزت فلانًا ولمزته: إذا اغتبته وعبته، وكذلك قول اللّه: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ}.

٦٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ... (٦٠)

يشبه أن تكون الآية في بيان موضع الصدقة؛ على ما تقدم من الذكر بقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا. . .} الآية، ما ذكر أن المنافقين كانوا يأتون رسول اللّه، يسألونه من الصدقات، فإن أعطاهم رضوا عنه، وإن لم يعطهم طعنوا فيه، وعابوا عليه، فبين أن الصدقات ليست لهَؤُلَاءِ، ولكن للفقراء من المسلمين، والمساكين من المسلمين، وكذلك ما ذكر من الأصناف:

المكاتبين والغارمين. . . أنها لهَؤُلَاءِ من المسلمين، لا لهم.

ويدل على ذلك ما جاء من الأخبار: ورُويَ عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه وضع صدقات بأعيانها حملت إليه في صنف واحد مثل: ما روي أنه أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى فلانًا كذا.

ورُويَ عن الصحابة أنهم وضعوا الصدقة في صنف واحد.

وروي عن حذيفة أنه قال: هَؤُلَاءِ أهلها، ففي أي صنف وضعتها أجزأك.

وعن ابن عَبَّاسٍ أنه قال كذلك.

وعن عمر: أنه كان إذا جمع صدقات الناس، المواشي والبقر والغنم، نظر ما كان منتجة للبن، فيعطي لأهل البيت على قدر ما يكفيهم، فكان يعطي العشرة شاة للبيت الواحد، ثم يقول: عطية تكفي خير من عطية لا تكفي، أو كلام نحو هذا.

وقد روي عنه أنه سئل عن ذلك، فقال: واللّه، لأردن عليهم الصدقة حتى يروح على أحدهم مائة ناقة، أو مائة بعير.

وعن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه أتي بصدقة، فبعثها إلى أهل بيت واحد.

هَؤُلَاءِ نجباء الصحابة استجازوا وضع الصدقة في صنف واحد، ولو كان حق كل صدقة أن تقسم بين هَؤُلَاءِ الأصناف الذين ذكر بالسوية على ما قال القوم، لكان قال اللّه - عَزَّ وَجَلَّ -: إنما الصدقات بين الفقراء وبين من معهم من الأصناف، كما يقال: الميراث لقرابة فلان، أي: ليس للأجنبيين في ذلك حق، ولا يقال: الميراث بين قرابة فلان؛ لأن لكل في ذلك حقا؛ لأن حرف " بين " يقتضي التسوية بجميعهم،

وقوله: " لهم " يقتضي أنه لا حق فيه لغيرهم.

ألا ترى أنه يقال: الخلافة لولد العباس، يراد أنه لا حظ فيها لغيرهم، والسقاية لبني هاشم، ونحوه، ليس يراد ذلك بينهم بالتسوية، وإنما يراد ذلك أن لا حق لغيرهم فيها؟!

وبعد، فإنه لو كان في الآية: إنما الصدقات بين الفقراء وبين من ذكر معهم، لكان لا يجب قسمة كل صدقة بين هَؤُلَاءِ الأصناف المذكورة في الآية؛ لأنه ليس للصدقات انقطاع، بل لها مداد إذا دفع صدقة واحدة إلى صنف واحد، فإذا أتى بصدقة أخرى دفع إلى صنف آخر، هكذا يعمل في الأصناف كلها.

وبعد، فإنه لم يذكر عن أحد من الأئمة أنه تكلف طلب هَؤُلَاءِ الأصناف فقسمها بينهم، وكذلك لم يذكر عن أحد من أرباب الأموال أنهم دفعوا صدقة واحدة بين هَؤُلَاءِ الذين ذكر؛ فدل أنه خرج على ما ذكرنا؛ لأنه لو كان على تسوية كل صدقة بينهم، لم يجز ألا يقسموها كذلك ويضيعون حق البعض من هَؤُلَاءِ.

وبعد، فإنه لو تكلف الإمام أن يظفر بهَؤُلَاءِ الثمانية ما قدر على ذلك، دل أنه لم يخرج الخطاب على توهم خصومنا.

ولأن الحق لو كان التسوية بينهم في كل صدقة، لكان إذا لم يجد في بلدة مكاتبين أو واحدا من هَؤُلَاءِ الأصناف، فيجب أن يسقط مقدار حصة من لم يجد عن أربابها، فذلك بعيد؛ فقد جاء في الخبر أنه بعث معاذًا إلى اليمن، فقال له: " خذ من أغنيائهم ورد في فقرائهم ".

ويكره إخراج صدقة كل بلد إلى غيره من البلدان.

ثم تحتمل الآية جميع الصدقات التي يتصدق بها على الفقراء والمساكين من الفيء وغيره، فبين أن هَؤُلَاءِ موضع لذلك كله، من نحو قوله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}

وقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}.

ويحتمل زكاة الأموال المفروضة، والوجه فيه ما ذكرنا.

فَإِنْ قِيلَ: إن الرجل إذا أوصى فقال: ثلث مالي لفلان وفلان وفلان، أليس هو مقسومًا بينهما بالسويّة؟ ما منع أن الأول بمثله؟

قيل: لا تشبه الصدقات الوصايا؛ وذلك أن الوصية إنما وقعت في مال معلوم، لا يزيد فيه بعد موت الميت شيئًا، ولا يتوهم له مدد، والصدقات يزيد بعضها بعضًا، وإذا فني مال جاء مال آخر، وإذا مضت سنة جاءت سنة أخرى بمال جديد، فإذا دفع الإمام صدقة جميع ما عنده إلى الفقراء ثم حضره غارمون فتحمل إليه صدقة أخرى يجعلها فيهم، فيصلح بذلك أحوال الجميع؛ لما لا انقطاع للأموال إلى يوم القيامة.

وكيف تقسم الصدقة على ثمانية أسهم؟ ولا خلاف في أن للعاملين بقدر عمالتهم زاد ذلك على الثمن أو نقص منه، فإذا زالت القسمة في أحد الأصناف زالت في الجميع، فأعطي كل صنف منهم بقدر حاجته كما أعطي العاملون، وكيف يصنع بسهم المؤلفة قلوبهم وقد ارتفع ذلك ونسخ؟ وعلى ذلك جاء عن بعض الصحابة، من نحو أبي بكر وعمر أنهم لم يعطوهم شيئًا، أليس يرد ذلك على سائر السهام؟! فإذا جاز أن يزاد على الثمن في وقت، جاز أن ينقص منه في وقت.

وفي قوله: {وَالْعَامِلِينَ} دلالة أن لا بأس للأئمة والقضاة أخذ الكفاية من بيت المال، ولكل عامل للمسلمين أخذ كفايته ورزقه من ذلك إذا فرغ نفسه لذلك، وكفها عن

غيره من المنافع والأعمال.

ثم اختلف في الفقراء والمساكين؛

قَالَ بَعْضُهُمْ: الفقراء: هم من المهاجرين؛ كقوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ}، والمساكين: من الذين لم يهاجروا.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الفقير: الذي به زمانة، والمسكين: الذي ليست به زمانة، وهو محتاج.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الفقراء: هم المتعففون الذين لا يخرجون ولا يسألون الناس؛ كقوله - تعالى -: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} والمساكين: هم الذين يسألون، وكذلك قال الحسن.

وعن عمر قال: ليس المسكين الذي لا مال له، ولكن المسكين الذي لا يصيب المكسب.

وعن ابن عَبَّاسٍ قال: الفقراء فقراء المسلمين، والمساكين: الطوافون. وهو قريب مما قاله الحسن.

وعن الأصم قال: الفقير: الذي لا يسأل، وهو ما ذكرنا بدءًا، والمسكين: الذي يسأل إذا احتاج، ويمسك إذا استغنى.

وروي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - برواية أبي هريرة - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: " ليس المسكين هذا الطواف الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان " قيل: فما المسكين يا رسول اللّه؟ قال: " الذي لا يجد ما يغنيه، ولا يفطن له، فيتصدق عليه، ولا

يقوم فيسأل الناس ".

فهذا لو حمل على ظاهره لدفع قول من قال: إن المسكين هو الذي يسأل الناس، ولكن يجوز أن يكون معناه - واللّه أعلم - أن الذي يسأل وإن كان عندكم مسكينًا، فإن الذي لا يسأل أشد مسكنة منه، ولا يحمل على غير ذلك؛ لأن اللّه قد سمى الذين لا يسألون الناس فقراء، ولا يجوز أن يجعل الحديث مخالفًا للآية ما أمكن أن يكون موافقًا لها؛ قال اللّه - تعالى -:

(يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (١٦).

فقوله {ذَا مَقْرَبَةٍ} قيل: هو الذي لا حائل بينه وبين التراب لفقره؛ فدل بذلك - واللّه أعلم - على أن المسكين هو الشديد الفقر، والفقير هو الذي لا يملك شيئًا، ولم يبلغ في الفقر والضرورة حال المسكين، ويدل لذلك قول عمر: ليس المسكين من لا مال له، ولكن المسكين من لا مكسب له؛ كأنه يقول: إن الذي لا مال له وله مكسب هو فقير، والمسكين أشد حالًا من الفقير، وليس له مال ولا مكسب.

وإن حمل قول النبي - عليه السلام -: " ليس المسكين الذي يسأل، ولكن المسكين الذي لا يفطن له ولا يسأل " على أن ذلك الذي لا يفطن به هو أشد مسكنة من الآخر، وإن كان الآخر مسكينًا -أيضًا- كان موافقًا للمعنى الذي ذكرنا؛ لأنا قلنا: إن المسكين هو الشديد الفقر، وقد يكون فقيرًا وإن لم يبلغ به الضر مبلغ الضر الأول.

وقد يخرج قول من قال: إن المسكين الذي يخرج هذا المخرج؛ لأن من شأن المسلم الفقير أنه يتحمل ما كانت له حيلة، ويتعفف، ولا يخرج فيسأل وله حيلة فخروجه يدل على شدة ضيقه، وعلى الزيادة في سوء حاله، فكان القولان جميعًا يرجعان إلى معنى واحد.

وإذا كان الفقير أحسن حالا من المسكين لما ذكرنا، فقد يجوز أن تدفع الصدقة إلى من له مال قليل؛ لأنه فقير، وإن لم يكن حاله في فقره حال المسكين الذي لا يملك شيئًا، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا}.

اختلف فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: يعطى لهم الثمن.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: يعطى لهم قدر عمالتهم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: يعطى لهم قدر كفايتهم وعيالهم.

أما قول من قال: يعطى لهم الثمن: فلا معنى له؛ لما يجوز ألا يبلغ الثمن الوفاء أو عمالته لا تبلغ عشر عشر ذلك.

ومن قال: يعطى لهم قدر كفايتهم وكفاية عيالهم، فهو - واللّه أعلم - إذا كان هو يسلم نفسه لذلك واستعمله الإمام في جميع أمور المسلمين، فإذا كان كذلك يعطى له عند ذلك الكفاية له ولعياله، وأما إذا تولى شيئًا من تلك العمالة في وقت، فيعطي له الكفاية فلا.

والأشبه عندنا: أن يعطى لهم قدر عمالتهم، وهكذا الإمام إذا استعمل أحدًا في عمل من أعمال اليتيم فإنه يعطى له قدر أجر عمله.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ}.

قد ذكرنا فيما تقدم أنه - عليه السلام - كان يعطي الرؤساء من المنافقين من الصدقات، يتألف به قلوبهم ليسلموا؛ على ما روي أنه كان يعطي فلانًا مائة من الإبل، وفلانًا كذا.

روي أنه قسم ذهبة أو أديمًا مقروطًا، بعثها علي - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - من اليمن، بين الأقرع بن حابس وبين فلان وفلان.

والحديث في هذا كثير أن النبي كان يخص به الرؤساء منهم بالصدقة يتألفهم، والإسلام في ضعف وأهله في قلة، وأُولَئِكَ كثير ذوو قوة وعدة، فأما اليوم فقد كثر أهل

الإسلام، وعز الدِّين، وصار أُولَئِكَ إذ لا يحمد اللّه، فقد ارتفع ذلك وذهب " إذ قوي المسلمون وكثروا، فيقاتلون حتى يسلموا، وعلى ذلك جاء الخبر عن أبي بكر وعمر - رضي اللّه عنهما - فدل على ما ذكرنا.

روي أن الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن جاءا إلى أبي بكر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - فقالا: يا خليفة رسول اللّه، إن عندنا أرضًا سبخة، ليس فيها كلأ ولا منفعة، فإن رأيت أن تقطعناها، فأقطعنا إياها، وكتب لهما عليها كتابًا، وأشهد عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - وليس في القوم، فانطلقا إلى عمر ليشهداه، فلما سمع عمر ما في الكتاب، فتناوله من أيديهما، ثم نظر فيه، فمحاه، فتذمرا وقالا له مقالة سيئة، فقال: إن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يتألفكما والإسلام يومئذ قليل، وإن اللّه - تعالى - قد أعز الإسلام، اذهبا فاجهدا

جهدكما، لا أرعى اللّه عليكما إن رعيتما.

ونحن نذهب إلى هذا الحديث؛ لأن أبا بكر لم ينكر على عمر قوله وفعله، فصار ذلك وفاقًا منه له، فكفى بقولهما حجة لنا.

ولنا في ذلك وجهان من الحجج:

أحدهما: أن النبي - عليه السلام - كان يعاهد قومًا وهو إلى مداراتهم ومعاهدتهم محتاج؛ لما ذكرنا من قلة أهل الإسلام وضعفهم، فلما أعز اللّه الإسلام وأكثر أهله ردّ إلى أهل العهود عهودهم، ثم أمر بمحاربتهم جميعًا.

والثاني: ما قال اللّه - تعالى -: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ}، فكانت الحال الثانية التي عز فيها الإسلام وقوي أهله وعزوا

مخالفة للحال الأولى في هذه الأشياء، فكذلك أمر المنافقين جائز الرضا في الحال الأول محظور في الحال الثانية، واللّه أعلم.

وفي الآية دلالة جواز النسخ بالاجتهاد؛ لارتفاع المعنى الذي به كان؛ ليعلم أن النسخ قد يكون بوجوه.

وفي خبر أبي بكر، وعمر - رضي اللّه عنهما - دلالة أن إذن الإمام شرط في إحياء الأرض الموات التي لا تملك إلا بالإذن؛ لأن ذَيْنَك الرجلين اللذين أتيا أبا

بكر، والأرض لا كلأ فيها، وذلك صورة أرض الموات.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَفِي الرِّقَابِ}.

اختلف فيه؛

قَالَ بَعْضُهُمْ: معناه: العتق، ويجوز أن يعتق عن الزكاة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هم المكاتبون، يستأدونهم في كتابتهم، وقالوا: لا يشبه الإعتاق ما يدفع إلى المكاتب فيؤدي فيعتق؛ لأن العتق ليس بتمليك، وإنما هو إبطال ملك، وما يدفع إلى المكاتب فهو تمليك، فذلك مختلف، وإنما تكون الزكاة زكاة إذا زالت من مالك إلى مالك.

والثاني: أن العتق يوجب الولاء للمعتق، فحقه فيه باق، والذي يديم الزكاة إلى مكاتب لغيره لا يرجع إليه بذلك حق، ولا يجب فيه ولاء، فهما مختلفان.

والثالث: وهو أن اللّه - تعالى - قال: {وَالْغَارِمِينَ}، ولو أن رجلا قضى من غارم دينه بغير أمره، لم يجز من زكاة ماله، وإنما يكون زكاة إذا دفعها إلى الغارم، فعتق المزكي العبد بمنزلة قضاء دين الغارم؛ لأنه لا يحتاج في واحد منهما إلى قبول من الغارم والعبد، وإعطاؤه المكاتب في الزكاة كدفعه إياها إلى الغارم؛ لأنه قد دفعها في كلا الحالين إلى من قبلها منه من زكاة وقبضها، وفي ذلك وجه آخر: وذلك أن أشتري عبدًا من رجل لأعتقه، فقد صار ثمنه دينًا في ذمتي قبل أن أنقد المال، فإذا أقبضته فإنما قضيته عن ذمتي دينًا قد لزمني، ولا يجوز أن أقضي ديني.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَفِي سَبِيلِ اللّه}.

قيل: هم الغزاة.

ويحتمل: {وَفِي سَبِيلِ اللّه}، أي: في طاعة اللّه أن كل من سعى في طاعة اللّه وسبيل الخيرات، فإنه داخل في ذلك.

وقوله: {وَابْنِ السَّبِيلِ}

قيل: الضيف ينزل به.

وقيل: هو المار عليك وإن كان غنيًّا، المنقطع عن ماله.

وقوله: {فَرِيضَةً مِنَ اللّه} يحتمل: بيانًا من اللّه وإعلامًا أهل الصدقات منهم من غيرهم.

ويحتمل قوله: {فَرِيضَةً مِنَ اللّه} أي: واجبًا من اللّه وفرضًا {وَاللّه عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.

٦١

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّه وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّه لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٦١)

أخبر أنهم يؤذون النبي، ولم يبين بما كانوا يؤذونه، فيحتمل: يؤذون النبي بتكذيبهم إياه، وتركهم الإجابة له والطاعة فيما يدعوهم إليه.

ويحتمل: يؤذونه بكلمات يسمعونه، وطعن يطعنونه، ويعيبون عليه {وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ}.

قيل: الأذن هو الذي يقبل العذر ممن اعتذر إليه، ويسمع من كل أحد يعتذر إليه ويقبل، وكذلك كان - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقبل العذر ممن اعتذر إليه ويسمع، منه سواء كان له عذر أو لا عذر له؛ لكرمه وشرفه، وحسن خلقه، فظن أُولَئِكَ لما رأوه أنه كان يعاملهم معاملة أهل الكرم والشرف والمجد أنه إنما يعاملهم هذه المعاملة لسلامة قلبه، وصغر همته، وقصور يده، وهم كانوا أهل كبر وأنفة، قالوا: هو أذن، نقول ما شئنا ثم نتخلف ونعتذر إليه فيصدقنا، ويقبل عذرنا؛ قال اللّه - تعالى -: {قُلْ} يا مُحَمَّد {أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} أي: الذي يقبل العذر ويسمع خير لكم من الذي لا يقبل ولا يسمع، فكيف تؤذونه، وتطعنون عليه وتعيبونه، ولا تصدقونه ولا تؤمنون به؟ يخبر عن سفههم.

قال أَبُو عَوْسَجَةَ: الأذن: الذي من قال له شيئًا، أو حدثه حديثًا، صدقه واستمع منه، وكذلك كان رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يصدق كل من قال له شيئًا أو حدثه حديثًا، واستمع منه؛ لكرمه، وشرفه، ومجده، وحسن خلقه، لا لما ظن أُولَئِكَ.

وقيل: يقولون: هو أذن، أي: يسر في نفسه ويكتم، ولا يكافئ من آذاه، ولا يجازيه؛ قال اللّه: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّه وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ}.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {يُؤمِنُ بِاللّه}، أي: يصدق باللّه بما ينزل عليه من آياته.

{وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ}، أي: يصدقهم فيما بينهم من شهاداتهم، وأيمانهم على حقوقهم، وفروجهم، وأموالهم.

ويحتمل قوله: يؤمن باللّه ويصدقه بما يخبره من سرّ المنافقين، وما استكتموه منه من

الكيد له، والمكر به، ويؤمن للمؤمنين بما يخبرونه من قبل أُولَئِكَ المنافقين من الطعن فيه، والعيب عليه، والإيمان بآخر هو التصديق بجميع ما فيه، والإيمان له من خبره وحديثه.

وقوله: {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ}.

فيما يشهدون في الآخرة له بالتبليغ إليهم؛ كقوله؛ {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} أو أن يكون قوله: {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ}، أي: يؤمن بالمؤمنين فيما بينهم بالأخوة في الدِّين؛ كقوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ}.

كان - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - رحمة للمؤمنين؛ لما استنقذهم من الكفر إلى الإيمان، ومن الهلاك إلى النجاة، يشفع لهم في الآخرة بإيمانهم في الدنيا.

{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّه لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

في الآخرة، بقية من الآية الأولى.

وقوله: {وَالْغَارِمِينَ}.

جعل اللّه الغارم موضعًا للصدقة، وهو الذي عليه الدِّين والغرم من أي وجه لحقه؛ وعلى ذلك روي في الخبر عن نبي اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " إن المسألة لا تحل إلا لإحدى ثلاث: من فقر مدقع، أو غرم مفظع، أو لذي دم موجع ".

وفي بعض الأخبار: " إن الصدقة لا تحل إلا لخمس: للعاملين عليها، أو رجل اشتراها، أو غارم، أو غاز في سبيل اللّه، أو فقير تصدق عليه فأهداها لغني ".

وروي عن الحسن، والحسين وابن عمر، وابن جعفر أن رجلاً سألهم شيئًا فقالوا:

إن كانت مسألتك في إحدى ثلاث فقد وجب حقك: في فقر مدقع، أو غرم مفظع، أو دم موجع.

هذه الأخبار كلها تدل على أن الغارم موضع للصدقة، قل دينه أو كثر.

فَإِنْ قِيلَ: في الخبر: " أو غرم مفظع "، قيل: لا خلاف بينهم في أن من دينه غير مفظع فله أن يأخذ بقدر دينه من الصدقة، فهذا يدل أن الذي روي في الخبر إنما هو لكراهة المسألة، لا على التحريم، وهكذا نقول: إن المسألة لا تحل له إذا كان غرمه غير مفظع، ولكن يحل وضعه عنه وأخذه له.

مسألة: قوله: {وَابْنِ السَّبِيلِ} هو ما ذكرنا أنه المنقطع من ماله، جعله اللّه موضعًا للصدقة، وإن كان غنيا في مقامه للحاجة التي بدت له؛ وعلى ذلك روي عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل اللّه، أو ابن السبيل، أو رجل له جار مسكين تصدق عليه فأهدى له ".

وفي بعض الأخبار عنه ما ذكرنا قال: " لا تحل الصدقة إلا لخمس، وفيه: أو فقير تصدق عليه فأهداها لغني ".

وقد يكون الرجل غنيًّا بأن يكون له دار يسكنها، ومتاع يتهيأه، وثياب وعزم على الخروج في سفر غزو احتاج من آلات سفره، وسلاح يستعمله في غزوه، ومركب يغزو عليه، وخادم يستغني بخدمته إلى ما لم يكن محتاجًا إليه في حال إقامته، فيجوز أن يعطى من الصدقة ما يستغني به في حوائجه التي يحدثها لسفره، فهو في مقامه غني بما يملكه؛ لأنه غير محتاج حينئذ إلى ما وصفنا، وهو في حال سفره غير غني، فيحتمل أن يكون معنى قوله: " لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل اللّه " على من كان غنيًّا في حال مقامه، فيعطى بعض ما يحتاج إليه لسفره؛ لما أحدث له السفر من الحاجة.

ألا ترى أن الرجل قد يكون له المتاع لا يحتاج إليه، والدابة لا يركبها، فإذا صار ذلك مائتي درهم لم يجز له أن يأخذ من الزكاة، فإن عرض له مرض أو سفر فاحتاج إلى دابة

ليركبها، أنه يخرج من الغناء بما حدث له من الحاجة إلى الركوب، وكان له أن يأخذ من الصدقة عندنا لا يستغني عما هو له، وإنما الغني من استغني عما يملكه.

فكذلك الغارم على العرف قد تحدث له الحاجة إلى أكثر مما يملك، وصار ممن يجوز أن يعان، وإن كان ملكه الذي كان به غنيا قبل ذلك لم ينقص، فهذا - واللّه أعلم - يحتمل.

وابن السبيل -أيضًا- ما ذكرنا من الخبر ألا تحل الصدقة لغني إلا لابن السبيل ومن ذكر معه، وعلى ذلك اتفاق الأمة، وهو ما قيل: المجتاز من أرض إلى أرض.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه تعالى عنه - في تأويل قوله: {إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ}: هو المسافر. وهو ما ذكرنا أنه المنقطع عن ماله وإن كان غنيا في مقامه، والفقير الذي يجوز أن يعطى من الصدقة.

روي عن الحسن بن علي - رضي اللّه عنهما - قال: قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " للسائل حق وإِن جاء على فرس ".

وعن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أعطوا السائل ولو جاء على فرس ".

وجاء في بعض الأخبار عن رسول اللّه قال: " لا يسأل عبدٌ - أو قال: أحد - مسألة ما يغنيه إلا جاءت يوم القيامة خدوشًا وكدوحًا في وجهه " قيل: يا رسول اللّه، وماذا

يغنيه؟ أو ما أغناه؟ قال: " خمسون درهمًا أو حسابها من الذهب ".

وفي بعض الأخبار يقول: " من سأل وله أربعون درهمًا فقد ألحف ".

وعن علي وعبد اللّه قالا: لا تحلّ الصدقة لمن له خمسون درهمًا، أو عوضها من الذهب.

وعن عمر كذلك.

وعن ابن عَبَّاسٍ قال: سال رجل رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: إن لي أربعين درهمًا، أمستكثر أنا؟ قال: " نعم ".

وفي بعض الأخبار عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوي ".

وفي بعض الأخبار:

ولا " لقوي مكتسب ".

وإنما يحمل قوله: " لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوي " على الزجر عن

 العرض على الصدقة والمسألة عليها.

ألا ترى أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " إن الصدقة لا تحل إلا في إحدى ثلاث "، فذكر إحداها: " أو فقر مدقع "، فذلك يبيح لذي المرة السوي أن يقبل.

ألا ترى أن الرجلين اللذان سألا رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال لهما: " إن شئتما أعطيتكما "، فلو كان حرامًا عليهما ما أعطاهما الحرام، ولكن ذلك على الزجر عن المسألة.

وروي عن سلمان أنه حمل إلى رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - صدقة، فقال لأصحابه: " كلوا " ولم يأكل هو، ولا يتوهم متوهم أن أصحابه كانوا زمنى، فهذا يبين أن النبي أراد الزجر عن المسألة والتعرض لها إلا في حال الضرورة، لا على التحريم لها وأن من أخذها وله أقل من مائتي درهم أو قيمتها، فله فيها ملك سداد من عيش، فذلك مكروه.

ألا ترى أنه روي عن الحسن أنه قال: كان أصحاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يأخذون الصدقة ولأحدهم من السلاح والكراع والعقار قيمة عشرة آلاف درهم. فهذا حسن، والتعفف عنها أحسن؛ لقول رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " من استغنى أغناه اللّه، ومن استعف أعفه اللّه ".

وقوله: " لأن يأخذ أحدكم حبلا فيحتطب خير له من أن يسأل الناس شيئًا أعطوه أو منعوه ".

٦٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَحْلِفُونَ بِاللّه لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّه وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢)

بما حلفوا عليه.

ذكر بعض أهل التأويل أن الأنصار مشت إليهم - يعني: إلى المنافقين - فقالوا: قد

عيرنا بما نزل فيكم فحتى متى؟! فكانوا يحلفون للأنصار: واللّه ما كان شيء من ذلك، فاكذبهم اللّه فقال: {يَحْلِفُونَ بِاللّه لَكُمْ}: ما كان الذي بلغكم، {لِيُرْضُوكُمْ}: بما حلفوا، {وَاللّه وَرَسُولُهُ أَحَقُّ}: منكم يا معشر الأنصار، {أَن يُرْضُوُه}: حيث اطلع على ما حلفوا وهم كذبة، {إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} يقول: ولكن ليسوا بمصدقين.

والأشبه أن تكون الآية نزلت في معاتبة جرت بين المؤمنين والمنافقين باستهزاء كان منهم برسول اللّه، أو طعن فيه، أو استهزاء بدين اللّه، فاعتذروا إليهم وحلفوا على ذلك ليرضوهم، فقال اللّه: {وَاللّه وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} حقيقة ولكن ليسوا بمؤمنين.

وأما ما قاله بعض أهل التأويل أن رجلًا من المنافقين قال: واللّه، لئن كان مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقًّا لَنَحْنُ شَرٌّ مِنَ [الْحَمِيرِ]، فسمعها رجل من المسلمين، فأخبر بذلك رسول اللّه، فدعاه، فقال: " ما حملك على الذي قلت " فحلف والتعن ما قاله، فنزل قوله: {يَحْلِفُونَ بِاللّه لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ}، هذا لو كان ما ذكر، لكانوا يحلفون لرسول اللّه، لا يحلفون لهم؛ دل أن الآية في غير ما ذكر.

ويذكر عن ابن عَبَّاسٍ أن الآية نزلت في ناس من المنافقين تخلفوا عن رسول اللّه في غزوة تبوك، فجعلوا يحلفون لرسول اللّه حين رجع أنهم لا يتخلفون عنه أبدًا وكذلك قال غيره من أهل التأويل، ولكن لو كان ما قالوا لكانوا يحلفون لرسول اللّه ويرضونه، لا للمؤمنين؛ دل أن الأشبه ما ذكرنا، وفيه وجوه:

أحدها: أن فيه دلالة تحقيق رسالته - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ليعلموا أنه حق؛ حيث اطلع على ما أسروا في أنفسهم وكتموا من المكر به وأنواع السفه.

 والثاني: ليحذروا ويمتنعوا عن مثله والمعاودة إليه؛ لما علموا أنه يطلع على جميع ما يسرون عنه ويكتمون.

والثالث: تنبيهًا للمؤمنين وتعليمًا لهم منه بأنه إذا وقع لهم مثل ذلك لا يشتغلون بالحلف طلبًا لإرضاء بعضهم بعضًا، ولكن يتوبون إلى اللّه، ويطلبون منه مرضاته.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاللّه وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ}.

ذكر نفسه ورسوله ثم أضاف الرضاء إلى رسوله بقوله: {أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ}، ولم يقل: أحق أن يرضوهما؛ فهو - واللّه أعلم - لأنهم إذا أرضوا رسوله رضي اللّه عنهم، وكان في إرضائهم رسوله إرضاء له، فهو ما ذكر أنهم {إِذَا دُعُوا إِلَى اللّه وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} ثم أضاف الحكم إلى رسوله؛ لأنهم إنما دعوا إلى أن يحكم الرسول بينهم.

وقوله: {وَاللّه وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ}؛ لأن الخلاف والخيانة كان في حق اللّه، وفي حق رسوله، لم يكن في حق المؤمنين؛ لذلك قال: {وَاللّه وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} من المؤمنين.

ثم ذكر محادة اللّه ورسوله، ثم اقتصر على رضاء رسوله؛ لأنهم لم يقصدوا قصد مخالفة اللّه، وإنما قصدوا قصد مخالفة، رسوله، أو أن يكون ذكر إرضاء أحدهما؛ لأن في إرضاء رسوله رضاء الرب؛ كقوله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّه}.

٦٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللّه وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (٦٣)

وفي الآية دلالة أنهم علموا أنهم معاندون في صنيعهم، وعلموا أن من عاند وكابر بغير حق فإن له نار جهنم.

وقوله: {يُحَادِدِ اللّه}.

يحتمل: يعاند اللّه.

وقيل: {يُحَادِدِ اللّه}: يشاقق اللّه ويخالفه؛ وهو واحد.

 ثم قوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا} يخرج على وجهين:

أحدهما: أي: قد علموا أنه من يحادد اللّه ورسوله فإن له ما ذكر، لكنهم عاندوا أوقصدوا، الخلاف والمحادة له مع علمهم.

والثاني: أي: علموا أنه من يحادد اللّه ورسوله، فإن له ما ذكر؛ على ما ذكرنا أن حرف الاستفهام من اللّه يخرج على الإيجاب والإلزام.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ}.

يحتمل وجهين:

الأول: يحتمل الخزي، أي: الفضيحة العظيمة في الدنيا.

والثاني: يحتمل ذلك الخزي العظيم في الآخرة، أي: نار جهنم خزي عظيم.

٦٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِم سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللّه مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (٦٤)

يحتمل قوله: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ}، أي: الحق عليهم أن يحذروا؛ لما أطلع اللّه رسوله مرارًا على ما أسروا وكتموا.

ويحتمل على الخبر: أنهم كانوا يحذرون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم عما في قلوبهم؛ لكثرة ما أطلع اللّه رسوله من سرائرهم وسفههم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللّه مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ}.

فهو - واللّه أعلم - ليس على الأمر؛ ولكن على الوعيد، يقول: استهزئوا؛ فإن اللّه مظهر ومبين ما أسررتم وكتمتم من العيب والاستهزاء برسوله والطعن فيه.

٦٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّه وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (٦٥)

ذكر السؤال، ولم يبين عئم يسألهم، ولكن في الجواب بيان أن السؤال إنما كان على الاستهزاء؛ حيث قال: {قُلْ أَبِاللّه وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} ذكر أن نفرا من المنافقين كانوا اختفوا في بعض الطريق، ليمر رسول اللّه، ويرجع من الغزو فيقتلونه، فأطلع اللّه نبيه على اختفائهم في ذلك أنه لماذا؟ فقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}.

وذكر بعض أهل التأويل أن النبي لمّا رجع من غزوة تبوك بينا هو يسير إذ هو برهط يسيرون بين يديه يضحكون ويستهزئون، فأطلع اللّه رسوله أنهم يستهزءون باللّه وكتابه ورسوله؛ فقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}.

وقيل بغير ذلك.

وقيل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ}، أي: لو سألتهم: ما تقولون؟

 فيقولون لك: مما يخوض فيه الركب إذا ساروا.

وليس لنا إلى معرفة كيفية استهزائهم حاجة، ولا مأرب سوى أن فيما ذكر لنا من خبر المنافقين تنبيهًا للمؤمنين وتحذيرًا لهم؛ ليحذروا إسرار ما لم يظهروا على ألسنتهم؛ ليعلموا أن اللّه مطلع على ما يسرون ويضمرون.

وقوله: {قُلْ أَبِاللّه وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ}.

قوله: {أَبِاللّه} يحتمل الإضافة إلى نفسه إضافة إلى أنفس المؤمنين؛ لأنه لا أحد يقصد قصد الاستهزاء باللّه، ولكنهم كانوا يستهزئون برسول اللّه وبالمؤمنين؛ فأضاف إلى نفسه؛ كقوله: {يُخَادِعُونَ اللّه}، وكذلك قوله: {إِنْ تَنْصُرُوا اللّه. . .} الآية؛ فعلى ذلك الأول كانوا يستهزئون برسول اللّه وبالمؤمنين، فأضاف إلى نفسه؛ تعظيمًا لهم وإكرامًا.

وقوله: {وَآيَاتِهِ} يحتمل أنهم كانوا يستهزئون بالأحكام التي لها آيات، فاستهزءوا بتلك الأحكام؛ فأضاف الاستهزاء إلى الآيات؛ كقوله: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} الآية.

{وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللّه هُزُوًا} هم لم يتخذوا آيات اللّه هزوا؛ ولكن هزوا بالأحكام التي لها آيات فأضاف الهزء إلى آياته، ولكن من استخف بحكم من الأحكام التي لها آيات كان ذلك استخفافا بآياته، واللّه أعلم.

٦٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (٦٦)

أي: لا تعتذروا فإنه لا يقبل اعتذاركم؛ لما لا عذر لكم فيما تعتذرون بعد ما قلتم إنه أذن لما ظهر منكم الخلا والكذب في ذلك؛ كقوله: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللّه مِنْ أَخْبَارِكُمْ}، أخبر أنه لا نصدقهم فيما اعتذروا؛ لما ظهر كذبهم وتبين خلافهم.

وقوله: {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}.

يحتمل: كفرتم في الباطن بعد ما أظهرتم باللسان.

ويحتمل: {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} حقيقة قد كفروا بعد ما آمنوا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً}.

 

قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ} ذلك أن المنافقين قد آمن منهم بعد النفاق وتاب، فأخبر أنه إن يعف عنهم يعذب طائفة: الذين لم يؤمنوا ولم يتوبوا.

وقيل: إن يعف عن طائفة منكم يعذب طائفة؛ لأن من المنافقين من قد ماتوا على الإيمان، ومنهم من قد مات على الكفر؛ فوعد العفو لمن مات على الإيمان؛ كقوله: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ}: أخبر أنه إن شاء تاب عليهم؛ فقوله: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ} الطائفة التي يتوب اللّه عليهم.

وقوله: {قُلْ أَبِاللّه وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ} يحتمل وجهين:

أحدهما: على الإيجاب، أي: يفعلون باللّه ورسوله ذلك.

وقيل: على الوعيد والهتوبيخ؛ أباللّه يفعلون هذا؟! واللّه أعلم.

٦٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ}.

ذكر في أهل الإيمان أن بعضهم أولياء بعض بقوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، وذكر في الكافرين الولاية لبعضهم ببعض بقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، وقال في المنافقين: {بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ}، فهو - واللّه أعلم - أن لأهل الإيمان دينًا يدينون به ويتناصرون، ويدعون الناس إليه،

وأهل الكفر يدينون -أيضًا- بدين ويتناصرون به، ويعاون بعضهم بعضًا؛ فصار لكل واحد من الفريقين موالاة فيما بينهم: موالاة الدِّين.

وأما المنافقون: فإنه لا دين لهم يدينون به، ولا مذهب ينتحلونه، ولا يناصر بعضهم بعضًا، ولا يعاون بعضهم بعضًا، ولا يجري بينهم التناصر والتعاون، فإنما هم عباد النعمة والسعة، مالوا حيثما مالت النعمة والسعة فلا موالاة بينهم لما ذكرنا.

وفي قوله: {وَالْمُنَافِقَاتُ} دلالة أن من نافق بالتقليد لآخر أو كفر بالتقليد لآخر، أو نافق لا بتقليد - سواءٌ في استيجاب الإثم والتعذيب في ذلك والوعيد؛ لأن النساء هن أتباع وأهل تقليد للرجال، ثم سوى بينهم وبين النساء في الوعيد.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ}.

يحتمل قوله: {يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ}، أي: ما تنكره العقول، وهو الشرك باللّه والخلاف له.

{وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ}، أي: ينهون عما تعرفه العقول وتستحسنه، وهو التوحيد للّه والإيمان به، ويدخل في ذلك كل خير وحسن، وفي المنكر يدخل فيه الشرك وكل معصية.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ}.

من الإنفاق في سبيل الخير، لكن يحتمل أن يكون على التمثيل لا على تحقيق قبض اليد، ولكن على كف النفس ومنعها من الاشتغال بالخيرات وخوضها فيها وفي جميع الطاعات، لكنه ذكر اليد؛ لما بالأيدي يعمل بها ويكتسب الخيرات والسيئات؛ كقوله: (ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ)، وذلك مما لم تقدمه الأيدي ولا كسبت؛ إنما ذلك كسب القلب، لكنه ذكر اليد؛ لما ذكرنا أنه باليد ما يقدم وبها يقبض في الشاهد، وجائز أن يكون ما ذكر من قبض اليد كناية عن بخلهم وقلة إنفاقهم في الجهاد؛ كقوله: {وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {نَسُوا اللّه فَنَسِيَهُمْ}.

قيل: جعلوا اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - كالشيء المنسي لا يذكرونه أبدًا؛ فنسيهم، أي: جعلهم كالمنسيين في الآخرة من رحمته لا ينالونها ويحتمل {نَسُوا اللّه}، أي: نسوا نعم اللّه التي

 أنعمها عليهم فلم يشكروها؛ فنسيهم على المجازاة لذلك، وإن لم يكن نسيانا؛ كما سمي جزاء السيئة سيئة، وإن لم يكن الثاني سيئة؛ فعلى ذلك ذكر النسيان على مجازاة النسيان، وإن لم يحتمل النسيان.

والثالث: {نَسُوا اللّه}، أي: بسؤال المعونة والنصرة وسؤال التوفيق؛ فنسيهم اللّه، أي: لم ينصرهم ولم يوفقهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.

فَإِنْ قِيلَ: اسم النفاق أشر وأقبح من اسم الفسق؛ فما معنى ذكر الفسق لهم؟! فهو - واللّه أعلم - لأنهم كانوا يظهرون الموافقة للمؤمنين باللسان؛ فأخبر أنهم ليسوا على ما أظهروا، واللّه أعلم.

أو أن يكون اسم النفاق أشر وأقبح عند الناس من اسم الفسق؛ فيحتمل عندهم أن يكون اسم الفسق أكبر في القبح.

أو سماهم فاسقين؛ لما أن كل أهل الأديان يأنفون عن النسبة إلى الفسق والتسمية به.

أو أن يكونوا يعلمون في أنفسهم أنهم أهل نفاق، ولا يعرفون أنهم فسقة.

وأصل الفسق: هو الخروج عن أمر اللّه.

٦٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعَدَ اللّه الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّه وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (٦٨)

كأن جهنم هي المكان الذي يعذبون فيه والنار فيه بها يعذبون.

{خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ}.

أي: حسبهم جزاء لصنيعهم، يقول الرجل لآخر: حسبك كذا، أي: كفاك ذلك جزاء ذلك.

 

وقوله: {وَلَعَنَهُمُ اللّه}.

قيل: اللعن: هو الطرد في اللغة، أي: طردهم عن رحمته.

{وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ}.

لا يفارقهم ألبتَّة.

٦٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٦٩)

أي: هَؤُلَاءِ المنافقون والكفرة كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وبطشًا.

{وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا}.

في الشاهد: إنما يدفع العذاب أو العقوبة لهذا، وبه يتناصرون بعضهم من بعض، ثم لم يقدروا على دفع ذلك عن أنفسهم، فأنتم دونهم في القوة وما ذكر؛ كيف تقدرون على دفع ذلك، هذا قد قيل.

وقيل: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}: أي: صرتم بما اخترتم من الأعمال كما صار أُولَئِكَ بما اختاروا من الأعمال، وكل أنواع الخلاف للّه، وتكذيب الرسل، وتعاطي ما لا يحل، فصرتم أنتم كما صاروا هم.

{فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ}.

قيل: انتفعوا بخلاقهم، أي: أكلتم أنتم الدنيا بدينكم كما أكل أُولَئِكَ الدنيا بدينهم.

وقيل: {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ} أي بنصيبهم من الدنيا ولم يقدموا شيئًا للآخرة.

والخلاق: النصيب؛ كقوله: {أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ}، أي: لا نصيب لهم.

وقال أبو هريرة: الخلاق: الدِّين، وكذلك قال الحسن في قوله: {بِخَلَاقِهِمْ}، أي: بدينهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا}.

أي: خضتم في الباطل والتكذيب كالذي خاض أُولَئِكَ من الأمم الخالية.

 قال أبو عبيدة: قوله: {وَخُضْتُمْ}، أي: لعبتم {كَالَّذِي خَاضُوا}، أي: لعبوا بالتكذيب.

{أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}.

فلا ثواب لها في الدنيا والآخرة؛ لأنها كانت في غير إيمان، فثواب الأعمال إنما يكون في الآخرة بالإيمان.

{وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}.

خسرانًا مبينًا، وبطلان أعمالهم في الدنيا لما يقبل واحد من الفريقين من المؤمنين والكفار صنيعهم؛ لأنهم يرون من أنفسهم الموافقة لكل واحد منهما، وما كانوا مع واحد من الفريقين؛ كقوله: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ}.

٧٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللّه لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠)

يحتمل هذا وجهين:

أحدهما: قوله: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ}، أي: قد أتاهم خبر الذين من قبلهم وما حلَّ بهم وما انتقم اللّه منهم؛ بتكذيبهم الرسل وسعيهم في قتلهم وهلاكهم، وهم من جنس أنفسكم، وأشد قوة وبطشًا منكم، وأنتم تقلدونهم في ذلك، ثم حل بهم ما حل بتكذيبهم الرسل، والخلاف لهم، فأنتم دونهم في كل شيء، وأقل منهم في القوة والبطش - أولى بذلك أن يصيبكنم.

والثاني: يحتمل قوله: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي: يأتيهم نبأ الذين من قبلهم وما حل بهم؛ كقوله: ألم تر كذا، أي: سترى؛ فعلى ذلك هذا يحتمل، وهو حرف وعيد، يحذرهم ما حل بأُولَئِكَ؛ ليمتنعوا عن مثل صنيعهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ}.

قال أهل التأويل: هى [قريات] لوط. . مؤتفكات: أي منقلبات.

قَالَ الْقُتَبِيُّ: ائتفكت، أي انقلبت.

 وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: المؤتفكات: هي من الإفك؛ وهو الصرف {أَنَّى يُؤْفَكُونَ}، أي: يصرفون.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: المؤتفكات: المكذبات؛

{أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} وفكذبوهم فاهلكوا. وهو من الانقلاب؛ كأنه أشبه، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَمَا كَانَ اللّه لِيَظْلِمَهُمْ}.

بتعذيبه إياهم، ولا يعذبهم وهم غير مستوجبين لذلك العذاب، ولكن هم ظلموا أنفسهم؛ حيث كذبوا رسله وردوا ما جاءوا به من البينات والبراهين.

٧١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}.

يحتمل قوله: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} على الإيجاب والإخبار أن الدِّين الذي اعتقدوا أو تمسكوا به يوجب لهم الولاية، ويصير بعضهم أولياء بعض؛ كقوله: {إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ. . .} الآية،

وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} ونحوه، فهي أخوة الدِّين وولايته.

ويحتمل قوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}: على الأمر، أي: اتخذوا بعضكم أولياء بعض، ولا تتخذوا غيركم أولياء؛ كقوله: {لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ}

وقوله: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}، نهى المؤمنين أن يتخذوا أولياء من غيرهم، فكأنه أمر أن يتخذ المؤمنون بعضهم بعضًا أولياء، لا يتخذوا من غيرهم.

ثم يحتمل الولاية وجهين:

الأولى: ولاية روحانية؛ وهي ولاية في الدِّين توجب مراعاة حقوق تحدث بالدِّين الذي جمعهم وحفظها.

 والثانية: ولاية نفسانية، وهي الولاية التي تكون في الأنفس والأموال؛ من نحو ولاية النكاح والميراث وغيره، فهذه الولاية هي الولاية النفسانية التي كانت بالرحم والنسب، فإذا اجتمعوا في دين واحد وجبت تلك الولاية لهم؛ وهي الولاية نفسها.

والولاية الروحانية هي المودة والمحبة، فيجب مراعاتها بالدِّين وتعاهدها، وهذا كما تقول: حياة روحانية وحياة جسدانية، والحياة الروحانية: هي العلم والآداب، يرى أشياء ويعرفها من بعد الحياة الجسدانية: وهي الروح الذي به يحيا الجسد، وبذهابه يموت الجسد، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ}.

يحتمل المعروف: الذي توجبه العقول، وهو التوحيد للّه والإيمان به.

{وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}.

أي: ينهون عما ينكر بالعقول؛ وهو الشرك باللّه والتكذيب له.

وهذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو فيما بين الكفرة، يأمرهم المؤمنون بذلك، ويدعونهم إلى ذلك، وينهونهم عن ضد ذلك.

وإن كان فيما بين المؤمنين فهو أمر شرع ونهي شرع، يأمر بعضهم بعضًا بما جاء به الشرع، وينهاه عما لم يجئ به الشرع.

أو يأمر بعضهم بعضًا بكل خير وبز، وينهى عن كل شرّ ومعصية.

{وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّه وَرَسُولَهُ} في كل أمره ونهيه.

{أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّه} وعد أنه يرحمهم.

{إِنَّ اللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.

قيل: {عَزِيزٌ} ترى آثار عزه في كل شيء، {حَكِيمٌ}: ترى آثار حكمته وتدبيره في كل شيء.

٧٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعَدَ اللّه الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللّه أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢)

 أي: رضاء اللّه عنهم أكبر من كل ما أعطاهم؛ لأن فيه حياة الروح ولذته، وما أعطاهم من الجنة والمساكن الطيبة فيه حياة الجسد ولذته، وحياة الروح أرفع وأكبر من حياة الجسد؛ لأنه لا يؤثر زيادة في الجسد، كذلك العز والحمد، وذكر الحسن فيه حياة الروح ولذته؛ إذ ليس فيه زيادة في الجسد، إنما هو فرح وسرور يدخل فيه، وإذا أصابه شيء من الذل أو سمع مكروهًا، حزن واهتم من غير أن يتألم جسده أو يجد ألمًا وشدة في نفسه، وذلك لما أصاب روحه لم يصب جسده، وأصله أن العمل في الدنيا لطلب مرضاة اللّه، ومرضاته أكبر من العمل لطلب ثوابه؛ لأن العمل لطلب رضائه أمر عليه، والعمل لطلب الثواب أمر له، فالذي قام بأداء ما عليه أعظم درجة وأكبر فضلًا من الذي قام بعمل ما له؛ لأن كل أحد يعمل ما له وله فيه نفع، ولا كل أحد يعمل لغيره؛ لذلك كان ما ذكر.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.

لأنه فوز ونجاة، لا خوف بعده، ولا هوان ولا ذل.

٧٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} يحتمل الأمر

بالجهاد الفريقين جميعًا جهادًا بالسيف.

ويحتمل: مجاهدة بالحجج والبراهين الفريقين جميعًا.

 ويحتمل -أيضًا-: الأمر بالمجاهدة الكفار، يجاهدهم بالسيف، ويغلظ القول ويشدده على المنافقين، ويقيم عليهم الحدود.

فإن كان على مجاهدة الفريقين جميعًا بالسيف، فهو - واللّه أعلم - في المنافقين الذين انفصلوا من المؤمنين، وخرجوا من بين أظهرهم، وأظهروا الخلاف للمؤمنين بعد ما أظهروا الموافقة لهم، فأمثال هَؤُلَاءِ يجاهدون بالسيف ويقاتلون به، وهو كقوله: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ}، إلى قوله: {مَلْعُونِينَ} الآية، أخبر أنهم يؤخذون ويقتلون أينما وجدوا، فيشبه أن تكون الآية في الأمر بالجهاد في هَؤُلَاءِ المنافقين.

ويحتمل وجهًا آخر: وهو أن المنافقين كانوا يطعنون في رسول اللّه ويعيبون عليه، فأطلع اللّه رسوله على ذلك، وهم قد علموا أن اللّه أطلعه على ما يطعنون فيه ويذكرونه بسوء، فيقول - واللّه أعلم -: جاهدهم إذا طعنوا فيك وذكروك بسوء بعد ذلك.

وإن كان الأمر على المجاهدة مجاهدة بالحجج، فهو - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قد حاج الفريقين جميعًا بالحجج، وخاصة سورة براءة إنما أنزلت في محاجة المنافقين.

ويحتمل الأمر بالجهاد في الكفار خاصة، وفي المنافقين تغليظ القول والتشديد، وإقامة الحدود التي ذكرنا، والتعزير إذا ارتكبوا شيئًا مما يجب فيه الحد أو التعزير - واللّه أعلم بذلك - لما أقاموا بين أظهر المؤمنين مظهرين لهم الموافقة.

وقوله: {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} هذا في المنافقين الذين ماتوا على النفاق.

٧٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَحْلِفُونَ بِاللّه مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّه وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّه عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (٧٤)

قال بعض أهل التأويل: الآية نزلت في شأن رجل منافق قال يومًا: واللّه، لئن كان ما يقول مُحَمَّد حقا لنحن شر من الحمير. فسمع ذلك غلام وهو ربيب ذلك القائل، فقال له: تُبْ إلى اللّه. وجاء الغلام إلى النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فأخبره، فأرسل إليه النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فأتاه، فجعل يحلف: ما قال ذلك؛ فنزلت الآية فيه: {يَحْلِفُونَ بِاللّه مَا قَالُوا. . .}.

لكن غير هذا كان أشبه؛ لأن الآية: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} وقول الرجل: لئن كان ما يقول مُحَمَّد حقا لنحن شر من الحمير - هذا القول نفسه ليس هو كلام كفر؛ إنما كلامُ ذم، ذمَّ به نفسه في الآية {يَحْلِفُونَ بِاللّه} وفهو قول جماعة.

وقيل: نزل في شأن عبد اللّه بن أبي، قال أصحابه: فواللّه، ما مثلنا ومثل مُحَمَّد إلا كما قال القائل: " سمّنْ كلبك يأكلك "،

وقال: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ}، فأخبر النبي بذلك، فدعاه فسأله فجعل يحلف باللّه ما قاله.

ولكن يشبه أن تكون الآية صلة قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ. . .} الآية. كانوا يستهزءون باللّه وبآياته وبرسوله، والاستهزاء بذلك كفر، أو أن قالوا قول كفر لم يبين اللّه لنا ذلك فلا أنهم قالوا كذا؛ لما ليس لنا إلى معرفة ذلك القول الذي قالوه حاجة.

وقوله: {وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ}:

يحتمل: كفروا بعد ما أسلموا إسلام تَقِيَّة.

ويحتمل قوله بعد ما أظهروا الإسلام، أي: رجعوا عما أظهروا من الإسلام.

وفي الآية دلالة أن الإسلام والإيمان واحد؛ لأنه قال: {وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ} وقال في آية أخرى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}، ثم قال: {كَيْفَ يَهْدِي اللّه قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ}، وقال في آية أخرى: {كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا}؛ فدل أن الإسلام والإيمان واحد.

وقوله: {وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا}.

قيل: هموا بقتل رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والمكر به، فلم ينالوا ما هموا به.

وفيه دلالة إثبات الرسالة؛ لأنهم أسروا ما هموا به، ثم أخبر عن ذلك وهو غيب، دل أنه باللّه علم ذلك.

وقوله: {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّه وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ}.

قال بعض أهل التأويل: إن الرجل الذي قال ذلك تاب عن ذلك، فقبل منه ذلك، وكان له قتيل في الإسلام فوداه رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فأعطاه ديته، فاستغنى بذلك.

وقال ابن عَبَّاسٍ: {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّه وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ}: كان رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يعطي المنافقين من الغنائم والصدقات، يقول: ما نقموا ما أعطاهم رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من الغنيمة والصدقة.

وقوله: {نَقَمُوا}، قال بعض أهل الأدب - أبو معاذ وغيره -: نقموا، أي: طعنوا، فيه لغتان: نقِموا - بالخفض - ونقَموا - بالنصب - يقال: نقِم ينقَم، ونقَم ينقِم - بكسر القاف - فهو - واللّه أعلم - يقول: ما طعنوا مني رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وما ذكروه بسوء إلا أن أغناهم اللّه؛ لأنهم لو كانوا أهل فقر وحاجة ما اجترءوا على الطعن على رسول اللّه وما ذكروه بسوء، ولكن طعنوا فيه لما أغناهم اللّه.

ويحتمل قوله: {وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ}: ما عاملهم رسول اللّه معاملة الكرام وتبسط إليهم حتى قالوا: إنه أذن يقبل العذر، فذلك الذي حملهم على الطعن.

وقوله: {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ} فيه أن المنافق تقبل منه التوبة. {وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّه عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} بما ذكرنا في الدنيا: الأمر بالجهاد والقتل والخوف، هذا التعذيب في الدنيا، والتعذيب في الآخرة.

وقوله: {وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} قد ذكرنا هذا في غير موضع.

٧٥

وقوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّه لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ... (٧٥)

قَالَ بَعْضُهُمْ: نزلت الآية في ثعلبة بن حاطب، سأل رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يدعو اللّه ليرزقه مالًا،

وقال: {لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ}.

ومنهم من قال: إنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، أنه كان له أموال في الشام، فقال: لئن آتاني تلك الأموال لأصدقن وأكن من الصالحين، فقد آتاه اللّه تلك الأموال، فبخل ومنع ما وعد.

ومنهم من قال: نزلت في المنافقين جملة، ولكن ليست في شأن واحد منصوص مشار إليه، ولكن في المنافقين جملة، وهكذا كانت عادتهم أنهم إذا وعدوا شيئًا أخلفوا ولم يوفوا الوعد.

ثم يحتمل قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّه} أنه كان منافقًا وقت ما وعد اللّه، ووعد اللّه لئن أتاه من فضله ليصدقن. ويحتمل أنه لم يكن منافقًا في ذلك الوقت، لكنه صار بما بخل وكذب واعتقد الخلاف واستحل الخُلْف لما وعد - منافقًا، فإن كان إنما صار منافقًا بما بخل واستحل الخلاف له والمنع؛ فيكون قوله: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ} أي: أعقبهم الدوام على النفاق إلى يوم القيامة ببخلهم ومنعهم ما وعدوا؛ فيكون هذا كقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ. . .} الآية.

وفي قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّه} إلى قوله: {بِمَا أَخْلَفُوا اللّه مَا وَعَدُوهُ} دلالة أن النذور يلزم أهلها الوفاء بها، ويؤاخذون بها إن تركوا الوفاء، ويكفرون إن استحلوا نقض ما عاهدوا.

وقوله: {وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ}

قَالَ بَعْضُهُمْ: من المؤمنين، فهو على تأويل من قال:

 إنه كان منافقًا وقتئذ. ويحتمل {وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} أي: من الشاكرين. وكذلك ذكر في الخبر أن ثعلبة لما سأل رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يسأل اللّه له مالًا فقال: قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تؤدي حقه. أو كلام نحو هذا.

٧٦

وقوله: (فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦)

يحتمل: تولوا عن وفاء ما وعدوا، أو تولوا عن طاعة اللّه، {وَهُمْ مُعْرِضُونَ}: أيضًا عن طاعة اللّه، أو معرضون عما وعدوا وعاهدوا أن يوفوا.

٧٧

وقوله: (فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللّه مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧)

قَالَ بَعْضُهُمْ أثابهم نفاقًا بما بخلوا به إلى يوم القيامة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: أعقبهم الدوام على النفاق {بِمَا أَخْلَفُوا اللّه مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}.

ينبغي للمسلم أن يجتنب الكذب والخلف في الوعد؛ فإنه سبب النفاق أو نوع من النفاق، وعلى ذلك روي في الخبر: " أن اجتنبوا الكذب؛ فإنه باب من النفاق، وعليكم بالصدق؛ فإنه باب من الإيمان "، وفي بعضها عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أربع من كن فيه كان منافقًا: من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر "، وفي بعضها: " وإذا اؤتمن خان ".

فَإِنْ قِيلَ: إن أولاد يعقوب اؤتمنوا فخانوا، وحدثوا فكذبوا بقولهم: {أَكَلَهُ الذِّئْبُ} ووعدوا فأخلفوا، فترى أنهم نافقوا؟

قيل: ما روي أن من إذا حدث كذب هو الكذب في أمر الدِّين، وأما الكذب في غير أمر الدِّين فإنه لا يوجب النفاق.

وفي الآية دلالة ألا ينص بالسؤال في شيء على غير الخبر في ذلك من اللّه؛ ألا ترى أن ثعلبة لما ألح على الرسول - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالسؤال أن يسأل ربه ليرزقه مالًا ففعل، فأعقبه اللّه نفاقًا إلى يوم القيامة؟!

ولأن أولاد يعقوب قد قدموا التوبة والإصلاح قِبَلَ صنيعهم الذي صنعوا على خوف منهم بما فعلوا والمنافقين، وأصله: أن اعتقاد الكذب، واستحلال الخلاف لما عهد، والخلف في الوعد - هو الموجب للنفاق، فأما ترك الوفاء على غير استحلال منه فلا يوجب ما ذكر، واللّه أعلم.

٧٨

وقوله: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللّه يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللّه عَلَّامُ الْغُيُوبِ (٧٨)

يحتمل هذا وجهين:

أن قد علموا أن اللّه يعلم سرهم ونجواهم؛ لكثرة ما يطلع رسوله على ما أسروا من الخلاف له وذكرهم السوء في رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

والثاني: ألم يعلموا أي: الذين نافقوا أن يعلموا أن اللّه يعلم سرهم ونجواهم، فيطلع رسوله على سرهم ونجواهم فيتركوا الطعن في رسول اللّه، وذِكْرِ ذلك والخلاف له.

وقوله: {وَأَنَّ اللّه عَلَّامُ الْغُيُوبِ}.

أي: علام بالغيوب التي غابت عن الخلق، وإلا ليس شيء يغيب عنه، ما غاب عن الخلق وما لم يغب عنده بمحل واحد. أو {عَلَّامُ الْغُيُوبِ}، أي: علام بما يكون أبدًا في جميع الأوقات التي تكون. وفيه دلالة أنه عالمًا بما في الضمائر والسرائر وما كان غائبًا عن الخلق والغيب: هو ما علم أنه يكون له أنه كان ولم يزل عالمًا؛ لما ذكرنا.

٧٩

وقوله: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ. . .} الآية.

يشبه أن تكون الآية صلة قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّه} إلى قوله: {وَتَوَلَّوْا}.

إن أهل النفاق كانوا أهل بخل لا ينفقون إلا مراءاة وسمعة، فظنوا بمن أنفق من المسلمين وتصدق ظنًّا بأنفسهم، فقالوا: إنهم أنفقوا وتصدقوا مراءاة وسمعة.

وقد ذكر في بعض القصة أن عبد الرحمن بن عوف أتى بنصف ماله في غزوة تبوك يتقرب به إلى اللّه،

وقال: يا نبي اللّه، هذا نصف مالي أتيتك به، وتركت نصفه لعيالي، فدعا النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يبارك له فيما أعطى وفيما أمسك، فلمزه المنافقون وقالوا: ما أعطى إلا رياء وسمْعة. وجاء رجل آخر من فقراء المسلمين بصاع من تمر فنثره في تمر الصدقة، فقال له نبي اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خيرًا ودعا له، فقال المنافقون: إن اللّه لغني عن صاع هذا، فذلك لمزهم.

فأنزل اللّه تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} يعني: الذي جاء بصاع.

قَالَ الْقُتَبِيُّ: الذين يلمزون المطوعين، أي: يصيبون المتطوعين بالصدقة، {وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} أي: طاقتهم، والجهد: الطاقة، قال: والجهد: المشقة.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الجهد: إنفاق الرجل من الشيء القليل، يقال: جهد الرجل، إذا كان من الضعف أو من الفقر.

ويقال: جهد في العمل، يجهد جهدًا؛ إذا بالغ في العمل.

قال أبو عبيد: الجهد مثل الوسع، والجهد: الطاقة، وكذلك قال أبو معاذ.

وفي الآية معنيان:

أحدهما: دلالة إثبات رسالة رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه معلوم أن ما كان منهم من اللمز لم يكن ظاهرًا، ولكن كان سرًّا، ثم أخبرهم رسوله بذلك، دل أنه إنما عرف ذلك باللّه.

والثاني: أن الأمور التي فيما بين الخلق إنما ينظر إلى ظواهرها، وإن كان في الباطن على خلاف الظواهر، حيث عوتبوا هم بما طعنوا فيهم بالرياء والسمعة؛ ليعلم أن الأمور التي فيما بين الخلق تحمل على ظواهرها، ولا ينظر فيها إلى غير ظاهرها، والحقيقة هو ما بطن وأسروا به يخلص العمل للّه، والسر: هو ما يسر المرء في نفسه، والنجوى: هو اجتماع جماعة على نجو؛ من الأرض، أي: المرتفع من المكان.

وقوله: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّه مِنْهُمْ}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: إن من اعتذر إلى آخر فيقبل عنه، على علم من المعتذَر إليه أنه لا عذر له فيما يعتذر إليه، وأنه كاذب في ذلك - فقبول المعتذَر إليه ما يعتذر من المعتذِر: سخرية من المعتذَر إليه إلى المعتذِر.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {سَخِرَ اللّه مِنهُم} أي: يجزيهم جزاء السخرية؛ فسمى جزاءه باسم السخرية، وإن لم يكن الجزاء سخرية، كما سُمّي جزاء [السيئة: سيئة] (١)، وإن لم تكن الثانية [سيئة]، وكذلك سمي جزاء الاعتداء اعتداء وإن لم يكن الثاني اعتداء، فعلى ذلك سمي جزاء السخرية سخرية، وإن لم يكن سخرية. (١) في الكتاب المطبوع هكذا (السبة: سبة) ولعل الصواب ما أثبتناه بدليل قوله تعالى {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}. اهـ مصحح النسخة الإلكترونية).

 ويحتمل قوله: {سَخِرَ اللّه مِنهُم} أي: سخر أولياء اللّه منهم، فأضيف إليه، وكذلك يحتمل قوله: {اللّه يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ}، أي: يستهزئ بهم أولياؤه، وهو قوله: {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا}، فذلك استهزاؤهم بهم، وذلك جائز في اللغة إضافة الشيء إلى آخر، والمراد منه غير مضاف إليه.

٨٠

وقوله: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّه لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّه وَرَسُولِهِ وَاللّه لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (٨٠) قال عامة أهل التأويل: إنه لما مات عبد اللّه بن أبي أراد رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يصلي عليه، فأخذ عمر بن الخطاب بثوبه، فقال: أأمرك اللّه بهذا؟ قال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّه لَهُمْ} فقال: " قد خيرني ربي، افعل أو لا تفعل ". وفي بعض الروايات قال له عمر: لا تستغفر؛ فإن اللّه قد نهاك عن هذا. فقال رسول اللّه " إنما خيرني اللّه فقال: استغفر لهم أولا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة وسأزيد على سبعين " أو كلام نحو هذا. فأنزل اللّه عند ذلك: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللّه لَهُمْ}، لكن هذا يبعد أن يفهم رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من الآية التخيير، وعمر يمنعه من ذلك، ولا يجوز أن يفهم التخيير في ذلك، أو يخرج ذلك على التحديد، أو تكون منسوخة بالتي في " المنافقين "؛ لأنه وعيد، والوعيد لا يحتمل النسخ.

والوجه فيه - واللّه أعلم -: إن استغفرت لهم فإن استغفارك ليس بالذي يرد فلا يجاب، لكنهم قوم كفروا باللّه ورسوله، وقد تعلم من حكمي أني لا أغفر لمن مات على ذلك. على ذلك يخرج على الاعتذار لرسوله في ذلك، والنهي له عن الاستغفار لهم؛ كقوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} وقد علم شرك المنافقين وكفرهم باللّه ورسوله؛ فنهاهم عن الاستغفار لهم؛ إذ لا يحتمل أن يكون ذلك قبل أن يطلع رسوله على كفرهم؛ فدل على أنه بعد العلم بذلك نهاه.

وفيه دلالة نقض قول المعتزلة في قولهم: " إن صاحب الكبيرة لا يغفر له "؛ لأنه أخبر أنه لا يغفر لهم بما كفروا باللّه ورسوله؛ فدل أن من لم يكن كفر باللّه ورسوله فإنه يغفر له، وأن له الشفاعة، وصاحب الكبيرة ليس بكافر، دل أنه ما ذكرنا.

 ثم طلب المغفرة من اللّه والشفاعة لو يجيء لا يكون إلا للخواص من الخلق وهم الرسل والأنبياء، على ما يكون في الشاهد لا يرفع إلى ملوك الأرض الحاجة ليقربهم إلا الخواص لهم ولا يشفعون إلا أهل الشرف عندهم والمنزلة، لكن اللّه - تعالى - أذن لنا في استغفار غيرنا بقوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ}.

وقوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللّه لَهُمْ}.

يحتمل قوله: {عَلَيْهِم} أي: سواء عندهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم، ويكون طلب استغفارهم من رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - استهزاءً منهم به، حيث قال: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا}، يخرج قولهم: {فَاسْتَغْفِرْ لَنَا} مخرج الاستهزاء على هذا التأويل.

ويحتمل قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} أي: سواء عند اللّه أستغفرت لهم، أم لم تستغفر لهم - فإنه لا يغفر لهم بكفرهم باللّه ورسوله. ثم قوله: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} يحتمل: ذَكَرَ السبعين؛ لأن السبعين هو النهاية والغاية في الاستغفار، على ما روي أنه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يستغفر في كل يوم سبعين استغفارًا، فأخبر: أنك وإن انتهيت النهاية فيه لا يغفر لهم ولا ينفعهم ذلك.

وقوله {وَاللّه لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}.

وقت اختيارهم الفسق، أو لا يهديهم طريق الجنة في الآخرة؛ لفسقهم في الدنيا، إذا ماتوا على ذلك.

٨١

وقوله: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللّه. . .} الآية.

جمعوا - أعني المنافقين - جميع خصال الشر التي فعلوا:

أحدها: ما ذكر من فرحهم بالتخلف عن رسول اللّه.

والثاني: كراهيتهم الجهاد مع رسول اللّه وبخلهم بأموالهم.

والثالث: صدهم الناس عن الجهاد والخروج في سبيل اللّه بقولهم: {لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ}.

جمع اللّه جميع خصال المنافقين في هذه الآية.

وقوله: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ}، ذكر المخلفون، وهم كانوا متخلفين في الحقيقة، لكنه يحتمل وجهين:

مخلفون خلفهم اللّه لما ذكر أن خروجهم لا يزيدهم إلا خبالا، وأنهم يبغون الفتنة خلفهم عن ذلك؛ كقوله: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللّه انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ}، قيل: حبسهم؛ فعلى ذلك مخلفون خلفهم اللّه لما علم أن خروجهم لا يزيدهم إلا خبالًا وفسادًا.

ويحتمل: مخلفون خلفهم أصحاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنهم لو أرادوا أن يخرجوهم كرهًا لقدروا على ذلك، فهم كالمخلفين من هذا الوجه لما لو أرادوا إخراجهم أخرجوهم، وإن كانوا متخلفين في الحقيقة.

وقوله: {بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللّه} أي: مخالفة رسول اللّه، وقرئ: {خَلْفَ رَسُولِ اللّه}، أي: فرحوا لقعودهم بعد خروج رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

وقوله: {بِمَقْعَدِهِمْ}.

يحتمل: القعود، أي: بقعودهم خلفه.

ويحتمل: {بِمَقْعَدِهِمْ}، أي: موضع قعودهم، وهو منازلهم وأوطانهم، وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم؛ لبخلهم وخلافهم الذي في قلوبهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} هذا في الظاهر يخرج على إظهار الشفقة للمؤمنين، ولكن لم يكونوا أرادوا ذلك؛ إنما أرادوا حبسهم عن الخروج في سبيل

 اللّه، لكن المؤمنين لا يمتنعون عن الخروج في سبيل اللّه؛ إذ قالوا لهم مطلقًا: " لا تنفروا "، وهو كقوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} كانوا يجبنون المؤمنين عن الخروج إلى الغزو، وكانوا يحتالون في منعهم المؤمنين عن الخروج في سبيل اللّه، ولو أطلقوا القول في المنع وصرحوه لفهم المؤمنون ذلك، ولظهر نفاقهم.

وجائز أن يكون قولهم: {لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} قالوا ذلك لأتباعهم، لا للمؤمنين؛ كقوله: {وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} أي: لو كانوا يفقهون، ما أنزل على رسول اللّه لعلموا أن نار جهنم أشد حرًّا من حر الدنيا.

أو لو كانوا يفقهون أنهم لم يخلقوا في الدنيا للدنيا خاصّة، ولكن خلقهم فيها ليمتحنهم؛ لعلموا أن الموعود في الآخرة أشد مما امتحنوا في الدنيا، واللّه أعلم.

٨٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢)

يشبه أن يكون الضحك كناية عن الفرح والسرور، والبكاء كناية عن الحزن؛ يقول: افرحوا وسروا قليلا، وتحزنون في الآخرة طويلًا كثيرًا.

ويمكن أن يكون على حقيقة الضحك؛ لأنهم كانوا يضحكون ويستهزئون بالمؤمنين في الدنيا؛ يقول: ضحكوا قليلًا؛ لأن الدنيا قليلة تنقطع، ويبكون كثيرًا في الآخرة؛ لأنها لاتنقطع {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}.

٨٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ رَجَعَكَ اللّه إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (٨٣)

دل قوله: {رَجَعَكَ اللّه إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ}، أي: ليس كل من تخلف عنه في ذلك فهو منافق، ولا كل المنافقين امتههوا وتخلفوا عنه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا}.

لأنه أخبر أن خروجهم معهم لا يزيدهم إلا خبالًا وفسادًا، فيقول: {لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، أي: عوقبوا بالقعود أول مرة لنفاقهم.

وقوله: {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا} أي: لن آذن لكم أن تخرجوا معي أبدًا، ولن آذن

 لكم أن تقاتلوا معي أبدًا.

ويحتمل: لن تخرجوا، أي: وإن أذنت لكم بالخروج فلن تخرجوا أبدًا.

{فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ}.

قيل: مع المتخلفين، وهم المنافقون؛ على ما ذكر.

ويحتمل: أن اقعدوا مع أصحاب الأعذار.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: مع النساء والزمنى؛ وهو واحد.

٨٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّه وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (٨٤)

يعني: المنافقين.

{وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ}.

ذكر في بعض القصة أنه لما مات عبد اللّه بن أبي، فجاء ابنه إلى رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول اللّه، إن أبي مات وأوصانا أن نكفنه في قميصك، وأن تصلي عليه، فخلع النبي قميصه فأعطاه، ومشى فصلى، وقام على قبره.

وروي في بعض الأخبار أنه صلى عليه، وألبسه قميصه، فقيل له: تلبس عدو اللّه قميصك، فقال: " إني لأرجو أن يسلم بقميصي من بني الخزرج ألف "، فذكر أنه لما

 فعل ذلك أسلم ألف رجل من المنافقين.

وروي أنه لم يصل عليه، فلا ندري كيف كان الأمر بعد أن جاء النهي. عن الصلاة على المنافقمن بقوله: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّه وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ}، سماهم فسقة، واسم الكفر أقبح وأذم، لكنهم جمعوا مع الكفر أنواع الفسق؛ ليعلم أن اعتقادهم الكفر والمذهب الذي يذهبون إليه إنما اعتقدوا لهواهم؛ إذ الفسق مما يحرمه كل أذي، مذهب ودين، وكل يأنف عن الفسق ويتبرأ منه، ولا كذلك الكفر؛ لأن كل من آمن بشيء كفر بضده، وأصل الفسق: هو الخروج عن الأمر، واللّه أعلم.

٨٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (٨٥)

قَالَ بَعْضُهُمْ من أهل التأويل: إنه على التقديم والتأخير؛ كأنه قال: ولا تعجبك أموالهم وأولادهم في الدنيا إنما يريد اللّه أن يعذبهم بها في الآخرة.

وفيه نقض قول المعتزلة في الأصلح، وقد ذكرنا الوجه الذي يدل على نقض قولهم فيما تقدم.

ويحتمل قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا}: وهو القتال والحروب التي أمروا بها؛ كقوله: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا}.

وهو التعذيب الذي ذكر؛ لأنهم يصيرون مقتولين.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُم}.

 قيل: تذهب وتهلك {وَهُمْ كَافِرُونَ}.

٨٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللّه وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ}.

أي: إذا أنزلت سورة فيها {أَن آمِنُوا بِاللّه}، لا أنها تنزل سورة بهذا الحرف، ولكن فيها ذكر {أَنْ آمِنُوا بِاللّه وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ}، وهو كقوله: {فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ}،

وقوله: {أَن آمِنُوا بِاللّه} بقلوبهم؛ لأنهم قد أظهروا الإيمان باللسان، وهم لم يكونوا مؤمنين باللّه حقيقة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ}.

قيل: أولو الطول: هم أهل الغنى والسعة.

وقيل: أولو الطول: أهل الفضل والشرف الذين كانوا يصدرون لآرائهم، وينظرون إلى تدبيرهم، وقد كان في أهل النفاق أهل السعة والغناء، وأهل النظر والتدبير.

وقوله - عز وبرل -: {وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ}.

استأذنوا في القعود عن الجهاد - واللّه أعلم - لما كانوا يوالون أهل الكفر سرًّا، فكرهوا القتال مع الأولياء، أو كانوا يتخلفون ويمتنعون عن الخروج إلى القتال؛ لفشلهم وبغيهم؛ لأنهم لم يكونوا يعملون لعواقب نتأمل إنما كانوا يعملون لمنافع حاضرة؛ لذلك كانوا يمتنعون عن الخروج إلى القتال، وأما أهل الإيمان: فإنهم إنما يعملون للعواقب، وكذلك أهل الكفر إنما يقاتلون أهل الإيمان إما غنيمة في العاقبة يتأملون، لكنهم كانوا يستأذنون في القعود، ويكونون مع القاعدين، يرون من أنفسهم أن لهم العذر في القعود.

ثم قوله: {ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ} يحتمل: مع القاعدين من الضعفاء والمرضى والصبيان، حتى إذا أتاهم العدو من بعد ما خرج الرجال منهم إلى قتال العدو، يقومون لدفع العدو عن هَؤُلَاءِ.

أو يكون قولهم: ذرنا نكن مع القاعدين من أهل العذر، يرون أنفسهم أنهم أهل العذر،

 ولم يكن لهم عذر في ذلك؛ كقوله: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ}، الآية، فعلى ذلك الأول يحتمل هذا.

٨٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (٨٧)

قيل: مع النساء، فهذا حرف تعيير وتوبيخ، أي: رضوا بأن يكونوا في مشاهد النساء دون مشاهد الرجال.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ}.

أن للإيمان نورًا يبصر به عواقب الأمور، ويرفع الحجاب والستر عن القلوب وعن الأمور فتراها بادية ظاهرة، وللكفر ظلمة تستر الظاهر من الأمور والبادي منها، فتستر تلك الظلمة قلبه، فذلك الطبع، وقد ذكرنا الوجه فيه في غير موضع، واللّه أعلم.

{فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ}.

ما يلحقهم من التعيير برضاهم بالقعود مع الخوالف، والفقه: هو معرفة الشيء بمعناه الدال على نظيره، منعت تلك الظلمة أن تعرف الأشياء بمعانيها وبنظائرها للحجاب الذي ذكرنا.

٨٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ}

يقول - واللّه أعلم -: إن الرسول والذين حققوا الإيمان والتصديق جاهدوا بأموالهم وأنفسهم، أي: بذلوا أنفسهم وأموالهم لنصر دين اللّه، وإظهار سبيله، ولم يبخلوا كما بخل أهل النفاق في بذل أموالهم وأنفسهم في نصر دينه بالمجاهدة مع أعدائه، ولم يحققوا الإيمان والتصديق؛ أخبر أن للمؤمنين الذين حققوا الإيمان والتصديق، وبذلوا أنفسهم وأموالهم، وجاهدوا بها في نصر دين اللّه، وإظهار سبيله - لهم الخيرات.

قَالَ بَعْضُهُمْ: {لَهُمُ الْخَيْرَاتُ}: بالذكر في الدنيا، والثناء الحسن، وسلوك الناس طريقهم، وفي الآخرة الثواب والجزاء.

وقيل: الخيرات في الآخرة؛ لما بذلوا أنفسهم وأموالهم في نصر دينه، والمجاهدة مع

 عدوه.

وقيل: الخيرات: الحور العين؛ كقوله: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ}، واللّه أعلم.

{وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.

المفلح: هو الذي يظفر بحاجته؛ يقال: قد أفلح، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم.

٨٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَعَدَّ اللّه لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨٩)

ليعلم أن الأعظم ليس يقع فيما فيه الغلظ والكثافة، ولكن القدر والمنزلة.

٩٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ}.

قَالَ بَعْضُهُمْ من أهل التأويل: المعذرون هم الذين يستأذنون في القعود ولا عذر لهم في ذلك.

وقال الكلبي: المعذرون هم الذين لهم عذر وبهم علة.

وبعضهم قال: المعذرون: هم المعتدون.

وروي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قرأ " الْمُعْذِرُونَ " بالتخفيف،

وقال: لعن اللّه المعذرين؛ كأنه ذهب إلى أن المعذر هو الذي له عذر، والمعذر بالتشديد: الذي لا عذر له؛ لذلك لعن المعذر.

قال أبو معاذ: وأكثر كلام العرب المعذر الذي له عذر، وهو قولهم: قد أعذر من أنذر.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: - المعذر بالتشديد -: الذي لا يناصح، إنما يريد أن يعذر، ويقال: عذرت في الأمر: إذا لم تبالغ فيه، وأعذرت في الأمر، أي: بالغت فيه.

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: المعذرون - بالتشديد -: هم الذين لا يجدون أما ينفقون، إنما يعرضون ما لا يريدون أن يفعلوه؛ يقال: عذرت في الأمر: إذا قصرت، وأعذرت: جددت.

ثم قال بعض أهل التأويل: دل هذا على أن أهل النفاق كانوا صنفين: صنف كانوا يستأذنون في القعود، وصنف لا يستأذنون، ولكن يقعدون بقوله: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللّه وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ}.

دل قوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} على أن من أهل النفاق من قد آمن، وأن من تاب يقبل ذلك منه؛ لأنه قال: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا} ولم يقل: سيصيبهم عذاب أليم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: المعذرون - بالتخفيف -: هم المؤمنون الذين لهم عذر في التخلف، أتوا رسول اللّه لينظر في أمرهم الأوفق: إن كان الخروج لهم أوفق يخرجون، وإن كان القعود أوفق يقعدون؛ يدل على ذلك الآية التي تتلو هذه وهي قوله " - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ} الآية.

فَإِنْ قِيلَ: كيف احتمل أن تكون آية واحدة في فريقين مختلفين، إذا قرئ بالتخفيف فهي في الذين لهم عذر، وإذا قرئ بالتشديد فهي في الذين لا عذر لهم؟

قيل: تصير على اختلاف القراءة كآيتين في حالتين ووقتين مختلفين، إن كان تأويل المعذر بالتشديد هو الذي يعتذر ولا عذر له، والمعذر - بالتخفيف - هو الذي له عذر.

أو كان تأويل إحدى القراءتين على ضد الأخرى كان لهم عذر في حال، ولا عذر لهم في حال أخرى، وإلا لا يحتمل أن تكون القراءتان جميعًا في وقت واحد، وتأويلهما على الاختلاف الذي ذكروا، وهو كقوله: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا}، و {ربُّنَا} بالرفع {بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا}

 أحدهما: على الدعاء، والآخر: على الإيجاب، هما آيتان صارتا آية واحدة لاختلاف القراءة، واللّه أعلم.

٩١

وقوله: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا للّه وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١)

لو لم يذكر المرضى ولا الذين لا يجدون ما ينفقون، لكان المفهوم من قوله: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ} المرضى والذي لا يجد ما ينفق.

وكذلك إذا ذكر المريض كان في ذكره ما يفهم منه كل ضعيف، وكل ما لا يجد ما ينفق.

وفي كل حرف من هذه الحروف ما يفهم منه معنى الآخر، فلما ذكر دل أن المراد من ذكر الضعفاء الزمنى؛ من نحو الأعمى والأعرج، فكان كقوله: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ}، فتكون الآيتان واحدة؛ أعني: معناهما واحد.

وفيه دلالة أن ليس في ذكر عدد من الأشياء حظر دخول غير المذكور في حكم المذكور إذا كان في معناه؛ ولهذا قال أصحابنا: إنه ليس فيما ذكر رسول اللّه عدد في الربا بقوله: " والحنطة بالحنطة، والذهب بالذهب، والفضل ربا " على أنه لا لمعنى ورد،

ولا يدخل فيه ما لم يذكر؛ لما ذكرنا أنه لو ذكر الضعفاء لذكر المريض، والأعمى، والأعرج، وجميع من ضعف عن الخروج من أنواع الأعذار، ثم لم يدل ما ذكر من العدد وتخصيصه على أنه لا لمعنى ذكر؛ فعلى ذلك خبر الربا.

ثم جعل العمى والعرج والمرض وعدم النفقة ونحوه عذرًا في ترك الخروج، ولم يجعل شدة الحر وبعد المسافة ونحوه عذرا بقوله: {وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا}.

 وأصله - واللّه أعلم -: أن كل ما لم يعمل في المنع عن الخروج لشهوة، أو لطمع يرجو نيله من التجارة ونحوها - لم يكن ذلك عذرًا في ترك الخروج؛ إذ شدة الحر وبعد السفر وخوف العدوّ مما لا يمنعهم عن الخروج للتجارة، فلم يصر ذلك عذرًا في التخلف عن الخروج للجهاد، وأما حال المرض والزمانة وعدم النفقة فيمنعهم ويعجزهم عن الخروج في كل ما يهوون ويشتهون، فصار ذلك عذرًا لهم بالتخلف عن الخروج للجهاد.

والثاني: أن كل ما يقدر على دفعه بحال لم يجعل ذلك عذرًا في التخلف، وكل ما لا سبيل لهم إلى دفعه فهو عذر، والحر وبعد السفر وخوف العدو يجوز أن يدفع فيصير كأن ليس، وهو ما ذكر: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا}، فإذا ذكر شدة حر جهنم وبعد سفر الآخرة وأهواله، وإن عليه الخروج وسهل، فارتفع ذلك؛ فلذلك صار أحدهما عذرًا والآخر لا، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِذَا نَصَحُوا للّه وَرَسُولِهِ}.

قيل: لم يخدعوا أحدًا في دينه، ولم يغشوه في دنياه.

وقيل: {إِذَا نَصَحُوا للّه وَرَسُولِهِ}، أي: أطاعوا اللّه ورسوله في الحضرة، ولم يتركوا طاعته.

وقوله: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} أي: ما على المحسنين من سبيل في تركهم الخروج إذا لم يقدروا على الخروج؛ لما ذكرنا من الزمانة وعدم ما ينفقون،

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

بتركهم الخروج وتخلفهم عن الجهاد مع أصحاب الأعذار.

٩٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (٩٢)

 

وقوله: {لَا تَعْتَذِرُوا} ليس على النهي، ولكن على التوبيخ والتعيير.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قَدْ نَبَّأَنَا اللّه مِنْ أَخْبَارِكُمْ}.

يحتمل قوله: {قَدْ نَبَّأَنَا اللّه مِنْ أَخْبَارِكُمْ}: أنكم لا تصلحون أبدًا؛ كما قال: {إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} الآية، أخبر أنهم رجس وأن مأواهم جهنم.

وقيل: (قَدْ نَبَّأَنَا اللّه مِنْ أَخْبَارِكُمْ، حين قال لهم: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا. . .}، إلى قوله: {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ}، قالوا: وهذا الذي نبأنا اللّه من أخباركم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَسَيَرَى اللّه عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: سيرى اللّه عملكم ورسوله فيما تستأنفون.

ويحتمل قوله: {وَسَيَرَى اللّه عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ}.

أي: سيرى اللّه ورسوله عملكم باطلًا.

أو يقول: سيرى اللّه عملكم، أي: يجزيكم جزاء عملكم، ورسوله والمؤمنون يشهدون عليكم بذلك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}.

قد ذكرنا أنه ليس شيء يغيب عنه، أو يكون شيء عنده أظهر من شيء، ولكن ما يغيب عن الخلق وما لا يغيب عنده بمحل واحد.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.

يخرج على الوعيد.

٩٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَيَحْلِفُونَ بِاللّه لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥)

يحتمل قوله: {لِتُعْرِضُوا}، أي: لتجاوزوا عنهم ولا تكافئوهم، فيكون قوله: {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ} لما سألوا من المجاوزة عنهم وترك المكافأة.

ويحتمل قوله: {لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ}، أي: لا تحاجهم ولا تشتغل بهم؛ فإنهم

 لا يصلحون أبدًا، {إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}.

٩٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّه لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (٩٦)

وتقبلوا منهم ما يظهرون من العذر، ثم أخبر أنكم إن رضيتم عنهم وقبلتم ما يذكرون من عذرهم فإن اللّه لا يرضى عنهم؛ لما يعلم أنه لا عذر لهم فيما يظهرون لكم من العذر، واللّه أعلم. ليس على النهي عن إرضاء أُولَئِكَ؛ لأن إرضاء الخلق بعضهم لبعض إنما يكون بالحلف، وما يكون من الظاهر، ولكن النهي عن ترك الموافقة في الباطن، وفيه يتحقق رضاء اللّه.

٩٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} يحتمل هذا وجهين:

يحتمل: طائفة من الأعراب أشد كفرًا ونفاقًا، وهو أن رسول اللّه دعا كفار المدينة ومنافقيها، فأيأس عن إيمانهم بقوله: {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ. . .} الآية، فلما أيس عن إيمان هَؤُلَاءِ، أقبل نحو طائفة من الأعراب الذين كانوا بقرب المدينة وحواليها، فأخبر أنهم أشد كفرًا ونفاقًا من أهل المدينة.

ويحتمل أنه أراد الأعراب جملة أنهم أشد - أي: الكفار منهم وأهل النفاق - كفرًا ونفاقا من أهل الأمصار والمدائن، فهو لوجهين:

أحدهما: أن أهل الأمصار والمدن كانوا يسمعون الآيات والحجج، ويخالطون أهل رحمة ورأفة، وأهل مودة، وأما الأعراب وأهل البادية فكانوا لا يسمعون الآيات

والحجج، ولا خالطوا أهل رحمة ورأفة، فهَؤُلَاءِ أقسى قلوبًا وأضيق صدورًا وأهل المدن والأمصار ألين قلوبًا وأوسع صدورا، فهم أسرع للإجابة وأُولَئِكَ أبعد وأبطأ إجابة.

والثاني: أنهم وصفوا بأهل الجهل ما لم يوصف أهل المدن والأمصار، بذلك ما روي عن نبي اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " لا يؤمنكم أعرابي "، وفي بعضها: " لا يؤمن أعرابي مهاجرًا "، وفي بعض الأخبار: " من بدا جفا "؛ وذلك - واللّه أعلم - لأنهم كانوا لا يدخلون الأمصار والمدن ليتأدبوا ويتعلموا الآداب، فإذا كانوا كذلك فهم أجهل، والإيمان هو التصديق، والتصديق إنما يكون بعد العلم؛ لأنه ما لم يعلم لم يصدق، فإذا كانوا بالجهل ما وصفنا، كانوا أشد إنكارًا وتكذيبًا من غيرهم، وهو ما ذكر: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللّه عَلَى رَسُولِهِ}، وصفهم بالجهل، وبالجهل يكون التكذيب، وبالعلم يكون التصديق، وهو ما ذكرنا. وأجدر وأخلق وأحرى واحد.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللّه عَلَى رَسُولِهِ}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: هم أقل علمًا بالسنن.

وقيل: بالفرائض.

ويقال: الحدود ما بين من طاعة اللّه ومعصيته.

وأصله: أنهم أهل جهل بجميع الأوامر، والمناهي، وجميع الآداب، وما لا يحل وما يحل.

{وَاللّه عَلِيمٌ}.

 أي: على علم بما يكون منهم خلقهم.

{حَكِيمٌ}.

حيث وضع الخلائق بموضع يدل على وحدانيته وألوهيته، لو تدبروا فيه ونظروا.

٩٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨)

أي: كان لا ينفق حسبة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: ينفق ولا يراه حقا، إنما يراه غرمًا يلحقه، وغرما يغرمه.

وأصله: أنهم لو كانوا علموا حقيقة أنهم وما حوته أيديهم للّه ليس لهم، لم يعدوا ذلك غرمًا وتبعة ألحقتهم، ولكن لما لم يروا للّه تعالى في أموالهم حقّا ولم يعلموا أن أموالهم للّه حقيقة لا لهم عدوا ذلك غرمًا وتبعة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ}.

قيل: الدوائر: هو انقلاب الأمر، وهو من الدوران.

ثم يحتمل قوله: {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ}: ما

قَالَ بَعْضُهُمْ: موت مُحَمَّد.

وقيل: دوائر الزمان وحوادثها.

{عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ}، أي: عليهم انقلاب الأمر وعليهم ما تربصوا على المؤمنين.

وقوله: {وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللّه عَلَى رَسُولِهِ}.

ليس على حقيقة الإنزال من موضع، ولكن على خلق ذلك؛ كقوله: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ} {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا}.

وقوله: {وَاللّه سَمِيعٌ}: لما قال، {عَلِيمٌ}: بما أسروا وأضمروا.

٩٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللّه وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللّه فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩)

ذكر في الآية أن من الأعراب من يؤمن باللّه واليوم الآخر ليعلم أن قوله: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} كان في طائفة مشار إليها، لا كل الأعراب؛ لأنه ذكر - هاهنا - أن منهم من ينقق ويتخذ ما ينفق قربات عند اللّه، وذكر في الآية الأولى أن منهم من يتخذ ما ينفق مغرما، أي: لا يراه حقّا واجبًا، ولكن غرما يلحقه، ومنهم من يرى ذلك حقًا للّه واجبًا في أموالهم، فيجعلون ذلك قربة لهم عند اللّه، وأُولَئِكَ يرونه غرمًا لحقهم، لا قربة.

ثم في الآية خوف دخول المؤمنين في وعيد هذه الآية، الذين لا يؤدون الزكاة، ولا ينفقون، وخوف لحوق النفاق؛ لأنه أخبر أنهم يتخذون ما ينفقون مغرمًا، فمن ترك أداءه إنما يتركه؛ لأنه لا يرى ذلك حقّا؛ لأنه لو رأى ذلك حقا واجبًا لأداه على ما أدى غيره من الحقوق، أو لو كان موقنًا بالبعث لأنفق وجعل ذلك قربة له عند اللّه؛ لأن المؤمن إنما ينفق ويعمل للعاقبة، فإذا ترك ذلك يخاف دخوله في وعيد الآية، ولحوق اسم النفاق به، وإن كنا لا نشهد عليه بذلك.

وقوله: {وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللّه وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: جعلوا ما أنفقوا قربات عند اللّه بصلوات الرسول؛ لأنهم إذا أنفقوا كان الرسول يدعو لهم بذلك ويستغفر، فكان ذلك لهم قربات عند اللّه باستغفار الرسول ودعائه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: جعلوا ما أنفقوا وصلوات الرسول قربات عند اللّه، ويكون لهم ما أنفقوا قربة عند اللّه، وصلوات الرسول طمأنينة لهم وبراءة من النفاق؛ لأن الرسول كان لا يدعو لأهل الكفر والنفاق، فإذا دعا لهَؤُلَاءِ وصلى عليهم كان ذلك طمأنينة لقلوبهم، وعلمًا لهم بالبراءة من النفاق؛ وعلى ذلك يخرج قوله: {إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ}. أي: تسكن قلوبهم بصلاة الرسول وتطمئن بأنهم ليسوا من أهل النفاق، وأنهم برآء من ذلك، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ}.

ذكر هذا مقابل ما ذكر في الآية الأولى، وهو قوله: {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} أخبر - هاهنا - أن ما يتربصون هم بهم من الدوائر عليهم ذلك، وهاهنا أخبر أن ما ينفق المؤمنون ويطلبون بذلك قربة عند اللّه أنها قربة لهم.

ثم وعدهم الجنة بقوله: {سَيُدْخِلُهُمُ اللّه فِي رَحْمَتِهِ}، أي: جنته، سمى جنته رحمة؛

 لما برحمته يدخلون، لا استيجابًا لهم منه بذلك، بل رحمة منه وفضلًا.

{إِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ}: لما كان منهم من المساوئ والشرك إذا تابوا وآمنوا، {رَحِيمٌ}: حيث لم يؤاخذهم بذلك.

١٠٠

قوله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللّه عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ}.

يحتمل هذا أن يكون مربوطًا معطوفًا على قوله: {سَيُدْخِلُهُمُ اللّه} مع السابقين الأولين، أي: أُولَئِكَ الذين آمنوا من بعد أُولَئِكَ المهاجرين والأنصار يدخلهم في الجنة مع السابقين الأولين.

ويحتمل أن يكون على الابتداء، لا على العطف على الأول، ثم اختلف فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: السابقون الأولون في الإسلام والنصرة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الأولون في الهجرة والنصرة.

{وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} أي والذين اتبعوا أُولَئِكَ في الإسلام على تأويل من جعل السابقة في الإسلام، وعلى تأويل من جعل على الهجرة اتبعوهم بإحسان فريقين: المهاجرين والأنصار، ولا يجعل طبقة ثالثة، وأمّا قراءة العامة من القراء فهي على إثبات الواو، وجعل طبقة ثالثة.

ثم منهم من قال من أهل التأويل: السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار:

الذين بايعوا بيعة الرضوان.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هم الذين صلوا إلى القبلتين.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: السابقون إلى الإسلام: الأولون من المهاجرين والأنصار الذين صلوا إلى القبلتين، والذين اتبعوهم على دينهم إلى يوم القيامة بإحسان.

ثم خصوص تسمية أهل المدينة أنصارًا وإن كانوا هم والمهاجرون جميعًا نصروا رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وكانوا أنصارًا له؛ فهو - واللّه أعلم - لأنهم نصروا المهاجرين؛ حيث آووهم، وأنزلوهم في منازلهم وأوطانهم، وبذلوا لهم أنفسهم وأموالهم، وإن كانوا جميعًا في النصر لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - شرعًا سواء.

ثم في الآية دلالة الرد على الروافض؛ لأنهم يجعلون أبا بكر، وعمر، وهَؤُلَاءِ - رضي اللّه عنهم - ظلمة، على الحق بتوليهم أمر الخلافة والإمامة؛ لأنه معلوم أنهم

 كانوا فيما ذكر عَزَّ وَجَلَّ من المهاجرين والأنصار.

ثم أخبر أن اللّه راضٍ عنهم، وأنهم راضون عنه، دل أنهم كانوا على حق وصواب من الأمر، وأن من وصفهم بالظلم والتعدي هو الظالم. والمتعدي: واضع الشيء غير موضعه.

وفيه دلالة جواز تقليد الصحابة والاتباع لهم، والاقتداء بهم؛ لأنه مدح - عز وجل - من اتبع المهاجرين والأنصار بقوله: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ}، ثم أخبر عن جملتهم أن اللّه راضٍ عنهم دل - واللّه أعلم - أن التقليد لهم لازم، والاقتداء بهم واجب، وإذا أخبروا بخبر أو حدثوا بحديث يجب العمل به، ولا يسع تركه، واللّه أعلم بذلك.

١٠١

وقوله: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ}.

أحنبر أن من حولهم من الأعراب ومن أهل المدينة -أيضًا- منافقون مردوا على النفاق، فقَالَ بَعْضُهُمْ: المرد في الشيء: هو النهاية في الشر.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ}، أي: ثبتوا عليه وداموا.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {مَرَدُوا} أي: عتوا عليه وبالغوا فيه.

أخبر أنهم لشدة مكرهم وخداعهم وعتوهم {لَا تَعْلَمُهُمْ}: أنت، {نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ}؛ لأن من المناففين من كان يعرفهم الرسول في لحن القول؛ كقوله: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} ومنهم من كان يعرفهم في صلاته؛ كقوله: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى}، ومنهم من كان يعرف نفاقه في تخلفه عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يعني: عن الغزو - فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أن هَؤُلَاءِ لشدة عتوهم ومكرهم وفضل خداعهم لا تعرف نفاقهم، نحن نعرف نفاقهم.

ثم أخبر أنه سيعذبهم مرتين؛

قَالَ بَعْضُهُمْ: القتل والسبي.

وعن الحسن قال: عذاب في الدنيا وعذاب في القبر.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: يعذبهم بالجوع والقتل.

وقال أبو بكر الأصم: قوله: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} القتل والسبي قبل الموت، والعذاب الآخر يعذبون في القبر {ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ}.

ويشبه أن يكون تعذيبه إياهم مرتين؛ حيث أخذوا بالإنفاق على المؤمنين وبينهم وبين المؤمنين عداوة، وأمروا أيضًا بالقتال مع الكفار وهم أولياؤهم؛ هذا أحد العذابين؛ لأنهم أمروا بالإنفاق على أعدائهم، وأمروا -أيضًا- أن يقاتلوا أولياءهم، والعذاب الثاني: القتل في القتال.

فَإِنْ قِيلَ: لم يذكر أن منافقًا قتل.

قيل: لم يذكر لعلة أنهم كانوا لا يعرفونهم؛ لقوله {لَا تَعْلَمُهُمْ}، فإذا لم يعرفوا فيقتلون كما يقتل غيرهم من المؤمنين، واللّه أعلم.

 

وقَالَ بَعْضُهُمْ: سنعذبهم مرتين: عند الموت ضرب الملائكة الوجهه والأدبار؛ كقوله: {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ}، وفي القبر منكر ونكير {ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ}: في الآخرة.

١٠٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّه أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢)

قال عامة أهل التأويل: الآية نزلت في أبي لبابة وأصحابه، تخلفوا عن غزوة تبوك عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فندموا على ذلك، واعترفوا، ورجعوا عن ذلك، وتابوا، فقبل اللّه توبتهم، ووعدهم المغفرة بقوله: {عَسَى اللّه أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

وذكر في بعض القصّة أنه لما رجع رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن غزوته تلك جاء هَؤُلَاءِ الذين تخلفوا عنه بأموالهم إلى رسول اللّه، فقالوا: يا رسول اللّه، هذه أموالنا التي خلفتنا عنك، فخذها فتصدق بها عنا، فكره أن يأخذها، فقال: " لم أومر بذلك "، فنزل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ}، وهذا الوعد لكل مسلم ارتكب ذنبًا لم يخرجه من الإيمان، ثم ندم على ذلك وتاب يرجو - واللّه أعلم - أن يكون في وعد هذه الآية؛ لأنه ذكر المؤمنين وما هم عليه، وذكر المنافقين وما هم عليه، ثم ذكر الذين خلطوا أعمالهم الصالحة بأعمالهم السيئة ثم ندموا على ذلك وتابوا، وعد اللّه لهم قبول التوبة والمغفرة.

١٠٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} اختلف في هذه الصدقة التي أمر اللّه رسوله بأخذها من أموالهم:

قَالَ بَعْضُهُمْ: هي صدقة فريضة، ثم اختلف فيها أية فريضة هي؟ فقَالَ بَعْضُهُمْ: فريضة زكاة الأموال.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هي فريضة كفارة المآثم، وذلك أن أُولَئِكَ الذين تخلفوا عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في غزوة تبوك ندموا على تخلفهم، فلما رجع رسول اللّه جاءوا بأموالهم فقالوا له: تصدق بأموالنا عنا؛ فإن أموالنا هي التي خلفتنا عنك، فأمر اللّه رسوله أن يأخذ منهم ذلك ويتصدق به كفارة لما ارتكبوا.

ومن قال: هي فريضة زكاة المال؛ لما روي عن أبي أمامة قال: إن ثعلبة بن حاطب أتى رسول اللّه فقال: يا رسول اللّه، ادع اللّه أن يرزقني مالًا، قال رسول اللّه: " ويحك يا ثعلبة! قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه "، ثم جاء فقال: يا رسول اللّه، ادع اللّه أن يرزقني مالًا، قال: " ويحك يا ثعلبة! أما أترضى أن تكون مثل، رسول اللّه لو سألت اللّه أن يسيل الجبال عليَّ ذهبًا لسالت "، ثم أتاه فقال: يا رسول اللّه، ادع اللّه أن يرزقني مالًا، فواللّه لو أتاني اللّه مالًا لأوتين كل ذي حق حقه. فدعا له فقال: " اللّهم ارزق ثعلبة مالًا " ثلاث مرات، وذكر أنه اتخذ غنمًا، فنمت كما ينمو الدود حتى ضاقت

عليه أزقة المدينة، فتنحى بها، وكان يصلي الصلوات كلها مع رسول اللّه ويخرج إليها، ثم ضاقت عليه بها مراعى المدينة فتنحى بها فكان يصلي الظهر والعصر مع رسول اللّه ثم يتبعها، ثم تنحى بها، فكان يصلي الجمعة مع رسول اللّه ثم يتبعها، ثم بلغ أمره إلى أن ترك الجمعة والجماعات، فتنحى بها ويتلقى الركبان فيسألهم عن الخبر وعما أنزل على رسول اللّه فأنزل اللّه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً. . .} الآية، فبعث رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على الصدقة رجلين فكتب لهما فرائض الصدقة، وأمرهما أن يسعيا في الناس ويأخذا صدقاتهم، وأن يمرَّا بثعلبة ورجل من بني سليم فيأخذا صدقاتهما، فخرجا بصدقات الناس، فمرا بالسلمي فأقراه كتاب رسول اللّه فأطاع بالصدقة، ومرَّا بثعلبة فأقرآه كتاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فقال: واللّه ما أدري ما هذه إلا جزية أو أخت الجزية، فإذا فرغتما فمرَّا بي حتى أرى رأيي، فلما فرغا من الناس مرَّا به فقال لهما مثل، مقالته الأولى،

وقال: انطلقا فإني سألقى رسول اللّه، فأنزل اللّه: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّه لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ. . .}، إلى قوله: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا}، إلى هذا ذهب عامة أهل التأويل أنها نزلت في شأن ثعلبة.

ومنهم من قال ما ذكرنا أنها نزلت في شأن أهل تبوك الذين تخلفوا عن رسول اللّه.

ومنهم من قال: الصدقة التي أمر اللّه رسوله أن يأخذها من أموالهم هي صدقة تطوع وتبرع، وهو ما ذكر أن رسول اللّه كان يحث الناس على الإنفاق في غزوة تبوك، فجاء عبد الرحمن بن عوف بكذا، وفلان بكذا، فأخذها منهم، وفيه نزل قوله: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ}.

ومنهم من قال: هو في كل صدقة تطوع، قلَّت الصدقة أو كثرت، أمر رسوله أن يأخذ من أموالهم ما رأى لا يأخذ الكل؛ لأن أخذ الكل يحوجهم ويشغلهم عن جميع الطاعات

والعبادات، ولكن أمر أن يأخذ قدرًا منها وطائفة، مقدار ما يكفر ما ارتكبوا من المآثم.

وقوله: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}.

إن كانت صدقة الزكاة، فهي تطهر آثامهم وتزكي أخلاقهم حتى يتيسر عليهم إخراج الصدقة وأداؤها إلى أهلها، وإن كان صدقة كفارة لمن تخلف عن غزوة تبوك، فهي تكفر آثامهم التي لحقتهم بذلك {وَتُزَكِّيهِمْ}.

قيل: وتصلحهم، وهو ظاهر.

وإن كانت صدقة تطوع فهي مما يطهرهم أيضًا، ويزكيهم؛ لما ينفي عنهم البخل، ويؤدي إلى الجود والكرم؛ ألا ترى أنه مدح من أعطى، وذم من بخل ومنع بقوله: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى. . .}، {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ. . .} الآية.

وقوله: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: كان رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا أتى أحد بصدقة دعا له ويستغفر، وكان لا يستغفر لأهل النفاق، وكانت قلوبهم تسكن وتطمئن باستغفار النبي؛ لما علموا بذلك أنهم ليسوا من أهل النفاق؛ هذا يحتمل.

ويحتمل وجهًا آخر: وهو أن اللّه أمر رسوله أن يستغفر لهم ويصلي عليهم، ثم لا يحتمل أن يأمره بذلك فلا يفعل، أو يفعل فلا يجيبه، فكانت قلوبهم تسكن، وتطمئن باستغفار النبي لهم لما قبلت توبتهم، وكفرت سيئاتهم، واللّه أعلم.

{وَاللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.

قد ذكرنا هذا غير مرة.

وفي قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} دلالة أن الصدقة إذا وقعت في يد المتولي والعامل عليها سقطت عن أربابها، وإن لم تقع في أيدي الفقراء ولم تصل إليهم؛ لأن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان لا يحل له الصدقة، ثم أخبر أنه إذا أخذها منهم كانت طهارة لهم وتزكية.

وفيه استدلال لمُحَمَّد بن الحسن في الوقف؛ أن الوقف إذا وقف وأخرجه من يده وجعله في يد آخر ممن لا حق له في ذلك كان جائزًا، وكان وقفًا صحيحًا.

ومن الناس من استدل بهذه الآية على أن للإمام أن يطالب بزكاة الأموال، وكذلك

مضت السنة من رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في بعث المصدقين إلى أحياء العرب والبلدان والآفاق لأخذ صدقات الأنعام والمواشي في مواضعها، وعلى ذلك فعل الأئمة من بعد: أبو بكر، وعمر، والأئمة الراشدون، وظهر العمل بذلك من بعدهم إلى هذا الوقت، حتى قال أبو بكر لما امتنعت العرب من إعطائه الزكاة: واللّه لو منعوني عقالا كانوا يؤدونها إلى رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حاربتهم عليها. فذلك يؤيد ما ذكرنا من مطالبة الإمام أصحاب الأنعام والمواشي بزكاة أنعامهم ومواشيهم.

وقد بين اللّه تعالى وجوب ذلك بيانًا شافيًا بقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الآية، فجعل للعاملين عليها حقًّا، فلو لم يكن على الإمام أن يطالب بصدقات الأنعام في أماكنها، وكان أداء ذلك إلى أرباب الأموال؛ ما كان لذكر العاملين وجه، ولم يبلغنا أن النبي بعث في مطالبة المسلمين بزكاة الورِق وأموال التجارة،

 ولكن الناس كانوا يعطون ذلك، ومن حمله منهم إلى الأئمة يقبلون ما يحمل إليهم منه، ولا يسألون أحدًا عن مبلغ ملكه، ولا يطالبون به إلا ما كان من توجيه عمر العشار في الأطراف، وكان ذلك منه عندنا - واللّه أعلم - للتخفيف عمن بعد عن داره، وشق عليه أن يحمل صدقته إلى إمامه، فجعل في كل طرف من الأطراف عاشرًا لتجار أهل الحرب والذمة، وأمره أن يأخذ من تجار المسلمين ما يدفعونه إليه، وكان ذلك من عمر تخفيفًا على المسلمين؛ لأنه ليس على الإمام مطالبة أرباب الأموال بأموال العين وأموال التجارة بأداء الزكاة سوى المواشي والأنعام، فإن مطالبة ذلك إلى الأئمة إلا أن يأتي أحد منهم الإمام بشيء من ذلك، فيقبله منه ولا يتعدى ما جرت به السنة إلى غيره، واللّه أعلم.

١٠٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللّه هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّه هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤)

يحتمل قوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا}، أي: قد علموا أن اللّه يقبل توبة من تاب.

ويحتمل على الأمر، أي: اعلموا أن اللّه هو يقبل التوبة عن عباده.

ويحتمل قوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا} أي: قد علموا {أَنَّ اللّه هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ} ممن تاب.

 {وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ}، قيل: يقبل.

ويشبه إضافة الأخذ إلى نفسه إضافته إلى رسوله بقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} وذلك كثير في القرآن.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَنَّ اللّه هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} قال أبو بكر الأصم: التواب هو صفة العافي، وهو اسم للتائب.

والتواب عندنا: هو الموفق للتوبة.

ثم الكافر إذا أسلم وتاب لم يلزم مع التوبة كفارة أخرى سوى التوبة، وإن كان ارتكب مساوئ وفواحش سوى الشرك والكفر، والمسلم إذا ارتكب مساوئ لزمته التوبة والكفارة جميعًا؛ وذلك لأن المسلم لما أسلم اعتقد حفظ ما لزمه من الشرائع، فإذا ارتكب ما ذكرنا خرج عن شرائعه وأدخل نقصانًا فيما اعتقد حفظه، فإذا ترك حفظه وأدخل فيه النقصان، لزمته الكفارة يجبر بها النقصان الذي أدخل فيه، وأما الكافر فليس عليه شيء من الشرائع، إنما عليه أن يتوب عن الشرك ويأتي بالإيمان؛ لذلك افترقا.

١٠٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّه عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥) اختلف فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: ذلك في الذين كانوا تخلفوا عن تبوك، ثم ندموا وتابوا عن ذلك، فتاب اللّه عليهم؛ يقول: اعملوا فسيرى اللّه عملكم ورسوله والمؤمنون، أي: إن عدتم إلى ما عنه تبتم - وهو التخلف - يطلع اللّه رسوله والمؤمنون على ذلك {وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أي: تردون إلى ما أعد لكم في عالم الغيب والشهادة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الآية في المنافقين؛ يقول: اعملوا فيما تستأنفون؛ فإن اللّه يطلع رسوله والمؤمنين على نفاقكم فتفتضحون، حيث يطلعون على سرائركم.

{وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}.

أي: تردون إلى ما أعد لكم في عالم الغيب والشهادة.

{فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.

أي: يجزيكم جزاء ما كنتم تعملون؛ يخرج ذلك على الوعيد.

وذكر في بعض الأخبار أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - شهد جنازة والمؤمنون -أيضًا- شهدوها، فأثني عليها، فقال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " وجبت "، فقيل: يا رسول اللّه، ما وجبت؟ قال: " الملائكة شهداء اللّه في السماء وأنتم شهداء اللّه في الأرض، فإذا شهدتم وجبت ".

ثم قرأ قوله: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّه عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}.

فإن ثبت هذا ففيه دلالة جواز حجة الإجماع؛ لأنه قال: " الملائكة شهداء اللّه في

 السماء، وأنتم شهداء اللّه في الأرض فإذا شهدتم وجبت، "، فإذا شهدوا على شر فهو شر، وإذا شهدوا على خير فهو خير، فعلى ذلك إذا شهدوا على حكم يلزم العمل به.

وقوله: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّه عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}.

ليس على الأمر أن يقول لهم جميعًا: اعملوا كذا، ولكن أن كل من بلغته هذه الآية يتفكر فيها ويتدبر، فلا يقدم على عمل، لا يستحسنه أن يكون رسول اللّه والمؤمنون بحضرته فإذا خلا به لا يعمله، وكذلك قوله: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}، ليس على الأمر بالسير على الأرض، ولكن على الأمر بالتفكر والتدبر فيما نزل بهم بالتكذيب، وكذلك قوله: {قُل هُوَ اللّه أَحَدٌ}، ليس على الأمر أن يقول لهم ذلك، ولكن يتفكر كل فيه أنه واحد.

١٠٦

قوله تعالى: (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّه إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللّه عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّه أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: هو صلة قوله: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا}

كانوا موقوفين محبوسين، لا يدرون ما يحكم اللّه فيهم، أيعذبهم أو يتوب عليهم؛ فنزل قوله: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا}.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو صلة {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا} كانوا اتخذوا مسجدًا فكانوا مرجون لأمر اللّه، ثم بين أن اتخاذهم المسجد ضراراً، {وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا}.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّه} قال: هم الثلاثة الذين خلفوا.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّه} أي: محبوسون: يقال: أرجيته: أي حبسته.

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: مرجون لأمر اللّه، أي: مرجون على أمره؛ كأن هذه الآية نزلت في الذين تخلفوا عنه للركون إلى الدنيا ورغبة فيها، وهم المؤمنون، والآية التي كانت قبل هذه الآية في المنافقين الذين تخلفوا للركون إلى الدنيا وكفرًا ونفاقًا.

١٠٧

وقوله: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ ... (١٠٧)

عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أن المنافقين اتخذوا مسجدًا، فلما فرغوا منه جاءوا إلى نبي اللّه وهو يتجهز لغزوة تبوك، فقالوا: يا رسول اللّه، بنينا مسجدًا لذي العلة والحاجة، والليلة المطيرة، وإنا نحب يا رسول اللّه أن تأتينا فتصلي فيه، قال رسول اللّه: " إنا على سفر وحال شغل، ولو قدمنا من سفرنا أتيناكم فصلينا لكم فيه إن شاء اللّه "، فأنزل اللّه على رسوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا. . .} الآية؛ أخبر فيه أنهم لم يقصدوا ببناء مسجدهم ذلك ما ذكروا؛ إنا بنينا مسجدًا، لذي العلة والحاجة، والليلة المطيرة، والإشفاق على الدِّين، وحفظ الصلاة بالجماعة، ولكن يقصدون به ضرارًا وكفرًا وتفريقًا بين المؤمنين.

وقوله: {ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ}.

يكون قوله: {وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} تفسيرًا لقوله: {ضِرَارًا}، يقصدون ببناء المسجد الذي بنوا ريبة أن يفرقوا بين المؤمنين وبين رسول اللّه، حتى إذا جاءهم العدو وجدهم متفرقين، فيكون أيسر وأهون عليهم في الكسر عليهم، والظفر بهم من أن كانوا مجموعين.

روي عن رسول اللّه كيوإنه قال: " لن يغلب اثنا عشر ألفًا كلمتهم واحدة ".

وقوله: {وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّه عَلَيْكُمْ}، جعل الاجتماع في الدِّين نعمة، ونهاهم عن التفرق وهم كانوا يقصدون قصد التفريق بينهم؛ لما ذكرنا، أو كانوا يقصدون بذلك أن يفرقوا بين ضعفة من المؤمنين وبين رسول اللّه، فيلبسوا عليهم الدِّين؛ لأنهم كانوا أهل لسان وجدل، وذلك كله كفر على ما ذكر.

وفيه دلالة إثبات رسالة نبينا مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه معلوم أنهم أسروا وأضمروا فيما بينهم

الضرار والكفر والتفريق بين المؤمنين، فأطلع اللّه نبيه على ما أسرّوا؛ ليعلم أنه إنما عرف ذلك باللّه تعالى.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللّه وَرَسُولَهُ}.

أي: بنوا ذلك المسجد إِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللّه وَرَسُولَهُ.

قال عامة أهل التأويل: هو أبو عامر؛ ذكر أن أبا عامر حارب رسول اللّه، ثم فرّ

منه، فقال للمنافقين: ابنوا مسجدًا واستعدوا، فإني ذاهب إلى قيصر بالشام، فآتي

 بجند فنخرج محمدًا وأصحابه من المدينة. فذهب إلى قيصر بالشام، فبنوا مسجدًا إرصادًا لمن حارب اللّه ورسوله، يعني: أبا عامر.

قَالَ الْقُتَبِيُّ: ضرارًا، أي: مضارة، وإرصادًا، أي: ترقبًا بالعداوة.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: {ضِرَارًا}، أي: مضارة، {وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللّه وَرَسُولَهُ}، أي: وقوفًا وانتظار الفرصة لمن حارب اللّه على المؤمنين.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا}.

أي: حلفوا ما أردنا باتخاذ المسجد.

{إِلَّا الْحُسْنَى} والخير.

{وَاللّه يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}.

فيه ما ذكرنا من الدلالة على إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

١٠٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللّه يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨)

قيل: لا تصل فيه؛ لأنهم سألوه أن يصلي فيه.

وقيل: {لَا تَقُمْ}، أي: لا تأته، ولا تدخل؛ وهو واحد.

{لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: هو مسجد قُباء.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو مسجد رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

روي عن أبي سعيد الخدري قال: اختصم - أو قال: اختصمنا - في المسجد الذي أسس على التقوى؛ فقال النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " هو مسجدي هذا ".

وعن أبي بن كعب قال: إن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال: " هو مسجدي هذا ".

وظاهر ما ذكر أن يكون مسجد قباء؛ لأنه ذكر لما نزل قوله: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللّه يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}، قال لأهل قباء: " إن اللّه قد أحسن عليكم الثناء في الطهور، فماذا تصنعون؟ " قالوا: نغسل عنا أثر الغائط والبول.

وفي بعض الأخبار قالوا: يا رسول اللّه، إنا نجد مكتوبًا علينا في التوراة الاستنجاء

 بالماء، فلا ندعه، فقال: " لا تدعوه ".

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا}.

يحتمل: أي: فيه رجال يؤثرون التطهر بالإيمان، والتوحيد، والصلاة فيه، وكل مسجد هذا فيه فهو مؤسس على التقوى، أي: تقوى الشرك والخلاف لأمر اللّه ومناهيه.

أو يقول: فيه رجال يحبون، أي: يؤثرون التطهر بالتقوى والأعمال الصالحة على غيرها من الأعمال التي تنجسهم.

ويحتمل ما ذكر أهل التأويل من التطهير من الأقذار والأنجاس؛ كأنه قال: فيه رجال يؤثرون الإبلاع في التطهير من الأقذار والأنجاس التي تصيبهم.

١٠٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّه وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّه لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩)

أي: على الطاعة للّه والإخلاص له.

{وَرِضْوَانٍ}.

له وطلب مرضاته.

{خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ}.

أي: بني للاختلاف والتفريق بين المؤمنين والكفر باللّه؛ هذا المثل مقابلة مكان بمكان؛ يقول: من بني بناء على قرار من الأرض مما يقر به وينتفع به خير ممن بني بناء على المكان الذي لا يقر، ويؤدي إلى الهلاك، ولا ينتفع به، والأول مقابلة فعل بفعل، وهو قوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} وكالذي بنى الضد من ذلك، أي: ليسا بسواء، ثم قال: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} هذا مقابلة فعل بفعل؛ يقول: الذين بنوا المسجد على الطاعة للّه، والإخلاص له، وطلب مرضاته، والاجتماع فيه خير ممن بني للكفر باللّه، والتفريق بين المؤمنين، وضرارًا بهم؛ هذا مقابلة فعل بفعل.

وقوله: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّه وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ}.

هذا مقابلة مكان بمكان؛ لما ذكرنا.

وقوله: {أَسَّسَ}.

أصل الأس والأسس والتأسيس واحد.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {شَفَا جُرُفٍ هَارٍ}.

قال أَبُو عَوْسَجَةَ: {شَفَا جُرُفٍ} قال: شفاه: فمه، والجمع: أشفاء، وجرف: أرض يسيل فيها السيل حتى يحفرها، والجِرَفة جمع.

وقوله: {هَارٍ}

وقال: الهار: الهش الذي ليس بصلب، ويقال: أنهار ينهار، أي: انهدم، ويقال: رجل هار، أي: ضعيف، وهي أرض هشة، أي: رخوة، سريعة الانهدام، والهش: الرخو.

 وقَالَ الْقُتَبِيُّ: {شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} أي حرف جرف هار، والجرف: ما ينجرف بالسيول من الأودية، والهائر: الساقط، ومنه يقال: تهور البناء: إذا سقط وانهار.

وقال أبو عبيدة: {عَلَى شَفَا جُرُفٍ} الشفا: هو الشفير، والجرف: ما ينجرف من السيول من الأودية، وهار، يريد: هائر.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: خسف اللّه مسجدهم في نار جهنم.

وفي حرف ابن مسعود: (فخر من قواعده في نار جهنم)

وقال: حفرت فيه بقعة فرؤي منها دخان سطع،

وقال: يهوى ببنائهم الذي بنوا في نار، ولا ندري كيف هو؟ وما معناه؟.

١١٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللّه عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠)

قَالَ بَعْضُهُمْ: {بَنَوْا رِيبَةً}، أي: حسرة وندامة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: ريبة: أي شكًّا وريبًا.

ومن قال: حسرة وندامة، فهو على وجهين:

الأول: يحتمل: أنهم تابوا وندموا على ما صنعوا.

والثاني: يحتمل: حسرة وندامة؛ لما افتضحوا بما صنعوا، وبما أرادوا بقوله: {وَاللّه يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}.

ومن قال: شكَّا ونفاقًا {إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} إلى الممات، أي: هم على الشك والنفاق إلى الموت، وهو كقوله: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ}.

 وأصل الريبة: التهمة؛ يقال: فلان مريب: إذا كانت به تهمة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ}.

هذا -أيضًا- على وجهين:

أحدهما: على التمثيل أن الخوف والحزن إذا بلغ غايته؛ يقال: فلان متقطع القلب

١١١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ اللّه اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}.

يحتمل قوله: {اشْتَرَى}، أي: استام؛ لأن قوله: {اشْتَرَى} خبر، ولكن يحتمل الاستيام، أي: استام أن يبذلوا أنفسهم وأموالهم للّه؛ ليجعل لهم الجنة.

ثم بين فقال: {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّه فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ}.

ويحتمل أن يكون قوله: {اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ}: خبرًا عن قوم باعوا أنفسهم وأموالهم؛ كقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّه}،

وقوله: {يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّه. . .} الآية، فإذا صاروا بائعين أنفسهم، كان اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - مشتريها منهم.

ثم بين أن كيف تباع وكيف تُشترى فقال: {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّه فَيَقْتُلُونَ} أي: يقتلون العدو، {وَيُقْتَلُونَ} أي: يقتلهم العدو.

وقد قرئ الأول بالرفع: فيُقْتَلُونَ، والثاني بنصب الياء، فهو ليس على الجمع أن

يَقتلوا ويُقتلوا، ولكن أن يقتلوا العدو أو يقتلهم العدو، أيهما كان، أو يقاتلون العدو وإن لم يقتلوا؛ كقوله: {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّه فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}

وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللّه وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّه. . .) الآية؛ سمي الإيمان باللّه والمجاهدة في سبيله تجارة، ثم قال: {بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} بحق الوعد لهم فضلًا منه، لا بحق البذل.

ثم قوله: {إِنَّ اللّه اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ}.

ذكر شراء أنفسهم وأموالهم منهم، وأنفسهم في الحقيقة للّه أن يأخذ منهم أنفسهم وأموالهم، وأن يتلفهم بأي وجه ما شاء، لكنه عامل عباده معاملة من لا ملك له في ذلك، ولا حق؛ كرمًا منه أوفضلًا، وجودًا، ووعدهم على ذلك أجرًا وبدلًا، وكذلك ما ذكر من القرض له، ووعدهم على ذلك الأجر مضاعفًا، وكذلك ما وعدهم من الثواب فيما يعملون لأنفسهم كالعاملين له؛ حيث قال: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}،

وقال: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا}، ونحوه، وإن كانوا في الحقيقة عاملين لأنفسهم بقوله: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ. . .} الآية، ذكر ما ذكر ففلا منه وإكرامًا؛ إذ هي له في الحقيقة، وهو كما قال: {لَنْ يَنَالَ اللّه لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ}، فإنما طلب بذل حق أنفسهم وأموالهم، أو ذكر - واللّه أعلم - شرى ماله في الحقيقة؛ ليعلم الخلق أن كيف يعامل بعضهم بعضًا، وكذلك قال اللّه: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّه قَرْضًا حَسَنًا}، عاملهم معاملة من لا حق له في أموالهم وأنفسهم؛ ليعامل الناس بعضهم بعضًا في أموالهم وأنفسهم، كمن لا حق له في ذلك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا}. أي: وعدًا واجبًا حقًّا.

{فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ}.

أي: وعد ذلك في التوراة والإنجيل والقرآن.

وفي حرف ابن مسعود: (عهدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والفرقان).

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ}.

هذه الآية تنقض قول من يقول بأن الإنجيل نزل على التخفيف والتيسير والتوراة بالشدائد، وكذلك قوله: {فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ}، وذلك مذكور في حكم الإنجيل، إلا أن يقال بأن قوله: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ}، أي: كان هذا مذكورًا لهذه الأمة في التوراة والإنجيل وما ذكر.

أثم، قال: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّه}.

هذا على أن قوله: {اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ. . .} الآية إنما هو عهد إليهم؛ حيث قال: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّه}، أي: لا أحد أوفى وأصدق بعهده من اللّه إن وفيتم أنتم بعهده الذي عهد عليكم، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ}.

يشبه أن يكون الاستبشار الذي ذكر وقت الموت أن تقول لهم الملائكة: استبشروا ببيعكم الذي بايعتم به في الحياة؛ وهذا يدل أن البيع يكون بيعًا بالبدل وإن لم يتلفظ بلفظة البيع، وقد ذكرنا فيما تقدم أن الأحكام لم تتعلق بالألفاظ والأسامي؛ إنما علقت بمعاني فيها، فإذا وجدت المعاني حكم بها.

 {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الذي ذكر.

١١٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّه وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢)

قَالَ بَعْضُهُمْ: هو على الصلة بالأول فيما ذكر من الشرى والوعد لهم الجنة إذا كانوا على الوصف الذي ذكر.

وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود وأبي - رضي اللّه عنهما -: (إن اللّه اشترى من المؤمنين التائبين العابدين الحامدين)، على الصلة بالأول بالكسر إلى قوله: وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّه)، قرآها: والقائمين على حدود اللّه أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة).

ومنهم من قال على الابتداء بالرفع: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ. . .} إلى آخره.

ويشبه أن يكون الشراء الذي ذكر في أول الآية وما وعد لهم ببذل أنفسهم وأموالهم في الجهاد، يكون ذلك أيضًا في غيره من الطاعات والخيرات، من بذل نفسه للّه فيما ذكر من العبادة له والجهد، وما ذكر في الآية - فهو بائع نفسه منه؛ كقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّه} ونحوه.

وقوله: {التَّائِبُونَ}.

يحتمل: التائبون من الشرك، أو من جميع المعاصي.

{الْعَابِدُونَ}.

يحتمل: الموحدون.

ويحتمل: العابدون: جميع أنواع العبادة.

{الْحَامِدُونَ}.

قيل: الشاكرون.

وقيل: المثنون على اللّه.

فإن كان قوله: {الْعَابِدُونَ} من العبادة، فيكون الحامدون: المثنون على اللّه؛ لأن العبادات كلها شكر.

وإن كان قوله: {الْعَابِدُونَ}: الموحدون، فيكون قوله: {الْحَامِدُونَ} والشاكرون للنعم التي أنعمها اللّه عليهم.

{السَّائِحُونَ}.

قيل: الصائمون؛ وعلى ذلك روي عن نبي اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أنه سئل عن السائحين؟ فقال: هم الصائمون "،

وقال: " وسياحة أمتي الصيام ".

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: وأصل السائح الذاهب في الأرض، ومنه يقال: ساح إذا جرى وذهب، والسائح في الأرض ممتنع من الشهوات، فشبه الصيام به؛ لإمساكه في صومه عن المطعم والمشرب وجميع اللذات.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: هم الذين يمضون على وجوههم في الأرض ليست لهم منازل، يقال: ساح يسيح سيحًا وسياحة.

{الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ}.

 قيل: المصلون.

وقيل: الخاضعون للّه والخاشعون له؛ وكذلك ذكر في حرف حفصة.

{الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ}.

يحتمل التوحيد، أي: آمرون الناس بتوحيد اللّه.

ويحتمل: الآمرون لهم بالخيرات والمعروف كله.

{وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ}.

الشرك، ويحتمل: كل معصية.

{وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّه}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: لفرائض اللّه التي فرضها على عباده.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: لسنن اللّه، ولكن حافظون جميع أحكام اللّه، لا يجاوزون ما حد لهم ولا يفرطون فيها.

{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}.

يحتمل البشارة لهَؤُلَاءِ الذين سبق ذكرهم.

ويحتمل: على الابتداء، أي: بشر جميع المؤمنين؛ كقوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللّه فَضْلًا كَبِيرًا}، واللّه أعلم.

١١٣

وقوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ}.

دلت الآية بما نهانا أن نستغفر لمن علمنا أنه من أهل النار؛ لما أن اللّه لا يغفر له؛ لما

علم أنه لا يؤمن، فعلى ما علمنا أنه لا يغفر له لم نستغفر له فلم يجز لنا أن نقول: إنه أراد الإيمان لمن يعلم أنه لا يؤمن أبدًا؛ كما لم يجب أن يغفر لمن وجبت له النار، فهذا ينقض على المعتزلة قولهم: إن اللّه قد أراد لكل كافر الإيمان، لكنه لم يؤمن.

ثم قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ}.

قال بعض أهل التأويل: إن رسول اللّه قد استغفر لأحد والديه، وذكر أنه دخل على أبي طالب عمه فدعاه إلى شهادة أن لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه فأبى، ثم استغفر له

وقال: لأستغفرن لك ما لم أُنهَ عنه أو كلام نحو هذا، فنزل قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى. . .} الآية.

قال الحسن: لا يحتمل أن يكون رسول من رسل اللّه لا يعلم أن اللّه لا يغفر للكافر؛ إذ في العقل والحكمة ألا يغفر له والتعذيب له أبدًا، وعندنا في الحكمة تعذيب الكافر أبدًا وألا يغفر له لوجوه:

أحدها: أن في ذلك تسوية بين العدو ووليه، ومن سوى بين عدوه ووليه فهو ليس بحكيم؛ إذ في الحكمة التمييز بينهما.

والثاني: أنه إذا عبد غير اللّه معه إنما يعبد غيره لجهله، وتلك الجهالة لا ترتفع أبدًا؛ لأنه إذا غفر له فيقع عنده أنه إنما جزى وغفر له لعبادة غير اللّه.

والثالث: أنه لو غفر للكافر لذهبت حكمة الأفعال؛ لأن الأفعال إنما يؤمر بها لعواقب تتأمل:

إما حمدًا وإما ذمًّا، فإذا غفر له حمد بأفعال كان الحق له الذم بها، ففي ذلك خروجها عن الحكمة.

وجائز أن يكون رسول اللّه يستغفر للمنافقين، قبل أن يتبين له أنهم منافقون، فلما تبين

 له نفاقهم كف عن استغفاره لهم، فأما أن يستغفر للكافر على علم منه أنه كافر فلا يحتمل، على ما يقوله بعض أهل التأويل: إنه استغفر لعمه ولأحد والديه.

١١٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للّه تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤)

قَالَ بَعْضُهُمْ: وعدها إياه: الإسلام، فكان استغفاره لأبيه على وعد الإسلام، فإنما كان استغفاره بعد إسلامه.

ألا ترى أنه قال: (رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)، فإنما طلب له المغفرة في ذلك اليوم وقد كان وعده الإسلام؛ لذلك كان استغفر له.

ألا ترى أنه تبرأ منه؛ إذ تبين له أنه من أهل النار.

ويحتمل أن يكون استغفار إبراهيم لأبيه طلب السبب الذي به منه يستوجب المغفرة وهو التوحيد والإسلام؛ وهو كقول هود لقومه: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ}؛ وكقول نوح: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} ليس يأمرهم أن يقولوا: نستغفر اللّه، ولكن يأمرهم بالإسلام ليغفر لهم ويكونوا من أهل المغفرة، فعلى ذلك استغفار إبراهيم لأبيه؛ وكذلك قوله: {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} أي: أعطه السبب الذي به يستوجب المغفرة وهو التوحيد، كان سؤاله سؤال التوحيد؛ إذ لا يحل طلب المغفرة للكافر وفي الحكمة لا يجوز أن يغفر له.

فَإِنْ قِيلَ: فإن كان على ما ذكرتم كيف استثنى قول إبراهيم: {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} بعد ما أخبرنا أن في إبراهيم قدوة بقوله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ}؟

قيل: يحتمل الاستثناء لقول إبراهيم: {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} لأبيه، أي: حتى نعلم المعنى من استغفاره؛ لأنا لا نعرف مراد إبراهيم من استغفاره لأبيه؛ وكذلك استغفار الأنبياء - صلوات اللّه وسلامه عليهم - لقومهم والمتصلين بهم، فاستثنى ذلك إلى أن نعلم مرادهم من استغفارهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}

قيل: الأواه: الدعاء، وعلى ذلك روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - " أنه سئل عن الأواه؟

 فقال: الدعاء الخاشع المتضرع ".

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: الأواه: المؤمن.

وقيل: الأواه: الفقيه، الموقن.

وقيل: المسبح.

وقيل: الأواه: المتأوه حزنًا وخوفًا.

و" حليم " قيل: الحليم ضد السفيه.

وقيل: العليم.

والحليم: هو الذي لا يغضب ولا يسفه عند سفه السفيه.

١١٥

وقوله: (وَمَا كَانَ اللّه لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّه بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥)

اختلف أهل التأويل:

قَالَ بَعْضُهُمْ: الآية في استغفار المؤمنين للمشركين.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الآية في نسخ الأحكام والشرائع التي تحتمل النسخ.

فإن كانت في الاستغفار للمشركين، فإنه ليس هنالك نسخ؛ لأنه لم يسبق لهم الأمر بالاستغفار ولا الإباحة لهم في ذلك، فكأنه قال: ما كان اللّه ليجعل قومًا ضلالًا بالاستغفار بعد أن جعلهم مهتدين حتى يعلموا بالنهي عن ذلك، واللّه أعلم.

وهو يحتمل ما ذكرنا من استغفارهم للمنافقين قبل أن يتبين لهم؛ يقول: لا يجعلهم ضلالا بذلك.

{حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ}، أي: حتى يعلموا بالذي يلزمهم الانتهاء عنه، وهو النسخ؛ هذا في الأحكام التي تحتمل النسخ.

وأما الأحكام التي لا تحتمل النسخ فلا.

وأصله: أن كل ما كان في العقل امتناع نسخه فإنه لا يرد فيه النسخ، وكل ما كان في العقل لا امتناع على نسخه فإنه يجوز أن يرد فيه النسخ.

 ثم المسألة فيما عملوا بالمنسوخ قبل العلم بالنسخ ما حال العمل الذي عملوا به يجرحون ويأثمون في عملهم بذلك في حال نسخه، أو يثابون ويؤجرون على ذلك؟ فإن كان الفعل فعل طاعة وقربة، فإنه يثاب في قصده وفعله ولا يجرح فيه.

وإن كان فعله ليس بفعل قربة وطاعة، ولكن فعل حل وحرمة - فإنه في فعله قبل بلوغ العلم بنسخه لا يجرح في فعله؛ نحو ما روي أنهم كانوا يشربون الخمر ثم أتاهم آت فقال: ألا إن الخمر قد حرمت، فصبُّوها وكفوا عنها، فهم في شربهم بعد التحريم قبل بلوغ الخبر إليهم لا يجرحون.

وأما الفعل الذي هو فعل قربة وطاعة: فإن لهم القربة في فعلهم وهو الصلاة؛ ونحوه ما روي أن نفرًا كانوا يصلون إلى بيت المقدس، فمرَّ عليهم مار فقال: ألا إن القبلة قد حولت - وهم في الركوع - إلى الكعبة، فتحولوا نحوها، فأخبروا عن ذلك رسول اللّه فلم يأمرهم بالإعادة؛ لأن الفعل فعل قربة وطاعة، فالطاعة والقربة موجودة في فعلهم؛ لأن الأفعال التي فرضت لم تفرض لنفس الأفعال إنما فرضت للطاعة والقربة للّه فيها، فإنه يؤجر على ذلك، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ اللّه بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.

بما فيه مصالح الخلق وما ليس فيه؛ كان هذا - واللّه أعلم - خرج لإنكار من أنكر النسخ في الشرائع؛ يقول: إن اللّه يعلم بما فيه مصالح الخلق وأنتم لا تعلمون، وفي الناسخ مصالح لهم وأنتم لا تعلمون، ويؤكد ذلك

١١٦

 قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللّه لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ (١١٦)

 وأنتم عبيده، وليس للعبد إنكار شيء على سيده، وإنَّمَا على العبد الطاعة لسيده والائتمار لأوامره والانتهاء عن نواهيه.

قوله تعالى: {يُحْيِي وَيُمِيتُ}.

أي: كما له أن يميت بعد الحياة ويحيي بعد الموت، فله أن يتعبدهم في حال بعبادة، وفي حال بعبادة أخرى.

١١٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَقَدْ تَابَ اللّه عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. . .} الآية.

قال بعض من أهل التأويل: تاب اللّه عليهم لزلات سبقت منهم، ولهفوات تقدمت من غير أن كان منهم زلات في هذا - يعني: في غزوة تبوك - وهفوات، أما التوبة على النبي فقوله: {عَفَا اللّه عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} وعلى المهاجرين والأنصار ما كان منهم يوم أحد ويوم حنين، وهو قوله: {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللّه عَنْهُمْ}.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: تاب عليهم لهفوات كانت منهم في غزوة تبوك، هموا أن ينصرفوا في غير وقت الانصراف على غير إذن لشدائد أصابتهم، فقال: {تَابَ عَلَيْهِمْ}، لما هموا بالانصراف في غير وقت الانصراف.

ويشبه أن تكون التوبة التي ذكر على وجهين سوى ما ذكروا:

أحدهما: وهو أنه تاب عليهم، أي: جدد عليهم التوبة للّهفوات التي تقدمت، أو

الثبات عليها من غير أن كان منهم في الحدوث شيء، ولكن يكون لذلك حكم التجديد أو الثبات عليها كسؤال الهدى وهم على الهدى؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}.

ْ

وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّه وَرَسُولِهِ} أي: يا أيها الذين آمنوا فيما مضى من الوقت آمنوا في حادث الوقت، أو اثبتوا على ذلك؛ فعلى ذلك يحتمل أن يكون قوله: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} أي: جدد عليهم التوبة من غير أن كان منهم هفوة، أو ثبتهم على التوبة التي كانت منهم.

والثاني: أنه ذكر التوبة، وذلك أنهم حيث صبروا على ما أصابهم من الشدائد والجهد، كشف اللّه عنهم أشياء كانت مستورة عندهم وجلالهم أغطية كانت لا تنجلي لهم من قبل، لكن انجلى ذلك لهم وانكشف؛ لصبرهم على الشدائد التي أصابتهم؛ كقوله: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للّه وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}، لما صبروا على ما أصابهم من المصائب ازداد لهم تفويض وتسليم الأمر والمرجع إليه؛ وكقوله: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللّه. . .} الآية، ازداد لهم بما صبروا هدى وتجلى لهم أشياء لم تكن من قبل؛ فعلى ذلك يحتمل التوبة التي ذكر أنهم لما صبروا على ما أصابهم من الشدة والجهد، تجلت لهم أشياء كانت مغطاة - واللّه أعلم - فإنه ذكر: {مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ}، ولم يذكر أنها زاغت وذكر قلوب فريق منهم، ولم يذكر قلوب الكل فهو ما ذكرنا.

ويحتمل ذكر التوبة على النبي على الإشراك مع المؤمنين من غير أن كان له ذنب؛ لأنه أخبر أن ذنبه مغفور بقوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللّه مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}، فهو كما أشركه في الاستغفار؛ بقوله: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} أمره بالاستغفار لذنبه على الإشراك له مع استغفار المؤمنين؛ إذ أخبر أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

 والتوبة من اللّه تعالى تخرج على وجوه:

أحدها: التوفيق وفقهم للتوبة وأكرمهم بها؛ كقوله: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} أي: وفقهم للتوبة فتابوا.

والثاني: التوبة منه قبولها منهم، أي: يقبل منهم التوبة؛ كقوله:

{إِنَّ اللّه هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.

والثالث: {تَابَ عَلَيْهِمْ}، أي: تجاوز عنهم وعفا وصفح عنهم.

على هذه الوجوه الثلاثة تخرج إضافة التوبة إلى اللّه تعالى.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ}.

قيل: في عسرة النفقة وعسرة الظهر.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ}.

ذكر في بعض القصة أنه قد أصابهم من الجهد والشدة حتى أن الرجلين يقسمان التمرة بينهما، وكانوا يتداولون التمرة بينهم يمصها هذا ثم يشرب عليها الماء، ثم يمصها هذا، ذكر نحو هذا، ولكن لا ندري كيف كان الأمر سوى أنه أخبر أن قلوبهم كادت تزيغ من الجهد.

١١٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللّه إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللّه هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨)

قَالَ بَعْضُهُمْ: خلفوا، عن التوبة؛ نحو قوله: {لَقَدْ تَابَ اللّه عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ}. فكانوا يبتهلون ويدعون اللّه حتى تاب اللّه عليهم فتابوا.

وقال قائلون: خلفوا عن رسول اللّه لما تقدمهم القوم، فهم المخلفون بتقدم أُولَئِكَ.

وقال قائلون: خلفوا خلفهم اللّه، أي: خلفهم.

ويشبه أن يكون قوله: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} هم الذين تخلفوا فخلفهم رسول اللّه، وهو ما ذكرنا.

وقوله: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ}.

يحتمل هذا على التحقيق، ويحتمل أن يكون على التمثيل.

وللتحقيق وجهان:

أحدهما: {ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ}: ما ذكر أنهم شدوا أنفسهم بالسواري والأسطوانات، وأتوا بأموالهم التي منعتهم عن الخروج مع رسول اللّه، وتصدقوا بالأرضين التي منعتهم عن الخروج، وضاقت عليهم الأرض بعد ما كانت عليهم متسعة يتسعون فيها؛ لأنه ذكر في القصة أن واحدًا من هَؤُلَاءِ ممن حبسته أرضه عن الخروج فتصدق بها على الفقراء، وكان له التوسع بتلك الأرض ثم ضاقت عليه.

والثاني: {ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ}: لما حبسوا أنفسهم عن أراضيهم، وتركوا شهواتهم وأمانيهم وما يتلذذون به؛ ذلك ضيق الأرض.

{وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ}: لما شدوا أنفسهم بالأسطوانات.

ويحتمل أن يكون على التمثيل؛ وذلك أن الخوف إذا اشتد بالإنسان وبلغ غايته حتى يمنعه عن القرار في الأرض والتلذذ فيها يقال: ضاقت عليه الأرض بسعتها، وضاقت عليهم أنفسهم؛ لما ذكر كان الناس لا يكلمونهم ولا يخالطونهم ولا يبايعونهم ولا يكلمهم أهاليهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللّه إِلَّا إِلَيْهِ}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: ظنوا أن لا نجاة من عقوبة اللّه إلا عفوه، أي: أيقنوا أن لا مخلص لهم ولا احتراز لهم من عقابه.

وقيل: ظنوا أن لا ملجأ من عذاب اللّه إلا إلى رحمته.

وقيل: وظنوا أن لا ملجأ من رسول اللّه إلا إلى اللّه؛ لأنه ذكر أنهم سألوا رسول اللّه، التجاوز عن ذلك فلم يجبهم، فأيقنوا عند ذلك أن المفزع والملجأ إلى اللّه لا إلى أحد دونه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ}.

أي: وفقهم للتوبة فتابوا.

 {إِنَّ اللّه هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.

أي: يقبل التوبة، أي: قابلها.

١١٩

في ظاهر الآية أن قومًا عرفوا بالصدق فأمروا بالكون معهم، ويشبه أن يكون أمر هَؤُلَاءِ الذين تخلفوا عن رسول اللّه بالكون مع المهاجرين والأنصار الذين كانوا مع رسول اللّه.

وفيه دلالة على أن الإجماع حجة؛ لأنه أمر بالكون مع الصادقين في دين اللّه، فلو لم يلزمهم قبول قولهم لم يكن للأمر بالكون معهم وجه.

وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}، وهو ظاهر.

وقوله: {اتَّقُوا اللّه وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}.

يحتمل وجوهًا:

أحدها: يقول: احفظوا اللّه في حقه ولا تضيعوه، وكونوا مع الصادقين في وفاء ذلك وحفظه.

أو: اتقوا اللّه فيما نزل ما امتحنكم به من الخروج والجهاد مع رسول اللّه وغير ذلك من المحن.

أو يقول: اتقوا مخالفة اللّه ورسوله فيما يأمركم به، وكونوا مع الموافقين لأمره، واللّه أعلم.

١٢٠

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّه وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّه وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّه لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠)

يشبه أن يكون هذا صلة ما سبق منهم من المبايعة والعهود التي جرت بينهم وبين رسول اللّه؛ يقول - واللّه أعلم -: {مَا كَانَ}، أي: لم يكن لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول اللّه، بعد ما قبلوا النصر له والمعونة وبايعوه على ذلك؛ هذا محتمل.

ويحتمل وجهًا آخر: وهو أن يكون صلة ما ذكر على أثره وهو قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّه}؛ يقول - واللّه أعلم -: ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول اللّه، وقد جعل بكل ما يصيبهم في أنفسهم من العناء والشدة، وفي أموالهم من النقصان وما ينفقون من النفقة قليلة كانت أو كثيرة، أو يصيبون من العدو ومن القتل والغنيمة - إلا كتب لهم بذلك العمل الصالح، أي: ما كان ينبغي لهم أن يتخلفوا عنه، وقد كتب لهم بكل ما يصيبهم من الشدة والعناء وما يصيبون من الخير - العمل الصالح والأجر لهم، واللّه أعلم.

أو يقول: ما كان لأهل المدينة إذ تخلفوا عن رسول اللّه أن يتخلفوا عنه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ}.

يحتمل قوله: {وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ}، أي: ولا يرغبوا بالتخلف عن نفسه؛ يقال: جاء فلان بنفسه، ورأيت أنا بعيني ونحوه، أي: جاء هو ورأى هو؛ فعلى ذلك هذا {وَلَا يَرْغَبُوا}، أي: ما كان ينبغي لهم أن يرغبوا عن رسول اللّه.

ويحتمل {وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ}، أي: لأنفسهم عن نفسه، وذلك جائز ما ذكرنا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} قيل: عطش، {وَلَا نَصَبٌ}: العناء والمشقة، {وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّه}، أي: مجاعة.

{وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ}،

قَالَ بَعْضُهُمْ: ولا يقفون موقفًا.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو من الوطء والموطئ: الشيء الذي يوطأ.

{وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا}، قيل: فيهم أو إغارة عليهم، {إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ}، أي: يكتب ما لهم وما عليهم العمل الصالح مكان من تخلف منهم مخافة

 أن يصيبه ما ذكر من العناء والشدة؛ يقول: كتب لهم بكل ما يصيبهم العمل الصالح، {إِنَّ اللّه لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}.

١٢١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّه أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١)

هو ما ذكرنا أنه يجزيهم بكل ما يصيبهم من الشدة والعناء في أنفسهم وفي أموالهم من النقصان وما ينفقون.

{لِيَجْزِيَهُمُ اللّه أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.

أي: يجزيهم لصالح أعمالهم وأحسنها، ولا يجزيهم لسيئاتهم؛ وهو كقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ}، أخبر أنه يتقبل منهم أحسن ما عملوا ويكفر عنهم سيئاتهم؛ فعلى ذلك الأول يخبر أنه يجزيهم أحسن ما عملوا في الغزو، ويتجاوز عن سيئاتهم.

١٢٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢)

اختلف أهل التأويل:

قَالَ بَعْضُهُمْ: إن نبي اللّه كان إذا خرج للغزو خرجوا جميعًا، فتبقى المدينة خالية عن الرجال، فنهى اللّه عن ذلك

وقال: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ}.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: كان رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا بعث سرية خرجوا جميعًا، فبقي هو وحده لم يبق معه أحد ممن يشهد التنزيل؛ ليخبروا أُولَئِكَ إذا حضروا.

وقال آخرون: الآية في الوفود، وذلك أن الوفود إذا قدموا من الآفاق المدينة قدموا مع النساء والذراري جميعًا، فأمروا أن ينفر الرجال منهم دون النساء والذراري، أو من كل قوم نفر؛ ليتفقهوا في الدِّين.

ذكر في هذه الآية: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ}، نهى الكل أن ينفروا، وأمروا في الآية الأخرى بنفر الكل بقوله: {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا}، فهو يخرج على وجهين:

أحدهما: أمر بالنفر الجميع عند قلة المؤمنين؛ ليكون لهم الكفاية مع العدو.

والثاني: أمر بنفر الكل عند النفير.

فيكون إحدى الآيتين في حالة النفير، والأخرى في غير حال النفير وما ذكرنا في وقت القلة والكثرة.

فمن يقول: إن الآية في الذين كانوا يخرجون جميعًا مع رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا خرج، كأنه نهى عن الخروج جملة مع رسول اللّه؛ خوفًا على أهاليهم وذراريهم، لعل العدو سباهم وأخذ أموالهم يقول اللّه: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ}، أي: هلا نفر طائفة منهم فيخبروا الكفار المقيمين بما أنزل اللّه على رسوله من النصر والمعونة والهزيمة على الكفار الذين قاتلوا رسول اللّه، فيكون ذلك سبب دعائهم إلى الإسلام.

وإلى هذا ذهب الحسن والأصم ويقولون: إن هذه الآية نسخت الآية التي قبلها وهي قوله: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّه}.

يقول الحسن: إن عليهم أن يخرجوا مع رسول اللّه إذا خرج، فيقول: هذا منسوخ بالآية التي تليها: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} الآية.

ومن يقول بأن الآية في الوفود الذين كانوا يأتون رسول اللّه المدينة بالنساء والذراري، فالنهي لذلك لما كانوا يضيقون على أهل المدينة أوطانهم ويغلون أسعارهم ونحوه؛ يقول: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ}، أي: يعلمون الدِّين وأحكامه، ثم ليرجعوا إلى قومهم فيعلموهم.

ومن يقول: الآية في الذين خرجوا ونفروا مع السرايا، نهاهم عن خروج الكل؛ لما لعله لما نزل على رسول اللّه شيئًا، فلم يكن معه أحد يبلغه إليهم ثم يبلغ إلى من هو غاب عنه ضاع ذلك فيقول: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} ما نزل على رسول اللّه، وليبلغوا ذلك إلى من غاب عنه.

{مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ}.

قيل: من كل عصبة، ومن كل قبيلة، ومن كل حي، ففي الآية دلالة سقوط فرض

السفر لتعلم العلم والتفقه في الدِّين عن الكل إذا قام بعض بذلك يخرجون ويتعلمون ثم يعلمون قومهم؛ لأنه قال: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ. . .} الآية.

وفيه أيضًا دلالة سقوط فرض الجهاد عن الجماعة إذا قام بعضهم عن بعض.

وفيه دلالة لزوم العمل بخبر الأحاد وإن احتمل الغلط؛ لأن ما ذكر من الطائفة

 يحتمل أن يجتمعوا على ذلك كذبا أو غلطا، ثم ألزم قومهم قبول خبرهم وإن احتمل الغلط والكذب بقوله: {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}.

الآية تخرج على وجهين:

أحدهما: أن كل أهل بلدة وأهل قبيلة يختارون من يصلح للتفقه في الدِّين والتعلم فينفر، حتى إذا تفقه وتعلم رجع إلى قومه فيعلمهم.

والثاني: يأمر من يصلح للتفقه بالتخلف عن الجهاد إذا كان بهم غنية ليتفقه عند رسول اللّه، فينذر قومه إذا رجعوا إليه من غزاتهم.

١٢٣

قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ}.

اختلف فيه؛

قَالَ بَعْضُهُمْ: نزلت الآية قبل أن ينزل قوله: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً}.

كان الأمر بالقتال بالأدنى فالأدنى، ثم جاء الأمر بقتال الكفار عامة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن رسول اللّه كان إذا غزا ربما كان يجاوز كفارا ويتركهم وراءه ويقاتل غيرهم؛ ليكون ذلك آية لنبوته، وليعلم أنه لا يبالي بمن يقاتل ولا يخاف من تركهم وراءه، ثم أمر اللّه المؤمنين أن يقاتلوا الأقرب فالأقرب منهم والأدنى فالأدنى وألا

يتركوا العدو وراءهم؛ إلى هذا ذهب بعض أهل التأويل، وأمكن أن يكون هذا تعليمًا من اللّه المؤمنين أمر الحرب وأسبابها، كما علمهم جميع ما يقع لهم من الحاجة إلى أسباب الحرب في غير آي من القرآن؛ من ذلك: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللّه كَثِيرًا}،

وقوله: {إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا} الآية،

وقوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ. . .} الآية، وغير ذلك من الآيات.

أو يحتمل أن يكون أمر بقتال الأقرب فالأقرب منهم كسائر العبادات.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ}.

يخرج على وجهين:

أحدهما: ما ذكرنا أنه يخرج على أمر القتال منه للمؤمنين.

والثاني: إنباء عن دوام الجهاد والقتال مع الأعداء أبدًا؛ لأنه كلما فتح ناحية وقومًا، صار الذين بقوا وراء هَؤُلَاءِ الذين يلونهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً}.

قيل: شدة عليهم.

وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - وأبي: (وليجدوا عليهم غلظة)، أي: شدة، ويقرأ: {غُلْظَةً} برفع الغين، ويقرأ: {غِلْظَةً} بكسرها، وهما لغتان ومعناهما واحد.

{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه مَعَ الْمُتَّقِينَ}.

أي: من اتقى الخلاف له بالنصر لهم على عدوهم.

وقوله: {أَنَّ اللّه مَعَ الْمُتَّقِينَ}.

 يخرج على وجوه:

أحدها: ما ذكرنا إذا اتقوا الخلاف له فيما علمهم من أمر الحرب يكون معهم بالنصر.

والثاني: معهم في التوفيق والهداية.

والثالث: في الجزاء.

١٢٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا}.

قال أهل التأويل: قوله: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا} يعني: يقول المنافقون بعضهم لبعض إذا خلوا عن المؤمنين: أيكم زادته هذه إيمانًا؟ استهزاء منهم بها وسخرية، فأجاب اللّه تعالى فقال: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤)

١٢٥

وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ (١٢٥)، أي: شك ونفاق، {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} أي: تكذيبها وكفرًا إلى تكذيبهم الذي كان منهم؛ لأن أهل النفاق والكفر ليسوا هم بأهل إنصاف يقبلون الحجة والدلالة إذا قامت عليهم، إنما همتهم العناد والتكذيب ورد الحجج والدلائل، فكلما ازداد لهم الحجج والبراهين ازداد لهم عنادًا في التكذيب والرد، وأما أهل الإيمان فإن همتهم قبول الحجج والإنصاف، فكلما ازداد لهم الحجج والبراهين ازداد

لهم إيمانًا وتصديقًا على ما كان لهم.

ثم قوله: {فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا}: زادتهم ثباتًا ودوامًا على ما كانوا من قبل، بما قامت لهم من الحجج والبراهين، وكذلك ازداد أهل النفاق والكفر بها الثبات على العناد في تكذيب الحجج والآيات.

والثاني: ازداد لهم إيمانًا بالتفسير على إيمانهم بالجملة، وإذا كانوا مصدقين لذلك كله جملة، فإذا نزلت لهم نوازل وفرائض ازداد لهم بذلك التصديق والثبات.

وأصله أنه لو ما كان منهم من الإيمان والتصديق، لكان هذا منهم ابتداء إيمان وإحداث تصديق، وكذلك لو لم يكن من أهل النفاق ما سبق من العناد، لكان ذلك منهم إحداث تكذيب وعناد، فإذا كان منهم ما ذكرنا كان ذلك زيادة على ما كان لما ذكرنا.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: يزداد لأهل الإيمان خيرات، ولأهل النفاق شر، ولكن هو واحد وهو ما ذكرنا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا}.

يخرج على وجهين:

أحدهما: زادت المؤمنين إيمانا على الذي كان لهم من الإيمان والتصديق.

والثاني: زاد لهم حجة وبرهانًا لما كان، وكذلك يزداد لأهل النفاق ضد ذلك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}.

قيل: يفرحون بنزولها، ثم إضافة الزيادة إلى السورة بقوله: {فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} لوجهين:

أحدهما: أضيف إليها الزيادة على ما أضيف الغرور إلى الدنيا، وهو لما ذكرنا أنه يبدو منها لهم من التزيين ما لو كان ذلك من ذوي الأفعال والتغرير كان ذلك غرورًا.

والثاني: إضافة التغرير إليها لما بها اغتر أهلها، وكذلك إضافة الزيادة إلى السورة لما بها ازداد لهم التكذيب والكفر، وازداد لأهل الإيمان بها التصديق، فأضيف الزيادة إليها.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو ما ذكرنا أنها حجة ودلالة، فبالحجة يزداد لأهل الإيمان الإيمان بها؛ إذ هم قد اعتقدوا قبول الحجج والدلائل، وأما أهل النفاق والكفر فإنهم أهل

 عناد ومكابرة؛ إذ قد اعتقدوا العناد ورد الحجج، فكلما ازداد لهم الحجة ازداد لهم عنادا وكفرًا.

وقال أبو بكر الأصم: إنما أضيف الزيادة إليها؛ لأنها كانت سبب الزيادة، وقد تضاف الأشياء إلى أسبابها كما تضاف إلى حقيقة الأفعال، ولكن لا يحتمل أن تكون السورة التي نزلت سببًا لزيادة الكفر، لكن الوجه فيه ما ذكرنا، واللّه أعلم.

١٢٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦)

قيل: يبتلون بالجهاد والغزو فيتخلفون عنه، فيظهر بذلك نفاقهم وكفرهم.

وقيل: يبتلون بالشدة والجوع فيظهر أيضًا بذلك نفاقهم؛ كقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّه عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ}.

وقيل: يفتنون في كل عام مرة أو مرتين؛ وذلك أنهم كانوا إذا خلوا تكلموا بالكفر فيما بينهم، ثم إذا أتوا النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أخبرهم بما تكلموا به في الخلوة فيفتضحون بذلك، فذلك افتتانه إياهم وابتلاؤه لهم، كان يظهر بما ذكر نفاقهم: مرة في الجهاد في سبيل اللّه، ومرة بالشدة والخوف، ومرة بما يطلع اللّه نبيه بما يضمرون ويتكلمون به في الخلاء.

وتحتمل هذه الآية الوجوه الثلاثة: الجهاد معه، والابتلاء بالشدائد، والإفزاع.

وتحتمل إظهار الأسرار التي أسروا في أنفسهم والافتضاح مما أخفوا، لكن لو كان هذا فذلك مما يكثر منهم، أعني: كتمان النفاق وإسرار الخلاف لهم، لكن ذكر المرة والمرتين يرجع إلى الافتضاح والإظهار، فذلك يحتمل أن يكون في العام مرة أو مرتين.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ}: عن نفاقهم.

{وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ}: بما ابتلوا من الافتضاح وظهور النفاق منهم، واللّه أعلم.

١٢٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللّه قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (١٢٧)

قَالَ بَعْضُهُمْ: الآية صلة قوله: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا} أي: كان ينظر بعضهم إلى بعض ثم يقولون ما ذكر.

ومنهم من يقول: إذا كانت السورة التي نزلت حجة في إظهار الدِّين والإيمان، يسمعون ويقولون: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا} وإذا أنزلت في إظهار نفاقهم وافتضاحهم نظر بعضهم إلى بعض، ثم انصرفوا ولا يسمعون منه السورة؛ إشفاقًا لئلا يظهر نفاقهم.

وقوله: {صَرَفَ اللّه قُلُوبَهُمْ} يحتمل خلق اللّه منهم انصرافهم فأضيف إليه الصرف، ويشبه أن يكون قوله: {صَرَفَ اللّه قُلُوبَهُمْ} عقوبة، أي: عاقبهم اللّه بصرف قلوبهم باعتقادهم العناد وردهم الحجج وتركهم القبول.

١٢٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ}.

اختلف فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: {مِنْ أَنْفُسِكُمْ} أي: من البشر وهو امتنان منه عليهم؛ حيث بعث الرسول من البشر وله أن يبعث من غير البشر، لكنه بعث من البشر؛ ليعرفوا الآيات التي يأتي بها من التمويهات؛ لأنهم يعرفون مبلغ وسع البشر في الأشياء وقدر إمكانهم بعلم الأشياء، فإذا جاء بالأشياء التي هي خارجة عن الطباع ووسع البشر في التعليم، عرفوا أنها آيات لا تمويهات، مع ما يألف كل ذي جنس بجنسه وينفر من غير جنسه، هذا ظاهر في الخلائق أن كل ذي جنس يألف بجنسه ولا يألف بغير جنسه، فبعث الرسول من البشر ومن جنسهم؛ ليألفوا به، ويقبلوا منه ما يأتيهم به ويجيبوه إلى ما يدعوهم إليه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ}، أي: من المكان الذي أنتم فيه وهو الحرم.

وقال آخرون: {مِنْ أَنْفُسِكُمْ}، أي: من أنسابكم، وهو أيضًا موضع الامتنان عليهم؛ حيث بعثه من أنسابهم يعرفون نسبه ومولده ومنشأه من بين أظهرهم سليمًا عن جميع الآفات بريئا عن جميع المطاعن والعيوب؛ لأن المرء إذا كان مولده ومنشؤه من غير أظهرهم في قبيلة أو في مكان لا يعرف له النسب، ربما يتمكن فيه الطعن والعيب، ويقع التناكر في نسبه؛ لجهلهم بنسبه ومولده ومنشئه على السلامة والصحة والبراءة من العيوب، فبعث رسوله محمدًا - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لئلا يتمكن فيه ما ذكرنا من المطاعن، ولا يعرف شيء من العيوب والآفات التي ذكرنا فيه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {مِنْ أَنْفُسِكُمْ}،أي: من العرب أميًّا كما هم، لا يكتب ولا يقرأ ولا يخطه بيمينه على ما وصفه في كتابه: {النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ. . .} الآية،

وقال: {وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}، وذلك أن العرب تتمنى أن يبعث رسول منهم بقوله: {لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ}، ذكر مجيء الرسول من أنفسهم؛ ليكون أبعد من المطاعن التي طعنوا فيه والآفات التي ذكروا فيه، وأبرأه من العيوب التي رموه بها من نحو السحر والكهانة والجنون والافتراء على اللّه، وليكون أقرب إلى المعرفة بأنه رسول؛

 لأن ما يأتي به من الآيات والحجج يعرفون أنها سماوية؛ لما عرفوا أنه لم يتعلم السحر ولا أخذوا عليه بكذب قط ولا جن قط بما كان منشؤه فيما بين أظهرهم.

وقوله: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ}. قيل: شديد عليه ما أعنتكم، أي: ما ضيق عليكم وضركم. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: العنت: الضيق.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: العنت: الإثم، أي: شديد عليه ما أثمتم. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: هو إلى الإثم أقرب. وهو يحتمل كل إثم: الكفر وغيره.

{حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: حريص على من لم يسلم أن يسلم، وحريص عليكم بالهدى والرشد. {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}: رحمة الدِّين والإسلام، لا رحمة الطبع.

قال الشيخ أبو منصور - رحمه اللّه - في قوله: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}: سماه بفعله العمل الحسن وبرأفته ورحمته بذلك، أي: استحق ذلك الاسم بفعله، وإنما سماه بذلك؛ لأن عمله كان للّه لم يكن عمل لنفسه شيئًا، وكذلك ماله وأكسابه؛ فلذلك لم يكن ماله ميراثًا بين ورثته. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللّه لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩) أي: أعرضوا عن إجابتك ودعائك إياهم إلى الإيمان والتوحيد.

{فَقُلْ حَسْبِيَ اللّه}. أي: يكفيني اللّه لا إله إلا هو. ويحتمل قوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا}: عنك، وردوا إجابتك والطاعة لك والانقياد وهمُّوا أن يكيدوك ويمكروا بك، {فَقُلْ حَسْبِيَ اللّه لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ}، أي: على ما وعدني من النصر والظفر {تَوَكَّلْتُ}، أي: اتكلت على وعده ووكلت أمري إليه. ويحتمل قوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا}: عن نصرك ومعونتك على الأعداء، {فَقُلْ حَسْبِيَ اللّه} في النصر والمعونة على الأعداء يكفيني عليهم. هذا في الموضع أقرب؛ لأنه ذكر على أثر ذكر المنافقين، ويحتمل ما ذكرنا من الإعراض عن التوحيد والإجابة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}. قيل: هو رب الملك العظيم، أي: كل ملك عند ملكه صغير ليس بملك. فإن كان العرش هو السرير على ما قاله بعض أهل التأويل - واللّه أعلم - فهو السرير الذي يكرم به الأخيار من الخلائق والأبرار منهم، وقد ذكرناه فيما تقدم، واللّه أعلم، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم.

* * *

﴿ ٠