٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَذَانٌ مِنَ اللّه وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللّه بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّه وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٣) قَالَ الْقُتَبِيُّ: {وَأَذَانٌ مِنَ اللّه وَرَسُولِهِ}، أي: إعلام، ومنه أذان الصلاة، وهو الإعلام؛ يقال: آذنتهم إيذانًا. وكذلك قال أَبُو عَوْسَجَةَ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَنَّ اللّه بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} يكون في قوله: {أَنَّ اللّه بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} دلالة ما قال أهل التأويل من النقض؛ لأن قوله: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللّه وَرَسُولِهِ} يكون فيه انقضاء العهد وإتمامه إلى المدة التي ذكر، ويكون ما روي في الخبر وذكر في القصة أن نبي اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما نزل {بَرَاءَةٌ} بعث أبا بكر على حج الناس، يقيم للمؤمنين حجهم، وبعث معه بـ {بَرَاءَةٌ} السورة، ثم أتبعه علي بن أبي طالب، فأدركه فأخذها منه، ورجع أبو بكر إلى النبي، فقال للنبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: بأبي أنت وأمي، نزل فِيَّ شيء؟ قال: " لا، ولكن لا يبلغ غيري أو رجل مني، أما ترضى يا أبا بكر أنت صاحبي في الغار، وأنت أخي في الإسلام، وأنت ترد على الحوض يوم القيامة؟! " قال: بلى يا رسول اللّه. فمضى أبو بكر على الناس، ومضى علي بن أبي طالب بالبراءة، فقام على بالموسم، فقرأ على الناس: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللّه وَرَسُولِهِ}: من العهد، غير أربعة أشهر؛ فإنهم يسيحون فيها. ثم قوله: {يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ}. قال عامة أهل التأويل: هو يوم النحر؛ لأن فيه ذكر طواف البيت وحج البيت. قَالَ بَعْضُهُمْ: هو يوم عرفة؛ لأنه هو الذي يوقف فيه بعرفة، وبه يتم الحج على ما روي في الخبر: " الحج عرفة، ومن أدرك عرفة بليل وصلى معنا بجمع، فقد تم حجه وقضى تفثه، بإدراكه يتم الحج، وبفوته يفوت ". وعن الحسن أنه سئل فقيل له: ما الحج الأكبر؟ فقال: سنة حج المسلمون والمشركون جميعًا، اجتمعوا بمكة، وفي ذلك اليوم كان لليهود عيد، وللنصارى عيد، لم يكن قبله ولا بعده، فسماه اللّه الحج الأكبر. قال أبو بكر الأصم: لا يحتمل أن يسمي اللّه عيد النصارى واليهود يوم الحج الأكبر، وهو يوم نزول السخط عليهم واللعنة، ولكن جائز أن يسمى بذلك؛ لاجتماع الخلائق فيه من كل نوع؛ على ما سمي يوم الحشر يومًا عظيما؛ كقوله: (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ). وقوله: {فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}. أي: إن تبتم عما كنتم عليه فهو خير لكم؛ لأنهم يأمنون من الرعب الذي كان في قلوبهم ويكون ذلك الخوف والرعب في قلوب المشركين؛ على ما روي في الخبر أنه قال: " نصرت بالرعب مسيرة شهر ". وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ}: عما ذكرنا، {فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّه} أي: غير فائتين من نقمة اللّه وعذابه. ويحتمل قوله: [{إِنْ تُبْتُمْ}] عن نقض العهد فهو خير لكم في الدنيا، والأول: فإن تبتم وأسلمتم فهو خير لكم في الدنيا والآخرة. وروي في بعض الأخبار عن علي - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه سئل: بأي شيء بعثت؟ قال: بأربع: لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ومن كان بينه وبين النبي - عليه السلام - عهد فعهده أربعة أشهر، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الحرم مشرك بعد هذا. وفي بعض الأخبار: ولا يحج المشرك بعد عامه هذا، وكذلك قال في الآية الأخرى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}، ففيه دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد؛ لأنه قال في ملأ من الناس بالموسم: لا يحج مشرك بعد هذا، مع كثرة أُولَئِكَ وقوتهم، وقلة المؤمنين وضعفهم، ثم لم يتجاسر بعد ذلك النداء أحد أن يدخل مكة للحج وغيره، دل أن ذلك كله كان باللّه - تعالى - لا بهم. ثم من الناس من استدل بالخبر الذي روي أنه بعث أبا بكر الصديق على الحج وبعث معه ببراءة، ثم أتبعه عليًّا، فأدركه فأخذها منه، ورجع أبو بكر إلى النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال: هل نزل في شيء؟ قال: " لا، ولكن لا يبلغ عني غيري أو رجل مني " - على أن عليًّا هو المستحق للخلافة، وهو الأحق بها دون أبي بكر؛ حيث قال: " لا يبلغ عني غيري أو رجل مني ". لكن يحتمل أنه وَلَّى ذلك عليًّا؛ لما كان من عادة العرب أنهم إذا عاهدوا عهدًا أنه لا ينقض ذلك عليهم إلا من هو من قومهم، فولى ذلك عليًّا؛ لئلا يكون لهم الاحتجاج عليه فيقولون: لم ينقض علينا العهد. أو أن يقال: ولى عليًّا أمر الحرب، وهو كان أبصر وأقوى بأمر الحرب من أبي بكر، وولى أبا بكر إقامة الحج والمناسك، فكان أبو بكر هو المولى أمر العبادات، وعلي أمر الحروب، والحاجة إلى الخلافة لإقامة العبادات. أو أن يقال: إن أبا بكر كان أمير الموسم، وعليَّا كان مناديه، فالأمير في شاهدنا أجل قدرًا وأعظم منزلة من المنادي، وأمر عليًّا ذلك؛ لما أن ذلك كان أقبل وأسمع من غيره من الأمير نفسه، واللّه أعلم. |
﴿ ٣ ﴾