سُورَةُ يُونُسَ عليه السلام

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١

قوله تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ}: قد ذكرنا الوجه في الحروف المقطعات في صدر الكتاب.

وقوله: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ}:

قَالَ بَعْضُهُمْ: الحكيم هو اللّه، كأنه قال: ذلك الكتاب آيات اللّه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحكيم هو صفة القرآن.

والكتاب يحتمل وجهين:

يحتمل أنه سماه حكيمًا فعيلا بمعنى أنه محكم، وجائز تسمية المفعول باسم الفعيل؛ نحو: قتيل بمعنى مقتول، وجريح بمعنى مجروح ونحو ذلك، فيه الحلال والحرام، والأمر والنهي، أو محكم متقن مبرأ من الباطل والكذب والاختلاف، وهو ما وصفه تعالى: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ. . .} الآية.

والثاني: حكيمًا لما أن من تأمل فيه ونظر وفهم ما أودع فيه وأدرج، صار حكيمًا وهو ما وصفه وسماه مجيدًا، أي: من تأمله ونظر فيه صار مجيدًا شريفًا.

والحكيم هو المصيب في الحقيقة إن كان صفة القرآن أو صفة اللّه، فإن كان صفة للّه، فهو حكيم واضع كل شيء موضعه، رإن كان صفة للقرآن فهو كذلك أيضًا واضع كل شيء موضعه.

وقوله: {آيَاتُ}: يحتمل آيات الكتاب المعروف، ويحتمل الحجج والبراهين، أي: حجج الكتاب وبراهينه أو أعلامه، وقد تقدم ذكر الآيات في غير موضع، واللّه أعلم.

٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (٢) يحتمل وجهين:

يحتمل أي قد عجبوا أن أوحينا إلى رجل منهم.

ويحتمل: أيعجبون أن أوحينا إلى رجل منهم على الاستئناف، كانوا يعجبون من ثلاث: من إنزال القرآن على رجل منهم يعجز الخلائق عن إتيان مثله، ويعجبون من الوحي إلى رجل منهم وإرساله رسولا من بين الكل أو من البشر؛ كقوله: {أَبَعَثَ اللّه بَشَرًا رَسُولًا}؛ وكقوله: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا. . .}، وكانوا يعجبون من البعث؛ كقولهم: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا. . .} الآية.

ثم يحتمل قوله: {إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ} أي: من البشر، أي: لا تعجبوا أن أوحينا إلى رجل من البشر؛ فإن الإيحاء إلى من هو من البشر أبلغ في الحجاج وأقطع للعذر، وأقرب إلى الرأفة والرحمة؛ لأن البشر يعرفون خروج ما هو خارج عن طوق البشر ووسعهم، ولا يعرفون ذلك من غير جوهرهم وغير جنسهم، ويألف كل جنس بجنسه وكل جوهر بجوهره، ولا يألف غير جوهره ولا غير جنسه، فإذا كان ما وصفنا كان بعث الرسول من جنس المبعوث إليهم وجوهرهم أبلغ في الحجاج وأقطع للعذر، وأقرب إلى الرأفة والرحمة.

ويحتمل قوله: {أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ} أي: من الأميين، أي: لا يعجبون أن أوحينا إلى رجل منهم، أي: أمي فإن ذلك أبلغ في التعريف والحجاج؛ لأنه بعث أميًّا لم يعرفوه بدراسة الكتب المتقدمة أو تلاوة شيء منها، ولا عرفوه اختلف إلى أحد منهم في تعليم كتبهم، ولا عرف أنه كتب شيئًا ولا خط خطًّا قط، ثم أخبر عما في كتبهم على موافقة ما فيها، وكانت كتبهم بغير لسانه؛ دل أنه إنما عرف ذلك باللّه تعالى؛ فذلك أبلغ في إثبات الرسالة والحجاج، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ {أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ}:

قَالَ بَعْضُهُمْ: الإنذار يكون في كل مكروه مرهوب، والبشارة في كل محبوب مرغوب.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} يعني: الكفار بالنار.

{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} ثم اختلفوا في قوله: {قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ}:

قَالَ بَعْضُهُمْ: إن لهم الجنة عند ربهم.

وقيل: إن لهم الأعمال الصالحة يقدمون عليها.

وقيل: قدم صدق: مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يشفع لهم عند ربهم.

وقيل: إن لهم الجنة عند ربهم.

وقيل: إن لهم ثواب أعمالهم الصالحة التي قدموها بين أيديهم {قَدَمَ صِدْقٍ}، أي، سلف خير أو سلف وعْد وعِد لهم بذلك وكأن أصله من القدم.

قال أَبُو عَوْسَجَةَ: يقال في الكلام: لفلان عندي قدم صدق ويد صدق، أي: نعمة قد أسلفها إليَّ.

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: قدم صدق: يعني عملا صالحًا قدموه.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: سبق لهم السعادة في الذكر الأول.

من قال: قدم صدق هو الشفاعة، فالقدم كناية عن الشفاعة والصدق، أي واقعة.

ومن قال: وعدوا ثواب أعمالهم أي تقدم لهم وعد حق وصدق.

ويحتمل {قَدَمَ صِدْقٍ} أي: ثبتت قدمهم لا تزل، على ما وصف من ثبوت قدم المؤمنين والقرار فيه، وتزل قدم الكافرين؛ كقوله: {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ}: ومن قرأ {لَسِحْرٌ} عنى هذا القرآن.

ومن قرأ {لَسَاحِرٌ} بالألف عنى به النبي.

ثم السحر هو الذي يتراءى في الظاهر أنه حق وهو في الحقيقة باطل لا شيء، ثم هو يأخذ الأبصار ويأخذ العقول.

فأما الذي يأخذ الأبصار فهو ما يتراءى الشيء على غير ما هو في الحقيقة، والذي

 يأخذ العقول هو أن يذهب بعقله فيصير مجنونا.

وقال فرعون لموسى: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا} أي: مجنونًا، لكن هَؤُلَاءِ لم يريدوا بقولهم: {لَسَاحِرٌ مُبِينٌ}: السحر الذي يأخذ العقول، ولكن أرادوا السحر الذي يأخذ الأبصار؛ يقولون: إنه وإن كان أخذ الأبصار في الظاهر فهو لا شيء في الحقيقة، ولكن في قولهم: {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} دليل أنهم عجزوا عن رده، وعرفوا أنه حق، ولكن هم أرادوا التمويه على الناس؛ كقول فرعون لسحرته حين آمنوا برب موسى: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} أراد أن يموه على الناس؛ واللّه أعلم.

٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّه الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} إن القوم كانوا يعبدون الأصنام والأوثان، ويتخذون الأحبار والرهبان أربابا من دون اللّه؛ يقول: إن ربكم اللّه الذي يستحق العبادة والألوهية هو الذي خلقكم وخلق السماوات والأرض لا الذي تعبدونه.

 

وقوله: {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى}: قد تقدم ذكره في صدر الكتاب.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ}: وهو -أيضًا- على الأول: إن الذي يستحق صرف العبادة إليه وتوجيه الشكر إليه هو الذي يدبر الأمر في مصالح الخلق في جر المنافع إليهم ودفع المضار عنهم، لا الذين لا يملكون المنافع إلى أنفسهم أو دفع المضار عنهم، فضلا عن أن يملكوا أجرها إلى من يعبدهم أو دفع المضار عنهم.

وقال بعض أهل التأويل: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} أي يقضيه، والتدبير والقضاء واحد.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {يُدَبِّرُ}: يقدر، وهو ما ذكرنا التدبير والتقدير سواء.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ}: الشفيع هو ذو المنزلة والقدر عند الذي يشفع إليه، لا أحد في الشاهد يشفع لآخر إلى آخر إلا بعد أن يكون الشفيع عند الذي يشفع إليه ذا منزلة وقدر، فإذا كان كذلك فمع ذلك أيضًا يشفع إلا من بعد ما أذن له بالشفاعة لمن جاء بالتوحيد.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذَلِكُمُ اللّه رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} يقول: ذلكم الذي يستحق العبادة هو ربكم، الذي خلقكم وخلق السماوات والأرض ودبر أموركم، فاعبدوه ولا تعبدوا الذي لا يملك شيئًا من ذلك.

{أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}: أنه هو المستحق للعبادة، وهو المستوجب للشكر، لا الذين تعبدون أنتم. أو أن يقول: أفلا تذكرون أن الذي خلقكم وخلق السماوات والأرض هو ربكم، وهو مدبر أمور الخلائق في مصالحهم ما يرجع إلى مصالحهم في دنياهم ودينهم، لا الذي يعبدون من دون اللّه، واللّه أعلم.

٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللّه حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (٤) إليه مرجع الخلائق كلهم في جميع

الأوقات، لكنه خص ذلك اليوم بالمرجع إليه لما أن الخلائق كلهم يعلمون يومئذ أنهم راجعون إليه؛ وكذلك قوله: {وَبَرَزُوا للّه جَمِيعًا}، هم بارزون له في الدنيا والآخرة، لكنهم يومئذ يعرفون ويقرون بالبروز له.

وكذلك: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للّه}، الملك للّه في الدنيا والآخرة وفي الأوقات جميعا، لكنه خص ذلك اليوم لما لا يازع في الملك في ذلك اليوم، ويقرون بالملك له في ذلك اليوم، وفي الدنيا من قد نازع في ملكه.

هذا - واللّه أعلم - وجه التخصيص لذلك اليوم بالملك، وإن كان الملك في الدارين جميعًا فعلى ذلك المرجع، أو سمى البعث رجوعا إليه؛ لما المقصود من إنشائه البعث، فسماه بذلك لما ذكرنا؛ لأنه لو لم يكن المقصود من إنشائه إياهم سوى الإنشاء والإفناء، كان خلقه اياهم عبثًا وباطلا؛ كقوله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَعْدَ اللّه حَقًّا}.

يحتمل {وَعْدَ اللّه حَقًّا}: البعث الذي ذكر أنه يبدأ الخلق ثم يعيده. ويحتمل {وَعْدَ اللّه حَقًّا} من الثواب والعقاب في الآخرة؛ الثواب للمحسن منهم والعقاب للمسيء.

وقوله: {إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} أي: عرفتم أنه هو الذي يراكم والخلق جميعًا، فكذلك هو يعيدكم بعد إفنائكم؛ إذ بدء الشيء على غير مثال أشد عندكم من إعادته على مثال؛ كقوله: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْ} أي: إعادة الشيء أهون عندكم من بدئه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ}.

قيل: بالعدل، لكن ما يجزيهم، إنما يجزيهم إفضالًا وإحسانا لا استيجابًا واستحقاقًا.

ثم يحتمل قوله: {بِالْقِسْطِ} وجوهًا:

أحدها: أنه يجزي المحسنين جزاء الإحسان، والمسيء جزاء الإساءة، ويفصل بين العدو والولي في الآخرة في الجزاء، ويجعل للولي علامة وأثرًا يعرف بهما من العدو؛ إذ لم يفصل في الدنيا بين الأولياء والأعداء في الرزق وما يساق إليهم من النعيم،

ولا يجعل علامة يعرف بها الولي من العدو وجعل في الآخرة ذلك حتى يعرف هذا من هذا، فهذا العدل الذي ذكرنا يشبه أن يكون هو ذلك.

ويحتمل {بِالْقِسْطِ} الوزن، أي: يجزيهم بالوزن على تعديل النوع بالنوع لا على القدر، أي: يجزي بالحسنة قدرا لا يزيد على ذلك، ولكن يجزي للخير خيرًا وللحسنة حسنة وللسيئة سيئة.

ويحتمل قوله: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ}، بالعدل، أي: يجزي الذين عملوا بالعدل لم يجوروا فيه ولا جاوزوا الحد الذي حد لهم، ولكن عملوا بالعدل فيه، ويشبه أن يكون على تقديم العدل ليجزي الذين آمنوا بالعدل، أي: لا يعذبهم في النار إذا آمنوا، ثم الذين عملوا الصالحات يوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله، واللّه أعلم بالصواب ذلك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ} أي: يجزيهم في الآخرة بما أقسطوا في الدنيا وعدلوا، فيكون القسط على هذا التأويل نعتًا لهم.

وإن كان ما ذكر من القسط راجعًا إلى اللّه ووصفًا له فهو يخرج على وجوه:

أحدها: يجزي فريقًا من المؤمنين بالعدل، يجزي لإحسانهم جزاء الإحسان، ولإساءتهم جزاء الإساءة؛ فيكون جزاء بالعدل، ويجزي فريقًا آخر منهم بالفضل والإحسان: يجزي بحسناتهم جزاء الحسنة، ويكفر عن سيئاتهم؛ وهو كقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} الآية،

وقوله: {إِنَّ اللّه لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ. . .} الآية.

والثاني: يجزيهم بالفضل؛ إذ العدل هو وضع الشيء موضعه، أي: يضع الفضل في أهله لا يضعه في غير أهله، ووضع الفضل في أهل الإيمان عدل، إذ هم أهل له - واللّه أعلم - وهو كقوله: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ}.

والثالث: العدل الذي هو مقابل الإحسان وهو الفضل لا العدل الذي هو ضد الجور؛ كقوله: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} الآية، لا يحتمل أن يقول: لن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء في العدل الذي هو ضد الجور؛ لأن في مثل هذا يستطيعون أن يعدلوا بينهم؛ فعلى ذلك قوله: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} بالعدل الذي هو مقابل الإحسان وهو الفضل؛ إذ للفضل درجات، وأصله

 أن جزاء الآخرة كله إفضال وإحسان وإنعام لا استحقاق واستيجاب.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ}.

قيل: الحميم: هو الشراب الذي انتهى حره غايته.

٥

وقوله - عزَّ وجلَّ -: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّه ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) ذكر في الشمس الضياء وفي القمر النور فهو - واللّه أعلم - لأن الليل مظلم يظهر نور القمر فيه ويغلب على ظلمة الليل ويقهرها، وأما النهار فهو مبصر على ما ذكر - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} جعل فيه النور، فلو جعل الشمس في النور خاصة، لكان لا يظهر نور الشمس ولا غلب نورها على نور النهار، ويغلبه ويقهره ليظهر المنافع التي جعل فيها ولو كان نورًا مثله لم يظهر نور هذا من هذا ولم يوصل إلى المنافع التي جعلت فيها للخلق، وهو ما ذكر أنه مد الظل، وأخبر أنه لو شاء لجعله ساكنًا ولو كان ساكنًا ممتدًّا على ما جعل بقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ}، لكان لا يعرف الظل، ثم أخبر أنه جعل الشمس دليلا عليه ليعرف بها الظل، فتنسخ الشمس ذلك الظل الممدود شيئًا بعد شيء، فصارت الشمس بها يعرف الظل وبها يظهر فضل ذلك الضياء الذي في الشمس كان به يعرف نورها من نور النهار وبه يوصل إلى منافع الشمس، ولو كان نورًا لكان لا يعرف ولا يظهر؛ إذ لا يغلب أحدهما صاحبه - واللّه أعلم - ولا يعرف آية الشمس من آية النهار، ثم جعل آية الشمس غالبة على جميع الآيات حتى لا تبصر النجوم بالنهار أصلا والقمر وإن كان نوره يرى بجلاء، فإن نور الشمس قد يغلبه ويقهره حتى لا يظهر أبدًا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ}.

يشبه أن يكون التقدير الذي ذكر لهما جميعًا ويعرف الحساب وعدد السنين لهما جميعًا، وكذلك ذكر في حرف حفصة: (وقدرهما منازل)، وجائز أن يكون جعل الشمس بالذي يعرف بها أوقات الصلوات والأزمنة من الشتاء والصيف لا يعرف ذلك بالقمر، وجعل في القمر معرفة الشهور والسنين، وفي الشمس معرفة أوقات الصلوات

 والأزمنة، لا يعرف بها الشهور والسنون إلا بعد جهد؛ وبالقمر لا تعرف أوقات الصلوات والأزمنة، جعل اللّه تعالى في الشمس منفعتين: منفعة التقلب ومعرفة الأزمنة، ومعرفة نضج الأشياء وينعها، وفي القمر منفعتين أيضًا:

 أحدهما: معرفة حساب الأيام والشهور والسنين، ومعرفة نضج الإنزال والأشياء.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} ليس أن يعرف هذا بهما ولا يعرف غيره، بل يعرف ما ذكر وأشياء كثيرة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مَا خَلَقَ اللّه ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ}.

قال أبو بكر الأصم والكيساني: {مَا خَلَقَ اللّه ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ}، أي: ما خلق اللّه ذلك إلا وقد جعل فيه دلالة معرفته. وقال قائلون: {مَا خَلَقَ اللّه ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ}، أي: ما خلق اللّه ذلك إلا وقد جعل فيه دلالة معرفة الشهادة له على الخلق، وهي شهادة الوحدانية والألوهية.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: ما خلق اللّه ذلك إلا بالأمر الكائن لا محالة وهو البعث.

ويحتمل قوله: {مَا خَلَقَ اللّه ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ} أي: بالحكمة، لم يخلق ذلك عبثًا باطلا؛ وهو كقوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا}، ولكن بحكمة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}.

قيل: نبين أو نصرفها لقوم ينتفعون بعلمهم، إنما ذكر الآيات فيما ذكر لقوم يعقلون ولقوم يتفكرون ولقوم يفقهون الآيات التي ينتفعون بها ويعقلون الشيء، إنما يكون للشيء الذي ينتفع به لا للذي لا ينتفع به.

٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللّه فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦)

إن في اختلاف الليل والنهار آية البعث ودلالة تدبير صانعهما، أما دلالة البعث فهي أن كل واحد منهما إذا جاء ذهب الآخر وفني حتى لا يبقى له الأثر، ثم يتجددان ويحدثان على ذلك أمرهما، ويتلف كل واحد منهما صاحبه حتى لا يبقى له الأثر، فمن قدر على ما ذكرنا قدر على بعثهم وإنشائهم بعد الموت بعدما صاروا ترابًا، وأما دلالة التدبير فهو جريانهما وسيرهما على سنن واحد وتقدير واحد من غير تغيير يقع فيهما أو تفاوت أو

 نقصان يقع فيهما أو زيادة وإن كان أحدهما يدخل في الآخر، دل على ما ذكرنا أنهما يجريان ويختلفان على شيء واحد وجريان واحد؛ أن فيهما تدبيرًا غير ذاتي وعلمًا أزليا وأنه واحد؛ إذ لو كان التدبير فيهما لعدد لكانا مختلفين ولا يجريان على قدر واحد من غير تفاوت فيهما أو نقصان أو زيادة، دل أنه واحد، وباللّه التوفيق.

وفي ذلك دلالة وحدانية منشئهما وخالقهما؛ لأنه أنشأهما وبينهما من البعد ما بينهما من البعد، وجعل منافع أحدهما متصلة بمنافع الآخر على بعد ما بينهما، دل أن منشئهما واحد؛ إذ لو كان فعل عدد منع كل منهم فعله عن الوصول بالآخر على ما هو فعل ملوك الأرض.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ}. مخالفة اللّه ويتقون جميع الشرور والمساوي.

٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا}.

قال قائلون: {لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} من الرجاء، أي: لا يرجون ما وعد للخلق من الثواب، ولا يرغبون فيما يرجى ويطمع من الرغائب.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} أي: لا يخافون لقاءنا، فما من خوف إلا وفيه رجاء، وما من رجاء إلا وفيه خوف؛ لأن الخوف الذي لا رجاء فيه هو يأس، والرجاء الذي لا خوف فيه أمنٌ، لكن الغالب في الحسنات والخيرات الرجاء وفيه خوف، والغالب في السيئات والشرور الخوف وفيه أدنى الرجاء، وهو ما ذكرنا في الشكر والصبر أنهما واحد؛ لأن الصبر هو كف النفس عن الشهوات واللذات، والشكر هو استعمالها في الخيرات، فإذا كفها عن الشهوات استعملها في الخيرات؛ لذلك قلنا: إنهما في الحقيقة واحد؛ ولأن الشكر هو القبول وكذلك الصبر أيضا، غير أن الشكر في قبول النعم والصبر في قبول البلايا والمصائب - واللّه أعلم - يصير كأنه قال: إن الذين لا يؤمنون بالآخرة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا}.

 أي: اختاروا المقام فيما عملوا لها كأنهم يقيمون فيها أبدا.

٧

(وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (٧)

٨

أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٨) من ردهم الآيات وكفرهم بها.

وقوله: {وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا} يحتمل وجهين:

 أحدهما: سروا بها وآثروا ثواب محاسن الدنيا على ثواب الآخرة. والثاني: رضاهم بالدنيا والطمأنينة فيها منعهم عن التفكير والنظر في أمر الآخرة.

٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ}.

يحتمل وجوهًا: يحتمل: يهديهم ربهم بإيمانهم في الدنيا طريق الجنة في الآخرة، وهو يعني ما ذكر في القصة أن المؤمن إذا أخرج من القبر يصور له عمله في صورة حسنة.

والثاني: يهديهم ربهم بإيمانهم، أي: يهديهم ربهم بإيمانهم، فيصيرون مهتدين بهدايته إياهم ويشبه يهديهم ربهم بإيمانهم أي يدعوهم إلى الخيرات في الدنيا بإيمانهم، واللّه أعلم.

فهذا على المعتزلة؛ لأنهم يمتنعون عن تسمية صاحب الكبيرة مؤمنًا ومعه إيمان، فيلزمهم أن يمتنعوا عما وعد له وإن كان معه إيمان، فإذا ذكر له الوعد مع هذا ألزمهم أن يسموه مؤمنًا لما معه من الإيمان.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}. يقول أهل التأويل: من تحت أهل الجنة، وقد ذكرنا هذا.

١٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللّهمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للّه رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٠) قال قائلون: قوله: {دَعْوَاهُمْ} دعوى الإيمان؛ أي: يدعون في الآخرة من الإيمان والتوحيد للّه والتنزيه له كما ادعوا في الدنيا وحدانية اللّه ونزهوه.

وقوله: {سُبْحَانَكَ اللّهمَّ}.

هو حرف تنزيه وتبرئة الرب عن الأشباه وجميع الآفات التي وصفته المشبهة الملحدة بها، فهذا يدل أن ما خرج مخرج الدعوى فإنه لا يختلف باختلاف الدور.

وقال عامة أهل التأويل: هو من الدعاء لا من الدعوى، يقولون: إنهم إذا اشتهوا طعامًا أو شرابًا وتمنوا شيئًا فيدعونه بقوله: {سُبْحَانَكَ اللّهمَّ} وفيؤتون ما تمنوا واشتهوا؛ لما ذكر أنه لا تنقطع اللذات في الجنة، ولو كان ما يقولون لكان فيه انقطاع اللذات والشهوات، إلا أن يقال: إنهم يلهمون شهوات وأماني فيشتهون، وقال اللّه - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ}، (وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١)، ولا نعلم ما أراد به.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {سُبْحَانَكَ اللّهمَّ} ويخرج على وجوه:

أحدها: يخبر أنه ليس على أهل الجنة من العبادات شيء سوى التوحيد وهو كلمة التوحيد.

والثاني: يقولون ذلك لعظيم ما رأوا من النعيم وعجيب ما عاينوا.

والثالث: شكرًا لما أعطاهم من ألوان النعيم والأطعمة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ}.

قال أهل التأويل: إن الملائكة يأتون بما اشتهوا ويسلمون عليهم ويردون السلام على الملائكة؛ فذلك قوله: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ}، فإذا طعموا وفرغوا قالوا عند ذلك: {الْحَمْدُ للّه رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وهو قول ابن عَبَّاسٍ وغيره من أهل التأويل، ويشبه أن يكون قوله: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} والسلام الذي لا عيب فيه ولا مطعن، أي كلام بعضهم لبعض منزه منقى من جميع العيوب والمطاعن؛ كقوله: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا} الآية،

وقوله: {إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا}، ونحوه.

وقوله: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للّه رَبِّ الْعَالَمِينَ}.

قال أهل التأويل: يقولون على أثر فراغهم من الطعام والشراب ذلك.

وقال الحسنِ: إن اللّه رضي عن عباده بالشكر لما أنعم عليهم في الدنيا والآخرة بـ {الْحَمْدُ للّه رَبِّ الْعَالَمِينَ}، ويشبه أن يكون قوله: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ} أي دعواهم فِي الآخرة: {الْحَمْدُ للّه رَبِّ الْعَالَمِينَ}، كما كان دعواهم في الدنيا {الْحَمْدُ للّه رَبِّ الْعَالَمِينَ}.

١١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّه لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ}.

كأن الآية على الإخبار كأنه قال: ولو يعجل اللّه للناس الشر إذا استعجلوه كما يعجل لهم الخير إذا استعجلوه - لقضي إليهم أجلهم، لأنه ليس يذكر في ظاهر الآية استعجالهم الشر إنما يذكر تعجيله، ولكن فيه ما ذكر من الإضمار إضمار الاستعجال، ومنه ما ذكر في غير آية من القرآن استعجالهم العذاب؛ كقوله: {أَتَى أَمْرُ اللّه} الآية.

وقولهم: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً} الآية، ونحو ذلك، كانوا يستعجلون العذاب استعجال تضرع، فيقول: لو عجل لهم العذاب إذا استعجلوه كما يعجل لهم الخير إذا استعجلوه - لقضي أجلهم، يقول: لهلكوا أو فنوا، هذا التأويل في أهل الكفر خاصة عند استعجالهم العذاب استعجال تضرع وسؤال، ويشبه أن يكون هذا في جملة الخلق على غير تصريح سؤال، ولكن عند ارتكابهم الشر بقوله: لو يعجل اللّه للناس الشر باكتسابهم الشر وبارتكابهم إياه وقت اكتسابهم، كما يعجل لهم الخير، وقت اكتسابهم الخير - لقضي إليهم أجلهم، أي: لو عجل لهم جزاء شرهم وقت اكتسابهم الشر، كما يعجل لهم جزاء خيرهم، لكان ما ذكر ما يستوجبون بارتكابهم الشر وقت فعلهم إياه لقضي إليهم أجلهم، لكنه لم يعجل لهم ذلك وأخره إلى المدة التي جعل لآجالهم.

ويمكن وجه آخر: وهو ما يدعو بعضهم على بعض باللعن والخزي، يقول الرجل عند شدة الغضب: اللّهم العن فلانا، اللّهم أخزه، ونحو ذلك من الدعوات، يقول: لو عجل لهم هذا كما يعجل لهم عند دعاء بعضهم لبعض بالرحمة والسعة - لقضي إليهم أجلهم؛ لهلكوا وفنوا، ويكون ذلك انقضاء أجلهم، ويكون ذلك على وجوه ثلاثة.

أحدها: استعجال سؤال وتضرع، الذي ذكرنا.

والثاني: بأفعالهم وارتكابهم الشر وقت ارتكابهم.

والثالث: الأسباب التي بها يرتكبون ويفعلون.

وقوله: {لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} يحتمل: لقضي أجلهم قبل المدة التي جعل لهم.

 والثاني: لقضي أجلهم؛ أي: يجعل أجلهم ذلك، ففيه دلالة ألا يهلك أحد قبل أجله ولا يقدم ولا يؤخر، فهو ما ذكر: {لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}.

هو ما ذكرنا أن من حكمه ألا يعاقب. أحدًا من الكفرة في الدنيا بصنيعه الذي صنع، وقد يعجل لهم جزاء خيراتهم في الدنيا؛ كما ساق إليهم من أنواع النعم، ولكن من حكمه أن يؤخر عقوبتهم إلى يوم القيامة؛ فذلك تأويله، واللّه أعلم.

{فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} أي: نتركهم يترددون في أعمالهم، وجرمهم إلى الوقت الذي وعد لهم العذاب، واللّه أعلم.

١٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٢)

قال بعض أهل التأويل: إن جميع ما ذُكر في القرآن الإنسان فالمراد منه الكافر؛ من ذلك قوله: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ}،

وقوله: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}

وقوله: (وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ)، ونحوه، لكن هذا لا نعلم أنه أراد به الكافر، فلئن كان ما ذكروا فإن أهل الإيمان يدخلون في هذا الخطاب، إذا كان منهم ما يكون من الكفرة؛ لأن من أهل الإيمان من يقبل على الدعاء والتضرع إلى اللّه عند مس الحاجة والشدة، فإذا انجلى ذلك وانكشف عنه ترك ذلك الدعاء الذي كان دعا، وذلك التضرع الذي كان يتضرع إليه، فدخل في ذلك.

 ثم قوله: {دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا}: ليس على إرادة حقيقة الجنب والقعود والقيام، ولكن على الدعاء في كل حال، أي: يدعونه في كل حال؛ لما عرفوا أن الذين كانوا يعبدون من دون اللّه لا يملكون دفع ما حل بهم من الشدائد والمضار - أقبلوا على اللّه بالتضرع والدعاء إليه في كشف ذلك عنهم.

ثم أخبر عن سفههم وشدة تعنتهم وعودهم إلى الحال التي كانوا من قبل فقال: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ}: يقول - واللّه أعلم -: مر كأن لم يدعنا قد نسينا في الرخاء كأن لم يعرفنا واستمر على ترك الدعاء في الرخاء،

وقوله: {كَذَلِكَ} عرفنا ما كانوا يعملون والإسراف هو العدوان، والتعدي عن الحد الذي جعل له وهو وضع الأموال والأنفس في الموضع الذي لا ينتفعون بها في عبادة الأصنام وغيرها، واللّه أعلم.

١٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا}: فَإِنْ قِيلَ: قد أهلك من قد ظلم ومن لم يظلم، فما يعلم من أهلك من الظلمة أنه إنما أهلكهم لظلمهم، أو أهلك لصلاح من لم يظلم.

قيل: إنه أهلك الظلمة إهلاك استئصال وعقوبة، وأهلك من لم يظلم لا إهلاك عقوبة واستئصال، إنما هو إهلاك بآجالهم التي جعل لهم.

ويحتمل قوله: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ}: إنما أهلك أُولَئِكَ بسؤالهم الذي سألوا سؤال تعنت رسلهم الآيات، فإذا جاءوا بتلك الآيات كذبوها، فأهلكوا عند ذلك، فأنتم يا أهل مكة إذا سألتم رسولكم الآية ثم

 كذبتموها، يعذبكم كما عذب أُولَئِكَ؛ إذ من حكمه الإهلاك على أثر السؤال، كأنه ينهى أهل مكة عن سؤال الآيات، فإن على إثره الإهلاك إذا لم يقبلوها.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} يحتمل البينات التي تبين ما يؤتى وما يتقى، وقد ذكرناها في غير موضع.

{وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا}: يخبر رسوله أنهم وإن سألوك الآيات فإذا جئت بها فإنهم لا يؤمنون، يعني: أهل مكة.

{كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ}: كل مجرم.

١٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤)

يحتمل قوله: {خَلَائِفَ} أي: جعل أنفسكم خلف أنفس أُولَئِكَ الذين لم يهلكهم، يخرج هذا مخرج تذكير النعمة والامتنان والرحمة، يذكرهم أنه لو شاء أهلك الكل، فلا يكون هَؤُلَاءِ خلف أُولَئِكَ، ولكن بفضله ورحمته أبقاكم.

ويحتمل قوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ} أُولَئِكَ في المحنة والعبادة أي: جعل عليكم من المحنة والعبادة كما كان على آبائكم من المحنة والعبادة.

ويشبه أن يكون قوله جعلناكم خلائف، الذين لم يظلموا، فكيف لا تتبعونهم؛ لأن الذين ظلموا قد أهلكتهم، فأنتم خلائف أُولَئِكَ الذين لم يظلموا ولم يكذبوا الرسل، فكيف لا تتبعونهم كأنهم ادعوا أن آباءهم كانوا على ما هم عليه، وأنهم على مذاهب آبائهم، يقول: جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم، أي: لست أنا بأول رسول أرسلت إليكم، بل لم يزل اللّه يرسل رسلا في الأمم، فكان فيهم لهم أتباع يتبعون رسلهم إلى ما يدعونهم إليه ويجيبونهم، فاتبعوني أنتم يا أهل مكة فيما دعيتم إليه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}: لم يزل اللّه تعالى عالمًا بما كان ويكون منهم من المعصية والطاعة، ولكن ليعلمهم عصاة ومطيعين؛ لأن المعصية إنما تكون بعد ما يكون النهي والطاعة إنما تكون بالأمر فيبتليكم فيعلمكم عصاة كما علم أنه يكون منكم معصية ويعلمكم مطيعين كما علم أنه يكون منكم الطاعة، وقد ذكرنا أمثال هذا فيما تقدم، واللّه أعلم.

١٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ}: البينات قد ذكرنا في غير موضع، والبينات هي التي تبين أنها آيات نزلت من عند اللّه لم يخترعها أحد من الخلق.

وقد ذكرنا قوله -أيضًا-: {قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ}: يشبه أن يكون قولهم {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} ألا ترى أنه قال: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي}، إنما أجابهم في التبديل؛ دل أن السؤال كان سؤال تبديل، ولكن كانوا يسألون سؤال استهزاء وتكذيب.

ثم اختلف أهل التأويل في التبديل الذي سألوا.

قَالَ بَعْضُهُمْ: سألوا أن يبدل ويجعل مكان آية العذاب آية الرحمة أو يبدل أحكامه.

ويحتمل قوله: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا} أي: بدل أحكامه واترك رسمه.

ويحتمل ما ذكرنا أنهم سألوا أن يتلو مكان آية العذاب آية الرحمة، ومكان ما فيه سبُّ آلهتهم مدحها ونحو ذلك، واللّه أعلم.

 ونحن لا نعلم ما أراد بالتبديل تبديل الأحكام أو تبديل الرسم والنظم، إنما نعلم ذلك بالسماع.

ثم أخبر أنه لا يقول ولا يتبع إلا ما يوحى إليه ويؤمر به بقوله: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} إن تركت تبليغ ما أمرت بالتبليغ إليكم، وهكذا كل من عرف ربه خافه إن عصاه وخالف أمره ونهيه، ومن لم يعرف ربه لم يخفه إن عصاه وخالف.

وقوله: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ}: سؤالهم سؤال تعنت واسحهزاء؛ لأنه لا منفعة لهم لو أتى بغيره وبدله سوى ما في هذا ولو جاز لهم هذا السؤال جاز ذلك في كل ما أتى به واحدًا بعد واحد، فذلك مما لا ينقطع أبدًا ولا غاية ولا نهاية فهو سؤال تعنت واستهزاء.

١٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ لَوْ شَاءَ اللّه مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (١٦) هو صلة ما تقدم من قوله حيث قالوا: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} قد ذكرنا أن هذا يحتمل وجهين:

يحتمل أنهم سألوه أن يبدل أحكامه على ترك رسمه ونظمه.

ويحتمل قوله: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} أي: ارفع رسمه ونظمه وأحكامه، كأنهم ادعوا على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - اختراع هذا القرآن من نفسه واختلاقه من عنده، فقال: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللّه مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ} تأويله - واللّه أعلم -: لو شاء اللّه ألا يظهر دينه فيكم ولا ألزمكم حجته، ولا بعثني إليكم رسولا، {مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ} {وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ} أي: ولا أعلمكم به.

ويحتمل قوله: {وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ}: ولا أعلمكم ما فيه من الأحكام، أو يقول: لو شاء اللّه لم يوح إلي، ولا أمرني بتبليغ ما أوحي إلي إليكم، ولا بالدعاء إلى ما أمرني أن أدعوكم إليه.

وفي قوله: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللّه مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ} دلالة أن اللّه إن شاء شيئًا كان وما لم يشأ لم يكن لأنه أخبر أنه لو شاء ما تلوته عليكم، فلو لم يشأ أن يتلوه ما تلاه؛ دل أن ما شاء اللّه كان وما لم يشأ لم يكن، وذلك يرد على المعتزلة قولهم: شاء اللّه أن يؤمن الخلائق كلهم لكنهم لم يؤمنوا، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} أي: فقد لبثت فيكم عمرا من قبله فلم أدع ما أدعي للحال، ولا تلوت ما أتلو، أفلا تعقلون أني لم أخترع هذا من نفسي، ولكن وحي أوحي إليَّ؟! إذ لو كان اختراعًا مني لكان ذلك مني فيما مضى من الوقت وكنت [لابثًا] فيكم، فإذ لم يكن مني ذلك أفلا تعقلون أني لم أخترع من نفسي؟!.

يحتمل هذا الكلام وجوهًا:

أحدها: أنهم لما ادعوا عليه الاختراع من عنده قال: إني قد لبثت فيكم من قبله، أي: من قبل أن يوحى هذا إليَّ، فلم تروني خططت بيميني، ولا اختلفت إلى أحد في التعلم والدراسة، فكيف أخترع من عندي؛ إذ التأليف لا يلتئم ولا يتم إلا بأسباب تتقدم؟!

والثاني: فقد لبثت عمرا سنين لم تعرفوني ولا رأيتموني كذبت قط، فكيف أفتري على اللّه تعالى وأخترع القرآن من عند نفسي؟! ألا ترى أنه قال على إثر هذه: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّه كَذِبًا} أي: لا أحد أظلم ممن افترى على اللّه كذبًا.

والثالث: يحتمل قوله: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ} فلم أسمع أحدًا ادعى البعث، ولا أقام حجة عليه، وأنا قد ادعيت البعث وأقمت على ذلك حجة، أفلا تعقلون هذا أني لم أخترع من عند نفسي؟!

١٧

وقوله: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّه كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧) يشبه أن هذا صلة قوله: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} أي كيف تطلبون مني إتيان غيره وتبديل أحكامه وقد تعرفون قبح الكذب وفحشه فكيف تسألونني الافتراء على اللّه وتكذيب آياته؟

ويحتمل أن يكون صلة ما ادعوا عليه أنه افتراه من عند نفسه؛ يقول: إنكم لم تأخذوني بكذب قط، وقد لبثت فيكم عمرا فكيف تنسبوني إلى الكذب على اللّه، وقد عرفتم قبح الكذب على اللّه وفحشه؟!

ويحتمل على الابتداء ثم قد ذكرنا أن قوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّه كَذِبًا} استفهام، فجوابه ما قاله أهل التأويل: لا أحد أبين ظلما ولا أفحش ممن افترى على اللّه كذبًا؛ لا أن تفسيره ما قالوه، وقد ذكرنا هذا في غير موضع.

{أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ}: الافتراء على اللّه تكذيب بآياته، وتكذيب آياته افتراء على اللّه.

١٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} يحتمل وجهين:

ما لا يضرهم لو تركوا عبادته ولا ينفعهم إن عبدوه.

والثاني: {مَا لَا يَضُرُّهُمْ} أي: ما لا يملكون الضرر بهم، {وَلَا يَنْفَعُهُمْ} أي: ولا يملكون جر النفع إليهم يسفههم في عبادتهم من لا يملك بهم دفع الضرر، ولا يملك جر النفع، وتركهم عبادة من به يكون جميع منافعهم وعذابهم، ومنه يكون كل خوف وضرّ، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّه}: يحتمل هذا القول منهم تقليدا لآبائهم؛ كقولهم: {وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللّه أَمَرَنَا بِهَا}، ظنوا أن آباءهم لما تركوا وما هم عليه لم يعذبوا - أنهم على الحق، وأن اللّه قد رضي بذلك، أو قالوا ذلك لما لم يروا أنفسهم أهلا لعبادة اللّه والقيام بخدمته، وقد يكون مثل هذا في ملوك الأرض أن كل أحد لا يرى نفسه يصلح لخدمة الملك، فيخدم من دونه المتصلين به رجاء أن يكون من خدمه شفيعا له عند الملك؛ فعلى ذلك هَؤُلَاءِ طمعوا أن عبادتهم هَؤُلَاءِ تقربهم إلى اللّه زلفى، ويكونون لهم شفعاء عند اللّه، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّه بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} يقول: أتنبئون اللّه أي أتخبرون اللّه بما لا يعلم، أي: تعلمون أنه عالم، أي: أتعلمون من تَعْلمون أنه يعلم ما ذكر وأنتم لا تعلمون ذلك، وقد تعلمون أنه لو كان كذلك لكان هو أعلم به منكم.

والثاني: أن تقولوا ما لا يعلم، أي: يعلم أنه ليس كما تقولون كقول الناس: ما شاء اللّه كان وما لم يشأ لا يكون، أي: ما شاء ألا يكون لا يكون.

وقوله: [{سُبْحَانَهُ}]: كلمة جعلت لإجلال اللّه عما يحتمله غيره من الأشكال والأضداد، ومن العيوب والآفات، وهو في هذا الموضع يتوجه إلى وجهين إذ كانوا يعبدون ما ذكر ويقولون: هم شفعاؤنا عند اللّه، فيقول: سبحانه أن يجعل لأمثال أُولَئِكَ

 شفاعة عنده؛ إذ الشفيع يكون من له منزلة وقدر عند من يشفع له، والمنزلة تكون للعبيد بما يتعبدهم، فيقومون بتوفير ما يحتمل وسعهم من العبادة، فأما من لا يحتمل التعبد فهو بعيد عما ذكر يعني سبحانه أن يجعل الشفاعة لمن ذكر دون الأنبياء والرسل، وهم قد أخبروا أنها لا تملك ضرا ولا نفعًا، وفي الشفاعة ذلك.

والثاني: أن يكون عما أشركوا في العبادة، فسبحانه عن أن يكون معه معبود أو يأذن لأحد بعبادة غيره، واللّه أعلم.

١٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩) اختلف فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً} أي: أهل مكة كانوا كلهم أهل شرك عبَّاد الأصنام والأوثان، لم يكن فيهم اليهودية ولا النصرانية ولا شيء من اختلاف المذاهب، فلما بعث مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - اختلفوا: فمنهم من آمن به وصدقه وأخلص دينه للّه، ومنهم من عاند وكابر في تكذيبه بعد أن عرف أنه رسول اللّه ومنهم من شك فيه، ومنهم من لم ينظر في أمره قط ولا تفكر فيه؛ فصاروا أربع فرق.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً}، بالفطرة، أي: كانوا جميعًا على الفطرة، وفي فطرة كل أحد الشهادة على وحدانية اللّه تعالى وألوهيته؛ كقوله: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا}،

وقوله: {فِطْرَتَ اللّه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}، في خلقة كل أحد الشهادة للّه بالوحدانية له والألوهية فاختلفوا: فمنهم من كان على تلك الفطرة، ومنهم من كذب واختار الكفر، وهو ما روي: " كل مولود يولد على الفطرة إلا أن أبويه يهودانه وينصرانه ".

أخبر أنهم على الفطرة لو تركوا على ذلك، لكنَّ أبويه يمنعانه عن الكون عليها.

وقيل: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً} أي: كان الخلائق جملة أمم؛ كقوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ}، كأنه يعاتب هذه الأمة يقول: إن الأمم مع اختلاف جواهرها وأجناسها كانوا خاضعين للّه مخلصين له،

 فأنتم أيها الناس أمة من تلك الأمم، فكيف اختلفتم وأشركتم غيره في ألوهيته وربوبيته، مع ما ركب فيكم من العقول والتمييز بين ما هو حكمة وما هو سفه، وقد فضلكم على غيرها من الأمم في خلق ما خلق في السماوات وما في الأرض لكم، وسخر لكم ذلك كله ما لم يفعل ذلك بغيرنا من الأمم؟!

ومنهم من قال من أهل التأويل في قوله: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً}: زمن نوح: نوح ومن دخل معه في السفينة كانوا على دين واحد، فاختلفوا بعدما خرجوا. ومنهم من قال: آدم فاختلف أولاده.

ومنهم من قال: زمن إبراهيم. لكنا لا نشهد كيف كان الأمر، فلا نعلم إلا بخبر عن اللّه تعالى.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} قيل: لولا أن من حكمه ألا يعذب هذه الأمة عند تكذيبهم الآيات إذا سألوها وإلا لأهلكها كما أهلك الأمم الخالية بتكذيبهم الآيات عند السؤال، ولكن أخر تعذيب هذه الأمة إلى يوم القيامة.

والثاني: سبقت من ربك ألا يستأصل هذه الأمة عند تكذيبهم الرسل والعناد لهم أحد التأويلين في ترك استئصالهم، والآخر في تأخير العذإب عنهم إلى وقت.

وقوله: {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} ببيان يضطرهم إلى القبول.

٢٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للّه فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠)

جوابه - واللّه أعلم - ما ذكر: لولا كلمة سبقت من ربك ألا يعذب هذه الأمة بتكذيبهم الآيات عند سؤالها، وإلا لعذبتم أنتم كما عذبت الأمم الخالية بتكذيبهم الآيات عند السؤال.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للّه}: أي: إنكم تعلمون أن علم الغيب للّه، وقد أنزل من الآيات ما يبين ويدل على رسالتي.

 

وقوله: {فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} قيل: انتظروا هلاكي إني منتظر هلاككم؛ لأنهم كانوا يوعدونه الهلاك.

وقيل: انتظروا مواعيد الشيطان إني منتظر مواعيد اللّه، وهو حرف وعيد، واللّه أعلم.

٢١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا}: قال أهل التأويل: {أَذَقْنَا النَّاسَ} يعني: أهل مكة إذا أصابهم سعة وفرح ونجاة مما يخافون عادوا إلى ما كانوا من التكذيب وعبادة الأصنام، ولكن أهل مكة وغيرهم أنهم إذا أيسوا عما يعبدون من الأصنام والأوثان، فزعوا إلى اللّه ويخلصون له الدِّين؛ كقوله: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} الآية،

وقوله: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا. . .} الآية،

وقوله: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ. . .} الآية، وغير ذلك من الآيات مما يكثر عددها، كانت عادتهم الفزع إلى اللّه عند إصابتهم الشدائد والبلايا؛ لعلمهم أن الأصنام التي كانوا يعبدونها لا يدفعون عنهم ذلك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا}: المكر في الآيات تكذيبها وردها، فيشبه أن تكون الآية هاهنا محمدا، كان هو من أول أمره إلى آخره آية، فمكروا به لما هموا بقتله غير مرة؛ كقوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا. . .} الآية، ويحتمل سائر الآيات والحجج مكروا فيها، أي: كذبوها وردوها.

{قُلِ اللّه أَسْرَعُ مَكْرًا}: المكر الأخذ من غير أن يعلم هو به، يقول: اللّه أسرع أخذا يأخذكم وأنتم لا تعلمون به، ولا تقدرون أن تأخذوا رسول اللّه وتمكروا به إلا وهو يعلم بذلك، فهو أسرع أخذا منكم.

{إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ}: فهم الحفظة.

 ويحتمل قوله: {قُلِ اللّه أَسْرَعُ مَكْرًا} أي: أسرع لجزاء المكر منكم، أو أسرع أخذًا من حيث لا تعلمون أنتم.

وقال بعض أهل اللغة: المكر بالآيات هو الرد والجحود لها.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: استهزاء بها؛ فهو واحد، واللّه أعلم.

٢٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) اختلف فيه:

قال: بعضهم: قوله: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ} أي: هو الذي سخر لكم ما به تسيرون في البر والبحر، وهو الدواب والسفن التي يقطع بها البراري والبحار، وهو كقوله: (لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣).

وقيل: قوله: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} أي: سخر لكم البر والبحر وهما مكانا الخوف والهلاك، أي: حفظكم فيهما حتى قضيتم فيهما حوائجكم، وليس في وسع الخلق حفظ البراري والبحار عما فيهما من الأهوال، فتولى اللّه بفضله حفظ السائرين فيهما، حتى قضوا فيهما حوائجهم؛ وهو كقوله: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا. . .} إلى آخر ما ذكر من أنواع المنافع، فلولا أن اللّه سخر لهم ذلك وحفظهم فيه، وإلا لم يكن في وسعهم القيام بذلك وحفظ أنفسهم فيه من الأهوال التي فيه، يذكرهم نعمه ومننه التي أنعمها عليهم ليوجهوا شكر نعمه إليه.

ثم قوله: {يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} يحتمل يخلق وينشئ سيركم في البر والبحر؛ وهو كقوله: {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ. . .} الآية، والتقدير هو التخليق والمقدر المخلوق، ففيه دلالة خلق أفعال الخلق؛ لأن السير هو فعل الخلق أضافه إلى نفسه؛ دل أنه منشئ فعلهم، واللّه أعلم.

ويشبه أن يكون قوله: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} لم يرد به البر والبحر نفسه، ولكنه أراد تذكير نعمه عليهم في كل حال وكل وقت ليشكروا له في كل حال؛ وهو كقوله: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}، لم يرد به البر والبحر أنفسهما، ولكن أراد المكان الذي فيه المياه والمكان الذي لا مياه فيه، أي: ظهر الفساد في الأماكن كلها؛ فعلى ذلك الأول يذكرهم نعمه التي أنعمها عليهم في الأماكن كلها والأحوال جميعًا، واللّه أعلم.

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ} أي: ركبتم الفلك، {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} أي: تجري بهم السفن بريح طيبة.

يخبر أن السفن ليست تجري في البحار بجريان الماء؛ لأن ماءها راكد في الظاهر، ولكن الريح هي التي تجريها وتسيرها؛ وكذلك الأمواج التي تكون فيها ليست لشدة جريان الماء، ولكن الريح هي التي تهيج الأمواج وتزعجها لا بنفس الماء {وَفَرِحُوا بِهَا} وقيل: فرحوا بها: سروا بها. ويحتمل فرحوا بها، أي: بطروا بها وأشروا.

وقوله: {جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ}، أخبر أن من الريح ما هي طيبة تجري بها السفن، ومنها ما هي عاصفة قاصفة تكسر وتفرق السفن وتهلك أهلها؛ ليعلم أن الأشياء تصلح تارة وتفسد تارة لا لأنفسها، ولكن لحفظ الحدود فيها، وكذلك النار تحرق مرة وتفسد ومرة تصلح وذلك لحفظ الحدود فيها، وكذلك الماء مرة يصلح ومرة يفسد، وذلك إذا حفظ فيه الحد أصلح، وإن لم يحفظ أفسده، وإلا لا يحتمل الشيء الواحد لنفسه يصلح مرة ويفسد لّارة، ولكن لحفظ الحدود فيه، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} قيل: أيقنوا أنهم مهلكون، ولكن الإيقان بالشيء الذي يصيب به في حادث الأوقات إنما يكون بالخبر لأنه لا يدري لعل اللّه يصرف ذلك عنهم، فلا يقع به الإيقان، ولكن جعل غالب الظن فيه في كثير من الأشياء كالإيقان به ألا ترى أن اللّه أباح الميتة في حال الضرورة لغالب الظن؛ إذ قد يجوز ألا يهلك بذلك، وكذلك ما أبيح للمكره بالقتل أن يجري كلمة الكفر على لسانه لغالب الظن، وإلا ليس يعلم بالإحاطة أنه يقتله لا محالة، لكن جعل لغالب الظن في بعض المواضع حكم اليقين والإحاطة فعلى ذلك قولهم أيقنوا أنهم أحيط بهم لغالب الظن.

٢٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - {دَعَوُا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}: أنهم لما أيسوا عن الأصنام التي عبدوها في دفع ما حل بهم عنهم، فزعوا إلى اللّه، وأخلصوا الدعاء له، وقالوا: لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين، ثم أخبر عن سفههم بعودهم إلى ما كانوا من قبل، (فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣) وهكذا كانت عادتهم كانوا يفزعون إلى اللّه عند خوف الهلاك والإياس عن آلهتهم التي عبدوها، ويخلصون الدعاء له، فإذا كشف ذلك الكرب عنهم ودفع، عادوا إلى ما كانوا من قبل.

والبغي في الأرض هو الفساد فيها،

 

وقوله: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ويحتمل قوله: {عَلَى أَنْفُسِكُمْ} أي: بعضكم على بعض.

ويحتمل: {عَلَى أَنْفُسِكُمْ} أي: حاصل بغيكم يرجع على أنفسكم.

والبغي هو الظلم؛ فإن كان التأويل: من أنفسكم بعضكم على بعض؛ فيكون الوعيد في قوله: {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ}

وقوله: {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ما قد ذكرنا، وهو حرف وعيد، واللّه أعلم.

٢٤

قوله تعالى: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ} الآية. قيل: في ضرب مثل الحياة الدنيا بالزرع الذي ذكر وجوه.

قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وفي سرعة فنائها وانقطاعها ووجوب زوالها مثل ذلك الزرع الذي ذكر في سرعة هلاكه وانقطاعه وزواله عن صاحبه. أو أن يقال: إنما مثل الحياة الدنيا فيما يسر به ويبتهج مثل صاحب الزرع الذي ذكر، فيما سر به وابتهج، ثم كان ما ذكر: {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ}.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما مثل الحياة الدنيا للحياة الدنيا فيما ينفقون فيها، مثل صاحب الزرع الذي ذكر ينفق عنيه لما يأمل من المنافع ويطمع منه ثم كان ما ذكر ولو علم في الابتداء أن أمر زرعه يئول ويصير إلى ما صار لكان لا ينفق؛ فعلى ذلك صاحب الحياة الدنيا لو علم أن عاقبة أمر نفقته تصير حسرة عليه وندامة ما أنفق، كما أن صاحب الزرع

الذي ذكر وبلغ المبلغ الذي ذكر لو علم أن عاقبته كما كان ما أنفق عليه، أو لو علم أنه لا ينتفع به ما أنفق تلك النفقة، أي: لو علم أن سروره وابتهاجه به لا يبقى ولا يدوم إلى آخره ما تكلف ذلك، أو لو علم أنها تزول عنه وتنقطع عن تلك السرعة ما أنفق ذلك وما تكلف الذي تكلف.

ويحتمل ضرب مثل الحياة الدنيا بما ذكر من النبات وجهين:

أحدهما: يخبر عن سرعة زوالها وانقطاعها كالنبات الذي ذكر أنه يتسارع إلى الزوال والانقطاع لما يصيبه من الآفة فعلى ذلك الدنيا.

والثاني يخبر عن تغيرها وانقلاب أمرها كالنبات، الذي يتغير في أدنى مدة ووقت.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ} قيل: حسنها، وازينت وحسنت فأنبتت من ألوان النبات.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: زخرفها: زينتها من النبت، {حَصِيدًا} أي: محصودا كما يحصد الحصاد، والحصاد: الزرع، {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} أي: لم تعش، والمغاني هي، المواضع التي يعيش فيها الناس، قال: وواحد المغاني مغنى.

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: وأصل الزخرف الذهب؛ يقال للنقش والذهبة وكل شيء زين: زخرف،

وقال: {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} والمغاني: المنازل واحدها مغنى.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} أي: لم تنعم.

وقيل: لم تعمر.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو من الغِنَى، أي: كأن لم تكن غنيا بالأمس، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} أي: ظن أهل الدنيا فيما ينفقون أنهم قادرون على تلك النفقة، كما ظن صاحب الزرع أنه قادر على ذلك الزرع.

وقوله: {أَتَاهَا أَمْرُنَا} قيل: عذابنا سمي أمرًا؛ لأنه بأمره أتاه، وفيه أنه لم يأته عن غفلة وسهو، ولكن عن علم وأمر؛ عظة لهم وتنبيهًا؛ ألا ترى أنه قال: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} كأن الآيات في هذا الموضع المواعظ، أي: فيما ذكر من ضرب مثل الحياة الدنيا بالنبات والزرع الذي ذكر عظة وتنبيه لمن تفكر فيه، واللّه أعلم.

٢٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاللّه يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} اختلف فيه؛ قيل: الجنة، والسلام: اللّه أضافها إلى نفسه؛ كقوله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للّه}، فأضاف الجنة إلى السلام إن كان دار السلام هي الجنة، فهو - واللّه أعلم - لأن المساجد هي أمكنة يقام فيها القرب، والجنة هي مكان اللذة وقضاء الشهوة، فأضافها إلى السلام لما يسلم أهلها عن جميع الآفات، والمساجد خصت بالإضافة إلى اللّه تعالى؛ لأنها أمكنة يقام فيها القرب.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: دار السلام: الإسلام.

ثم يحتمل كل واحد من التأويلين وجهين بما سمى الإسلام دار السلام والجنة، كذلك سمى الإسلام دار السلام؛ لأنه يأمن ويسلم كل من دخل فيه عن جميع الأهوال والآفات التي تكون.

والثاني: سمى الإسلام دار السلام، أضافه إلى نفسه؛ كقوله: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللّه صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ. . .} الآية، أخبر أنه على نور من ربه؛ فعلى ذلك إضافة الإسلام إليه.

ومن قال: دار السلام الجنة سمى دار السلام؛ لأن كل من دخل الجنة سلم وأمن عن الأهوال كلها والآفات جميعًا.

والثاني: دار: الجنة، والسلام: اللّه أضاف إليه؛ لأنها دار أوليائه، وقد تضاف إلى اللّه على إرادة أوليائه، واللّه أعلم.

 وروى في بعض الأخبار عن أبي قلابة أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " قيل لي لتنم عينك، وليعقل قلبك، ولتسمع أذنك فنامت عيني وعقل قلبي وسمعت أذني، ثم قيل لي: سيد بنى دارًا وجعل مأدبة وأرسل داعيًا، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة ورضي عنه السيد، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة ولم يرض عنه السيد فاللّه السيد، والدار الإسلام، والمأدبة الجنة، والداعي مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ".

إن ثبت هذا الخبر ففيه أن الدار الإسلام على ما قاله بعض أهل التأويل وفي خبر آخر عن جابر بن عبد اللّه قال: " خرج علينا رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يومًا فقال: رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي وميكائيل عند رجلي، قال أحدهما لصاحبه: اضرب له مثلا، قال: اسمع سمعت أذنك، وأعقل عقل قلبك، إنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ دارًا ثم بنى فيها بنيانًا فأتمه، ثم جعل فيها المأدبة، ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه، فمنهم من أجاب الرسول، ومنهم من تركه، فاللّه الملك والدار الإسلام والبيت الجنة، وأنت يا مُحَمَّد الرسول، ومن أجابك دخل الإسلام، ومن دخل الإسلام دخل الجنة، ومن دخل الجنة أكل ما فيها ".

هذا يدل -أيضًا- إن ثبت أن الدار التي ذكر في الآية هو الإسلام، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاللّه يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ. . .} الآية: ذكر الاستثناء في الهداية، ولم يذكر في الدعاء؛ ليعلم أن لا كل من يدعو إلى دار السلام يهديه، وإنما يهدي به من يعلم منه أنه يختار الهدى وذلك على القدرية.

ثم الهدى على وجوه ثلاثة.

أحدها: الدعاء كقوله: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}.

والثاني: هو البيان كقوله: {هُدًى وَرَحْمَةً} يعني القرآن.

والثالث: التوفيق والعصمة إذا وفق اهتدى، والهدى هاهنا التوفيق.

٢٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٦) اختلف فيه؛

قَالَ بَعْضُهُمْ: للذين أحسنوا في الدنيا لهم الحسنى في الآخرة جزاء ذلك الإحسان وهي الجنة، سمى الجنة

الحسنى؛ لأنها جزاء الإحسان، كما سمى النار السوءى؛ كقوله: {أَسَاءُوا السُّوأَى} لأنها جزاء السوء؛ كقوله: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}، {وَزِيَادَةٌ} قيل: المحبة في قلوب العباد يحبه كل محسن، وهيبة له في قلوب الناس يهابه كل أحد على غير سلطان له ولا يد.

وقال قائلون: قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} أي: مثل تلك الحسنة وزيادة التضعيف، حتى تكون عشرا وسبعمائة وما شاء اللّه، يدل على ذلك قوله: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا}.

وقال قائلون: قوله: {وَزِيَادَةٌ} الرؤية: رؤية الرب والنظر؛ كقوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (٢٣).

وقال قائلون: الزيادة قبول حسناته مع ما فيها من الخلط بالسيئات، يقبل حسناته بفضله. وإن كانت تشوبها السيئات ورضاه عنه، وذلك طريقه الفضل والإحسان؛ إذ قد سبق من اللّه تعالى إليه من النعم ما لا يقدر القيام على وفاء نعمة منها طول عمره.

 وعن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: " الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب ".

فلا ندري ما الزيادة التي ذكرها عَزَّ وَجَلَّ في الآية إلا بالخبر عن اللّه.

وقال قائلون: الحسنى ما تقدره العقول وتدركها وتصورها الأوهام، وأما الزيادة فهي التي لا تقدرها العقول ولا تدركها ولا تصورها الأوهام؛ كقوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ".

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ} قيل: لا يغشى وجوههم الغبار والريح على ما وصف وجوه أهل النار، وهو قوله: (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (٤١). ولكن على ما وصف وجوه أهل الجنة بقوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩)، وذلك - واللّه أعلم - آثار إحسانهم التي أحسنوا في الدنيا، ولما لم يروا النعم التي كانت لهم من سواه ولم يصرفوا شكرها إلى غيره، والغبرة والقترة التي ذكر لأهل النار هي آثار السيئات التي عملوها في الدنيا من عبادتهم دون اللّه وصرفهم شكر النعم إلى غيره ونحو ذلك من صنيعهم الذي صنعوا في الدنيا، واللّه أعلم.

{أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.

٢٧

وقوله: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا}: جزاء سيئة مما يوجبه الحكمة أن

يجزى بمثلها، وأما جزاء الإحسان والخير طريق وجوبه الإفضال والإحسان ليس طريق وجوبه الحكمة، إذ سبق من اللّه، إلى كل أحد من النعم ما ليس في وسعه القيام بمكافأة واحدة منها عمره وإن طال واجتهد كل جهده، فضلا أن يستوجب قبله جزاء ما كان منه من الخيرات.

وقوله: {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ}: هو ما ذكرنا من آثار السيئات التي عملوها في الدنيا ذلا وهوانًا لهم {مَا لَهُمْ مِنَ اللّه مِنْ عَاصِمٍ}، وذلك أنهم - واللّه أعلم - كانوا يعبدون الأصنام رجاء أن يكونوا لهم شفعاء عند اللّه، فأخبر أن ليس لهم من عذاب اللّه مانع يمنع ذلك عنهم؛ كقولهم: {هؤُلَآءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّه}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ} قيل: ألبست وأغطيت قطعًا مثقلا ومخففا قطعا، قيل: القطع بالتثقيل هو جمع القطعة، والقطع بالتخفيف جزء من الليل، يقال: سرنا بقطع من الليل، أي: بجزء من الليل،

وقوله: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} أي: بجزء منه، واللّه أعلم.

ثم شبه وجوههم بظلمة الليل، ولم يشبه بسواد الوجوه على ما يكون من سواد الوجوه في الدنيا؛ فذلك - واللّه أعلم - أن سواد الوجوه على ما يكون في الدنيا لا يبلغ من القبح غايته؛ إذ قد يرغب من كان جنسه ونوعه في ذلك ويحسن ذلك عنده، فإذا كانت الرغبة قد تقع لبعضهم في بعض لم يبلغ في القبح نهايته، وأما ظلمة الليل: فإن الطباع تنفر عنها، ولا تقع الرغبة فيها بحال؛ لذلك شبه وجوه أهل النار بها، واللّه أعلم.

٢٨

 (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (٢٨)

قال أهل التأويل: يعني العابد والمعبود الذين عبدوا دونه، ولكن نحشر الخلائق جميعًا.

{ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ} هذا الحرف هو حرف وعيد؛ يقال: مكانك أنت، كذا وإن كان هذا الحرف يجوز أن يستعمل في الكرامات وبر بعضهم بعضا، ولكن إنما يعرف ذا من ذا بالمقدمات، فما تقدم هاهنا يدل أنه لم يرد به الكرامة، ولكن أراد به الوعيد، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ} قيل: فرقنا بينهم وميزنا بينهم، أي: بين العابد والمعبود.

ثم يحتمل التفريق بينهم وجوهًا:

أحدها: فرقنا بينهم في الحساب مما عمل ومما صحب.

والثاني: يحتمل فرقنا بينهم لما طمعوا بعبادتهم إياها والشفاعة أن يكونوا لهم شفعاء عند اللّه، ففرق بينهم في الشفاعة. ويحتمل فرقنا بينهم فيما ضل عنهم ما كانوا يفترون، فصار ما عبدوا ترابا وهم في النار.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ}: يحتمل قوله: شركاؤهم: سماهم شركاء وإن لم يكونوا أشركاء في الحقيقة، لما عندهم أنهم شركاء؛ كما سمى الأصنام آلهة لما عندهم أنها آلهة.

والثاني: {شُرَكَاؤُهُمْ} لما أشركوها في العبادة فهم شركاؤهم، واللّه أعلم.

وقوله: {وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ}: ينطق اللّه تعالى يوم القيامة هذه الأصنام، وإن لم يكن في خلقتها النطق في الدنيا؛ كقوله: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا}

وقوله: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ. . .} الآية، أنطقهم ليشهدوا عليهم.

وقوله: {مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ}: يحتمل الملائكة أن يكونوا هم الذين أنكروا؛ لأن منهم من يعبد الملائكة، أنكروا أن يكونوا يعبدونهم؛ لأن العبادة لآخر إنما تكون عبادة إذا كان من المعبود أمر بها، وكانت عبادتهم الأصنام عبادة للشيطان لأنه هو الآمر لهم بالعبادة

 للأصنام؛ كقوله: {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ}، ولا أحد يقصد قصد عبادة الشيطان، لكنه لما كان الآمر لهم بالعبادة للأصنام صار كأنهم عبدوه، وإن لم يقصدوه بها ويحتمل ما ذكر من الإنكار من الأصنام.

٢٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَكَفَى بِاللّه شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (٢٩) أي: كفى اللّه القاضي والحاكم بيننا وبينكم أنا لم نأمركم بعبادتنا، وهو العالم بأنا كنا بعبادتكم إيانا غافلين.

٣٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللّه مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٣٠) قيل: عند ذلك، وقيل: يومئذ أي يوم القيامة.

وقوله: {تَبْلُو} أو {تَتْلُو} بالباء والتاء، قيل: تقرأ في الصحف: " ما كتب من أعمالهم " وتبلو بالباء من الابتلاء، يقال: بلوته وابتليته واحد، وخبرته واختبرته أيضًا، وقيل: {تَبْلُو} تجد وتعلم كل نفس ما قدمت من الأعمال وقيل: تجزى كل نفس بما عملت.

وقيل: {تَتْلُو} بالتاء أيضا: تتبع، كل نفس ما قدمت من الأعمال، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَرُدُّوا إِلَى اللّه مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} قيل: ملكهم الحق لأن غيره من الآلهة التي عبدوها قد بطل عنهم وضل في الآخرة.

 ويحتمل: {وَرُدُّوا إِلَى اللّه مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} أي: حق ما تجد كل نفس ما قدمت من أعمالها، أو حق أن تقرأ كل نفس ما عملت وضل عنهم ما كانوا يفترون من العبادة للأصنام وقول الكفر،

وقوله: {وَرُدُّوا إِلَى اللّه مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} يحتمل وجهين؛ أي: ردوا إلى ما أعدّ لهم مولاهم الحق، والثاني أي: ردوا إلى أمر مولاهم الحق، لا إلى أمر الأصنام التي كانوا يعبدونها.

٣١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ. . .}

الآية: يحاجهم يعني: أهل مكة في التوحيد والربوبية وكأن هذه السورة نزلت في محاجة أهل مكة في التوحيد، لأنها مكية.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} يحتمل وجهين؛ أي: من ينزل لكم الرزق من السماء، ومن يستخرج لكم الرزق من الأرض. والثاني: من يرزقكم من السماء والأرض أي ومن يدبر الرزق في السماء، ومن يدبر الرزق في الأرض، لا أحد يملك استنزال الرزق من السماء، واستخراج الرزق من الأرض؛ وكذلك لا أحد يملك تدبيره في السماء والأرض سواه، ولا أحد يملك إنشاء السمع والبصر، ولا أحد أيضًا يملك إخراج الحي من الميت ولا إخراج الميت من الحي ولا تدبير الأمر، لا يعرفون حقيقة ماهية السمع والبصر ولا كيفيتهما، فكيف يملكون إنشاء السمع والبصر ونصبهما، ولا يملك أحد سواه إصلاح ما ذكر إذا فسد ذلك، فأقروا له أنه لا يملك أحد سوى اللّه ذلك، وهو قولهم: {فَسَيَقُولُونَ اللّه فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} يقول. واللّه أعلم -: إذا عرفتم

 وأقررتم أنه لا يملك ما ذكر سواه وعرفتم أن له السلطان والقدرة على ذلك أفلا تتقون، بوائقه ونقمته، أو يقول: أفلا تتقون عبادة غيره دونه، وإشراك غيره في ألوهيته وربوبيته، أو يقول: أفلا تتقون صرف شكره إلى غيره وقد أقررتم أنه هو المنعم عليكم بهذه النعم لا من تعبدون دونه.

أو يقول - واللّه أعلم -: إذا عرفتم ذلك أفلا تتقون مخالفته وعصيانه، فإذا أقروا أن الذي يملك تدبير ما بين السماء والأرض هو الذي له السماوات والأرض عرفوا الذي يستحق العبادة والقيام بشكره، فإذا ضيعوا ذلك جمعهم على اسم الضلال؛ فذلك قوله: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ}.

٣٢

وقوله تعالى: (فَذَلِكُمُ اللّه رَبُّكُمُ الْحَقُّ ... (٣٢) أي: ذلكم الذي ذكر ربكم بالحجج والبراهين، فماذا بعد الحق الذي هو حق بالحجج والبراهين إلا الضلال؟! لأن ما لا حجج له ولا براهين فهو ضلال.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}: عن عبادته إلى عبادة غيره، أو فأنى تصرفون عن شكر المنعم، إلى شكر غير المنعم. أو يقول: فأنى تعدلون من لا يملك ما ذكر بمن يملك، واللّه أعلم.

٣٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٣٣) حقت: وجبت، وقيل: كذلك حقت كلمة ربك على الذين ختموا بالفسق أنهم لا يؤمنون، أي: لا ينتفعون بإيمانهم بعد ذلك.

وقوله: {كَلِمَتُ رَبِّكَ} تحتمل وجهين: تحتمل كلمة ربك مواعيد ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون فإن كان على هذا فهو في قوم علم اللّه أنهم لا يؤمنون. ويحتمل كلمة ربك، حجج ربك وبراهينه على الذين فسقوا.

٣٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّه يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤) قال عامة أهل التأويل: ثم يعيده: البعث بعد الموت، أي: لا أحد من شركائكم الذين تعبدون يملك

 بدء الخلق ولا بعثه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {ثُمَّ يُعِيدُهُ} لا يحتمل البعث؛ لأنهم كانوا لا يقرون بالبعث، فلا يحتمل الاحتجاج عليهم بذلك، ولكن قوله: {ثُمَّ يُعِيدُهُ} ما سوى البشر؛ لأنهم إنما ينكرون إعادة البشر، فأما إعادة غيره من الأشياء لا ينكرونه؛ نحو إعادة اللمل والنهار، وإعادة الإنزال والنبات، ونحو الأشياء التي يشاهدونها، أي: ثم يعيد مثله: الليل ليلا مثله، والنهار نهارا مثله؛ وكذلك الخلائق تفنى ثم يعيد مثله، فإذا ثبت في غير البشر ثبت في البشر.

ويحتمل الأمرين جميعًا عندنا البعث وأشياء مثله؛ لأنه تعليم منه لهم، ألا ترى أنه قال: {قُلِ اللّه يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} قيل: تكذبون بتوحيد اللّه، وقد عرفتم أنه هو بدأ الخلق ثم هو يعيده، لا أحد يملك ذلك، ألا ترى أنه احتج عليهم ما يلزمهم ذلك بقوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّه. . .} الآية.

٣٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّه يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥) يحتمل قوله: {يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ} يدعو إلى الحق فإذا كان هَؤُلَاءِ الأصنام التي تعبدونها لا يملكون الدعاء إلى شيء، فلا يملكون الضر والنفع، ومغ الخلائق من لا يملك النفع والضر، ويملك الدعاء إلى خير أو إلى نفع، فهَؤُلَاءِ دون الخلائق جميعًا؛ إذ لا يملكون الدعاء، فكيف يملكون الضر والنفع،؟! يبين عَزَّ وَجَلَّ سفههم بعبادتهم هَؤُلَاءِ الأصنام؛ لعلمهم أنهم لا يملكون نفعًا ولا ضرًّا.

ويحتمل قوله: {يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ} أي: يبين ويقيم الدلائل والبراهين على عدم استحقاق العبادة لهم، فإذا لم يملكوا الدعاء إلى العبادة لهم، فكيف يملكون نصب

 الدلائل والحجج على استحقاق العبادة؟!

{قُلِ اللّه يَهْدِي لِلْحَقِّ}: أخبر أن اللّه هو الذي يهدي للحق. ثم يحتمل الوجهين اللذين ذكرنا: هو يملك الدعاء إلى الحق ويقيموا الدلائل والحجج على ما دعا إليه، وهو يستحق العبادة له والربوبية.

{أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ}: الذي يبين البراهين والحجج، {أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي} أي: لا يبين، {إِلَّا أَنْ يُهْدَى}، فَإِنْ قِيلَ: ما معنى الاستثناء وهو وإن هدي لا يهتدي؟ قيل: يشبه أن يكون هذا صلة ما تقدم من قوله: {مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ}، ينطقهم اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - يوم القيامة، فيشهدون عليهم أنهم لم يأمروهم بالعبادة لهم ولا دعوهم لإشراكهم في العبادة، فيكون قوله: {إِلَّا أَنْ يُهْدَى} لما أن يجعلهم اللّه بحيث يهتدون إذا هدوا ويجيبون إذا دعوا.

{فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}: بالجور وصرف العبادة والشكر إلى من لا يملك ذلك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى}

قَالَ بَعْضُهُمْ: {إِلَّا أَنْ يُهْدَى} لا يحتمل الصنم والوثن الاهتداء وإن هدي، ولكن المراد منه الإنسان.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {إِلَّا أَنْ يُهْدَى} إلا أن يحمل الصنم ويوضع، فأما أن يهتدي هو بنفسه فلا، لكن يحتمل ما ذكرنا أنه إذا صيره بحيث يتكلم ومن جنس ما ينطق وأذن له في النطق احتمل الإجابة والاهتداء، واللّه أعلم.

٣٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللّه عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (٣٦)

قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا في الأئمة والرؤساء منهم حيث عبدوا الأصنام والأوثان وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى} وقالوا: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّه}، ونحو ذلك من القول؛ يقول: ما يتبع أكثرهم في عبادتهم الأصنام بأنهم يكونون لهم شفعاء عند اللّه إلا ظنا ظنوه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هذا في الأتباع والعوام ليس في الأئمة؛ ذلك أن الأئمة قد عرفوا البراهين والحجج التي قامت عليهم والآيات التي جاء بها رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، لكن ما قالوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}، {مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى}، {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ}، ونحو ذلك من الكلام، أرادوا أن يلبسوا على العوام ويشبهوا عليهم، فاتبع العوام الأئمة فيما قالوا وأنه كذا وصدقوهم؛ يقول: وما يتبع

 أكثرهم الأئمة في ذلك إلا ظنًّا ظنوا.

ويشبه أن يكون قوله: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ} يعني: أهل مكة أي ما يتبع أكثر أهل مكة، الأوائل والأسلاف في عبادة الأصنام والأوثان. {إِلَّا ظَنًّا} لأنهم عبدوا الأصنام ويقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ. . .} الآية، وآباؤنا كذلك يفعلون، ثم أخبر أن الظن لا يغني من الحق شيئًا، أي: الظن لا يدرك به الحق إنما يدرك الحق باليقين، {إِنَّ اللّه عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} وهو حرف وعيد ليكونوا أبدا على حذر.

٣٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللّه}

قَالَ بَعْضُهُمْ: هو صلة قوله: {قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ}، فيقول: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللّه}؛ كقوله: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ}، أي ما أتبع إلا ما يوحى إليَّ.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن كفار قريش قالوا: إن محمدًا افترى هذا القرآن من عند نفسه ويقوله من نفسه، فقال: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللّه} أن يضاف إلى غيره أو يختلق.

{وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي: يصدق هذا القرآن الكتب التي كانت من قبل، ولو كان مُحَمَّد هو الذي افتراه واختلقه من عند نفسه لكان خرج هو وسائر الكتب المتقدمة مختلفا، إذ لم يعرف مُحَمَّد سائر الكتب المتقدمة إذ كانت بغير لسانه، ولم يكن له اختلاف إلى من يعرفها ليتعلم، ثم خرج هو أعني القرآن مصدقا وموافقا لتلك الكتب؛ دل أنه من عند اللّه جاء؛ كقوله: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ. . .} الآية.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللّه} يخرج على وجهين:

 أحدهما: ما كان هذا القرآن بالذي يحتمل الافتراء من دون اللّه؛ لخروجه عن طوق البشر ووسعهم، فذلك بالذي يحيله كونه مفترى بجوهره.

والثاني: لما أودع فيه من الحكمة والصدق يدل على كونه من عند اللّه؛ إذ كلام غيره يحتمل السفه والكذب ويحتمل الاختلاف.

{وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ} قيل فيه بيان الكتب التي نزلت قبله، وتمامه أن هذا وإن كان في اللفظ مختلفا فهو في الحكمة والصدق مبين موافق للأول. وقيل: {وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ} أي: تفصيل ما كتب لهم وما عليهم. أو أن يقال؟ إلى اللّه تفصيل الكتب ليس إلى غير {لَا رَيْبَ فِيهِ} أنه من عند رب العالمين.

أو يقول: مفصل من اللوح المحعوظ.

٣٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللّه إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٣٨) يقول: إن كان مُحَمَّد افتراه من عند نفسه، فأتوا أنتم بمثله؛ إذ لسانه ولسانكم واحد، فأنتم قد عرفتم بالفرية والكذب، ومُحَمَّد لم يعرف به قط، ولا أخذ عليه بكذب قط، فأنتم أولى أن تأتوا بسورة مثله.

{وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللّه إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} اختلف فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: ادعوا بآلهتكم التي تعبدونها؛ ليعينوكم على إتيان مثله.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ} أي: بمن لسانه مثل لسانكم؛ ليعينوكم على ذلك.

أو يقول: استعينوا بدراسة الكتب؛ ليعينوكم على مثله إن كنتم صادقين أن محمدًا افتراه من نفسه؛ فدل ترك اشتغالهم بذلك على أنهم قد عرفوا أنه ليس بمفترى، وأنه سماوي.

٣٩

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩)

قَالَ بَعْضُهُمْ: ما لم يحفظوا نظمه، ولا لفظه، ولا نظروا فيه، ولا تدبروا؛ ليعلموا معناه، بل كذبوه بالبديهة، والشيء إنما يعرف كذبه وصدقه بالنظر فيه والتفكر والتدبر، لا بالبديهة، فذلك - واللّه أعلم - تأويل قوله: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ}.

الثاني: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} كذبوا على علم منهم أنهم كذبة فيما يقولون، ويتقولون: إنه مفترى ليس بمنزل {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ}، أي: ولما يأتهم العلم بتأويله، أي: بتأويل القرآن.

 ومعناه - واللّه أعلم -: أنهم كذبوه من غير أن حفظوا نظمه، ووعوا لفظه، ولا أتاهم العلم بعاقبته وآخره.

وقيل: التأويل: هو رد كل شيء إلى أولية الأمر.

وقالت الحكماء: التأويل: آخر كل فعل هو قصد في أوله وقصد كل شيء في أوله هو آخر في فعله، أو نحوه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} قال: ما وعد اللّه أن يكون قبل أن يكون.

وقال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: تأويل القرآن بما يكون منه في الدنيا، وبما يكون منه يوم القيامة، وهو العذأب الذي وعد.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {تَأْوِيلُهُ}: ثوابه.

وقيل: عاقبته.

وقال الواقدي: لم يأتهم عاقبة بيان ما وعد اللّه في القرآن في الآخرة من الوعيد.

وأصل التأويل: هو النظر إلى ما تئول عاقبة الأمر.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، أي: كذلك كذب الأمم السالفة رسلهم، كما كذب كفار مكة رسولهم، أي: لست أنت بأول مكذب، بل كذب من كان قبلك من إخوانك؛ ليكون له التسلي عما هو فيه من تكذيبهم إياه، وردهم عليه أنه ينزل بهم ما نزل بأُولَئِكَ إن هم أقاموا على ما هم عليه.

والثاني: أن يكون الخطاب وإن كان خارجًا لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فهو راجع إلى قومه يأمرهم بالنظر فيما نزل بالأمم السالفة، وأن يتأملوا أحوالهم؛ ليكون ذلك سببا لزجرهم عما هم فيه.

٤٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} بالتكذيب، أي: كيف يعاقبون ويعذبون، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠) قيل: من أهل مكة من يؤمن بهذا القرآن، ومنهم من لا يؤمن به، وهم كذلك كانوا، منهم من قد آمن به، ومنهم من لا يؤمن به، أي: من لم يؤمن به.

ويحتمل على الوعيد فيما يستقبل، أي: منهم: من أهل مكة من يؤمن بهذا القرآن، ومنهم من لا يؤمن به، وهم كذلك كانوا: منهم من قد آمن، ومنهم من لم يؤمن به.

قَالَ بَعْضُهُمْ: هي في اليهود، ليست في أهل مكة، وظاهره أن يكون في كفار مكة،

 وعلى ذلك قول عامة أهل التأويل، كأن هذا يخرج على البشارة: أن منهم من يؤمن به؛ لئلا يقطع ويمنع دعاءهم، وأخبر أن منهم من لا يؤمن به، يؤيسه حتى لا يشتد حزنه على كفرهم.

وجائز أن يكون هذا: أي: منهم من، قد يولد من بعد، ويؤمن به، ومنهم من يولد فلا يؤمن.

وقوله: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ} يشبه أن يكون معناه: أي: على علم بما يكون منهم من الفساد خلقهم وأنشأهم، وليس عن غفلة وجهل بالفساد، ولكن عن علم بذلك؛ لما لا يضره فساد مفسد، ولا ينفعه صلاح من يصلح، إنما عليهم ضرر فسادهم، ولهم منفعة صلاحهم.

ويحتمل أن يكون على الوعيد، أي: عالم بفسادهم، فيجزيهم جزاء فسادهم، واللّه أعلم.

٤١

وقوله: (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١) تأويله - واللّه أعلم - أي: إن كذبت فيما أخبرتكم: أنه جاء من عند اللّه، فـ {لِي عَمَلِي}، أي: جزاء عملي فيما أبلغكم، أي: فعليَّ وزر عملي، {وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ}، أي: فعليكم جرم ما رددتم علي فيما بلغتكم عن اللّه، وهو كقوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} أي: علي جرم ما افتريت إن افتريت، وعليكم جرم ما رددتم عليَّ فيما بلغتكم عن اللّه.

ويحتمل: ما قاله أهل التأويل: {لِي عَمَلِي} أي: لي ديني {وَلَكُم عَمَلُكُم} أي: لكم دينكم.

{أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}.

تأويله - واللّه أعلم - أي: أنا لا أؤاخذ بما دنتم أنتم، ولا أنتم تؤاخذون بما دنت أنا وعملت، وهو كقوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ. . .} الآية،

وقوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ. . .} الآية،

وقوله: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ. . .} الآية، وكقوله: {لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا. . .} الآية.

٤٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (٤٢) أخبر أن منهم من يستمع إليه، يعني:

 إلى رسول اللّه، وإلى ما يتلو من القرآن، لكنه لا يؤمن، أخبر أنه لا كل مستمع إلى شيء ينتفع بما يستمع أو يعقل ما يستمع ويفهم، إنما ينتفع بالاستماع ويعقل على قدر المقصود والحاجة إليه.

ومنهم من كانوا ينهون من يستمعون لقبول القول منهم.

ومنهم من كان يستمع إليه؛ ليسمع غيره، كقوله: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ}.

ومنهم من كان يسمعه، ويطيعه في ذلك، فإذا خرج من عنده غيره وبدله كقوله: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي}.

ومنهم من كان يستمع إليه؛ استهزاء منه، وطلب الطعن فيه والعيب، كانوا مختلفين في الاستماع، ثم نفى عنهم السمع والعقل والبصر؛ لوجهين:

أحدهما: ما ذكرنا أنهم لما لم ينتفعوا بأسماعهم وعقولهم وأبصارهم وهذه الحواس انتفاع من ليست له هذه الحواس، نفى عنهم ذلك؛ إذ هذه الحواس إنما جعلت، لينتفع بها لا لتترك سدى لا ينتفع بها.

والثاني: كان العقل والسمع والبصر، وهذه يكون منها مكتسب بالاكتساب، ومنها ما يكون غريزة، فهم تركوا اكتساب الفعل الذي جعل مكتسبًا فنفى عنهم؛ لما تركوا اكتساب ذلك.

ويحتمل نفي هذه الحواس لهذين الوجهين اللذين ذكرتهما، واللّه أعلم.

ثم نفى عمن لا يستمع العقل، حيث

٤٣

 قال: {لَا يَعْقِلُونَ}، ونفى عنهم الاهتداء والإبصار بترك النظر، فقال: (أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (٤٣) لأن بالبصر يوصل إلى اهتداء الطرق والسلوك فيها، ألا ترى أن البهائم قد تبصر الطرق، وتسلك بها، وتتقي بها المهالك، ولا تعقل، لما ليس لها العقل، فلا تعقل لما يسمع القلب بعقل، وبظاهر البصر تبصر الأشياء.

٤٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ اللّه لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} يخبر أن ما حل بأُولَئِكَ من عذاب استئصال، إنما حل بظلمهم، لا بظلم من اللّه تعالى

٤٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللّه وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (٤٥) لم يلبسوا إلا ساعة من النهار، قال: في قبورهم يتعارفون بينهم إذا خرجوا من قبورهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ من أهل التأويل: {كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ}: في الدنيا، وأصله كأنهم استقلوا طول مقامهم في الدنيا وما أنعموا فيها؛ لما عاينوا من أهوال ذلك اليوم وشدائده، أو استقلوا لبثهم في الدنيا، ومقامهم؛ لطول مقامهم في الآخرة في العذاب.

وفيه وجه ثان: وهو أنه يذكر من شدة سفههم وغاية جهلهم أن ما يعدهم من الحشر والعذاب الأبد كأنهم لا يلبثون فيها إلا ساعة من النهار، حتى لا يبالوا ما يلحقهم من ذلك وما يستوجبون عليه من العذاب باكتسابهبم من تلك الأسباب.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} أي: يعرف بعضهم بعضا على قدر ما يلعن بعضهم بعضا؛ كقوله: {وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا}. وعلى قدر ما يتبرأ بعضهم من بعض ثم يفرق بينهم كقوله: {فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ} أي: فرقنا بينهم.

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللّه} أي: خسروا بما وعدوا في الآخرة من النعم الدائمة بترك اكتسابهم إياها؛ إذ قد أعطوا ما يكتسبون به نعم الآخرة، فاكتسبوا ما به خسروا ذلك؛ فهو كقوله: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} أي: ما أصبرهم على اكتساب ما به يستوجبون النار.

والثاني: قد، خسروا [ .... ].

٤٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ}: " إما " حرف شك، وكذلك حرف ولكن يكون تأويله - واللّه أعلم - على حذف إما وإضمار حرف " إن " كأنه يقول: إن أريناك إنما نرينك بعض ما نعدهم لا كل ما نعدهم، أو نتوفينك ولا نرينك شيئا. أو أن يكون قوله: إن نرينك بعض ما نعدهم أي: لقد نريك بعض ما نعدهم؛ وهو كقوله: {إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا}، فعلى هذا التأويل يريه بعض ما لعدهم، ولا يريه كل ما وعدهم.

وعلى التأويل الأول إن أراه إنما يريه بعض ذلك ولا يريه شيئًا.

فَإِنْ قِيلَ: حرف " إما " حرف شك وكذلك حرف أو كيف يستقيم إضافته إلى اللّه، وهو عالم بما كان ويكون وإنما يستقيم إضافته إلى من يجهل العواقب؟!

 قيل: جميع حروف الشك الذي أضيف إلى اللّه هو على اليقين والوجوب نحو حرف " عسى " و " لعل " ونحو ذلك، فعلى ذلك حرف " إما " أَو، " أَو " فهو لم يزل عالما بما كان ويكون في أوقاته.

وأما حرف الاستفهام والشك يخرج على مخرج الإيجاب والإلزام على ما ذكرنا في حرف التشبيه، أو أن يكون رسول اللّه وعد لهم أن يريهم شيئًا، فقال عند ذلك: [{وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ}] لا نرينك شيئًا يقول: ليس إليك ما وعدتهم، إنما ذلك إلينا؛ كقوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّه شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ}: هذا يحتمل ثم اللّه شهيد لك يوم القيامة على ما فعلوا من التكذيب بالآيات وردها؛ وهو كقوله: {قُلِ اللّه شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ. . .} الآية. ويحتمل أنه عالم بما يفعلون لا يغيب عنه شيء وهو وعيد؛ كقوله تعالى: {وَاللّه بَصِيُرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}، {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، ونحوه، واللّه أعلم.

٤٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٤٧) أي: لكل أمة فيما خلا رسول اللّه بعث إليهم لست أنا أول رسول بعثت إليكم؛ كقوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ}.

{فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} يحتمل هذا وجهين: يحتمل فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط؛ أي: يقضى بين الرسل وبين الأمم بالعدل بما كان من الرسل من تبليغ الرسالة إليهم والدعاء إلى دين اللّه، ومن الأمم من التكذيب للرسل والرد للآيات، قضي بينهم بالعدل وهم لا يظلمون لا يزاد على ما كان ولا ينقص.

ويحتمل قوله: {قُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي: يهلك المكذبون منهم وينجي الرسل ومن صدقهم، كقوله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا. . .} الآية، ويجوز أن يقضي بين المعرضين وبين المجيبين والمطيعين يوم القيامة.

٤٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٤٨) وذلك أنه لما أوعدهم العذاب حين قال: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} قالوا: متى هذا العذاب الذي توعدنا هذا يا مُحَمَّد إن كنت صادقًا بأن العذاب نازل بنا في الدنيا، وهو

 على التأويل الثاني الذي ذكرنا لقد نرينك بعض ما وعدناهم.

٤٩

فقال: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللّه لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩) ولا أملك أيضا جز منفعة إليها يقول: لا أقدر على أن أدفع عن نفسي سوءا حين ينزل بي، ولا أملك على أن أسوق إليها خيرا ألبتَّة، فإذا لم أملك هذا كيف أملك إنزال العذاب عليكم إنما ذلك إلى اللّه هو المالك عليه والقادر على ذلك، لا يملك أحد ذلك سواه؛ وذلك كقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} أي: إذا جاء أجلهم لا يقدرون على تأخيره ولا يستقدمون، أي: لا يقدرون على تقديمه، ليس على أنهم لا يطلبون تأخيره ولا تقديمه فيسألون ذلك، ولكن لا يؤخر إذا جاء ولا يقدم قبل أجله.

وفيه دلالة ألا يهلك أحد قبل انقضاء أجله، فهو رد على المعتزلة حيث قالوا: من قتل آخر فإنما قتله قبل أجله، واللّه يقول: {لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} وهم يقولون: يستقدمون، واللّه الموفق.

٥٠

وقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} يقول - واللّه أعلم -: أي منفعة لكم إن أتاكم عذابه؟! لا منفعة لكم في ذلك بل فيه ضرر لكم، فاستعجال ما لا منفعة فيه سفه وجهل، يسفههم في سؤالهم العذاب، ويخبر في قوله: {لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} أن عذاب اللّه إذا نزل وجاء وقته لا يملك أحد تقديمه ولا تأخيره، ولا يملك أحد استقدامه ولا استئخاره بالقدر والمنزلة،

 كما يحتمل ذلك في الدنيا التقديم والتأخير بالشفاعة والفداء ويذكر عجزه في إنزال العذاب عليهم في قوله: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا}.

٥١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١) قيل: أي العذاب إذا نزل بكم آمنتم به الآن؟! يخبر عنه أنهم إذا نزل بهم العذاب يؤمنون.

ثم يحتمل قوله: {آمَنتُم بِهِ} أي: باللّه وبرسوله؛ كقوله: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللّه وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ}، ثم أخبر أن إيمانهم لا ينفعهم عند معاينتهم العذاب؛ وهو كقوله: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا}،

وقوله: {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ}.

ويحتمل قوله: {آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ} أي: بالعذاب؛ لأنهم يكذبون رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيما يوعدهم العذاب، وهم يستعجلون به استهزاء وتكذيبا، فإذا نزل بهم آمنوا أي صدقوا بذلك العذاب، يقول: {آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} استهزاء وتكذيبا أنه غير نازل بكم ذلك، واللّه أعلم.

٥٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢) قيل: أشركوا في ألوهيته وربوبيته وعبادته غيره.

{ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ} لأنهم يخلدون فيه، يقال ذلك بعدما أدخلوا النار.

{هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} أي: لا تجزون إلا بما كنتم كسبتم في الدنيا

٥٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣) أي: يستخبرونك.

{أَحَقٌّ هُوَ} يحتمل هذا وجوهًا.

يحتمل قوله: {أَحَقٌّ هُوَ} العذاب الذي كان يوعدهم أنه ينزل بهم، على ما قاله عامة أهل التأويل.

ثم قال: {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} أي: قل: نعم وربي إنه لحق إنه نازل بكم.

{وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي: بفائتين عنه ولا سابقين له.

ويحتمل قوله: {أَحَقٌّ هُوَ} ما يدعوهم إليه من التوحيد؛ كقولهم لإبراهيم: (أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (٥٥) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ. . .) الآية؛ فعلى ذلك قولهم: {أَحَقٌّ هُوَ} ثم، أخبر أنه لحق بمَوله: {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي: غائبين فائتين عنه.

ويحتمل الآيات أو مُحَمَّد أو القرآن أحق هو؟ قل: إي وربي، قل: نعم إنه لحق؛ كقوله: {إِنَّ اللّه يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللّه أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} أخبر أن ما يأمرهم به ويدعوهم إليه ليس هو هزوا ولا لعبا، ولكنه حق أمر من اللّه تعالى؛ فعلى ذلك قوله: {أَحَقٌّ هُوَ}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ}: هذا الحرف يحتمل أن يكون من الشاكين منهم في ذلك طلبوا منه أنه حق ذلك أو لا، ومن المعاندين استعجال العذاب الذي كان يوعدهم رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - استهزاء به وتكذيبًا له، ومن المتبعين له والمطيعين التصديق له والإيمان به؛ كقوله: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا} كانوا فرقًا ثلاثة: فرقة قد آمنوا به، وفرقة قد شكوا فيه، وفرقة قد كذبوه.

٥٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٥٤) يخبر عنهم أنهم يفدون ويبذلون جميع ما في الأرض لو قدروا عليه عند نزول العذاب بهم لشدة العذاب، وإن كان الذي منعهم عن الإيمان هو حبهم الدنيا وبخلهم عليها وما فيها بقوله: {وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ}: الندامة لا تكون إلا سرا بالقلب، فكأنه قال: حققوا الندامة في قلوبهم على ما كان منهم من التكذيب بالآيات والعناد في ردها.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ} أي: أظهروا الندامة وهو مما يستعمل في الإظهار والإخفاء؛ كقوله: شعب: جمع، وشعب: فرق ونحوه، وبعد فإنه إذا أسر

 في نفسه لابد من أن يضع ذلك في آخر ويخبره بذلك، فذلك منه إظهار.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} يحتمل قوله: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} ما توجبه الحكمة؛ لأن الحكمة توجب تعذيب كل كافر نعمة، وكل قائل في اللّه ما لا يليق به، أو أن يكون تفسير قوله: {بِالْقِسْطِ} ما ذكر، وهم لا يظلمون.

ويحتمل قوله: {بِالْقِسْطِ} وما ذكر: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ. . .} الآية والقسط: هو العدل، وهم يومئذ عرفوا أنه كان يقضي بالعدل في الدنيا والآخرة، واللّه أعلم.

٥٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَلَا إِنَّ للّه مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: إن ما في السماوات والأرض كلهم عبيده وإماؤه وملكه، لا لمن تعبدون دونه من الأصنام والأوثان، فمن عند من يملك الدنيا والآخرة اطلبوا ذلك منه؛ لا من عند من لا يملك يبين سفههم في طلبهم الدنيا من عند من يعلمون أنه لا يملك ذلك، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللّه حَقٌّ}: في كل وعد ووعيد أنه كائن لا محالة عذابا أو رحمة.

{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} أي: لا ينتفعون بعلمهم، فنفى عنهم العلم وإن علموا؛ لما لم ينتفعوا به.

ويحتمل قوله: {لَا يَعْلَمُونَ} أي: لم يكتسبوا سبب العلم، وهو التأويل والنظر في آياته وحججه.

ويحتمل نفي العلم عنهم لما أعطوا أسباب العلم، فلم يعلموا، فإن كان على هذا فيكونون معذورين، وإن كان على الوجهين الأولين فلا عذر لهم في ذلك.

 وفي قوله: {أَلَا إِنَّ للّه مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} دلالة إثبات البعث من وجهين:

أحدهما: فيما يذكر من قدرته من خلق السماوات والأرض وما بينهما بغلظهما وكثافتهما وشدتهما وعظم خلقتهما، وأن تلك القدرة خارجة عن وسع البشر وتوهمهم، فمن قدر على ذلك فهو قادر على إحياء الخلق بعد فنائهم.

والثاني: يخبر عن حكمته من تعليق منافع الأرض بالسماء على بعد ما بينهما، والإفضال على الخلق بأنواع النعم التي تكبر الإحصاء، وأن كل شيء منها قد وضع مواضعها، فلا يحتمل من هذا وصفه في الحكمة يخلق شيئا عبثًا باطلا ولو كانوا للفناء لا حياة بعده كان يكون خارجًا عن الحكمة، فظهر أنه خلقهم لأمر أراد بهم، واللّه أعلم.

٥٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٥٦) أي: تعلمون أنه هو أحيا الأحياء، وهو الأموات أيضًا وهو كقوله: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فإذا عرفتم أنه هو يحيي الأحياء وهو يميت الأموات لا غير، فاعلموا أنه هو يبعثكم وإليه ترجعون؛ ألزمهم الحجة أولًا بالكائن، ثم أخبرهم عما يكون بالحجة التي ذكر.

٥٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) وهو هذا القرآن

قَالَ بَعْضُهُمْ: الموعظة: النهي كقوله: {يَعِظُكُمُ اللّه أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا}، قيل: ينهاكم أن تعودوا لمثله أبدا. وقال آخرون: الموعظة هي التي تدعوا إلى كل مرغوب وتزجر عن كل مرهوب وقَالَ بَعْضُهُمْ العظة هي التي تلين كل قلب قاس وتجلي كل قلب مظلم وفي القرآن جميع ما ذكرنا فيه النهي، وفيه الدعاء إلى كل مرغوب، والزجر عن كل مرهوب، وهو يلين القلوب القاسية ويجلي القلوب المظلمة إذا تأملوا فيه، ونظروا، وتفكروا تفكر المستشهد وطالب الحق.

وقيل: الموعظة هي التي تلين القلوب القاسية وتدمع العيون اليابسة، وتجلي الصدور

 المظلمة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ}: إن للدِّين آفات وداء تضر به وتتلفه كما لهذه الأبدان آفات وأمراض تعمل في إتلافها وإهلاكها، ثم جعلت لآفات الأبدان وأمراضها أدوية يشفى بها الأبدان المؤرقة المريضة؛ فعلى ذلك جعل هذا القرآن شفاء لهذا الدِّين ودواء يداوى به، فيذهب بآفات الدِّين وأمراضه؛ كما تعمل الأدوية في دفع آفات الأبدان وأمراضها؛ لذلك سماه موعظة وشفاء لما في الصدور، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} قيل: هدى من الضلالة، ورحمة من عذابه. أو يقول: {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} هدى أي: يدعوا إلى كل خير ويهدي إليه، ورحمة: لمن اتبعه، هو هدى ورحمة لمن اتبعه وتمسك به، وعمى وضلال لمن خالفه وترك اتباعه وهو ما ذكر {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى}،

وقال: {فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا}، أي: زاد للمؤمنين إيمانًا إلى إيمانهم، و {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا} أي: زاد للكافرين رجسًا إلى رجسهم، واللّه أعلم.

٥٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ بِفَضْلِ اللّه وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨)

قَالَ بَعْضُهُمْ: فضل اللّه ورحمته القرآن.

وقال قائلون: فضل اللّه القرآن، ورحمته الإيمان، وفيه أنه بإنزال القرآن متفضل إذ له ألا ينزل، وفيه أن أهل الفترة يؤاخذون في حال فترتهم، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} أي: فرحكم بما ذكر هو خير مما تجمعون من الدنيا.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {قُلْ بِفَضْلِ اللّه وَبِرَحْمَتِهِ}: إنما خاطب المؤمنين بقول: قل للمؤمنين بفضل اللّه: الإسلام، وبرحمته: يعني القرآن فبذلك يعني فبهذا الفضل والرحمة فليفرحوا يعني المؤمنين، هو خير مما يجمعون يعني مما يجمع الكفار من الأموال من الذهب والفضة وغيره.

٥٩

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللّه لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللّه أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّه تَفْتَرُونَ (٥٩)

يحتمل {مَا أَنْزَلَ اللّه لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ}، أضاف إنزاله إلى السماء، وإن كانت الأرزاق إنما تخرج من الأرض لما كانت أسبابها متعلقة بالسماء، يكون نضج الأنزال وينع الأعناب وإصلاح الأشياء كلها أعني أسباب الأرزاق من نحو المطر الذي به تنبت الأرض النبات وبه يخرج جميع أنواع الخارج مما يكون فيه غذاء البشر والدواب، ومن نحو الشمس التي ينضج بها الأنزال وبها تينع الأعناب وجميع الفواكه ونحوه أضاف ذلك إلى السماء لما ذكرنا.

وكذلك قوله: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} أي: أسباب ذلك في السماء؛ لا أن عين ذلك في السماء.

ويحتمل قوله: {مَا أَنْزَلَ اللّه لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ} أي: ما خلق اللّه لكم؛ وكذلك جميع ما يضاف إلى اللّه إنما يضاف إليه بحق الخلق أي خلقه منزلا؛ كقوله: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ}، ونحو ذلك، أي: خلق لكم مما ذكر، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا}:

قَالَ بَعْضُهُمْ: ما حرموا من البحيرة والسائبة والوصيلة وما ذكر في سورة الأنعام والمائدة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: ما حرموا الآلهة التي كانوا عبدوها، أي: جعلوها للأصنام وهو ما ذكر في الأنعام، وهو قوله: {وَجَعَلُوا للّه مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا. . .} الآية. نحو ما ذكرنا في الآية، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قُلْ آللّه أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّه تَفْتَرُونَ} أي: اللّه أذن لكم في تحريم ما حرمتم وتحليل ما أحللتم أم على اللّه تفترون: بل على اللّه تفترون، وذلك أن هذه السورة نزلت في محاجة أهل مكة وهم لم يكونوا مؤمنين بالرسل والكتب، وإنما يوصل إلى معرفة المحرم والمحلل بالرسل والكتب والخبر عن اللّه، وهم لم يكونوا

 مؤمنين بواحد مما ذكرنا، فكيف جعلتم منه حرامًا وحلالا وأنتم لا تؤمنون بما به يعرف الحلال من الحرام، فكيف حرمتم ما أحل لكم أو أحللتم ما حرم عليكم؟! يخبر عن سفههم وعنادهم وافترائهم على اللّه، فإذا اجترءوا أن يفتروا على اللّه فعلى غيره أجرأ، واللّه أعلم.

٦٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّه الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّه لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (٦٠) فإن قيل كيف أوعدوا بيوم القيامة وهم كانوا لا يؤمنون بالبعث؟! قيل: قد ألزمهم الحجة بكون البعث بما أظهر من كذبهم وافترائهم على اللّه في التحريم والتحليل، فذلك يظهر كذبهم بتكذيبهم البعث.

وبعد فإنه قد يوعد المرء بما لا يتيقن به ويتخوف عليه ويحذر وإن لم يحط علمه به، فكذلك هذا.

وبعد فإنه قد جعل في عقولهم ما يلزمهم الإيمان بالبعث والجزاء للأعمال؛ إذ ليس من الحكمة خلق الخلق للفناء خاصة.

ويحتمل وجهًا آخر: وهو أن يقول: وما ظن الذين يفترون على اللّه الكذب لو خرج الأمر حقا، وكان صدقًا على ما أخبر رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وقاله من البعث والجزاء لما اكتسبو!؟!

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ اللّه لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ}: هو ذو فضل على جميع الناس من جهة ما ساق إلى الكل من الرزق كافرهم ومؤمنهم وأنواع النعم، وما أخر عنهم العذاب إلى وقت، أو لما بعث إليهم الرسل والكتب من غير أن كان منهم إلى اللّه سابقة صنع يستوجبون به ذلك ومنه خصوص فضل على المؤمنين ليس ذلك على الكافرين، ولكن أكثرهم لا يشكرون لفضله وما أنعم عليهم.

٦١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ} قَالَ بَعْضُهُمْ من أهل التأويل: في شأن: في

أمرك وحالاتك وما تتلو منه من قرآن تبلغهم به الرسالة

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ} أي: في عبادة.

{وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ}: تبلغهم به الرسالة.

قوله تعالى: {وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا}: يخاطب نبيه تنبيهًا منه وإيقاطا والمراد منه هو وغيره، ألا ترى أنه قال: {وَلَا تَعْمَلُونَ} ومن عمل عمهم جميعًا في ذلك، يخبر أنكم في كل أمر يكون بينكم وبين ربكم، وفي كل أمر بينكم وبين الناس - فللّه لكم وعليكم شهود، أو كل عمل تعملون لكم وعليكم شهود ينبههم ويوقظهم ليكونوا على حذر أبدًا منتبهين متيقظين (إذ تُفِيضُونَ فِيه)

قَالَ بَعْضُهُمْ: {تُفِيضُونَ فِيه} تأخذون فيه وتخوضون فيه.

وقيل: تقولون فيه، وقيل: يكثرون فيه؛ وكله واحد.

ثم يحتمل قوله: (فِيه) في الحق، ويحتمل في الدِّين، ويحتمل في القرآن، ويحتمل في رسول اللّه؛ يقول: أنا شاهد فيما تخوضون وفيما تقولون في رسول اللّه، أو في دينه، أو فيما يتلو عليكم.

{وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ}: لا يعزب، أي: لا يغيب، عن ربك من مثقال ذرة في الأرض، ولا في السماء فيما لا أمر فيه ولا نهي ولا كلفة، فالذي فيه السؤال والأمر والنهي والكلفة أحرى وأولى ألا يغيب عنه شيء.

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ} هو تحذير وتخويف بتمثيل لا وعيد بتقرير وتصريح؛ لأن الوعيد على وجهين:

أحدهما: على التمثيل، والآخر على التقرير في عينه وتصريح.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} قيل: ما قل وما كثر إلا في كتاب، أي: إلا في اللوح المحفوظ مبين، ويحتمل إلا في كتاب مبين، أي: في الكتب المنزلة من السماء واللّه أعلم.

وقال أبو بكر الأصم في قوله: {إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ}: أي تنتشرون، وتأويله ولا تعملون من عمل تنتشرون فيه إلا كنا عليكم شهودًا.

٦٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللّه لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) قالت المعتزلة: دلت الآية على أن أصحاب الكبائر ليسوا بمؤمنين؛ لأنهم لو كانوا مؤمنين لكانوا أولياء اللّه، وإذا كانوا أولياء اللّه لكان لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فإذا كان لا شك أن على أصحاب الكبائر خوف وحزن أدل أنهم ليسوا بمؤمنين ولا لهم ولاية الإيمان لكن التأويل عندنا - واللّه أعلم -:، {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللّه لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}

 على ما يكون لأهل الدنيا في الدنيا من الخوف والحزن، إنما خوفهم وحزنهم لعاقبتهم، ويشبه ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون في الجنة، وهكذا يكون إذا دخلوا الجنة يأمنون عن جميع ما ينقصهم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {أَوليَآءَ اللّه} هم أهل التوحيد، لكن تلك البشارة وذلك الوعد لأهل التوحيد في الاعتقاد والوفاء جميعًا، لا لأهل الاعتقاد خاصة.

٦٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّه ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٤)

قَالَ بَعْضُهُمْ: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الرؤيا الصالحة؛ وعلى ذلك رويت الأخبار عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه سئل عن هذه الآية ففسر بالرؤيا الصالحة، فإن ثبت فهو الحق.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا تحتمل الرؤيا الصالحة؛ لأنه نسق البشرى في الآخرة على البشرى في الحياة الدنيا، ولا شك أنه لا يكون في الآخرة الرؤيا الصالحة، ولكن إن ثبت ما ذكرنا من الخبر؛ فهو ذلك.

ويشبه أن يكون البشارة التي ذكر هاهنا؛ نحو قوله: (فَبَشِّرْ عِبَادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ. . .) الآية،

وقوله: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ}،

وقوله: {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللّه عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وأمثال ذلك.

وقال بعض أهل التأويل: لهم البشرى في الحياة الدنيا تبشرهم الملائكة عند الموت وفي الآخرة الجنة. واللّه أعلم.

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّه}: يحتمل لا تبديل لكلمات اللّه من وعده ووعيده، وذلك مما لا تبديل له ولا تحويل.

ويحتمل {لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّه} القرآن لا تبديل لما فيه من الوعد والوعيد وغيره.

ويحتمل لا تبديل لما مضى من سنته في الأولين والآخرين من الهلاك والاستئصال بتكذيبهم الرسل والآيات؛ كقوله: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّه تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّه تَحْوِيلًا}

وقوله: {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ}.

ويحتمل قوله: {لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّه} أي: لا تبديل للبشرى التي ذكر لهَؤُلَاءِ الذين تقدم ذكرهم.

ويحتمل لا تبديل لحجج اللّه وبراهينه، أو لا تبديل لوعيد اللّه ووعده ونحوه، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أي: تلك البشرى هي الفوز العظيم، أو ذلك الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون هو الفوز العظيم؛ إذ لا خوف بعده.

وقَالَ بَعْضُهُمْ من أهل التأويل: لا خوف عليهم من النار، ولا هم يحزنون أن يخرجوا من الجنة أبدًا، والوجه فيه ما ذكرنا، واللّه أعلم.

٦٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ للّه جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٥) يحتمل قولهم: ما قالوا في اللّه بما لا يليق به من الولد والشريك؛ يقول: لا يحزنك ذلك {إِنَّ الْعِزَّةَ للّه جَمِيعًا}.

ويحتمل قوله: {وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} الذي قالوا في القرآن إنه سحر وإنه مفترى، أو قالوا في رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: إنه ساحر وإنه يفتري على اللّه كذبا. ويشبه أن يكون قوله: {وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} مكرهم الذي مكروا به، وكيدهم الذي كادوه، يؤيد ذلك قوله: {إِنَّ الْعِزَّةَ للّه جَمِيعًا} أي: إن العزة في المكر والكيد للّه؛ وهو كقوله: {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَللّه الْمَكْرُ جَمِيعًا} أي: مكره ينقض مكرهم ويمنعه، وكيده يفسخ كيدهم؛ فعلى ذلك قوله: {إِنَّ الْعِزَّةَ للّه جَمِيعًا} أي: ينقض جميع ما يمكرون بك ويكيدونك.

و {الْعِزَّةَ} القوة؛ يقول: إن القوة للّه ينصرك على أعدائك ويدفع عنك كيدهم ومكرهم الذي هموا بك.

{هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}: لقولهم الذي قالوه العليم بمصالحهم، أو السميع المجيب للدعاء العليم بما يكون منهم.

٦٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَلَا إِنَّ للّه مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} أي: تعلمون أن من في السماوات ومن في الأرض كلهم عبيده وإماؤه، فكيف قلتم: إن فلانا ولده وإن له شريكًا، ولا أحد منكم يتخذ من عبيده وإمائه ولدا ولا شريكًا؛ كقوله: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ. . .} الآية؛ فعلى ذلك هذا.

أو كيف يحتمل أن يتخذ ولدًا وله ملك ما في السماوات والأرض، وإنما يتخذ في الشاهد الولد لإحدى خصال ثلاث: إما للاستنصار على غيره، وإما لحاجة تمسه، وإمّا لوحشة أصابته، فهو غني له ملك السماوات والأرض لا حاجة تمسّه، فكيف نسبتم الولد إليه والشريك وما قالوا فيه مما لا يليق به؟! وقد ذكرنا هذا فيما تقدم.

أو يخبر عن غناه عما يأمرهم وينهاهم ويتعبدهم، أي: ليس يأمر وينهى ويخعبد بأنواع العبادات ويمتحنهم بأنواع المحن لحاجة له أو لمنفعة له في ذلك، ولكن لمنفعة لهم في ذلك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه شُرَكَاءَ} أي: ما يتبعون فيما يدعون من دون اللّه من الشركاء بالحجج والبراهين أو اليقين بكتاب، أو رسول، إنما يتبعون بالظن والحذر.

قوله تعالى: {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} أي: ما هم إلا يكذبون فيما يتبعون بدعائهم دون اللّه؛ لأنهم كانوا أهل شرك لم يكونوا أهل كتاب ولا آمنوا برسول، فهم قد عرفوا أنهم مفترون كاذبون

 في اتباعهم دون اللّه؛ إذ سبيل معرفة ذلك الكتاب أو الرسول ولم يكن لهم واحد من ذلك، واللّه أعلم.

٦٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٧) يبصر فيه، وقال في آية أخرى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ}، يعني: في الليل {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} يعني: في النهار، فهو في موضع الامتنان وتذكير النعم، ليتأدى بذلك شكر ما أنعم عليه.

وفيه أن الليل والنهار يجريان على التدبير والتقدير؛ لأنهما لو كانا يجريان على غير تدبير ولا تقدير لكانا لا يجريان على تقدير واحد ولا سنن واحد، ولكن يدخل فيهما الزيادة والنقصان ولا يجريان على تقدير واحد، وإن كان يدخل بعضه في بعض، فدل جريانهما على تقدير واحد أنهما يجريان على تدبير آخر فيهما؛ إذ لو كان على غير تدبير يجريان على الجزاف على الزيادة والنقصان وعلى القلة والكثرة.

وفيه أيضًا أن مدبرهما واحد؛ لأنه لو كان مدبرهما عددا لكان إذا غلب أحدهما الآخر دام غلبته، ولا يصير الغالب مغلوبًا والمغلوب غالبًا، فإذا صار ذلك ما ذكرنا دل أن مدبرهما واحد لا عدد.

وفيه دلالة البعث بعد الموت؛ لأن كل واحد منهما إذا جاء أتلف صاحبه تلفا حتى لا يبقى له أثر ولا شيء منه، ثم يكون مثله حتى لا يختلف الذاهب والحادث ولا الأول من الثاني، فدل أن الذي قدر على إنشاء ليل قد ذهب أثره وأصله لقادر على البعث، ومن قدر على إحداث نهار وقد فني وهلك لقادر على إحداث ما ذكرنا من الموت.

وفيه أن الشيء إذا كان وجوبه لشيئين لم يجب إذا عدم أحدهما؛ لأنه قال: {وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} وإنَّمَا يبصر بنور البصر ونور النهار جميعًا؛ لأنه إذا فات أحد النورين لم يبصر شيء من النور نور البصر أو نور النهار، دل أن الحكم إذا وجب بشرطين لا يوجد إلا باجتماعهما جميعًا، والميل يستر وجوه الأشياء لا أنه لا يرى نفسه، والنهار يكشف وجوه الأشياء، وفي لليل فيما يستر وجوه الأشياء دلالة أن الحكم إذا كان وجوبه بشرطين يجوز منعه بعلة واحدة؛ لأنه يستر نور النهار ونور البصر جميعًا.

 وفي قوله: {جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} وجوه من الدلالة:

أحدها: ما ذكرنا من تذكير النعم يدعوهم به إلى الشكران وينهاهم عن الكفران، وفيه تذكير القدرة له حيث أنشأ هذا وأحدثه وأتلف الآخر، فمن قدر على هذا لا يعجزه شيء، وفيه دليل السلطان حيث يأخذهم الليل ويستر عليهم الأشياء شاءوا أو أبوا؛ وكذلك النهار يأتيهم حتى يكشف وجوه الأشياء ويجلي شاءوا أو أبوا، وفيه دليل التدبير والعلم لما ذكرنا من اتساق جريانهما على سنن واحد ومجرى واحد.

وفيه دلالة وحدانية منشئهما بين هاهنا فيما جعل الليل حيث قال: {لِتَسْكُنُوا فِيهِ} أخبر أنه جعل الليل للسكون والراحة، فدل ذكر السكون في الليل على أنه جعل النهار للسعي وطلب العيش، ألا ترى أنه قال في النهار: {مُبْصِرًا} أي: يبصرون فيه ما يتعيشون، وهو ما ذكر في آية أخرى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ. . .} الآية.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}: ولم يقل: يبصرون فظاهر ما سبق من الذكر يجب أن يقال: لقوم يبصرون؛ لأنه قال: {وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا}، لكن يحتمل قوله: {يَسْمَعُونَ} أي: يعقلون؛ كقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ}.

ويحتمل قوله: {يَسْمَعُونَ} أما ذكر من الآيات من أول السورة إلى هذه المواضع آيات لقوم يسمعون: ينتفعون بسماعهم أو يسمعون، أي: يجيبون كقوله: سمع اللّه لمن حمده: أي: أجاب اللّه.

٦٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قَالُوا اتَّخَذَ اللّه وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: أرادوا بقولهم: اتخذ اللّه ولدا حقيقة الولد؛ كقوله: {وَيَجْعَلُونَ للّه الْبَنَاتِ} [. . . .].

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ. . .} كذا، {وَقَالَتِ النَّصَارَى. . .} كذا فنزه - عَزَّ وَجَلَّ - نفسه عما قالوا بقوله: {سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ} أنه لم يلد أحدًا ولا ولد هو من أحد؛ ولهذا قال: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ}؛ إذ في الشاهد لا يخلو إما أن يكون ولد من آخر أو والد، والخلق كله لا يخلو من هذا، فأخبر أنه لم يلد هو أحد ولا ولد من أحد.

وقوله: {سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} تأويله - واللّه أعلم - أن في الشاهد من اتخذ ولدا إنما يتخذ لأحد وجوه ثلاثة: إما لحاجة تمسه، أو لشهوة تغلبه، أو لما يستنصر به على آخر ممن يخافه، فإذا كان له ملك السماوات والأرض وملك ما فيهما كلهم عبيده وإماؤه، فلا حاجة تقع له إلى الولد؛ إذ هو الغني وله ملك ما فيِ السماوات والأرض ومن هذا وصفه فلا يحتاج إلى الولد، ولأنه لا أحد في الشاهد يحتمل طبعه اتخاذ الولد من عبيده وإمائه، فإذا كان للّه سبحانه الخلائق كلهم عبيده وإماؤه كيف احتمل اتخاذ الولد منهم لو جاز وقد بينا إحالة ذلك وفساده.

ولأن الولد يكون من شكل الوالد ومن جنسه كالشريك يكون من شكل الشريك ومن جنسه فكان في نفي الشريك نفي الولد؛ لأن معناهما واحد وكل ذي شكل له ضد ومن له ضد أو شكل فإنه لا ربوبية له ولا ألوهية.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قولهم: اتخذ اللّه ولدا، لم يريدوا حقيقة الولد، ولكن أرادوا منزلة الولد وكرامته، فهو -أيضًا- منفي عنه؛ لأن من لا يحتمل الحقيقة - أعني: حقيقة

 الولد - امتنع عن منزلته وكرامته؛ لأن الحقيقة انتفت لعيب يدخل فيه، فإذا ثبت له منزلة تلك الحقيقة والكرامة دخل فيه عيب الحقيقة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: [{إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا}] قيل ما عندكم من حجة على ما تقولون إن له ولدا؛ لأنهم كانوا أهل تقليد لآبائهم وأسلافهم، وكانوا لا يؤمنون بالرسل والكتب والحجج، وإنما يستفاد ذلك من جهة الرسالة والكتب وهم كانوا ينكرون ذلك.

٦٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَتَقُولُونَ عَلَى اللّه مَا لَا تَعْلَمُونَ} أي: تقولون على اللّه أنه اتخذ ما تعلمون أنه لم يتخذ (قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّه الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (٦٩) هو ما ذكرنا أنهم علموا أنه لم يتخذ ولدًا، لكن قالوا ذلك افتراء على اللّه {لَا يُفْلِحُونَ} في الآخرة؛ لما طمعوا في الدنيا بعبادتهم دون اللّه الأصنام بقولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى}.

٧٠

وقوله: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّه}، لا يفلحون، أي: لا يظفرون بما طمعوا في الآخرة (مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠) أي ذلك لهم متاع في الدنيا، ليس لهم متاع في الآخرة.

{ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ}: يخاطب رسوله بذلك لم يخاطبهم إلينا مرجعكم، فهو - واللّه أعلم - لما اشتد على رسول اللّه ما افتروا به على اللّه يقول: إلينا مرجعهم فنجزيهم جزاء افترائهم. والثاني: يقول: إلينا مرجعهم فنذيقهم العذاب الشديد، لا ما طمعوا من الشفاعة عندنا والزلفى، واللّه أعلم.

٧١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ} أي: خبره وحديثه، {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّه}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: إن كان كبر عليكم طول مقامي ومكثي فيكم ودعائي إياكم إلى عبادة اللّه، والطاعة له، وتذكيري إياكم بآياته.

قَالَ بَعْضُهُمْ: وتذكيري بعذا به بترككم إجابتي ودعائي.

ويحتمل قوله: {إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي} بما ادعى من الرسالة، {وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّه} أي بحجج اللّه على ما ادعيت من الرسالة.

وفي قوله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ} وجوه:

أحدها: اتل منابذة نوح قومه وما أرادوا به من الكيد والمكر به.

والثاني: اذكر عواقب قوم نوح، وما حل بهم من سوء معاملتهم رسولهم.

والثالث: اذكر لهولاء عواقب متبعي قومه ومخالفيه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ}

قَالَ بَعْضُهُمْ: أي اجتمعوا أنتم وشركاؤكم ثم كيدوني، ثم لا يكن أمركم عليكم غمة، أي: اجعلوا ما تسرون من الكيد والمكر بي ظاهرًا غير ملتبس ولا مشبه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} أي: أعدوا أمركم وادعوا شركاءكم؛ وكذلك روي في حرف أبي: (فاجمعوا أمركم وادعوا شركاءكم).

{ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ} أي: اقضوا ما أنتم قاضون.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} أي؛ لا يكبر عليكم أمركم.

وقال الكسائي: هو من التغطية واللبس، أي: لا تغطوه ولا تلبسوه، اجعلوا كلمتكم ظاهرة واحدة.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: " لا يكن أمركم اغتماما عليكم "، أي: فرجوا عن أنفسكم؛ كقوله: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّه. . .} الآية.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ} أي: اعملوا بي ما تريدون ولا تنظرون؛ وهو كقوله: {فَاقضِ مَا أَنتَ قَاضٍ}.

وقال الكسائي: هو من الإنهاء والإبلاع؛ وهو كقوله: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. . .} الآية، {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ} أي: أنهينا إليه وأبلغنا إليه.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: إن شئت جعلتها ظلمة فلا يبصرون أمرهم يعني غمَّة، وإن شئت جعلتها شكا واشتقاق الغمة، من غم يغم غما أي غطى يغطي، تقول: غممت رأسه أي غطيته، {ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ} أي: افعلوا بي ما أردتم وفي قول نوح لقومه: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ. . .} إلى قوله: {وَلَا تُنْظِرُونِ}، وقول هود: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ} وقول رسول اللّه: {قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ} دلالة إثبات رسالتهم؛ لأنهم قالوا ذلك لقومهم وهم بين أظهرهم، ولم يكن معهم أنصار ولا أعوان؛ دل أنهم إنما قالوا ذلك اعتمادًا على اللّه واتكالا بمعونته ونصرته إياهم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: {ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ} أي: فافرغوا إليَّ يقال " قضى " فرغ، وهو قول أبي بكر الأصم.

 

وقَالَ بَعْضُهُمْ: ثم اقضوا إلي أي امضوا إلي كقوله: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ}، و {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ}، ونحوه.

٧٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللّه وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٧٢) التولي اسم لأمرين: اسم للإعراض والإدبار؛ كقوله: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ}، واسم للإقبال والقبول أيضًا؛ كقوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللّه وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا. . .} الآية، ونحوه، فهاهنا يحتمل الأمرين جميعًا، أي: فإن توليتم أي أقبلتم وقبلتم ما أعرضه عليكم وأدعوكم إليه، {فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ} أي: ما أجري إلا على اللّه. وإن كان في الإعراض فكأنه يقول: كيف أعرضتم عن قبوله، ولم أسألكم على ذلك أجرًا فيكون لكم عذر في الإعراض والرد؟! كقوله: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا} الآية، أي: لم أسألكم على ما أعرضه عليكم وأدعوكم إليه غرما حتى يثقل عليكم ذلك الغرم، فيمنعكم ثقل الغرم عن الإجابة، ففي هذه الآية وغيرها دلالة منع أخذ الأجر على تعليم القرآن والعلم؛ لأنه لو جاز أخذ الأجر على ذلك لكان لهم عذر ألا يبذلوا ذلك ولا يتعلموا شيئًا من ذلك، وفي ذلك هدم شرائع اللّه وإسقاطها، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} أي: مسلمًا نفسي إلى اللّه، أي: سالمًا، لا أجعل لأحد سواه فيها حقا ولا حظا، أو أمرت أن أكون من المخلصين للّه، والخاضعين له؛ هو يحتمل ذلك كله.

٧٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) يعني: نوحًا كذبه قومه فيما ادعى من الرسالة، أو ما آتاهم من الآيات، أو ما أوعدهم من العذاب بتكذيبهم إياه.

{فَنَجَّيْنَاهُ} يعني نوحًا، {وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ} أي: من ركب معه الفلك من المؤمنين. {وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ} يحتمل خلائف خلفاء في الأرض وسكانًا يخلف بعضهم بعضا، ويحتمل جعلناهم خلائف أي خلف قوم أهلكوا واستؤصلوا بالتكذيب.

{وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا}: يحتمل الآيات الحجج والبراهين التي أقامها على ما ادعى من الرسالة.

ويحتمل قوله: {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} العذاب الذي أوعدهم بتكذيبهم إياه فيما وعد.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ}: كان أنذر الفريقين جميعًا

 المؤمن والكافر جميعًا؛ كقوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ}، فإذا كان ما ذكرنا فيكون تأويله: فانظر كيف كان عاقبة من أجاب ومن لم يجب: عاقبة من أجاب الثواب، وعاقبة من لم يجب العذاب.

ويحتمل المنذرين الذين لم يقبلوا الإنذار ولم يجيبوا، أي: انظر كيف كان عاقبتهم بالهلاك والاستئصال، ويكون تأويل قوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ}، أي: إنما يقبل الإنذار من اثبع الذكر، أو إنما ينتفع بالإنذار من اتبع الذكر، أو أما من لم يتبع الذكر لم ينتفع، واللّه أعلم.

٧٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (٧٤) أي: من بعد نوح رسلا إلى قومهم، أي: بعثنا إلى كل قوم رسولا، لا أنه بعث الرسل جملة إلى قومهم، ولكن واحدًا على أئر واحد.

{فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ}: يحتمل البينات الحجج والبراهين التي أقاموها على ما ادعوا من الرسالة والنبوة.

ويحتمل البينات بيان ما عليهم أن يأتوا ويتقوا.

ويحتمل البينات بما أخبروهم وأنبئوا قومهم بالعذاب أنه نازل بهم في الدنيا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ}

قَالَ بَعْضُهُمْ: ما كان كفار مكة ليؤمنوا وليصدقوا بالآيات والبيانات كما لبم يصدق به أوائلهم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} أي: قبل بعث الرسل، ففيه دلالة أن أهل الفترة يؤاخذون بالتكذيب في حال الفترة.

ويحتمل قوله: {بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} أي: من قبل إتيان البينات، أي: ما كانوا ليؤمنوا بعدما جاءوا بالبينات بما كذبوا به من قبل مجيء البينات.

{كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ} أي: هكذا نطبع على قلوب أهل مكة كما طبعنا على قلوب أوائلهم؛ إذ علم أنهم لا يقبلون الآيات ولا يؤمنون بها، والاعتداء هو الظلم مع العناد والمجاوزة عن الحد الذي جعل.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} هو يخرج على وجهين؛

 أحدهما: ما كانوا ليؤمنوا بالبينات إذا جاءتهم البينات على السؤال، وهكذا عادتهم أنهم لا يؤمنون بالآيات إذا أتتهم على السؤال.

والثاني: ما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا على علم منهم أنها آيات وأنه رسول؛ واللّه أعلم.

٧٥

وقوله: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ} أي: من بعد من ذكرنا من الرسل.

{مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ}: بعثهما إلى الملأ وغير الملأ.

{بِآيَاتِنَا}: يحتمل الوجوه التي ذكرنا.

{فَاسْتَكْبَرُوا}: هذا يدل أنهم قد عرفوا أن ما جاءهم الرسول من الآيات أنها آيات، لكنهم عاندوا وكابروا ولم يخضعوا في قبولها وكانوا قومًا مجرمين.

٧٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦)

قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا} أي: الحجج والآيات من عندنا، {قَالُوا إنَّ هَذَا} يعنون الحجج والبراهين التي جاء بها موسى، {لَسِحْرٌ مُبِينٌ} يسمون الحجج والبراهين سحرًا لما أن السحر عندهم باطل، لذلك قالوا للحجج إنها سحر، وذلك تمويه منهم يموهون على الناس لئلا يظهر الحق عندهم فيتبعونه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحق هو الإسلام والدِّين؛ كقوله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّه الْإِسْلَامُ} {قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ} يعنون الحجج والآيات التي جاءهم بها للدِّين لأنه جاءهم بالدِّين، وجاءهم أيضًا بحجج الدِّين وآياته، قالوا: الحجج: الدِّين، والإسلام: سحر، ففي التأويلين جميعًا سموا الحجج سحرًا.

وقوله: {جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا} أي: بأمرنا، وكذلك قوله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّه الْإِسْلَامُ} أي: الإسلام هو الدِّين الذي أمر اللّه به، لا أنه يفهم

 للـ (عند) مكان ينتقل من مكان إلى مكان، ولكن معنى الـ (عند) معنى الأمر، وعلى هذا يخرج قوله: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} يعني الملائكة {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} أي: إن الذين بأمر ربك يعبدونه لا يستكبرون عن عبادته لما أنه لم يفهم من مجيء الحق من عنده مكان، فعلى ذلك لا يجوز أن يفهم من قوله: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} المكان أو قرب المكان منه، ولكن التأويل ما ذكرنا أن المفهوم من عند اللّه أمره، واللّه أعلم.

٧٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧) والحق ما ذكرنا.

{وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ}: الإفلاح هو الظفر بالحاجة، يقول: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} أي: لا يظفر الساحر بالحاجة ولا يغلب؛ لأن السحر باطل ولا يغلب الباطل الحق، بل الحق هو الغالب. والسحر هو المغلوب على ما غلب الحق الذي جاء به موسى السحر الذي جاء سحرة فرعون.

أو يقول: لا يفلح الساحرون في الآخرة بسحرهم في الدنيا.

ويحتمل قوله: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} بسحرهم في حال سحرهم؛ كقوله: {لَا يُفلِحُ الظَّالِمُونَ}، و {لَا يُفلِحُ الْكَافِرُونَ} أي: لا يفلحون بظلمهم في حال ظلمهم، وأما إذا تركوا الظلم فقد أفلحوا، فعلى ذلك السحرة إذا تركوا السحر فقد أفلحوا، واللّه أعلم.

٧٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (٧٨) قيل: لتصرفنا وتصدنا.

قَالَ الْقُتَبِيُّ: لفت فلانا عن كذا إذا صرفته، والالتفات منه وهو الانصراف.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: {لِتَلْفِتَنَا} أي: تردنا وتصرفنا على ما ذكر الْقُتَبِيّ، قال: يقال: لفته يلفته لفتا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}: من عبادة الأصنام والأوثان.

ويحتمل ما وجدنا عليه آباءنا من عبادة فرعون والطاعة له.

{وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ} قال عامة أهل التأويل: الكبرياء الملك والسلطان

 والشرف، أي: الملك الذي كان لفرعون والسلطان يكون لكما باتباع الناس لكما؛ لأن كل متبوع مطاع معظم مشرف ويحتمل {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ} أي: الألوهية التي كان يدعى فرعون لنفسه لكما، لأن عندهم أن كل من أطيع واتبع فقد عبد ونصب إلها.

{وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} أي: بمصدقين فيما تدعوننا إليه أو ما تدعون من الرسالة.

٧٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) هذا من فرعون ينقض ما ادعى من الألوهية؛ حيث أظهر الحاجة إلى غيره ولا يجوز أن يكون المحتاج إلهًا.

٨١

فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّه سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّه لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) أي: سيبطل عمل السحر الذي قصدوا به، أيْ يجعله مغلوبًا؛ كقوله: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} أي: لا يغلب الساحرون ولا يظفرون بالحاجة.

{إِنَّ اللّه لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} أي؛ لا يصلح ما أفسدوا من أعمالهم فيجعلهم صالحين.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ اللّه لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ}: هو ما ذكرنا، أي: لا يجعلهم بأعمالهم الفاسدة صالحين، أو لا يجعل أعمالهم الفاسدة صالحة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {لَا يصلِحُ} أي: لا يرضى بعمل المفسدين.

٨٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُحِقُّ اللّه الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢) ذكر أن يحق الحق والحق حق وإن لم يحق الحق، وكذلك ذكر في الباطل ليبطل الباطل والباطل باطل وإن لم يبطل، ولكن يحتمل قوله: {وَيُحِقُّ اللّه الْحَقَّ} ويبطل الباطل، أي: ليجعل الحق في الابتداء حقا فيصير حقا، ويجعل الباطل في الابتداء باطلا، فيكون باطلا أي: بإبطاله الباطل يكون باطلا وبتحقيقه الحق يكون حقا وهو ما يقال: هداه فاهتدى، وأضله فضل، أي: بهدايته اهتدى وبضلاله ضل؛ فعلى ذلك بإبطاله الباطل بطل وبتحقيقه الحق حق، واللّه أعلم.

وقوله: {بِكَلِمَاتِهِ} يحتمل وجوهًا:

 يحتمل يحق الحق بكلماته أي: برسله؛ إذ بالرسل يظهر الحق وبهم يظهر بطلان الباطل وهم حجج اللّه في الأرض وبالحجج يظهر الحق، وكذلك الباطل.

ويحتمل ما ذكر أهل التأويل بكلماته: آياته التي أنزل عليه، بها ظهر حقيقة ما أتى به موسى وبها ظهر بطلان ما أتى به السحرة من السحر.

ويحتمل كلماته، ما وعد موسى قومه من العذاب الذي وعد من الظفر بأعدائهم والنصر عليهم وغير ذلك ما وعد من النعمة لهم؛ كقوله: {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّه عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ}.

٨٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣)

يحتمل قوله: {مِن قَومِهِ} من قوم موسى لما قيل: إن موسى كان من أولاد إسرائيل، فهم من ذريته من هذا الوجه، يقال: أهل بيت فلان وإن لم يكن البيت له.

ويحتمل قوله: {إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} من قوم فرعون فهو نسب إليه لما ذكرنا.

وقال أهل التأويل: أراد بالذرية القليل منهم، أي: ما آمن منهم إلا القليل، ولكن لا ندري ذلك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ}.

يحتمل: ما آمن من آمن من قومه إلا على خوف من فرعون وملئه أي: آمنوا، أي: وإن خافوا من فرعون وملئه.

ويحتمل ما ترك من قومه الإيمان بموسى من ترك إلا على خوف من فرعون أن يفتنهم أي: يقتلهم ويعذبهم، ففيه دلالة أن الخوف لا يعذر المرء في ترك الإيمان حقيقة، وإن كان يعذر في ترك إظهاره؛ لأن الإيمان هو التصديق والتصديق يكون بالقلب ولا أحد من الخلائق يطلع على ذلك؛ لذلك لم يعذر في ترك إتيانه لأنه يقدر على إسراره، ألا ترى إلى قوله: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ}، كان مؤمنًا فيما بينه وبين ربه وإن لم يظهر.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ} وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ} أي: قهر وغلب على أهل الأرض وإنه لمن المسرفين.

٨٤

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّه فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فيه دلالة أن الإيمان والإسلام واحد في الحقيقة؛ لأنه بدأ بالإيمان بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّه} وختم بالإسلام بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} دل أنهما واحد هو اعتقاد ترك نضييع كل حق، والإسلام اعتقاد تسليم كل حق وترك تضييعه، واللّه أعلم. والإسلام هو جعل كلية الأشياء للّه سالمة، والإيمان هو التصديق بكلية الأشياء فيما فيها من الشهادة للّه بالربوبية له والألوهية.

وقوله: {فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} يحتمل هذا وجهين:

يحتمل: أن يكون قال ذلك لما خافوا مواعيد فرعون وعقوباته؛ كقوله للسحرة لما آمنوا: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ. . .} الآية، فقال عند ذلك: {فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا} في دفع ذلك عنكم،

٨٥

فقالوا: (عَلَى اللّه تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥)

قوله: {لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} يحتمل ما قاله على خوف من فرعون وملئه أن يفتنهم ما قيل أي: يقتلهم ويعذبهم، واللّه أعلم.

هذا يخرج على وجهين:

أحدهما: أي لا تجعل لهم علينا الظفر والنصر، فيظنون أنهم على هدى وعلى حق ونحن على ضلال وباطل.

والثاني: لا تجعلنا تحت أيدي الظلمة فيعذبونا؛ فيكون ذلك فتنة لنا ومحنة على ما فعل فرعون بالسحرة لما آمنوا.

٨٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (٨٦) فيه أن قوله: الظالمين والكافرين واحد، واللّه أعلم.

٨٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً. . .} الآية يحتمل وجهين:

أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً

أحدهما: يحتمل قوله: {أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا} أي: اتخذا لقومكما مساجد يصلون فيها، {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} أي: اجعلوا في بيوتكم التي اتخذتم مساجد قبلة؛ فيكون في قوله:، {أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا} الأمر باتخاذ المساجد، ويكون في قوله: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} الأمر باتخاذ القبلة في المساجد التي أمر ببنيانها.

والثاني: قوله: {أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا}، أي: اتخذا لقومكما بمصر مساجد على ما ذكرنا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} أي: اجعلوا في بيوتكم التي بنيتم لأنفسكم قبلة تحّوجهون إليها، ويكون فيه دلالة أن نصب الجماعة واتخاذ المساجد والقبلة مثوارثة مسنونه ليست ببديعة لنا وفي شريعتنا خاصة، ويؤيد ما ذكرنا أن فيه الأمر باتخاذ المساجد.

وقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} دل الأمر بإقامة الصلاة على أن الأمر ببناء البيوت أمر باتخاذ المساجد واتخاذ القبلة.

فَإِنْ قِيلَ: هذا في الظاهر أمر باتخاذ المساجد، والآية التي ذكر فيها اتخاذ المساجد تخرج مخرج الإباحة لنا، وهو قوله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّه أَنْ تُرْفَعَ} هو في الظاهر إباحة.

قيل: هو أمر في الحقيقة، وإن كان في الظاهر إباحة، ألا ترى أنه قال: {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا. . .} الآية، ولا شك أن ذكر اسمه والتسبيح له أمر؛ فدل أنه ما ذكرنا، واللّه أعلم.

وأما أهل التأويل فإنهم قالوا: إنهم كانوا يخافون فرعون وملأه، فأمروا أن يجعلوا في بيوتهم مساجد مستقبلة الكعبة يصلون فيها سرا خوفًا من فرعون، هذا يحتمل إذا كان قبل هلاك فرعون وقبل أن يستولوا على مصر، وإذا كان بعد هلاكه وبعدما استولوا وملكوا على مصر وأهله فالأمر فيه ما ذكرنا؛ أمر باتخاذ المساجد ونصب الجماعات فيها وإقامة الصلاة فيها.

 وقَالَ بَعْضُهُمْ من أهل التأويل: وجهوا بيوتكم ومساجدكم نحو القبلة لكن هذا بعيد؛ لأنه لا يكون بيتًا إلا ويكون جهة من جهاته إلى القبلة، فلا معنى له. والوجه فيه ما ذكرنا.

ويحتمل الأمر ببناء البيوت لقومهما بمصر وجعل البيوت قبلة وجهين:

أحدهما: الأمر بالانفصال من فرعون وقومه حتى إذا أرادوا الخروج من عندهم قدروا على ذلك ولا يكون المرور عليهم وكان ذلك الانفصال إنما كان من جهة القبلة.

والثاني: ما ذكرنا أرادوا أن يعتزلوهم حتى يتهيأ لهم الصلاة فيها، وكان لا يتهيأ لهم في بيوت فرعون.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} يحتمل البشارة في الآخرة بالجنة وأنواع النعيم ويحتمل أن يبشرهم بالملك في الدنيا والظفر على فرعون وأنواع النعم، بعدما أصابوا الشدائد من فرعون؛ كقوله: {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّه عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ}.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: قوله: {أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا} تهيآ من هيأ، أي: هيئا لهم موضعًا؛ كقوله: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} أي: هيأنا لهم مهيأ صدق.

٨٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (٨٨) ويحتمل قوله {زِينَةً}: من أنواع ما آتاهم من الأنزال والنبات؛ كقوله: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ}، ونحوه. ويحتمل الزينة التي كانوا يتزينون بها من المركب والملبس، وما يتحلون بها من أنواع الحلي وأموال كثيرة سوى ذلك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ}: قالت المعتزلة تأويل قوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ} أي: آتاهم لئلا يضلوا الناس عن سبيله، ولكن أضلوهم عن سبيله وقالوا هذا كما يقال ألم أقل كذا لأجل كذا، ولكن فعلت ونحوه من الكلام، ولكن عندنا هو ما ذكر: آتاهم الأموال وما ذكر ليضلوا عن سبيله؛ لأنه إذا علم منهم أنهم يضلون الناس عن سبيله آتاهم ما آتاهم ليضلوا وهو كما ذكرنا في قوله: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا}؛

وقوله: {نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ. . .} الآية، وأمثاله فكذا هذا واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} يحتمل هذا وجهين: يحتمل: أي: اطمس على أموالهم، واجعل في قلوبهم قساوة وغلظة تنفر الأتباع ومن

 يقلدهم عن اتباعهم وتقليدهم، فيكون ذلك أهون علينا في استنقاذ الأتباع منهم وأدعى لهم إلى الإيمان أعني الأتباع ومن يقلدهم، ويكون ذلك سببًا لإبعادهم عن اتباعهم وتقليدهم إياهم؛ هذا وجه.

والثاني: قوله: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} أي: اجعل ذلك آية تضطرهم إلى الإيمان، فإنهم لم يؤمنوا بالآيات التي أرسلتها عليهم من الطوفان والجراد وما ذكر من البلايا، فيكون قوله: {فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} هذا من طمس الأموال وقساوة القلوب وشدتها، واللّه أعلم.

وقال بعض أهل التأويل: واشدد على قلوبهم واطبعها فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم وهو الغرق فعند ذلك يؤمنون، وأما بهذه الآيات فلا.

هذا يحتمل إذا كان اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - أخبر موسى أنهم لا يؤمنون فيسع له هذا الدعاء، وأما قبل أن يخبره بذلك فلا يسع له أن يدعو بهذا، وهو إنما أرسله إليهم ليدعوهم إلى الإيمان والطمس.

قال أَبُو عَوْسَجَةَ: هو الذهاب بها، أي: اذهب بها.

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: قوله: {رَبَّنَا اطْمِسْ} أي: أهلكها، وهو من قولك: طمس الطريق إذا عفا ودرس.

وقال غيره: الطمس هو المسخ؛ كقوله: {لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} أي: مسخناهم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الطمس هو التغيير عن جوهرها، دعا موسى بهذا الدعاء بالأمر لما أيس من إيمانهم؛ وهو كقول نوح: (رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ) الآية، عند الإياس منهم فعلى ذلك موسى، واللّه أعلم.

٨٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (٨٩)

قَالَ بَعْضُهُمْ: إن موسى كان يدعو وهارون يؤمن على دعائه، فقال اللّه - عَزَّ وَجَلَّ -: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} سمى كليهما

 دعاء، ولهذا قال مُحَمَّد بن الحسن - رحمه اللّه - في بعض كتبه: إن الإمام يدعو في القنوت في الوتر والقوم يؤمنون.

وقوله تعالى: {فَاسْتَقِيمَا} على الرسالة وما أمرتكما به، {وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}؛ وهو كقوله لمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}؛ وكقوله: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ}، ونحوه، وإن كان العلم محيطا أن الأنبياء - صلوات اللّه عليهم - لا يتبعون سبيل أُولَئِكَ ولا يتبعون أهواءهم لما عصمهم - عَزَّ وَجَلَّ - ولكن ذكر هذا - واللّه أعلم - ليعلم أن العصمة لا تزيل النهي والأمر بل تزيد حظرًا ونهيا، واللّه أعلم.

٩٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ}: هذا ظاهر.

وفي قوله: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ} دلالة خلق أفعال العباد؛ لأنه أضاف إلى نفسه أنه جاوز بهم، وبنو إسرائيل هم الذين تجاوزوا، دل ذلك أنه خالق فعلهم.

وأما قوله: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ} أي: حتى إذا غرق؛ لأنه ذكر في بعض القصة أن فرعون لما انتهى إلى ساحل البحر، فرأى البحر منفرجا طرقًا، فقال: إنما انفرج البحر لي، فلما دخل غرق فعند ذلك قال غريقا: {آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ثم إيمانه لم يقبل في ذلك الوقت لوجهين:

أحدهما: لما يحتمل أن يكون إيمانه عند رؤية البأس وخوف الهلاك، فهو إيمان دفع البأس لا إيمان حقيقة، وهو على ما أخبر عن إيمان الكفرة في الآخرة لما عاينوا العذاب؛

 كقولهم: {رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ}؛ وكقوله تعالى: (رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ)، وكقولهم: {نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}، وأمثاله {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ}؛ فما عاينوا هم من العذاب أكبر وأشد مما عاين فرعون، ثم أخبر أنهم لو ردوا لعادوا إلى ما كانوا يعملون لكنهم قالوا ذلك قول دفع، فعلى ذلك إيمان فرعون إيمان دفع البأس عن نفسه لا إيمان حقيقة واختيار.

والثاني: أن الإيمان والإسلام هو تسليم النفس إلى اللّه، فإذا آمن في وقت خرجت نفسه من يده لم يصر مسلمًا نفسه إلى اللّه؛ إذ نفسه ليست في يده ولذلك لم يقبل الإيمان في ذلك الوقت وقت الإشراف على الهلاك.

ويحتمل وجهًا آخر: وهو أن الإيمان باللّه لا يكون إلا بالاستدلال بالشاهد على الغائب، ولا يمكن الاستدلال بالشاهد على الغائب في ذلك الوقت؛ إذ لا يكون ذلك إلا بالنظر والتفكر وفي ذلك الوقت لا يمكن النظر والتفكر؛ لذلك لم يكن إيمان حقيقة، واللّه أعلم.

٩٢

وأما قوله: (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (٩٢) قيل فيه بوجوه:

قيل: قوله: {نُنَجِّيكَ} من النجوة، أي: نلقيك على النجوة وهو مكان الارتفاع والإشراف؛ ليراه كل أحد أنه هلك ليظهر لهم أنه لم يكن إلها على ما ادعى لعنه اللّه، وأما سائر أبدان قومه لم تلق على النجوة ولكن بقيت في البحر.

والثاني: قيل: {نُنَجِّيكَ} أي: نخرجك من البحر ولا نتركك فيه لتكون لمن خلفك آية.

والثالث: ننجيك ببدنك ولا نتبع بدنك روحك؛ لأنه ذكر في القصة أنهم لما غرقوا هم وأغرق، أخذ إلى النار؛ كقوله: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} أخبر أنه لم يهو جسده بروحه إلى النار، ولكن أخرج بدنه وهوت روحه إلى النار مع سائر قومه - واللّه أعلم - ليرى جسده ويظهر كذبه ولا يشتبه أمره عليهم.

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} يحتمل وجهين:

يحتمل ليكون هلاكك آية، فلا يدعى أحد الربوبية والألوهية مثل ما ادعى هو، أو يقول: {لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} أي: من شاهدك كذلك غريقًا ملقى كان آية له.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ}: قال بعض أهل التأويل: يعني أهل مكة عن آياتنا لغافلون عن هلاك فرعون وقومه لما قالوا: {مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى}، و {مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ}، يقول: هم غافلون عما أصاب أُولَئِكَ؛ إذ مثل هذا لا يفترى، أعني: هذه القصص.

ويحتمل {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ}، أي: كثير منهم كانوا غافلين عما أصابهم، والغفلة تكون على وجهين:

أحدهما: غفلة إعراض وعناد بعد العلم به ومعرفة أن ذلك حق.

والثاني: يغفل بترك النظر والتفكر؛ فكلا الوجهين مذموم.

٩٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣) قال عامة أهل التأويل: بوأنا أنزلنا بني إسرائيل منزل صدق.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {بَوَّأْنَا}: هيئنا لبنى إسرائيل، {مُبَوَّأَ صِدْقٍ}: مهيأ صدق حسنا؛ كقوله: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ. . .} الآية، أي: ثهيئ للمؤمنين.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} أي: مكناهم تمكين صدق؛ وهو كقوله: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (٥).

وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ. . .) الآية، يحتمل ما ذكر من التبوئة التمكين الذي ذكر في هذه الآية وقوله {مُبَوَّأَ صِدْقٍ}

قَالَ بَعْضُهُمْ: منزل صدق، أي: كريم

وقال: منزل صدق أي حسن. ويحتمل وجهين آخرين:

أحدهما: أنه وعد لهم أن يمكن لهم في الأرض فأنجز ذلك الوعد، فهو مُبَوَّأَ صِدْقٍ أي تمكين صدق، حيث أنجز ذلك الوعد وصدق الوعد ما ذكر {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ} الآية.

والثاني: {مُبَوَّأَ صِدْقٍ} أي: مُبَوَّأَ أهل صِدْقٍ لأن الشام كان لم يزل منزل أهل صِدْقٍ،

 وعلى هذا يخرج قوله: {رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ. . .} الآية.

أي: أخرجني مخرج أهل صدق وأدخلني مدخل أهل صدق، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} قال أهل التأويل: يعني المن والسلوى، ولكن الطيبات هي التي طابت بها الأنفس مما حل بالشرع مما لا تبعة على أربابها مما لم يعص فيها.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} أي: فما اختلفوا في الدِّين إلا من بعد ما جاءهم العلم أنه حق.

وقيل: فما اختلفوا في مُحَمَّد في أنه رسول اللّه إلا من بعد ما جاءهم العلم أنه رسول اللّه وقيل: فما اختلفوا في القرآن والأديان التي أنزلها على رسوله إلا من بعد ما جاءهم العلم، أنه منزل من عند اللّه. ويحتمل قوله: {فَمَا اخْتَلَفُوا} في موسى أنه رسول اللّه إلا من بعد ما جاءهم العلم أنه رسول اللّه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. . .} الآية: ظاهرة من الوجوه التي ذكرنا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ} يحتمل وجهين:

أحدهما: الجزاء والثواب، والثاني: في تبيين المحق من المبطل.

٩٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ}: اختلف فيه؛

قَالَ بَعْضُهُمْ: الخطاب به لرسول اللّه والمراد منه غيره.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الخطاب به المراد به جميعًا غيره. وقَالَ بَعْضُهُمْ، الخطاب به والمراد به رسول اللّه ما كنت في شك مما أخبرتهم وأنبأتهم، فمن قال: الخطاب لرسول اللّه والمراد به غيره، وهو ما ظهر في الناس أنهم يخاطبون من هو أعظم منزلة عندهم وقَدْرًا ويريدون به غيره، وإلا لا يحتمل أن يكون رسول اللّه يشك فيما أنزل إليه قط أو يرتاب؛ كقوله: {إِمَّا يَبلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا. . .} الآية، ومعلوم أنه في وقت ما خوطب به لم يكن أبواه أحياء دل أنه أراد به غيره؛ فعلى ذلك الأول.

ومن قال: الخطاب والمراد به من غير رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول: إن الوفود من الكفرة كانوا يتقدمون رسول اللّه فيسألونه شيئًا فشيئًا فيخاطب الذي يتقدم، وكان يحضره الوحدان والجماعة يقول: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ}.

وقوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} على هذا التأويل هو منزل إليه؛ إذ كل منزل على رسول اللّه منزل عليه وإليه وإلى كل أحد كقوله: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} أمرهم باتباع ما أنزل إليهم دل أن كل منزل على رسول اللّه منزل عليهم.

ومن قال: الخطاب والمراد به رسول اللّه قال لما لا يحتمل أن يكون رسول اللّه يشك في شيء مما أنزل إليه، ولكنه يريد به التقرير عنده لقول الكفار إن الذي يلقي على محمد شيطان فيريد به التقرير عنده، أو يخاطب به كل شاك؛ كقوله: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي)، هو يخاطب إنسانًا واحدًا، ولكن المراد به كل إنسان مغرور وكل كافر، وذلك جائز في القرآن كثير أن يخاطب به كلا في نفسه.

ومن قال: خاطب به رسوله وأراد هو -أيضًا- وهو كان في الابتداء على غير يقين أنه يوحى إليه أو لا؛ كقوله: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ}،

وقوله: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ}، فقال: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ} الأنباء التي أخبرتهم وأنبأتهم وادعيت أنها أوحيت إليك ليخبروك على ما أخبرتهم.

وقوله: {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ}

قَالَ بَعْضُهُمْ: فاسأل الذين يقرءون الكتاب يعني من آمن منهم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: سل أهل الكتاب منهم يخبرونك؛ لأنه مكتوب عندهم؛ كقوله: قوله تعالى: {يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ. . .} الآية.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} قيل: الحق القرآن جاء من ربك، وقيل: جاء البيان أنه من عند اللّه.

٩٥

وقوله: {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}: الشاكين.

(وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللّه فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٩٥) هو ما ذكرنا أنه يريد بالخطاب غيره، وإلا لا يحتمل أن يكون رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يكون من الشاكين، أو يكون من الذين يكذبون بآيات اللّه، أو يكون من الخاسرين.

٩٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ}.

قوله: {حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} هو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}، هذا يكون في الختم من يختم به يعني بالكفر فقد حقت كلمهّ ربك لأملأن جهنم، أو {حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} ما ذكر في آية أخرى: {أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ. . .} الآية، أو كلمة ربك ما ذكر: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} أي: علم ربك بأحوالهم، أي: من كان علمه أنه لا يؤمن فلا يؤمن وقت اختياره الكفر؛ كقوله: {مَنْ يُضْلِلِ اللّه فَلَا هَادِيَ لَهُ} أي: من يضلل اللّه فلا هادي له، وقت اختيارهم الكفر؛ وكذلك قوله: {وَاللّه لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، وقت اختيارهم الظلم ونحو ذلك، فالتأويل الأول يرجع إلى الختم به، والثاني: إلى وقت من ثبت عليه علم ربه أنه لا يؤمن إلى وقت أنه لا يؤمن في ذلك الوقت.

٩٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (٩٧) قيل: في الدنيا إيمان دفع العذاب ويحتمل في الدنيا، وقد ذكرنا هذا.

٩٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (٩٨) أي: لم تكن القرى آمنت عند معاينة البأس إيمانا نفعها إلا إيمان قوم يونس، فإنهم آمنوا إيمان حقيقة وعلم اللّه صدقهم من إيمانهم فنفعهم إيمانهم، هذا يخرج

 على وجوه:

أحدها: أن سائر القرى كان إيمانها عند إقبال العذاب إليهم ووقوعه عليهم، فلم ينفعهم إيمانهم، إلا قوم يونس، فإن إيمانهم إنما كان لتخويف العذاب فينفعهم.

والثاني: يحتمل أن يكون قوم يونس، كان نزول العذاب بهم على التخيير والتمكين إن قبلوا الإيمان أمنوا دفع العذاب عنهم، وإن لم يقبلوا نزل بهم.

والثالث: إنما كان إيمان سائر القرى بعدما عاينوا مقامهم في النار فآمنوا، فيكون إيمانهم إيمان اضطرار، وقوم يونس آمنوا قبل أن يعاينوا ذلك، ويشبه أن يكون قوله: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ} بعد وقوع العذاب والبأس، {فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} وفإنهم آمنوا إذ عاينوا العذاب قبل أن يقع بهم، وإيمان فرعون وقومه إنما كان بعدما غرقوا وبعدما خرجت أنفسهم من أيديهم فلم يقبل، وإيمان قوم يونس كان قبل أن يقع العذاب بهم وأنفسهم في أيديهم بعد فقبل، وهو ما ذكر عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ. . .} الآية، آمنوا بعدما عاينوا قبل أن يقع بهم وسائر الأمم الخالية كان منهم الإيمان بعد وقوع العذاب بهم من نحو عاد وثمود وأمثاله، وأصله ما ذكرنا آنفًا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}.

قوله: {كَشَفْنَا عَنْهُمْ}: بحلول العذاب بهم، {عَذَابَ الْخِزْيِ}: هو العذاب الفاضح وإلا الخزي هو العذاب.

٩٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) قالت المعتزلة: قوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ} مشيئة القهر والقسر، لو شاء لأجبرهم وقهرهم جميعًا فيؤمنوا وإلا فقد شاء أن يؤمنوا مشيئة الاختيار لكنهم لم يؤمنوا، واستدلوا على ذلك بقوله: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}.

فيقال لهم: إن مشيئة الاختيار هي الظاهرة عندكم ومشيئة الجبر والقهر غائبة، فإذا وجد منه مشيئة الاختيار فلم يؤمنوا ولم تنفذ مشيئته فيهم كيف يصدق هو في الإخبار عن

المشيئة التي هي غائبة أنها لو كانت لآمنوا هذا فاسد على قولهم.

وبعد فإن المشيئة لو كانت مشيئة القهر لكانوا مؤمنين بتلك المشيئة وهي خلقة؛ لأن كل كافر مؤمن بخلقته؛ لأن خلقة كل أحد تشهد على وحدانية اللّه، فإذا كانوا مؤمنين بالخلقة ثم ذكر أنه لو شاء لآمنوا دل أنه لم يرد به مشيئة القهر ولكنه أراد مشيئة الاختيار، وتأويله عندنا هو أن عند اللّه تعالى لطف لو أعطاهم كلهم لآمنوا جميعًا، لكنه إذ علم أنهم لا يؤمنون لم يعطهم وهو التوفيق والعصمة، لكنه إذ علم منهم أنهم لا يؤمنون شاء ألا يؤمنوا، ثم لا يحتمل أن يتحقق الإيمان بالجبر والقهر؛ لأنه عمل القلب والجبر والإكراه مما لا يعمل على القلب، فهو وإن تكلم بكلام الإيمان فلا يكون مؤمنا حتى يؤمن بالقلب، فيكون التأويل على قولهم: ولو شاء ربك فلا يؤمنوا، فهذا متناقض فاسد.

وبعد فإن الإيمان لا يكون في حال الإكراه والإجبار؛ لأن الإكراه يزيل الفعل عن المكره كان لا فعل له في الحكم.

وقوله: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} فَإِنْ قِيلَ: أليس قال اللّه - عز وجل -: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} أي: حتى يسلموا وذلك إكراه، وقال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه " فذلك إكراه، فكيف يجمع بين الآيتين؟! قيل لوجهين:

أحدهما: ما ذكر أن هذه السورة مكية،

وقوله: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ}، مدنية، فيحتمل قوله: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} أي: لا تكرههم ثم أمر بالقتال بالمدينة والحرب والإكراه عليه.

والثاني: يجوز أن يجمع بين الآيتين، وهو أن يكون قوله: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} أي: تقاتلونهم حتى يقولوا قول إسلام ويتكلموا بكلام الإيمان، دليله ما روي: " حتى يقولوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه "، والقول: بلا لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه على غير حقيقة ذلك في القلب ليس بإيمان، وفي هذه الآية حتى يكونوا مؤمنين وبالإكراه لا يكونون مؤمنين

 حقيقة؛ لأنه عمل القلب والإكراه مما لا يعمل عليه، واللّه أعلم.

وتأويل قوله: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ} أي: لا تملك أن تكرههم، وكان رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لشدة حرصه ورغبتة في إيمانهم كاد أن يكرههم على الإيمان إشفاقًا عليهم؛ كقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}.

١٠٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللّه وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (١٠٠) قيل: بمشيئة اللّه. وقيل: بعلم اللّه، وقيل: بأمر اللّه وبإرادته وهو ما ذكرنا لا تؤمن نفس إلا بمشيئة اللّه وإرإدته في ذلك، ولا يحتمل قوله: {إِلَّا بِإِذْنِ اللّه} سوى المشيئة والإرادة؛ لأنه كم من مأمور بالإيمان لم يؤمن، فلم يحتمل الأمر ولا يحتمل الإباحة لأنه لا يباح ترك الإيمان في حال وأصله ما ذكرنا؛ أنه لا يحتمل أن يكون اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - يعلم من خلقه اختيار عداوته والخلاف له ويشاء لهم الولاية؛ لأنه يخرج ذلك مخرج العجز؛ لأن في الشاهد من اختار عداوة أحد فالآخر يختار ولايته أنه إنما يختار لضعفه وعجز فيه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} قيل: الإثم على الذين لا يعقلون، وقيل: ويجعل العذاب على الذين لا يعقلون، أي: لا يستعملون عقولهم حتى يعقلوا، أو على الذين لا ينتفعون بعقولهم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: في قوله: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا} أي: لم تكن قرية آمنت فنفعها إيمانها عند نزول العذاب إلا قوم يونس.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: فهلا كانت آمنت إذا رأت بأسنا، فكانت مثل قوم يونس، فإنهم آمنوا حين رأوا العذاب، وأصله ما ذكرنا أنه لا يحتمل أن يكون اللّه تعالى يعلم من خلقه اختيار عداوته والخلاف له يسألهم ويشاء لهم الولاية؛ لأنه يخرج ذلك مخرج العجز؛ لأن في الشاهد من اختار عداوة أحد فالآخر يختار ولايته أنه إنما يختار لضعفه وعجزه فيه، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللّه} قيل: وما كان لنفس في علم اللّه أنها لا تؤمن فتؤمن، أي: لا تؤمن نفس في علم اللّه أنها لا تؤمن إنما يؤمن

 من في علم اللّه أنه يؤمن، وأما من في علم اللّه أنه لا يؤمن فلا يؤمن.

وقيل: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ} أي: لا تؤمن نفس إلا بمشيئة اللّه، أي: إذا آمنت إنما تؤمن بمشيئة اللّه ما يفعل إنما يفعل بمشيئة اللّه؛ كقوله: {رَمَا لتَثَآءُونَ إِلَّا أَن يشًآءَ اللّه}.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {إِلَّا بِإِذنِ اللّه} أي: بأمر اللّه، فمعناه إذا آمنت إنما تؤمن بأمره لا تؤمن بغير أمره فالأول أقرب، واللّه أعلم.

وقوله: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} أي: يجعل جزاء الرجس، أي: جزاء الكفر على الذين لا يعقلون، أي: الذين لا ينتفعون بعقولهم، واللّه أعلم.

١٠١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} تأويله - واللّه أعلم - أي: انظروا إلى آثار نعمه وإحسانه التي في السماوات والأرض لكي تشكروه أو يقول: انظروا إلى آثار ربوبيته وألوهيته في السماوات والأرض، فتوحدوه وتؤمنوا به أو يقول: انظروا إلى آثار سلطانه وقدرته فتخافوا نقمته وعقابه، أو انظروا إلى أجناس الخلق واتساقه على تقدير واحد ليدلكم على وحدانيته ونحو ذلك، ليس شيء في السماوات والأرض يقع عليه البصر إلا وفيه دلالة الربوبية حتى طرفة العين ولحظهَ البصر.

وقوله: {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} يحتمل وجوهًا: يحتمل وما تغني الآيات والنذر عن قوم، همتهم المكابرة والمعاندة، إنما تغني الآيات من همته القبول والانقياد، وأما من همته المكابرة والعناد فلا تغني؛ وهو كقوله: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى. . .} الآية.

ويحتمل وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون في الدنيا، إنما تنفع وتغني لقوم يؤمنون، فأما من لا يؤمن فلا تغني.

والثالث: {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ} يحتمل الرسل، ويحتمل المواعيد التي أوعدوا والأحوال التي تغيرت على أوائلهم، واللّه أعلم.

١٠٢

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) أي: فهل ينتظرون بي يومًا من الهلاك إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم؟! أي: إلا مثل ما انتظر الذين خلوا من قبلهم برسلهم من الهلاك، فهو يخرج على التوبيخ لانتظارهم هلاك الرسل وذهاب أمرهم. ويحتمل وجهًا آخر: فهل ينتظرون من نزول العذاب بهم إلا مثل ما انتظر أُولَئِكَ من نزول العذاب بهم؟! إلى هذا يذهب بعض أهل التأويل.

ويحتمل قوله: فهل ينتظرون من تأخيرهم الإيمان إلى وقت نزول العذاب بهم إلا مثل ما أخر الذين خلوا من قبلهم الإيمان إلى وقت نزول العذاب بهم، فهذا يخرج على الإياس من إيمانهم، أي لا يؤمنون إلى ذلك الوقت الذي لا ينفعهم إيمانهم.

والوجه الأول على التوبيخ والتعيير.

وقوله: {قُلْ فَانْتَظِرُوا} وبي ذلك {إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} ذلك.

١٠٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣)

قوله: {نُنَجِّي} أي: أنجينا الرسل والذين آمنوا؛ لأنه لم يكن بعده رسول، وتأويله - واللّه أعلم - أنه وعده أن ينجي الرسل والذين آمنوا كذلك حقا علينا أن ينجز ما وعدنا أن ينجي الرسل والذين آمنوا، واللّه أعلم.

١٠٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي}.

قوله: {إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي}: الذي أدين به، أو إن كنتم في شك من ديني الذي أدعوكم إليه.

{فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه} أي: إذا شككتم في ديني الذي أدعوكم إليه كنتم

 شاكين في دينكم الذي أنتم عليه، فتركتم ديني الذي أنا عليه بالشك، ثم تدعونني إلى دينكم الذي أنتم عليه بالشك، يذكر سفههم بتركهم إجابتهم بالشك ودعائهم إياه بالشك إلى دينهم لأن الشك، يوجب الوقف في الأشياء، ولا يوجب الدعاء إليه إنما يوجب الدعاء إليه بطلان غيره لا الشك، هذا - واللّه أعلم - محتمل وهو يخرج على وجهين أيضًا:

 أحدهما: على الإضمار، والآخر على المنابذة، والإضيار ما ذكرنا: إن كنتم في شك من ديني الذي أدين به وأدعوكم إليه فإني لا أشك فيه، هذا وجه الإضمار، ووجه المنابذة: يقول إن كنتم في شك مما أعبد وأدين به، فلا تعبدون ذلك ولا تدينون به، فأنا لا أعبد ما تعبدون ولا أدين ما تدينون؛ وهو كقوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللّه الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ}: والتوفي هو النهاية والغاية، في الإضرار، وما تعبدون من الأصنام دونه لا يملكون توفيكم ولا الإضرار بكم إن لم تعبدوها، يذكر سفههم ويلزمهم الحجة أن الذي يتوفاهم هو المستحق للعبادة لا الأصنام التي تعبدونها.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}: يشبه أن يكون قوله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} من المرسلين؛ كقوله: {إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}،

وقال: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}، فعلى ذلك هذا.

ويحتمل الإيمان نفسه على ما نهي أن يكون من المشركين أو الشاكين؛ فعلى ذلك أمر أن يكون من المؤمنين المخلصين له المسلمين أنفسهم، واللّه أعلم.

١٠٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) أي: أمرت أن أقيم نفسي للّه خالصة سالمة لا أشرك فيها غيره ولا أجعل لسواه فيها نصيبًا، أو أن يقول: إني أمرت أن أقيم نفسي على ما عليها شهادة خلقتها؛ إذ خلقة كل نفس تشهد على وحدانية اللّه وألوهيته، أو يقول: أقم وجه أمرك لما تدين به وتقيم عليه.

{وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}: هذا ما ذكرنا، واللّه أعلم.

١٠٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللّه مَا لَا يَنْفَعُكَ ... (١٠٦) إن أطعته وأجبته، {وَلَا يَضُرُّكَ}: إن تركت إجابته وطاعته.

 

وقوله: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللّه} يحتمل لا تعبد من دون اللّه ما لا يملك جر المنفعة.

ويحتمل الدعاء نفسه، أي: لا تدعوا من دون اللّه إلهًا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ}: ذكر هاهنا الظلم إن فعل ما ذكر والمراد منه الشرك، وذكر في قصة آدم وحواء: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}، وقد قرباها ولم يكونا مشركين إنما كانا عصاة؛ ليعلم أن ليس في الموافقة في الأسماء موافقة في الحقائق والمعاني إنما يكون الموافقة في الحقائق في موافقة الأسباب؛ لذلك كان ما ذكروا، واللّه أعلم.

١٠٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللّه بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧): فيه الرجاء والطمع إلى من دونه؛ إذ أخبر أنه لا يوجد ذلك من عند غيره.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ}: أخبر أنه إن أراد خيرًا وفضلا فلا راد لذلك الفضل، والخير، والإيمان من أعظم الخيرات وأفضلها، فإذا أراده لإنسان، كان لا يملك أحد دفع ما أراد ولا رده؛ دل أنه إذا أراد الإيمان لأحد كان مؤمنا، فهو ينقض على المعتزلة حيث قالوا: إنه أراد الإيمان للخلق كلهم. لكنهم لم يؤمنوا؛ إذ أخبر أنه إذا اراد به خيرًا فلا راد لذلك الفضل، وهم يقولون: بل يملك العبد رد ما أراد له ودفعه، وباللّه العصمة.

وفيه أن ليس على اللّه فعل لهم - أعني فعل الخير - لأنه سماه فضلا، والفضل هو فعل ما ليسر عليه، وهو المفهوم في الناس أن ما عليهم من الفعل لا يسمونه فضلا إنما يسمون الفضل ما ليس عليه، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}: يصيب به من يشاء من الفضل والخير أو من الشر، وفيه دلالة تخصيص بعض على بعض حيث قال: {يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}.

{وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}: لا يعجل بالعفوبة.

١٠٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) قيل: الحق مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وقيل: الحق: القرآن الذي أنزل عليه، وأمكن أن يكون الحق هو الدِّين الذي كان

 يدعوهم رسول اللّه إليه؛ لأنه قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي}، فيشبه أن يكون الحق هو الدِّين الذي شكوا فيه، أي: قد جاءكم ما يزيل عنكم ذلك الشك إن لم تكابروا لما أقام عليهم الحجج والبراهين.

ويحتمل الحق محمدًا - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على ما ذكره بعض أهل التأويل وكان رسول اللّه في أول نشوئه إلى آخره آية.

ويحتمل الحق القرآن على ما ذكره بعضهم وهو ما ذكر. {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} سماه بأسماء مختلفة سماه حقًّا وسماه نورا وشفاء ورحمة وهدى ونحوه، وفيه كل ما ذكر من تأمله وتفكر فيه وتمسك به.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} أي: من اهتدى فإنما منفعة اهتدائه له في الدنيا والآخرة، ومن ضل فإنما يرجع ضرر ضلالته إليه وخيانته عليه، أي: ما يأمر وينهى ليس يأمر وينهى لمنفعة تحصل له أو لحاجة نفسه إنما يأمر وينهى لمنفعة الخلق ولحاجتهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} أي: بمسلط. قال بعض أهل التأويل: هو منسوخ، نسخته آية القتال، لكنه لا يحتمل لأنه وإن كان مأمورا بالقتال فهو ليس بوكيل ولا بمسلط على حفظ أعمالهم، إنما عليه التبليغ؛ كقوله: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} وكقوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ}؛ وكقوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ. . .} الآية.

١٠٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّه وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (١٠٩) يحتمل القرآن وغيره من الوحي غير القرآن.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّه} أي: اصبر على أذاهم لأنهم كانوا يؤذونه ويقولون فيه بما لا يليق به، يقول: اصبر على أذاهم ولا تعجل عليهم بالعقوبة حتى يحكم اللّه عليهم بالعقوبة وقت عقوبته وهو خير الحاكمين، أو اصبر على تكذيبهم إياك حتى يحكم اللّه بينك وبين مكذبيك وهو خير الحاكمين، أو اصبر على تبيلغ الرسالة والقيام لما أمرت به، واللّه أعلم.

* * *

﴿ ٠