٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (٢) يحتمل وجهين:

يحتمل أي قد عجبوا أن أوحينا إلى رجل منهم.

ويحتمل: أيعجبون أن أوحينا إلى رجل منهم على الاستئناف، كانوا يعجبون من ثلاث: من إنزال القرآن على رجل منهم يعجز الخلائق عن إتيان مثله، ويعجبون من الوحي إلى رجل منهم وإرساله رسولا من بين الكل أو من البشر؛ كقوله: {أَبَعَثَ اللّه بَشَرًا رَسُولًا}؛ وكقوله: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا. . .}، وكانوا يعجبون من البعث؛ كقولهم: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا. . .} الآية.

ثم يحتمل قوله: {إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ} أي: من البشر، أي: لا تعجبوا أن أوحينا إلى رجل من البشر؛ فإن الإيحاء إلى من هو من البشر أبلغ في الحجاج وأقطع للعذر، وأقرب إلى الرأفة والرحمة؛ لأن البشر يعرفون خروج ما هو خارج عن طوق البشر ووسعهم، ولا يعرفون ذلك من غير جوهرهم وغير جنسهم، ويألف كل جنس بجنسه وكل جوهر بجوهره، ولا يألف غير جوهره ولا غير جنسه، فإذا كان ما وصفنا كان بعث الرسول من جنس المبعوث إليهم وجوهرهم أبلغ في الحجاج وأقطع للعذر، وأقرب إلى الرأفة والرحمة.

ويحتمل قوله: {أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ} أي: من الأميين، أي: لا يعجبون أن أوحينا إلى رجل منهم، أي: أمي فإن ذلك أبلغ في التعريف والحجاج؛ لأنه بعث أميًّا لم يعرفوه بدراسة الكتب المتقدمة أو تلاوة شيء منها، ولا عرفوه اختلف إلى أحد منهم في تعليم كتبهم، ولا عرف أنه كتب شيئًا ولا خط خطًّا قط، ثم أخبر عما في كتبهم على موافقة ما فيها، وكانت كتبهم بغير لسانه؛ دل أنه إنما عرف ذلك باللّه تعالى؛ فذلك أبلغ في إثبات الرسالة والحجاج، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ {أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ}:

قَالَ بَعْضُهُمْ: الإنذار يكون في كل مكروه مرهوب، والبشارة في كل محبوب مرغوب.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} يعني: الكفار بالنار.

{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} ثم اختلفوا في قوله: {قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ}:

قَالَ بَعْضُهُمْ: إن لهم الجنة عند ربهم.

وقيل: إن لهم الأعمال الصالحة يقدمون عليها.

وقيل: قدم صدق: مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يشفع لهم عند ربهم.

وقيل: إن لهم الجنة عند ربهم.

وقيل: إن لهم ثواب أعمالهم الصالحة التي قدموها بين أيديهم {قَدَمَ صِدْقٍ}، أي، سلف خير أو سلف وعْد وعِد لهم بذلك وكأن أصله من القدم.

قال أَبُو عَوْسَجَةَ: يقال في الكلام: لفلان عندي قدم صدق ويد صدق، أي: نعمة قد أسلفها إليَّ.

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: قدم صدق: يعني عملا صالحًا قدموه.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: سبق لهم السعادة في الذكر الأول.

من قال: قدم صدق هو الشفاعة، فالقدم كناية عن الشفاعة والصدق، أي واقعة.

ومن قال: وعدوا ثواب أعمالهم أي تقدم لهم وعد حق وصدق.

ويحتمل {قَدَمَ صِدْقٍ} أي: ثبتت قدمهم لا تزل، على ما وصف من ثبوت قدم المؤمنين والقرار فيه، وتزل قدم الكافرين؛ كقوله: {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ}: ومن قرأ {لَسِحْرٌ} عنى هذا القرآن.

ومن قرأ {لَسَاحِرٌ} بالألف عنى به النبي.

ثم السحر هو الذي يتراءى في الظاهر أنه حق وهو في الحقيقة باطل لا شيء، ثم هو يأخذ الأبصار ويأخذ العقول.

فأما الذي يأخذ الأبصار فهو ما يتراءى الشيء على غير ما هو في الحقيقة، والذي

 يأخذ العقول هو أن يذهب بعقله فيصير مجنونا.

وقال فرعون لموسى: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا} أي: مجنونًا، لكن هَؤُلَاءِ لم يريدوا بقولهم: {لَسَاحِرٌ مُبِينٌ}: السحر الذي يأخذ العقول، ولكن أرادوا السحر الذي يأخذ الأبصار؛ يقولون: إنه وإن كان أخذ الأبصار في الظاهر فهو لا شيء في الحقيقة، ولكن في قولهم: {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} دليل أنهم عجزوا عن رده، وعرفوا أنه حق، ولكن هم أرادوا التمويه على الناس؛ كقول فرعون لسحرته حين آمنوا برب موسى: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} أراد أن يموه على الناس؛ واللّه أعلم.

﴿ ٢