سُورَةُ هُودٍ - عليه السلام -بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ١قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ}: قال الحسن: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} بالأمر والنهي، {ثُمَّ فُصِّلَتْ} بالوعد والوعيد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} بالوعد والوعيد، {ثُمَّ فُصِّلَتْ} بالأمر والنهي. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} حتى لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، ولا يملك أحد التبديل، {ثُمَّ فُصِّلَتْ} بينت ما يؤتى وما يتقى، أو بينت ما لهم وما عليهم وما للّه عليهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} فلم تنسخ، {ثُمَّ فُصِّلَتْ} بالحلال والحرام. وقيل: {فُصِّلَتْ} أي: فرقت في الإنزال أنزل شيء بعد شيء على قدر النوازل والأسباب فلم ينزل جملة؛ لأنه لو أنزل جملة لاحتاجوا إلى أن يعرفوا الكل بسببه وشأنه وخصوصه وعمومه، فإذا أنزل متفرقًا في أوقات مختلفة على النوازل والأسباب عرفوا ذلك على غير إعلام ولا بيان، والتفصيل هو اسم التفريق واسم التبيين، وذلك يحتمل المعنيين جميعًا، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ}: أي: أحكمت حتى لا يرد عليها النقض والانتقاض، أو أحكمت حتى لا يملك أحد التبديل والتغيير، أو أحكمت عن أن يقع فيها الاختلاف. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أحكمت آياته بالفرائض، وفصّلت بالثواب والعقاب. ثم (الآيات) تحتمل وجوهًا: أحدها: العبر. والثاني: الحجج. والثالث: العلامة. ثم الآية كل كلمة في القرآن تمت فهي عبرة أو حجة، أو علامة لا تخلو عن أحد هذه الوجوه الثلاثة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}: من عند حكيم عليم جاءت هذه الآيات. ٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللّه إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) أي: من اللّه ينذر من ينذر ومن عنده يبشر من يبشر؛ يبشر من اتبع وينذر من خالف. وقوله: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللّه} في شهادة خلقتكم هو المستحق للعبادة ويحتمل {أَلَّا تَعْبُدُوا} ألا توحدوا إلا الذي في شهادة خلقتكم وحدانيته. ٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إن كانت الآية في الكفار فيكون قوله: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} أي: أسلموا ثم توبوا إليه، أي: ارجعوا إليه عن كل معصية وكل مأثم تأتونها، وإن كان في المسلمين فهو ظاهر، فيكون قوله: استغفروا وتوبوا واحدا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا} أي: يمتعكم في الدنيا متاعًا تستحسنون في الآخرة ذلك التمتع، وأمّا الكفار فإنهم لا يستحسنون في الآخرة ما متعوا في الدنيا؛ لأن تمتعهم في الدنيا للدنيا، والمؤمن ما يتمتع في الدنيا يتمتع لأمر الآخرة والتزود لها، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ}: يحتمل قوله: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ} في الدنيا جزاء فضله في الآخرة. ويحتمل {وَيُؤْتِ} بمعنى أتى، أي: ما أتى كل ذي فضل في الدنيا إنما أتاه بفضله. وقوله: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} أي: ويؤت كل ذي فضل في دينه في الدنيا فضله في الآخرة، أو يقول: يؤت كل ذي فضل في الدنيا والآخرة فضله؛ لأن أهل الفضل في الدنيا هم أهل الفضل في الآخرة. {وَإِنْ تَوَلَّوْا}: ولم يسلموا، {فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} الآية ظاهرة. وقَالَ بَعْضُهُمْ في موضع آخر، وهذا لما يكبر على الخلق ويعظم ذلك اليوم. وقال بعض أهل الفقه: في قوله: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} دلالة تأخير البيان؛ لأنه قال: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ}، وحرف ثم من حروف الترتيب، ففيه جواز تأخير البيان، واللّه أعلم. ٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَى اللّه مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤) أي: إلى ما أعد لكم مرجعكم من وعد ووعيد. {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي: وهو على كل ما أوعد ووعد، قدير. ٥قوله تعالى: (أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٥) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ}: عن عبد اللّه بن شداد قال: كان أحدهم إذا مر بالنبي تغشى بثوبه وحنى صدره. وقال قتادة: كانوا يحنون صدورهم لكيلا يسمعوا كتاب اللّه وذكره. وقَالَ بَعْضُهُمْ: نزلت الآية في رجل يقال له: الأخنس بن شريق الثقفي، كان يجالس النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويظهر له أمرا حسنا، وكان حسن المنظر حسن الحديث، وكان النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يعجبه حديثه ويقر به مجلسه، وكان يضمر خلاف ما يظهر، فأنزل اللّه: {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} يقول: يكتمون ما في صدورهم ويستترون؛ وهو قول ابن عَبَّاسٍ. وأصل تثنية الصدور هو أن يضم أحد طرفي الصدر إلى الطرف الآخر ليكون ما أضمروا أستر وأخفى. ويشبه ما ذكر من ثني الصدور أن يكون كناية عن ضيق الصدور؛ كقوله: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا}، أو عبارة عن الكبر؛ كقوله: {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّه. . .} الآية، وكان أصله الميل إلى غيره، وهو ما قال أَبُو عَوْسَجَةَ: {يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} أي: يميلون إلى غيره؛ وكذلك قوله: {ثَانِيَ عِطْفِهِ}. وقوله: {لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} قَالَ بَعْضُهُمْ: من اللّه، وقَالَ بَعْضُهُمْ: منه أي من رسول اللّه، لكن إن كانت الآية في المنافقين على ما ذكره بعض أهل التأويل، فهو الاستسرار والاستتار من رسول اللّه؛ لأنهم كانوا يظهرون الموافقة ويضمرون الخلاف له والعداوة، وإن كانت الآية في المشركين فهو على الاستسرار والاستتار من اللّه؛ لأنهم لا يبالون الخلاف لرسول اللّه وإظهار العداوة له، وعندهم أن اللّه لا يطلع على ما يسرون ويضمرون في قلوبهم، فأخبر أنه يعلم ما أسروا وما أعلنوا، ففيه دلالة إثبات رسالة محمد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لأنهم كانوا يسرون ذلك عنه ويضمرونه، فأخبرهم بذلك ليعلم إنما علم ذلك باللّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} أي: يستترون بها. قال الحسن: {أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} في ظلمة الليل وفي أجواف بيوتهم يعلم تلك الساعة ما يسرون وما يعلنون، وأصله أنهم يعلمون أن اللّه هو الذي أنشأ هذه الصدور والقلوب، والثياب هم الذين نسجوها واكتسبوها، ثم لا يملكون الاستتار بما كسبوا هم [فلئلا] يملكوا الاستتار، بما تولى هو إنشاءه أحق. وقوله: {أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ} ألا إنما هو تأكيد الكلام، وهو قول أبي عبيدة وغيره. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}: قال أهل التأويل عليم بما في الصدور ولكن يشبه أن قوله: {عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} عبارة عن صدور لها تدبير وتمييز وهو البشر. ٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللّه رِزْقُهَا}: قَالَ بَعْضُهُمْ: عنى بالدابة الممتحن به وهو البشر، وأما غيره من الدواب فقد سخرها للمتحن به. وقال قائلون: أراد كل دابة تدب على وجه الأرض من الممتحن به وغيره وتمامه: ما من دابة في الأرض، جعل قوامها وحياتها بالرزق إلا على اللّه إنشاء ذلك الرزق لها، ثم من الرزق ما جعله بسبب، ومنه ما جعله بغير سبب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إلَّا عَلَى اللّه رِزْقُهَا}: اختلف فيه أيضًا: قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {عَلَى اللّه رِزقُهَا}، أي: على اللّه إنشاء رزقها وخلقه لها الذي به قوامها وحياتها؛ وهو كقوله: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} أي: ينشئ ويخلق رزقنا بسبب من السماء من المطر وغيره؛ فعلى ذلك قوله: {عَلَى اللّه رِزْقُهَا} أي: على اللّه إنشاء رزقها وخلقه لها. وقيل: {عَلَى اللّه رِزْقُهَا} أي: على اللّه أن يبلغ إليها رزقها وما قدر لها وما به معاشها كقوله: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا. . .} الآية. عليه تبليغ رزقها وما به معاشها. ثم قوله: {عَلَى اللّه رِزقُهَا}: قَالَ بَعْضُهُمْ: ما جاءها من الرزق إنما جاءها من اللّه لم يأتها من غيره وعلى اللّه بمعنى من اللّه وذلك جائز في اللغة؛ كقوله: {إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ} أي: من الناس؛ وهو قول مجاهد. ويحتمل قوله: {عَلَى اللّه رِزْقُهَا} أي: على اللّه وفاء ما وعد، وقد كان وعد أن يرزقها، فعليه وفاء وعده وإنجازه. ويحتمل وجهًا آخر: وهو أنه علم لما خلقها علم أنه يبقيها إلى وقت عليه تبليغ ما به تعيش إلى ذلك الوقت والأجل الذي خلقها ليبقيها إلى ذلك؛ وبعضه قريب من بعض. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا}: اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: مستقرها بالليل، ومستودعها بالنهار في معاشها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: المستقر: الرحم، والمستودع: الصلب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: المستقر: الصلب، والمستودع: الرحم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: المستقر: المتقلب في الدنيا، والمستودع: مثواها في الآخرة؛ كقوله: {وَاللّه يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ} في الدنيا وتحرككم في معاشكم {وَمَثْوَاكُمْ} أي: قراركم ومقامكم في الآخرة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: مستقرها في الدنيا، ومستودعها في القبر. ويشبه أن يكون هذا إخبارًا عن العلم بها في كل حال في حال سكونها وفي حال حركتها؛ لأنها لا تخلو إما أن تكون ساكنة أو متحركة، أي: يعلم عنها كل حالها ويشبه أن يكون صلة ما تقدم وهو قوله: {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ. . .} الآية. يخبر أنه إذا لم يخف عليه كون كل دابة في بطن الأرض، وما تغيض به الأرحام وما استودع في الأصلاب، كيف يخفى عليه أعمالهم التي عليها العقاب ولكم بها الثواب وفيها الأمر والنهي؟! واللّه أعلم. و {كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} أي: مبين في كتابه. قيل: في اللوح المحفوظ، ويحتمل القرآن وغيره. ٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وقال في موضع آخر: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}، وقال في موضع آخر: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ}، وقال: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ}، وقال: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ}. يجوز أن يكون جعل للأرض يومين: يومًا لوجودها ويومًا لعدمها، وكذلك السماء جعل يومًا لوجودها ويومًا لعدمها؛ كقوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ. . .} الآية. وكقوله: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ}، {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ}. وكذلك ما بينهما جعل يومًا لوجوده ويومًا لعدمه، فيكون يوم السابع يوم البعث يكون لكل من ذلك يومان: يوم لوجوده، ويوم لعدمه، وقد ذكرنا شيئًا في ذلك مما احتمل وسعنا في سورة الأعراف. وفي هذه الآية دلالة أن السماوات والأرض دخلتا تحت الأوقات بقوله: {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}، إذ الأيام عند الناس إنما هي مضي الأوقات، فإذا دخلتا تحت الأوقات ليستا بأزليتين - على ما يقول بعض الملحدة إنهما أزليتانِ - كانا كذلك، واللّه أعلم، وجائز أن يكون اليوم السابع هو اليوم الذي أنشأ الممتحن فيه، فهو المقصود في خلق ما ذكر من الأشياء، أعني من البشر، وقوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} إن كان العرش اسم الملك والسلطان على ما قال بعض أهل التأويل، فتأويله - واللّه أعلم - كان أظهر ملكه عن الماء " على " بمعنى " عن " وذلك جائز في اللغة؛ لأن بالماء ظهور كل شيء وبدأه؛ كقوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}، وإن كان العرش اسم السرير والكرسي على ما قاله بعض الناس، فهو عرش الملك وسريره خلقه ليكرم به أولياءه؛ ليمتحن ملائكته بحمله والخدمة له على ما يكون لملوك الأرض سرير يستخدمون خدمهم في ذلك، وهو خلق من خلائقه أضافه إليه كما تضاف الأشياء إلى اللّه، لكنه يضاف الأشياء إليه مرة بالإجمال مرة جملة ومرة بالإشارة والإفراد، لكن ما أضاف إليه بالإشارة فهو على تعظيم ذلك الشيء، وما أضيف إليه من الأشياء بالإجمال والإرسال فهو على ذكر عظمته وكبريائه، كقوله: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}، ونحوه فيه ذكر سلطانه وعظمته، وقوله: بيت اللّه {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للّه} ونحوه، وهو يخرج على ذكر تعظيم البيت والمساجد، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} أي: خلق السماوات والأرض وما فيهما للممتحن لم يخلق هذه الأشياء لأنفسها إنما خلقها للممتحن فيهما؛ كقوله: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ}؛ لأن خلقها لأنفسها عبث؛ لأنها مخلوقة للفناء خاصة، فكل مخلوق للفناء خاصة فهو عبث؛ لذلك كان ما ذكر واللّه أعلم. وقوله تعالى: {وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}. وقوله: {وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ}: هذا القول نفسه: {إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ} ليس يقولون هذا سحر، ولكن إذا أخبرهم أنهم مبعوثون من بعد الموت، وأقام الحجج والبراهين على البعث فحينئذ قالوا لحجج البعث وبراهينه: ما هذا إلاسحر. ويحتمل وجها: وهو أن يذكر سفههم أنهم اعتادوا نسبة كل شيء إلى السحر، حتى الأشياء التي لا تحتمل السحر وهو الإخبار؛ لأن السحر إنما يكون في تقليب الأشياء، وأما فيما يخبر عن شيء يكون فلا. ٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (٨) قيل: إلى وقت معلوم وهو البعث، ذكر {أُمَّةٍ} - واللّه أعلم - لأنه وقت أبه ينقضي، آجال الأمم جميعًا. قوله تعالى: {لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} أي: كانوا يقولون: ما يحبس عنا العذاب الذي يعدنا لم تزل عادتهم استعجال العذاب استهزاء بهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ}: ذلك العذاب؛ إذا جاء لا يملك أحد صرفه عنهم؛ كقوله: {مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}، وقوله: {وَمَا لَهُم مِّنَ اللّه مِن وَاقٍ}، ونحوه. وقوله: {وَحَاقَ بِهِم}: قيل: نزل بهم، وقيل: لحق بهم ما كانوا به يستهزئون جزاء استهزائهم بالرسول والكتاب. وقوله: {أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ} أي: لا يصرف عنهم بشفاعة من طمعوا بشفاعته؛ كقوله: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّه آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا}. أي: لا يكون ردا على ما طمعوا ورجوا لعبادتهم. وقوله: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّه آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ}، ونحو ذلك؛ لأنهم كانوا يعبدون الأصنام رجاء أن تشفع لهم. ٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً} قيل: سعة في المال ونعمة. {ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ} إياسه ذهاب ذلك المال عنه ونزعه منه عن العود ذلك إليه ويقنطه، والإياس قد يكون كفرا؛ كقوله: {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللّه إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}. ويحتمل قوله: {إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ} في حال ذهاب النعمة، والكَفُور في حال النعمة والسعة، كفور لما رأى نزع ذلك المال والسعة منه جورا وظلمًا فهو كفور. وعن ابن عَبَّاسٍ قال: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ} يعني الكافر، {مِنَّا رَحْمَةً} يقول: نعمة العافية وسعة في المال وما يسر به، {ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ} يعني الرحمة {إِنَّهُ لَيَئُوسٌ} ويعني قنوط آيس وأقنطه من رحمة اللّه؛ وهو كقوله: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ}. ١٠(وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) الفرح هو الرضا؛ كقوله: {وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي: رضوا بها. وقيل الفرح: البطر يبطر في حال السعة والرخاء؛ كقوله: {إِنَّ اللّه لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} والفرح فد يبلغ كفرا، ويكون الفرح سرورا ولا يكون كفرا. فخور: يفتخر على الفقراء بالمال الذي أعطي، أو يفتخر على الأنبياء والرسل بالتكذيب، وكذلك كان عادة رؤسائهم أنهم كانوا ذوي مال وسعة، فلا بد يرون الرسالة تكون فيمن دونهم في المال والسعة؛ كقولهم: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}؛ وكقولهم: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا}، ونحوه. ويحتمل قوله: {لَيَئُوسٌ} في حال الشدة، كفور للّه في نعمه في الرخاء وأصل ذلك، أنهم كانوا لا ينظرون في النعم إلى من أنعم عليهم، إنما ينظرون إلى أعين النعم وأنفسها؛ لذلك حملهم نزع ما أعطوا منهم على الإياس والقنوط، وإعطاؤها إياهم على الكفران والفرح والفخر، ولو نظروا في تلك النعم إلى المنعم لم يقع لهم إياس عند النزع، ولا الكفران والفرح عند النيل، بل يصبرون عند النزع من أيديهم ويشكرون للمنعم عليهم في حال النيل. ١١ثم استثنى فقال: (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ (١١) قال بعض أهل التأويل: إلا الذين صبروا على البلايا والشدائد وعملوا الصالحات يعني: الطاعات ويشبه أن يكون قوله:، {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} أي: آمنوا على ما ذكر في غير واحد من الآيات: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}؛ كقوله: (وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، ويكون قوله: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} وعن المعاصي فلم يرتكبوها، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي: الطاعات والإيمان نفسه هو اعتقاد الانتهاء عن المعاصي كلها، والاتقاء عن جميع ما يدخل نقصًا فيها وإتيان الطاعات جميعًا، وهكذا يعتقد كل مؤمن أن يتقي وينتهي كل معصية، ويأتي بكل طاعة ويعمل بها، هذا اعتقاد كل مؤمن وحقيقة الوفاء بذلك كله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}: يشبه أن يكون قوله: {لَهُم مغْفِرَة} لما ارتكبوا على الصغائر من الذنوب، وانتهوا عن الكبائر منها، {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} على ما أتوا وعملوا من الكبائر من الطاعات. ويحتمل قوله {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} الستر في الدنيا ستر عليهم تلك الذنوب في الدنيا فلم يطلع عليها الخلق {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} بما أظهر منهم ما كان من الطاعات والخيرات حتى نظر الناس إليهم بعين تعظيم بما ظهر منهم من الخيرات وخفي عليهم ما ارتكبوا من المعاصي. هذا التأويل يكون في الدنيا، والأول في الآخرة. ١٢وقوله: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ}، وإن كان معلومًا أنه لا يترك؛ كقوله: {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}، وأمثاله، نهاه وإن كان معلومًا أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لا يفعل ذلك، وإنما احتمل النهي كما يقول الرجل لآخر لعلك تريد أن تفعل كذا فهو نهاه عن ذلك. والثاني: يقال عند القرب إلى الفعل والدنو منه؛ كقوله: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا}، يقال: حرف " كاد " عند الميل إليه والقرب منه طمعا منه في إيمانهم، وذلك فيما يحل له الترك، وذلك ما قيل من نحو سب آلهتهم وذكر العيب فيها، ويحل له ترك سب آلهتهم وشتمها. وكذلك يخرج قوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} على هذين الوجهين، على المنع ألا يحمل على نفسه إشفاقًا على أنفسهم ألا يؤمنوا ما يوجب تلفه. والثاني: على التخفيف؛ كقوله: {وَلَا تَحزَن عَليهِم. . .} الآية، وقوله: {وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي}، هو على التخفيف ليس على النهي. وفي قوله: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ. . .} الآية وجه آخر: وهو نهي يخرج مخرج البشارة له بما، كان يخاف من ضيق صدره واشتغال قلبه عند سوء معاملتهم إياه، فيقع له فيه تأخير في إبلاغ ما أمر بتبليغه فأمنه اللّه عن ذلك وعصمه. والوجه الثاني: في النهي عن ذلك هو ما يقع له فيه الرجاء، وذلك أن الأخيار إذا ابتلوا بالأشرار قد يؤذن لهم بمفارقتهم وترك الأمر فيهم، فلعله كان يقع له في مثله الرجاء أنه قد يؤذن له، في حال من الأحوال بتأخير التبليغ، فأيئسه عن ذلك وكلفه بتبليغ ما أمر له في جميع أحواله و {بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} يحتمل ما ذكر أهل التأويل من سب آلهتهم وعيبها وما تدعو إليه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ {وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ}: يضيق صدره بما يقولون له استهزاء، وكذلك الحق أن كل من استهزئ به أن يضيق صدره لما لا يقدر على إتيان ما طلبوا منه من الكنز وإنزال الملك، وقد وعدوا أن يؤمنوا لو فعل، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ}: لأن للكنز والملك محلا في قلوب أُولَئِكَ وقدرا فقالوا: لولا أنزل عليه كنز فيعظموه فيصدق على ما يدعي، وكذلك الملك له محل عظيم عندهم إذا كان معه عظموه وصدقوه. وقوله: {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ} أثر قولهم: لولا أنزل عليه كنز، أو جاء معه ملك أي: إنما أنت نذير ليس عليك إتيان ما سألوا، إنما ذلك تحكم منهم على اللّه تعالى وأماني، فعليك إبلاغ ما أنزل إليك؛ كقوله: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ}. {وَاللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} أي: حفيظ لكل ما يقولون فيك ويتفوهون به، أو هو الوكيل والحفيظ لا أنت؛ كقوله: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ}، وقوله: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ}، ونحوه، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} أي: قالوا: إنه افتراه، أي: مُحَمَّد افترى هذا القرآن من عند نفسه. {قُلْ}: يا مُحَمَّد إن كان افتريته على ما تقولون، {فَأْتُوا}: أنتم، {بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ}: لأنكم أقدر على الافتراء من مُحَمَّد؛ لأنكم قد عودتم أنفسكم الكذب والافتراء، ومُحَمَّد لم تأخذوه بكذب قط ولا ظهر منه افتراء، فمن عود نفسه الافتراء والكذب أقدر عليه ممن لم يعرف به قط، فأتوا بعشر سور مثله وادعوا أيضًا شهداءكم من الجن والإنس ممن استطعتم من دون اللّه يعينوكم على إتيان مثله، {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وإنه افتراه من عنده. أو يقول: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} أي أن محمدا قد جاء بسور فيها أنباء ما أسررتم وأخفيتم مما لا سبيل إلى معرفة ذلك والاطلاع عليه إلا من جهة الوحي من السماء وإطلاع اللّه إياه، فأتوا أنتم بسورة مفتراة فيها أنباء ما أضمر هو وأسر، وتطلعون أنتم على سرائره كما اطلع هو على سرائركم، وادعوا من استطعتم ممن تعبدون من دون اللّه من الآلهة، إن كنتم صادقين أنه افتراه. أو يقول: إن لسانكم مثل لسان مُحَمَّد، فإن قدر هو على الافتراء افترى مثله من عنده، فتقدرون أنتم على افتراء مثله: فأتوا به، وادعوا أيضًا من لسانه مثل لسانكم حتى يعينوكم على ذلك، إن كنتم صادقين أنه افتراه، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ}، وقال في موضع آخر: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ}. قَالَ بَعْضُهُمْ: بعشر نزل قبل ولم تقدروا على مثله، وقوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} دعوا أولا أن يأتوا بعشر سور، فلما عجزوا عن ذلك عند ذلك قيل لهم: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ}. وقوله: {بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} فَإِنْ قِيلَ: كيف ذكر: فأتوا بسور مفتريات؟ قيل: معناه إن كان هذا مما يحتمل الافتراء على ما تزعمون، فأتوا بمثله أنتم لأنكم أقدر على الافتراء من مُحَمَّد، فإن لم تقدروا لم يقدر أحد على ذلك. ١٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللّه وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤) أي: فإن لم تقدروا أنتم ولم يجيبوكم أُولَئِكَ على الإعانة على إتيان مثله، فاعلموا أنه إنما أنزل بعلم اللّه وبأمره أتاه ومن عنده نزل، ليس بمفترى على ما تزعمون، وأن لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه لا ألوهية لمن تعبدون دونه من الأصنام والأوثان. والثاني: فإن لم يستجيبوا لكم يا أصحاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولم يقدروا على مثله، فاعلموا أنتم أنه إنما أنزل بعلم اللّه ومن عنده نزل على التنبيه والتذكير لهم، وإن كانوا علموا أنه من عنده نزل؛ كقوله: {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللّه}، على التنبيه والتذكير ليس على أنه لا يعلم فعلى ذلك الأول. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}: خاضعون له مخلصون، وعلى التأويل الأول على حقيقة الإسلام، والإيمان، واللّه أعلم. ١٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا. . .} الآية اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: الآية في أهل الإيمان الذين عملوا الصالحات مراءاة للخلق يقول: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} من الذكر فيها والشرف، وما طلبوا بأعمالهم في الدنيا من المباهاة وغيره، آتاهم اللّه في الدنيا جزاء لتلك الأعمال التي عملوها وبطل ما صنعوا وباطل ما كانوا يعملون؛ لأنهم عملوا لغير اللّه، فلا يجزون في الآخرة بأعمالهم تلك، وإلى هذا يذهب ابن عَبَّاسٍ. وروي في بعض الأخبار أن نبي اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سئل: ما بال العبد المعروف بالخير يشدد عليه عند الموت، والرجل المعروف بالشر يهون عليه الموت؟! فقال: " المؤمن تكون له ذنوب فيجازى بها عند موته، فيفضي إلى اللّه في الآخرة ولا ذنب عليه، والكافر يكون له الحسنات فيجازى بها عند الموت يخفف عنه بها كرب الموت، ثم يفضي إلى الآخرة وليست له حسنة " أو كلام نحوه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الآية في أهل الكفر يعملون أعمالا هي في الظاهر صالحة؛ نحو: التصدق على الفقراء وعمارات الطرق واتخاذ القناطر والرباطات هي في الظاهر صالحة، يقول: نوف لهم جزاء أعمالهم التي عملوها في الدنيا لا ننقص منها شيثًا فهو ما وسع عليهم الدنيا. وجائِز أن يكون قوله: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ} أي: نرد إليهم أعمالهم التي عملوها فلا نقبلها ويكون إيفاء أعمالهم الرد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} أي: لا ينقصون ما قدر لهم من الرزق إلى انقضاء مدتهم وآجالهم بشركهم باللّه. ١٦وقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٦) على هذا التأويل أظاهر ليس لأهل الكفر في الآخرة إلا النار، وعلى التأويل الذي قال: إنها في أهل الإيمان، أي: لا يستوجبون بتلك الأعمال التي عملوها مراءاة إلا النار؛ لأنه إذا راءى فيها لم يخلصها للّه وضيع أمره، وكل من ضيع أمر اللّه وفريضته يستوجب التعذيب عليه وله العفو، وليس في الآية أنه لا محالة يعذبهم بعملهم المراءاة، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللّه} فيه دلالة نقض قول الجهمية والمعتزلة بنفيهم العلم عن اللّه، وفي الآية إئبات العلم له بقوله: {أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللّه}. ١٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (١٧) وقوله: {أَفَمَن} حرف يقتضي الجواب لكن الجواب له لم يخرج في الظاهر؛ لأن أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (١٧) جوابه أن يقول: أفمن كان على بينة من ربه كمن ليس على بينة من ربه كما قال في آية أخرى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ}؛ وكقوله: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى}، لا يعلم، فعلى ذلك جواب قوله: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} كمن لا يكون على بينة من ربه، لكن الجواب عندنا يكون على وجوه: مرة يكون بالتصريح وهو ما ذكرنا، ومرة بالإشارة، ومرة بالكناية على غير تصريح. ثم منهم من يجعل جوابه ما تقدم وهو قوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا. . .} الآية، يقول: أفمن كان على بينة من ربه كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها، أي: لا يكون كذلك، ومنهم من يجعل جوابه فيما تأخر وهو قوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ} كأنه يقول: أفمن كان على بينة من ربه كمن يكفر به الأحزاب، أي: لا يكون كذلك وقالوا: يجوز تقديم الجواب وتأخيره، كقوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ}، لم يخرج لهذا أيضًا جواب التصريح. ثم اختلفوا في جوابه؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: جوابه فيما تأخر في قوله {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}، وصف الذين لا يعلمون، فكأنه يقول: أفمن يعلم كمن لا يعلم. ومنهم من يجعل جوابه في قوله: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ للّه أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} يقول: من جعل للّه أندادًا وضل عن سبيله وصار من أصحاب النار، كمن هو قانت آناء الليل ساجذا وقائمًا أي: ليسا بسواء. وقال مقاتل: ليس الذي على بيان من ربه كالذي موعده النار، واللّه أعلم. وجائز أن يكون على طرح الألف: (فمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى. . .) الآية يقول: فمن كان على بيان من ربه أُولَئِكَ يؤمنون به. ثم قوله: {بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ}: قَالَ بَعْضُهُمْ: دين من ربه، أي: من كان على دين من اللّه ويتلوه شاهد منه أي: يتلو لما هو عليه من الدِّين شاهد منه، كمن كان على دين الشيطان ولا شاهد له عليه؟! وقَالَ بَعْضُهُمْ قوله: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ}، أي: على برهان من ربه وحجج ويتلوه شاهد منه على ذلك، كمن لا على برهان من ربه ولا حجج ولا شاهد له على ذلك؟! ثم قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} جبريل أو ملك غيره يتلو عليه القرآن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يتلوه شاهد منه: لسانه. وقَالَ بَعْضُهُمْ {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} وهو القرآن ونحوه. ثم قوله: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ}: يحتمل أصحاب عيسى الذين آمنوا به. {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى} أصحاب التوراة الذين آمنوا. {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي: هَؤُلَاءِ الذين آمنوا بهَؤُلَاءِ هم الذين يؤمنون بمُحَمَّد - عليه أفضل الصلوات - وبما جاء به مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً}: قيل فيه بوجوه: قيل: ومن قبل القرآن كتاب موسى جاء جبريل إلى موسى، كما جاء بهذا القرآن إماما يقتدى به ورحمة من العذاب لهم. ويحتمل قوله: {وَمِنْ قَبْلِهِ} يعني قبل القرآن كتاب موسى التوراة إماما فيها أنباء هذا القرآن، وأنباء مُحَمَّد أنه رسول؛ كقوله: {يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} وقوله: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}، وأمثاله. ويحتمل قوله: {إِمَامًا وَرَحْمَةً} أما روي، عن ابن عَبَّاسٍ قال: إمامًا ورحمة: كان كتاب موسى وهو التوراة إماما يقتدى به، وكان رحمة، أُولَئِكَ يؤمنون به قال: أصحاب مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - الذين آمنوا به من أهل الكتاب وغيرهم. ويحتمل قوله: {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي: مؤمني أهل التوراة يؤمنون بالقرآن ويقتدون به؛ كما آمنوا بالتوراة واقتدوا بها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ} أي: بالقرآن {مِنَ الْأَحْزَابِ} الأحزاب: الفرق والأصناف. يحتمل من يكفر به أي: بالقرآن من الفرق. ويحتمل يكفر به أي: بمُحَمَّد. ويحتمل الدِّين الذي هو عليه ويدعوهم إليه. {فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ}: إن مات على ذلك، وأمَّا إذا أسلم ومات على الإسلام، فلا تكون النار موعده. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ}: يحتمل في قوله الوجوه الثلاثة التي ذكرنا من الدِّين والقرآن والنبي، يحتمل هو نفسه، ويحتمل الخطاب غيره لما ذكرنا في قوله: {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}، {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ}، وأمثاله؛ فكذلك هذا، وقد ذكرنا أن العصمة لا تزيل النهي والأمر بل تزيدهما؛ لأن بالعصمة يظهر موافقة الأمر ومخالفة النهي والمحظور. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}: يحتمل القرآن، ويحتمل الدِّين الذي عليه ويدعوهم إليه، ويحتمل هو نفسه الحق من ربه، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ}. ١٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّه كَذِبًا} هو ما ذكرنا أن لا أحد أظلم على نفسه ممن أخذ نفسه من معبوده وشغلها في عبادة من لا يملك له نفعًا إن عبده ولا ضر إن ترك عبادته، أو يقول: لا أحد أظلم على نفسه ممن ألقى نفسه الطاهرة في عذاب اللّه ونقمته أبدًا بافترائه على اللّه، وباللّه العصمة والقوة. وفي التأويل لا أحد أظلم على نفسه ممن افترى على اللّه كذبًا، وفي المعنى لا أحد أفحش ظلمًا ممن افترى على اللّه كذبًا بعد معرفته أن جميع ما له من اللّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ} أي: أُولَئِكَ الذين تعرض أعمالهم على أنفسهم عند ربهم، فإن وافقت أعمالهم ما في شهادة خلقتهم أدخلوا الجنة، وإن خالفت أعمالهم شهادة خلقتهم أدخلوا النار، تعرض أعمالهم على أنفسهم عند ربهم؛ لأن اللّه عَزَّ وَجَلَّ عالم بما كان منهم من الأعمال والأقوال على ربهم، أي: عند ربهم؛ كقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ} أي: عند ربهم، وتأويله ما ذكرنا يعرضون على ربهم لأنفسهم؛ لأنهم إنما يؤمرون وينهون ويمتحنون لأنفسهم ولمنفعة أنفسهم فيكون عرضهم لهم، أو أن يكون قوله: {أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ} على ما وعدهم ربهم في الدنيا، أو يقول: أُولَئِكَ يعرضون لأنفسهم على ربهم من غير غيبة كانت منه، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ}: اختلف فيه: قيل: الأشهاد: الرسل والأنبياء. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الأشهاد: الملائكة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الأشهاد: المؤمنون. فمن قال: هم الأنبياء والمؤمنون؛ فهو كقوله: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}؛ وكقوله: {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا}، ومن قال: هم الملائكة؛ كقوله: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}، وقوله: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (١٠) كِرَامًا كَاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (١٢). ونحوه. ومعناه - واللّه أعلم - أنه: تعرض أعمالهم وأقوالهم على أنفسهم فإن أقروا بها بعثوا إلى النار، وإن أنكروا يشهد عليهم ما ذكر من الشهداء فإن أنكروا يقال له: {اقْرَأْ كِتَابَكَ. . .} الآية، فإن أنكروا ذلك فعند ذلك تشهد عليهم جوارحهم؛ كقوله: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ. . .} الآية. ويحتمل أن يكون الملائكة نادوا في ملأ الخلق قبل أن يدخلوا النار: هَؤُلَاءِ الذين كذبوا على ربهم. ويحتمل ما ذكر من شهادة الذين كانو موكلين بكتابة أعمالهم وأقوالهم يخبرون عما كتبوا في الكتب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَلَا لَعْنَةُ اللّه عَلَى الظَّالِمِينَ}: اللعنة: قَالَ بَعْضُهُمْ: هي الطرد عن جميع المنافع والإبعاد عن رحمة اللّه في الدنيا عن دينه وفي الآخرة عن ثوابه. وقال بعضهم: اللعنة هي العذاب. ١٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّه وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (١٩) يصدون يحتمل وجهين: يحتمل أن أعرضوا هم بأنفسهم عن دين اللّه. ويحتمل صرفوا الناس عن دين اللّه، لكنه يتبين ذلك بالمصدر أنه أراد ذا أو ذا، يقال في الإعراض بنفسه: صد يصد صدودا؛ كقوله: {يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} ويقال في صرف غيره: صد يصد صدا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا}: قَالَ بَعْضُهُمْ: هم بغاة على دين اللّه بالجور. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يبغون من النساء الميل عن دين اللّه إلى دينهم، فذلك هو بغي العوج، كل سبيل غير سبيل اللّه فهو عوج وبغي، كأنه يقول: يبغون سبيلا غير سبيل اللّه. {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}: في الدنيا. ٢٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّه مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠) أي: أُولَئِكَ لم يكونوا معجزي اللّه في الدنيا من أن يعذبهم وينتقم منهم إن شاء. والثاني: أُولَئِكَ لم يكونوا سابقي اللّه في الآخرة في دفع العذاب عن أنفسهم. وجائز أن يكون الآية في الأئمة منهم والجبابرة يخبر أنهم غير معجزي اللّه فيما يريد منهم من التعذيب لهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّه مِنْ أَوْلِيَاءَ} هم حسبوا أن أُولَئِكَ الذين عبدوهم من دون اللّه يكونون لهم أولياء؛ لأنهم يقولون: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّه} و {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى} كانوا يطمعون في شفاعة الأصنام التي كانوا يعبدونها، أو الذين اتبعوهم يكونون لهم أولياء فأخبر أن ليس لهم أولياء على ما ظنوا وحسبوا، بل يكونون لهم أعداء؛ كقوله: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً. . .} الآية، وأمثاله كثير؛ وكقوله: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا}؛ وكقوله: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّه آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا}، أي: لم يكن لهم ما طمعوا، وقوله: {سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا}، صاروا لهم أعداء على ما ذكر. ويحتمل {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّه مِنْ أَوْلِيَاءَ} أي: لا ينفعهم ولاية من اتخذوا أولياء؛ كقوله: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}، ونحوه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ}: هذا يدل على أن قوله: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّه} وفي الأئمة الذين صرفوا الناس عن دين اللّه؛ لأنه أخبر أنه يضاعف لهم العذاب. وهو يحتمل وجهين: أحدهما: لما ضلوا هم بأنفسهم، والآخر: لما صرفوا الناس عن دين اللّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ}: قالت المعتزلة فيه بوجهين: أحدهما: أنهم كانوا يسمعون ويبصرون، لكنه قال لا يستطيعون السمع ولا يبصرون استثقالا منهم لذلك، وهو كما يقول الرجل: ما أستطيع أن أنظر إلى فلان ولا أسمع كلامه، وهو ناظر إليه سامع كلامه، لكنه يقول ذلك لاستثقاله النظر إليه وسماع كلامه؛ فعلى ذلك الأول كانوا يسمعون ويبصرون، لكنهم كانوا يستثقلون السمع والنظر إليهم فنفى عنهم ذلك. والثاني: كانوا لا يستطيعون السمع، أي: كانوا كأنهم لا يستطيعون السمع ولا النظر، وهو ما أخبر أنهم صم بكم عمي، كانوا يتصامون ويتعامون الحق. وأمَّا عندنا: الجواب للتأويل الأول أنهم كانوا لا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون السماع سمع الرحمة والنظر إليه بعين الرحمة والقبول، فهم من ذلك الوجه كانوا لا يستطيعون. والثاني: يحتمل سمع القلب وبصر القلب، وهم كانوا لا يستطيعون السمع سمع القلب وبصر القلب؛ كقوله: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} وهذه الاستطاعة عندنا هي استطاعة الفعل لا استطاعة الأحوال؛ إذ جوارحهم كانت سليمة صحيحة؛ فدل أنها الاستطاعة التي بها يكون الفعل لما ذكرنا. وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: (يضاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون السمع)، ثم سئل الحسن عن ذلك؟ فقال: هو قول اللّه: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا}، إذا سمعوا الوحي تقنعوا في ثيابهم، فلم يستطيعوا احتمال ذلك. وفي حرف حفصة: {وَمَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} بالواو. وأما في حرف ابن مسعود ظاهر تأويله أي: يضاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون السمع، فلم يسمعوا عنادا وإبطاء، وأصله ما كانوا يستطيعون السمع المكتسب والبصر المكتسب عندنا، ما ذكر من السمع والبصر هو السمع المكتسب والبصر المكتسب والحياة المكتسبة؛ لأن سمع الآخرة وحياتها مكتسبان، وحياة الدنيا والسمع والبصر مخلوقة. ٢١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) أما في الدنيا عبادتهم غير معبودهم الذي كان منه جميع النعم والمنافع، وما لحقهم بذلك من الذل والصغار، وأما في الآخرة فالعذاب والهوان الدائم بدلا عن النعم الدائمة. {وَضَلَّ عَنْهُمْ} أي: بطل عنهم، {مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّه} و {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا. . .} الآية. وأمثاله. ٢٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢) قال أَبُو عَوْسَجَةَ: لا جرم واجب من الكلام، أي: الحق أنهم في الآخرة هم الأخسرون. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا جرم أي: نعم إنهم في الآخرة هم الأخسرون. وقال الفراء: قوله: {لَا جَرَمَ} أي: لا بد، لكن الناس أكثروا استعماله فصار في معارفهم حقا، ولا بد في الحقيقة حقا؛ لأنه إذا كان لا بد فهو حق. ٢٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٣) تأويله - واللّه أعلم - أن الذين آمنوا باللّه وبجميع ما أنزل على رسوله، وعملوا الصالحات ولزموا ذلك حتى صاروا إلى اللّه أُولَئِكَ أصحاب الجنة؛ وهو كقوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} أي: من تاب من الشرك وآمن باللّه وعمل صالحًا ثم اهتدى أي: ثم لزم ذلك حتى صار إلى اللّه هكذا؛ فعلى ذلك قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ} لزموا ذلك كله حتى صاروا إلى اللّه. ويحتمل قوله: {ثُمَّ اهْتَدَى} سنن الذين أُولَئِكَ كذا. وقوله: {وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ} اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: الإخبات التخشع والتواضع، أي: تخشعوا وتواضعوا فرقًا من ربهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أخبتوا أي: اطمأنوا على ذلك أُولَئِكَ كذا. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: أخبتوا قال: خافوا من ربهم. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: أخبتوا أي: تواضعوا لربهم، وقال: الإخبات التواضع والوقار. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الإخبات التوبة والمخبت التائب. وقال غيرهم: الإخبات الإنابة، أخبتوا أي: أنابوا إلى اللّه؛ وبعضه قريب من بعض. ومن قال: الإخبات هو التواضع والخشوع فمعناه - واللّه أعلم - أي: تواضعوا وخشعوا بالإجابة إلى ما دعاهم إليه ربهم وندبهم إليه. ٢٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٢٤) أي: الصنفين اللذين سبق وصفهما، وهو قوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا. . .} الآية، فهو وصف الكافر، والفريق الآخر قوله: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ}، إلى آخر ما ذكر وفيه وصف المؤمن. أو يكون وصف الكافر ما ذكر: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّه كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ. . .} إلى قوله: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} هو وصف أحد الفريقين وهم الكفار، والفريق الآخر ما ذكر: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ} هذا - واللّه أعلم - الفريقين اللذين ضرب مثلهما بالأعمى والأصم والبصير والسميع. ثم وجه ضرب مثل الكافر بالأعمى والأصم، والمؤمن بالبصير والسميع، فهو - واللّه أعلم - أن الكافر أعمى القلب وأصم السمع، لم يبصر ما غاب عنه من الموعود، ولا يسمع ما غاب عنه من الموعود، وإنما أبصر ظواهر الأمر؛ وكذلك إنما سمع ظواهر من الأمور وبواديها، لم ينظر إلى الغائب من الموعود ولا سمع ذلك، وهو لم يخلق لمعرفة ذلك الظاهر خاصة، وإنما خلق لما وعد وأوعد في الغائب. والمؤمن أبصر ذلك الغائب وسمع ما غاب من الموعود، فيقول كما لم يستو عندكم في الظاهر البصير والأعمى والسميع والأصم لم يستو من كان أعمى القلب بمن كان بصير القلب بذلك، ولم يستو أيضًا من به صمم القلب بمن كان سميعًا بذلك. {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}: أنهما لا يستويان، أو يقول: {أفَلَا تَذَكَّرُونَ} أي: أفلا تتعظون بما نزل من القرآن وتنتهون عما تنهون، واللّه أعلم. وفي قوله: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} وجوه من الأسئلة: أحدها: أن يقال: كيف احتج عليهم وهو ما ذكر أنهم عميان وصم أو كالعميان والصم، ولا يكلف الأعمى الإبصار والنظر ولا الأصم السماع؟! والثاني: يقولون: إنا بصراء سمعاء، ليس بنا صمم ولا عمى، بل أنتم العميان والصم. والثالث: كيف ذكر المثل لهم، وهم لا يتفكرون ولا ينظرون في المثل ولا يلتفتون إليه؟! أما جواب الأول: فإنه احتج عليهم؛ لأنهم تركوا اكتساب بصر الآخرة وسمع سماع الآخرة، فنفى عنهم السمع والبصر والحياة؛ لأنه ببصر المخلوق يكتسب بصرا في الدِّين وسمعا في أمر الدِّين وحياة الدِّين، فيصير بذلك مكتسب الحياة الدائمة والبصر الدائم والسمع الدائم، فيكونون في الآخرة بصراء سمعاء أحياء؛ كقوله: {اسْتَجِيبُوا للّه وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}. والثاني: نفى عنهم هذه الحواس؛ لأنهم لم ينتفعوا بها؛ لأن هذه الحواس إنما أنشئت لهم وخلقت لينتفعوا بها، وهو المقصود بإنشائها، فإذا تركوا الانتفاع بها فكأنها ليست لهم. وأما جواب ما قالوا: إنا بصراء وسمعاء، وأنتم العميان والصم، فيقال لهم: إن أهل الإسلام إذا سمعوا ذلك قد اشتغلوا بالتفكر فما فرغ سماعهم من الآيات والنظر فيها، وأنتم لا بل تعاموا عنها وتصاموا، فدل تفكرهم ونظرهم فيها على أنهم بصراء وسمعاء وأحياء، وأنتم يا أهل الكفر العميان والصم والأموات. والثاني: أن هذه الآيات إنما نزلت في محاجة أهل مكة، وهم قد علموا أن آباءهم لم يكونوا حكماء ولا علماء، فلم يكونوا ما ذكر بصراء ولا أحياء ولا سمعاء، فصاروا صفًا عميانًا أمواتا؛ ولأن أحد الفريقين لا محالة ما ذكر نحن، أوهم ثم قد استووا في هذه الدنيا وفي العقل والحكمة التفريق بينهما؛ فدل أنهم بما ذكر أولى. وأما جواب ذكر المثل لهم على علم منهم أنهم لا يقبلون المثل ولا ينظرون بأنه إنما ذكر لأهل الإسلام؛ ولأن ذكر المثل به ربما يبعثهم على النظر فيه والتفكر. ٢٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ ... (٢٥) أخبر أنه أرسله إلى قومه، ولم يفهم منه الإرسال من مكان إلى مكان؛ وكذلك قوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} ولم يكن مجيئه من مكان إلى مكان، فهذا يدل أنه لا يفهم من ذكر المجيء الانتقال من مكان إلى مكان؛ وكذلك الإرسال. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي: نذير لمن عصى بالنار وبعقابه بين الإنذار. ٢٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللّه إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦) أي: لا تجعلوا عبادتكم إلا لمعبود هو معبود بشهادة خلقتكم؛ لأن خلقتهم تشهد على أنه هو المستحق للعبادة، لا من تعبدون من الأصنام والأوثان. ويحتمل قوله: {أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللّه} أي: وحدوا اللّه ولا تصرفوا الألوهية إلى غيره، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ}: أضاف الألم إلى اليوم واليوم ليس بمؤلم ولكنه - واللّه أعلم - أضاف إليه؛ لما فيه يؤلم، وهو كقوله: {اللَّيْلَ سَكَنًا}، والليل لا يسكن ولا يوصف به، لكنه يسكن، فيه، وكذلك قال: {وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا}، والنهار لا يبصر، لكنه يبصر فيه؛ فعلى ذلك قوله: {يَوْمٍ أَلِيمٍ} لما فيه يكون العذاب الأليم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ} أي: الخوف في غيره لا يكون في الحقيقة خوفًا؛ وكذلك الرجاء في غيره لا يكون في الحقيقة رجاء، وفي نفسه يكون في الحقيقة خوفًا ورجاء؛ لما يلحقه ضرر في نفسه أن جعل به ذلك لغيره، ويلحقه نفع فيكون الخوف في نفسه حقيقة خوف والرجاء حقيقة رجاء، وأما في غيره لما لا يلحقه ضرر وإن حل ذلك لغيره، ولا ينال من النفع في الرجاء إن نال ذلك الغير، لكنه يخرج على وجهين: أحدهما: على العلم، أي: إني أعلم أنه ينزل بكم العذاب؛ نحو قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا}، أي: علمتم. وقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللّه}، أي: فإن علمتم أن يضيعا حدود اللّه. والثاني: يخاف عليهم إشفاقا منه؛ لأن الخلق جبلوا على أن يتألم بما يحل بغير حتى لا يكون في وسع بعض أن يروا ذلك في غيره. على هذين الوجهين يخرج الخوف على غيره، وفي الخوف رجاء وفي الرجاء خوف؛ لأن الخوف إذا لم يكن فيه رجاء فهو إياس، وقال اللّه - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللّه إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}، والرجاء إذا لم يكن فيه خوف فهو أمن قال: {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللّه إِلَّا. . .} كذا. ٢٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (٢٧) قيل: أشراف قومه وأئمتهم. {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا}: وكذلك قال عامة القوم لرسلهم الذين بعثوا إليهم: {مَآ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} أي: كان هذا احتجاجهم في رد الرسالات يحتجون على الرسل فيقولون - واللّه أعلم -: إن الرسل في الشاهد إنما يجيئون من عند المرسل، وأنتم نشأتم بين أظهرنا لم تأتونا من عند أحد في الظاهر، والرسول هو الذي يأتي من عند غير، ويكون للرسول خصوصية عند المرسل، ولا نرى لك خصوصية لا في الخلقة ولا في القدرة والمال وغيره، فكيف بعثتم إلينا رسلا دون أن نبعث نحن إليكم رسلا؛ إذ أنتم ونحن في الخلقة سواء وفي الأمور الظاهرة سواء؟! أو نحوه من الكلام، احتجوا على رسلهم في رد الرسالة؛ وكذلك كان عادة الكفرة يقولون للرسل إذا لزمتهم الحجة وأقيم عليهم نسبوها إلى السحر، ونسبوا الرسل أنهم بشر مثلهم. نجواب هذا كله ما ذكر: {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللّه يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}، وما قال لهم نوح: {يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ} أي: آتاني رحمة من عنده، وجعل لي بينة وبرهانا على ما آتاني رحمة من عنده بمثل هذا يحتج عليهم. ويقال أيضًا: إنكم لا تنكرون فضل اللّه وتخصيص بعض على بعض بما جعلكم أئمة ورؤساء بأمور الدنيا على غيرهم، فكيف تنكرون فضل اللّه وتخصيص بعض على بعض بفضل الدِّين والرسالة؟!.
وقوله: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ}: احتجوا أيضًا في رد الرسالة يقولون: إن الأراذل هم أتباع لكل من دعاهم وأهل طاعة لكل متبوع، فليس في اتباع الأراذل إياك والضعفاء دلالة ثبوت رسالتك؛ إذ هم يتبعون بلا دليل ولا حجة وهم فروع وأتباع لغير، ولم يتبعك أحد من الأصول. لكن يقال: إن هَؤُلَاءِ الأراذل لما اتبعوا الرسول ولم يتبعوا الأئمة والرؤساء الذين معهم الأموال والدنيا، ولم يكن في أيدي الرسل ذلك، ثم تركوا اتباع أُولَئِكَ وفي أيديهم ما يدعوهم إليه واتبعوا الرسل دل أنهم إنما اتبعوا الرسل بالحجج والبراهين التي أقاموها عليهم أو نحوه. والأراذل: قيل: هم السفهاء والضعفاء. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: أراذلنا: شرارنا. و {بَادِيَ الرَّأْيِ} قَالَ بَعْضُهُمْ: ظاهر الرأي؛، من قولك: بدا لي ما كان خفيا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: بادي الرأي: خفيف الرأي لا يعرفون حقائق الأمور، إنما يعرفون ظواهرها، كأنهم يقولون: إنما اتبعك من كان خفيف الرأي وباديه، لم يتبعك من يعرف حقائق الأمور والأصول. وقد قرئ: {بَادِيَ الرَّأْيِ} بالهمز، وقد قرئ بغير همز. ومن قرأ بالهمز فهو من الابتداء، أي: في أول الرأي وابتدائه لا ينظر في عواقب الأمور. ومن قرأ بغير همز فهو من الظهور، أي: ظاهر الرأي على غير تفكر ونظر فيه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ. . .} الآية: يحتمل هذا أي: فضلا في الخلقة، أو في ملك أو مال ولا في شيء، لكن جواب هذا ما سبق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ}: هكذا كانت عادة الكفرة، يردون دلالات الرسل والحجج بالظن لم يردوا لحقيقة ظهرت. ٢٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (٢٨) أي: على بيان من ربي، أو على حجة من ربي وبرهان فيما آتاني من رحمته. والرحمة تحتمل النبوة لأنهم كانوا ينكرون رسالته لما أنه بشر مثلهم، فكيف خص هو بها دونهم وهو مثلهم؟! فيقول: {وَآتَانِي رَحْمَةً} أي: النبوة، وآتاني -أيضًا- على ذلك بينة وحجة. وتحتمل الرحمة الدِّين الذي كان يدعوهم إليه واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ}: قرئ بالتخفيف والتشديد، أي: لبست، أو التبس عليكم حيث أعرضتم عنه. ومن قرأ، بالتشديد: {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} يرجع إلى الأقباع والسفلة، أي: عميت عليهم القادة والرؤساء منهم ولبست. {فَعَمِيَتْ} بالتخفيف أي: التبس، وعمي على القادة والرؤساء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} أي: أنوجبها عليكم، وهي التي ذكر أنه آتاها إياه أو البينة التي ذكر أيضًا أو الدِّين الذي كان يدعوهم إليه، أي: لا نوجبها عليكم ولا نلزمها، وأنتم لها كارهون بلا حجة ولا برهان. {وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} أي: لا نلزمها لكم بلا حجة شئتم أو أبيتم ولكن بحجة. وفيه أن الدِّين لا يقبل بالإكراه. ٢٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللّه وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (٢٩) على تبليغ الرسالة إليكم، أو على إقامة الحجة غلى ما أدعي من الرسالة، أو على الدِّين الذي يدعوهم إليه، أي: لا أسألكم على ذلك أجرا، فلماذا تعرضون عما أدعوكم إليه وأقيمه عليكم ليكون لكم الاحتجاج أو الاعتذار؟! وكذلك يخرج قوله: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} أي: لا تسألهم أجرا على ما تبلغه إليهم ويدعوهم إليه، فيمنعهم ثقل ذلك الغرم إجابتكم إياه، فعلى ذلك الأول ذكر هذا؛ لأن ما يلحق الإنسان من الضرر إنما يمنعه عن الإذعان بالحق للخلق والإقبال إليه والقيام بوفائه، أو يمنع ذلك لما لا يتبين له الحق لئلا يكون لهم الاحتجاج والاعتلال عند اللّه وإن لم يكن لهم حجة؛ وكقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّه حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} ليس على أنه إذا سألهم على ذلك أجرا يكون لهم عذر في رد ذلك وترك الإجابة له؛ إذ للّه أن يكلفهم الإجابة والطاعة له بالمال وبغير المال. والثاني: بقوله: لا أسألكم على ما أدعوكم إليه وأبلغكم إياه مالاً، مع حاجتي وقلة مالي، فيقع عندكم أني أدعوكم إليه رغبة فيما في أيديكم من الأموال أو لمنفعة نفسي بل إنما أدعوكم إلى ما أدعوكم إليه لمنفعة أنفسكم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللّه} أي: ما أجري إلا على اللّه في ذلك ليس عليكم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا}: فيه دلالة أنهم كأنهم كانوا سألوا رسولهم أن يتخذ لهم مجلسا على حدة، ويفرد لهم ذلك دون الأراذل والضعفاء الذين اتبعوه ويطرد الضعفاء؛ وهو كقوله: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ. . .} الآية. وقال أهل التأويل: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا} أي: ما أنا بالذي لا يقبل الإيمان من الأراذل والضعفاء عندكم؛ لقولهم حيث قالوا: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ}، لأنهم يقولون: اتبعوك الأراذل ظاهرًا، وأما في الباطن فليسوا على ذلك؛ ولذلك قال: {وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللّه خَيْرًا اللّه أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ}، يعني: ما في قلوب السفلة فيقول: ما أنا بطارد الذين آمنوا ظاهرًا اللّه أعلم بما في قلوبهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} يحتمل وجهين؛ أي: ملاقو ربهم فيشكون مني إليه في رد إيمانهم، ويخاصمونني في ذلك ويطالبونني في طردي إياهم. والثاني: أنهم ملاقو ربهم بإيمانهم ظاهرًا كان إيمانهم أو باطنًا أي في أي حال هم يلاقون، ربهم فيجزيهم بما هم عليه؛ كقوله: {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ}. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} يحتمل تجهلون ما أدعوكم إليه أو تجهلون في قولكم: إنهم إنما آمنوا واتبعوا في ظاهر الحال، وأما في السر فلا، أو تجهلون ما يلحقني في طردهم. ٣٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللّه إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٣٠) أي: من يمنعني من عذاب اللّه، {إِنْ طَرَدْتُهُمْ}: على ما تدعونني إليه، أو من يمنعني من عذاب اللّه إن لم أقبل منهم الإيمان. {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}: أنه لا يسع لي ما تدعونني إليه من طرد هَؤُلَاءِ أو رد إيمانهم، أو أفلا تذكرون فتؤمنون. وما روي في حرف أبي بن كعب: (أنلزمكموها شطر أنفسنا) فمعناه أنلزمكموها نحن أنفسنا وأنتم قوم معاندون. وفي حرف ابن عَبَّاسٍ: (أنلزمكموها من شطر أنفسنا) أي: من تلقاء أنفسنا، أي: لا نقدر أن نلزمكم ذلك من تلقاء أنفسنا وأنتم كارهون لذلك. ٣١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللّه وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللّه خَيْرًا اللّه أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١) يخرج على وجوه: أحدها: يقول: ليس عندي خزائن اللّه والسعة، فأبذل لكم لتؤمنوا رغبة في المال والسعة. والثاني: يقول: ليس عندي سعة، فيقع عندكم أني أدعوكم إلى ما أدعوكم إليه افتعالا رغبة في المال على ما يفعل المفتعلون للرغبة في المال، ولكن لتعلموا أني مكلف في ذلك. والثالث: يحتمل ما ذكرنا من أسئلة كانت منهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللّه وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ}: هذا القول منه لهم يحتمل الوجهين: أحدهما: أنه قال ذلك لهم على أثر أمور وأسئلة كانت منهم من نحو قولهم {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ}، وقولهم لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ)، وقولهم: {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ}، وأمثال ما كان منهم، فيقول لهم: ليس ذلك عندي وبيدي، إنما ذلك عند اللّه وبيده. {وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} يحتمل أن يكونوا سألوه أن يخبرهم عن أمور تستقبلهم قبل أن تستقبلهم، إن كان شرا فيعدوا له في دفعه، وإن كان منافع فيستقبلوا لها ويتهيئوا، فيقول لهم: ذا غيب وأنا لا أعلم الغيب إنما العلم في ذلك إلى اللّه، ولا أقول: إني ملك أعلم أخبار السماء والأمور التي فيها، إنما أنا بشر مثلكم. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللّه} أي: مفاتيح اللّه في الرزق، فهذا كأنهم سألوه السعة فيتبعونه، فيقول: ليس عندي ذلك. ويحتمل أن يكون قال لهم الرسول هذا لدفع الشبهة عنهم، وذلك أن من الكفار من اتخذ الرسول إلها فعبدوه بعدما عاينوا أنه من البشر، ومنهم من قال: إنه ابن اللّه. ومنهم من قال: إنه ملك، وكانوا يعبدون الملائكة وكانوا يخبرونهم عن أشياء غابت عنهم، فظنوا أنه إنما علم ذلك لأنه إله، فيقول لهم ذلك ليدفع عنهم تلك الشبهة ويتبرأ من ذلك؛ ولذلك قال عيسى: (إِنِّي عَبْدُ اللّه آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا) هو - عليه السلام - كان يعلم في نفسه أنه عبد اللّه، ولكن يقول لهم لئلا ينسبوه إلى الألوهية والربوبية على ما نسبوا إليه، فأقر بالعبودية له، واللّه أعلم بذلك. وقال بعض أهل التأويل: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللّه}، أي: مفاتيح اللّه بأنه يهدي السفلة دونكم، {وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} أي: لا أقول: إن عندي علم ذلك أن اللّه يهديهم وهم مؤمنون في السر؛ وذلك كقوله: {وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. وقوله: {اللّه أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ}: من الصدق. {وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} أي: إنما أنا بشر لقولهم: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا. . .} إلى آخر الآية. ثم قال: {وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ} قيل: الذين حقرتموهم يعني السفلة والأتباع. وقال ابن عَبَّاسٍ: (الذين لم تأخذهم أعينكم لن يؤتيهم اللّه خيرا) يعني إيمانًا اللّه أعلم بما في أنفسهم من الصدق، إني إذا لمن الظالمين لهم إن لم أقبل منهم الإيمان، أو طردتهم، واللّه أعلم. ٣٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا ... (٣٢) قالوا ذلك لأنه قد كان طال عمره وهو بين أظهرهم ويدعوهم إلى الإيمان، فأكثر حجاجه ومجادلته إياهم. ٣٣فقالوا: {فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} وكان يعدهم العذاب إن لم يجيبوه؛ كقوله: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}، وما كان وعد لهم في غير آية من القرآن إن لم يجيبوه فقالوا: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} من العذاب، فقال: (إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللّه إِنْ شَاءَ ... (٣٣) أي: ليس لي إتيان ذلك إنما ذلك إلى اللّه، إن شاء عجل وإن شاء أخر إلى ما بعد الموت؛ وهو كقول رسول اللّه لقومه: {لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي: لا تعجزون اللّه عن تعذيبكم فتفوتون عنه، وقيل: وما أنتم بسابقي اللّه بأعمالكم الخبيثة حتى يجزيكم بها؛ وهو واحد، واللّه أعلم. ٣٤وقوله: (وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللّه يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤) تأويله - واللّه أعلم - لا ينفعكم دعائي إلى ما به نجاتكم إن كان اللّه يريد أن يغويكم ثم اختلف في وقت ذلك: قَالَ بَعْضُهُمْ: لا ينفعكم نصحي عند إقبال العذاب عليكم؛ إن كان في حكم اللّه ألا تكونوا من الغاوين في ذلك الوقت. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي} {إِنْ كَانَ اللّه يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ}، أي: لا ينفعكم نصحي إن كان اللّه يريد أن يعذبكم في نار جهنم ويقول الغي العذاب؛ كقوله: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}، أي: عذاب جهنم ونحوه من الكلام. وأما عندنا فهو على ما أخبر: إن كان اللّه يريد إغواء قوم أبدا فهم في الغواية أبدًا، وأصله أن اللّه أراد غواية من في علمه أنه يختار الغواية وأراد ضلال كل من في علمه أنه يختار الضلال؛ لأن من في علمه أنه يختار الغواية، والضلال اختار عداوته، ولا يجوز أن يريد هو هداية من يعلم أنه يختار عداوته؛ لأن ذلك يكون من الضعف أن يختار المرء ولاية من يختار هو عداوته، فدل أنه لم يرد الهداية لمن علم منه اختيار الغواية والضلال. ثم إضافة الإغواء والإزاغة والإضلال إلى اللّه يخرج على وجهين: أحدهما: أنه ينشئ ذلك الفعل منهم غيا وزيغًا وضلالا لا بد؛ لأن فعلهم فعل غواية وزيغ. والثاني: أنه خذلهم ولم يوفقهم ولم يرشدهم ولم يعصمهم ولا سددهم، فمن ذلك الوجه ليس فعله فعل الذم عليه حتى يتحرج بالإضافة إليه، ومن الإضافة إلى الخلق يكون على الذم؛ لأن فعلهم نفسه فعل غواية وضلال، فاستوجبوا الذم عليه بذلك، والإغواء من الخلق هو الدعاء إلى ذلك أو الأمر به، فهو مذموم يذمون على ذلك وليس من اللّه تعالى من هذا الوجه، ولكن على الوجهين اللذين ذكرناهما. وفي قوله: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللّه يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} دلالة تعليق الشرط على الشرط. ٣٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥) أي: بل يقولون. إنه افتراه من عند نفسه قل: {إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ}: اختلف فيه؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: قال قوم نوح لنوح - عليه السلام -: إنه افترى على اللّه أنه رسول إليهم من اللّه على ما سبق من دعائه قومه إلى دين اللّه، فقالوا له: إنه افتراه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو قول قوم مُحَمَّد قالوا: افترى مُحَمَّد هذا القرآن من نفسه ليس هو من اللّه على ما يزعم، وهو ما قال في صدر السورة، وهو قوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} إلى آخر ما ذكر، فعلى ذلك هذا هو قولهم لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إنه افترى هذا القرآن الذي يقول هو من اللّه من نفسه فقال: {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} أي: إن افتريته فعليَّ جرمُ افترائي وجزاؤه. {وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} معناه - واللّه أعلم - أي: لا تؤاخذون أنتم بجرم افترائي إن افتريته، وأنا لا أؤاخذ بإجرامكم؛ كقوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} وكقوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}، فعلى ذلك إجرامي، وأمكن أن يكون هذا القول لهم لما أيس من إيمانهم؛ كقوله: {لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ}، لما أيس عن إيمانهم، وانقطع طمعه ورجاؤه عن إسلامهم، قال لهم ذلك أن لا محاجة بيننا وبينكم بعد هذا، واللّه أعلم. ٣٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} وقال بعضهم: إن نوحًا عليه السلام لم يدع على قومه بالهلاك ما دام يرجو ويطمع من قومه الإيمان، فإذا أيس وانقطع رجاؤه وطمعه فحينئذٍ دعا عليهم بالهلاك؛ كقوله: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا}، أي أحدًا، {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ. . .} الآية، وعرف الإياس عن إيمانهم بقوله: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ. . .} الآية؛ وكذلك سائر الأنبياء والرسل لم يؤذن لهم بالدعاء على قومهم بالهلاك والخروج من بين أظهرهم، ما داموا يرجون ويطمعون منهم الإيمان والإجابة لهم، فإذا أيسوا وانقطع رجاؤهم وطمعهم عن ذلك، فعند ذلك أذن لهم بالدعاء عليهم بالهلاك والخروج من بين أظهرهم أوعلى ذلك عوتب يونس بالخروج من بين أظهرهم قبل أن يؤذن له بالخروج من بينهم. وفي قوله: {لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} دلالة أن للإيمان حكم التجدد والابتداء في كل وقت وفي كل حال؛ لأنه أخبر أن الذي قد آمن قد يؤمن في حادث الوقت؛ وعلى ذلك يخرج الزيادات التي ذكرت في الإيمان فزادتهم إيمانا ونحوه، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} قيل: لا تحزن بما كانوا يفعلون، فهو يحتمل وجهين: أحدهما: لا تحزن بكفرهم باللّه وتكذيبهم إياك، ليس على النهي عن الحزن في ذلك، بل على دفع الحزن عنه والتسلي به؛ لأن الأنبياء - عليهم السلام - كانوا يحزنون بكفر قومهم باللّه وجعلهم أنفسهم أعداء له؛ كقوله لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ. . .} الآية، وقوله: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}، وأمثاله، كان الأنبياء - عليهم السلام - أشد الناس حزنا بكفر قومهم باللّه وتكذيبهم آياته وأشدهم رغبة في إيمانهم، وكان حزنهم لم يكن على هلاكهم ألا ترى أن نوحا دعا عليهم بالهلاك وكذلك سائر الأنبياء - عليهم السلام - دل أن حزنهم كان لمكان كفرهم باللّه وتكذيبهم آياته، لا لمكان هلاكهم إشفاقًا على أنفسهم. والثاني: قوله: {فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} يحتمل أنهم كانوا هموا قتله والمكر به، فقال: لا تحزن بما كانوا يسعون في هلاكك فإني كافيهم قال أَبُو عَوْسَجَةَ: قوله: {فَلَا تَبْتَئِسْ} هو من الحزن، يقال: ابتأس يبتئس ابتئاسًا. قال الكسائي -أيضًا- لا تبتئس أي: لا تحزن هو من البأس، يقال: لا تبتئس بهذا الأمر. ٣٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧) قال بعض أهل التأويل: {بِأَعْيُنِنَا} بأمرنا ووحينا، وقَالَ بَعْضُهُمْ: بمنظرنا ومرآنا، ولكن عندنا يحتمل وجهين، أحدهصا: قوله: {بِأَعْيُنِنَا} أي: بحفظنا ورعايتنا، يقال: عين اللّه عليك أي حفظه عليك، ثم لا يفهم من قوله: {بِأَعْيُنِنَا} نفس العين على ما لا يفهم من قوله: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ}، و {كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}، ولكن ذكر الأيدي لما في الشاهد إنما يقدم باليد ويكتسب باليد؛ فعلى ذلك ذكر العين لما بالعين يحفظ في الشاهد. والثاني: قوله: {بِأَعْيُنِنَا} أي: بإعلامنا إياك؛ لأنه لولا تعليم اللّه إياه اتخاذ السفينة ونجرها لم يكن ليعرف أن كيف يتخذ وكيف ينجر، إنما عرف ذلك بتعليم اللّه إياه، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ}: هذا يحتمل وجهين. يحتمل أي: لا تشفع إلي في نجاة الذين ظلموا فإنهم مغرقون في حكم اللّه. والثاني: لا تخاطبني في هداية الذين هم في حكم اللّه أنهم يموتون ظلمة، أي: لا تسألني إيمان من في علم اللّه أنه لا يؤمن، وفيه نهي السؤال عما في علم اللّه أنه لا يكون؛ لأنه إذا أخبر أنه لا يكون أو لا يفعل فإذا سأله كان يسأله أن يكذب خبره الذي أخبر أنه لا يكون، وفيه أنه إذا أراد اللّه إيمان أحد آمن، ومن لم يرد إيمانه لم يؤمن. ٣٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (٣٨) الملأ هم الأشراف والرؤساء من قومه. {سَخِرُوا مِنْهُ}: هم الذين سخروا منه، قَالَ بَعْضُهُمْ: سخريتهم منه أن قالوا: صار نجارا بعدما ادعى لنفسه الرسالة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: سخريتهم منه لما رأوه يتخذ الفلك، ولم يكن هنالك بحر ولا واد ولا مياه جارية، إنما هي آبار لهم فقالوا: يتخذوا السفينة ليسيرها في البراري والمفاوز ونحوه من الكلام. رقال: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ} وقالوا: سخريته منهم أنه إذا ركبوا الفلك رأوهم يغرقون، قالوا: كنت على حق وعلى هدى ونحوه من الكلام، لكن هذا لا نعلمه ولا حاجة لنا إلى معرفة سخريتهم أن كيف كانت سوى أن فيه سخروا منه. ويحتمل قوله: {فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ} أي: نجزيهم جزاء سخريتهم. ٣٩وقوله: (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (٣٩) هو وعيد، أي: سوف تعلمون أن حاصل سخريتكم رجع إليكم؛ كقوله: {وَمَا يَخْدَعُونَ. . .} الآية، أي: سوف تعلمون إذا نجونا نحن، وغرقتم أنتم من {يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} أي: عذاب يفضحه ويهلكه وهو الغرق. {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} أي: عذاب يدوم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {عَذَابٌ مُقِيمٌ} هو عذاب الآخرة؛ كقوله: {أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا}. وأما قول أهل التأويل إن سفينة نوح كان طولها كذا وعرضها كذا، فليس لنا بذلك علم ولا حاجة لنا إلى معرفة ذلك، فإن صح ذلك فهو ما قالوا وقولهم كان لها ثلاثة أبواب وثلاثة أطباق، فذلك أيضًا لا نعرفه، ولا قوة إلا باللّه. ٤٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ}. قوله: {جَاءَ أَمْرُنَا} أي: جاء وقت أمرنا بالعذاب الذي استعجلوه؛ كقولهم: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}؛ وكذلك كانت عادة الأمم السالفة استعجال العذاب من رسلهم، وسمي العذاب أمر اللّه؛ لما لا صنع لأحد فيه، وكذلك المرض سمي أمر اللّه؛ لما لا صنع لأحد من الخلائق فيه، وسمى الصلاة أمر اللّه؛ لما بأمره يصلي. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَفَارَ التَّنُّورُ}: قال أَبُو عَوْسَجَةَ: {وَفَارَ التَّنُّورُ} يقال: فار الماء أي خرج يفور فورًا، أي: غلى كما تغلي القدر وتصديقه قوله: (وَهِيَ تَفُورُ (٧) تَكَادُ. . .)، قالوا: فار أي: خرج وظهر. والتنور: اختلف فيه؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: التنور هو وجه الأرض، قالوا: إذا رأيت الماء خرج ونبع وظهر على وجه الأرض فاركب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: التنور هو التنور الخابزة التي يخبز فيها، قالوا: إذا رأيت الماء نبع من تنورك فاركب، قالوا: كان الماء ينزل من السماء وينبع من الأرض؛ كقوله: (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا)، لكن جعل علامة وقت ركوبه السفينة هو خروج الماء من الأرض ونبعه منها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}: يحتمل هذا وجهين: يحتمل إن كنا قلنا له إذا فار التنور: احمل فيها من كل زوجين اثنين. ويحتمل: إن قلنا له وقت فور الماء من التنور: احمل فيها من كل زوجين اثنين. ويحتمل وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}: الزوج هو اسم فرد لذي شفع ليس هو اسم افمفع حتى يقال عند الاجتماع ذلك، ولكن ما ذكرنا أنه اسم فرد لذي شفع كان الإناث صنفا وزوجا والذكور صنفًا وزوجا، فيكون الذكر والأنثى زوجين، واللّه أعلم. وقوله: {زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} أي: من ذكر وأنثى ثم يحتمل زوجين من ذوي الأرواح التي تكون لهم النسل؛ لئلا ينقطع نسلهم. ويحتمل ذوي الأرواح وغيره، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ}: قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {وَأَهْلَكَ} أراد أهله والذين آمنوا معه، يقول: احمل فيها من كل زوجين اثنين، واحمل أهلك أيضًا إلا من قد سبق عليه القول، أي: إلا من كان في علم اللّه أنه لا يؤمن، أو إلا من كان في علم اللّه أنه يهلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {وَأَهْلَكَ} أراد أهله خاصة، ثم استثنى من سبق عليه القول، وهو ابنه وزوجته وهما من أهله، ألا ترى أنه ذكر من بعد من آمن معه وهو قوله: {وَمَن آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ} أي: احمل أهلك الذين آمنوا معك إلا من سبق عليه القول من أهلك وغيره أنه في الهالكين. أو يقول: إلا من سبق عليه القول أنه لا يؤمن، فهذا يدل أن في أهله من كان ظالمًا كافرا حيث استثني من أهله، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ}: يذكر هذا - واللّه أعلم - تذكيرًا لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مننه ونعمه التي أنعمها عليه؛ لأن نوحًا مع طول مكثه بين أظهر قومه وكثرة دعائه قومه إلى دين اللّه ومواعظه لم يؤمن من قومه إلا القليل منهم؛ ورسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مع قلة مكثه وقصر عمره آمن من قومه الكثير يعرفه نعمه عليه، وفيه دلالة رد قول من يقول: إن المواعظ إنما تنفع، الموعوظ على قدر استعمال الواعظ، وليس هكذا ولكن على قدر قبول الموعوظ إياها وقدر الإقبال إليها؛ لأن نوحًا - عليه السلام - كان أشد الناس استعمالا للمواعظ وأكثرهم دعاء، ثم لم يؤمن من قومه إلا القليل؛ دل أنه ليس لما فهموا، ولكن لما ذكرنا. وأما ما ذكر أهل التأويل أنه حمل في السفينة حبات العنب، فأخذه إبليس فلم يعطه إلا أن أعطى له الشركة، فذلك شيء لا علم لنا به، فإن ثبت ذلك فيكون فيه دلالة أن ليس له في سائر الأنبذة والأشربة نصيب، إنما يكون له فيما يخرج من العنب، وتقدير الثلث والثلثين إنما يكون في عصير العنب خاصة ليس في غيره، واللّه أعلم. ٤١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللّه مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١) يحتمل قوله: {بِسْمِ اللّه مَجْرَاهَا} أنه لما قال لهم نوح: اركبوا فيها قولوا {بِسْمِ اللّه مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا}، وهو كقول الناس باسم اللّه من أوله على ما يقال، ويذكر اسم اللّه في افتتاح كل أمر وكل عمل من ركوب ونزول وغيره. ويحتمل قوله: {بِسْمِ اللّه مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} أي: باللّه مجراها ومرساها، أي: به تجري وبه ترسو، وأنه ليس كسائر السفن التي بأهلها تجري وبهم تقف، وهم الذين يتولون ويتكلفون إجراءها ووقوفها، وأما سفينة نوح كانت جريتها باللّه وبه رسوها لا صنع لهم في ذلك، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}: هو ظاهر لمن آمن به وصدق رسوله ينجيه من الغرق والهلاك. ٤٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (٤٢) هذا يدل على ما ذكرنا أنها كانت باللّه تجري وبه ترسو؛ حيث لم يخافوا الغرق مع ما كان من الأمواج، وأما سائر السفن فإن أهلها خافوا من أمواجها، لما كانوا هم الذين يتولون ويتكلفون إجراءها ووقفها، واللّه أعلم. وقوله: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ}: هذا يدل على أنها كانت آية؛ لأن الأمواج تمنع من جريان السفينة وسيرها، فإذا أخبر أنها لم تمنع هذه من جريانها دل أنه أراد أن تصير آية لهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ}. يحتمل قوله: {وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ} أي: بمعزل من نوح، أو كان بمعزل من السفينة، أو ما كان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} يحتمل لاتكن مع الكافرين: لتغرق، أو لا تكن مع الكافرين لنعم اللّه. ٤٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّه إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣) أي: سأنضم إلى جبل، {يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ}: ظن المسكين أن هذا الماء كغيره من المياه التي يسلم منها بالالتجاء إلى الجبال، فأخبر عليه السلام أنه {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّه} أي: من عذاب اللّه، سمى عذابه أمر اللّه لما ذكرنا أمر اللّه أمر تكوين؛ لأنه هو النهاية في الاحتجاج لقوله: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ. . .} الآية، وهو كما يسمى البعث لقاء اللّه لأنه هو النهاية في الاحتجاج، على من ينكر البعث؛ فعلى ذلك سمى عذابه أمر اللّه وهو أمر تكوين؛ لأنه هو النهاية في الاحتجاج على من ينكر العذاب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ} بهدايته إياه، أو إلا من سبقت له الرحمة من اللّه بالهداية له والنجاة. وقوله: {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ}: يحتمل قوله: {بَيْنَهُمَا} بين ابنه وبين نوح، ويحتمل بينه وبين السفينة. {فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} وقوله: {فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ}: يحتمل صار من المغرقين، ويحتمل كان في علم اللّه أنه يغرق، وهذا يدل على أن قوله في إبليس: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}، أنه يخرج على وجهين: أحدهما: أنه كان في علم اللّه أنه يكفر، أو صار من الكافرين كما ذكر، وكان من المغرقين إذ لم يكن من المغرقين في الأزل. ٤٤وقوله: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي ... (٤٤) قَالَ بَعْضُهُمْ: عاد كل ماء إلى من حيث خرج: ما أرسل من السماء عاد إليها، وما خرج من الأرض غاض في الأرض وغار فيها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا ولكن أمسك السماء من إرساله، وأمسك الأرض من نبعه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي) ليس على القول لهم، ولكن اللّه أمسكهما من إرساله ونبعه. ويحتمل على القول منه لهم باللطف جعل فيهم ما يفهم هذا. {وَغِيضَ الْمَاءُ} أي: غار الماء في الأرض. {وَقُضِيَ الْأَمْرُ}: بهلاك قوم نوح ويحتمل على التكوين على ما ذكر {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} أي: استقرت على الجودي وهو جبل (وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي هلاكا ويحتمل بعدا للقوم الظالمين من رحمة اللّه. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: مرساها أي تقف. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ}: يمنعني من الماء، وقال: {لَا عَاصِمَ اليومَ مِن أَمْرِ اللّه} قَالَ الْقُتَبِيُّ: لا معصوم اليوم من عذاب اللّه؛ كقوله: {مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} أي: مدفوق، وأصله لا عاصم أي: لا شيء يمنع اليوم من نزول عذاب اللّه عليهم ولا دافع لهم منه. ٤٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ ... (٤٥) الآية، فقال: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ}. هذا - واللّه أعلم - كان عند نوح أن ابنه كان على دينه لما لعله كان يظهر الموافقة له، وإلا لا يحتمل أن يقول: إن ابني من أهلي ويسأله نجاته، وقد سبق منه النهي في سؤال مثله حيث قال: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} ولا يحتمل أن يكون يعلم أنه على غير دينه، ثم يسأل له النجاة بعدما نهاه عن المخاطبة في الذين ظلموا، فقال: إنه ليس من أهلك في الباطن والسر، والإخرج هذا القول مخرج تكذيب رسوله، لكن الوجه فيه ما ذكرنا أنه كان في الظاهر عنده أنه على دينه لما كان يظهر له الموافقة، وكان لا يعرف ما يضمره فسأله على الظاهر الذي عنده؛ وكذلك أهل النفاق كانوا يظهرون الموافقة لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه ويضمرون الخلاف له، وكانوا لا يعرفون نفاقهم إلا بعد إطلاع اللّه إياه؛ فعلى ذلك نوح كان لا يعرف ما كان يضمر هو لذلك خرج سؤاله ٤٦فقال: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ (٤٦) الذي وعدت النجاة لهم، أو ليس من أهلك؛ لأنه لم يؤمن بي ولم يصدقك فيما أخبرت أنه عمل غير صالح. روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقرأ: {عَمِلَ غَيرَ صالِحٍ} بغير تنوين. وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قرأه: {عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} بالتنوين. فمن قرأ بالنصب: {عَمِلَ غيرَ صَالِحٍ} أي: أن ابنك عمل غير صالح، ومن قرأه: {عَمَلٌ} يكون معناه - واللّه أعلم - أن سؤالك عمل غير صالح وكلا القراءتين يجوز أن يصرف إلى ابنه، أي: أنه عمل غير صالح وهو عمل الكفر، {عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} أي: الذي كان عليه عمل غير صالح، واللّه أعلم. وقوله: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} ثم قال: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ}: هذا في الظاهر يخرج على التكذيب له، لكن الوجه فيه أنه من أهلك على ما عندك، وليس هو من أهلك فيما بشرتك من نجاة أهلك. وقوله: {وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ}: يحتمل وجهين: يحتمل وأن وعدك بإغراق الظلمة حق. والثاني: وإن وعدك بنجاة المؤمنين حق وأنت أحكم الحاكمين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}: يحتمل هذا نهيا عن سؤال ما لم يؤذن له من بعد؛ لأن الأنبياء - عليهم السلام - كانوا لا يسألون شيئًا إلا بعد الإذن لهم في السؤال، وإن كان يسع لهم السؤال، أو أن يكون عتابًا لما سبق، والأنبياء - عليهم السلام - كانوا يعاتبون في أشياء يحل لهم ذلك؛ نحو قوله لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: {عَفَا اللّه عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا}، وقد كان له - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - الأمر بالقعود والنهي عن الخروج بقوله: {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا}، ونحوه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}: هو كما نهى رسول اللّه: {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} وأمثاله، وإن كان معلوما أنه لا يكون من الجاهلين، وهو ما ذكرنا أن العصمة لا تمنع النهي عن الشيء، بل بالنهي تظهر العصمة. ٤٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٤٧) إني أعوذ بك أن أعود إلى سؤال لا أعلم بالإذن في السؤال هذا يحتمل. وقوله: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} أي: إن لم ترحمني بالعصمة من العود إلى مثله أكن من الخاسرين، هذا يشبه أن يكون. ويحتمل أن يكون ذكر هذا لما لا يستوجبون المغفرة والرحمة إلا برحمة اللّه وفضله، على ما روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " لن يدخل أحد الجنة إلا برحمة اللّه "، قيل: ولا أنت يا رسول اللّه؟ قال: " ولا أنا، إلا أن يتغمدني اللّه برحمته ". وقوله تعالى: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}: هو طلب المغفرة بالكناية، وهو أبلغ وأكبر من قوله: اللّهم اغفر لي؛ لأن في قوله: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي} قطع رجاء المغفرة من غيره، وإخبار ألَّا يملك أحد ذلك، وليس في قوله: اغفر لي قطع كون ذلك من غيره؛ لذلك كان ذلك أبلغ من هذا، وكذلك سؤال آدم وحواء المغفرة حيث قالا: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا. . .} الآية، هو سؤال بالكناية فهو أبلغ في السؤال. ٤٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (٤٨) قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: أنزل من الجودي إلى قرار الأرض، وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {اهْبِطْ} أي: انزل وأقم على المقام والمكث في المكان، ليس على الهبوط من مكان مرتفع إلى مكان منحدر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ}: السلام هو أن يسلم عن الشرور والآفات، والبركة هي نيل كل خير وبر على غير تبعة، ثم هما في التحصيل واحد؛ لأنه إذا سلم عن كل شر وآفة نال كل خير وبر، وإذا نال كل خير سلم عن كل شر وآفة، هما في الحقيقة واحد لكنهما في العبارة مختلف، وهو كالبر والتقوى من العبد: البر هو كسب كل خير، والتقوى هو اتقاء كل شر ومعصية، هما في العبارة مختلفان وفي الحقيقة واحد؛ لأنه إذا اتقى كل شر ومعصية عمل كل خير وبر، واذا كسب كل خير وبر اتقى كل معصية وشر؛ وعلى ذلك يخرج الشكر والصبر: الصبر هو كف النفس عن كل مأثم، والشكر هو استعمال النفس في كل طاعة، هما أيضًا في العبارة مختلفان وفي الحقيقهَ واحد؛ لأنه إذا كف نفسه من كل مأثم استعملها في الطاعة، وإذا استعملها في الطاعة كفَّها عن كل مأثم ومعصية؛ وعلى ذلك يخرج الإسلام والإيمان: الإسلام هو تسليم النفس للّه خالصة سالمة لا يجعل لغيره فيها حقا، والإيمان هو أن يصدق اللّه بالربوبية في نفسه وفي كل شيء، وهما في الحقيقة واحد وفي العبارة مختلفان؛ لأنه إذا جعل نفسه وكل شيء سالما أللّه تعالى، أقر بالربوبية له في نفسه وفي كل شيء، واذا صدقه وأقر له بالربوبية في نفسه وفي كل شيء جعلها للّه، وكل شيء له. هذه أشياء في العبارة مختلفة وفي التحصيل واحد. ثم قوله: {اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا}: جائز أن يكون جواب قوله: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي} آمنه عما خاف وطلب منه المغفرة والرحمة. والثاني: السلام له منه هو الثناء الحسن؛ كقوله: {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ}. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ}: يحتمل أن يكون جواب قوله: {أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا}، والبركة هي اسم كل خير لا انقطاع له، أو اسم كل شيء لا تبعة له عليه فيه. ثم قوله: {بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ}، على قول بعض أهل التأويل: ذلك السلام، وتلك البركات في الدنيا: السلام لما سلموا من الغرق والبركات ما نالوا في الدنيا من الخيرات والمنافع. وعلى قول بعضهم: السلام والبركات جميعًا في الآخرة. ثم جعل عَزَّ وَجَلَّ المؤمن والكافر مشتركين في منافع الدنيا وبركاتها، وجعل منافع الآخرة وبركاتها للمؤمنين خاصة بقوله: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}، وبقوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّه الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} ثم قال: {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، أشرك المؤمن والكافر في زينة الدنيا، ثم جعل للمؤمنين خالصة يوم القيامة، فذلك قوله: {وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} أخبر أنه يمتعهم ثم يصيبهم عذاب أليم، ويمتع المؤمن أيضًا في هذه الدنيا بأنواع المنافع، ثم أخبر أن العاقبة للمتقين ثم جعل العاقبة للمتقين بإزاء ما جعل لهم عذابا أليما أعني الكفرة، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ}: ولم يكن مع نوح أمم يومئذ، إنما كانوا معه نفرًا، لكنه أراد - واللّه أعلم - الأمم التي كانوا من بعده كأنه قال: وعلى أمم يكونون من بعدك، فهذا يدل أن دين الأنبياء والرسل جميعًا دين واحد، وإن اختلفت شرائعهم؛ لأن تلك الأمم لم يكونوا بأنفسهم مع نوح، ولا كانوا معه في العبادات التي كان فيها نوح؛ دل أنهم كانوا جميعًا على دينه وهو واحد، وعلى ذلك يخرج دعاؤه: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ. . . الآية، دعاء بالمغفرة له لكل مؤمن ومؤمنة يكون من بعده؛ وكذلك يحق على كل كافر دعاؤه: {وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا}. ٤٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (٤٩) يحتمل قوله: {تِلْكَ} أي: قصة نوح من أنباء الغيب غابت عنك لم تشهدها، ولم تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا، إن كان المراد من قوله: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ} قصة نوح خاصة وأنباؤه، كان يجيء أن يقول: هذه من أنباء الغيب نوحيها إليك، لكنه كأنه على الإضمار، أي: هذه الأنباء تلك الأنباء التي ذكرت في كتبهم، وإن كان المراد هذه وغيرها من الأنباء يصير كأنه قال: هذه من تلك الأنباء. ويحتمل قوله: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ} القصص كلها قصة نوح وغيره من الأنبياء من أنباء الغيب، غاب عنك لم تشهدها ولا تعلمها أنت ولا قومك، خص قومه لأن غيره من الأقوام قد كانوا عرفوا تلك الأنباء فيخبرونهم فيعرفون به صدق رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وفيه دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لأنه أخبرهم على ما أخبر أُولَئِكَ الذين عرقوا تلك الأنباء بكتبهم؛ ليعلم أنه إنما عرف ذلك أباللّه تعالى إذ تلك، الأنباء كانت بغير لسانه، ولم يعرف أنه اختلف إلى أحد منهم؛ دل أنه إنما عرف ذلك باللّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَاصْبِرْ} يحتمل قوله: {فَاصْبِرْ} على تكذييهم إياك، وعلى أذاهم أو اصبر على ما أمرت ونهيت، واصبر على ما صبر إخوانك من قبل؛ كقوله: {كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}، ونحوه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} يشبه أن يكون قوله: {لِلْمُتَّقِينَ} الذين اتقوا الشرك وأمكن الذين اتقوا الشرك والمعاصي كلها، والأشبه أن يكون المراد منه اتقاء الشرك؛ لأنه ذكر بإزاء قوله: {وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} فهو في العقد أشبه. وقال بعض أهل التأويل في قوله: {اهْبِطْ بِسَلَامٍ} من السفينة بسلام منا، فسلمه اللّه ومن معه من المؤمنين من الغرق، {وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} يعني بالبركة أنهم توالدوا وكثروا بعدما خرجوا من السفينة. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - في قوله: {وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} ممن سبق له في علم اللّه البركات والسعادة من النبيين وغيرهم. ٥٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا}: هذا واللّه أعلم صلة قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} فيقول: ولقد أرسلنا هودًا إلى عاد أخاهم. ثم يحتمل قوله: {أَخَاهُمْ} الأخوة تكون على وجوه: أخوة جنس يقال: هذا أخو هذا نحو مصراعي الباب، يقال لأحدهما: هذا أخو هذا ونحو أحد زوجي الخف وأمثاله. وأخوة النسب. وأخوة الدِّين؛ كقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}، فهو لم يكن أخا لهم في الدِّين، فهو يحتمل أنه أخوهم في الجنس وفي النسب؛ لأن الناس كلهم ينسبون إلى آدم فيقال: بنو آدم مع بعد ما بينه وبينهم؛ فعلى ذلك يكون بعضهم لبعض إخوة مع بعد النسب الذي بينهم، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّه مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}: يُعبَد أي: الذين تعبدون ليسوا بآلهة يستحقون العبادة إنما الإله الذي يستحق العبادة، اللّه الذي خلقكم وخلق لكم الأشياء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ} أي: ما أنتم إلا مفترون، لا يحتمل أن يكون هو قال لهم هذا في أول ما دعاهم إلى التوحيد، وفي أول ما ردوا إجابته وكذبوه؛ لأنهم أمروا بلين القول لهم وتذكير النعمة عليهم؛ كقوله لموسى وهارون حيث بعثهما إلى فرعون بقوله: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} الآية، ولكن كأنه قال لهم ذلك بعد ما سبق منه إليهم دعاء غير مرة، وأقام عليهم الحجة والبراهين فردوها، فعند ذلك قال لهم هذا حيث قالوا: {يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ. . .} الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ}: يحتمل في تسميتهم الأصنام التي عبدوها آلهة، يقول: إن أنتم إلا مفترون في ذلك. ويحتمل أنه سماهم مفترين فيما قالوا اللّه أمرهم بذلك، يقول: أنتم مفترون فيما ادعيتم الأمر بذلك، أو مفترون في إنكارهم البعث والرسالة. ٥١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٥١) هذا قد ذكر في غير موضع يقول لهم - واللّه أعلم -: إني لا أسألكم على ما أدعوكم إليه أجرا يمنعكم ثقل ذلك الأجر وغرمه عن الإجابة، فما الذي يمنعكم عن الإجابة لي ويحملكم على الرد بل أدعوكم إلى ما ترغبون فيه، فكيف يمنعكم عن الإجابة والنظر فيما أدعوبهم إليه؟! {أَفَلَا تَعقِلُونَ}: أني رسول إليكم بآيات وحجج جئت بها، أو: أفلا تعقلون أنها آيات وحجج ونحوه، أو يقول: أفلا تعقلون أن اللّه واحد وأنه رب كل شيء وخالق كل شيء ومنشئه. ٥٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢) يحتمل أن يكون قوله استغفروا ربكم ثم توبوا إليه واحدا. ويحتمل على التقديم والتأخير توبوا إليه ثم استغفروا ما كان منكم من المساوي، أي: أقبلوا إلى طاعة اللّه واندموا على أفعالكم. وقوله: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ}: معلوم أن هودا لم يرد بقوله: {اسْتَغْفِرُوا} أن يقولوا: نستغفر اللّه، ولكن أمرهم أن يطلبوا السبب الذي به تجب لهم المغفرة وتحق وهو التوحيد، كأنه قال: وحدوا ربكم فآمنوا به ثم توبوا إليه، أو يقول: اطلبوا المغفرة بالانتهاء عن الكفر؛ كقوله تعالى: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ}: قال بعض أهل التأويل: إنه قد كان انقطع عنهم المطر وانقطع نسلهم، فأخبر أنكم إن تبتم إلى اللّه، واستغفرتم ربكم {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا. . .} الآية حتى تناسلوا وتتوالدوا. ويحتمل قوله: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً} أي: يزدكم قوة أفعالكم إلى قوة أبدانكم؛ لأنهم كانوا أهل قوة وأهل بطش بقولهم قالوا: من أشد منا قوة. ويحتمل على الابتداء: يرسل السماء عليكم مدرارا، ويزدكم قوة إلى قوتكم. فقوله: {وَلَا تَتَوَلَّوْا} عما أدعوكم فيه؛ فتكونوا {مُجْرِمِينَ} ولا تتولوا عما أدعوكم فيه؛ فتكونوا مجرمين. المجرم قال أبو بكر: هو الوثاب في الإثم، وقيل: هو المكتسب. ٥٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣) على ما تدعونا إليه، أو على ما تدعي من الرسالة، فعند ذلك قال لهم هود: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ}. {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا} أي: ما نحن بتاركي عبادة آلهتنا عن قولك، أي: بقولك، كان لا يدعوهم هود إلى ترك عبادة آلهتهم بقوله خاصة، ولكن قد دعاهم وأقام على فساد ذلك الحجج والبراهين، لكنهم قالوا متعنتين مكابرين: {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} فيما تدعونا إلمه، وتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا. ٥٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّه وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) قيل: هو كان يسب آلهتهم ويذكرهم بالعيب فيقولون: إن يعترك من بعض آلهتنا سوء أو يصيبوك بجنون وخبل، فلا عجب أن يصيبك منها فاجتنبها سالما، فذلك يخرج منهم مخرج الامتنان، أي: إنا إنما ننهاك عن سب آلهتنا وذكر العيب فيها إشفاقًا عليك لئلا يصيبك شيء منها. وقال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: قالوا: " شتمت آلهتنا فخبلتك وأصابتك بالجنون، فتأويله - واللّه أعلم - أنك إنما تدعونا إلى ما تدعونا إليه وتدعي ما تدعي لما أصابتك آلهتنا بسوء واعترتك بجنون، كانوا يخوفونه أن تصيبه آلهتهم بسوء بتركه عبادتها، على ما كانوا يرجون وليطمعون بعبادتهم إياها شفاعتها لهم؛ ٥٥قال: {إِنِّي أُشْهِدُ اللّه وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} به وتعبدونه من الآلهة، واشهدوا أنتم أيضًا بأني بريء من ذلك، (فَكِيدُونِي جَمِيعًا ... (٥٥) أنتم وآلهتكم فيما تدعونني من الهلاك أو السوء، {ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ} أي: ثم لا تمهلون في ذلك. ويحتمل قوله: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا} أنتم وآلهتكم؛ يقول: اعملوا أنتم وآلهتكم جميعًا التي تزعمون أنها خبلتني وأجنتني، {ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ}. أي: لا تمهلون، وهذا من أشد آيات النبوة؛ لأنه يقول لهم وهو بين أظهرهم وحيدًا، فلولا أنه يقول ذلك لهم بقوة من اللّه والاعتماد له عليه والانتصار به، والا ما اجترأ أحد أن يقول مثل هذا بين أعدائه علم أنه قال ذلك باللّه تعالى؛ وكذلك قول رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: {قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ. . .} الآية، وقول نوح: {ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ. . .} الآية وقول شعيب: {وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ. . .} الآية. وأمثاله، قالوا ذلك بين أظهر الاعداء ولم يكن معهم أنصار ولا أعوان؛ دل أنهم إنما قالوا ذلك باللّه وذلك من آيات النبوة. ٥٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّه رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦) أي: فوضت أمري إلى اللّه، أو وكلت في جميع عملي إليه، أو وثقت به واعتمدت عليه فيما توعدونني من الهلاك، أو توكلت عليه في دفع ما أوعدتموني ربي وربكم، أي: كيف توعدونني بآلهتكم التي تعبدون، ولا تخافون الذي تعلمون أنه هو ربي وربكم؟! وهو كما قال إبراهيم: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللّه. . .} الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا}: يميتها متى شاء.
وقوله: {آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} أي: في ملكه وسلطانه، يقال: فلان آخذ بحلقوم فلان، وفلان في قبضة فلان ليس أنه في قبضته بنفسه أو آخذ بحلقوم فلان، ولكن يراد أنه في سلطانه وفي ملكه وفي قبضته. {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي: على الذي أمرني ربي ودعاني إليه، أو يكون قوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي: أن الذي أمرني ربي ودعاني إليه هو صراط مستقيم؛ كقوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الاعتراء هو الأخذ، يقال: اعترته الحمى أي أخذته. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الاعتراء هو الإصابة، بقول: إلا اعتراك: أصابك، يقال: أعتريت: أصبت، وهو ما ذكرنا. ٥٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧) يحتمل على الإضمار أي: فإن تولوا عن إجابتك وطاعتك فقل قد أبلغتكم رسالات ربي؛ لأن قوله: {تَوَلَّوْا} إنما هو خبر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَبْلَغْتُكُمْ}: خطاب، وأمكن أن يكونا جميعًا على الخطاب، يقول: فإن توليتم عن إجابتي فيما أدعوكم إليه، فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم وليس على إلا تبليغ الرسالة إليكم؛ كقوله: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ}؛ وكقوله: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ}، يقول: إنما عليَّ إبلاع الرسالة إليكم، ليس على جرم توليكم عن إجابتي؛ كقوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} ونحوه، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ} فيه وجهان: أحدهما: يخبر عن هلاكهم؛ لأنه أخبر أنه يستخلف قومًا غيرهم؛ لأنه ما لم يهلك هَؤُلَاءِ لا يكون غيرهم خلفهم: لأنهم كانوا يقولون: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً}، يقول - واللّه أعلم -: إن قوة أبدانكم وبطشكم لا تعجز اللّه عن إهلاككم، وفيه أن عادًا ليسوا هم النهاية في العالم، بل يكون بعدهم قوم غيرهم، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا} أي: لا تضرونه بتوليكم عن إجابتي وردكم رسالة اللّه إليكم، ليس كملوك الأرض إذا تولى عنهم خدمهم وحشمهم ضرهم ذلك. والثاني: لا تضرونه كما يضر ملوك الأرض بالقتال والحرب بعضهم بعضا. والثالث: لا تضرونه لأنه لا منفعة له فيما يدعوكم حتى يضره ضد ذلك؛ إذ ليس يدعوكم إلى ما يدعو لحاجة نفسه ولا لمنفعة له، إنما يأمركم ويدعوكم لحاجة أنفسكم والمنفعة. لكم. ويحتمل أن يكون لا تضرونه شيئًا جواب قوله: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا. . .} الآية. {إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} ألا يخفى عليه شيء وإن لطف، فكيف يخفى عليه أعمالكم وأموالكم مع ظهورها وبدوها. أو يقول: إن ربي على كل شيء حفيظ: فيجزيه عليه، ولا يذهب عنه شيء، أي: لا يفوته، واللّه أعلم. ٥٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (٥٨) قوله: {جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا} أمر تكوين لا أمر يقتضي الساعة؛ كقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}؛ فعلى ذلك هذا هو أمر تكوين وقد ذكرناه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا}: هذا يدل أن من نجا إنما نجا برحمة منه لا بعمله؛ وعلى ذلك روي في الخبر عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " لا يدخل أحد الجنة إلا برحمة اللّه، قيل: ولا أنت يا رسول اللّه؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني اللّه برحمته "، لا على ما يقوله المعتزلة: إن من نجا إنما ينجو بعمله لا برحمته. ثم يحتمل قوله: {بِرَحْمَةٍ مِنَّا} وجوهًا؛ تحتمل الرحمة هاهنا هودا، أي: رحمهم به حيث بعث إليهم رسولا فنجا من اتبعه، فإن كان هذا ففيه أن أهل الفترة معاقبون في حال فترتهم؛ لأنه أخبر أن من نجا إنما نجا بهود، فدل أنهم معاقبون قبل بعث الرسل إليهم. ويحتمل قوله: {بِرَحْمَةٍ مِنَّا} أي: بتوفيق منا إياهم نجا من نجا منهم. والثالث: {وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} قَالَ بَعْضُهُمْ: نجيناهم من العذاب الذي أهلك هَؤُلَاءِ. ويحتمل أن يكون على الوعد أي: ينجيهم في الآخرة من عذاب غليظ. ٥٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩) أي: وتلك أهل قرية عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسلهم، الكفر بالآيات كفر بجميع الرسل، والكفر بواحد من الرسل كفر بالرسل جميعًا وباللّه؛ لأن كل واحد من الرسل يدعو إلى الإيمان باللّه وبجميع الرسل، فالإيمان بواحد منهم إيمان باللّه وبجميع الرسل والآيات، والكفر بواحد منها كفر باللّه وبجميع الرسل، وإنما كان الكفر بالآيات كفرا باللّه؛ لأن اللّه إنما يعرف من جهة الآيات والكفر بالآيات كفر به. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} قيل: أخبر أنهم اتبعوا أمر الجبابرة وأطاعوهم، وتركوا اتباع الرسل وطاعتهم. قيل: الجبار هو المتجبر الذي يتجبر على الرسل ويتكبر عليهم؛ لأن الرؤساء منهم كانوا يتجبرون على الرسل ويتكبرون، ثم الأتباع اتبعوا الرؤساء في عملهم. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: الجبار هو المتجبر، والعنيد هو المعاند المخالف. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: العنود والعنيد والمعاند المعارض لك بالخلاف عليك. وقال أبو عبيدة: العنيد والعنود والمعاند هو الجائر. ٦٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠) قَالَ بَعْضُهُمْ: اللعن هو العذاب، أي: أتبعوا في الدنيا وفي الآخرة بالعذاب؛ كقوله: {أَلَا لَعْنَةُ اللّه عَلَى الظَّالِمِينَ}، أي: عذاب اللّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأُتْبِعُوا} أي: ألحقوا، وقيل: إن اللعن هو الطرد، طردوا عن رحمة اللّه حتى لا ينالوها لا في الدنيا ولا في الآخرة، إلا أن عادًا كفروا ربهم {أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ}، أي: أَلَا بُعْدًا لهم من رحمة اللّه. ٦١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ... (٦١) هو ما ذكرنا، أي: أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحًا. وقوله: {أَخَاهُمْ}: فد ذكرنا أيضًا أن الأخوة تتجه إلى وجوه ثلاثة: أخوة في الدِّين، وأخوة في الجنس، وأخوة في النسب أفهو لا يحتمل أن يكون أخاهم في الدِّين، لكنه يحتمل أن يكون أخاهم من الوجهين الآخرين في الجنس والنسب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّه مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}: إن الرسل صلوات اللّه عليهم جميعًا أول ما دعوا قومهم إنما دعوا إلى توحيد اللّه وجعل العبادة له؛ لأن غيره من العبادات إنما يقوم بالتوحيد، فكان أول ما دعاهم قومهم إليه لم يزل عادة الرسل وعملهم الدعاء إلى توحهيد اللّه والعبادة له. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ}: وقال بعض أهل التأويل: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} يقول: هو خلقكم من آدم وخلق آدم من الأرض، لكنه أضاف خلق الخلائق إليها؛ كما أضاف في قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ. . .} الآية أخبر أنه خلقنا من نفسه، أي: آدم، وإن لم تكن أنفسنا منه؛ فعلى ذلك إضافته إيانا بالخلق من الأرض، وإن لم يخلق أنفسنا منها، أي: خلق أصلنا وأنشأه من الأرض، فأضاف إنشاءنا إلى ما أنشأ أصلنا. ويشبه أن يكون قوله: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} أي: جعل نشأة الخلائق كلهم ونماءهم وحياتهم ومعاشهم بالخارج من الأرض؛ إذ به نشوءهم ونماؤهم وحياتهم وقوامهم منها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}: قَالَ بَعْضُهُمْ: أسكنكم فيها، وقال بعضهم: استخلفكم فيها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}، أي: جعلكم عمار الأرض تعمرونها لمعادكم ومعاشكم، جعل عمارة هذه الأرض إلى الخلق هم الذين يقومون بعمارتها وبنائها وأنواع الانتفاع بها، ويرجع كله إلى واحد. وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: {وَاسْتَعْمَرَكُمْ} أي: جعل عمركم طويلا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ}: هذا قد ذكرنا فيما تقدم في قصة نوح، أي: كونوا بحال يغفر لكم؛ وهو كقوله: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}، كأنه قال: فإن انتهوا عن الكفر يغفر لهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ}: لحفظ الخلائق أو قريب لمن أنعم عليهم وأمثاله، أو قريب إلى كل من يفزع إليه، مجيب لدعاء كل داع استجاب له؛ كقوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي .. .} الآية؛ وكقوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي. . .} الآية. ٦٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢) قَالَ بَعْضُهُمْ: قولهم: {قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا} كنت ترحم الضعفاء وتعود المرضي ونحو ذلك من الكلام، فالساعة صرت على خلاف ذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا} كنا نرجو أن ترجع إلى ديننا قبل هذا الذي تدعونا إليه، فالساعة صرت تشتم آلهتنا وتذكرها بعيب، أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا، أي: ما كنا نعرف أن آباءنا عندك سفهاء من قبل هذا، فالساعة تسفه أحلامهم في عبادتهم الأصنام. {وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} قالوا هذا؛ احتجاجًا لهم عليه فيما دعاهم إلى توحيد اللّه وعبادتهم إياه، فقالوا: إنا على يقين أن آباءنا قد عبدوا هذه الآلهة من غير شك فما تدعونا إليه مريب، أي: يريبنا أمرك ودعاؤك لنا إلى هذا الدِّين. قد قيل هذا، ولكنا لا نعلم ما كانوا يرجون فيه، وأما المعنى الذي قالوا له قد كنت فينا مرجوا سوى أنا نعلم أنه كان مرجوا فيهم بالعقل والدِّين والعلم والبصيرة ونحوه، فكان مرجوا فيهم بالأشياء التي ذكرنا. هذا نعلمه ولا نعلم ما عنى أُولَئِكَ بقولهم: {قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا}، واللّه أعلم. ٦٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللّه إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣) أي: إن كنت على حجة وبرهان وبيان من ربي فيما أدعوكم إلى توحيد اللّه وصرف العبادة إليه. والثاني: قوله: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} أي: قد كنت على بينة من ربي {وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً} يحتمل قوله: رحمة أي: آتاني هدى ونبوة من عنده. {فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللّه} أي: من يمنعني من عذاب اللّه إن عصيته ورجعت إلى دينكم، أي: لا أحد ينصرني إن أجبتكم إلى ما دعوتموني إليه، أي: لا أحد ينصرني دون اللّه لو أجبتكم وأطعتكم فيما دعوتموني إليه. ثم الذي دعوه إليه يحتمل ترك تبليغ الرسالة إليهم، أو دعوه إلى عبادة الأصنام التي عبدوها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ}: قيل فيه بوجوه: قيل: فما تزيدونني بمجادلتكم إياي فيما تجادلونني إلا خسرانًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: فما تزدادون بمعصيتكم إياي إلا خسرانًا لأنفسكم. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: غير تخسير، أي: غير نقصان. ٦٤وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: غير تخسير هو من الخسران، يقال: خسرته أي: ألزمته الخسران. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللّه لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّه وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (٦٤) قال لهم هذا حين سألوا منه الآية، فقال: هذه ناقة اللّه لكم آية على صدق صالح فيما ادعى من الرسالة، أو هذه ناقة اللّه لكم فذروها تأكل في أرض اللّه، قال لهم هذا حين سألوا منه الآية، فقال: هذه ناقة اللّه لكم آية، أي: لكم آية التي سألتموها من الرسالة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {نَاقَةُ اللّه}: أضاف إليه لخصوصية كانت فيها نحن لا نعرف ذلك، ليست تلك الخصوصية في غيرها من النوق؛ لما جعلها آية لرسالته ونبوته خارجة عما عاينوا من النوق وشاهدوها، وهكذا كانت آيات الرسل كانت خارجة عن وسع البشر وطوقهم؛ ليعلم أنها سماوية. ثم لا نعرف أية خصوصية كانت لها عظم جسمها وغلظ بدنها، حيث قسم الشرب بينهم وبينها حتى جعل يوما لها ويومًا لهم بقوله: {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} ولم يقسم مراعيها بينها وبينهم بقوله: {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّه}، وأما ما قاله بعض الناس: إنها خرجت من صخرة كذا، وأنها كانت تحلب كل يوم كذا وأشياء أخر ذكروها، فإنا لا نعرف ذلك ولا نقطع القول فيه أنه كان كذلك، سوى أنا نعرف أن لها كانت خصوصية ليست تلك الخصوصية لغيرها من النوق، ولو كانت لنا إلى تلك الخصوصية حاجة لبينتها لنا، وأصله ما ذكرنا أنه إذا أضيف جزئية الأشياء إلى اللّه تعالى فهو على تعظيم تلك الجزئيات المضافة إليه، وإذا أضيف إليه كلية الأشياء فهو على إرادة التعظيم للّه والتبجيل له؛ نحو قوله: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، {وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ}، ونحوه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} نهاهم أن يمسوها بسوء، ولم يبين ما ذلك السوء، فيحتمل أن يكون ذلك شيء عرفوا هم ونهاهم عن ذلك. وقال بعض أهل التأويل: {وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} أي: لا تعقروها فيأخذكم عذاب قريب، لما كان ذلك على أثر عقرهم الناقة بثلاثة أيام حيث ٦٥قال: (فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥) وما ذكر أيضًا أن وجوههم اصفرت في اليوم الأول، ثم احمرت في اليوم الثاني، ثم اسودت في اليوم الثالث، ثم نزل بهم العذاب في اليوم الرابع، فذلك أيضا مما لا نعرفه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {عَذَابٌ قَرِيبٌ} قيل: سريغا لا تمهلون حتى تعذبوا. وقوله: {ذَلِكَ وَعْدٌ} من اللّه {غَيْرُ مَكْذُوبٍ}: ليس فيه كذب، وكان عذابهم إنما نزل على أثر سؤال الآية، سألوا ذلك فلما أن جاءهم بها كذبوها، فنزل بهم العذاب، وهكذا السنة في الأمم السالفة أنهم إذا سألوا الآية فجاءتهم فلم يؤمنوا بها نزل بهم العذاب، وهو قوله: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا. . .} الآية، واللّه أعلم. ٦٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) أي: جاء ما أمر به كما يقال: جاء وعد ربنا، أي: جاء موعود ربنا؛ لأن وعده وأمره لا يجيء، ولكن جاء ما أمر به ووعد به وهو العذاب، أو نقول: جاء أي أتى وقت وقوع ما أمر به ووعد، وهو العذاب الذي وعد وأمر به، واللّه أعلم. {نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا}: بنعمة منا أو بفضل منا، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} قيل: الخزي هو العذاب الذي يفضحهم، وقيل: كل عذاب فهو خزي، أي: نجاهم من خزي ذلك اليوم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} قيل: القوي: هو الذي لا يعجزه شيء، والعزيز هو الذي يذل من دونه، وقيل: القوي هو المنتقم المنتصر لأوليائه من أعدائه، والعزيز: هو المنيع في ملكه وسلطانه الذي لا يعجزه شيء. ٦٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٦٧) قيل: عذابهم كان صيحة صاح بهم جبريل، وقيل: الصيحة الصاعقة وكل عذاب فهو صيحة، لكن لا ندري كيف كان، أو أن يكون عذابهم قدر صيحة لسرعة وقوعه بهم، أو يسمى ذلك العذاب صيحة لما رأوه ما يصيحون فيما بينهم أو ما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ}: قال هاهنا: ديارهم، وقال في سُورَةِ الأعراف: دارهم، والقصة واحدة. قَالَ بَعْضُهُمْ: دارهم قراهم، وديارهم منازلهم، ولكن هو واحد أصبحوا جاثمين في دارهم ومنازلهم سواءٌ. وقوله: {جَاثِمِينَ} قيل: خامدين موتى وأصل قوله: {جَاثِمِينَ} أي: منكبين على وجوههم، يقال: جثم الطائر إذا انكب على وجهه مخافة الصيد، وقد ذكرناه فيما تقدم. ٦٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (٦٨) قيل: كان لم يعيشوا فيها، وقيل: كان لم يسكنوا فيها، وقيل: كأن لم يعمروا فيها، وأصله أنهم صاروا كان لم يكونوا فيها لما لا يذكرون يعد هلاكهم، فصاروا من حيث لا يذكرون كان لم يكونوا، وأما الأخيار والأبرار فإنهم وأن ماتت أبدانهم وصارت كان لم تكن ففي الذكر كأنهم أحياء حيث يذكرون بعد موتهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ} قيل: كفروا نعمة ربهم، أو كفروا بآيات ربهم، فذلك كله كفر باللّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ} أي: ألا بعدًا لثمود من رحمة اللّه. ٦٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى}: اختلفوا في هذه البشارة؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: جاءوا هم ببشارة إسحاق والحافد. وهو قوله: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ}. وقَالَ بَعْضُهُمْ: جاءوا ببشارة إهلاك قوم لوط وإنجاء لوط وأهله، قيل: لأن لوطا كان ابن أخي إبراهيم، وكان لوط فزع إلى اللّه بسوء عمل قومه وصنيعهم ودعا بالنجاة منهم، وهو قوله: {إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ. . .} الآية، حتى ذكر في بعض القصة أن سارة قالت لإبراهيم: ضم ابن أخيك إلى نفسك فإن قومه يعذبون، كأنها عرفت أنه لا يتركهم على ما هم عليه بسوء عملهم. قالوا: جاءوا بالبشارتين جميعًا: ببشارة الولد والحافد، وبشارة هلاك قوم لوط ونجاة لوط وأهله؛ إلى هذا يذهب بعض أهل التأويل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ}: هذا يدل أن السلام هو سنة الأنبياء والرسل والملائكة في الدنيا والآخرة، ولم تخص هذه الأمة به بل كان سنة الرسل الماضية والأمم السالفة وكذلك هو تحية أهل الجنة لقوله: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ}، ونحوه، هذا يدل على ما ذكرنا. ثم انتصاب قوله: {سَلَامًا} وارتفاع الثاني؛ لأن الأول انتصب لوقوع القول عليه كقولك: قال قولا، والثاني حكاية لقولهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ}. وقوله: {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ} أي: ما لبث عندهم حتى اشتغل بتقديم شيء إليهم، وإلا قد يكون في ذبح العجل وشويه لبث إلا أن يكون العجل مشويًّا، فإن لم يكن مشويّا فتأويله ما ذكرنا أن لم يلبث عندهم في المؤانسة والحديث معهم على ما يفعل مع الأضياف حتى جاء بما ذكر، وفيه ما ذكرنا من الأدب، وفيه دلالة فيمن نزل به ضيف ألا يشتغل بالسؤال عن أحوال ضيفه من أين وإلى أين؟ وما حاجتهم؟ ولكن يشتغل بقراهم وإزاحة حاجتهم؛ لأن إبراهيم - عليه السلام - إنما اشتغل بقراهم، لم يشتغل بالسؤال عن أحوالهم، ولكن اشتغل بما ذكرنا فجاء بعجل حنيذ، وهذا هو الأدب في الضيف، ألا ترى أنه لو كان سأل عن أحوالهم، فعرف أنهم من الملائكة لكان لا يشتغل بما ذكر؛ إذ عرف أنهم من الملائكة والملائكة لا يتناولون شيئًا من الطعام. وقوله: {بِعِجْلٍ حَنِيذٍ}، قَالَ بَعْضُهُمْ: الحنيذ: السمين، وهو ما ذكر في موضع آخر: {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ}. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحنيذ هو المشوي الذي خد في الأرض خدًّا، فحمي فشوي بالحجر المحمي. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحنيذ هو المشوي الذي يسيل منه الماء. وقال ابن عَبَّاسٍ: الحنيذ: النضيج. ٧٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) قَالَ بَعْضُهُمْ: نكرهم وأنكرهم واستنكرهم: واحد، وهو من الإنكار، أي: لم يعرفهم؛ ظن أنهم لصوص؛ لأن اللصوص من عادتهم أنهم كانوا إذا أرادوا السرقة من قوم لم يتناولوا من طعامهم، ولم يأكلوا شيئًا عندهم. وقيل: نكرهم أنهم برمن البشر. {وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً}. قيل: أضمر منهم خوفًا، قَالَ بَعْضُهُمْ: خاف لما ظن أنهم سراق ولصوص؛ حيث لم يتناولوا شيئًا مما قدم إليهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: خيفة، أي: وحشة: أي: أضمر وحشة، حيث لم يتناولوا شيئًا مما قرب إليهم؛ فحينئذ علم أنهم ليسوا من البشر؛ لأن منزل إبراهيم كان ينأى من البلد، ولم ينزل أحد من البشر إلا وقد احتاج إلى الطعام، فلما لم يتناولوا علم أنهم ليسوا من البشر، فما جاءوا إلا لأمر عظيم: لتعذيب قوم وهلاكهم؛ فخاف لذلك؛ فقالوا: {لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} وقال في موضع آخر: (إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً. . .) الآية. وقال في موضع آخر: {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ}. وقال في موضع آحْر: {لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ}، وقال: {فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} يذكر هاهنا أن قولهم: {إِنَّا أُرْسِلْنَا} على أثر سؤال، وفيما نحن فيه لا كذلك؛ فالمعنى فيه - واللّه أعلم - أن ذلك كان على أثر سؤال إبراهيم بقوله: {فَمَا خَطْبُكُمْ}، لكنه جمع ذلك فيما نحن فيه بالحكاية عن قولهم، وإن كان مفصولا عنه، وخرجت الحكاية في موضع آخر على ما كان في الحقيقة، وذلك مستقيم في كلام العرب، واللّه أعلم. ٧١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (٧١) قَالَ بَعْضُهُمْ: قائمة على رءوس الأضياف؛ لأنها كانت عجوز، ولا بأس لعجوز ذلك؛ ألا ترى إلى قول اللّه - تعالى - {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ. . .} الآية. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {قَائِمَةٌ} من وراء الباب، لكن لسنا ندري أي ذلك كان؟ وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَضَحِكَتْ}. قَالَ بَعْضُهُمْ: ضحكت، تعجبًا من خوف إبراهيم أنهم لصوص، وهم كانوا ثلاثة أو أربعة، دون عشرة، وكان خدم إبراهيم - عليه السلام - يبلغ عددهم ثلاثمائة، على ما ذكر في القصة ضحكت تعجبًا؛ إذ كيف يخاف من نفر عددهم دون عشرة، وعنده من الخدم ما يبلغ عددهم ما ذكرنا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ضحكت؛ تعجبا مما بشروها بالولد، وقد بلغ سنها ما بلغ من الكبر وهو كذلك، وقالت: أحق أن ألد وقد بلغت من السن كذا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ضحكت أي: حاضت، من قولهم: ضحكت الأرنب إذا حاضت، وهو قول ابن عَبَّاسٍ وعكرمة. وقال الفراء: {فَضَحِكَتْ}: حاضت غيرُ مسموع ولا معروف فعلى تأويل من قال: إنها ضحكت تعجبًا مما بشرت بالولد فهو على التقديم والتأخير، كأنه قال فبشرناها بإسحاق ومن وراء أسحاق يعقوب فضحكت. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ضحكت سرورًا بالأمن منهم؛ لأنهما خافا منهم. وقوله: {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ}. ظاهر هذا أنها بشرت بإسحاق، ومن وراء أولاد إسحاق أولاد يعقوب، ولكن لم يكن يعقوب ولد من إبراهيم؛ إنما ولد من إسحاق، وهو: حافد إبراهيم أبي إسحاق فتأويله من وراء إسحاق حافد؛ فإنما البشارة بالولد وبالحافد، وهو كقوله: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً}. وقال في هذه السورة: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ}، وقال في موضع آخر: {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ}. فإن كان على ما قالوا إنها كانت قائمة وراء الباب؛ فيكون إقبالها خروجها إلى القوم، وإن كان قيامها على رءوسهم؛ فيكون معنى الإقبال هو الإقبال في ضرب وجهها وصكها، لكن ذلك من القدوم، لكنه على الإقبال بفعل ما أخبر عنها من صك وجهها، واللّه أعلم. ٧٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) وقال في موضع آخر: (وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (٢٨) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) وقال هاهنا: {يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ}. هي لم تتعجب من قدرة اللّه أنه قادر على أن يهب الولد في كل وقت؛ ولكنها تعجبت لما رأت العادة في النساء والرجال أنهم إذا بلغوا المبلغ الذي كانوا هم لم يلدوا؛ فتعجبها أنها تلد في الحال التي هي عليها، أو يُردَّان إلى حال الشباب؛ فعند ذلك يولد لهما، وكلاهما عجيب بحيث الخروج على خلاف العادة، لا بحيث قدرة الرب، وهو كما ذكرنا من قول زكريا: {رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} وفي موضع آخر: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا}، وقوله: أنى يكون لي غلام في الحال التي أنا عليها أو يردُّ لي شبابي، فعلى ذلك قولها {أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ}. ٧٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّه رَحْمَتُ اللّه وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣) قال أهل التأويل: أتعجبين من قدرة اللّه هذا؟ لكنه يحتمل وجهين: أحدهما أي: لا تعجبي من أمر اللّه هذا وكثيرا مما رأيت أمثال ذلك في أهل بيتك. والثاني [ ..... ] وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {رَحْمَتُ اللّه وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ}. يشبه أن يكون هذا صلة قوله: {قَالُوا سَلَامًا}؛ لأنه معلوم أنهم لم يقولوا سلامًا حسب، لم يزيدوا على هذا؛ بل زادوا؛ فكأنهم قالوا: سلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته، أو قالوا: سلام اللّه ورحمته وبركاته عليكم. {أَهْلَ الْبَيْتِ}. بالنصب؛ كأنه قال يا أهل البيت، كقوله - عليه السلام - حيث قال: " تركت بعدي الثقلين: كتاب اللّه وعترتي: أهل بيتي "، أي: يا أهل بيتى. {إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ}. يحتمل حميد الذي يقبل اليسير من المعروف ويعطي الجزيل كالشكور، والمجيد: من المجد والشرف. وقيل: الحميد: المحمود، والمجيد: الماجد وهو الكريم، واللّه أعلم. ٧٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) قيل: الروع هو الفرق والفزع الذي دخل فيه بمجيء الملائكة. {وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى}. في الولد والحافد، وفي نجاة لوط وأهله، وهو ما ذكرنا في قوله: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى}. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ}. قال بعض أهل التأويل: مجادلته إياهم في قوم لوط ما ذكر في القصة أنه قال لهم: أرأيتم إن كان فيهم من المؤمنين كذا تعذبونهم؟ قالوا: لا ونحوه من الكلام فإن ثبت هذا، وإلا لا نعلم ما مجادلته إياهم وأمكن أن تكون مجادلته إياهم في دفع العذاب عنهم أو تأخيره دليله قوله: {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} ويحتمل مجادلته إياهم في استبقاء قوم لوط؛ شفقة عليهم ورحمة، لعلهم يؤمنون ويقبلون ما يدعون إليه؛ لئلا ينزل بهم العذاب: ما أوعدوا يتشفع إليهم ليسألوا ربهم أدق يبقيهم واللّه أعلم. ٧٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) قيل: الحليم هو الذي لا يكافئ من ظلمه ولا يجازيه به، أو يحلم عن سفه كل سفيه {أَوَّاهٌ}، قيل: الأواه: الموقن، بلغة الحبش، وقيل: الأواه: المتأوه، وهو الدعاء وكثير الدعاء، وقيل: الأواه: المتقي الذي لا يفتر لسانه عن ذكره، وقيل: الأواه: الحزين فيما بينه وبين ربِّه. في هذه الأحرف الثلاثة جميع أنواع الخير والطاعة ما كان فيما بينه وبين ربه، وما كان بينه وبين الخلق، حيث ذكر أنه حليم وأنه أواه، وأنه منيب، والمنيب، قيل: المخلص للّه وقيل: هو المقبل إلى اللّه بقلبه وبدنه، وقد ذكرنا هذا في سورة التوبة. ٧٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (٧٦) يعني: عن المجادلة التي كان يجادلهم {إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} أي: جاء ما أمر به ربك، وجاء موعودهم، وأنهم {آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} أي: غير مدفوع لا يحتمل الرد بالشفاعة. ويحتمل قوله: {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} عن المجادلة التي، ذكر أنه قد جاء أمر ربك بالانصراف والرجوع عنك. ويحتمل: جاء أمر ربك من إنزال العذاب بهم. ٧٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ}: قوله {سِيءَ بِهِمْ} قيل: أي: ساءه مجيئهم ومكانهم وكرههم لصنيع قومه بالغرباء مخافة أن يفضحوهم {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} أي: لم يدر كيف يصنع بهم، وكيف يحتال ليدفع عن ضيفه سوء قومه. والذرع: قيل: هو المقدرة والقوة، أي: ضاق مقدرته وقوته {وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} قيل: فظيع شديد؛ لأنه يوم يهتك فيه الأستار، ويفضح الرجال. وفيه دليل جواز الاجتهاد؛ لأنه قال: يوم عصيب فظيع، فبعد لم يظهر له شدته لكنه قاله اجتهادًا، واللّه أعلم. ثم قوله: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} يحتمل: أن يكون قوله: {سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} لما جاءته الرسل بإهلاك قومه ساءه ذلك، وضاق به ذرعًا كذلك أيضًا. ويحتمل قوله: {سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا}، بسوء صنيع قومه بأضيافه، الحرفان جميعًا ينصرفان إلى لوط لمكان قومه، أو لمكان أضيافه، أو يكون أحد الحرفين لمكان ضيفه، والآخر لمكان ما ينزل بقومه، واللّه أعلم. ٧٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللّه وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨) قَالَ بَعْضُهُمْ: يسرعون إليه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} أي: يهرولون إِلَيْهِ، وهو سير بين السعي وبين المشي بين بينين. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله، {يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} أي: يروعون إليه، من الروع، أي: فزعين إليه، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} هذا يحتمل وجهين: يحتمل قوله: {وَمِنْ قَبْلُ} أي: من قبل أن يبعث لوط رسولا إليهم كانوا يعملون السيئات. ويحتمل قوله: {وَمِنْ قَبْلُ} أي: من قبل نزول الأضياف بلوط كانوا يعملون السيئات، والسيئات تحتمل الشرك وغيره من الفواحش التي كانوا يرتكبونها، واللّه أعلم. وقوله: {قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} اختلف في قوله: {بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} قَالَ بَعْضُهُمْ: أراد بنات قومه؛ لأن الرسل هم كالآباء لأولاد قومهم ينسبون إليهم؛ ألا ترى إلى قوله: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}. وفي حرف ابن مسعود رَضِيَ اللّه عَنْهُ، (وهو أب لهم كما أزواجه أمهاتهم والنبي أب لهم)؛ فعلى ذلك يحتمل قول لوط: {هَؤُلَاءِ بَنَاتِي} أراد بنات قومه فنسبهن إلى نفسه؛ لما ذكرنا أنه كالأب لهم. ثم يحتمل معنى جعل النبي لأولاد قومه كالأب، وأزواجه كالأم وجهين: أحدهما: نسبوا إليه للشفقة، فهو أشفق بهم من الأب والأم. أو: لحق التربية وتعليم الدِّين كالأب لهم؛ فهو أولى بهم من أنفسهم لهذين الوجهين. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أراد بنات نفسه. ثم اختلف فيه. قَالَ بَعْضُهُمْ: كان ذلك منه تعريضا لهم للنكاح؛ يقول: هَؤُلَاءِ بناتي هن أطهر لكم نكاحًا إن كنتم قابلين للإيمان. ومنهم من قال: هو تعريض منه لما هو زنا عندهم، لا أنه عرض ذلك عند نفسه، وهذا كما يقولون بأن من أكره على أن يشتم محمدًا - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فلا بأس بأن يشتم ويقصد بشتمه محمدًا آخر يحل له شتمه، وإن كان عند المكره أنه يشتم رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بعد أن جعل الشاتم في قلبه غيره، وكذلك إذا أكره على أن يشتم الإله، فيقصد بالشتم شتم آلهتهم، وإن كان عندهم أنه إنما يشتم إلهه الذي يعبده؛ فعلى ذلك يحتمل قول لوط: {هُنَّ أَطْهَرُ لَكم} تعريض زنا عندهم، وإن كان عنده أنه ليس لذلك يقصد. وقال قائلون: قال هذا ليريهم قبح الفعل الذي كانوا يقصدون بأضيافه؛ لأن الزنا كان عندهم محرما فعرض عليهم بناته؛ ليعرفوا قبح ذلك الفعل؛ حيث احتمل فعله في بناته ولم يحتمل في أضيافه؛ ليمتنعوا عن ذلك. أو يحتمل أن يكون قال ذلك وإن كان كلاهما لا يحلان، لكن أحدهما أيسر وأهون، ويجوز الجمع بين شرين؛ فيقال: هذا أطهر لكم وأحل من هذا، وهذا أيسر من هذا وأهون، وإن كان كلاهما شرين، فالزنا وإن كان حرامًا فذلك مما يحل بالنكاح، وأدبار الرجال لا تحل بحال. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنهم كانوا يخطبون بناته، وكان أبى أن يزوجهن منهم؛ لما لم يكونوا كفؤًا لهن، ثم عرض عليهم في ذلك الوقت؛ ليعلموا قبح ذلك الفعل الذي قصدوا بأضيافه، أو كلام نحو هذا، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَاتَّقُوا اللّه وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} وقال في موضع آخر: {فَلَا تَفْضَحُونِ}، ليعلم أن الإخزاء هو الفضيحة؛ هذا يدل أن الخزي هو الذي يفضح من نزل به. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} قَالَ بَعْضُهُمْ: هم أن يزوج بعض بناته من يصدر لرأيه فيمنعهم عنهم؛ كأنه يقول: أليس منكم من يرشد ويصدر لرأيه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} أي: أليس منكم رجل يقبل الموعظة، ويرشدكم، ويعظكم، أو يقول: أليس منكم رجل رشيد على النفي فيمنعهم عما يريدون ويقصدون. ٧٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (٧٩) على التأويلين اللذين ذكرناهما يكون: الحق: حق النكاح، أو حق الاستمتاع، وفي بعض التأويلات من حق: من حاجة، وبذلك يقول عامة أهل التأويل: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ} أي: من حاجة {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} يعنون: الأضياف ٨٠(قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠) أي: قوة في نفسي {أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} قيل: عشيرته. والركن الشديد عند العرب: العشيرة؛ يقول: لو أن لي بكم قوة في نفسي أو عشيرة يعينوني لقاتلتكم؛ فيه دلالة أن من رأى آخر على فاحشة فله أن يقاتله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ} تأويله - واللّه أعلم -: أنك تعلم أن ليس لنا في بناتك من حق كما ليس لنا في أضيافك من حق فكيف تمنعنا عنهم وتعرض علينا بناتك، فهن فيما ليس لنا فيهن حق كأُولَئِكَ، واللّه أعلم. ٨١(قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١) قيل: قالوا ذلك للوط: لن يصلوا إليك؛ لما طمسوا أعينهم، وهو كقوله: {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُر}. وقال قائلون قالوا ذلك للوط لما أوعدوا للوط، حين طمست أعينهم أن ضيفك سحروا أبصارنا، فستعلم غدًا ما تلقى أنت وأهلك، فقالوا عند ذلك: لن يصلوا إليك بسوء غدًا بأنهم يهلكون. ودل قوله: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} على أنهم قد هموا للوط وأوعدوه حتى قال ما قال؛ ألا ترى أن الملائكة قالوا له: إنهم لن يصلوا إليك، فهذا على ما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} قيل: قطع من الليل: آخره وهو وقت السحر. وقيل: هو ثلث الليل، أو ربعه من آخره، وهو واحد، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ): {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ} قيل: لا يتخلف أحد منكم إلا أمرأتك؛ فإنها تتخلف، ويصيبها ما أصاب أُولَئِكَ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَلَا يَلْتَفِتْ} من الالتفات والنظر. وقيل: لا يترك أحد منكم متابعتك إلا امرأتك؛ فإنها لا تتبعك، فيصيبها ما أصاب أُولَئِكَ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ} يحتمل النهي عن الالتفات، كأنه يقول: لا يلتفت أحد. ويحتمل الخبر كأنه يقول: لا يلتفت منكم أحد إلا من ذكر، وهو زوجته، فذلك علامة لخلافها له. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ}، فقالوا: {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ}: كأن لوطًا استبطأ الصبح لعذابهم، فقالوا: أليس الصبح بقريب، هذا من لوط لا يحتمل أن يكون قال ذلك وهو بين أظهرهم، ويعلم أن قراه يقلب أعلاها أسفلها، وأسفلها أعلاها، ولكن قال ذلك - واللّه أعلم - بعدما أخرجوه وأهله من بين أظهرهم، فعند ذلك قال ما قال، واستبطأ وقت نزول العذاب بهم؛ واللّه أعلم. ٨٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) يحتمل: جاء الأمر بالمراد بأمرنا. أو أمره هو جعله عاليها سافلها. ثم قال أهل التأويل قوله: {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} أدخل جبريل جناحه تحت قريات لوط، فرفعها إلى السماء، ثم قلبها فجعل ما هو أعلاها أسفلها، فهوت إلى الأرض؛ فذلك قوله: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} قيل: أهوى بها، جبريل من السماء إلى الأرض. وأمكن أن يكون إذا أهلكهم جعلهم تحت الأرض؛ فذلك جعل أعلاها أسفلها، لكن أهل التأويل حملوه على ما ذكرنا، وأجمعوا على ذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قلبت القرى، وجعل أعلاها أسفلها، على ما ذكر، وأرسل الحجارة على من كان غائبا عنها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ}. قَالَ بَعْضُهُمْ: أمطر الحجارة عليها، ثم قلبها جبريل. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أمطر عليها الحجارة بعدما قلبها جبريل، فسواها، وكل واحد منهم كان غائبا عن بلده جاءت حجار مكتوب عليها اسمه [فقتلته] حيث كان، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مِنْ سِجِّيلٍ} قَالَ بَعْضُهُمْ: السجيل: هو اسم المكان الذي منه رفع الحجر الذي أمطر. ٨٣وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو طين مطبوخ كالآجر. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: [سَنْك وكِلْ] (١) {مَنْضُودٍ} نضد الحجر بالطين وألصق بعضه ببعض. (مُسَوَّمَةً (٨٣) معلمة، مخططة، سود الحمرة. (١) في الكتاب المطبوع هكذا [سَنْك وجيل]، والتصويب من زاد المسير لابن الجوزي، ونصه (أنها بالفارسية سَنْك وكِلْ، السنك: الحجر، والكل: الطين). اهـ واللّه أعلم. (مصحح النسخة الإلكترونية). وقَالَ بَعْضُهُمْ: {مُسَوَّمَةً}، أي: مكتوب عليها اسم صاحبها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ}. قَالَ بَعْضُهُمْ: ما هي من ظلمة قوم لوط ببعيد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ما هي من ظالمي أهل أمكة، وحواليهم ببعيد، أي: عذاب اللّه ليس ببعيد، فهو، يعذبهم إن شاء. ويحتمل قوله: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} أي: تلك القرى والأمكنة التي أهلك أهلها ليست ببعيدة من مشركي أهل مكة، وهو ما ذكر: (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ) الآية، وفيه تذكير منته على هذه الأمة، حيث لم يجعل عذابهم عذاب استئصال بحيث لا يملكون العود عنه والرجوع، ولكن جعل عذابهم الجهاد، حتى لو أرادوا الرجوع عنه ملكوا، واللّه أعلم. ٨٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِلَى مَدْيَنَ ... (٨٤) أي: إلى مدين أرسلنا، {أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّه مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} هذا قد ذكرنا فيما تقدم: أن كل نبي أول ما دعا قومه إنما دعا إلى توحيد اللّه، وجعل العبادة له. وفي قوله: {أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} وما ذكر في غيره من الأخوة دلالة على أن الرسل من قبل كانوا يبعثون من جنس قومهم لا من الملائكة حيث قال: {أَخَاهُمْ شُعَيْبًا}، ومعلوم أنهم لم يكونوا إخوة لهم في الدِّين، وفيه أن المؤاخاة لا توجب فضيلة المؤاخى له؛ لأنه ذكر أن الرسل، إخوة أُولَئِكَ الأقوام، ومنهم كفرة، وذلك يرد قول الروافض في تفضيل علي على أبي بكر بالمؤاخاة التي كانت بين رسول اللّه وبين علي؛ والخلة توجب الفضيلة، وقد جاء عنه عليه السلام أنه قال: " لو اتخذت سوى ربي خليلًا، لاتخذت أبا بكر خليلًا ". وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ}، ذكر أنهم كانوا ينقصون المكيال والميزان، ولا يوفون الناس حقوقهم، فنهاهم عن ذلك، فهو - واللّه أعلم - لوجهين: أحدهما: أنهم إنما نهوا عن ذلك؛ لحق الربا؛ لأن النقصان إذا كان برضا من صاحبه يجوز؛ فدل أنه إنما نهاهم بحق الربا، وفيهما يجري الربا. والثاني: فيه أن أهبة، المشتري للبائع، وتقلبه أفيه، قبل قبضه على قيام البيع فيما بينهما غير جائز؛ واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} قيل: في سعة من المال. وقيل: في رخص من السعر، وإنما يحمل المرء على النقصان والظلم على آخر - عز الشيء وضيق الحال، فكيف تنقصون أنتم في حال السعة ورخص السعر. أو يقول: {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} في غير هذا، فلا تظلموا الناس في هذا، ولا تمنعوا حقوقهم، {وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ}، أي: يوم يحيط بهم العذاب إن كانت الإحاطة مضافة إلى اليوم فهو محيط بالكل، وإن كانت الإحاطة مضافة إلى العذاب، فهو محيط بالكفرة خاصة، وهو - واللّه أعلم - أنه ما من جارحة من ظاهرة وباطنة إلا وقد يصيبها العذاب، ويحيط بها، ليس كعذاب الدنيا يأخذ جزءًا دون جزء، بل يحيط به، والنهي بتخصيص نقصان الكيل والميزان لا يدل على أن لم يكن فيهم من المآثم والإجرام سوى ذلك، لكنه خص هذا؛ لما كان الظاهر فيهم نقصان الكيل والوزن، فذكر ذلك، وهو ما خص قوم لوط بقوله: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} و {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ. . .} الآية. ذكر هذا وخصهم، ليس على أنهم لم يكونوا يأتون من الفواحش غيرها، لكن خص هذا؛ لأن الظاهر فيهم هذا؛ فعلى ذلك نقصان الكيل والميزان في قوم شعيب، واللّه أعلم. ٨٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) خص المكيال والميزان. واللّه أعلم - لما كانوا يطففون المكيال وينقصون الميزان؛ رغبة فيهما، وفيهما يجري الربا، كما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}، فيه دلالة أن المشتري يملك المبيع قبل أن يقبضه؛ لأنه قال: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} أضاف إلى الناس أشياءهم، فلو كان لا يملك، لم يكن أشياء الناس، إنما كان أشياء البائع، فإنما نقص ماله. وقوله: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}، وهو ما ذكر في موضع آخر: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا}. ٨٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَقِيَّتُ اللّه خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦) قَالَ بَعْضُهُمْ: ما أبقى اللّه لكم من ثوابه في الآخرة خير لكم إن آمنتم به، وأطعتموه مما تجمعون من الأموال. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {بَقِيَّتُ اللّه خَيْرٌ لَكُمْ} أي: ما جعل اللّه لكم مما يحل خير لكم مما يحرم عليكم من نقصان الكيل والوزن، {بَقِيَّتُ اللّه خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} بالحلال أو بالآخرة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: طاعة اللّه - وهو ما يأمركم به، ويدعوكم إليه - خير لكم مما تفعلون. وقال الحسن: رزق اللّه خير لكم من بخسكم الناس حقوقهم، لكن هذا يرجع إلى ما ذكرنا، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} يحتمل: ما أنا عليكم بحفيظ، أي: لست أشهد بياعاتكم وأشريتكم حتى أعلم ببخسكم الناس المكيال والميزان، لكن إنما أعرف ذلك باللّه، وفيه دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. والثاني: {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} أي: بمسلط عليكم، إنما أبلغ إليكم، كقوله: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ}. ٨٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧) قال بعض أهل التأويل: صلاتك، أي: قراءتك تأمرك هذا. وقال ابن عَبَّاسٍ: قالوا ذلك له؛ لأن شعيبًا كان يكثر الصلاة، كأنه يخرج على الإضمار يقولون: أصلواتك تأمرك بأن تأمرنا بترك عبادة ما عبد آباؤنا. وقوله: {أَصَلَواتُكَ} يحتمل أنها كانت صلوات، معروفة يفعلها، فيقولون: أصلواتك التي تفعلها تأمرك أن نترك كذا، أم صلاة واحدة تكثرها، فقالوا: {أَصَلَاتُكَ}، وخصوا الصلاة من بين غيرها من الطاعات؛ لما لعلها كانت من أظهر طاعاته عندهم، فقالوا له هذا. ثم يحتمل وجهين: أحدهما: كأنهم، قالوا: {أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ. . .} كذا على التسفيه له والتجهيل، كمن يوبخ آخر ويسفهه، فيقول له: أعلمك يأمرك بذلك، أو إيمانك يأمرك بهذا، كقوله: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ}، ونحوه من الكلام يخرج على التسفيه له أو التجهيل. والثاني: يقال ذلك على الإنكار، يقول الرجل لآخر: إيمانك يأمرك بذلك، أو علمك يأمرك بهذا، أي: لا يأمرك بذلك، فعلى ذلك يحتمل قول هَؤُلَاءِ: {أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} أي: لا تأمرك بذلك، هذا إذا كانت الصلاة التي ذكروها مرضية عندهم، فإن لم تكن مرضية، فالتأويل هو الأول. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا}، الآية، حبب إليهم تقليد آبائهم في عبادة الأصنام واتباعهم إياهم والأموال التي كانت لهم، أفمنعهم هذا، عن النظر في الحجج والآيات؛ لما حبب إليهم ذلك، وهكذا جميع الكفرة إنما منعهم عن النظر في آيات اللّه والتأمل في حججه أحد هذه الوجوه التي ذكرنا: حب اللذات، ودوام الرياسات، والميل إلى الشهوات، ظنوا أنهم لو اتبعوا رسل اللّه وأجابوهم إلى ما دعوهم إليه - لذهب عنهم ذلك. ثم قوله: {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} يحتمل: قضاء جميع الشهوات. ويحتمل: ما ذكر من نقصان المكيال والميزان، يقولون: أموالنا لنا ليس لأحد فيها حق، نفعل فيها مانشاء. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ}: الألف صلة " وأن نفعل في أموالنا ما نشاء ". وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} قَالَ بَعْضُهُمْ من أهل التأويل: قالوا ذلك له؛ استهزاء به وسخرية، كنوا بالحليم عن السفيه، وبالرشيد عن الضال، أي: أنت السفيه الضال؛ حيث سفهت آباءنا في عبادتهم الأصنام، الضال، حيث تركت ملتهم ومذهبهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: على النفي والإنكار، أي: ما أنت الحليم الرشيد. ويشبه أن يكون على حقيقة الوصف له بالحلم والرشد؛ لأنهم لم يأخذوا عليه كذبا قط، ولا رأوه على خلاف ولا على سفَاهة قط؛ فقالوا: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}، أي: كنت هكذا؛ فكيف تركت ذلك، وهو ما قال قوم صالح لصالح حيث قالوا: {قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا}. ٨٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللّه عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨) أي: على علم وبيان وحجج وبرهان من ربي، على ما ذكرنا فيما تقدم، أي: تعلمون أني كنت على بيان من ربى وحجج، {وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا}: يحتمل هذا منه مكان ما قال أُولَئِكَ الأنبياء: {وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ} أي: قال شعيب: {وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا}، الدِّين والهدى، والنبوة على ما ذكر وأمكن أن يكون الرزق الحسن هو الأموال الحلال الطيبة التي لا تبعة عليه فيها فقال ذلك؛ وما رزق أُولَئِكَ عليهم تبعة في ذلك؛ لأنهم اكتسبوها من وجه لا يحل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} من الناس من يقول: قال لهم ذلك بإزاء ما قالوا فيما ذكر في الأعراف: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} يقول: أدعوكم إلى الإيمان باللّه والتوحيد له، وأنهاكم عن الكفر به، ثم أرتكب ما أنهاكم عنه، وأترك ما أدعوكم إليه؟! وقال قتادة: لم أكن لأنهاكم عن أمر وأرتكبه، وهو واحد {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} أي: ما أريد إلا الإصلاح لكم ما استطعت، وفيه دلالة على أن الاستطاعة تكون مع الفعل لا غير، أما أن يكون أراد: استطاعة الإرادة أو استطاعة الفعل، فكيفما كان، فقد أخبر أنه يريد لهم من الصلاح ما استطاع، ففيه ما ذكرنا، وهو ينقض على المعتزلة مذهبهم؛ لأنهم يقولون: الاستطاعة تتقدم على الفعل، وهي لا تبقى وقتين؛ فيصير على قولهم إرادة الصلاح لهم في غير زمن الاستطاعة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللّه}، قَالَ بَعْضُهُمْ: التوفيق: هو صفة كل مطيع، والخذلان: هو صفة كل عاص. وقَالَ بَعْضُهُمْ: التوفيق: هو ما يوفق بين فعله وقوله في الطاعة، والخذلان ما يفرق بين قوله وفعله في المعصية. وقال الحسين النجار: التوفيق: هو قدرة كل خير وطاعة، والخذلان: هو قدرة كل شر ومعصية. وعندنا: التوفيق: هو أن يوفق بين عمل الخير والاستطاعة، والخذلان: هو أن يفرق بين عمل الخير والاستطاعة. أو أن نقول: هو أن يوفق بين عمل الشر والاستطاعة، وهما واحد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} أي: عليه اعتمدت في جميع أمري، وإليه توكلت، {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}، أي: أرجع. أو يقول: إليه أقبل بالطاعة. ٨٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ ... (٨٩) بالغرق، {أَوْ قَوْمَ هُودٍ} بالريح الصرصر، {أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ} بالصيحة على ما ذكر. قَالَ بَعْضُهُمْ: {لَا يَجْرِمَنَّكُمْ} أي: لا يحكملنكم {شِقَاقِي} قيل: خلافي أن يصيبكم مثل ما أصاب أُولَئِكَ. وقَالَ بَعْضُهُمْ قوله: {لَا يَجْرِمَنَّكُمْ} أي: لا يؤثمنكم {شِقَاقِي} أي: عداوتي أن يصيبكم مثل ما أصاب أُولَئِكَ. وقيل: {لَا يَجْرِمَنَّكُمْ} أي: لا يكسبنكم عداوتي. وقال الحسن: {شِقَاقِي}: ضراري. لكن كله يرجع إلى معنى واحد؛ لأنه إذا ثبت العداوة، ثبت المخالفة والبغض والضرر، فكل ما ذكروا فهو واحد. وأصل الجرم: الإثم والذنب. ثم يخرج إنذاره إياهم بمن هلك من الأمم على وجهين: أحدهما: أن قوم شعيب قوم لا يؤمنون بالبعث وبالقيامة، فأنذرهم بمن هلك من الأمم السالفة؛ لأنه لو كان ينذرهم بالبعث، لكان لا ينجح فيهم؛ لأنهم لا يؤمنون به. والثاني: أنذرهم بأُولَئِكَ؛ لأنهم كانوا يقلدون آباءهم في عبادة الأوثان، ويتبعونهم، فيقول: إنكم تقلدون آباءكم وتتبعونهم في عبادة الأوثان فاتبعوهم -أيضًا- فيما بلغوا إليكم من هلاك أُولَئِكَ بعبادتهم الأوثان، وتكذيبهم الرسل، فإذا قلدتموهم في العبادة فهلا تقلدونهم وتتبعونهم فيما أصابهم بم أصابهم؟ أو يقول لهم: إنكم تقلدون آباءكم الذين عبدوا الأوثان وقد هلكوا، فهلا تقلدون من لم يعبد منهم ونجا وقد أعرفتم أن من هلك منهم بم هلك؟ ومن نجا منهم بم نجا؟ واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} أي: إن نسيتم من مضى منهم، فلا تنسوا ما نزل بقوم لوط، وليسوا هم ببعيد منكم. ٩٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠) أي: اطلبوا من ربكم المغفرة؛ أي: اطلبوا السبب الذي يقع لكم المغفرة من ربكم، وهو التوحيد {ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} أي: ارجعوا إليه، ولا تعودوا إلى ما كنتم من قبل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} أي: ارجعوا إليه رجوعًا حتى لا تعودوا إلى مثل صنيكعم أبدًا {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ} يرحم من تاب إليه، واللّه يرحمه {وَدُودٌ} يحتمل وجهين: أحدهما: ودود: أي: حق أن يودّ؛ إذ منه كل شيء وكل إحسان، والناس جبلوا على حب من أحسن إليهم. والثاني: ودود لمن توسل إليه وتقرب. ٩١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (٩١) قوله: {مَا نَفْقَهُ} يحتمل: ما نفهم وما نعقل كثيرًا مما تقول؛ كأنهم يقولون ذلك على الاستهزاء والهزء به؛ كأنهم نسبوه إلى الجنون؛ يقولون: لا نفهم ما تقول؛ لأن كلامك كلام مجانين. وهذه هي عادة القوم؛ كانوا ينسبون الرسل إلى الجنون. ويحتمل: ما نفقه: ما نقبل كثيرًا مما تقول، فإن كان على الفهم فهو كقوله: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}، وهم كانوا في يقين: فريق كانوا يقولون: قلوبنا أوعية للعلم؛ كقولهم: {قُلُوُبنَا غُلْفٌ} فإن كان ما تقول حقًّا نفهم ونعقل كما نعقل غيره، وفريق قالوا: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} كانوا يعقلون أنهم لا يفهمون ولا يفقهون؛ لأن قلوبهم في أكنة وفي آذانهم وقر، والفريق الأول يقولون: إن قلوبنا أوعية للعلم، فلو كان حقًا لعقلناه كما عقلنا غيره، فهَؤُلَاءِ كانوا يصرفون العيب إلى الرسول، وأُولَئِكَ إلى أنفسهم، فعلى ذلك قوم شعيب يحتمل أن يكون قولهم كذلك، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا} يحتمل هذا وجهين: أحدهما: أي: إنك لست من كبرائنا وأجلتنا، إنما أنت من أوساطنا، وعلى ذلك الأنبياء إنما بعثوا من أوساط الناس، لا من كبرائهم في أمر الدنيا، فالقوي والعزيز عند أُولَئِكَ القوم من عنده الدنيا والمال، وأما من لم يكن عنده المال فهو عندهم ضعيف ذليل؛ لأنهم لا يعرفون الدِّين، ولا يؤمنون بالآخرة، لذلك قالوا ما قالوا. والثاني: لست أنت بذي قوة وبطش في نفسك، وقد ذكر أنه كان ضعيفًا في بصره ونفسه. ويحتمل وصفهم بالضعف لهذين الوجهين، واللّه اعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَوْلَا رَهْطُكَ} أي: قبيلتك. وقيل: عشيرتك {لَرَجَمْنَاكَ} الرجم: يحتمل: القتل، ويحتمل: اللعن والشتم. ثم يحتمل قوله: {وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} وجهين: أحدهما: {وَلَوْلَا رَهْطُكَ} أي: لولا حرمة رهطك وإلا لرجمناك؛ كأنهم كانوا يحترمونه لموافقة رهطه إياهم في العبادة أعني عبادة الأوثان، وعلى ما هم عليه. والثاني: لولا رهطك لرجمناك خوفًا منهم لما ذكر أنه كان كثير العشيرة، والقبيلة؛ كانوا يخافون عشيرته فلم يؤذوه، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} أي: ما أنت من أجلتنا وكبرائنا، إنما أنت من أوساطنا أو {وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} أي: ما أنت من أجلتنا؛ لأن العزيز عندهم من كان عنده المال والدنيا، لا يعرفون العزُ في غير ذلك، ولم يكن عند شعيب الدنيا لذلك نسبوه إلى ما ذكر: أو أنت ذليل عندنا، لست بعزيز، فيكون صلة قوله: {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا} واللّه أعلم. ٩٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللّه وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) هذا يخرج على وجهين: يحتمل يا قوم، أرهطي أعظم حقًّا عليكم من اللّه وأكثر حرمة حتى تركتم ما أوعدتمونى من النقمهَ لحقهم وحرمتهم؟! والثاني: قوله: {يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ} أي: رهطي أشد خوفًا عليكم وأكثر نكاية من اللّه؛ لأنا قلنا في قوله: {وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} أنه يخرج على وجهين: أحدهما: الاحترام لرهطه لموافقتهم إياهم في جميع ما هم عليه، والمساعدة لهم. والثاني: على الخوف والنكاية لقوتهم، وكثرتهم، وفضل بطشهم تركوا ما وعدوا له خوفًا من رهطه، فقال: خوفكم من رهطي أشد وأكثر عليكم من الخوف من اللّه، وقد بلغكم من نكاية اللّه ونقمته فيما حل بالأمم الماضية. أو حرمة رهطي عندكم وحقهم أعظم من حق اللّه وحرمته، وقد تعلمون إحسانه إليكم وانعامه عليكم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا} قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا} أي: حملتموه على ظهركم وحملهم إياه على ظهرهم إسخاطهم إياه، قال: تقول: العرب: فلان حمل الناس على ظهره: أي: أسخطهم على نفسه. ولكن لا ندري أيقال هذا أم لا. فَإِنْ قِيلَ هذا فهو يحتمل ما قال، وهو قول أبي بكر الأصم. وقال غيره من أهل التأويل: قوله: {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا} أي: نبذتم اللّه وراء ظهركم، أي: نبذتم حق اللّه وأمره وكتابه الذي أنزله إليكم وراء ظهركم، لا تعملون به، ولا تكترثون إليه، هو كالمنبوذ وراء ظهركم؛ هذا على التمثيل أي: جعلوا أمر اللّه ودينه الذي دعوا إليه كالمنبوذ وراء ظهرهم، لا يعملون به ولا ينظرون إليه، ولا يكترثون وهو ما ذكر في قوله: {نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ}، وقوله: {انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} على التمثيل، أي: الذي أنتم عليه في القبح كالانقلاب على الأعقاب {إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} هذا يخرج على وجهين -أيضًا-: أي: إن ربي بما تعملون من الأعمال الخبيثة محيط فيجزيكم بها، أو يقول: إن ربي بما تعملون من الكيد برسول اللّه والمكر به محيط فينصره عليكم. ٩٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: أن كونوا على دينكم الذي أنتم عليه، وأنا أكون على ديني؛ كقوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}، لأن قوم شعيب قالوا لشعيب: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} فقال لهم هذا عند ذلك، وهذا إنما يقال عند الإياس عن إيمانهم، كقوله: {لَا حُجَّةَ بَينَنَا وبَينَكُم}، وأمثاله. والثاني: قوله: {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ} أي اعملوا في كيدي، والمكر في هلاكي، إني عامل ذلك بكم، وهو كما قال غيره من الرسل: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ} وقوله: {فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ}، ونحوه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} في العاقبة وعيد من يأتيه عذاب يخزيه، أو سوف تعلمون في العاقبة من يأتيه منا عذاب يخزيه نحن أو أنتم ومن هو كاذب، وتعلمون -أيضًا- في العاقبة من الكاذب منا فحن أو أنتم؛ لأن كل واحد من الفريقين يدعي على الفريق الآخر الكذب والافتراء على اللّه، فيقول: سوف تعلمون في العاقبة من الكاذب منَّا والمفتري على اللّه، والصادق عليه {وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} أي: ارتقبوا هلاكي، وأنا أرتقب هلاككم، أو ارتقبوا لمن العاقبة منا لنا أو لكم إني معكم رقيب، واللّه أعلم. ٩٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا ... (٩٤) هذا قد ذكرناه فيما تقدم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} قيل: الصيحة صيحة جبريل؛ أي: هلكوا بصيحته. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الصيحة: اسم كل عذاب، وكذلك الرجفة؛ سمي العذاب بأسماء مختلفة: مرة صاعقة، ومرة صيحة، ومرة رجفة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٩٤) ٩٥كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (٩٥) هذا -أيضًا- قد ذكرناه فيما تقدم. قال بعض أهل التأويل: قوله: {أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ} في الهلاك {كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ}: كما أهلكت ثمود؛ لأن كل واحد منهما هلك بالصيحة فمن ثم اختص ذكر ثمود من بين الأمم. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: لم يعذب بعذاب واحد إلا قوم شعيب وصالح؛ فأمَّا قوم صالح فأخذتهم الصيحة من تحتهم، وقوم شعيب من فوقهم. قال: فنشأت لهم سحابة فيها عذابهم، فلم يعلموا كهيئة الظلة فيها ريح، فلما رأوها أتوها يستظلون تحتها من حر الشمس، فسالَ عليهم العذاب من فوقهم، فذلك قوله: {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ}. وقوله: {أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} من رحمته. ويحتمل الهلاك الذي ذكرناه، واللّه أعلم. ٩٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} وهي الحجج. يحتمل قوله: {بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} واحد، على التكرار، فإن كانت الآيات هي الأوامر والنواهي، وما يؤتى وما يتقى فقوله: {وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} هي الحجج والبراهين على ذلك. ٩٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) قد ذكرنا أن الملأ هو اسم لشيئين: اسم الجماعة، واسم الأجلة والأشراف، وهو كان مبعوثا إلى الأشراف من قومه، وإلى الجماعة جميعًا؛ خص بعثه إلى فرعون وقومه وإن كان مبعوثا إلى الكل؛ لما العرف في الملوك أنهم إنما يخاطبون الكبراء منهم والأشراف، وإن كان المقصود من الخطاب، الكل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} قَالَ بَعْضُهُمْ: هو ما ذكر في حم المؤمن حيث قال لهم: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} فأطاعوا فرعون في قوله؛ يقول اللّه: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} أي: يهدي، أو يقول: ما الأمر الذي عليه فرعون برشيد؛ بل هو ضلال. ولكن عندنا أنهم أطاعوا فرعون في جميع أمره ونهيه في عبادة الأصنام وغيره، وهو ما ذكر: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ}. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} أي: ليس بهدى؛ بل كان أمره ضلالا؛ حيث كان هو ضالا مضلا. ٩٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: صار قدامهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يقدم أي: يقود قومه إلى النار حتى يوردهم النار. ويحتمل قوله: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ} أي: يكون إمامًا لهم يوم القيامة يتبعون أثره، كما كان إمامهم في الدنيا فاتبعوه؛ كقوله: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ}، وكقوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ}، أخبر أنهم يكونون أئمة لهم في الآخرة. ويشبه أن يكون قوله: {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} أي: دعاهم في الدنيا، وأمرهم بأمور توردهم النار تلك الأعمال كقوله: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ}، أي: ما أصبرهم على عمل أهل النار. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يتبعونه حتى يدخلهم النار. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} قَالَ بَعْضُهُمْ: بئس المدخل المدخول، والورد هو الدخول، والمورود المدخول؛ سمي الجزاء باسم سببه. قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: جميع ما ذكر في القرآن من الورود فهو دخول منهم، قوله: {وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} وقوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا}، وقوله: {أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا}، فقال: واللّه ليردنها كل بر وفاجر {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا}. ٩٩وقوله: (وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩) يحتمل: اللعنة في الدنيا: العذاب الذي نزل بهم. ويحتمل لعن الخلائق يلعنهم من ذكرهم. وفي الآخرة يحتمل الوجهين جميعًا. يحتمل: يعذبون في الآخرة -أيضًا- كما عذبوا في الدنيا. ويحتمل: لعن الخلائق -أيضًا- من رآهم لعنهم، واللعن هو الطرد في اللغة: طردوا عن رحمة اللّه ولم يرحموا في عذاب الدنيا، ولا يرحمون في عذاب الآخرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} عن ابن عَبَّاسٍ: {بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} يقول: لعنة الدنيا والآخرة. وقال قتادة: ترادفت عليهم لعنتان من اللّه: لعنة الدنيا، ولعنة الآخرة، ولكن على زعمهم يجيء أن يقال: الردف من الترادف. وقَالَ بَعْضُهُمْ؛ الردف العون، وهو قول الْقُتَبِيّ. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الرفد: العطية، والمرفود: المعطى؛ يقال: رفدته: إذا أعطيته وأعنته، كما يقال: بئس العطاء المعطى، وكذلك قال أَبُو عَوْسَجَةَ: بئس ما أعطوا وأعينوا، وبئس المعطى، واللّه أعلم. ١٠٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ} قوله: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى}: ذلك ما سبق من ذكر القرى والقرون في هذه السورة من أنباء الغيب نقصه عليك؛ ألتفهم رسالتك بها، ولتكون آية لنبوتك؛ لأنك لم تشاهدها، ولا اختلفت إلى أحد منهم فتعلمت منهم، ولا كانت الكتب بلسانك فيقولون: نظرت فيها فأخذت ذلك منها، ثم أنبأت على ما كان وقصصت عليهم؛ ليعلم أنك إنما عرفت باللّه، فتكون آية لرسالتك.
وقوله: {مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ} قال بعض أهل التأويل {مِنْهَا قَائِمٌ}: ترى مكانها وتنظر إليها، ومنها حصيد لا ترى له أثرًا ولا مكانًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قائم: أي: خاوية على عروشها، وحصيد: مستأصلة. وعن الحسن قال: منها قائم وما حصد اللّه أكثر، أي: وما أهلك اللّه من القرى أكثر. وأصله عندنا: منها قائم؛ نحو قرى عاد وثمود ومدين، أهلك أهلها وبقيت القرى لأهل الإسلام؛ لأنه يقول في قرى عاد: {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} الآية، ومنها حصيد: ما أهلك أهلها والقرى جميعًا نحو قوم نوح؛ أهلكوا ببنيانهم، ونحو قريات قوم لوط أهلكت بأهلها أيضًا حتى لم يبق لا الأهل ولا البنيان، فذلك - واللّه أعلم - تأويل قوله: {مِنْهَا قَائِمٌ} هلك أهلها وبقي البنيان، ومنها حصيد: هو ما أهلك البنيان بأهله، حتى لم يبق لها أثر، وفيه وجوه ثلاثة: أحدها: آية لرسالته؛ لما ذكرناه وعبرة لأهل التقوى، وهو ما ذكر في آخره: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ} أي: عبرة لمن خاف عذاب الآخرة، وزجرًا لأهل الشرك والكفر؛ لأنهم يذكرون ما نزل بأُولَئِكَ فينزجرون عن صنيعهم فيه. هذه الوجوه التي ذكرناها، واللّه أعلم. ١٠١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١) قوله: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} فيه وجهان: أي: لم نظلمهم؛ لأنهم وبنيانهم ملك للّه - تعالى - وكل ذي ملك له أن يهلك ملكه، ولا يوصف بالظلم من أتلف ملكه، وهم ظلموا أنفسهم إذ أنفسهم ليست لهم في الحقيقة وكذلك بنيانهم، ومن أتلف ملك غيره فهو ظالم. والثاني: أن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه؛ يقول: وما ظلمناهم بالعذاب؛ إذ هم يستوجبون ذلك بما ارتكبوا، فلم نضع العذاب في غير موضعه؛ بل هم الذين وضعوا أنفسهم في غير موضعها؛ حيث صرفوها إلى غير مالكها وعبدوا غيره، فهو ظلم؛ هذا التأويل في أنفسهم، وأما البنيان فهو، أنه إنما جعله لهم، فإذا هلكوا هم أهلك ما جعل لهم، إنما أبقي لهم ما داموا، فأما إذا بادوا هم فلا معنى لإبقاء البنيان. وما ذكر من ظلمهم أنفسهم يحتمل وجوهًا: أحدها: ظلموا أنفسهم بعبادتهم غير اللّه. والثاني: ظلموا أنفسهم بصرفهم الناس وصدهم عن سبيل اللّه وعن عبادة اللّه وتوحيده إلى عبادة غير اللّه. والثالث: ظلموا أنفسهم بسؤالهم العذاب. وقوله: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} في هذا وجهان: أحدهما: ما أغنت عنهم عبادة آلهتهم التي عبدوها من دون اللّه لما جاء أمر ربّك؛ أي: عذاب ربك؛ كقولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ. . .} الآية، يخبر أن عبادتهم الأصنام لا تنفعهم المنفعة التي طمعوا. والثاني: فما أغنت عنهم أنفس آلهتهم في دفع العذاب عنهم في أحوج حال إليها؛ لعجزهم في أنفسهم وضعفهم؛ كقولهم: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّه} فإذا لم يملكوا ذلك في وقت الحاجة إليهم فكيف يملكونه في غيره من الحال، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} يحتمل: ما زاد عبادتهم إياها غير تتبيب، أو ما زاد آلهتهم التي عبدوها غير تتبيب. والتتبيب: قال عامة أهل التأويل: هو التخسير. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: غير تتبيب: غير فساد، والتتبيب: الفساد. وكذلك قال في قوله: {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} أي: فساد. وقال غيره: إلا في خسار وقال غيره: غير تخسير. وكذلك قالوا في قوله: {تَبتْ}، أي: خسرت. وقال أبو عبيدة: غير تتبيب: غير تدبير وإهلاك. وكذلك قالوا في قوله: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} وكذلك قالوا في قول الناس: تبًّا لك.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: غير تتبيب غير شر، والتتبيب: الشر، والتبّ: الشر والخسران، وهما واحد. ١٠٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢) أي: هكذا يأخذ كفار هذه الأمة كما أخذ أُولَئِكَ، أي: كما عذبنا الأمم الخالية وهي ظالمة مشركة كافرة، كذلك نعذب هذه الأمة لكن أخر عن هذه الأمة، وفيه رحمة {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}، أي: أن أخذه بالعذاب أليم شديد، الأخذ نفسه يوصف بالشدة، ولكن لا يوصف بالألم، والعذاب يوصف بالألم، لكن لما وصف بالألم والشدة دل أن الأخذ أخذ بعذاب، واللّه أعلم. ١٠٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) هو ما ذكرناه: فيه عبرة لأهل التقوى ولمن خاف عذاب الآخرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ} خصّ الناس بالذكر وإن كان الجمع لهم ولغيرهم؛ لأن الآية التي ذكر تكون لهم آية، أو لما هم المقصودون بالجمع بذلك اليوم - واللّه أعلم - قيل: يجمع فيه الأولون والآخرون {وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ}. قَالَ بَعْضُهُمْ: يشهده أهل السماء وأهل الأرض للعرض والحساب، واللّه أعلم. ١٠٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤) أي: ما نؤخر العذاب عن هذه الأمة إلا لأجل معدود، وذكر هذا - واللّه أعلم - جواب ما استعجلوه من العذاب بقولهم: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ونحوه، فقال: وما نؤخر العذاب عنهم إلا لأجل معدود، إلا لوقت موقوت؛ أي: إلا لأجل معدود عند اللّه، ولو كان ما ذكر ابن عَبَّاسٍ أنه سبعة آلاف فيكون معدودًا عند الناس، ويكون وقت القيامة معلومًا على قوله، وقد أخبر اللّه: {لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} واللّه أعلم. ١٠٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) أي: لا تكلم نفس بالشفاعة لأحد إلا بإذنه؛ كقوله: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى}، أو لا تكلم نفس لأهوال ذلك اليوم ولفزعه؛ كقوله: {مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} وكقوله: {لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} أو لا تكلم نفس من الأجلة والعظماء لأحد من دونهم بالشفاعة إلا بإذنه، وهو ما ذكرناه، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ}: فمنهم شقي بأعماله الخبيثة التي إذا اختارها وعملها أدخلته النار، ومنهم سعيد بما أكرم من الطاعة والخيرات التي إذا اختارها وعملها أدخلته الجنة، وكل عمل يعمله فيدخله الجنة فهو سعيد به، وكل عمل يعمله فيدخله النار فهو شقي به. روي في ذلك خبر عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - روي عن عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: لما نزلت هذه الآية: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} سألت النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقلت: يا نبي اللّه، فعلام نعمل؟ على شيء قد فرغ منه أو شيء لم يفرغ منه؟ قال: " بل على شيء قد فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر، ولكن كل ميسر لما خلق له " فإن ثبت هذا فهو يدل لما ذكرناه، واللّه أعلم. ١٠٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ ... (١٠٦) لما ذكرناه {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} قال بعضهم: الزفير هو كزفير الحمار في الصدر، وهو أول ما ينهق، وأمَّا الشهيق فهو كشهيق الحمار في الحلق، فهو آخر ما يفرغ من نهيقه، فهو شهيق. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الزفير هو ما لا يفهم منه شيء إنما هو كالأنين والجزع من شيء يصيبه لا يتبين منه؛ كقوله: {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا}، والشهيق هو ما يرتفع منه الصوت يسمى شهيقًا. ويحتمل ما ذكر من الزفير والشهيق أنهم يصيرون بعد كثرة دعائهم وندائهم حتى يكون منهم الزفير والشهيق لا يفهم؛ كصوت الدواب إذا أصابها ألم. ١٠٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (١٠٧) عن الحسن قال: {مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ}: تبدل سماء غير هذه السماء، وأرض غير هذه الأرض، فما دامت تلك السماء وتلك الأرض؛ لأن السماء هذه أخبر أنها تنشق وتطوى وتبدل؛ كقوله: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَا}، و {يَوْمَ نَطْوِي} و {يَوْمَ تُبَدَّلُ}، ونحوه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} إنما هو صلة الكلام؛ كأنه قال: خالدين فيها إلا ما شاء ربك، وقد يتكلم بمثل هذا على الصلة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يدوم لهم العذاب أبدًا ما دامت السماوات والأرض الأهل الدنيا ما كانوا فيها؛ لأئهما إنما تفنيان بعد فناء أهلها وإحياء الأهل والبعث، فأخبر أن العذاب يدوم لهم كما يدوم لأهل الدنيا السماء والأرض. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} أي: ما دامت سماء الجنة وأرض الجنة، وسماء النار وأرض النار، لكن ذكر هذا لئلا يتوهم أهل الجنة والنار قبل هلاك سمائها وأرضها على ما يتوهم في توهم هلاك أهل الدنيا قبل هلاك سمائها وأرضها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} أي: ما دامت الأرض أرضًا والسماء سماء، يتكلمون على ما بعد من أوهامهم فناؤهما، أو على الصلة؛ يقول الرجل لآخر: لا أكلمك ما دام الليل والنهار: أي أبدًا. هذا تأويل قوله: {مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} وأما قوله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} قال بعضهم: إن ناسًا من أهل التوحيد يعذبون في النار على قدر ذنوبهم وخطاياهم ثم يخرجون منها. وقد روي في ذلك آثار؛ روي عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة - رضي اللّه عنهما - عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " الاستثناء في الآيتين كلتيهما لأهل الجنة "، يعني: الذين يخرجون من النار من أهل التوحيد {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} يقول: لم يشقوا شقاء من يخلد في النار وقال في الذين سعدوا إلا ما شاء ربك هم أُولَئِكَ الذين لم ينالوا من السعادة ما نال أهل الجنة الذين لم يدخلوا النار. وفي بعضها عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " أما من يريد اللّه إخراجه من النار، فإنهم يماتون فيها إماتة ". وقال في خبر آخر: " أما من يريد اللّه له الخلود فلا يخرجون منها " وأمثال هذا من الأخبار، فإن ثبت هذا فهو المعتمد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} أي: قد شاء لأهل النار الأبد والخلود، وشاء لأهل الجنة عطاء غير مجذوذ؛ أي: غير منقطع. ويؤيد هذا التأويل ما ذكر في حرف ابن مسعود وأبي: {مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} في الآيتين؛ وفي الآية الأولى: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} وفي الأخرى: (ما دامت السموت والأرض عطاء غير مجذوذ) وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود وأبي أنهما لم يذكرا الثنيا في أهل الجنة، وأصل هذا ما ذكر أبو عبيد قال: الاستثناء الذي هو في أهل السعادة فهو المشكل؛ لأنه يقال: كيف يستثني وقد وعدهم خلود الأبد في الجنة. وقال في ذلك أقوالا لا أدرى إلى من تسند، إلا أن لها مخارج في كلام العرب وشواهد في الآثار، وإنما يتكلم الناس في هذا على معاني العربية، واللّه أعلم بما أراد. قال: فأحد هذه الوجوه في الاستثناء فيما يقال كالرجل يوجب على نفسه الشيء ليفعلنه، ثم يقول -: إن شاء اللّه، وعزمه وضميره مع استثنائه أنه فاعله، لا يريد غيره. ومما يقوي هذا المذهب قول اللّه - تعالى -: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللّه آمِنِينَ}، فاستثنى، وقد علم أنهم داخلوه ألبتَّة. ومنه ما روي في حديث مكة عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حين قال: " ولا تحل لقطتها إلا لمنشد ".
وقَالَ بَعْضُهُمْ: استثنى المنشد وهي لا تحل له، كما لا تحل لغيره. والوجه الثاني بأن يكون " إلا " في معنى سوى؛ فإن العرب تفعل ذلك؛ تقول: عليك ألف درهم من قبل كذا وكذا، إلا الألف التي قبل ذلك؛ أي: سوى الألف التي قبل ذلك وغير الألف التي قبل ذلك، وإلا الألف التي قبل ذلك، فيكون المعنى على هذا أنه وعدهم خلود الأبد سوى ما أعد لهم من الزيادة في الكرامة والمنزلة التي لم يذكرها لهم. ومما يقوي هذا التأويل ما روي عن نبي اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " قال اللّه - تعالى -: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، بله ما اطلعتم عليه " ثم قرأ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ. . .} الآية. أفلا ترى أن هاهنا من الزيادة ما لم يطلعهم عليه. والوجه الثالث: أن يكون الاستثناء من خلودهم في الجنة احتباسهم عنها ما بين البعث والحساب، وقد قيل ما ذكرناه أنه ما بين الموت والبعث، وهو البرزخ الذي ذكر، إلى أن يصيروا إلى الجنة، ثم هو خلود الأبد؛ يقول: فلم يغيبوا عن الجنة إلا بقدر إقامتهم في الحساب. ومما يقوي هذا المذهب ما قيل في قوله: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} قيل: ما بين الموت والبعث، واللّه أعلم بذلك. ١٠٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨) فقد اختلف القراء في قراءتها؛ قرأها الكسائي وحمزة. بضم السين {سُعِدُوا} وأما أبو عمرو وأهل المدينة وغيرهم من القراء قرءوا بفتح السين {سَعِدُوا} على قياس {شَقُوا}. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: لا أعرف سُعدوا بضم السين، وإنَّمَا هو سَعدوا بفتح السين. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ {غَيْرَ مَجْذُوذٍ} أي: غير مقطوع؛ كقوله: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا} أي قطعًا، وقد ذكرنا قولهم في الزفير والشهيق على قدر حفظنا له. ١٠٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ} تأويله - واللّه أعلم -: لا تكن يا مُحَمَّد في شك بأن هَؤُلَاءِ قد بلغوا في عبادتهم الأصنام والأوثان الحد الذي بلغ آباؤهم في عبادتهم الأصنام والأوثان فأهلكوا إذا بلغوا ذلك الحد، فهَؤُلَاءِ -أيضًا- قد بلغوا ذلك المبلغ؛ أي: مبلغ الهلاك، لكن اللّه برحمته وفضله أخره عنهم إلى وقت. أو يقال: إن هَؤُلَاءِ قد بلغوا في العبادة لغير اللّه بعد نزول القرآن والحجة المبلغ الذي كان بلغ آباؤهم قبل نزول الحجة والبرهان في عبادتهم غير اللّه. أو كان في قوم قد أظهروا الموافقة لهم، وكانوا يعبدون الأصنام في السر على ما كان يعبد آباؤهم، فقال: هَؤُلَاءِ وإن أظهروا الموافقة لك فقد بلغوا بصنيعهم في السر مبلغ آبائهم، واللّه أعلم هذا يحتمل وجهين: أحدهما: إخبار عن قوم خاص أنه لا يؤمن أحد منهم؛ ليجعل شغله بغيرهم. والثاني: إخبار ألا يؤمن جميع قومك كما لم يؤمن قوم موسى بأجمعهم؛ بل قد آمن منهم فريق، ولم يؤمن فريق، فعلى ذلك يكون قومك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ} قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: وإنا لموفوهم نصيبهم في الدنيا من الأرزاق، وما قدر لهم من النعم {غَيْرَ مَنْقُوصٍ}، لا ينقص ما قدر لهم؛ أي: لا يهلكون حتى يوفى لهم الرزق. وقال قائلون: {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ} أي: لا ينقصون من أعمالهم شيئًا، ولا يزادون عليها، إن كان حسنا فحسن، وإن كان شرا فشر؛ فهو على الجزاء. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ} يقول: إنا نوفر لهم حظهم من العذاب في الآخرة، غير منقوص عنهم ذلك العذاب. وقوله: {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ} إن كان التأويل في قوله: {فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ} على الإياس من قوم علم اللّه منهم أنهم لا يؤمنون، فيكون تأويله ما ذكر في آية أخرى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ. . .} الآية، وإن كان الثاني فهو ما ذكر في آية أخرى قوله: {وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ. . .} الآية. ١١٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ (١١٠) أي: التوراة {فَاخْتُلِفَ فِيهِ} أي: اختلف في الكتاب، والاختلاف فيه يحتمل وجوهًا ثلاثة: أحدها: في الإيمان به والكفر منهم، من آمن به، ومنهم من كفر. والثاني: اختلفوا فيه: في الزيادة والنقصان، والتبديل والتحويل والتحريف؛ كقوله: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ. . .} الآية، وكقوله: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ. . .} الآية. وقوله: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} وأمثاله من الآيات. والوجه الثالث: من الاختلاف: اختلفوا في تأويله وفي معناه بعد ما آمنوا به وقبلوه، فالاختلاف في التأويل مما احتمل كتابنا، وأمّا التبديل والتحويل والتحريف، والزيادة والنقصان فإنه لا يحتمل لما ضمن اللّه حفظ هذا الكتاب بقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وقال: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ. . .} الآية وجعله ميسرًا على ألسن الناس وقلوبهم، حتى من زاد، أو نقص، أو بدل، أو حرَّف شيئًا أو قدم، أو أخَّر عرف ذلك، فهو - واللّه أعلم - لما لا يحتمل إحكام هذا نسخها ولا شرائعه تبديلها، وأما الكتب السالفة فإنما جعل حفظها إليهم بقوله: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللّه} فهو - واللّه أعلم - لما احتمل شرائعها وأحكامها نسخها وتبديلها، لذلك كان الأمر ما ذكرناه. وقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ} ذكر هذا لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يصبره على ما اختلف فيه قومه في الكتاب الذي أنزل عليه؛ يقول: وقد اختلف فيما أنزل على من كان قبلك كما اختلف فيما أنزل عليك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} بالهلاك إهلاك استئصال واستيعاب. وكلمته التي سبقت تحتمل ما كان من حكمه أن يختم الرسالة بمُحَمَّد وأن يجعله خاتم النبيين، وأمته آخر الأمم، بهم تقوم الساعة، يحتمل أن يكون كلمته التي ذكر هذا الذي ذكرناه. وتحتمل وجهًا آخر: وهو أن كان من حكمه أنهم إذا اختلفوا في الكتاب والدِّين، وصاروا بحيث لا يهتدون إلى شيء، ولا يجدون سبيلا إلى الدِّين أن يبعث رسولا يبين لهم الدِّين، ويدعوهم إلى الهدى؛ لولا هذا الحكم الذي سبق وإلا لقضي بينهم بالهلاك. والثالث: لولا ما سبق منه أن يؤخر العذاب عن هذه الأمة إلى وقت وإلا لقضي بينهم بالهلاك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} يحتمل الكملة التي ذكر أنها سبقت في قوم موسى، وهو أنه لا يهلكهم بعد الغرق إهلاك استئصال، والتوراة إنما أنزلت من بعد، فقد آمن أمن قومه قوم، وهو ما قال: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ. . .} الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} يحتمل قوله: {لَفِي شَكٍّ مِنْهُ} في الدِّين {مُرِيبٍ}. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {لَفِي شَكٍّ مِنْهُ} يعني: من العذاب مريب وقد ذكرنا الفرق بين الشك والريب فيما تقدم. ١١١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١) قيل: {لَمَا} هاهنا صلة، يقول - واللّه أعلم -: وإن كلا [{لَيُوَفِّيَنَّهُمْ}] ربك جزاء أعمالهم في الآخرة إن كان شرًّا فشرّ، وإن كان حسنًا فحسن. ومن قرأ {لَمَّا} بالتشديد فتأويله يحتمل وجهين: أحدهما: إلا. والثاني: لما؛ أي: " لَمِمْمَا " اجتمع فيها ميمات طرحت الواحدة وأدغمت إحداهما في الأخرى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} وهو وعيد. ١١٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا} وقال في موضع آخر: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} قَالَ بَعْضُهُمْ قوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} الاستقامة هو التوحيد؛ أي: استقم عليه حتى تأتي به ربك؛ كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللّه ثُمَّ اسْتَقَامُوا} على ذلك حتى أتوا على اللّه به. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {قَالُوا رَبُّنَا اللّه ثُمَّ اسْتَقَامُوا} بما تضمن قوله: {رَبُّنَا اللّه} لأن قوله: {رَبُّنَا اللّه} إقرار منه له بالربوبية، فيجعل في نفسه وجميع أموره الربوبية للّه، والألوهية له، ويجعل في نفسه العبودية له؛ هذه هي الاستقامة التي ذكر، واللّه أعلم، أن يجعل في نفسه وجميع أموره الربوبية للّه، والألوهية له، ويأتي ما يجب أن يؤتى، وينتهي عما يجب أن ينتهي، ويتبع جميع أوامره ونواهيه، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَاسْتَقِمْ} لرسول اللّه، يحتمل على تبليغ الرسالة إليهم. وقوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} يخرج على وجهين: أحدهما: استقم على ما أمرت ومن آمن معك -أيضًا- يستقيم على ما أمروا. والثاني: يقول: امض إلى ما أمرت حرف {كَمَا} يخرج على هذين الوجهين اللذين ذكرناهما على ما أمرت، وإلى ما أمرت. وقوله: {وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} من الشرك، ادعوهم على أن يستقيموا على ما أقروا وأدّوا بلسانهم {وَلَا تَطْغَوْا} قَالَ بَعْضُهُمْ الطغيان هو المجاوزة عن الحد الذي جعل له. وقوله: {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} هذا وعيد. ١١٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللّه مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (١١٣) قال الحسن: هو صلة قوله: فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار. قال الحسن: بينهما دين اللّه بين الركون إلى الظلمة، والطغيان في النعمة. الآية وإن كانت في أهل الشرك فهي فيهم وفي غيرهم من الظلمة أن كل من ركن إلى الظلمة يطيعهم أو يودهم فهو يخاف أن يكون في وعيد هذه الآية. {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللّه مِنْ أَوْلِيَاءَ} في دفع العذاب عنهم، أو إحداث نفع لهم. {ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} لا ناصر لهم دونه، ولا مانع، واللّه أعلم. وتأويل قوله: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} في ظلمهم {فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ. . .} الآية، وإن خرجت مخرج العموم فهي خاصة؛ لأنه لا كل ظلم يركن إليه تمسه النار، وكأنه إنما خاطب به الأتباع؛ يقول: لا تركنوا إلى الكبراء منهم والقادة في ظلمهم وفيما يدعونكم إليه فتمسكم النار. وقال بعض أهل التأويل نزل قوله: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} في رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حين دعاه أهل الشرك إلى ملة آبائه؛ يقول: ولا تميلوا إلى أهل الشرك، ولا تلحقوا بهم. ١١٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ ... (١١٤) صلاة المغرب، ظاهر هذا أن يكون فيها ذكر صلوات ثلاث: صلاة الفجر في الطرف الأول، وصلاة العصر في الطرف الأخير {وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} صلاة المغرب؛ لأنه ذكر زلفًا من الليل، والزلف هي القرب منه؛ لأن الزلفى هي القربة والوسيلة إليه؛ فيكون قوله: {وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ}، أي: قريبًا من طرفي النهار من الليل، وهو المغرب، ويكون ذكر سائر الصلوات في قوله: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ}، ذكر دلوك الشمس، وهو زوال الشمس، وغسق الليل: العشاء، أو في قوله: (فَسُبْحَانَ اللّه حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ)، {حِينَ تُمْسُونَ}: صلاة العصر، {وَحِينَ تُصْبِحُونَ}: صلاة الفجر {وَعَشِيًّا}: صلاة العشاء {وَحِينَ تُظْهِرُونَ}: صلاة الظهر، وليس لصلاة المغرب ذكر في الآية، لكنها ذكرت في قوله: {وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ}. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ}: هو ساعات الليل، إلا أن بعض أهل التأويل صرفوها إلى الصلوات الخمس، وقالوا: قوله: {طَرَفَيِ النَّهَارِ}: صلاة الصبح والظهر والعصر {وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} المغرب والعشاء. وقال الحسن: هما زلفتان من الليل: صلاة المغرب وصلاة العشاء، وعلى ذلك جاءت الآثار في قوله {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} الحسنات هي الصلوات الخمس. وروي أن رجلا أصاب من امرأة كل شيء إلا الجماع، فندم على ذلك، فأتى رسول اللّه، فسأله، فقال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: ما أدري ما أرد عليك حتى يأتيني فيك شيء من اللّه. قال: فبينما هم كذلك إذ حضرت الصلاة، فلما فرغ من صلاته نزل عليه جبريل بتوبته فقال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} غدوة وعشية، صلاة الغداة والظهر والعصر {وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} صلاة المغرب والعشاء {إِنَّ الْحَسَنَاتِ} يعني: الصلوات الخمس {يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}. {ذَلِكَ}: يعني: الصلوات الخمس {ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} قال: توبة للتائبين، فقرأ رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال عمر: يا رسول اللّه، أخاص له أم عام؟ قال، " لا، بل عام للناس كلهم " فإن ثبت هذا فهو الأصل في ذلك. وعن عثمان - في بعض الأخبار - أنه سمع النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول: " الصلوات الخمس الحسنات يذهبن السيئات " فقالوا: فما الباقيات الصالحات يا عثمان؟ فقال: لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه، وسبحان اللّه، والحمد للّه، ولَا إِلَهَ إِلَّا اللّه، واللّه أَكْبَرُ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم. وعن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " الصلوات كفارات الخطايا، واقرءوا إن شئتم: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}. وعن ابن عَبَّاسٍ: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} قال: الصلوات الخمس. وعن جابر قال: قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات ". والأخبار في هذا كثيرة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: فيه ذكر أربع صلوات، يقول: {طَرَفَيِ النَّهَارِ}: الفجر والعصر {وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ}: المغرب والعشاء. وقد جاءت الآثار في أن الحسنات هن خمس صلوات. وقوله: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} قَالَ بَعْضُهُمْ: فعل الصلوات نفسها، وهو ما ذكرنا من الأخبار إن ثبت. وقَالَ بَعْضُهُمْ: نفس الصلاة لا تكفر، ولكن تذكر ما ارتكب من الذنوب فيندم عليها؛ فذلك يكفر، وهو كقوله: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ. . .} الآية، أخبر أن الصلاة تنهى، ولا تنهى إلا بعد أن تذكر ذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ قوله: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ}؛ أي: تمنع عن الفحشاء؛ أي: ما دام فيها. ويحتمل قوله: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} الصلوات وغيرها من الحسنات؛ فيه إخبار أن من الحسنات ما يكفر شيئًا من السيئات، واللّه أعلم. وقوله: {ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} {ذَلِكَ} الذي سبق ذكره {ذِكْرَى} عظة للمتعظين. ١١٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّه لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥) ظاهر ما ذكر من الكلام أن يقول: فإن اللّه لا يضيع أجر الصابرين؛ لأنه ذكر الصبر بقوله: {وَاصْبِرْ}، لكن يحتمل قوله: {وَاصْبِرْ} عن الشرور كلها وأحسن، فإن اللّه لا يضيع أجر المحسنين؛ بل يجزيهم جزاء إحسانهم. أو يقول: اصبر على أداء ما كلفت من الطاعات، أو تبليغ ما كلفت التبليغ إليهم. ويحتمل وجهًا آخر: اصبر على أذاهم ولا تكافئهم فإذا لم تكافئهم، فقد أحسنت إليهم، فإن اللّه لا يضيع أجر المحسنين، أو يقول هو له: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ} واللّه أعلم. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: قوله: {وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ}: ساعات من الليل. وقال: الزلفة: المرحلة، والزلفة: القربة؛ كقوله: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى} أي: لقربة. وقال أبو عبيدة: الزلف: جمع زلفة، وهي الساعة، وهي المنزلة على ما قلناه. ١١٦وقوله - تعالى -: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا} وظاهر هذا يخرج على المعاتبة أو التنبيه والتذكير؛ لأنه يقول: {فَلَولَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ} أي: لم لا كانوا كذا؟ فليس ثم من أُولَئِكَ من يعاتب أو ينبه، لكنها تخرج على وجهين: أحدهما: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ} أي: فهلا كانوا ذوي بقية {يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ} معناه - واللّه أعلم -: هلا كثر أهل الإسلام فيهم حتى قدروا على النهي عن الفساد في الأرض؛ لأنهم إذا كانوا قليلا لم يقدروا على النهي عن الفساد في الأرض؛ نحو لوط وأهله، كانوا عددًا قليلا كيف كان يقدر على النهي عن الفساد، أو المنع عن ذلك، وكنوح -أيضًا- كان معه نفر يقل عددهم، لم يقدروا على منع قومه عن الفساد ونحوه. فإذا كان ما ذكرناه فكأنه - واللّه أعلم - يقول: هلا كثر أهل الإسلام وأولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض. والثاني: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي: قد كان منهم أولو بقية، لكنهم لم ينهوا عن الفساد في الأرض، فأهلكوا جميعًا إلا قليلا ممن أنجينا منهم، وذلك القليل قد نهوا عن الفساد في الأرض، فنجوا بين أُولَئِكَ. حاصل هذا يخرج على هذين الوجهين اللذين ذكرناهما: أحدهما: لم يكن منهم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض؛ على ما قاله بعض أهل التأويل. والثاني: كان فيهم أولو بقية، لكنهم لم ينهوهم عن الفساد في الأرض إلا قليلا منهم فإنهم قد نهوهم عن ذلك، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ} هو يخرج على وجهين: يحتمل: واتبع: الأتباع والسفلة الذين ظلموا من أترفوا فيه من الأموال أي: وسع عليهم وأعطوا الأموال وهم الأجلة والأئمة منهم أي: آثروا اتباع الأئمة والأجلة الذين أترفوا فيه على اتباع الرسل والأنبياء. والثاني: {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} وهم الأجلة والأئمة {مَا أُتْرِفُوا فِيهِ} أي: ما أعطوا من الأموال أي: آثروا الدنيا وما فيها على اتباع الرسل والأنبياء. أحد التأويلين يرجع إلى السفلة والأتباع، وهو الأول، والثاني إلى الأجلة والأئمة هم آثروا اتباع الدنيا على اتباع الرسل، ثم تبعهم الأتباع والسفلة في ذلك، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (١١٧) أي: ما كان ربك ليهلك القرى إهلاك استئصال وانتقام وأهلها كلهم مصلحون، أو أكثر أهلها مصلحون، إنما يهلك القرى إذا كان أهلها كلهم مفسدين، أو عامة أهلها مفسدين؛ هذا يدل على أن الحكم في الدار إنما يكون بغلبة أهلها: إن كان أكثر أهلها أهل الإسلام فالحكم حكم الإسلام، وإن كان عامة أهلها أهل الحرب والكفر فالحكم حكمهم، ولا يسمّى أهلها كلهم بالكفر والفساد إذا كان أكثر أهلها مصلحين؛ ألا ترى أنه قال في قوم لوط: {إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ} سمى أهل القرية، قرية وإن كان فيها لوط وأهله مصلحون لم يعد لوطًا وأهله من أهلها. وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ} أي: لا يكون في إهلاكهم ظالمًا. ثم هو يخرج على وجهين: أحدهما: أن الخلق له، فهو بإهلاكه لم يكن ظالمًا؛ لأنه أهلك ماله. والثاني: أنه إنما يهلكهم بظلم كان منهم؛ كقوله: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ. . .} الآية، أي: إنما يهلكهم بشيء اكتسبوه، فهم بما اكتسبوا ظلموا أنفسهم، وهو كقوله: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}. ١١٨وقوله: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) قالت المعتزلة: هذه المشيئة مشيئة القهر والقسر، وذلك مما يدفع المحنة، ويزول لديه المثوبة والعقوبة، وكذلك في قوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا}. وأما عندنا فلو شاء لجعلهم أمة واحدة، مشيئة لا تزول معها المحنة، والذي يدل عليه خصال: أحدها: أن اللّه تعالى قد عرفنا الإيمان والدِّين الذي يقع به اجتماع، أو فيه الاختلاف بما ركب فينا من العقول التي بها نعرف حقائق الأشياء ومجازاتها، ومحاسن الأمور وقبيحها، بمعونة السمع أو بالتأمل فيما يحس بالأمرين جميعًا أنه لا يكون إلا بالاختيار، ولا يوصل إلى السبب الذي به يدان إلا بالاستدلال أو التعليم؛ إذ هو طاعة وتصديق، وذلك يكون ممن لا يحس، وطريقه الاجتهاد، وكل ذي أضداد القسر، فمحال أن يعود الكون لو شاء على وجه قد عرفنا أنه لا يكون سمعًا وعقلا، فيكون في الحقيقة كأنه قال لو شاء أن يكون لا يكون، على أن ذا من يقبل عنه هذه الدعوى على قولهم، وهو منذ كان الخلق بين أن كان فيما شاء إثباته من أفعال الخلق فلم يكن ولم يشأ، فكان عندهم، فهو كمن ظهر عجزه بجميع أدلة العجز، ثم يدع أن له القدرة بها، يقهر ما يشاء، فذلك كمن لا يقوم للانتصاب والنهوض فيدع أنه يقدر على الصعود، أو من لا يملك إمساك مثل ذرة أنه ممسك السماوات والأرض. على أنه لو كان كذلك ليجيء أن يكون يقدر على فعل الكفر والسفه والكذب، إذ من يقدر على فعل شيء لا يقدر على فعل ضده عندهم ليس ذلك بقدرة. ثم لو كان ذلك كله بلا غير، يصير له فعلا، فكان يكون في الحقيقة سفيهًا كذوبًا، ومن كان ذلك وصفه فهو غير رب ولا حكيم، ومن ربوبيته تحت قدرة غيره أو حكمته تحتمل المضادات، فهو مسئول عما يفعل، مطالب بالحجج، فأنى يكون لمن ذلك وصفه ربوبية جل عن ذلك. والثاني: أن الذي يكون بالقسر والقهر يكون أمر الخلقة، لا أمر فعل العبد، وذلك في الحقيقة للّه، لا للبشر، وما هو له من جهة الخلقة موجود؛ لأن نفس كل أحد بالخلقة مؤمن، وقد شاء اللّه تلك المشيئة، فالقول بـ لو شاء لا معنى له؛ بل قد شاء وكان، ولا قوة إلا باللّه. والثالث: أنه وعد أن لو شاء أن يجعل كذا لفعل؛ وهو لو فعل لكان يجعل من قد آمن منهم في الحقيقة مؤمنًا في المجاز، كافرًا في الحقيقة؛ لأنهم بهذا يصيرون أمّة واحدة؛ إذ صار كثير منهم مؤمنين بالاختيار، لا يحتمل أن يجعلهم على غير ذلك، فيكون محمودًا عدلا، واللّه الموفق. ثم الأصل أن اللّه - تعالى - قد جعل أدلة كل موعود في الحس ظاهرًا، وكل مقدور عليه بالوعد والدعوى له مما جبل عليه أمرًا بينًا، وهذا النوع من المشيئة عندهم والدعوى بما جعل جميع مانع لأن يكون كائنا، فيصير بالذي به ادعى لنفسه من القدرة مكذبًا بما جعل لمنع مثله الأدلة، ومن ذلك وصفه، فهو غير حكيم، جل اللّه عن هذا. على أن المتأمل بما أخبر يجد حقيقته دون أن يحتاج إلى دليل يوضح قدرته على ما ادعى على بقاء المحنة سبيلا سهلا بحمد اللّه لا يحتاج إلى ما ذكروا من المكابرة، وهو ما قال اللّه - تعالى -: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً. . .} الآية. ومعلوم أنهم لو كفروا جميعًا بما ذكر لكانوا مختارين، وإلى ما جاءوا به غير مضطرين، فإذا استقام كونهم على دين الكفر بذلك لا يحتمل ألا يوجب ذلك بقاء على الإيمان لو كانوا مختارين لذلك يستقيم كونهم على دين الإيمان مختارين، أو لو جعل ذلك للمؤمنين، فيقدرون على قولهم أن يجعلهم كفارًا بالمحنة، لا يقدر على أن يجعلهم مؤمنين بها؛ لأن ذلك وصف العجز عندهم، وإن كان لا يكون كذلك عندنا؛ لأنه يستقيم القول بالأقدار على إحداث غيره، ومحال القول على جعل غيره قديمًا، أو على إحواج غيره إليه لا يحتمل الوصف بالقدرة على إغناء غيره عنه، وعليهم أوضح؛ إذ أجازوا له القدرة على كل حركة للعبد وسكون بالاضطرار، ولم يجوزوا في ذلك بالاختيار، اللّهم إلا أن يقولوا: لا يجوز أن يكون العبد غير كامل القدرة، وهي القدرة على مضادات الأشياء، واللّه يجوز له الوصف بالقدرة الناقصة، فيكون قريبًا مما جعلوا للعبد قدرة على ما يجهل الرب، ويجعله كاذبًا فيما يخبر على بقاء الربوبية له، واللّه لا يقدر على مثله في العبد على بقاء العبودية له بالمحنة، أو ما أقدروا العبد على إهلاك من وعد اللّه فيه الإبقاء، ويريد ذلك، وذلك فضله، ووعد له مع ذلك أن يعطيه كذا، فيأتي معاند فيقتله، ويمنع الرب عن إنجاز وعده، وعن سلطان بقائه؛ جل الرب عن هذا، وذلك في قولهم فيما يضرب اللّه لنبي أو صديق أجلا يرى به مصلحة عباده يقدر الكافر على قتله قبل مجيء ذلك الأجل، وإبطال جميع ما وعد [والإيفاء] بما هو صنيعه من إبقاء الحياة فيه، ولا يقدر اللّه على إنجاز ما وعد وإيفائه على ما أراد، والعبد بحاله إلا أن يعجزه، أو يميته، أو يجعله زمنًا، واللّه المستعان. ثم الأصل أن كل مريد بفعله فيما فعله أمرًا لا يكون ذلك، وهو لم يكن فعله إلا لذلك يوجب أحد أمرين في الحكمة: إما جهلا بالعواقب وخطأ بالفعل؛ كمن يفعل فعلا يحزن عليه أو يلحقه به مكروه، فهو لا يفعله له يظهر فاعله أنه عن جهل فعل، وعلى الخطأ خرج فعله، وعلى ذلك معنى التحذير في الخلق والتنبيه بقولهم: " لدوا للموت وابنوا للخراب " وسرق ليقطع، وبارز ليقتل من حيث كان والثاني متصلا بالأول ينبه عن الغفلة على إرادة التحذير أنه إليه يئول أمر فعله وعلى ذلك قوله: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ. . .} أو أن يقال ذلك على أنه كذلك في فعله عند اللّه وإن جهله هو، أو يوجب السفه في الفعل والعبث؛ إذ هو يقصد بفعله ما يعلم أنه لا يكون، أو يريد ما يتيقن أنه لا يبلغ، وإذا كان كذلك فإعطاء اللّه - تعالى - القدرة ليؤمن، أو خلقه ليعبد، وأراد أنه يفعل ذلك، واختار ذلك الفعل، لذلك يوجب أحد ذينك الوجهين جل اللّه عنهما وتعالى، وقد ثبت أن اللّه - تعالى - عالم بالعواقب، متعالي عن العبث، ثبت أنه خلق من خلق، وأعطى ما أعطى لما علم أنه يكون، وقد علم ما يكون، وعلى هذا التقدير يخرج الأمر في قوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ. . .} الآية، وقوله: (وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ، الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} أنه خلقهم للذي علم أنهم يصيرون إليه من اختلاف أو اتفاق، أو عداوة أو ولاية، لا يريد غير الذي علم، ولا يعلم غير الذي يكون ممن يعلم ما يكون، ولا قوة إلا باللّه. وقالت المعتزلة: قوله: (وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) ١١٩إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ... (١١٩) أي: للرحمة خلقهم؛ فقال: بعض متكلمي أصحابنا: إن الرحمة تذكر بالتأنيث وهو إنما ذكر بالتذكير؛ حيث قال: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} ولم يقل: ولتلك خلقهم دل أنه ليس على ما يقولون. وقال قائلون: للاختلاف خلقهم إلا من رحم ربك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو صلة قوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} أي: خلقهم لئلا يهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون. وعندنا ما ذكرنا أنه خلقهم للذي علم أنه يكون منهم، وأنهم يصيرون إليه من ألاختلاف أو الاتفاق، أو العداوة أو الولاية، لا يخلقهم لغير الذي علم أنه يكون منهم، ولا يريد -أيضًا- غير ما علم أنهم يصيرون إليه، ولا يعلم غير ما يكون منهم، واللّه الموفق. وتأويل المعتزلة في قوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} أنها مشيئة القسر والقهر، فذلك بعيد؛ لأنه لا يكون في حال القهر والاضطرار إيمان؛ لأن من أكره واضطر على الإيمان حتى آمن فإنه لا يكون إيمانه إيمانا، إنما يكون الإيمان إيمانًا في حال الاحنتيار إذا آمن مختارًا ممتحنًا فيه، فعند ذلك يكون إيمانه إيمانًا دل أن تأويلهم فاسد. ١٢٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠) تأويله - واللّه أعلم -: كل الذي نقص عليك أو قصصنا عليك من أنباء الرسل، نبأ بعد نبإ، ونبأ على إثر نبإ؛ ما نثبت به فؤادك. وقوله: {مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} يحتمل وجوهًا. أحدها: نثبت به فؤادك؛ لما يحتمل أن نفسه كانت تنازعه وتناقشه بأن الذي أنزل عليه أو يأتي به ملك، أو كان ذلك من إيحاء الشيطان وإلقائه عليه ووساوسه، فقص عليه من أنباء الرسل وأخبارهم؛ ليكون له آية بينه وبين ربه؛ ليعلم أن ما أنزل عليه وما يأتي به إنما هو ملك من اللّه؛ جاء ليدفع به نوازع نفسه وخطراته؛ إذ لا سبيل للشيطان إلى معرفة تلك الأنباء، ولا في وسعه إلقاؤها عليه، فيكون له بها طمأنينة قلبه، وهو كقول إبراهيم؛ حيث قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى. . .} الآية، كأن نفس إبراهيم تنازعه في كيفية إحياء الموتى، فسأل ربه ليريه ذلك؛ ليطمئن بذلك قلبه، وإن كان يعلم أنه يحيي الموتى، وأنه قادر على ذلك. والثاني: قص عليه أنباء الرسل واحدًا بعد واحد؛ ليثبت به فؤاده ليعلم كيفية معاملتهم قومهم، وماذا لقوا من قومهم، وكيف صبروا على أذاهم ليصبر هو على ما صبر أُولَئِكَ، وليعامل هو قومه بمثل معاملتهم. ويشبه أن يكون قوله: {مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} بنبإ بعد نبإ؛ لتنظر وتتفكر في كل نبأ وخبر، وتعرف ما فيه، فيكون ذلك أثبت في قلبه، وهو كقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ}، بإنزال الآية واحدة بعد واحدة، وسورة بعد سورة، وذلك أثبت في فؤاده من إنزاله جملة؛ لأنه يزدحم في مسامعه وفؤاده، وإذا كان بالتفاريق نظر وتفكر، فهو أثبت في قلبه وفؤاده، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ} قَالَ بَعْضُهُمْ: {وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ} أي: في هذه الأنباء التي قصها عليك جاءك فيها الحق، وهو ما ذكرناه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ} أي: في هذه السورة {الْحَقُّ}، وهو ما ذكر من الأنباء: نبأ بعد نبإ، وهو كالأول. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {الْحَقُّ} أي: في هذه الدنيا الحق؛ يعني: الآيات والحجج والبراهين لرسالته ودينه {وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} أي: جاءك ما تعظ به قومك، وتذكر به المؤمنين. وقوله: {وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} خص المؤمنين بذلك لما يكون منفعة الموعظة والذكرى للمؤمنين، وإلا هو موعظة وذكرى للكل. ١٢١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} المكانة هي: المنزلة والقدر، يقول: اعملوا أنتم على مكانتكم ومنزلتكم التي لكم عند أتباعكم، كأنه يخاطب به الأشراف منهم والرؤساء {إِنَّا عَامِلُونَ} على المكانة والمنزلة التي لنا عند اللّه فننظر أينا أرجح؟ نحن أو أنتم؟ وأينا أخسر نحن أو أنتم؟ وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ} يخرج على وجهين: أحدهما: على التوبيخ والتخويف عندما بالغ في الحجاج فلم ينجع فيهم، فقال عند ذلك كقوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}، ونحوه. والثاني: على الإعجاز مما أرادوا به من المكر والكيد بقوله: اعملوا ما تريدون وأنا أعمل. ١٢٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَانْتَظِرُوا ... (١٢٢) أنتم بنا ذلك {إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} بكم ذلك. أو يقول هذا لما كانوا يوعدونه ويخوفونه من أنواع الوعيد، فيقول: انتظروا بنا ذلك ما تخوفوننا إنا منتظرون بكم ما نخوفكم نحن، واللّه أعلم. ١٢٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَللّه غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣) قال بعض أهل التأويل: وللّه غيب نزول العذاب وغيب ما في الأرض؛ كأنه خرج جواب ما سألوه من العذاب؛ كقوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ}، وكقوله: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}، وقوله: {ائْتِنَا بِعَذَابِ اللّه إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فقال: {وَللّه غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: علم ذلك عند اللّه، وكقوله: {قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}، وأمثاله. ويشبه أن يكون جواب ما تحكموا على اللّه من إنزال القرآن، وجعل الرسالة في غيره كقولهم: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}، و {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً}، فقال: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ. . .} الآية، وقال: {اللّه أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} فعلى ذلك قوله: {وَللّه غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لا إلى الخلق، واللّه أعلم بما أراد {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} إليه يرجع أمر الخلق كله وتدبيرهم {فَاعْبُدْهُ} أي: اعبده في خاص نفسك {وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} في تبليغ الرسالة إليهم؛ أي: لا يمنعنك كيدهم ومكرهم بك عن تبليغ الرسالة، ولا تخافن منهم، فإن اللّه يحفظك من كيدهم ومكرهم بك؛ كقوله: {وَاللّه يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، و {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} هذا يؤيد ما ذكرناه؛ أي: ما ربك بغافل عما يريدون بك من كيدهم ومكرهمِ؛ بل يعلم ذلك، وينصرك، وينتصر منهم، وهو كقوله لموسى وهارون: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (٤٤) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (٤٥) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (٤٦). أي: اسمع قوله وجوابه إياكما، وأرى ما يفعل، أي: أنصركما فلا تخافا؛ فعلى ذلك الأول، واللّه سبحانه وتبارك وتعالى أعلم. * * * |
﴿ ٠ ﴾