سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام

قيل: مكية

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {الر كِتَابٌ}: الر: كناية عن حروف مقطعة جعلها - بالحكمة - كتابًا.

{أَنْزَلْنَاهُ}: أي: جمعناها أوأنزلناها، وجعلناها كتابًا، أعني تلك الحروف المقطعة كتابًا؛ وأنزلناه إليك بعدما لم تكن تدري ما الكتاب؛ وهو كما قال: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ}؛

وقوله: {وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ}.

{لِتُخْرِجَ النَّاسَ}.

وما يضاف الإخراج إلى اللّه فإنه يكون بإعطاء الأسباب، وحقيقة ما يكون به الأفعال، وهي القدرة، وما يضاف الإخراج إلى الرسل؛ فإنه لا يكون إلا بإعطاء الأسباب؛ لأنه لا يملك أحد سواه إعطاء ما به يكون الفعل، ثم الأسباب تكون بوجهين:

أحدهما: الدعاء إلى ذلك.

والثاني: ما أتى بهم من البيان والحجة على ذلك؛ فهو الأسباب التي يملك الرسل إتيانها، وأما ما به حقيقة الفعل؛ فإنه لا يملكه إلا اللّه.

وقوله: {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} قيل: من الكفر إلى الإيمان، سمى الكفر: ظلمات؛ وهو واحد؛ لأنه يستر جميع منافذ الجوارح؛ من البصر والسمع واللسان؛ يبصر ما لا يصلح؛ ويسمع ما لا يصلح، وكذلك القول: يقول ما لا يصلح، وكذلك جميع الجوارح والإيمان يرفع ويكشف جميع الحجب والستور؛ ويضيء له كل مستور.

والثاني: قوله: {مِنَ الظُّلُمَاتِ} أي: من الشبهات إلى النور؛ أي: إلى الإيمان والهدى.

وقوله: {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} الإخراج المضاف إلى اللّه والهداية تخرج

 على وجوه أربعة:

أحدها: يأمر ويدعوهم إلى ما ذكر.

والثاني: يكشف ويبين.

والثالث: يرغب ويرهب، حتى يرغبوا في المرغوب ويحذروا المرهوب.

والرابع: تحقيق ما يكون به الهداية، وذلك لا يكون إلا باللّه؛ وهو التوفيق والعصمة، وأما الوجوه الثلاثة الأُول فإنها تكون برسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ يأمر ويدعو؛ ويرغب ويرهّب؛ وببين ويكَشف. واللّه أعلم.

وقوله: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ} كأنه قال: كتاب أنزلناه إليك؛ لتأمر الناس بالخروج مما ذكر إلى عا ذكر.

الثاني: أنزلناه لتخرج به الناس مما ذكر.

{بِإِذْنِ رَبِّهِمْ}.

قيل: بأمر ربهم؛ أي: تدعوهم بأمر ربهم.

وقال قائلون: بعلم ربهم؛ أي: أنزل هذه الحروف المقطعة بعلمه.

والثالث: يحتمل بتوفيق رجهم الإذن من اللّه، يحتمل أحد هذه الوجوه التي ذكرنا: الأمر والعلم والتوفيق.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}.

{الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} هو اللّه؛ أي: يدعوهم إلى طريق أللّه الذي من سلكه نجا.

{الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} سمى عزيزًا؛ لأن كل عزيز به يعز، أو يقال: عزيز؛ لأنه عزيز بذاته ليس بغيره كالخلائق، أو العزيز: هو الذي لا يغلب، والحميد: هو الذي لا يلحقه الذم في فعله؛ كالحكيم: هو الذي لا يلحقه الخطأ في تدبيره.

وقال أهل التأويل: العزيز: المنيع، والحميد: الذي هو يقبل اليسير من العبادة.

٢

وقوله: - عَزَّ وَجَلَّ -: (اللّه الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (٢)

من قرأ بالخفض صيّره موصولا بالأول، وجعله كلامًا واحدًا؛ وأتبع الخفض

 بالخفض. ومن قرأ بالرفع: {اللّه الَّذِي} وجعله مقطوعًا عن الأول أعلى أحق الابتداء؛ فقال: {اللّه الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}.

ذكر قوله: {اللّه الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}؛ ليعلم أنه بما يأمر الخلق؛ ويدعوهم إلى دينه؛ ويمتحنهم بأنواع المحن لا يفعل ذلك لمنافع نفسه أو لحاجته في ذلك؛ بل لحاجة الممتحنين ولمنافعهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}.

قال قائلون: الويل: هو الشدة، وقيل: الويل: هو اسم وادٍ في جهنم.

وقال الأصم: الويل: هو نداء كل مكروب وملهوف من شدة البلاء، وقول الحسن كذلك.

٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّه وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (٣)

وصف أُولَئِكَ الذين ذكر أن فيهم الويل من هم؛ فقال: {الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} أي: آثروا واختاروا الحياة الدنيا على الآخرة؛ أي: رضوا بها واطمأنوا فيها؛ كقوله: {وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا}، اختاروا الحياة الدنيا للدنيا؛ لم يختاروا للآخرة؛ فالدنيا أنشئت لا للدنيا ولكن إنما أنشئت للآخرة؛ فمن اختارها لها؛ لا ليسلك بها إلى الآخرة - ضلّ وزاغ عن الحق.

وقوله: {الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} وهو ما ذكرنا: يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة؛ حتى يلهوا عن الآخرة؛ ويسهوا فيها ويغفلوا، وإلا أهل الإسلام ربما يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة، وهو ما ذكرنا: أنهم يختارون ذلك للآخرة، وأُولَئِكَ للدنيا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّه}.

يحتمل {وَيَصُدُّونَ}: وجهين:

أحدهما: أعرضوا هم بأنفسهم.

والثاني: صرفوا الناس عن سبيل اللّه؛ الذي من سلكه نجا، لكن إنما يتبين ويظهر ذلك بالمصدر صد يصد صدا: صرف غيره، وصد يصد صدودا: أعرض هو بنفسه.

 {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا}.

أي: طعنًا وعيبًا فيه، دكَ هذا على أن الآية في الرؤساء منهم والقادة الذين كانوا يصدون الناس عن سبيل اللّه ويبغون في دين اللّه الطعن والعيب؛ فما وجدوا إلى ذلك سبيلا قط.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ}.

الضلال: يحتمل وجوهًا:

يحتمل: (الضلال): أي: هلكوا هلاكًا لا نجاة فيه قط.

ويحتمل الحيرة والتيه؛ أي: تحيروا فيه وتاهوا حتى لا يهتدوا أبدًا.

ويحتمل (الضلال) البطلان؛ أي: في بطلان بعيد؛ حتى لا يصلحوا أبدًا، وهو في قوم علم اللّه أنهم لا يهتدون أبدًا؛ ويختمون على الضلال، واللّه أعلم.

٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ}.

لو كان غيره من الكتب أرسلت بغير لسان الأمم لكان هذا الكتاب يجب أن يكون مبعوثًا بلسان قومه؛ لأنه جعل هذا الكتاب نفسه حجة وآية لرسالته؛ لأنهم يعجزون عن إتيان مثله؛ وهو كان بلسانهم؛ ليعلموا أنه جاء من اللّه؛ إذ لو كان من اختراع الرسول - لقدروا هم على اختراع مثله؛ لأن لسانهم مثل لسانه، فإذا عجزوا عن إتيان مثله - دلَّ أنه منزَّل من اللّه تعالى لا من عند الخلق.

ثئم يحتمل قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} وجوهًا:

قال قائلون: هذا بعد ما اختلفت الألسن؛ أرسل هذا وفيه أنباء أوائلهم الذين كان

لسانهم غير لسان هَؤُلَاءِ، وأخبارهم ليعلموا أنه إنما عرف تلك الأنباء والأخبار اشتي كانت بغير لسانهم باللّه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: أرسل بلسان قومه؛ لئلا يكون لهم مقال كقوله: {لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ. . .} الآية.

والثالث: أنه إذا كان بلسانهم يكون آلف وأقرب إلى القبول؛ من إذا كان بغيره؛ إذ كل ذي نوع وجنس يكون بجنسه ونوعه آلف من غير نوعه وجوهره؛ وهو كقوله: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا}، إذ ليس في وسع البشر رؤية الملك والنظر إليه على ما هو عليه، فعلى ذلك: كل ذي لسان يكون بلسانه أفهم وأقرب للقبول وآلف من غيره.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}.

قال قائلون: ليكون أبين لهم وأفهم.

وقال قائلون: ليبين لهم فيفهموا قول رسولهم.

وقوله: {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّه مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}.

أي: يضل اللّه من آثر سبب الضلال، ويهدي من آثر سبب الذي به يهتدي؛ يهديه ذلك.

وقال قائلون: يضل اللّه من يشاء ويهدي من يشاء: هذا حكم اللّه؛ أن يضل المكذبين ويهدي المصدقين، لكن الوجه فيه ما ذكرنا بدءًا أنه يضل من آثر سبب الضلال؛

 ويهدي من يشاء هذا حكم اللّه: أن يضل المكذبين ويهدي المصدقين؛ أي: من آثر سبب الاهتداء.

{وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} العزيز؛ لأن جميع الخلائق مفتقرون إليه لأنه يعزّ من عزّ.

أو أن يكون العزيز: هو الذي لا يغلب، والحكيم: هو الذي لا يلحقه الخطأ في الحكم والتدبير، أو الحكيم في بعث الرسل وفي جميع فعله، ولم يؤخذ عليه في فعله خطأ قط، مصيبٌ وضع كل شيء موضعه.

٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّه إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥)

يحتمل آياته: حججه وبراهينه التي أرسل بها على وحدانية اللّه وألوهيته.

ويحتمل آياته: التي بعثها إلى موسى ليقيمها على رسالته. إن شئت قلت: آياته: حججه وإن شئت سميتها أعلامًا، والآيات والأعلام والحجج - كله واحد؛ فيكون أعلام وحدانية اللّه وألوهيته أو أعلام رسالته.

وقال قائلون: {بِآيَاتِنَا}: أي: بديننا، أي: أرسلنا موسى بديننا، ليدعوهم إليه.

{أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}.

وعلى ذلك بعث جميع الرسل والأنبياء، بعثوا ليخرجوا قومهم من الظلمات إلى النور، وقد ذكرنا هذا في غير موضع.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّه}.

التذكير: هو العظة؛ أي: عظهم بأيام اللّه.

قال قائلون: أيام اللّه: نعمه.

قال قتادة: أمره أن يذكرهم بنعم اللّه التي أنعمها عليهم؛ فإن للّه عليكم أيامًا من النعم؛ كأيام القوم؛ كم من خير قد أعطاه اللّه تعالى لكم؛ وكم من سوء قد صرفه

اللّه تعالى عنكم، أوكم من كرب نفسه اللّه تعالى عنكم، وكم من غَمٍّ فرجه اللّه تعالى عنكم؛ فاللّهم ربنا لك الحمد.

وقال قائلون: أيام اللّه: وقائعه؛ أي: ذكّرهم بوقائع اللّه في الأمم السالفة؛ كيف أهلكهم لما كذبوا الرسل.

هذا يحتمل: أن يذكرهم بنعم اللّه التي كانت على المصدقين بتصديقهم؛ وهو ما أنجى المصدقين من التعذيب والإهلاك؛ إهلاك تعذيب.

أو ذكر المكذبين منهم بالوقائع التي كانت على أُولَئِكَ بالتكذيب؛ وهو الإهلاك.

ويشبه أن يكون قوله: {بِأَيَّامِ اللّه}: الأيام المعروفة نفسها، أمره أن يذكرهم بها؛ ْلأن الأيام تأتي بأرزاقهم؛ وتمضي بأعمالهم وأعمارهم؛ إن كان خيرًا فخير وإن كان شرًّا فشر، وتفني أعمارهم وآجالهم، وفيما تأتى بأرزاقهم نعمة من اللّه عليهم، وفي ذهاب أعمارهم وآجالهم إظهار سلطان اللّه وقدرته، فأمره أن يذكرهم بذلك. واللّه أعلم.

هذا يشبه أن يكون أمر موسى أن يذكر بني إسرائيل ما كان عليهم من فرعون؛ من أنواع التعذيب، ثم الإنجاء من بعد، يقول - واللّه أعلم - ذكرهم الأيام الماضية وما يتلوها، وهذا أشبه وأقرب. واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} وقد ذكرنا أن الصبر: هو كف النفس عن معاصي اللّه وعن جميع مناهيه، والشكر: هو الرغبة في طاعته، أخبر أن فيما ذكر آيات لمن كف نفسه عن المعاصي؛ ورغب في طاعته، لا لمن تطاول على الرسل؛ وتكبر عليهم؛ وترك إجابتهم؛ ولم يرغب فيما دعوه إليه، ليس لأمثال هَؤُلَاءِ عبرة وآية ولكن لمن ذكرنا.

ويشبه أن يكون الصبار والشكور كناية عن المؤمن لأن كل من آمن باللّه ووحَّده - اعتقد الكف عن جميع معاصيه، والرغبة في كل طاعته، وإن كان يقع أحيانًا في معصيته، فكأنه قال: إن في ذلك لآيات للمؤمنين، على ما ذكر في غيره من الآيات؛

 من ذلك قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ}، و {لِلْمُوقِنِينَ}، و {لِلْمُتَّقِينَ}؛ ونحوه. واللّه أعلم.

٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّه عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦)

يشبه أن يكون هذا على الإضمار؛ وهو ما ذكر في آية أخرى؛ أي: اذكروا نعمة اللّه عليكم {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا. . .} الآية.

واذكروا أيضًا: {إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ} قيل يعذبونكم {سُوءَ الْعَذَابِ}.

وقال قائلون: يكلفونكم سوء العذاب {وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ}.

السوم: الإذاقة والتعريض؛ يقال: سامني كذا: أي: أذاقني وعرضني، ويقال: سمت الدابة على الحوض: أي: عرضتها.

{وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} هذا أيضًا قد ذكرناه؛ فيما تقدم في سورة البقرة والأعراف. واللّه أعلم.

٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (٧)

قَالَ بَعْضُهُمْ: {وَإِذْ تَأَذَّنَ} قال ربكم. وقيل: إذ أعلم ربكم وأخبر، والعرب ربما قالت: أفعلت في معنى تفعلت؛ فهذا من ذلك، ومثله في الكلام: أوعدنى وتوعدنى؛ وهو قول الفراء، وحقيقته: وعد ربكم أو كفل ربكم؛ لئن شكرتم لأزيدنكم، لم يقل: لئن شكرتم نعمة كذا، ولا بيِّن أي نعمة: النعم كلها، أو نعمة دون نعمة، ولا قال: شكرتم بماذا، وقال لأزيدنكم؛ لم يذكر الزيادة في ماذا؛ ومن أي: شيء هي.

فيشبه أن يكون قوله: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ} بالتوحيد؛ أي: وحَّدتم اللّه في الدنيا؛ فيما خلقكم خلقًا؛ وركب فيكم ما تتلذذون وتتنعمون في الدنيا؛ وفيما قومكم من أحسن تقويم. {لَأَزِيدَنَّكُمْ} النعم الدائمة في الآخرة؛ فيصير على هذا التأويل كأنه قال: لئن أتيتم شاكرين في الآخرة لأزيدنكم النعم الدائمة، وإلى هذا يذهب ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللّه عَنْهُ؛ أو قريب منه؛ ألا ترى أنه قال:

{وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} أي: ولئن كفرتم ولم توحدوه؛ وأشركتم غيره فيه؛

 وصرفتم شكر تلك النعم إلى غيره إن عذابي لشديد.

ويحتمل أن يكون كل نعمة يشكرها يزيد له من نوعها في الدنيا؛ ويدوم ذلك له.

وفي قوله: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} لطف وفضل؛ لأن الشكر هو المجازاة والمكافأة لما سبق، واللّه تعالى لا يكافئ فيما أنعم؛ لأنهم يستزيدون لأنفسهم الزيادة بالشكر الذي ذكر؛ فهو ليس بشكر في الحقيقة، لكن هذا منه لطف، ذكره؛ وهو كما قال اللّه تعالى: {وَأَقْرِضُوا اللّه قَرْضًا حَسَنًا. . .} الآية،

وقال: {إِنَّ اللّه اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ. . .} الآية، فهذه الأنفس والأموال في الحقيقة للّه؛ ليست لهم؛ فهم فيما يقرضون، يقرضون لأنفسهم، وكذلك في الشراء يشترون لأنفسهم من مولاهم، لكنه ذكر شراه من أنفسهم؛ لطفًا منه وفضلا؛ فعلى ذلك فيما ذكر من الشكر له يطلبون الزيادة لأنفسهم؛ لطفًا منه، وإن كان الشكر في الظاهر موضوعه المكافأة لما سبق، فهو فيما بين الرب والعباد ليس بمكافأة؛ ولكن سبب الزيادة، ولكن سمي شكرًا؛ لطفًا منه وفضلا على ما ذكر التصدق قرضًا؛ واللّه أعلم، ألا ترى أنه

٨

قال: (إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللّه لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨) أي: غني بذاته، ليس يأمر ما يأمر لحاجة نفسه، ولا لمنفعة له، ولكن ما امتحنكم إنما امتحنكم لحاجة أنفسكم، ولمنفعة أبدانكم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللّه لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} أي: غني، عن عبادة خلقه؛ حميد عند خلقه؛ وهو ما ذكرنا أنه ليس يأمرهم فيما يأمر لمنفعة نفسه أو لحاجة نفسه؛ ولكن لمنافع تحصل للخلق ولحوائج تبدو لهم، وكذلك النهي عما ينهى ليس ينهى لخوف مضرّة تلحقه؛ ولكن للضرر يلحقهم ولآفة تتوجه إليهم.

يخبر - عَزَّ وَجَلَّ - عن غناه؛ عما يأمر خلقه من طاعته وعبادته وتوجيه الشكر إليه.

والحميد: هو الذي لا يلحقه الذم في فعله، يقول - واللّه أعلم -: إنهم وإن كفروا، وكان علم اللّه منهم أنهم يكفرون؛ فعلمه بذلك لا يجعله في إنشائهم مذمومًا. واللّه أعلم.

٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ. . .} الآية.

يشبه أن يكون الخطاب لأهل الإيمان منهم، والرسل خاطبهم - عَزَّ وَجَلَّ - تصبيرًا منه لهم، وتنبيهًا على تكذيب الكفرة إياهم؛ وأذاهم واستهزائهم بهم؛ فقال: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي: قد أتاكم نبأ الذين من قبلكم ما فيه مزجر لكم عن مثل معاملتهم الرسول، وهو ما ذكره: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ}. إنه نزل بهم بتكذيبهم الرسل والاستهزاء بأتباعهم، لذكر هذا لهم؛ ليهون ذلك عليهم وليخف؛ لأن من علم أن له شركًا فيما بُلي به وامتحن كان ذلك عليه أهون، وأخف من أن يكون هو المخصوص به.

ويحتمل أن يكون الخطاب لأهل الكفر منهم؛ يقول: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي: قد أتاكم خبر الذين من قبلكم؛ أنه ماذا أنزل بهم بتكذيبهم الرسل واستهزائهم يأتياعهم؛ فينزل بكم، ما نزل بهم؛ لأن الذي أنزل ذلك عليهم حي قادر على إنزال مثله؛ فيخرج ذلك مخرج التوقيح والتوبيخ والتعيير والوعيد؛ ليحذروا

عن صنيع أُولَئِكَ. واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللّه}.

فيه دلالة أن تكلف معرفة الأنساب وحفظها إلى آدم شغل وتكلف؛ لأنه أخبر أن فيهم من لا يعلمه إلا اللّه وروي في الخبر أنه كان ينسب إلى مُضَر، ولا ينسب إلى أكثر من ذلك.

قال أبو بكر الأصم: قوله: {لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللّه} يكذب من ادعى معرفة الأنساب المتقدمة؛ لأنه قال: {لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللّه}، وقد أخبر أيضًا أنه لم يقص عليه خبر الكل بقوله: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ}، فمن البعيد أن يتكلف تعرف ما لم يقصق على رسوله واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ}.

قيل: البينات: بينات على وحدانية اللّه وألوهيته، ويحتمل الحجج التي أتوا بها الرسل على إثبات الرسالة والنبوة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: البينات: ما يتقون، وما يأتون، وما يحل عليهم وما يحرم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ}.

يحتمل أن يكون هذا على التمثيل والكناية عن التكذيب وترك الإجابة؛ لأن رد الأيدي في أفواههم يمنعهم عن التصديق؛ كقوله: {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ. . .} الآية، إذا ترك إجابته،

وقوله: {يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}، وأمثاله.

ويشبه أن يكون على تحقيق جعل الأيدي في أفواههم، ثم يخرج على وجهين:

أحدهما: {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} في أفواه الرسل: فيقولون إنكم كذبة.

ويحتمل: رد الأيدي في أفواه أنفسهم يصوتون وشمتهزئون بهم وبأتباعهم؛ كقوله: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ. . .} الآية، وقد ذكرنا معناه في موضعه؛ فعلى ذلك هذا يحتمل ذلك، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ. . .} الآية.

وقد ذكرنا معناه؛ يحتمل قوله: {بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ} التوحيد؛ لأنهم أرسلوا بالدعاء إلى توحيد اللّه والعبادة له، يدل على ذلك قولهم: {وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} وقول الرسل {أَفِي اللّه شَك. . .} الآية.

ويحتمل قوله: {إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ} من إثبات الرسالة، وإقامة الحجة عليها، {وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} من التصديق بالرسالة والنبوة.

{مُرِيبٍ}: هذا يدل أنهم كانوا على شك مما يعبدون من الأوثان والأصنام؛ لأنهم لو كان لهم بيان في ذلك وحجة ودعاء إليه؛ لكانوا لا يقولون: {وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} ولكن كانوا يقطعون فيه القول؛ فدل أنهم كانوا على شك وريب في عبادتهم الأصنام والأوثان التي عبدوها.

ثم الشك والريب؛

قَالَ بَعْضُهُمْ: هما سواء،

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الشك: هو الشك المعروف، والريب: هو النهاية في الشك.

وقال بعض أهل التأويل في قوله - تعالى -: {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ}: أي: عضوا على أصابعهم غيظًا على ما دعوا.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: ردوا عليهم قولهم أو كذبوهم، وهو ما ذكرنا بدءًا؛

وقال: ردوا عليهم بأفواههم.

١٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّه شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (١٠)

أي: أفي ألوهية اللّه شك؟ أو في عبادة اللّه شك؟ أي: ليس في ألوهيته ولا في عبادته شك إذ تقرون أنتم أنه إله وأنه معبود، وكذلك أقر آباؤكم أنه إله وأنه معبود، فليس في ألوهيته ولا في عبادته شك؛ إنما كان الشك في عبادة من تعبدون دونه، من الأوثان والأصنام وألوهيتها؛ لأن آباءكم أقروا بألوهية اللّه وأنه معبود، حيث قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى}، وقالوا: {هَؤُلَاءِ شُفَعاؤنَا عِندَ اللّه}، وأقروا أنه خالق السماوات والأرض، وفاطر جميع ما فيهما بقولهم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّه}، وإن الأصنام التي عبدوها لم تخلق شيئا؛ فليس في اللّه شك عندكم إنما الشك فيما تعبدون دونه؛ أو في وحدانية اللّه.

أو يقول: أفي اللّه شك أنه معبود؟ أي: ليس في اللّه شك أنه لم يزل معبودًا إنما الشك

في الأصنام التي قالوا: إنما نعبدهم لِيُقَرِّبُونَا إِلى اللّه زلفى؛ فأما في اللّه فلا شك أنه لم يزل معبودًا فاطر السماوات والأرض.

يشبه أن يكون على الإضمار؛ أي: أفي اللّه شك وقد تقرون أنه فاطر السماوات والأرض؛ وتعلمون أنه خالقهما.

ويحتمل أن يكون على الاحتجاج؛ أي: أفي اللّه شك وهو فاطر السماوات والأرض؟! أي: تعلمون أنه فاطر السماوات والأرض وتقرون أنه خالقهما.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ}.

هذا يحتمل وجهين: يحتمل: ليغفر لكم ذنوبكم التي كانت لكم في حال الفترة إذا أسلمتم.

وفيه دلالة - واللّه أعلم -: أن المآثم التي كانت لهم في وقت الفترة - مأخوذة عليهم؛ ثم وعد لهم المغفرة إذا أسلموا.

والثاني: وعد المغفرة والتجاوز؛ لما كان منهم من الافتراء على اللّه؛ والقول فيه بما لا يليق به؛ إذا أسلموا وتابوا عن ذلك؛ أي: إنكم، وإن افتريتم على اللّه وقلتم فيه ما قلتم؛ وكذبتم رسله، فإذا أسلمتم وتبتم وصدقتم رسله - غفر لكم ذلك كله وفيه ذكر لطفه وحسن معاملته خلقه.

ويحتمل أيضًا قوله: {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}

وجواب ما قالوا: {إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا}.

أويحتمل أيضًا قوله: {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} ويقول: إذا أسلمتم وتبتم لا تتخطفون؛ ولكن تبلغون إلى آجالكم المسماة ويؤخركم إلى أجل مسمّى.

يتعلق المعتزلة بظاهر هذه الآية أن لكل إنسان أجلين: أجل في حال إذا كان فعل فعل كذا، وأجل في حال إذا فعل كذا؛ لكن جعل الأجلين إنما يكون بجهل في العواقب ممن من يجهل العواقب، فأمَّا اللّه سبحانه وتعالى فهو عالم بما كان ويكون؛ فلا يحتمل أن

 يجعل له أجلين؛ وهو عالم بما يكون؛ فإنما جعله أجله بالذي علم أنه يكون منه؛ في الوقت الذي جعله، واللّه الموفق.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا}.

في قولهم تناقض من وجهين:

أحدهما: أنهم تركوا طاعة رسلهم واتباعهم؛ لأنهم بشر مثلهم؛ ثم أطاعوا آباءهم واتبعوهم في عبادة الأصنام، وهم بشر مثلهم، حيث قالوا: {تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} وفذلك تناقض في القول.

والثاني: أنهم لم يروا الرسل متبوعين؛ لأنهم بشر ثم لا يخلو هم بأنفسهم من أن يكونوا متبوعين استتبعوا غيرهم دونهم، أو كانوا أتباعًا لغيرهم؛ حيث قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}، فذلك تناقض في القول.

{فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}.

سألوا الحجة على ما دعوا إليه من ألوهية اللّه تعالى وربوبيته، أو على ما ادعوا من الرسالة من اللّه، وفي كل شيء وقع عليه بصرهم دلالة وحدانية اللّه وألوهيته، لكنهم سألوا ذلك سؤال تعنت وعناد، وكذلك قد أقاموا الحجج على ما ادعوا من الرسالة؛ لكنهم تعاندوا وكابروا في ردّ ذلك فسألوا سؤال آية وحجة؛ تضطرهم وتقهرهم على ذلك، أو يكون عند إتيانها هلاكهم؛ فأجابهم الرسل فقالوا: {وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللّه} أي: ما كان لنا أن نأتيكم بآية تكون بها هلاككم؛ إنما ذلك إلى اللّه: إن شاء فعل؛ وإن شاء لم يفعل.

١١

وقوله: (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ... (١١)

أي: ما نحن إلا بشر مثلكم، أولكن اللّه يمن على من يشاء، في دلالة، رد قول الباطنية؛ لأنهم ينكرون كون الرسالة في جوهر البشرية؛ ويقولون: إنما تكون الرسالة في جوهر الروحانية؛ فهم - صلوات اللّه عليهم وسلامه - إنما أجابوا قومهم؛ حيث قالوا لهم: ما أنتم إلا بشر مثلنا؛ وقولهم: {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} ولم يذكروا شيئًا سوى البشرية؛ فدل أن قول الباطنية باطل؛ حيث قالوا: {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}.

{وَلَكِنَّ اللّه يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}.

 فيه دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأنهم يقولون: إن اللّه لا يختص أحدًا بالرسالة؛ إلا من كان منه ما يستحق به الرسالة؛ وهم صلوات اللّه عليهم؛ لم يذكروا سوى منة اللّه عليهم، دل أنه يمن عليهم ويختصهم؛ لا بشيء من الاستحقاق ويكون منهم من الأعمال؛ ولكن بالمنة والفضل منه عليهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللّه}.

هو ما ذكرنا: الإذن موضوعه الإباحة، هو مقابل الحجر؛ لكن الإذن المذكور في القرآن ليس كله على وجه واحد؛ ولكن يتجه في كل موضع ويحتمل على ما يليق به، قال اللّه تعالى: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللّه}، أي: بنصر اللّه؛ لأن الهزيمة هي موضع النصر؛ تحمل عليه، وتال: {وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّه} أي: بإنشاء اللّه؛ فعلى ذلك الإذن هاهنا؛ حيث قال: {وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللّه} أي: بإنشاء اللّه، السلطان وإجرائه على أيدينا.

ويحمل الإذن المذكور في القرآن على ما يصلح ويليق بما تقدم ذكره.

ويحتمل الإذن هاهنا الأمر؛ أي: بأمر اللّه نأتي أي: إن أمرنا اللّه بذلك نأتى به.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَعَلَى اللّه فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}.

يشبه أن يكون ذكر هذا على إثر وعيد وأذى كان منهم إليهم؛ فقالوا: على اللّه يتكل ويعتمد المؤمنون في دفع وعيدكم وأذاكم.

وقوله: {وَعَلَى اللّه فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} هذا يخرج على وجهين:

أحدهما: على الأمر؛ أي: على اللّه توكلوا أنها المؤمنون؛ في جميع ما يتوعدكم أهل الكفر؛ وفي جميع أموركم.

ويحتمل على الإخبار عن صنيع المؤمنين أنهم إنما يتوكلون على اللّه، وبه يعتمدون في جميع أمورهم؛ ومنه يرون كل خير وبر، لا بالأسباب التي لهم ولا يرون منها. وأما أهل الكفر فإنما يتوكلون ويعتمدون بالأسباب؛ ومنها يرون كل سعة وخير. واللّه أعلم.

١٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّه وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللّه فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢)

كأن هذا يخرجع على إئر جواب كان منهم؛ لما قال الرسل: {وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللّه وَعَلَى اللّه فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} فأجابوهم بحرف؛ فعند ذلك قال الرسل: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّه} لكنه لم يذكر ما كان منهم؛ ولكن ذكر جواب الرسل لهم: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّه وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا}

قَالَ بَعْضُهُمْ: وقد بين لنا سلوك سبلنا.

وعندنا قوله: {وَقَدْ هَدَانَا} أي: وفق لنا السلوك في السبل التي علينا أن نسلكها؛ وأكرم لنا ذلك؛ أي: ما لنا ألا نتوكل عليه في النصر والظفر عليكم؛ وقد وفقنا وأكرمنا السلوك في السبل التي علينا سلوكها، وذلك أعسر من القيام للأعداء والنصر بهم؛ وقد أكرمنا ما هو أعسر وأعظم؛ فإن ينصرنا أولى. واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا}.

يحتمل أن يكون هذا قبل أن يأمروا بالقيام لهم والاستنصار منهم؛ أمروا بالصبر على أذاهم؛ فقالوا: {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا}.

ويشبه أن يكون قوله: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّه} أنهم قالوا ذلك؛ لما كان أهل الكفر في كثرة؛ وكان أهل الإسلام وأتباع الرسل في قلة؛ يستقلون أهل الإسلام ويعاتبون على ذلك؛ فقالوا عند ذلك: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّه} بالنصر على أعدائنا؛ والغلبة عليهم، وقد أكرمنا بما ذكر.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَعَلَى اللّه فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} كأنه يخرج على الأمر؛ أي: على اللّه فتوكلوا؛ لا تتوكلوا على غيره.

ويشبه أن يكون على الخبر؛ أي: لا يتوكل المؤمن إلا على اللّه؛ لا يتوكل على غيره؛ كقول الرسول حيث قال: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّه. . .} الآية، وهو قول هود، وقول المؤمنين: {عَلَى اللّه تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا. . .} الآية، ونحوه.

١٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣)

الإخراج يحتمل وجوهًا ثلاثة:

أحدها: على حقيقة الإخراج من البلد إلى غيره من البلدان والأرضين.

ويحتمل الإخراج: الحبس {لَنُخْرِجَنَّكُمْ}؛ أي: لنحبسنكم عن الانتفاع بالبلد، وبأهله وبما فيه، ويحتمل الإخراج: القتل؛ أي: نقتلنكم؛ وقد كان أهل الكفر يوعدون ويخوفون الرسل وأتباعهم بهذه الثلاثة؛ كقوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا. . .} الآية

ونحوه.

ثم في وعيدهم الذي أوعدوا الرسل وجوهًا ثلاثة حيث تجاسروا إقبال الرسل بمثل هذا الوعيد ومع الرسل آيات وحجج:

أحدها: أنهم رأوا أنفسهم مسلّطين على أُولَئِكَ؛ قاهرين عليهم، وكانوا أهل كبر وتجبر؛ ألا ترى أنه قال: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}، دل هذا أنهم كانوا رأوا أنفسهم - كما ذكرنا - أهل تسليط وتجبر.

والثاني: قالوا ذلك لهم؛ لما لم يكن عندهم ما يدفعون حجج الرسل وبراهينهم؛ فهمُّوا قتلهم وإخراجهم؛ لعجزهم عن دفع ما ألزمهم الرسل، وهكذا الأمر المتعارف بين الخلق: أن الخصم لا يقصد إهلاك خصمه؛ ما دام له الوصول إلى الحجاج؛ فإذا عجز عن ذلك فعند ذلك يهم بقتله ويقصد إهلاكه.

والثالث: جواب الرسل إياهم عند القول إليه بالقول الذي ليس فوقه أحسن منه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا}.

الملة: الدِّين؛ كقوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لا يتوارث أهل الملتين " وقوله تعالى: {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} أي: دين إبراهيم.

وقوله: {لَتَعُودُنَّ} ليس أنهم كانوا فيها وتركوها؛ ولكن على ابتداء الدخول فيها على ما ذكرنا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ}.

وعد لهم النصر؛ والظفر عليهم؛ والتمكين في أرضهم مع قلة عدد أتباع الرسل وضعف أبدانهم؛ ومع كثرة الأعداء وقوة أبدانهم؛ ليعلموا أنهم قالوا ذلك بوحي من اللّه؛ ووعده إياهم، لا من حيث أنفسهم، واللّه أعلم. فكان على ما أخبروا؛ فكان ذلك من آيات رسالتهم، وما ينبغي لهم أن يطلبوا لهم من الرسل الآيات والحجج على ما ادعوا؛ لأنهم لم يدعوهم إلى طاعة أنفسهم أو عبادتها؛ إنما دعوهم إلى وحدانية اللّه تعالى وألوهيته، وجعل الطاعة والعبادة له دون ما عبدوها من الأصنام، وذلك في شهادة خلقتهم؛ وشهادة كل خلقة؛ وإن لطف وصغر؛ فلم يحتاجوا إلى أن يقيموا البراهين

والحجج على ما ادعوا ودعوهم إليه؛ لكنهم كانوا قومًا معاندين مكابرين لا يقبلون قولهم ولا يصدقونهم؛ تعنتًا منهم وتكبرًا، لم ينظروا في خلق اللّه ليدركوا آثار وحدانيته وألوهيته؛ فكلفوا إقامة الحجج والآيات؛ لئلا يكون لهم مقال واحتجاج، وإن لم يكن لهم الاحتجاج. واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي. . .} الآية.

قوله - تعالى - ذلك يحتمل وجوهًا؛ لأنه قد سبق خصال ثلاث؛ ما يحتمل رجوع هذا الحرف إلى كل واحد من ذلك.

أحدها: قوله: {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللّه يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} فيحتمل قوله ذلك: المن والفضل لمن خاف مقامي وخاف وعيد. وسبق أيضًا قوله: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّه} أي: ذلك الهدى والسبل التي هدانا إليها؛ أي: ذلك الهدى والهداية لمن خاف مقامي وخاف وعيد. وسبق أيضًا: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ. . .} الآية أي: ذلك النصر والظفر بهم والتمكين في الأرض لمن خاف مقامي وخاف وعيد.

ثم قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ}

قَالَ بَعْضُهُمْ: خاف مقامي في الدنيا والآخرة، وتأويله - واللّه أعلم - أي: خاف سلطاني ونقمتي وعذابي في الدنيا والآخرة، أمَّا في الدنيا لما نزل بمكذبي رسله وأنبيائه، وخاف وعيده وعذابه في الآخرة حيث وعد أنه يحل بهم بالتكذيب وترك الإجابة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: خاف مقامي في الآخرة؛ وهو كقوله: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} يخاف ذلك المقام، وخاف ما وعد من العذاب في النار.

ثم قوله: {مَقَامِي} حيث أضاف إليه، ليس في الاشتباه بأقل من قوله: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}؛ وأقل من قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ}،

وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللّه. . .} الآية، وأمثاله؛ فكيف اشتبه هذا على أهل التشبيه؛ ولم يشتبه قوله: {مَقَامِي}؛ حيث سألوا في ذلك؛ ولم يسألوا في هذا؛ وهذا إن لم يكن أكثر في الاشتباه؛ فليس بأقل، والأصل في هذا وأمثاله؛ من قوله: {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ}، {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ}، {وَإِلَيْهِ مَآبِ}، و {ومَتَابِ}، ذكر هذا؛ وإن كان الخلائق جميعًا في الدارين جميعًا - يكون مصيرهم ومرجعهم إليه؛ لأنه - جل وعلا - لم يخلقهم للمقام في الدنيا والدوام فيها؛

 إنما خلقهم للزوال عنها والفناء، والمقام في الآخرة والدوام فيها؛ لكن خلقهم في هذه الدنيا - ليمتحنهم ويبتلون فيها؛ ثم يصيرون إلى دار المقام، فالآخرة هي المقصودة في خلقهم في الدنيا؛ لا الدنيا؛ فإذا كان كذلك أضاف المصير إلى نفسه، لما هو المقصود في خلقهم؛ وإن كانوا في الدنيا والآخرة صائرين إليه، غير غائبين عنه طرفة عين؛ ولا فائتين، وباللّه النجاة.

ذكر اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - أنباء الرسل الماضية وأتباعهم؛ وأنباء أعدائهم؛ وما عامل بعضهم بعضًا، وما نزل بالأعداء - بما عاملوا رسلهم - من العذاب والاستئصال وأنواع البلايا، وما أكرم رسله وأتباعهم وأولياءهم من النصر على أعدائهم؛ والظفر بهم، والتمكين في الأرض، وجعل ذلك كله كتابًا بالحكمة؛ يتلى ليعلم؛ أن كيف يعامل الأعداء والأولياء؛ وليرغب فيما استوجب الأولياء من الكرامات وليحذروا عن مثل صنيع الأعداء؛ وليعلموا أن كيف عامل اللّه رسله وأولياءه، وكيف عامل الرسل ربهم، أضاف الرسل جميع ما نالوا من الخيرات والكرامات إلى اللّه؛ كأن لا صنع لهم في ذلك؛ حيث قالوا: {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللّه يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}، ذكر قوله: {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} ليعلم أن الخير ليس يكون بالجوهر؛ ولكن بفضل من اللّه تعالى وبرحمته، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّه وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} وأمثاله، أضافوا ذلك إليه؛ كأنهم لا صنع لهم في ذلك.

وذكر اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - ما أكرم أولياءه ورسله؛ من النصر والتمكين والإنزال في الديار، كأنهم استوجبوا ذلك بفعلٍ كان منهم؛ وهو قوله: {ذَلِكَ} أي: ذلك النصر والتمكين، وما ذكرنا من الوجوه {لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} ذكر أنهي استوجبوا ذلك، لا أن كان، {ذَلِكَ} من اللّه بحق إفضاله وامتنانه؛ ليعلموا معاملة اللّه رسله وأولياءه، ومعاملة الرسل والأولياء لسيدهم ومولاهم. واللّه أعلم.

١٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥)

يحتمل وجهين:

أحدهما: الاستنصار؛ استنصروا اللّه على أعدائهم؛ كقوله: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: يستنصرون.

 والثاني: {وَاسْتَفْتَحُوا} أي: تحاكموا إلى اللّه في النصر للأحق منهم؛ والأقرب إلى الحق؛ كقوله: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا. . .} الآية، وهو التحاكم إليه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}.

هو ما ذكرنا: تحاكموا إلى اللّه؛ فنصر أولياءه، وأهلك أعداءه، على ما ذكر أن أبا جهل قال: اللّهم دينك القويم وأياديك الحسنة، أينا كان أَحبَّ إليك وأقرب إلى الحق - فانصره؛ فنصر المؤمنين وأهلك الأعداء.

وقوله: {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} أي: تجبر على رسله وأوليائه، والعنيد: قيل: المعرض المجانب عن الحق والطاعة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الجبار: القاتل على الغضب والضارب على الغضب؛ وهو ما ذكرنا.

١٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ ... (١٦) أي: من وراء عذاب الدنيا لهم عذاب جهنم.

وقوله: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ}: الوراء: قد يستعمل في أمام وخلف؛ أي: من أمام ما حل بهم جهنم، ويحتمل: وراء ما أصابهم؛ ما ذكر.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ}.

أي: يسقى في جهنم صديدًا مكان ما يسقون في الدنيا؛ وهو الذي يسيل من القروح والجروح، جعل اللّه للكافرين في الآخرة مكانًا بما كان لهم في الدنيا؛ لباسًا وشرابًا وطعامًا؛ ما كانت تكرهه أنفسهم، جعل مكان ما يسقون في الدنيا من الماء - في النار: الصديد والغسلين والحميم، ومكان الطعام في الدنيا - في النار: الزقوم والضريع، ومكان اللباس: القطران ونحوه، ومكان القرين والصديق في الدنيا: يجعل قرينه الشيطان، كقوله: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}، إذ ذلك كله يمنعهم عن دين اللّه؛ ويصدهم عن ذكره، ليكون جزاؤهم من نوع ما كان يمنعهم في الدنيا عن طاعته.

ثم

قَالَ بَعْضُهُمْ: إن الصديد الذي يسقون: هو أن النار تجرحهم وتقرحهم؛ فيسيل - من ذلك - الصديدُ؛ فيسقون من ذلك.

 

وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا؛ ولكن يجعل شرابهم فيها صديدًا؛ كشراب أهل الجنة وطعامهم من غير أصل.

وقوله: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} ويحتمل: يسقى من ماء في ظنهم ماء؛ وهو في الحقيقة صديد. ويحتمل أن يكون في الحقيقة والظاهر صديدًا؛ لكن يشربون؛ رجاء أن يدفع عطشهم.

١٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (١٧)

قال أَبُو عَوْسَجَةَ: التجرع: ما يشربه مكرهًا عليه.

{وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ}.

يقال: أسغته: أي: أدخلته في الحلق؛ يقال: أسغته فساغ، أي: دخل سهلًا من غير أن يؤذيه، وكذلك قيل في قوله: {سَائِغٌ شَرَابُهُ} أي: سهل في الحلق، وساغ في حلقه؛ إذا دخل دخولا سهلا لا يؤذيه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ}.

قال قائلون: يأتيهم الغمّ والهم من كل مكان، وكذلك المتعارف في الخلق: إذا اشتد بهم الغم والهم والشدة، يقال: كأنك ميت؛ أو تموت غمًّا.

وقال بعضهم: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ} أي: أسباب الموت؛ ما لو كان من قضائه الموت فيها - لماتوا؛ لشدة ما يحل بهم، ولكن قضاؤه؛ ألا يموتون فيها.

قوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} موت حقيقة يستريح من العذاب.

 

وقوله: {مِنْ كُلِّ مَكَانٍ}

قَالَ بَعْضُهُمْ: من كل ناحية من فوق؛ ومن تحت؛ ومن خلف، ومن قدام؛ كقوله: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ}،

وقال: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ}، أخبر أن النار تأتيهم وتأخذهم من كل جانب ومن كل جهة.

ويحتمل {مِنْ كُلِّ مَكَانٍ}: أي: ومن كل سبب من تلك الأسباب التي تأتيهم؛ ما لو كان قضاؤه الموت - لماتوا بكل سبب من تلك الأسباب.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: ليس من موضع من جسده ومن سائر جوارحه - إلا الموت يأتيه منها؛ من شدة ما يحل بهم؛ حتى يجدوا طعم الموت وكربه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمِنْ وَرَائِهِ} أي: ومن وراء ذلك العذاب - عذاب غليظ لا ينقطع ولا يفتر، وصفه بالغلظ والشدة؛ لدوامه والإياس عن انقطاعه. واللّه أعلم.

١٨

قوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (١٨)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ} هو - واللّه أعلم -: على التقديم أوالتأخير؛ أي: مثل أعمال الذين كفروا بربهم كرماد اشتدت به الريح.

ثم تحتمل {أَعْمَالُهُمْ}: الأعمال التي كانت لهم في حال إيمانهم، ثم كفروا، بما أحدثوا من الكفر؛ أبطل ذلك الأعمال الصالحة في الإيمان؛ وهو ما ذكر: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ}.

أو يكون محاسنهم التي كانت لهم في حال الكفر؛ طمعوا أن ينتفعوا بتلك المحاسن في الآخرة؛ فما انتفعوا بها؛ فصارت كالرماد الذي تذروه الريح الشديدة؛ لم ينتفع صاحب ذلك الرماد به بعد ما عملت به الريح ما عملت؛ فعلى ذلك: الأعمال الصالحة التي عملوها في حال كفرهم، أو أعمالهم الصالحة التي كانت لهم في حال الإيمان؛ ثم أحدثوا الكفر - لا ينتفعون بها.

وقال في آية أخرى: {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ}، فيشبه أن يكون هذا في أعمالهم السيئة في أنفسها فرأوها صالحة حسنة؛ كقوله: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا}، فشبه ما كان في نفسه سببًا بالسراب؛ لأنه لا شيء هنالك؛ إنما يرى

 خيالا، فعلى ذلك: أعمالهم السيئة في أنفسها فرأوها حسنة صالحة، وما كان وما شبه بالرماد - فهي أعمالهم الصالحة في أنفسها؛ لكن الكفر أبطلها.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ}.

اليوم لا يكون عاصفًا؛ ولكن على الإضمار؛ كأنه قال: في يوم فيه ريح عاصف، كقوله: {وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا}، النهار لا يبصر ولكن يُبصَر فيه أو يُبصَر به.

والعاصف: قيل: هو القاصف الكاسر الذي يكسر الأشياء. أو يكون قوله: {اشْتَدَّتْ بِهِ}، والعاصف والقاصف - حرفان يؤديان جميعًا معنى واحد.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} كالرماد الذي ذكرنا أن صاحبه لا يقدر به بعدما عملت به الريح وذرته. واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ}.

يحتمل: ذلك الكفر هو الضلال البعيد؛ لا نجاة فيه أبدًا.

أو ذلك الكفر الذي أتوا به بعيد عن الحق واللّه أعلم.

١٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّه خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}.

{أَلَمْ تَرَ} حرف تنبيه عن عجيب بَلَغَه وعلم به غفل عنه، أو نقول: حرف تنبيه عن عجيب لم يبلغه بعد ولم يعلم به. على هذين الوجهين يشبه أن يكون واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ}.

قال عامة أهل التأويل: بالحق أي: للحق، وتأويل قولهم - واللّه أعلم -: للحق: أي: للكائن لا محالة؛ وهي الآخرة؛ لأنه خلق العالم الأول للعالم الثاني؛ والمقصود في خلق هذا العالم هو العالم الثاني؛ فكان خلقهما للثاني لا للأول الأنه لو كان للأول،

 دون الثاني؛ يحصل خلقهما للفناء، وذلك خارج عن الحكمة؛ وهو ما قال: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}.

وقال قائلون: للحق الذي وجب له عليهم بالامتحان والابتلاء، خلقهما للشهادة له على الممتحن.

أو يقول: خلقهما بالحق: أي: بالحكمة.

وقوله: {أَنَّ اللّه خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ}.

إن كان الخطاب به لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيصير كأنه قال: قد رأيت وعلمت أن اللّه خالق السماوات والأرض بالحق.

وإن كان الخطاب به لغيره من أُولَئِكَ يقول: اعلموا أن اللّه خلق السماوات والأرض بالحق؛ لم يخلقهما عبثًا باطلا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ}.

قال بعض أهل التأويل: هذه المخاطبة يخاطب بها أهل مكة؛ يذكر قدرته وسلطانه على بعثهم بعد الموت والهلاك؛ يقدر على إذهابكم وإهلاككم، ويقدر أيضًا أن يأتي بغيركم، فعلى ذلك: يقدر على بعثكم بعد مماتكم.

٢٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللّه بِعَزِيزٍ (٢٠)

قال أهل التأويل: أي: عليه هين يسير، ولكن عندنا - واللّه أعلم -: {وَمَا ذَلِكَ}: أي: ذهابكم وفناؤكم عليه ليس بشديد عليه ولا شاقّ؛ ليس كملوك الأرض إذا أذهب، شيء من مملكتهم يشتد ذلك عليهم، فأما اللّه سبحانه وتعالى لا يزيد الخلق في سلطانه ولا في ملكه؛ ولا ينقص فناؤهم وذهابهم منه شيئًا؛ كقوله: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} أي: شديد عليهم وهو ما وصفهم - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}، ذكر مكان العزة الشدة، ومكان الذلة - هاهنا - الرحمة.

أو أن يكون قوله: {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللّه بِعَزِيزٍ} أي: ما بعثكم وإحياؤكم بعد الممات على اللّه بشاقٍّ ولا شديد.

٢١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَبَرَزُوا للّه جَمِيعًا ... (٢١)

قال مقاتل: خرجوا إلى اللّه من قبورهم جميعًا،

وقال: {جَمِيعًا} لأنه لا يغادر أحد إلا بعث.

ويحتمل وجوهًا أخر سوى ذلك: وهو أن قوله: {وَبَرَزُوا للّه}: أي: لأمر اللّه؛ أو لوعده الذي وعد أنهم يبعثون. أو يريد الحكم، اللّه يحكم في بعثهم.

{وَبَرَزُوا}: أي: ظهروا به ووجدوا؛ فيكونون به موجودين ظاهرين بعد أن كانوا فائتين ذاهبين غائبين؛ أي: عندهم في الدنيا أنهم كانوا فائتين غائبين عن اللّه؛ فيومئذ يعلمون أنه كان لا يخفى عليه شيء من أفعالهم وأحوالهم؛ وهو ما ذكرنا في قوله: {لِيَعْلَمَ اللّه مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ}، وقوله {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ}، وأمثاله، أي: يعلمهم مجاهدين صابرين كما علمهم غير مجاهدين وغير صابرين؛ وكقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَ} يعلمهم شهودًا كما علمهم غيبًا.

فعلى ذلك قوله: {وَبَرَزُوا للّه جَمِيعًا} أي: يكونون له موجودين ظاهرين واللّه أعلم.

وإضافة البروز إليه في الآخرة وإن كان بروزهم له في الدارين جميعًا، وكذلك المصير، إليه والمرجع إليه والمآب ونحوه؛ فهو - واللّه أعلم - لما لا ينازع أحد في البروز في ذلك اليوم؛ وقد ينازعونه في الدنيا.

أو خُصّ ذلك البروز بالإضافة إليه؛ لما هو المقصود من إنشائه إياهم وخلقهم؛ ليس المقصود في خلقهم وإنشائهم الأول؛ ولكن الآخر؛ فخص ذلك بالإضافة إليه. واللّه أعلم.

وقوله: {وَبَرَزُوا للّه جَمِيعًا} أي: يومئذ يعلمون أنه كان لا يخفى عليه شيء؛ وكأنهم لم يكونوا يعلمون؛ قبل ذلك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّه مِنْ شَيْءٍ}.

قال قائلون: قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا}: أي: دافعون عنا من عذاب اللّه؛ إذ كنا لكم أتباعًا وأنتم متبوعين؛ فادفعوا عنا ذلك. لكن هذا بعيد؛ أن يطلبوا منهم دفع العذاب عنهم وقد رأوهم في العذاب؛ فلو قدروا على دفع ذلك عنهم؛ لدفعوا أولا عن أنفسهم؛ إلا أن يكون فيهم حيرة وعمى؛ كما كان في الدنيا، فللحيرة ما قالوا؛ كقوله: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى. . .}.

والأشبه أنهم يطلبون عنهم رفع بعض العذاب عنهم، وتحمل بعض لأن مؤنة الأتباع في العرف يتحملها المتبوع؛ فيطلبون منهم رفع شيء وتحمل بعض ما حل بهم؛ وهو ما ذكر في آية أخرى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ}، طلبوا منهم تحمل بعض ما حلَّ بهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللّه لَهَدَيْنَاكُمْ}.

قال بعض أهل العلم: إن الكفرة جميعًا - أتباعهم ومتبوعهم - أعلم بهداية اللّه من المعتزلة؛ لأنهم قالوا: {لَوْ هَدَانَا اللّه لَهَدَيْنَاكُمْ} علموا أن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - لو هداهم لاهتدوا؛ ويملك هدايتهم، والمعتزلة يقولون: قد هدى اللّه جميع الكفرة وجميع الخلائق؛ فلم يهتدوا، وأنه لو أراد أدت يهدي أحدا لم يمكلك، والكفرة - حيث قالوا: {لَوْ هَدَانَا اللّه لَهَدَيْنَاكُمْ} رأوا وعلموا أن اللّه لو هداهم لاهتدوا؛ لأنهم لو لم يهتدوا بهدايته إذا هداهم لم يعتذروا إلى أتباعهم {لَهَدَيْنَاكُمْ}، وكذلك، قال إبليس: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي}، أضاف الإغواء إليه؛ وهم يقولون: لا يُغوي اللّه أحدًا، فإبليس أعلم بهذا من المعتزلة.

وقولهم. {لَوْ هَدَانَا اللّه} أي: لو رزقنا اللّه الهدى وأكرمنا به لهديناكم؛ ولكن لم يرزقنا ذلك ولم يكرمنا.

وقال أبو بكر الأصم: تأويل قولهم: {لَوْ هَدَانَا اللّه لَهَدَيْنَاكُمْ}: لو كان الذي كنا عليه

 هدى لهديناكم؛ فهذا صرف ظاهر الآية عن وجهها بلا دليل؛ فلو جاز له هذا جاز لغيره صرف جميع الآيات عن ظاهرها بلا دليل مع أن الأتباع؛ قد علموا أن الذي كانوا عليه لم يكن هدى؛ فلا معنى لهذا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ}.

قال أهل التأويل: إنهم قالوا فيما بينهم: تعالوا حتى نجزع لعل اللّه يرحمنا؛ فجزعوا حينا؛ فلم يرحموا، ثم قالوا: تعالوا نصبر لعل اللّه يرحمنا؛ فلم يرحموا؛ فعند ذلك قالوا: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} لكن لا يحتمل أن يقولوا ذلك بعد الامتحان والاختبار، لكن كأنهم قالوا ذلك بالذي سمعوا؛ وهو قوله: {فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، ولما سمعوا ذلك عند ذلك قالوا: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} أي: مَنْجى ومَخْلَص، لا يحتمل أن يقولوا: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} في أول أحوالهم وأمورهم، ولكن يحتمل ما ذكر أهل التأويل أنهم يقولون ذلك عند الإياس.

٢٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللّه وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٢٢)

قَالَ بَعْضُهُمْ: {قُضِيَ الْأَمْرُ}: أي: أُدخل أهل الجنةِ الجنةَ؛ وأهل النارِ النارَ؛ يقوم إبليس خطيبًا في النار؛ فخطب كما ذكر.

وقال قائلون: {قُضِيَ الْأَمْرُ} أي: مُيِّز وبُيِّنَ أهل الجنة من أهل النار؛ قبل أن يدخل أهل النار النار؛ وأهل الجنة الجنة - قام خطيبا فخطب لأتباعه كما ذكر.

ويحتمل قوله: {لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ} أي: لما فرغ من الحساب ومن أمرهم؛ عند ذلك يخطب؛ ما ذكر؛ وهو كقوله: {فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} أي: لما فرغ من السماع؛ فعلى ذلك هذا.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ} أي: لما نزل بهم العذاب.

ويشبه أن يكون قوله: {لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ} هو أن اللّه كان وعد أن يقوم إبليس خطيبًا لهم؛ فقضى الأمر؛ أي: أنجز ما وعد؛ أنه يخطب أو أن يكون لأهل الكفر لجاجات ومنازعات فيما بينهم يوم القيامة؛ كقوله: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللّه رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}؛ وكقوله: {فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ. . .} الآية،

ْيكذبون في الآخرة، ويكون لهم لجاجة على ما كان منهم في الدنيا، أو يحتجون فيقولون: إن إبليس هو كان غلبنا وقهرنا؛ لأنه كان يرانا ونحن لم نكن نراه؛ فالمغلوب المقهور غير مأخوذ بما كان منه في حكمك، يحتجون بمثل هذه الخرافات واللجاجات، ويقولون: هو الذي أضلنا، فيقوم عند ذلك إبليس خطيبًا بينهم

وقال: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} حتى أقهركم وأغلبكم إلا الدعاء؛ فاستجبتم لي طائعين؛ غير مقهورين ولا مضطرين واللّه أعلم بذلك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ اللّه وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ}.

يشبه أن يكون وعده ما وعد على ألسن الرسل: أن البعث، والجنة، والنار، والحساب، والعذاب - كائن لا محالة. أو جميع ما أوعد من مواعيده - فذلك كله حق أي: كائن لا محالة.

{وَوَعَدْتُكُمْ}.

يحتمل ما ذكر؛ حيث قال: {لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ}، وأمثاله من عِدَاته؛ كانت كلها أماني وغرورًا وكذبًا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} يحتمل السلطان وجهين:

أحدهما: أي ما كان لي عليكم من ملك وقهر وغلبة أقهركم وأغلب عليكم إلا الدعاء؛ فاستجبتم لي طوعًا. ويحتمل قوله: {مِنْ سُلْطَانٍ}: من حجة وبرهان؛ أي: لم يكن لي حجة وبرهان على ما دعوتكم إليه؛ إنما كان لي دعاء ووساوس، وكان مع الرسل حجج وبراهين، فتركتم إجابتهم؛ واستجبتم لي بلا حجة وبرهان؛ أي: لم أقهركم، ولم أغلب عليكم؛ لكن هذا لا يصح؛ لأنه لو كان له عليهم سلطان القهر والغلبة لكانوا معذورين غير معذبين؛ لأن المقهور والمغلوب مضطر؛ فالمضطر معذور؛ ولكن السلطان هو الحجة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ}.

ليس مراده - لعنه اللّه - أنه لا يلام؛ ولكن مراده: أن ارجعوا إلى لائمة أنفسكم واشتغلوا بها؛ فإن ذلك كان منكم لم يكن مني إلا الدعاء.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ}.

قيل: ما أنا بناصركم وما أنتم بناصري، وقيل: ما أنا بمغيثكم وما أنتم بمغيثين

 لي، وقيل: ما أنا بمانعكم وما أنتم بمانعي، ما نزل بي هذا كله واحد.

وقوله: {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ} أي: ما أنا بمالك إغاثتكم وإنقاذكم، وما أنتم بمالكي إغاثتي، وإلا لو كان لهم ملك ذلك لفعلوا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ}.

أي: كفرت بما أشركتموني في عبادة اللّه وطاعته؛ أي: كنت بذلك كافرًا.

ويحتمل: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} أي: كفرت بما أشركتموني في عبادة اللّه وطاعته، أي: كنت بذلك كافرًا، ويحتمل {إِنِّي كَفَرْتُ}، أي: تبرأت اليوم؛ مما أشركتموني مع اللّه في الطاعة والعبادة من قبل.

أحد التأويلين يرجع إلى أنه يتبرأ في ذلك اليوم؛ وقتما قام خطيبًا.

والثاني: إني كنت تبرأت من ذلك في الدنيا، وقتما أشركوه {إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

٢٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (٢٣) أي: أذن لهم بالدخول في الجنة.

قوله: {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}،

وقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ}.

الإذن هاهنا كأنه الرحمة؛ أي: خالدين فيها برحمة ربهم.

{تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ}.

يحتمل السلام الثناء، أي: يثنون على ربهم؛ كقوله: {الْحَمْدُ للّه الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ. . .} الآية.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ}

قَالَ بَعْضُهُمْ: يسلم بعضهم على بعض، ويحْيي بعضهم بعضًا بالسلام.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: السلام هو اسم كل خير ويمن وبركة؛ كما قال: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا. . .} الآية، واللّه أعلم.

٢٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَلَمْ تَرَ}.

قد ذكرنا أن كلمة {أَلَمْ تَرَ} حرف تنبيه عن عجيب كان بلغهُ؛ فغفل عنه، أو تنبيه عن عجيب لم يبلغه.

وقال أبو بكر الأصم: هي كلمة يفتتح بها العرب عند الحاجة؛ يقول الرجل لآخر: ألم تر إلى ما فعل فلان؛ ونحوه. هذا يحتمل في غيره من المواضع وأما في هذا فإنه غير محتمل.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّه مَثَلًا} قيل: بين اللّه مثلا وأظهر.

{كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ}.

قال أبو بكر الكيسانى: {كَلِمَةً طَيِّبَةً}: هو هذا القرآن، {كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ}: هي الكتب التي أحدثها الناس، شبه القرآن بالشجرة الطيبة؛ وهي النخلة؛ على ما ذكر؛ إن ثبت، أو كل شجرة مثمرة. وشبه الكتب التي أحدثها الناس بالشجرة الخبيثة؛ وهي التي لا تثمر.

وقال: إنما شبه القرآن بالشجرة الطيبة؛ لأن الشجرة الطيبة هي باقية إلى آخر الدهر؛ ينتفع بها الناس بجميع أنواع المنافع، لا يقطعونها؛ فهي تدوم وتبقى دهرًا، فعلى ذلك القرآن ينتفع به الناس وهو دائم أبدًا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ}.

أصلها ثابت لها قرار، فعلى ذلك: القرآن هو ثابت بالحجج والبراهين؛ والكتب التي أحدثها أُولَئِكَ هي باطلة فاسدة؛ لا حجة معها ولا برهان؛ كالشجرة الخبيثة التي هي غير مثمرة؛ لا بقاء لها ولا قرار ولا ثبات.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الكلمة الطيبة: هي الإيمان والتوحيد؛ شبهها بالشجرة الطيبة؛ وهي التي تثمر وتنمو وتزكو هي على ما وصفها - عَزَّ وَجَلَّ - في قوله: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا}، فعلى ذلك الإيمان والتوحيد لا يزال يثمر لأهله الخيرات والأعمال

الصالحات؛ كالشجرة التي وصفها أنها تؤتي أهلها أكلها في كل حين وكل وقت، أصلها ثابت بالحجج والبراهين، وفرعها في السماء، في كل وقت يرتفع ويصعد به العمل إلى السماء.

والكلمة الخبيثة: هي الكفر؛ لأنه لا منفعة لأهلها فيها، إذ لا عاقبة له ولا حجة معها ولا برهان، إنما شيء أخذوه عن شهوة وأمانِيَّ، فكان كالشجرة الخبيثة التي لا ثمرة لها، ولا منفعة لأحد فيها، فهي لا تبقى ولا تدوم. فذلك قوله: {اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ}.

ويشبه أن يكون ضرب المثل لغير هذا المعنى؛ وهو أنه ذكر جواهر طيبة وجواهر خبيثة؛ مما يقع عليها الحواس ويقع عليها البصر؛ ليكون كل جوهر من هذه الجواهر التي يقع عليها الحواس؛ ويقع عليها البصر - من خبيث أو طيب - دليلا وشاهدًا على ما غاب عن الخلق؛ ولا يقع عليها الحواس. وهكذا جعل اللّه تعالى هذه المحسوسات والأشياء الظاهرة - دليلا وشاهدًا لما غاب عنهم؛ ولا يقع عليه الحس، تدرك بالعقول التي تركب فيهم؛ ليرغب الطيب؛ مما يقع عليه الحس والبصر؛ على الموعود الغائب، ويحذر الخبيث المحسوس عما غاب وأوعد، وكذلك هذه الآلام والأمراض والشدائد التي جعل في هذه الدنيا؛ لتزجرهم عن الأفعال التي بها يستوجبون مثلها في الآخرة، وكذلك النعم التي في الدنيا واللذات، جعلها لتدلهم على النعم الدائمة.

على هذا يجوز أن يخرج لا أنه أراد بالشجرة الطيبة الشجرة نفسها أو بالشجرة الخبيثة الشجرة نفسها ولكن ما وصفنا. واللّه أعلم بذلك.

وقال قائلون: ضرب اللّه مثل الشجرة الطيبة مثلا للمؤمن؛ هو في الأرض وعمله يصعد إلى السماء كل يوم؛ فكما تؤتي الشجرة أكلها كل حين كذلك المؤمن يعمل للّه في ساعات الليل والنهار.

٢٥

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُلَّ حِينٍ ... (٢٥)

قال قائلون: كل عام؛ لأنها تثمر في كل عام مرة.

وقال قائلون: ستة أشهر من وقت طلوعها إلى وقت إدراكها.

وقال قائلون: كل عشية وغدوة؛ كقوله: {فَسُبْحَانَ اللّه حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ}.

وقال قائلون: شهرين؛ وأمثاله.

ويشبه أن يكون ما ذكرنا: أنه ليس في وقت دون وقت، ولكن الأوقات كلها في كل وقت وكل ساعة.

فإن قال لنا ملحد: إن الكلمة التي ضرب اللّه مثلها بالشجرة الطيبة - هي كلمتنا، ونحن المراد بذلك. والكلمة الخبيثة التي ضرب اللّه مثلها بالشجرة الخبيثة - هي كلمتكم؛ وأنتم المراد بها لا نحن.

قيل: قد سبق لهذا المثل أمثال ودلائل على أن الكلمة الطيبة هي التي لها عاقبة وآخرة، وكل أمر له عاقبة والنظر في آخره - فهو الحق، والذي أنتم عليه لا عاقبة له ولا آخرة، وفي الحكمة: إن كل أمر لا عاقبة له - فهو باطل؛ والكفر لا عاقبة له.

والثاني: أن الإيمان والتوحيد له الحجج والدلائل، والكفر مما لا حجة له ولا دلائل؛ إنما هو مأخوذ بالأماني والشهوة: من تسويل الشيطان وتزيينه؛ لذلك كان ما ذكرنا.

وتحتمل الكلمة الطيبة -أيضًا-: أن تكون الوحي الذي أوحى اللّه إلى رسوله، والكلمة الخبيثة: ما أوحى الشيطان إليهم؛ كقوله: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ. . .} الآية.

 فوحي اللّه: هو ثابت دائم ينتفع به أهله في الدنيا والعاقبة، ووحي الشيطان: هو باطل مضمحل لا عاقبة له؛ ولا ينتفع به أهله. واللّه أعلم بذلك.

٢٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ... (٢٦)

قَالَ بَعْضُهُمْ: استؤصلت، وقيل: انتزعت. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: اقتلعت من أصلها؛ يقال: جثثت الشجرة أجثها جثًّا: إذا قلعتها من أصلها.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ}.

هو ما ذكرنا. وقال بعض أهل التأويل: شبه كلمة الشرك بحنظلةٍ قطعت؛ فلا أصل لها في الأرض ولا فرع في السماء؛ أي: لا يصعد له عمل، وشبه كلمة الإيمان؛ في نفعها وفضلها وثباتها وقرارها في الأرض؛ بما ذكر من الشجرة. واللّه أعلم.

ثم من الناس من احتج بهذا المثل في خلق الإيمان والكفر؛ فقال: لأنه ضرب مثله بما هو خلق؛ وهو الشجرة؛ فعلى ذلك الإيمان.

ولكن عندنا لا بهذا يجب أن يستدل على خلقه، ولكن لما ثبت أن منشئهما واحد لأنه لو كان منشئهما مختلفًا لكان لا يضرب مثل هذا بهذا ولا هذا بهذا؛ فإذا ضرب دل أن منشئهما واحد؛ فإذا ثبت ذلك دل على ما وصفنا.

ومن الناس من استدل بهذا أنه يزداد وينقص؛ حيث شبهه بالشجرة؛ وهي تزداد وتنقص، ونحن نقول: ليس فيه دلالة ما ذكروا؛ لأن الشجرة في نفسها ليست بذي حدّ، والإيمان ذو حدّ؛ فما يزداد إنما هو في حق التزيين والتحسين. وأمَّا الإيمان نفسه: فإنه لا يزداد؛ كالشجرة إذا تورقت وخرجت ثمارها توصف بالزينة والحسن، فأما نفس الشجرة: فلا توصف بالزيادة؛ فعلى ذلك الإيمان.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَضْرِبُ اللّه الْأَمْثَالَ}.

يحتمل: يبين اللّه الأمثال التي يقع عليها الحس، ويقع عليها البصر، والأشياء الظاهرة؛ لتدلهم على ما استتر وغاب عنهم، يدركون بالعقول ما استتر وخفي بالظاهر والمحسوس.

 {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} لعلهم يتعظون.

وقوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّه مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً} الكلمة الطيبة: تحتمل التوحيد وفروعها: هي الخوف، والخشوع، والخضوع، والرغبة والرهبة. وأكلها: هو الأعمال الصالحة والخيرات تكون منه.

والكلمة الخبيثة: هي الشرك. وفروعها: ما يكون منه في الشرك؛ من القساوة، والتمرد، والعناد. وأكلها: هو الأعمال التي تكون منه في الشرك.

أو أن يكون الكلمة الطيبة: هي الأعمال. وفروعها: هي الشرائع والأحكام التي تعمل. وأكلها: هو ما يثاب عليه في الدنيا والآخرة أبدًا. واللّه أعلم.

٢٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُثَبِّتُ اللّه الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّه الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّه مَا يَشَاءُ (٢٧)

ذكر مرة بالتثبيت ومرة بذكر الزيادة؛ بقوله: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ}، ومرة بذكر الابتداء والتجديد؛ بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّه}.

وقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}، فالتجديد والابتداء في حادث الوقت؛ لأن تلك الأفعال تنقضي وتذهب ولا تبقى، وأما الزيادة على ما كان يضم شيئًا إلى ما كان، والثبات على ما كان فكله واحد في الحقيقة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيُضِلُّ اللّه الظَّالِمِينَ}.

أضاف الإضلال مرة إلى نفسه؛ ومرة إلى الشيطان، ولا شك أن ما أضيف إلى الشيطان إنما أضيف على الذم، فإذا كان ما ذكر؛ فتكون الجهة التي أضيف إلى اللّه - غير الجهة التي أضيف إلى الشيطان، الجهة التي أضيف إلى اللّه: هو أن خلق فعل الضلال من الكافر، وما أضيف إلى الشيطان: هو على التزيين والتسويل؛ لتصح الإضافتان. ولو كان على التسمية - على ما يقوله المعتزلة: إذ سماه ضالا - لكان كل من سمى آخر ضالا كافرًا جاز أن يسمى مضلا، فإذا لم يسم - بتسميته ضالا أو كافرًا - مضلا دل أنه إنما سمى اللّه نفسه مضلا؛ لتحقيق الفعل له فيه؛ وهو ما ذكرنا: أن خلق فعل الضلال منه.

والمعتزلة يقولون: إن اللّه هدى الخلق جميعًا؛ لكنهم لم يهتدوا وضلوا من غير أن يكون اللّه أضلهم. فهذا صرف ظاهر الآية إلى غيره بلا دليل.

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَفْعَلُ اللّه مَا يَشَاءُ}.

وعلى قول المعتزلة: لا يقدر أن يفعل ما يشاء؛ لأنهم يقولون: شاء إيمان جميع البشر؛ ولكنهم لم يؤمنوا؛ وكذلك قال: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}، وهم يقولون: أراد إيمانهم؛ لكنه لم يفعل ما أراد؛ ولا يملك، وقد أخبر أنه: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} و {مَا يَشَآءُ} وهم يقولون: لم يملك أن يفعل ما شاء وأراد، بل العباد يقولون ما شاءوا غير ما شاء هو، فتأويلهم خلاف لظاهر القرآن. واللّه أعلم.

وقوله: {يُثَبِّتُ اللّه الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} يشبه أن يكون هذا صلة قوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّه مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً} على تأويل من يقول: إن الكلمة الطيبة هي القرآن، يكون القول الثابت هو القرآن.

يقول - واللّه أعلم - يثبت اللّه الذين آمنوا في الحياة الدنيا؛ حيث تلقوه بالإجابة والقبول والعمل به، وفي الآخرة؛ أي: بالآخرة والبعث؛ يقرون به، {وَيُضِلُّ اللّه الظَّالِمِينَ}؛ حيث تركوا الإجابة له، وتلقوه بالرد، والمكابرة، والعناد.

ومن يقول: الكلمة الطيبة: التوحيد والإيمان - يكون القول الثابت: هو الإيمان؛ يثبتهم في الحياة الدنيا باختيارهم؛ وفي الآخرة، قيل: في قبورهم؛ يثبتهم لإجابة منكر ونكير، ويمكن لهم ذلك، ويضل اللّه الظالمين الذين تركوا الإجابة له في الحياة الدنيا وفي القبور؛ حيث تركوا الإجابة في الدنيا.

ويحتمل أن يكون قوله: {يُثَبِّتُ اللّه الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}؛ هو ما ذكر، {وَاللّه يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، ثبت من أجاب اللّه إلى ما دعا في الدنيا، وفي الآخرة يهديه الطريق الذي به يوصل إلى دار السلام، والكافر حيث ترك إجابته إلى ما دعاه، ويضله في الآخرة طريق دار السلام؛ بترك إجابته في الدنيا. واللّه أعلم بذلك.

وقوله: {وَيَفْعَلُ اللّه مَا يَشَاءُ} في هداية من اختار الإجابة والاهتداء، وإضلال من اختار ترك الإجابة والغواية.

٢٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللّه كُفْرًا}.

اختلف في نزوله:

قَالَ بَعْضُهُمْ: هذه السورة، كلها نزلت بمكة إلا هذه الآية فإنها نزلت بالمدينة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: نزلت بمكة كلها.

فمن يمّول: نزلت بالمدينة - يقول: قوله: (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (٢٨) جَهَنَّمَ) هو بَدْر؛ أي: حملوهم إلى بدر حتى قتلوا؛ لأنه لم يكن بمكة بدر؛ إنما كان بالمدينة.

ومن يقول: نزلت بمكة - يقول: {دَارَ الْبَوَارِ}: هي جهنم؛ على ما فسَّره ظاهر الكتاب، وهو الأشبه بظاهر الآية؛ لأنه بيِّن تلك الدار؛ فقال: {جَهَنَّمَ}.

وفي الآية دلالة أن الآية كانت في عظمائهم وكبرائهم؛ حيث قال: {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ. . .} الآية.

ثم اختُلف في النعمة؛ التي ذكر أنهم بدلوها كفرًا؛ فهي تحتمل وجوهًا:

أحدها: أن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - قد أنعم عليهم في هذه الدنيا؛ ووسعها عليهم؛ فحرموا تلك النعم على أنفسهم؛ فجعلوها للأصنام التي عبدوها وسيبوها؛ ولم ينتفعوا بها، من نحو البَحِيرة التي ذكر، والسائبة، والوَصِيلة، والحامي، وما جعلوا للأصنام هو ما ذكر {وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا}، فذلك تبديل النعمة كفرًا؛ حيث حرموا ما أنعم اللّه عليهم وأحل لهم.

والثاني: تلك النعمة مُحَمَّد أو القرآن أو الإسلام وهو نعمة، كذبوهم أوكفروهم.

أو أن يكونوا بدلوا الشكر الذي عليهم - بما أنعم عليهم كفرًا، جعلوها سببًا للكفر؛ فلم يشكروه بما أنعم عليهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللّه كُفْرًا} حقيقته يخرج على وجهين:

أحدهما: بدلوا وصرفوا ما أنعم اللّه عليهم؛ وهو مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن أنفسهم؛ حتى أخذ منهم؛ بدلوا به كفرًا.

والثاني: بدلوا به كفرًا بعدما سألوا ربهم {وَأَقْسَمُوا بِاللّه. . .} الآية؛ فلم يشكروا ما أنعم عليهم، وبدلوا الشكر كفرًا.

٢٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ}.

 أي: أنزلوا، دل هذا أن الآية نزلت في الرؤساء من الكفرة، والأئمة منهم؛ حيث أخبر أنهم أحلوا قومهم دار البوار. ذكر {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ} على الماضي؛ لأنه قد وجد منهم الجناية بالإحلال في دار البوار، وذكر في دخولهم جهنم على الاستئناف؛ بقوله: (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (٢٩) لما لم يوجد بعد سيوجد، ويجوز أن يستدل بهذا لأصحابنا لمسألة: وهي أن العبد إذا حفر بئرًا ثم أعتق؛ فوقع في البئر إنسان: ينظر إلى قيمة العبد يوم حفر؛ لأن الحفر منه جناية، وإلى الواقع فيه يوم الوقوع لا يوم الحفر؛ لأنه لم يوجد بعد يوم الحفر جناية.

أو أن يقال: أحلوا أرواحهم دار البوار؛ فتدخل أجسادهم يومئذ، لم تدخل بعد.

٣٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلُوا للّه أَنْدَادًا ... (٣٠) ثم فسر أنهم لم أحلوا قومهم دار البوار؟

فقال: {وَجَعَلُوا للّه أَنْدَادًا}: أعدالا وأمثالا، {لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ}.

يحتمل قوله: {وَجَعَلُوا للّه أَنْدَادًا} في العبادة؛ يعبدون كما يعبد اللّه، أو في التسمية؛ يسمونها آلهة؛ كما يسمى اللّه، جعلوا له أندادًا في هذين الوجهين، يذكر سفههم؛ حيث جعلوا ما لا يسمع، ولا يبصر، ولا ينفع، ولا يدفع، ولا يضر أمثالا وأعدالا، للّه؛ على علم منهم أن اللّه هو الذي خلقهم، ورزقهم، وينعم عليهم، وهو الذي يدفع عنهم كل بلاء وشدة.

وجائز أن يكون قوله: {وَجَعَلُوا للّه أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ} هو تفسير ما ذكر؛ من تبديل النعمة كفرًا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {تَمَتَّعُوا} بهذه النعم التي ذكر أنهم بذلوها كفرًا.

{فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} هذا في قوم ماتوا على الكفر، أو يقول: قل تمتعوا في الدنيا أو تمتعوا بالكفر فإن مصيركم إلى النار، هذا في قوم علم اللّه أنهم لا يؤمنون أبدًا وفيه دلالة إثبات الرسالة.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: البوار: الهلاك والفناء، يقال: بار الرجل يبور بورًا؛ فهو بائر،

وقوم بور أي: هالكون. ويقال: بارت السوق، وبارت السلعة: إذا كسدت ويقال: بارت المرأة تبور بوارًا؛ فهي بائرة: إذا كبرت. وفي حديث النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " نعوذ باللّه من بوار الأيِّم "؛ قيل: يعني من كسادها. واللّه أعلم.

٣١

 قوله تعالى: (قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (٣١)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ}.

يحتمل إقامة الصلاة، إقامة الإيمان بها؛ كقوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}، هو إقامة الإيمان به، إذ لا يحتمل الحبس إلى أن يقيموا إقامة الفعل والوفاء؛ إذ في ذلك حبسهم أبدًا.

ويحتمل إقامة الوفاء بها والفعل؛ لأنه إنما خاطب المؤمنين على إقامتها، وقد سبق منهم ما ذكرنا من الإيمان بها. كيف يحتمل الأمر بإقامتها إقامة الإيمان به، وقد سبق منهم ما ذكرنا من الإيمان بها، قيل: هذا جائز يأمرهم بإقامة الإيمان بها في حادث الوقت؛ إذ للإيمان حكم التجدد في كل وقت؛ وهو كقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّه}، أي: آمنوا في حادث الوقت؛ فعلى ذلك هذا يحتمل الأمر بإقامتها - إقامة الإيمان بها.

ويحتمل ما ذكر من إقامة الصلاة في الآية؛ والإنفاق - هي الصلاة المعروفة المعهودة، والزكاة المعروفة المفروضة؛ والإدامة لهما واللزوم بهما، ويحتمل القبول والوفاء بهما.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً}.

قال الحسن: الأمر بالإنفاق مما رزقناهم الزكوات المفروضات؛ ألا ترى أنه ذكر الوعيد في آخره

وقال: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ} ولا يحتمل الوعيد في صدقات التطوع؛ وهو ما ذكر أيضًا في آية أخرى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ}، ولا يحتمل طلب الرجوع والتأخير إلى أجل في النوافل؛ دل أنه أراد به الزكوات المفروضات.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا}: هي التطوع، والعلانية: الفريضة؛ لأن الفريضة لا بد من أن تظهر وتعلن، وليس في أدائها رياء واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ}.

 {لَا بَيْعٌ فِيهِ}: أي: يوم لا يقدر أحد أن يبيع نفسه من ربه؛ وفي الدنيا يقدر أن يبيع نفسه من ربه؛ كقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّه}،

وقوله: {إنَّ اللّه اشتَرَى}،

وقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ} لا يقدر أحد بيع نفسه من ربه، ويحتمل نفسه. قوله: {لَا بَيْعٌ فِيهِ}: أي: لا ينفعه بيع نفسه منه في ذلك اليوم؛ وإن باع؛ كقوله: {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ}

وقوله: {فَلَمَّا رَأَوا بَأسَنَا. . .} الآية، فعلى ذلك الأول.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا خِلَالٌ}: هو مصدر خاللت؛ وهو من الخلة والصداقة.

ثم هو يحتمل وجهين:

أحدهما: ألا تنفعهم الخلة التي كانت بينهم في الدنيا؛ لأن كل خلة كانت في الدنيا مما ليست للّه فهي تصير عداوة في الآخرة؛ كقوله: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ. . .} الآية. أخبر أن الأخلاء؛ الذين كانوا يخالون في الدنيا؛ للدنيا - فهم الأعداء إلا الخلة التي كانت للّه؛ فهي تنفع أهلها؛ وهو ما ذكر - عَزَّ وَجَلَّ -: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} وأمثاله، يخبر أن الخلة التي كانت بينهم في الدنيا؛ لا للّه؛ فهي تصير عداوة في الآخرة؛ حتى يتبرأ بعضهم من بعض، ويلعن بعضهم بعضا.

والثاني: أن يكون لهم شفعاء وأخلاء؛ ولكن لا يشفعون؛ كقوله: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى}، أو يشفع لهم لكن لا تقبل؛ كقوله: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}.

٣٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {اللّه الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} إلى آخر ما ذكر. فيه دلالة أن تدبير اللّه محيط متسق بجميع ما في السماوات والأرض، وعلمه محيط بجميع الخلائق؛ حيث ذكر أنه:، {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} يعني البشر، جعل منافع السماء متصلة بمنافع الأرض؛ مع بعد ما بينهما؛ دل أنه عن تدبير، فعل هذا وعلم، وأنه تدبير واحد؛ عليم؛ قدير.

ثم ما ذكر: من تسخير السماوات والأرض؛ مع شدة السماء وصلابتها، وغلظ الأرض وكثافتها، وتسخير البحر؛ مع أهواله وأمواجه، وتسخير الأنهار الجارية، وتسخير الشمس، والقمر، والليل، والنهار لهذا البشر.

في ذلك كله وجهان:

أحدهما: يذكرهم نعمه التي أنعمها عليهم؛ من المنافع التي جعل لهم؛ في تسخير هذه الأشياء التي ذكر لهم؛ على جهل هذه الأشياء أنهن مسخرات لغيرهن؛ يستأدي بذلك شكرها.

والثاني: يذكر سلطانه وقدرته؛ حيث سخر هذه الأشياء؛ مع شدتها، وصلابتها، وغلظها، وأهوالها. ومن قدر على تسخير ما ذكر - قادر على البعث والإحياء بعد الموت.

ويحتمل ما ذكر؛ من تسخير الأشياء التي ذكر: أنه أنشأ هذه الأشياء مسخرة مذللة لنا، والثاني: سخر لنا؛ أي: علَّمنا من الأسباب والحيل التي يتهيّأ لنا الانتفاع بها والتسخير.

٣٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ... (٣٤)

فيه لغتان وتأويلان

قَالَ بَعْضُهُمْ: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلٍّ}؛ على التنوين؛ {مَا سَأَلْتُمُوهُ} على الجحد؛ أي: آتاكم من غير أن سألتم الأشياء التي ذكر أنه سخرها لنا؛ أي: آتاكم من غير سؤال ولا طلبة.

والثاني: وآتاكم من كل ما سألتموه وما لم تسألوه؛ لأنه أعطانا أشياء قبل أن نعلم أنه يجب أن نساله؛ حيث خلق هذه الأشياء التي ذكر من قبل أن يخلقنا.

وقال الحسن: {مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ}؛ قال: ما لم تسألوه؛ وهو ما ذكرناه؛ فإن قيل: إنا نسال أشياء لم نعطها، فما معنى الآية؟ قيل بوجوه:

أحدها: ذكر حرف التبعيض؛ وهو ما قال: {مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ}. والثاني: وآتاكم علم منافع ما سألتموه قبل أن تسألوا؛ وجهه علم الانتفاع به.

والثالث: وآتاكم من كل ما يحق السؤال ويليق به.

على هذه الوجوه تخرج الآية. واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللّه لَا تُحْصُوهَا}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: لا تحصوها؛ أي: لا تشكروها؛ أي: لا تقدروا شكرها. وقال بعضهم: أي: لا تقدروا إحصاءها وعدها، وهكذا إن أقل الناس نعمة لو تكلف إحصاء ما أعطاه ما قدر عليه؛ من حسن الجوهر والصورة، واستقامة التركيب والبنية، وسلامة الجوارح، وغير ذلك مما لا سبيل له إلى ذكرها وإحصائها؛ إلا بعد طول التفكر والنظر.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللّه}: لا تحيطوا بكنهها ونهايتها.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}.

الظلوم: أي: ظلم نفسه؛ حيث صرفها إلى غير الجهة التي جعلت وأمر، وأدخلها في المهالك، وألقاها في التهلكة.

كفار لنعمه؛ حيث صرف شكرها إلى غير الذي جعلها له. واللّه أعلم.

واستدل بعض المعتزلة بقوله: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ} أن صاحب الكبيرة يخلد في النار؛ لأنه أوعد بترك الصلاة والزكاة التخليد أبدًا، وترك الصلاة والزكاة من غير عذر - من الكبائر، دل أنه ما ذكرناه.

فنقول نحن - وباللّه التوفيق -: إن الآية تحتمل الأمر بإقامة الصلاة؛ وما ذكر من الزكاة والصدقة إقامة الإيمان بها؛ على ما ذكرنا من تأويل بعض المتأولين، فإن كان على هذا على إقامة الإيمان بها - فمن ترك ذلك فهو - يخلد أبدًا لا شك فيه، أو يكون من استحل تركها؛ فهو بالاستحلال يكفر؛ فهو يخلد، أو يترك لعذر؛ فهو لا يخلد على اتفاق القول. فإذا كان ما ذكرنا محتملا دل أن الآية مخصوصة.

ثم معرفة تخليد صاحب الكبيرة إنما هي بالدلائل سوى هذا، إذ ليس في ظاهر الآية دلالة التخليد؛ لما ذكرنا من احتمال الخصوص، دل أنه إنما يطلب الدليل من وجه آخر.

 قَالَ الْقُتَبِيُّ: {وَلَا خِلَالٌ} ومصدر خاللت فلانًا خلالا ومخالة، والاسم الخلة والمخلة؛ وهي الصداقة.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: {وَلَا خِلَالٌ}: قال: من المخالة؛ يعني المودة. {دَائِبَيْنِ}: قال: يجريان أبدًا، وهو من الدوب؛ أي: التعب.

٣٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا}.

أي: مأمنًا، سمي آمنا، لما يأمن الخلق فيه؛ كما سمي النهار مبصرًا، والنهار لا يبصر ولكن يبصر فيه، ومثله كثير.

ثم يحتمل قوله: {اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} قال بعض أهل التأويل: إنما طلب إبراهيم أن يجعله آمنًا على أهله وولده خاصة، لا على الناس كافة؛ إذ قد سفك فيه الدماء، وهتك فيه الحرم؛ دل أنه جعله آمنا على أهله وولده خاصة، ولكن لو كان ما ذكروا محتملا - ما يصنع بقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا. . .} الآية،

وقوله: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا}، وغيره من الآيات.

أخبر أنه جعل تلك البقعة مأمنًا للخلق يأمنون فيها.

ثم يحتمل وجهين:

أحدهما: جعله آمنًا بحق الابتلاء والامتحان، ألزم الخلق حفظ تلك البقعة عن سفك الدماء فيها، وهتك الحرم، وغير ذلك من المعاصي، وإن كانوا ضيعوا ذلك، وعملوا فيها ما لا يصلح؛ كالمساجد التي بنيت للعبادة وإقامة الخيرات - ألزم أهلها وعلى جميع الخلائق حفظها عن إدخال ما لا يصلح ولا يحل، ثم إن الناس قد ضيعوا ذلك، وعملوا فيها ما لا يليق بها ولا يصلح، فعلى ذلك الحرم الذي أخبر أنه جعله مأمنًا.

والثاني: جعله مأمنًا بالخلقة من ذا الوجه، يجوز أن يقال: كيف سفك فيه الدماء وهتك فيه الحرم؛ وهو بالخلقة جعله مأمنًا؟

قيل: يجوز هذا بحق العقوبة؛ وإن كان بالخلقة آمنًا؛ ألا ترى أنه قال: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ. . .} الآية، الطيبات بالخلقة حلال؛ لكنه حرم عليهم ذلك بالظلم الذي كان منهم؛ بحق العقوبة والانتقام، فعلى ذلك الحرم؛ جعله مأمنا بالخلقة، ثم قتل فيه عقوبة؛ لما كان منهم من المعاصي. واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} الآية.

فَإِنْ قِيلَ: كيف دعا وطلب منه العصمة؛ وقد عصمه بالنبوة والرسالة؛ واختارهما له من ذلك كله؟

قال بعض أهل التأويل: إنما سأل عصمة ولده وذريته؛ لما علم أن ذريته قد يختلفون في دين اللّه وتوحيده، وما ذكر نَفْسَهُ؛ لما المعروف أن من دعا لآخر بدأ بنفسه.

قالت المعتزلة: دعاء إبراهيم وطلبه العصمة؛ مما ذكر؛ يدل أنه قد يجوز أن يدعى بدعوات عبادة؛ وإن كان قد أعطاه ذلك، أو يعلم أنه مغفور.

قيل: دعاء إبراهيم وغيره من الأنبياء عليهم السلام؛ يجوز أن يكون عصمتهم كانت مقرونة بما طلبوه منه، وسألوه وتضرعوا إليه؛ إذ معلوم أنهم لم يستفيدوا تلك العصمة؛ بإهمالهم أنفسهم، وتركهم إياها سُدى؛ بل إنما أوجب لهم ذلك بما أجهدوا أنفسهم في طاعة اللّه.

ثم الآية على المعتزلة من وجهين:

أحدهما: أن إبراهيم طلب منه العصمة عن عبادة الأصنام، وهو علم أنه يعتصم إذا عصمه عن ذلك، واهتدى إذا هداه، وهم يقولون: اللّه يعصم ولا يعتصم العبد، ويهدي ولا يهتدي العبد. ويقولون: إذا أعطى أحدًا ذلك، خرج ذلك من يده، ولا يملك إعطاء ذلك، فعلى قولهم تخرج دعوات الرسل على الاستهزاء أو على الكتمان؛ لأن من سأل من آخر شيئًا يعلم أنه ليس ذلك عنده؛ فهو هزء، أو سأل وهو يعلم أنه قد أعطاه ذلك؛ فهو كتمان، وكان خوف الأنبياء والرسل والكبراء من الخلق أشد وأكثر على دينهم، والزيغ عما هم عليه؛ لما خافوا أن يكونوا عند اللّه على غير ما هو عند أنفسهم، كانوا أبدا

 وجلين خائفين على سلب ما هم عليه، وهكذا الواجب أن يكون الخوف على من نعمه عليه أكثر؛ فخوفه أشد.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: {وَاجْنُبْنِي} أي: باعدني، وجنبني أيضًا. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: أي: جنبني وإياهم.

٣٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦)

نسب الإضلال إلى الأصنام - وإن لم يكن لها صنع في الإضلال لأنهم بها ضلوا، وكانت الأصنام سبب إضلالهم، وقد تنسب الأشياء إلى الأسباب، وإن لم يكن للأسباب صنع فيها نحو ما ذكرنا من قوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ. . .}، والسورة لا تزيدهم رجسًا، لكن نسب الرجس إليها لما كانت هي سبب زيادة رجسهم، وهو أنها لما نزلت يزداد لهم بها تكذيبًا وكفرا بها، فنسب ذلك إليها، فعلى ذلك الأول.

والثاني: ينسب إلى الأحوال التي كانت بها؟ ما لو كانت تلك بذوات الأرواح، لكانت تضل وتغوي كذي الروح، ممن يكون منه الإضلال، لأنها تزين وتحلى بالأشياء؛ نحو ما نسب الغرور إلى الدنيا؛ وإن كانت الدنيا لا تغر؛ لأنها تكون بحال لو كانت تلك الأحوال من ذي الروح لكان ذلك تغريرًا، فعلى ذلك نسبة الإضلال إلى الأصنام. واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي}.

يشبه أن يكون {مِنِّي}: أي: موافقي في الدِّين، أو في الولاية، وحاصله - واللّه أعلم -: معي في الدِّين وفي أمر الدِّين، وكذلك معنى ما روي:، " من غشَّ فليس منا " أي: ليس بموافق لنا، أو ليس معنا، أو ليس من ملتنا، وكذلك قوله: {فَإِنَّهُ مِنِّي} أي: من ملتي.

وحاصله: فمن تبعني وأجابني فيما دعوته إليه وأمرته به فإنه مني؛ أي: مما أنا عليه، وكذلك قوله: " من غشَّ فليس منا " أي: ليس مما نحن عليه.

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

يشبه قوله: {وَمَنْ عَصَانِي} ليس عصيان شرك، ولكن عصيان ما دون الشرك؛ فإنه غفور رحيم. أو من عصاني فإنك غفور؛ أي: ساتر عليه الكفر إلى وقت معلوم؛ إذ الغفران: هو الستر؛ فستر عليه إلى أجل؛ كقوله: {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ} أو يقول: {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: أي: تمكن له من التوبة والإسلام؛ فيسلم ويتوب؛ فتغفر له ما كان منه من العصيان؛ وترحم عليه.

وقوله: {وَمَنْ عَصَانِي} فيما دعوته إليه وأمرته به {فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} تمكن له من التوبة، والرجوع عما كان؛ فتغفر له وترحمه.

٣٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧)

لا يحتمل أن يكون قال هذا أول ما قدم تلك البقعة؛ لأنه قال: {عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} ولا بيت هنالك، دل أنه إنما دعا بهذه الدعوات: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي} وما ذكر {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا. . .}، إلى آخر ما ذكر؛ بعد ما رفع البيت. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي} دل أنه إنما أسكن بعض ذريته؛ لم يسكن ذريته كلها؛ حيث قال: {مِنْ ذُرِّيَّتِي}.

قد امتحنه اللّه بمحن ثلاثة؛ لم يمتحن بمثلها أحدًا من الأنبياء:

أحدها: امتحنه بإسكان ولده بواد غير ذي زرع؛ وغير ذي ماء، مما لا يحتمل قلب بشر تركه في مثل ذلك المكان مثله، دل أنه إنما فعل بأمر من اللّه تعالى.

والثاني: امتحنه بذبح ولده حتى إذا أشرف على الهلاك - فداه اللّه تعالى بكبش.

والثالث: امتحنه بإلقائه في النار؛ فألقى حتى إذا أشرف على الهلاك - جعلها اللّه

تعالى عليه بردًا وسلامًا.

ففي ذلك كله دلالة رسالته.

وكانت له هجرتان: إحداهما إلى مكة؛ حيث أسكن فيها ولده، والهجرة الثانية إلى بيت المقدس؛ وهو ما ذكر: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا. . .} الآية.

ثم قوله: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} هو دعاء بتعريض لا بتصريح، والدعاء بالتعريض؛ والسؤال بالكناية أبلغ وأكثر من السؤال بالتصريح، وهو كدعاء آدم وحواء: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا. . .} الآية، فهذا أبلغ في السؤال من قوله: اغفر لنا وارحمنا؛ لأن مثل هذا قد سئل من دونه؛ ولا يكون فيه ما ذكر فيه من الخسران.

وقوله: {مِنْ ذُرِّيَّتِي} يحتمل أن يكون كلمة (من) صلة؛ أي: أسكنت ذريتي، ويحتمل على التبعيض؛ أي: أسكنت بعض ذريتي، على ما ذكر في بعض التأويلات: إسماعيل وإسحاق.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ}.

يحتمل قوله: {الْمُحَرَّمِ} وجهين:

أحدهما: حرمه أن يستحل فيه ما لا يحل ولا يصلح؛ لكنه خص تلك البقعة بالذكر؛ وإن كان ذلك لا يحل في غيرها من البقاع؛ لفضل الحرمة التي جعلها اللّه لها، كما خص المساجد بأشياء؛ لفضلها على غيرها من الأمكنة والبقاع.

والثاني: قوله: {عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ}: أي: الممنوع؛ يقال: حرم: أي: منع؛ كقوله: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ}، ليس ذلك على التحريم ألا يحل له المراضع؛ ولكن على المنع؛ أي: منعنا عنه؛ لنرده إلى أمه، فعلى ذلك قوله: {عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} أي: الممنوع عن الخلق للّه؛ حتى لم يقدر واحد من الفراعنة والملوك الغلبة عليها وإدخالها في منافع أنفسهم، بل هي ممنوعة عنهم؛ على ما كان، وفيه آية الوحدانية له والألوهية. واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ}.

قال بعض أهل التأويل: فيه تقديم يقول: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} ليقيموا الصلاة لك عند بيتك.

ويحتمل أيضًا غير هذا؛ وهو أن يقال: {أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} أي: ليس فيه ما يشغلهم عن الصلاة؛ لأن الزرع وغيره من النعيم يمنع الناس عن إقامة الصلاة، والعبادة لهم، أي: أسكنت من ذريتي بواد ليس فيه زرع يشغلهم عن إقامة الصلاة، ثم يحتمل الصلاة: الصلاة المعروفة، ويحتمل الصلاة: الدعاء والأذكار؛ وغيرها من الدعوات، ويحتمل قوله: {رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ}: الصلاة، نفسها؛ وغيرها من الطاعات، وكذلك قوله: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ}.

يحتمل سؤاله ربه - أن يجعل أفئدة الناس تهوي إليهم - وجهين:

أحدهما: لما أسكن ذريته في مكان لا ماء فيه ولا نبات ولا زرع؛ ففي مثل هذا المكان يستوحش المقام فيه؛ فسأل ربه أن يجعل أفئدة الناس تهوي إليهم؛ ليأتوا ذلك المكان؛ فتذهب عنهم تلك الوحشة؛ فيستأنس بهم، أو سأله أن يجعل أفئدة الناس تهوي إليهم؛ ليتعيشوا بما ينقل إليهم من الزاد والأطعمة إذ أسكنهم في مكان لا زرع فيه، ولا ماء يعيشون فيه به، وقد جعل اللّه بنية هذا البشر؛ أن لا قوام لهم إلا بالأغذية والأطعمة، فسأل ربه؛ ليتعيشوا بما يحمل إليهم.

وقال أهل التأويل: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} للحج، وقالوا: لو قال: فاجعل أفئدة الناس تهوي إليهم؛ ولم يقل (من) لحجه الخلق جميعًا: الكافر والمؤمن، لكن لا يحتمل عندنا أن يكون سؤاله للخلق جميعًا أو يكون قوله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} للخلائق جميعًا: للكافر والمؤمن، بل يرجع ذلك إلى خصوص. واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}.

يحتمل: {وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} تلك الثمرات، ويحتمل: لعلهم يشكرون بما جعل لهم من التعيش بما يحمل إليهم من الأغذية والأطعمة.

وقوله: {وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ} ليس على تخصيص الثمرات، ولكن سأل الثمرات وما

 به غذاؤهم وقوامهم.

٣٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّه مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (٣٨)

لا يحتمل أن يكون مثل هذا الدعاء منه مبتدأ، بل كأنه - واللّه أعلم - عن نازلة دعاه؛ إذ يعلم صلوات اللّه عليه أنه كان يعلم ما يخفون وما يعلنون، لكن لم يبين: ما تلك النازلة؛ وأهل التأويل يقولون: قال هذا؛ أي: {تَعْلَمُ مَا نُخْفِي} من الحزن والوجد على إسماعيل وأمه حين تركهما بواب لا ماء فيه ولا زرع، ويقولون: {وَمَا نُعْلِنُ} وهو قوله: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي}، لكن لا نعلم ذلك. واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّه مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَا}.

كان هذا جوابًا عن اللّه وإخبارًا منه إياه؛ أنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؛ أي: لا يخفى عليه ما لا أمر فيه ولا نهي ولا جزاء؛ فكيف يخفى عليه الأعمال التي عليها الجزاء والأمر؟

٣٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْحَمْدُ للّه الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (٣٩)

قال أهل التأويل: إنه وهب له الولد؛ وهو ابن كذا وامرأته ابنة كذا؛ لكن لا نعلم ذلك سوى ما ذكر أنه وهب له الولد على الكبر في وقت الإياس عن الولد؛ حيث بشر بالولد؛ فقال: {أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ}، وحيث قالت امرأته لما بشرت بالولد {أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا}، يعلم أنه وهب له الولد؛ وهما كانا كبيرين في وقت الإياس عن الولد.

وقوله: {الْحَمْدُ للّه الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} يكون حمده على الأمرين جميعًا: على الهبة؛ وعلى الولادة في حال الكبر؛ وهو حال الإياس؛ إذ كل واحد مما يوجب الحمد عليه والثناء.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} قيل: لمجيب الدعاء.

٤٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (٤٠)

قد سبق من اللّه الأمر بإقامة الصلاة؛ وهو المقيم لها؛ فدل الدعاء منه والسؤال؛ على أن يجعله مقيم الصلاة - أن عند اللّه لطفا سوى الأمر لم يعطه؛ فسأله ذلك؛ هو التوفيق.

وعلى قول المعتزلة؛ لقولهم: إنه قد أعطى كل شيء حتى لم يبق عنده ما يعطيه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ}.

 

قَالَ بَعْضُهُمْ: تقبل دعائي في إقامة الصلاة لنفسه وذريته؛ لكن لا يجب أن يخص دعاء من الدعوات التي سأل ربه؛ وقد دعا ربه بدعوات كثيرة؛ نحو ما قال: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ}،

وقوله: {رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ}،

وقال: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ}، وغير ذلك من الدعوات.

٤١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (٤١)

طلب من ربه المغفرة لوالديه.

قال الحسن: إن أمَّه كانت مسلمة، وأما أبوه: فكان كافرًا؛ لأنه قال: {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ}، فخص والده بالضلال؛ دل أن أمه كانت مسلمة؛ لكنا لا نعلم ما حال الأم: أمه كانت مسلمة أو كافرة، وأما أبوه فهو لا شك أنه كان كافرًا.

ثم لا يحتمل دعاؤه لوالديه؛ وهما كافران؛ إن كانت أمه كافرة؛ إلا على إضمار الإسلام؛ أي: اغفر لهما إن أسلما، أو أن يكون سؤاله المغفرة لهما سؤال الإسلام نفسه، أو أن يكون طلب منه الستر عليهما في الدنيا، وألا يفضحهما ولا يخزيهما، لكنه سأل المغفرة يوم يقوم الحساب. ولا يحتمل طلب الستر إلا أن يفصل بين قوله: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} ووبين قوله: {وَلِلْمُؤْمِنِينَ} يبتدئ بالمؤمنين يوم يقوم الحساب، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم ودعاء إبراهيم وسؤاله المغفرة لوالديه يكون سؤال السبب؛ الذي يستحقان به المغفرة من ربها، ويكونان أهلا لها؛ وهو التوحيد ومعرفة المولى؛ وهو ما ذكرنا في أمر نوح قومه الاستغفار له، وكذلك قول هود؛ حيث قال: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ. . .} الآية، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ}.

يحتمل قوله: {يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ}: بالعدل؛ يقول الرجل لآخر: أقم حسابي أي: اعْدل فيه. وإقامة الحساب: العدل فيه؛ على ما توجبه الحكمة، لا يزاد ولا ينقص؛ كقوله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ}،

قَالَ بَعْضُهُمْ: {يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ}: يوم يحاسبون، قيام الحساب: هو المحاسبة نفسها واللّه أعلم.

 ويحتمل قوله: {إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ} كانت له حاجات أخفاها، طلب قضاءها؛ فقال: تعلم حاجاتي؛ أخفيتها، أو أعلنتها فاقضها لي، أو أن يكون قومه طعنوا في شيء؛ فقال ذلك على التبري من ذلك؛ إنه يعلم ما نخفي وما نعلن، ولم يعلم ذلك الذين يطعنون في {مِنِّي} واللّه أعلم؛ كقول عيسى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي}، أو أن يكون قال ذلك؛ لأن أهل الأديان جميعًا كانوا يوالون إبراهيم ويدعون أنه على دينهم؛ ولذلك قال: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا. . .} الآية.

برأه اللّه مما ادعى كل فريق.

ثم منهم؛ من كان من هذه الفرق؛ يدعون الأسرار عن اللّه والإخفاء عنه؛ فقال هذا ليعلم الناس توحيده؛ أنه لا يخفى عليه شيء؛ أُخفي أو أعلن؛ ليعرفوا توحيده أنه ليس شيء يخفى عليه. واللّه أعلم.

٤٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللّه غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: المخاطب بهذا الرسول - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خاصة؛ على علم منه أن رسول اللّه كان لا يظن أن اللّه يغفل عما يعمل الظالمون؛ لكنه خاطب به كما خاطب به في قوله: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللّه إِلَهًا آخَرَ}،

وقوله: {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، وأمثاله، نهاه مع العلم أنه لا يفعل ذلك، وأصله في هذا أن العصمة لا ترفع المحنة، وليس المحنة إلا الأمر والنهي؛ إذ لو رفعت العصمة المحنة؛ والأمر والنهي؛

 لذهبت فائدة العصمة، ولا حاجة تقع إليها، فدل أن العصمة تزيد في المحنة، ومع المحنة يحتاج إليها وينتفع بها.

ويحتمل أن يكون الخطاب بالآية غيره، كل ظان يظن باللّه الغفلة عن ظلم الظالم؛ وهو كما خاطب بقوله: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}، إنما خاطب به كل غارٍّ بربه الكريم لا كل إنسان، فعلى ذلك خاطب بقوله: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللّه غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} وكل ظان باللّه الغفلة عن ظلم الظالمين، ثم إن الذي حملهم على الظن باللّه الغفلة عن ظلم الظالم - حلمه، وتأخيره العذاب عنهم عن وقت ظلمهم، وترك أخذهم بذلك: فمنهم من ادعى الغفلة عن ذلك؛ لما رأوا من عادة ملوك الأرض أن من ظلم أحدًا منهم انتقم منه في أعجل وقت يقدر على الانتقام منه؛ فحمل تأخير اللّه العذاب منهم؛ والانتقام منهم - على القول بالغفلة. ومنهم من ادعى الرضا؛ بما اختاروا هم من الشرك والكفر باللّه، وادعوا الأمر بذلك؛ لما لم يأخذهم ولم يستأصلهم بصنيعهم؛ فاستدلوا بذلك على رضاه بفعلهم، وأمره إياهم بذلك. فأخبر رسوله أن تأخيره العذاب عنهم وإمهاله إياهم - ليس عن غفلة عنه، ولا عن سهو، ولا لرضاه به وأمره ولكن إنما يؤخرهم ليوم، ثم وصف ذلك اليوم؛ لشدة فزعه وهوله فقال.

٤٢

(إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ (٤٣)

قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا كله يرجع إلى الطرف والبصر؛ يقول: شاخصة أبصارهم مهطعين: ناظرين إليه؛ أي: إلى الداعي، مقنعي رءوسهم: رافعي رءوسهم، لا يرتد إليهم طرفهم؛ لهول ذلك اليوم، هذا كله يصرفون إلى الأبصار دون النفس؛ لأن الإهطاع والإقناع: هو للنظر ولشخوص الأبصار.

ومنهم من صرف قوله: {تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ}، و {لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} إلى البصر، وصرف قوله: {مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ} إلى الأنفس؛ وهو ما ذكر في موضع آخر: {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ}، أي: مسرعين إليه الإجابة؛ رجاء التخلص والنجاة عما حل بهم؛ بترك الإجابة.

والإهطاع: قيل: هو النظر الدائم، والإقناع: هو الرفع؛ رفع الرءوس، مهطعين: أي: مديمي النظر، مقنعي رءوسهم أي: رافعيها، وعلى تأويل بعضهم: مسرعين؛ على ما ذكرنا.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ}: أي: رافعيها؛ ملتزقة إلى أعناقهم.

وقوله: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللّه غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ}. يخرج على وجهين:

أحدهما: يقول: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللّه غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ}، وقت خلقه الخلق وإنشائهم؛ عما يكون منهم من الظلم؛ أي: لا عن غفلة وسهو عن ظلم الظالمين أنشأهم وخلقهم؛ ولكن على علم بما يكون منهم أنشأهم وخلقهم؛ لكن أنشأهم على علم منه؛ بذلك؛ لأن منافع ما يكون منهم وضرره يرجع إليهم؛ فلم يخرج إنشاؤه إياهم على علم منه ذلك، عن الحكمة.

والثاني: ما ذكرنا أن تأخيره العذاب عنهم - ليس لغفلة منه بذلك؛ ولكن لما في أخذهم بالعذاب وقت صنيعهم زوال المحنة؛ لأنه يصير العذاب والثواب مشاهدة. واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ}.

قيل: خالية؛ لهول ذلك اليوم؛ أي: خالية عن التدبير؛ لأن في الشاهد أن من بلي ببلايا وشدائد يتدبر ويتفكر في دفع ذلك؛ فيخبر أن أفئدتهم هواء يومئذ: أي: خالية عن التدبير؛ إذ أفئدتهم لا تكون معهم؛ لشدة أهواله.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} أي: لا شيء فيها؛ ما ينتفعون بها، وهكذا الهواء - هواء كل شيء - يوصف بالخلاء عن كل شيء. واللّه أعلم.

٤٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ ... (٤٤)

يحتمل قوله: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ} قولهم الذي يقولون يومئذ: {رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ}. ويحتمل: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ} الذي يحل بهم.

ثم أخبر عما يقولون - إذا حل بهم العذاب -: {رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} قال بعضهم: إلى الدنيا؛ والدنيا أجلها قريب، لكن هذا لا يحتمل؛ لأن الدنيا أولى، والآخرة آخرة، فلو جاز هذا لتكون الآخرة أولى؛ فذلك بعيد، لكن طلبوا - واللّه أعلم - الرد إلى حال الأمن؛ ليجيبوا داعيه؛ إذ لم تنفعهم إجابتهم في حال الخوف والهول، وما حل بهم إنما حل بتركهم الإجابة، في حال الأمن؛ فطلبوا الرد إلى الأمن؛ ليجيبوا داعيه لتنفعهم إجابتهم؛ حيث قالوا: {نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ}.

لم يبين بما أقسموا في هذه الآية؛ وهو ما بين في آية أخرى: {وَأَقْسَمُوا بِاللّه جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللّه مَنْ يَمُوتُ}.

ثم قوله: {مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ}: قال قائلون: ما لكم من زوال من الدنيا، أي: كنتم تقولون: أن ليس إلا الدُّنيَا لا زوال لنا عنها؛ أحياء وموتى؛ كقولهم: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا. . .} الآية، على ما ذكر من قسمهم أنهم لا يبعثون.

وقال قائلون: قوله: {مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} جواب لسؤالهم: {رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} على الاستئناف؛ قال: ما لكم عما أنتم فيه من العذاب إلى ما تسألون من المدة والتأخير؛ أي: ما لكم إلى ذلك سبيل.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: في قوله: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ}: أي: تنزع قلوبهم؛ حتى صارت في حناجرهم؛ فلا تخرج من أفواههم، ولا تعود إلى أماكنها؛ لشدة هول ذلك اليوم وفزعهم عليه، وهو على التمثيل والكناية؛ كقولهم: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ. . .} لشدة خوفهم، وهو على التمثيل؛ إذ لا يحتمل بلوغ القلوب الحناجر في الدنيا حقيقة؛ إذ لو بلغت ذلك لخرجت فماتوا، إذ الدنيا يحتمل الموت فيها، فدل أن ذلك على التمثيل لشدّة خوفهم.

٤٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ... (٤٥) بتكذيبهم الرسل.

 وتأويله - واللّه أعلم -: أنهم كانوا يطلبون من ربهم الرد إلى حال الأمن؛ ليجيبوا بقولهم: {رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ}؛ واللّه أعلم، فقال: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} بتكذيبهم الرسل أي: سكنتم في الدنيا في مثل منازلهم ومساكنهم؛ فرأيتم ما نزل بأُولَئِكَ الذين صنعوا مثل صنيعكم.

وذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} من التعذيب والاستئصال ثم لم يتعظوا بما حل بهم، فعلى ذلك إذا رددتم إلى حال الأمن لا تتعظون بما حل بكم في هذه الحال، وهو ما قال: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} فيما يقولون: إنهم يجيبون دعوته، هذا - واللّه أعلم - تأويله.

وقال بعض أهل التأويل: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ}: أي: عملتم مثل أعمالهم، {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} من الاستئصال بالتكذيب؛ بتكذيبهم الرسل؛ فلم تتعظوا بذلك؛ فلا تتعظون بهذا أيضًا إذا رددتم. واللّه أعلم.

وفي قوله: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ. . .} إلى آخر ما ذكر: دلالة لزوم النظر والاستدلال، ولزوم القياس، ودلالة لزوم العقوبة؛ وإن كان لم يعلموا به؛ بعد أن مكنوا من العلم به.

أما دلالة النظر والاستدلال: هو قوله: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ}: فهلا نظرتم ما حلَّ بهم من تكذيبهم الرسل؛ واتعظتم به.

ودلالة القياس: هو ما خوفهم أن ينزل بهم ما نزل بأُولَئِكَ؛ لأنهم اشتركوا في المعنى الذي نزل بأُولَئِكَ؛ ما نزل وهو تكذيبهم الرسل، وسوء معاملتهم إياهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ}: أي: {وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ}؛ ما لو تفكرتم فيها ونظرتم ثم لكان ذلك لكم موعظة وزجزا عن مثل صنيعكم. أو يقول: وضربنا لكم الأمثال: أي: قد بينّا لكم الأمثال والأشباه ما يعرفكم؛ لو تأملتم أن أُولَئِكَ لكم أشباه وأمثال، وصنيعهم لصنيعكم أشباه وأمثال؛ فينزل بكم ما نزل بهم. واللّه أعلم.

٤٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللّه مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (٤٦)

مكروا، واحتالوا على إهلاك الرسل وقتلهم؛ كقوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ. . .} الآية، وكيدهم الذي ذكر - في غير آي من القرآن - برسل اللّه؛ حتى قال الرسل فيكيدوني جميعًا، ومكروا أيضًا بدين اللّه الذي أتت به الرسل، مكروا

واحتالوا على إطفاء ذلك النور؛ فأبى اللّه ذلك عليهم، وأظهر دينه، وأبقى نوره إلى يوم القيامة، كقوله: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللّه} كأن مكرهم وحيلهم يرجع - في أحد التأويلين - إلى أنفس الرسل حين هموا وتعمدوا إهلاكهم.

والثاني: يرجع إلى إطفاء الدِّين؛ الذي أتى به الرسل؛ والنور الذي دعوا إليه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَعِنْدَ اللّه مَكْرُهُمْ}.

يحتمل: عند اللّه جزاء مكرهم؛ الذي مكروا برسل اللّه وبدينه.

أو {وَعِندَ اللّه مَكرُهُمْ}: أي: عند اللّه العلم بمكرهم، محفوظ ذلك عنده، لا يفوت ولا يذهب عنه شيء؛ فيجزيهم بذلك في الآخرة.

أو {وَعِندَ اللّه مَكرُهُم}: أي: عند اللّه الأسباب التي بها مكروا، من عند اللّه استفادوا؛ وهو النعم التي أعطاهم، والأموال التي ملكهم، والعقول التي ركب فيهم؛ بما قدروا على المكر والاحتيال عند اللّه ذلك كله، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}.

اختلف في تلاوته، وقراءته، وتأويله:

قرأ بعضهم: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ} بالدال (١)؛ وهو حرف عبد اللّه بن مسعود، وأبي، وابن عَبَّاسٍ رضي اللّه عنهم. وقرأ بعضهم {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ} بالنون.

ثم اختلف في قوله: {وَإِنْ كَانَ}.

وقال الحسن وغيره: و (إن) بمعنى: (ما)، أي: ما كان مكرهم لتزول منه الجبال، قال: كان مكرهم أوهن وأضعف من أن تزول منه الجبال، و (إن) بمعنى: (ما) كثير في القرآن، كقوله: {لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} أي: ما كنا فاعلين؛ وكقوله: {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} أي: ما نحن إلا بشر مثلكم. (١) هكذا {وَإِنْ كَادَ مَكْرُهُمْ}

 وقد تستعمل (إن) في موضع (قد)؛ كقوله: {إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} أي: قد كان وعد ربنا لمفعولا.

فمن حمله على (ما) فقد استهان بمكرهم، واستخف به؛ فقال: إن مكرهم أوهن وأضعف من أن تزول منه الجبال، والجبال أوهن وأسرع زوالا من رسالة الرسل ودين اللّه، بل رسالة الرسل؛ ودين اللّه أثبت من الجبال، لأن دين اللّه، ورسله معهما حجج اللّه وبراهينه، فإذا لم يعمل مكرهم في إزالة الجبال - لا يعمل في إزالة دين اللّه ورسالة الرسل، ومعهما الحجج والبراهين.

ومن قال: {وَإِنْ كَانَ}: قد حمله على الاستعظام بمكرهم.

وعلى ذلك: من قرأ (كاد)، بالدال على الاستعظام بمكرهم؛ كقوله: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (٩١) من عظيم ما قالوا في اللّه كادت السماوات أن تنشق، فعلى ذلك مكرهم جميعًا الوجهين: أن يستهان مرة ويستعظم؛ إلا أن يقال: إن كلمتهم من حيث الشرك والكفر عظيمة، ومن حيث احتيالهم ومكرهم - في إزالة ذلك النور وإطفائه - ضعيفة. واللّه سبحانه أعلم.

٤٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا تَحْسَبَنَّ اللّه مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللّه عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (٤٧)

الخطاب به يحتمل ما ذكرنا: أي: لا تحسبن أن ما تأخر؛ من نزول ما وعد؛ أنه يخلف وعده الذي وعد رسله؛ كما لم يكن تأخير العذاب عنهم؛ من وقت ظلمهم عن غفلة وسهو، ولكن كان وعده إلى ذلك الوقت، وخلف الوعد في الشاهد من الخلق - إنما يكون لوجهين:

 أحدهما: لما لا يملك إنجاز ما وعد.

والثاني: لما يضره الإنجاز، فتعالى اللّه عن ذلك كله.

وقول - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ اللّه عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: عزيز: لا يعجزه شيء. وقيل: عزيز: قاهر يقهر ويذل؛ فالخلائق كلهم أذلاء دونه.

وقوله: {عَزِيزٌ}: أي: غالب قاهر ذو انتقام لأوليائه من أعدائهم؛ أي: غالب الأعداء وقاهرهم، وناصر الأولياء.

 وأما ما قال أهل التأويل في قوله: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللّه مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}. إنه نزل في شأن نمرود، وإنه اتخذ تابوتًا، وربط ثورًا على قوائمه، وما ذكروا إلى آخره - فلا علم لنا إلى ذلك، وأظنه أنه كله خيال، فلا نقول إلا القدر الذي ذكر في الآية.

و" لَتزولُ " بنصب اللام الأولى، وبرفع الآخرة: على معنى التوكيد، و {لِتَزُولَ} بكسر اللام الأولى، ونصب الآخرة: على الجحد؛ أي: ما كانت الجبال لتزول من مكرهم، وهو ما ذكرنا. واللّه أعلم.

٤٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ... (٤٨)

قال الحسن: تفنى هذه الأرض، ثم تعاد من ساعته مستوية، لا شجر فيها، ولا جبال، ولا آكام، قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: تبدل هذه الأرض أرضًا غير هذه؛ بيضاء نقية، لم يسفك عليها دم، ولم يعمل عليها بالمعاصي، وكذلك السماوات.

ومنهم من يقول: لا تبدل عينها؛ ولكن يتغير صفتها وزينتها؛ كما يقول الرجل لآخر: تبدلت يا فلان، لا يريد تبدل أصله وعينه؛ ولكن تغير الأخلاق والدِّين، فعلى ذلك ما ذكر من تبديل الأرض والسماوات.

والأشبه أن يكون على اختلاف الأحوال؛ لأنه ذكر في آية: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا}

وقال: {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ}،

وقال: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ} {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}، {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ}، {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ}، و {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ}،

وقال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ}،

وقال: {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}، ذكر مرة تمد الأرض، وذكر مرة أنها تخبر وتحدث عما عمل عليها، وذكر في السماء بالتشقق والانفطار، وفي الجبال بالسير والمرور مرة؛ ومرة بالرفع ومرة أخبر أنه جعلها هباء منثورا وأمثاله.

فيشبه أن يكون هذا كله على اختلاف الأحوال والأوقات؛ إذ يوم القيامة يوم ممتد؛ فيكون كل ما ذكر على ما قال يومئذ؛ {فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ}؛

قال في آية: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ}،

وقال: {وَلَا يَتَسَاءَلُونَ}،

وقوله: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، فهو - واللّه أعلم -: على اختلاف الأحوال والأوقات، فعلى ذلك الأول، واللّه أعلم بذلك.

وتبديل الأرض والسماوات: يحتمل وجهين:

أحدهما: تبديل أهلها على ما يذكر؛ الأرض والقرية، والمراد منها الأهل؛ كقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا}،

وقوله: {قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً. . .} الآية، ونحوه كثير.

والثاني: تبديل نفس الأرض.

ثم يحتمل كل واحد من الوجهين وجهين:

إما تبديل أهلها: هو أن يكونوا مستسلمين خاضعين له في ذلك، ولم يكونوا في الدنيا كذلك.

والثاني: تبدل أهلها: هو أن يكون الأولياء في النعم الدائمة، واللذة الباقية، والأعداء في عذاب وألم وشدة، وكانوا في هذه الدنيا جميعًا مشتركين - الأولياء والأعداء - في اللذات والآلام.

فإن كان تبديل نفس الأرض - فهو يخرج على وجهين أيضًا:

أحدهما: تبديل زينتها وصفتها.

والثاني: تبديل عينها وجوهرها؛ وهو ما ذكر: أن أرض الجنة تكون من مسك وزعفران، ونحو ما روي في الخبر واللّه أعلم. كأن قوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} صلة قوله: {فَلَا تَحْسَبَنَّ اللّه مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ. . .} الآية فقالوا: متى يكون ذلك؟ فقال: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} يخرج جوابًا لسؤالهم واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَبَرَزُوا للّه الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}.

قد ذكرنا تخصيص بروزهم للّه يوم القيامة أنه - واللّه أعلم - أنشأ هذا العالم الأول للعالم الثاني، فالعالم الثاني هو المقصود في إنشاء هذا العالم، فخص بروزهم يومئذ له؛ لما هو المقصود في إنشائهم.

وقال قائلون: تخصيص البروز له يومئذ؛ لأنهم يخرجون من قبورهم للحساب لا لغيره، فهو يحاسبهم؛ فأضاف البروز إليه؛ لما لا يخرجون إلا له، وأما في الدنيا: فإنما يخرجون لحوائج أنفسهم؛ لذلك خرج التخصيص له والإضافة.

وقوله: {وَبَرَزُوا للّه}: يحتمل وجهين:

أحدهما: برزوا له مستسلمين خاضعين، قابلين طائعين، ولم يكونوا في الدنيا كذلك.

والثاني: يبرزون له؛ لما وعدوا وأوعدوا؛ بارزون لوعده ولوعيده، ولما دعوا إليه، ورغبوا فيه.

والثالث: يبرزون له؛ لما لا يملكون إخفاء أنفسهم وسترها؛ بل ظاهرين له.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}.

الواحد: الذي لا شريك له، والقهار: يقهر الخلائق كلهم؛ ويغلبهم: الجبابرة، والفراعنة.

أو يبرزون له ليجزيهم، على ما ذكر تعالى {لِيَجْزِيَ اللّه كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ} واللّه أعلم.

٤٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (٤٩) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ) وذكر {مِنْ قَطِرَانٍ}: قيل: (القطر) هو النحاس أو (آنٍ) أي: قد انتهى حره، كقوله: {وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ}.

وقيل: الصفر وقَالَ بَعْضُهُمْ {مِنْ قَطِرَانٍ} أي: من نحاس أنى لهم أن يعذبوا به،.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو من القطران المعروف الذي يطلى به الإبل؛ ذكر هذا لأنه أشد إحراقًا واشتعالا.

 

وقوله: (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (٤٩) إلى آخر ما ذكر: جعل اللّه عذاب الكفرة في الآخرة بالأسباب والأشياء التي كانوا يفتخرون بها في الدنيا؛ من اللباس والشراب والأصحاب؛ وغيره، وهو كان سبب منعهم عن إجابة الرسل فيما دعوهم إليه؛ فجعل تعذيبهم في الآخرة بذلك النوع من النار؛ فقال: {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} يقرن ويقيض بعضهم ببعض؛ كقوله: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا. . .} الآية؛ لأنه كان يتبعه ويأتمر بأمره؛ وكقوله: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا. . .} الآية، وكذلك الرؤساء منهم، والمتبوعون.

٥٠

وقوله: (سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ ... (٥٠) لما كانوا يفتخرون في الدنيا بلباسهم، وكذلك كل نوع كانوا يفتخرون به في الدنيا، ويمنعهم عن الإجابة؛ إجابة الرسل، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم.

والأصفاد: قيل: الأغلال: قد قرن بعضه إلى بعض في الأغلال، واحدها: صفد؛ وهو قول الْقُتَبِيّ، وكذلك قول أبي عَوْسَجَةَ في الأصفاد، إلا أنه قال: واحدها: صفاد، والصفد العطيّة.

{سَرَابِيلُهُمْ}: قمصهم، واحدها: سربال.

{مِنْ قَطِرَانٍ}: القطر - ما ذكرنا - النحاس، والآن الذي قد اشتد حَرُّه، وهو قول الْقُتَبِيّ وأبي عَوْسَجَةَ.

ذكر هذه المواعيد والشدائد، وأنواع ما يعذبون به في الآخرة، ونعيمها على ألسن من قد ظهر صدقهم بالآيات والحجج؛ ليحذروا ما أوعدوا، ويرغبوا فيما رغبوا لئلا يكون لهم الاحتجاج يومئذ؛ كقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّه حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}،

وقوله: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ. . .} الآية، ونحوه. واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ}.

لأن أيديهم مغلولة إلى أعناقهم؛ فلا يقدرون أن يتّقوا النار بأيديهم ذكر هذا؛ لأن في الشاهد: من أصاب وجهه، أذًى يتقي عنه بيده، فيخبر أنهم إنما يتقون ذلك بوجوههم. واللّه أعلم.

٥١

 (لِيَجْزِيَ اللّه كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ (٥١)

لما ذكرنا؛ يبرزون للّه؛ ليجزيهم من خير وشر.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ اللّه سَرِيعُ الْحِسَابِ}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: كان قد جاء حسابه.

والثاني: ذكر هذا؛ لأن الحساب إنما يبطئ لما لا يتذكر من له الحساب لمن يحاسبه في الشاهد - فيما يحاسبه، فيطول الحساب أو الاشتغال بشيء يشغله عنه، أو لجهل بالحساب. فأما اللّه سبحانه وتعالى لا يخفى عليه شيء، ولا يشغله شيء عن شيء، كله محفوظ عنده؛ فهو سريع الحساب. واللّه أعلم.

أو نقول: إنما يطول الحساب في الشاهد؛ ويمتد لما يحتاج إلى التفكر أوالنظر، والتذكر في ذلك، فاللّه سبحانه متعال عن التفكر والنظر، بل كل شيء محفوظ عنده. واللّه أعلم.

٥٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (٥٢)

يحتمل قوله: {هَذَا بَلَاغٌ}: القرآن؛ هو بلاغ للناس، على ما ذكر في صدر السورة: قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ. . .} الآية، هو بلاغ على ما ذكر. واللّه أعلم.

{وَلِيُنْذَرُوا بِهِ}: أي: بالقرآن أيضًا على ما ذكر: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا}، ويحتمل قوله: {هَذَا بَلَاغٌ} ما ذكر من المواعيد؛ وهو قوله: {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} إلى آخر ما ذكر؛ أي: هذا الذي ذكر بلاغ يبلغهم لا محالة، ولينذروا بما ذكر.

{وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ}.

لا شريك له؛ بالآيات التي أقامها على وحدانية اللّه وألوهيته.

{وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} أي: ذوو العقول، واللّه أعلم.

* * *

﴿ ٠