٢٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُثَبِّتُ اللّه الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّه الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّه مَا يَشَاءُ (٢٧)

ذكر مرة بالتثبيت ومرة بذكر الزيادة؛ بقوله: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ}، ومرة بذكر الابتداء والتجديد؛ بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّه}.

وقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}، فالتجديد والابتداء في حادث الوقت؛ لأن تلك الأفعال تنقضي وتذهب ولا تبقى، وأما الزيادة على ما كان يضم شيئًا إلى ما كان، والثبات على ما كان فكله واحد في الحقيقة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيُضِلُّ اللّه الظَّالِمِينَ}.

أضاف الإضلال مرة إلى نفسه؛ ومرة إلى الشيطان، ولا شك أن ما أضيف إلى الشيطان إنما أضيف على الذم، فإذا كان ما ذكر؛ فتكون الجهة التي أضيف إلى اللّه - غير الجهة التي أضيف إلى الشيطان، الجهة التي أضيف إلى اللّه: هو أن خلق فعل الضلال من الكافر، وما أضيف إلى الشيطان: هو على التزيين والتسويل؛ لتصح الإضافتان. ولو كان على التسمية - على ما يقوله المعتزلة: إذ سماه ضالا - لكان كل من سمى آخر ضالا كافرًا جاز أن يسمى مضلا، فإذا لم يسم - بتسميته ضالا أو كافرًا - مضلا دل أنه إنما سمى اللّه نفسه مضلا؛ لتحقيق الفعل له فيه؛ وهو ما ذكرنا: أن خلق فعل الضلال منه.

والمعتزلة يقولون: إن اللّه هدى الخلق جميعًا؛ لكنهم لم يهتدوا وضلوا من غير أن يكون اللّه أضلهم. فهذا صرف ظاهر الآية إلى غيره بلا دليل.

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَفْعَلُ اللّه مَا يَشَاءُ}.

وعلى قول المعتزلة: لا يقدر أن يفعل ما يشاء؛ لأنهم يقولون: شاء إيمان جميع البشر؛ ولكنهم لم يؤمنوا؛ وكذلك قال: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}، وهم يقولون: أراد إيمانهم؛ لكنه لم يفعل ما أراد؛ ولا يملك، وقد أخبر أنه: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} و {مَا يَشَآءُ} وهم يقولون: لم يملك أن يفعل ما شاء وأراد، بل العباد يقولون ما شاءوا غير ما شاء هو، فتأويلهم خلاف لظاهر القرآن. واللّه أعلم.

وقوله: {يُثَبِّتُ اللّه الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} يشبه أن يكون هذا صلة قوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّه مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً} على تأويل من يقول: إن الكلمة الطيبة هي القرآن، يكون القول الثابت هو القرآن.

يقول - واللّه أعلم - يثبت اللّه الذين آمنوا في الحياة الدنيا؛ حيث تلقوه بالإجابة والقبول والعمل به، وفي الآخرة؛ أي: بالآخرة والبعث؛ يقرون به، {وَيُضِلُّ اللّه الظَّالِمِينَ}؛ حيث تركوا الإجابة له، وتلقوه بالرد، والمكابرة، والعناد.

ومن يقول: الكلمة الطيبة: التوحيد والإيمان - يكون القول الثابت: هو الإيمان؛ يثبتهم في الحياة الدنيا باختيارهم؛ وفي الآخرة، قيل: في قبورهم؛ يثبتهم لإجابة منكر ونكير، ويمكن لهم ذلك، ويضل اللّه الظالمين الذين تركوا الإجابة له في الحياة الدنيا وفي القبور؛ حيث تركوا الإجابة في الدنيا.

ويحتمل أن يكون قوله: {يُثَبِّتُ اللّه الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}؛ هو ما ذكر، {وَاللّه يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، ثبت من أجاب اللّه إلى ما دعا في الدنيا، وفي الآخرة يهديه الطريق الذي به يوصل إلى دار السلام، والكافر حيث ترك إجابته إلى ما دعاه، ويضله في الآخرة طريق دار السلام؛ بترك إجابته في الدنيا. واللّه أعلم بذلك.

وقوله: {وَيَفْعَلُ اللّه مَا يَشَاءُ} في هداية من اختار الإجابة والاهتداء، وإضلال من اختار ترك الإجابة والغواية.