سُورَةُ الْحِجْرِذكر أنها مكية بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ١قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ}. قد ذكرنا فيما تقدم: أنه يحتمل أن الحروف المقطعة كناية عن كتابه وآياته، أو آياته؛ أنه جمعها على ما توجبه الحكمة؛ فجعلها كتابًا أو آيات كتاب يتلى، أو يكون كناية عن الإنباء والإخبار عن الأمم السالفة؛ التي لم يشهدها رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، تلك الأنباء والأخبار التي جعلناها كتابًا أو آيات؛ ليعلموا أن هذا الكتاب إنما نزل من السماء، وأنه إنما علم بالوحي من اللّه، وقد ذكرنا هذا في غير موضع. {وَقُرْآنٍ مُبِينٍ}. قال: بيَّن فيه ما يؤتى، وما يتقى. أو {مُبِينٍ}: يبين بين الحقّ والباطل. واللّه أعلم. ٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (٢) قال عامة أهل التأويل: إنما يودون الإسلام والتوحيد، بعد ما عذب بالنار قومًا من أهل التوحيد بذنوبهم، ثم أخرجوا منها بالشفاعة أو بالرحمة، فعند ذلك يتمنى أهل الشرك؛ ويودون الإسلام والتوحيد؛ لكن هذا بعيد ألا يتمنوا إلا في النار بعد ما أخرج أُولَئِكَ وقد أصيبوا الشدائد والبلايا؛ من قبل أن يأتوا النار، قال اللّه تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا) الآية، أخبر أنه يتمنى عند حلول الموت - الإسلام؛ حيث طلب الرجوع إلى الدنيا، دل أنهم يودون الإسلام؛ قبل الوقت الذي ذكروا، أو يتمنون الإسلام إذا حوسبوا، أو إذا بعث أهل الجنة إلى الجنة وبعثوا هم، إلى النار، يتمنون الإسلام قبل ذلك بمواضع، وربما يتمنى الآحاد من الكفرة، ويودون لو كانوا مسلمين في أحوال؛ وأوقات؛ يظهر لهم الحق، وقد بانَ لهم الحق؛ لكن الذي يمنعهم عن الإسلام - فوت شيء من الدنيا، وذهاب شيء قد طمعوا فيه. وقال الحسن في قوله: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ}: قسم؛ لما ذكر: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ}؛ يقول: أقسم بالحروف المقطعة أنهم يوذون الإسلام. واللّه أعلم. ٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣) هذا ليس على الأمر، ولكن على الوعيد، والتهديد، والإبلاغ في الوعيد، وتأكيد؛ كقوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ. . .} الآية،، هو على الوعيد؛ حيث قال: {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، فعلى ذلك قوله: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا} وعيد بقوله: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}، ويشبه أن يكون: ذرهم ولا تكافئهم بصنيعهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} المحق من المبطل، وأن المحق والمبطل من أنت أو هم؛ أو سوف يعلمون نصحك إياهم، وشفقتك لهم، أنك نصحت لهم، وأشفقت عليهم لا أن خنتهم أو يعلموا بما سخروا بكم وهزءوا. وقوله: {وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ}. الأمل: الطمع، اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: منعهم طمعهم أنهم وآباءهم قد أصابوا الحق، ذلك منعهم عن الإجابة، والنظر في الآيات والحجج. والثاني: تقديرهم بامتداد حياتهم؛ ليبقى لهم الرياسة، والشرف، ذلك الذي كان يمنعهم عن الإجابة له، والانقياد له، والنظر في الآيات والحجج. والثالث: يطمعون هلاك النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ويتمنون ذلك، وانقطاع ملكه، وأمره، والعود إليهم، فذلك الذي كان منعهم. وفي حرف حفصة: {ذَرْهُم يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ}. وقوله: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا. . .} الآية في قومٍ علم اللّه أنهم لا يؤمنون، آيس رسوله عن إيمانهم؛ وهو كقوله: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}. ٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (٤) قال الحسن: وما أهلكنا من أهل قرية إهلاك تعذيب؛ إلا وقد أرسلنا إليهم رسلا بكتاب معلوم، نتلو ذلك الكتاب المعلوم عليهم، فإذا كذبوهم وأيسوا من إيمانهم؛ فعند ذلك يهلكون هلاك تعذيب، وهو ما قال: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا}، فعلى ذلك الأول. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} يقول: كتاب فيه أجل معلوم مؤقت لها؛ على هذا التأويل؛ كأنه قد خرج جوابًا لقول كان من أُولَئِكَ الكفرة من استعجالهم الإهلاك. ٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (٥) أي: ما تسبق أمة عن أجلها الذي جعل اللّه لها بالإهلاك، وما تستأخر عنه، وهو ما قال: {لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} أي: ما يستأخرون ساعة عن الوقت الذي جعل لهم ولا يستقدمون. فهذا ينقض على المعتزلة قولهم؛ حيث قالوا: إن اللّه يجعل لخلقه آجالا، ثم يجيء آخر فيقتله قبل الأجل الذي جعله له، واللّه يقول: {لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}، وقال: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ}، يخبر أنه لجاءهم العذاب؛ لولا ما جعل من أجل مسمى؛ قد وعد جل وعلا أن يفي بما وعد؛ من البلوغ إلى الأجل الذي سمى. وعلى قول المعتزلة: لا يملك إنجاز ما وعد؛ لأنه يجيء إنسان؛ فيقتله؛ فيمنع اللّه عن وفاء ما وعد، فذلك عجز وخلف في الوعد، فنعوذ باللّه من السرف في القول، والزيغ عن الحق. ٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ ... (٦) يعني: القرآن. {إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ}. قال الحسن: قوله: يَا أَيُّهَا الذي تدعي أنه نزل عليه الذكر: إنك لمجنون؛ فيما تدعي من نزول الذكر، هو على الإضمار الذي قال الحسن، وإلا في الظاهر متناقض؛ لأنهم كانوا لا يقرون بنزول الذكر عليه؛ لأنهم لو أقروا نزول الذكر عليه لكان قولهم متناقضا فاسدًا. {إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} سموه مجنونًا، والذي حملهم على تسميتهم إياه مجنونًا وجوه: أحدها: أنهم لما رأوه أنه قد أظهر الخلاف لذوي العقول منهم والأفهام، والدعاء إلى غير ما هم فيه؛ فرأوا أنه ليس يخالف أهل العقول والفهم إلا بجنون به؛ فسموه مجنونًا. والثاني: رأوه قد أظهر الخلاف للفراعنة والجبابرة، الذين كانت عادتهم القتل والهلاك من أظهر الخلاف لهم؛ في أمر من أمورهم الدنياوية؛ فكيف من أظهر الخلاف لهم، في الدِّين؟ فظنوا أنه ليس يخالفهم، ولا يخاطر بنفسه وروحه إلا لجنون فيه. والثالث: قالوا ذلك لما رأوه؛ كان يتغير لونه عند نزول الوحي عليه؛ فظنوا أن ذلك لآفة فيه، ومن تأمل حقيقة ذلك علم أن من قرفه بالجنون فيه هو المجنون لا هو؛ حيث قال: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ. . .} الآية، وقال: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ}، أخبر أنهم لو تفكروا عرفوا أنه ليس به جنة، ولكن عن معاندة ومكابرة؛ يقولون؛ وجهل، وسموه مرة ساحرًا؛ فذلك تناقض في القول؛ لأنه لا يسمى ساحرًا إلا لفضل بصر وعلم؛ فذلك تناقض. ٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) تأويله - واللّه أعلم - يقولون له: إنك تزعم أن الملائكة يأتونك بالوحي، فهلا أظهرت لنا إذا أتوك؛ فننظر إليهم ملائكة هم - على ما تزعم - أم شياطين؟ ٨وقَالَ بَعْضُهُمْ: لو ما تأتينا بالملائكة فيشهدون أنك رسول اللّه، وأنك أرسلت على ما تدعي من الرسالة؛ فقال: (مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ ... (٨) إلا بالموت، {وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ}. قَالَ بَعْضُهُمْ: أنْ ليس في وسع البشر رؤية الملائكة على صورتهم؛ فقال: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ}: إلا بالموت، لو رأوا لماتوا؛ لما لم يجعل في وسعهم رؤية الملائكة، وهو كقوله: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ. . .} الآية، أخبر أنه لو أنزل عليهم الملك - لماتوا؛ إذ ليس في وسعهم رؤية أن ملائكة على صورتهم، ثم أخبر أيضًا أنه لو جعله ملكًا لجعله رجلا، ويكون في ذلك لبس على أُولَئِكَ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ}: أي: إلا بالحجج والآيات والبراهين على الرسل، وعلى من هو أهل لذلك، ليس على كل أحد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {إِلَّا بِالْحَقِّ}: أي: إلا بالعذاب الذي يكون فيه هلاكهم، وهكذا إن الملائكة لا تنزل إلا بالعذاب الذي فيه هلاكهم أو بالحجج والبراهين. واللّه أعلم. ٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ ... (٩) يعني القرآن وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) حتى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وفيما وكل الحفظ إلى نفسه؛ لم يقدر أحد من الطاعنين مع كثرتهم منذ نزل موضع الطعن فيه، وذلك يدل أنه سماوي، وأنه محفوظ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}: أي: محمدًا عليه أفضل الصلوات: أي: نحفظه بالذكر الذي أنزل عليه؛ كقوله: {وَاللّه يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، وكقوله: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي. . .} الآية. أخبر أنه إنما يهتدي بما يوحي إليه ربُّه، فعلى ذلك يحفظه بالقرآن الذي أنزل عليه. ويحتمل أن يكون الذكر: النبوة؛ أي: إنا نحن نزلنا النبوة، وإنا له: أي: لرسوله؛ لحافظون له: بالنبوة والرسالة. ١٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ}. قيل: في ملك الأولين. وقيل: في فرق الأولين. وقيل: في جماعات الأولين، وهو واحد. ١١(وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (١١) يصبر رسوله على استهزاء قومه إياه، وأذاهم له. يقول - واللّه أعلم -: لست أنت المخصوص بهذا، ولكن لك شركاء وأصحاب في ذلك؛ ليخف ذلك عليه ويهون؛ لأن العرف في الخلق أن من كان له شركاء وأصحاب في شدة أصابته أو بلاء يصيبه - كان ذلك أيسر عليه، وأهون من أن يكون مخصوصًا به، من بين سائر الخلائق. واللّه أعلم. كان هذه الآية صلة قولهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ}، فكأنه لما سمع هذا اشتد عليه، وضاق صدره بذلك؛ فعند ذلك قال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ. . .} إلى آخره، يصبره على أذاهم وهزئهم به؛ فإنما يشتد عليه ذلك؛ على قدر شفقته ونصيحته لهم، وكان بلغ نصيحته وشفقته لهم ما ذكر: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} وقوله: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}، كادت نفسه تهلك، أو ذكر هذا له لما أن هَؤُلَاءِ - أعني قومه - إنما استهزءوا به تقليدًا لآبائهم، واستهزاء بهم وتلقنوا منهم، لا أنهم أنشئوا ذلك من أنفسهم، وأُولَئِكَ - أعني: الأوائل - إنما استهزءوا برسلهم، لا تقليدًا بأحد، ولكن إنشاء من ذات أنفسهم، فمن استهزأ بآخر فشتمه تقليدًا واقتداء وتلقنًا - كان ذلك أيسر عليه وأخف ممن فعل به من ذاته؛ لأنه إنما يلقن المجانين والصبيان ومن به آفة، بمثل ذلك؛ فهم الذين يعملون بالتلقين، وأما العقلاء السالمون عن الآفات - فلا، فذلك أهون عليه من استهزاء أُولَئِكَ برسلهم واللّه أعلم. ١٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: كذلك نسلك التكذيب والاستهزاء في قلوب المجرمين؛ لا يؤمنون به، يقول: من حكم اللّه أن يسلك التكذيب في قلب من اختار التكذيب وكذبه، ومن حكمه أن يسلك التصديق في قلب من صدقه واختاره؛ كقوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللّه قُلُوبَهُمْ}، وكقوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ}. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {كَذَلِكَ} نجعل الكفر والتكذيب {فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} بكفرهم؛ كقوله: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ. . .} الآية، وقوله: {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً}، ونحوه. ويحتمل قوله: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} الحجج والآيات؛ ليكون تكذيبهم وردهم الآيات والحجج، وتكذيبهم تكذيب عناد ومكابرة، لا يؤمنون به. وقوله: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} أي: مثل الذي سلكنا في قلوب المؤمنين؛ من قبول الآيات والحجج، والتصديق لها؛ لما علم أنهم يختارون ذلك - نسلك في قلوب المجرمين؛ من تكذيب الآيات والحجج وردها؛ لما علم منهم الرد والتكذيب لها. هذا يحتمل، ويحتمل غير هذا مما ذكرنا. واللّه أعلم. ١٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣) يحتمل قوله: {وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} بالتكذيب، والرد، والمعاندة، والمكابرة، بعد قيام الحجج والآيات. ويحئمل: {وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ}: الهلاك والاستئصال عند مكابرة حجج اللّه، ومعاندتهم إياها. وقال بعض أهل التأويل: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ} أي: نجعله؛ على ما ذكرنا، الكفر بالعذاب {فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ}، {لَا يُؤمِنُونَ بِه} أي: لا يصدقون بالعذاب {وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} بالتكذيب لرسلهم بالعذاب، فهَؤُلَاءِ يستنون بسنتهم. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ}: أي: ندخله؛ يقال: السالك: الداخل، والسلوك: الدخول، وسلكت أدخلت، وتصديقه: قوله: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ}.
وقال: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} أي: أدخل. ١٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) يخبر - عَزَّ وَجَلَّ - عن سفههم وعنادهم في سؤالهم الآيات؛ وطلب نزول الملائكة بقوله: {لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} يقول: إن سؤالهم الآيات؛ وما سألوا متعنتين مكابرين؛ ليسوا هم بمسترشدين، لكن أهل الإسلام لا يعرفون تعنتهم بالذكر؛ حيث قال: {وَأَقْسَمُوا بِاللّه جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ. . .} الآية، ثم قال: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ}، وذلك أن المؤمنين كانوا يشفعون لهم بسؤالهم الآيات لعلهم يؤمنون؛ فأخبر: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} وفعلى ذلك قوله: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ} يخبر أنهم بسؤالهم نزول الملائكة؛ معاندين مكابرين - ليسوا بمسترشدين. ثم اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ}: يعني على الملائكة بابا حتى رأوا، وعاينوا الملائكة ينزلون من السماء ويصعدون؛ فلا يؤمنون؛ وقالوا: {إنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} وقيل: حيرت وسدت، {بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ}: أي: سحرت أعيننا؛ فلا نرى ذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ} أي: لهم {بَابًا مِنَ السَّمَاءِ} وكقوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} أي: للنصب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَظَلُّوا فِيهِ} حتى {يَعْرُجُونَ} فيه ويعاينون نزول الآيات ويشاهدون كل شيء {إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} ويؤيس رسوله وأصحابه عن إيمانهم، وقوله تعالى: (لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥) يقولون ذلك لشدة تعنتهم وسفههم، وينكرون معاينة ذلك. ١٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا (١٦) قيل: نجومًا، ويحتمل البروج: المنازل التي ينزل فيها الشمس والقمر والنجوم، جعل لكل واحد من ذلك منزلا، ينزل في كل ليلة في منزل على حدة. ويحتمل ما ذكر من البروج: هي مطالع ما ذكر من الشمس والقمر والنجوم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} يعني السماء للناظرين. وفي قوله: {وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} دلالة نقض قول من ينهى عن النظر إلى السماء من القراء؛ لأنه أخبر أنه زينها للناظرين، ولا يحتمل أن يزينها للناظرين، ثم ينهى عن النظر إليها، دل أنه لا بأس أللناظرين، وقال في آية أخرى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا. . .} الآية، وقال في موضع آخر: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ}، وجعل اللّه في الشمس والقمر والنجوم منافع: يهتدون بها الطرق في ظلمات الليل، وجعلها مصابيح في الظلمات، وأخبر أنه زينها للناظرين؛ لأن ما يقبح في العين من المنظر لا يتفكر الناظر فيه ولا ينظر إليه؛ فزينها لهم؛ ليحملهم ذلك على التفكر فيه، والنظر إليها؛ ليعلموا أنه تدبير واحد؛ حيث جعل منافع السماء متصلة بمنافع الأرض؛ مع بعد ما بينهما، وجعل أشياء هي في الظاهر أشباهًا؛ وهي في الحقيقة كالأضداد لها، ومنها ما هي في الظاهر أضداد، وهي كالأشكال؛ نحو النور والظلمة: هي في الظاهر أضداد، صارت كالأشكال؛ حيث تضيء النجوم في ظلمات الليل؛ حتى ينتفع بذلك أهل الأرض، وهما في الظاهر أضداد، فصارت بما يظهر من منافعها كالأشكال، وجعل لا ينتفع بضوء النجوم مع نور القمر، ولا ينتفع بنور القمر مع ضوء الشمس، وهن أشكال؛ فصارت بما يذهب كل واحد منهما بسلطان الآخر؛ كالأضداد ليعلم أنه تدبير واحد؛ حيث صارت الأضداد كالأشكال، والأشكال كالأضداد في حق المنفعة. ١٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَحَفِظْنَاهَا ... (١٧) يعني: السماء، {مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} ذكر أن الشياطين كانوا يصعدون السماء فيستمعون من أخبار السماء من الملائكة، مما يكون في الأرض؛ من غيث وغيره، ثم زادوا فيها ما شاءوا فيلقون ذلك إلى الكهنة؛ فيخبر الكهنة الناس، فيقولون: ألم نخبركم بالمطر في يوم كذا وكذا، وكان حقا، ثم منعوا عن ذلك - عن صعودهم - أعني السماء، وحفظوا عنهم، فجعلوا يسترقون السمع، فسلط اللّه الشهب عليهم، حتى يقذفون؛ وهو قوله: (وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (٨) دُحُورًا). وقوله: {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ}. ويحتمل {وَحَفِظْنَاهَا}: أي: أهلها من الشيطان الرجيم لما ذكرنا من ذكر أشياء من القرية والمصر والعير، وغيره، والمراد منه: أهله، فعلى ذلك هذا، إلا أن أهل السماء بأجمعهم أهل ولاية اللّه؛ وأهل طاعته، وأما أهل الأرض: ففيهم من الغاوين الضالين، فهم أولياء الشيطان؛ كقوله: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ. . .} الآية. ويحتمل حفظ السماء نفسها: بالملائكة، وهو ما ذكر: {وَيُقْذَفُونَ. . .} الآية. ويحتمل: بالشهب؛ التي في غير آي من القرآن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {رَجِيمٍ}: اللعين، وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود: (من كل شيطان لعين) واللعين: - في اللغة -: فهو المطرود المبعد، وهو على ما ذكر {دُحُورًا}. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ ... (١٩) وقال في، آية أخرى: {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} يعني الجبال، في ظاهر هذا أن الأرض كأنها تضطرب وتنكفئ بأهلها، فأثبتها بالجبال، وإلا من طبعها التسفل والانحدار، وكذلك الجبال من طبعها التسفل والانحدار، فكيف كان ثباتها بشيء كان طبعه التسفل والتسرب؟ إلا أن يقال: إن طبعها كان الاضطراب والانكفاء فأثبتها بالجبال عن الاضطراب والانكفاء؛ أو أن يقال: من طبعها ما ذكرنا: التسفل والانحدار؛ إلا أن اللّه - بلطفه - أثبت ما هو طبعه التسفل، بما هو طبعه كذلك؛ ليعلم لطف اللّه وقدرته، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ}. قَالَ بَعْضُهُمْ: {فِيهَا}: يعني في الجبال، {مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ}: يعني: ما يوزن من نحو: الذهب، والفضة، والحديد، والرصاص، ونحوه مما يستخرج منها، وهذا كأنه ليس بصحيح؛ لأنه لا يقال في الذهب، والفضة والحديد: إنه أنبت في الأرض؛ كما يقال ذلك لنبات وما ينبت فيها، وإنما يقال للذهب، والفضة، والحديد: جعلنا فيها، أو خلقنا فيها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا}: يعني: في الأرض؛ من كل ألوان النبات، {مَوْزُونٍ}: أي: معلوم مقدر بقدر؛ كقوله: {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ}. ويحتمل: وأنبتنا فيها ما يصير موزونًا في الآخرة من الزروع وغيرها من الحبوب، أو ما ذكرنا؛ أي: معلوم مقدر، واللّه أعلم، ليس على الجزاف؛ على ما يكون من فعل جاهل على غير تدبير ولا تقدير. ويحتمل قوله: {مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ}: ما لو اجتمع الخلائق - لم يعرفوا قدر ما يزداد وينمو من النبات؛ في لحظة واحدة؛ وطرفة عين، في أول ما يخرج ويبدو من الأرض، وذلك موزون عنده؛ معلوم قدره، ليعلم لطفه، وقدرته، وتدبيره، وعلمه، وأنه تدبير واحد؛ حيث لم يختلف ذلك؛ ولم يتفاوت. واللّه أعلم. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: {فَظَلُّوا فِيهِ}: أيْ صاروا يومهم {يَعْرُجُونَ}: يرتفعون ويصعدون. وقال غيره: ظلوا: أي: [مالوا]، كقوله: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ}، أي: مالت، وقال: قوله: {سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا}: أي تحيرت؛ يقال: تسكر بصره: إذا تحير، وقال: يقال أيضًا تحيرت، يقال: سكر اللّه بصره: أي: حيره، وسكرت الريح تسكر سكرًا: إذا سكنت، ويقال: ليل ساكر، أي: ساكن، وسكرت الماء أسكره سكرًا: أي: حبسته، والسكر: السد، والسكور جمع، والسكر: مصدر سكر يسكر سكرًا؛ فهو سكران، وقوم سكرى وسكارى، والسكرة: الغمرة، والغمرة: الشدة، وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ}، أي: شدته. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: سكرت: غشيت، ومنه يقال: سكر النهر: إذا سدّ، فالسكر اسم ما سكرت، وسكر الشراب منه؛ إنما هو الغطاء على العقل والعين. وقال الحسن: سكرت - بالتخفيف -: سحرت. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - {بُرُوجًا}: قال: اثنا عشر برجًا، وأصل البرج الحصن والقصر وقوله: (وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ) يقول: حفظناها من أن يصل إليها شيطان أو يعلم من أمرها شيئًا إلا استراقًا، ثم يتبعه شهاب مبين: أي: كوكب مضيء. ١٨وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ (١٨) يقال: استرقت السمع: أي: تغفلت قومًا حتى سمعت حديثهم؛ وهم لا يعلمون، وهكذا لو علم الملائكة أن الشياطين يسترقون السمع، ويختطفون - لمنعوا من ذلك، وامتنعوا عن التكلم به؛ حتى لا يستمعون كلامهم، وحديثهم. و {شِهَابًا}: كوكب، وقيل: الشهاب: خشبة في طرفها نار، والشهبان جماعة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {شِهَابٌ مُبِينٌ} لرسول اللّه كان له خاصةً لم يكن قبل واللّه أعلم. ٢٠وقوله: (وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ... (٢٠) أي: في الأرض والجبال. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ}. قال الحسن: أي: جعلنا لكم في الأرض معايش ما تتعيشون به، ولمن حولكم أيضًا، جعل فيها معايش، لا ترزقونه أنتم؛ إنما ذلك على اللّه، هو يرزقهم وإياكم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ}: الوحوش والطير، وأما الأنعام: فإنه قد أشركهم البشر في المعايش، وكان غير هذا أقرب وأوفق: وهو أن أهل مكة كانوا يمنون على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ويقولون: نحن ربيناه، وغذيناه، وأنفقنا عليه، ورزقناه؛ ثم فعل بنا كذا، فخرج هذا جوابًا لهم: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} أي: محمدًا. ٢١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١) يحتمل هذا - واللّه أعلم -: وإن من شيء يخزن في الخلق - إلا عندنا خزائنه؛ أي: إلا عندنا تلك الخزائن؛ أي: ما تخزنون من الأشياء، فتلك عندنا وفي خزائننا. {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ}. على هذا {وَمَا نُنَزِّلُهُ}: أي: ما نعطيه {إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ}: أي: وإن كان عندكم مخزونًا محبوسًا - فإن ذلك كله في خزائنه، أعطى من شاء، وحرم من شاء. ويحتمل قوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} والخزائن: هي الأمكنة الخفية التي تخزن فيها الأموال، وبواطن من الأرض، يقول - واللّه أعلم -: وإن من شيء كان في بواطن الأرض، وأمكنة خفية - إلا عندنا تدبير ذلك وعلمه، يخبر أن تدبيره وعلمه فيِ الخفية من الأمكنة - كهو في الظاهر؛ لا يخرج شيء عن تدبيره وعلمه، بل كل ذلك في تدبيره وعلمه. وقال الحسن: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ}: أي: الماء الذي جعل به حياة كل شيء، ولا يخرج شيء عن منافعه، فهو خزائن الأشياء كلها، وبه قوام كل شيء، وقال: ألا ترى أنه قال: {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ}، ذكر الإنزال: وهو الذي ينزل من السماء طاهرًا. هذا الذي قاله محتمل، لكن تمامه أن يقال: إن الماء خزانة، والخزانة: هي الموضع الذي يخزن فيه، وفي الماء قوة ومعنى؛ يكون فيه حياة الخلق، ومنافعهم، فيما جعل فيه لا في نفس الماء، ألا ترى أنه يصيب عروق الشجر؛ فتظهر منافعه في غصونها؛ في أعلاها؛ فثبت أن فيه قوة سرية، ومعنى يكون المنافع بها لا بنفس الماء، واللّه أعلم بذلك. ثم ما ذكر من الخزائن، والرياح، والماء، والمطر، وغير ذلك من النعم؛ يذكر على الاحتجاج عليهم؛ لأنه إنما أنشأ هذه الأشياء، وخلقها لهَؤُلَاءِ، لا أنه أنشأها لنفسها، فإذا كان أنشأها لهم - فلا يحتمل أن يتركهم سدى؛ لا يأمرهم ولا ينهاهم، ولا يمتحنهم ولا يجعل لهم عاقبة يثابون أو يعاقبون؛ ولذلك قال في آخره: {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ}.
وقوله: {إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} على التأويل الأول: ما ذكرنا، أي: ما نعطيه إلا بقدر معلوم؛ وإن خزنه وحبسه. ويحتمل: {إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} أي: بقدر سابق معلوم، ذلك إن كان على هذا - فإنه يدل على أن ما يكون ويحدث - إنما يكون لقدر سابق؛ لا يكون غير ما سبق تقديره. أو {بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} محدود؛ أي: ليس ينزل جزافًا، ولكن معلومًا محدودًا. واللّه أعلم. ٢٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (٢٢) قَالَ بَعْضُهُمْ: {لَوَاقِحَ}: حوامل. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هذا لا يصح، لو كان على هذا - لكان ملاقح وملقحات. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: {لَوَاقِحَ} تلقح الشجر: أي: تنبت ورقها وهي ملقحة، وقال: يقال: ناقة لاقح: أي: حامل قد حملت، ونوق لواقح، ويقال: حرب لاقح: أي: شديدة، وسحاب لاقح: الذي فيه ماء - أي: مطر - وريح لاقح: أي: ملقح تلقح الشجر؛ أي: تنبت ورقه وحمله، ويقال: ملقح، ويقال: ألقح الرجل إذا لقحت إبله؛ أي: حملت، ورجل ملقح، واللقوح: الناقة التي معها ولد صغير، والجمع: لقاح، وجمع الجمع: لقائح، واللقح: اللواقح؛ وهي الحوامل من الإبل. قَالَ الْقُتَبِيُّ: قال أبو عبيدة: {لَوَاقِحَ}: إنما هي ملاقح؛ جمع ملقحة، يريد أنها تلقح الشجر، وتلقح السحاب؛ كأنها تنتجه، واللواقح: المنتجة الثمار من الأشجار، والسحاب، وغيره. واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ}. هو ما ذكرنا على التأويل في قوله: {فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ}، وعلى تأويل الحسن: هو ما ذكر من الماء والمطر. {وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ}: أي: حابسين لما جرى به الذكر؛ من المطر والماء؛ الذي ذكر أنه أنزل من السماء. ويحتمل {وَمَا أَنْتُمْ لَهُ} أي: للّه {بِخَازِنِينَ}: أي: ليست خزائنه في أيديكم؛ ولا بيد أحد، ولكن بيد اللّه، عَزَّ وَجَلَّ. وعلى تأويل الآخر: {وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ}: بمدبرين ما خزن في الأرض ودفن. ٢٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (٢٣) أي: الباقون، يفنى الخلقُ كله؛ فيبقى هو، ولذلك سمي من خلف الميت وارثًا؛ لأنه يموت ويبقى الوارث؛ وهو باقٍ وكذلك يخرج قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا}، واللّه أعلم. ٢٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) قَالَ بَعْضُهُمْ: ولقد علمنا المستقدمين من المكذبين منكم؛ ما حل بهم بالتكذيب، وقد علمنا المستأخرين من المكذبين منكم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ولقد علمنا من كان منهم ومات، وقد علمنا المستأخرين: من يكون منهم ويولد؛ ولذلك قال: {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ}: من مضى ومن بقي لم يكن بعد؛ إلى يوم القيامة. وقال الحسن: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ} وفي الخير {الْمُسْتَأْخِرِينَ} في الشّر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: في القرن الأول والآخر، لكنه بعيد. ٢٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥) الحكيم: هو الذي يضع الأشياء مواضعها. والثاني: هو الذي يجعل الأشياء مواضعها، فالأول قد يعرف الخلق وضع الأشياء مواضعها، وأما الثاني: فلا يكون ذلك إلا باللّه. وقوله: {عَلِيمٌ}: عليم بمصالح الخلق، ومالهم وما عليهم. أو عليم بوضع الأشياء مواضعها. ٢٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وقال في آية آخرى: {خَلَقَكُم مِنْ طِينٍ}، وقال: {مِنْ طِينٍ لَازِبٍ}، وقال في آية أخرى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ}، وقال: {خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ}، ذكر مرة الحمأ المسنون؛ وقيل: هو الطين الأسود المتغير، وذكر مرة التراب، ومرة الطين اللازب: وهو الملتزق، ومرة من سلالة الطين، فيشبه أن يكون على الأحوال، واختلاف الأوقات: كان في حال الأول ترابًا، وفي حال طينًا لازبًا، وفي حال حمأ مسنونًا؛ وهو الذي اسودَّ وتغير؛ لطول مكثه، وصلصالا وفخارًا. فقبل أن يكون خلقًا مركبًا الجوارح فيه والعظام - كان على هذه الأحوال الثلاثة على ما أخبر من تغير أحوال أولاده؛ حيث قال: {خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ}، ذكر فيه أحوالا ثلاثة قبل أن يخلق لحمًا وعظمًا، في حال كان نطفة، ثم صار علقة، ثم صار مضغة. فعلى ذلك يحتمل ما ذكر في آدم: من تراب، وطين، وحمأ ونحوه، إن كان على اختلاف الأحوال على ما ذكرنا. أو أن يكون على التشبيه والتمثيل، ووجه التمثيل بالطين: الذي ذكر؛ وهو أن الطين الذي يكون كالصلصال، والفخار، واللازب؛ ونحوه - هو الطين الطيب؛ الذي يكون منه البنيان، والأوانى، والقدور، وجميع أنواع المنافع. وأما الطين الذي يخبث - فإنه لا يتخذ منه شيء مما ذكرنا، ولا يتهيأ اتخاذ شيء من ذلك، فشبه خلق آدم بالطين الذي يجتمع فيه جميع أنواع المنافع، فعلى ذلك جمع في آدم جميع أنواع المنافع والخير، كالطين الطيب. ثم فيه دلالة قدرته، وسلطانه، وذكر نعمه؛ حيث أخبر أنه خلق آدم من تراب وطين؛ وما ذكر، وليس في التراب، ولا في الطين - من أثر البشرية - شيء، وكذلك ليس في النطفة التي خلق البشر منها من أثر البشرية شيء؛ ليعلم أنه قادر على إنشاء الأشياء من شيء، ومن لا شيء؛ إذ ليس فيما ذكر من الطين والتراب؛ الذي خلق منه أبا البشر من أثر البشرية فيه شيء، ولا في النطفة التي خلق منها أولاده؛ من أثر البشرية والإنسانية من اللحم، والعظم، والشعر، وغيره، وما ركب فيهم: من العقل، والعلم، والتدبير، والجوارح، وغير ذلك - شيء؛ ليعلم قدرته وسلطانه على خلق الأشياء: لا من شيء؛ وليعرفوا نعمه التي أنعمها عليهم؛ حيث أخبر أنه خلق آدم من طين لازب، وصلصال، وما ذكر، وذلك وصف الطين الطيب؛ لأن ما خبث من الطين لا يبلغ المبلغ الذي وصفه، ولا يصير إلى تلك الحال، وإن طال مكثه؛ لأنه لا ينتفع به لا من اتخاذ البنيان، والأواني، والقدور، ولا ينبت الزروع أيضًا، فيحتمل على التمثيل الذي ذكرنا لا على التحقيق، أو على التحقيق على الأحوال المختلفة. فدل أنه إنما خلقه من طين لازب؛ طاب أصله. فعلى ذلك يحتمل النطفة التي يخلق منها البشر تكون طاهرة، وهي لا تصيب شيئًا، وهي على غير الوصف الذي يخرج؛ لأنه قال: {مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ}، وقال: {مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ}. والصلصال: قَالَ بَعْضُهُمْ: هو التراب اليابس. والحمأ: الطين الأسود. والمسنون: المنتن المتغير. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الصلصال: هو الذي إذا ضربته تصوت؛ ومنه يقال: صلصلة اللجام والفرس؛ إذا كان يصلصل؛ وهو قول ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللّه عَنْهُ. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الصلصال: الطين اليابس الذي لا يصيبه النار؛ فإذا نَقَرْتَهُ صوّت، فإذا مسته النار - فهو فخار: والمسنون: المتغير الرائحة، والمسنون -أيضًا-: المصبوب، وسننت الشيء: إذا صببته صبًّا سهلا، وسنّ الماء على وجهك، وهو قول الْقُتَبِيّ. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}: الحمأ: التراب الأسود يكون في أسفل البئر، ومن هذا سمي الحمي؛ لأنه يحمي أن يرعى، ويقال: حميت الحرب، والشمس، والتنور، يحمى: إذا اشتد حره. ومسنون: أي: مخلوق. وقال الحسن: المسنون: الذي سن عليه خلقة الخلق؛ يعني أولاده على خلقته؛ أي: على خلقته خلق الخلق، وأمثال هذا. واللّه أعلم بذلك. ٢٧وقوله تعالى: (وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (٢٧) قَالَ بَعْضُهُمْ: الجان: هو إبليس. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الجان: هو أبو الجن، وإبليس: هو أبو الشياطين؛ سقوا شياطين لتمردهم في فعلهم، ذلك مقتدر من فعلهم، ألا ترى أنه ذكر من الإنس والجن شياطين؛ وهو قوله: {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} وذلك لتمردهم، والجان مقتدر عن الجن. واللّه أعلم بذلك. والسموم: قَالَ بَعْضُهُمْ: السموم: لهب النار؛ وليس له دخان؛ وهو المارج من نار، والمارج هو المنقطع منها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: من جنس النار؛ كأنه أراد لهبها، وقال: {مِنْ نَارِ السَّمُومِ}: الحارَّة التي تقتل، فإذا كان السموم، والمارج - ما ذكر بعضهم أنه لهب النار - فمن طبعه الارتفاع والعلو، فعلى ذلك ما خلق منه طبعه الارتفاع والعلو؛ وهو الجانّ الذي ذكر، والطين طبعه التسفل والانحدار إلى الأرض؛ فعلى ذلك ما خلق منه طبعه الهوى إلى الأرض، والميل إليها. والجانّ: قال أَبُو عَوْسَجَةَ: الجن: واحدُ الجان، والجمع: جان؛ سمي ذلك لاستجنانه. وقال غيره: الجن: الجماعة، والجانّ الواحد. ٢٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ (٢٩) أي أتممته {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} وقال في آية أخرى: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا}. لم يشتبه هذا على الناس، ولم يفهموا أمن قوله: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي}، {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا}، ما فهموا من نفخ الخلق، فما بالهم فهموا من قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}، و {اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ}، ونحوه - استواء الخلق؟ بل فهم نفخه من فهم نفخ الخلق أكثر من استوائه؛ لأنه أمكن صرف الاستواء إلى وجوه؛ ولا يمكن صرف النفخ فيه، لكنه اشتبه عليهم؛ لأنهم اقتدروا فعل اللّه بفعل الخلق، ولا يجب أن يقتدروا بالخلق على ما لم يقتدروا في قوله: حدود اللّه، وحكم اللّه، وعباد اللّه، وخلق اللّه، وأمثاله. وقد أخبر أنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، أو تلقين من الشيطان. وقوله: {رُوحِي} {رُوحِنَا} أي: الروح الذي به حياة الخلق؛ أي: خلق الذي يكون به حياة الخلق على ما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}. يحتمل أن يكون قوله: {خَالِقٌ بَشَرًا} ما ذكر خبر أنه سيفعل، وأمر لهم بالسجود؛ فيكون الأمر بالسجود بعد ما خلقه إياه، فهذا يدل أنه قد يجوز تقدم الأمر عن وقت الفعل. واللّه أعلم. ٣٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) ظاهر الأمر بالسجود؛ والاستثناء - الذي ذكر - يدل أن إبليس من الملائكة؛ لأن فيهم كان الأمر بالسجود، ومنهم وقع الثنيا، وقد ذكرنا اختلافهم وأقاويلهم فيما تقدم؛ مقدار ما حفظناه. قال: والأصل بأن كل ما خرج مخرج الاستثناء - فيجب أن يسقط اسم ما أجمل؛ نحو قول الرجل الآخر: لك علي عشرة إلا درهمًا، يسقط الاستثناء ما أجمل من الاسم حتى صار تسعة، وكذلك إذا قال: ألف إلا خمسين، وإذا لم يسقط ذلك الاسم - فلابد أن يكون الكل فيه مضمرًا؛ نحو قول الرجل: رأيت علماء بلدة كذا إلا فلانًا - يجب أن يضمر فيه حرف الكل، حتى يقع على كل؛ نحو أن يقول: رأيت كل علماء بلدة كذا إلا فلانًا، فعلى ذلك تخصيص العموم. وقال الحسن: في قوله: {مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} قال: الصلصال: هو الطين الحر الذي يتصلصل من صلابته ويبوسته، والحمأ الطين، والمسنون: قال: مسنون خلقته؛ فهو سنة للخلق بعده من ذريته؛ أن يخلقوا على خلقته؛ وكقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ}، يقول: استلها من بين ظَهراني الطين؛ لا من كل طين خلقه، وكذلك قال في تناسل ذريته؛ وهو قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} ليس من كل ما؛ خلقه؛ ولكن استلها من بين ظهراني الماء. وقال: الجانّ: إبليس؛ هو أبو الجن {خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ}: أي: من قبل آدم {مِنْ نَارِ السَّمُومِ}: يقول: السموم: هو اسم من أسماء جهنم، ولها أسماء كثيرة، أخبر أنه خلقه من نار السموم؛ أي: جهنم. واللّه أعلم. ٣١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) {قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} وقال في موضع آخر: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ} وقال له: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ}، وقال في موضع آخر: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}، وقال في موضع آخر {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ}، وقال في موضع آخر: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}. ذكر مثل هذا على اختلاف الألفاظ، ومعلوم أن هذه المخاطبات معه - لم تكن معه مرارًا؛ ولكن بمرة واحدة. وقال أبو بكر الأصم: ذكر اللّه تعالى قصة إبليس، وقصة الأنبياء جميعًا في مواضع على اختلاف الألفاظ؛ لأنها كذلك كانت في كتبهم، فذكرها على ما في كتبهم؛ ليعلموا أن نبي اللّه إنما عرف ذلك باللّه؛ ليدلهم على صدقه، وفيه دلالة أن اختلاف الألفاظ وتغييرها - لا يوجب اختلاف الحكم بعد ألا يغير المعنى، فهذا يدل أن الخبر إذا أُدِّي معناه على اختلاف لفظه - فإنه يجوز، وكذلك إذا قرأ بغير لسان الذي أنزل - فإنه يجوز إذا أتى بمعناه. واللّه أعلم. ٣٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) قوله: {فَاخْرُجْ مِنْهَا}: قَالَ بَعْضُهُمْ: اخرج من السماء إلى الأرض. وقَالَ بَعْضُهُمْ: اخرج من الأرض إلى جزائر البحر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: اخرج من الجنة، وأمثاله أو اخرج من صورة الملائكة إلى صورة الأبالسة، وجائز أن يقال: اخرج من كذا: أي: تحول من مكان كذا إلى مكان كذا على حقيقة الخروج، ولسنا ندري كيف كان كذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {رَجِيم} قيل: الرجيم: الملعون. وقيل: الرجيم: ما يرجم بالكواكب. ٣٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: [(وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥)] اللعنة: هي الطرد - في اللغة - والخذلان، طرد عن رحمته إلى يوم الدِّين، حتى لا يهتدي إلى دين اللّه وهداه، ثم يوم الدِّين له العذاب الدائم واللعنة القائمة. ٣٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) لعن اللعين، وطرد عن رحمته إلى يوم الدِّين؛ أي: لا تدركه الهداية؛ لأن الهداية في الدنيا إنما تدركه برحمته، والرحمة في الآخرة هي العفو عما لزمه؛ ووجب عليه. مسألة تكلموا فيها: ما الحكمة في خلق اللّه تعالى إبليس؛ مع علمه ما يكون منه: من إفساد خلقه، والدعاء إلى المعاصي، وإنظاره إلى يوم الوقت المعلوم؛ وقد علم أنه إنما ينظره؛ ليفسد عباده، فمع ما علم أنه يكون منه فما الحكمة في خلقه؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: خلق إبليس وأهل المعاصي؛ مع علمه ذلك؛ ليعلم أنه لم يخلق لمنافع نفسه، ولا لحاجة نفسه، وأن معاصيه لا تضره، ولا تدخل نقصانا في ملكه، فخلقه - مع علمه بما يكون منه - ليعلم أنه لم يخلق الخلق لمنافع نفسه ولا لحاجته، ولكن لمنافع أنفسهم ولحاجاتهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: خلق الأعداء والأولياء؛ نظرًا للأولياء؛ ليعلم أولياؤه الاختصاص الذي اختصهم به، ولو كانوا جميعًا أولياءه - لم يعرفوا فضيلة اللّه؛ واختصاصه إياهم، وهكذا النعم وإحسان اللّه، لا يعرف بنفس النعم ونفس الإحسان؛ وإنما يعرف بالبلايا والشدائد التي تحل، فعلى ذلك الأولياء: لو لم يكن الأعداء لم يعرفوا اختصاص اللّه لهم، وفضائله التي أكرمهم بها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: خلق الأعداء نظرًا للأولياء على ما ذكرنا، لكن من وجه آخر، وأصله أن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - جائز أن ينشئ أشياء فيها حكمة وسرية؛ لا يبلغها علم الخلق، ولا يدركها حكمة البشر، على ما جعل النعم الظاهرة فيها - حكمة معنى لا يبلغه علم الخلق؛ ولا حكمة البشر، وكذلك البلايا والشدائد فيها حكمة لا يبلغها علم الخلق، فعلى ذلك جائز أن خلق إبليس، وعُصاة الخلق؛ لحكمة جعل في ذلك؛ حكمة لا يبلغها علم الخلق، ولا يدركها حكمة البشر، على ما ذكرنا: من النعمة الظاهرة؛ والشدائد الظاهرة، وأصله أن اللّه تعالى خلق الخلق على علم منه أنهم يعصون؛ ويعاندون، لكن مكن لهم من الاختيار والإيثار - ما به نجاتهم وهلاكهم؛ إذا اختاروا ذلك، فإذا اختاروا ما به نجاتهم - نجوا، وإذا اختاروا ما به هلاكهم - هلكوا، فيكون هلاكهم باختيارهم، ونجاتهم باختيارهم. وأصله: ما ذكرنا في غير موضع؛ أنه أنشأهم في هذه الدنيا؛ ليمتحنهم فيها، وفي خلق ما ذكر: من إبليس؛ وغيره من الأعداء؛ ليتم لهم المحنة، وفي ترك خلق ذلك ذهاب المحنة؛ وهي دار الامتحان. ٣٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) قال بعض أهل التأويل: إلى النفخة الأولى وقيل: إلى النفخة الثانية، ونحوه. لكنا لا نعلم ذلك، وكأنه تعالى أنظره إلى الوقت المعلوم؛ ولم يبين له ذلك الوقت، ولم يطلعه عليه؛ حيث قال: {وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ. . .} أخبر أنه يرى ما لا يرون هم، وأنه يخاف اللّه، ولو كان بيّن له الوقت المعلوم - لكان لا يخاف هلاكه قبل ذلك الوقت، فهذا يدل على ما ذكرنا. واللّه أعلم. ٣٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ... (٣٩) قال الحسن: قوله: {بِمَا أَغْوَيْتَنِي}: أي: لعنتني. وهذا منه احتيال وفرار عن مذهب الاعتزال، وما يلزمهم في قوله: {أَغْوَيْتَنِي} يلزم في قوله: لعنتني؛ لأن اللعن: هو الطرد؛ فإذا طرده عن رحمته - فقد خذله، فالطرد والإغواء والإضلال سواء؛ فيلزم في اللعن ما يلزمهم في الإغواء. وقال أبو بكر الأصم: الإغواء واللعن من اللّه: شتم، لكن هذا بعيد، لا يجوز أن يضاف إلى اللّه الشتم أنه يشتم؛ لأن الشاتم والساب لآخر - في الشاهد بما يشتمه - مذموم عند الخلق؛ فلا يجوز أن يضاف إلى اللّه ما به يذم. وأصله: أن قوله: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} يحتمل أنه خلق فعل الغواية منه أو أغواه؛ لما علم أنه يختار الغواية والضلال. وقوله: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}: كأنه يقول: رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأزيدن لهم في الغواية بما أغويهم، وقد ذكرنا هذا وأمثاله فيما تقدم. فَإِنْ قِيلَ: قوله: {أَغْوَيْتَنِي} قول إبليس؛ وهو كاذب بالإضافة إليه. قيل: لو كان فيما أضاف إليه الإغواء كاذبًا لكذبه فيه، ورد عليه قوله، كما كذبه في قوله ورد عليه: أنا خير منه خلقتني من كذا وخلقته من كذا؛ حيث قال: {فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا}، فلما لم يرد عليه؛ ولم يكذبه فيما أضاف إليه حرف الإغواء دل أن إضافة الإغواء إليه، والإضلال حقيقة أو أن يكون قوله: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} إنما ذلك منه ذكر فضله وإحسانه؛ حيث أخبر أنه خلفه مما هو أفضل وأعظم مما خلق آدم؛ فيخرج ذلك منه مخرج الشكر. وأما قوله: {أَغْوَيْتَنِي} ليس على ذلك، فلا يحتمل ألا يكذبه، ولا يرد عليه قوله إذا كان كاذبًا فيه؛ لأنه فعل شر أضافه إليه، إذا لم يكن منه الإغواء؛ لذلك اختلفا، أو لو كان قول إبليس - لعنه اللّه - كذبًا فما تصنعون بقول نوح - عليه السلام - حيث قال: {إِنْ كَانَ اللّه يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ}، وقول موسى: {فَلَمََّا زَاغُوا أَزَاغَ اللّه قُلُوبَهُم}. ٣٩ثم قوله: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) يحتمل أن يكون منه عزم على ما ذكر، دون أن تفوّه بذلك، فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - عنه ما كان عزم؛ من الإغواء وغيره بالقول، وذلك جائز؛ يخبر عن العزم والقصد بالقول؛ كقوله: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّه لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} لا يحتمل أن يكون هذا القول الذي أخبر عنهم قولا منهم؛ لأنه لا أحد من المتصدقين يقول بمثل ذلك عند التصدق؛ لكنه إخبار عما قصدوا وعزموا، بالتصدق؛ فعلى ذلك يشبه أن يكون هذا من اللّه إخبارًا عما عزم إبليس وقصد؛ على غير التفوه به والقول، وهو ما ذكر {وَاللّه يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ}، أخبر أنهم كتموا فيه وأضمروا. ويحتمل أن يكون على التفوه بما ذكر، قال ذلك؛ لما قال له - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} لما شهد اللّه عليه باللعن إلى يوم الدِّين أيس - لعنه اللّه - عن الهدى؛ ٣٩فقال: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي}: أي: لعنتنى وشهدت عليَّ بذلك (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) ٤٠إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) المخلِص - بخفض اللام -: هو الذي أخلص له الاعتقاد، والعمل والوفاء، والمخلَص - بنصب اللام -: هو الذي أخلصه اللّه، وحفظه، وعصمه، واختصه بذلك. والمخلص لا يقال إلا بعد أن يكون للّه فيهم صنع، ولهم اختصاص، وفضائل اختصهم بذلك؛ برحمة اللّه وفضله. والمعتزلة يقولون: لا يستوجب أحد الاختصاص والفضيلة إلا بفعل يكون منه لا يستوجب باللّه. ويقولون: اللّه لا يغوي أحدًا لا إبليس، ولا أحدًا من أتباعه؛ فإبليس أعرف باللّه من المعتزلة؛ حيث رأوا أن اللّه لا يغوي أحدًا ولا يختص أحدًا إلا بصنع يكون منه. ٤١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله {عَلَيَّ} بمعنى إفيَ: أي: عَلَيَّ صراط مستقيم؛ يقول: هو بيدي لا بيد أحد وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحق يرجع إلى اللّه، وعليه طريقه لا يعوج على شيء. ويحتمل قوله: {عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ}: أي: علي بيانه وهو مستقيم؛ كقوله: {وَعَلَى اللّه قَصْدُ السَّبِيلِ}: أي: بيان قصد السبيل. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لما قال إبليس: {وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} قال اللّه تعالى: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} يقول: عَلَيَّ ممرّ من أغويته وتابعك؛ كقولك لآخر - إذا أوعدته -: إن طريقك عَلَيَّ. واللّه أعلم. ٤٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ... (٤٢) يحتمل قوله: {لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} أي: ليس لك عليهم حجة {إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} فإنهم يتبعونك بلا حجة ولا برهان. ويحتمل قوله: {لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}: تقهرهم وتضطرهم على ذلك إلا من اتبعك من الغاوين؛ فإنهم يتبعونك على غير قهر واضطرار؛ أي: من كان في علم اللّه أن يتبعك ويختار الغواية؛ وإن لم يكن إغواؤك إياه؛ فإن لك عليه سلطانًا. ٤٣وقوله تعالى: (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) أي: لموعد إبليس وأتباعه. ٤٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤) يحتمل الأبواب المعروفة، ويحتمل الأبواب: الموارد والجهات التي تكون لها؛ ألا ترى أنه قال: {لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} فهذا يدل أن المراد بالأبواب: الموارد والدركات - لا نفس الأبواب؛ إذ جزء مقسوم إنما يكون للدركات؛ لا يكون للأبواب نفسها. قال الحسن، والأصم: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} يعنون بالأبواب: الطبقات والدركات، لكل باب منهم جزء مقسوم: لليهود باب، وللنصارى باب، وللمجوس باب، وللذين أشركوا باب، وللمنافقين باب، ولأهل الكبائر باب وذكر أيضًا بابًا لفريق أدخلوا أهل الكبائر فيها، والصابئين، والدهرية. وعندنا أن ظاهر الآية في الكافرين؛ لأنه قال: {لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} والغاوون: هم الكافرون، وكذلك قوله: {وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ} فإذا كان كذلك؛ فالسبعة الأبواب - التي ذكر - كلها لأهل الكفر، لا يدخل أهل الكبائر فيه. ويحتمل: باب للمتجاهلة؛ وهم الذين ينكرون العالم الشاهد والغائب، لا يقرون بشيء، وباب للدهرية؛ وهم الذين ينكرون الصانع، وباب للثنوية، وهم الذين يقولون بالاثنين، وباب للذين أشركوا؛ وهم يقولون بالواحد؛ لكنهم يشركون فيه غيره؛ يعبدون الأصنام والأوثان، وباب لليهود، وباب للنصارى، وباب للمنافقين. فذلك سبعة أبواب، وليس لأهل الكبائر باب مسمى معلوم، إنما ذلك كله لأهل الكفر. ٤٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}. إن كان أهل الكبائر في قوله: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} فيكون قوله: إن المتقين الذين اتقوا الكبائر؛ وإن كان أصحاب الكبائر لم يدخلوا في قوله: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ}، فيكون قوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ} للذين اتقوا الشرك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فِي جَنَّاتٍ}. أي: في: بساتين، والبساتين: هي التي التقت بالأشجار والنخيل. والعيون قد تكون جارية في الدنيا، وقد تكون غير جارية، فأخبر في آية أخرى بأن عيون الآخرة تكون جارية؛ بقوله: {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ}. {وَعُيُونٍ}: قَالَ بَعْضُهُمْ: ذكر العيون؛ ليعلم أن مياه الجنة - ليست تكون من الثلوج والأنهار العظام - على ما تكون في الدنيا - ولكن تنبع فيها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذكر العيون؛ لأنه ينبع في بستان كل أحد عين على حدة، لا يأتي بستانه من ملك آخر، ومن بستان آخر، على ما يكون في الدنيا؛ ولكن تنبع في جنة كل أحد عين على حدة، على ما أراد اللّه، ليس أنها تتصل بالأرض؛ كما ذكر في قصّة بني إسرائيل: {فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا}، أنشأ اللّه في ذلك الحجر ما يخرج لهم على غير اتصاله بالأرض، ولكن بلطفه ينشئ فيه ماء، فعلى ذلك في الجنان التي وعد. ويشبه أن يكون ذكر هذا لما يختلف رغائب الناس في الدنيا: منهم من يرغب في العين؛ ويتلذذ بالنظر إليها، ومنهم من يرغب في النهر الجاري، فذكر مرة العيون، ومرة الأنهار؛ كقوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}، على ما ذكر مرة الخيام، والقباب، والغرف، وأنواع الفرش والبسط، والكيزان والأكواب، والجواري والغلمان، وغير ذلك على ما يرغب الناس في الدنيا: منهم من يرغب في نوع لا يرغب في نوع آخر؛ فذكر فيها كل ما يرغبون في الدنيا؛ ليبعثهم ذلك على العمل الذي به يوصل إلى ذلك. واللّه أعلم. ٤٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (٤٦) قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ}: أي: اجعلوا دخولكم فيها بسلام؛ على ما أمرهم في الدنيا أن يجعلوا الدخول في المنازل بالسلام؛ كقوله: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ. . .} الآية، وعلى ما أخبر أن الملائكة يسلمون عليهم؛ كقوله: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ}، وكقوله: (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا)، وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ}: أي: ادخلوها بسلام لا يصيبكم مكروه؛ آمنين لا ينغصهم خوف ولا حزن، على ما أخبر {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}. ٤٧وقَالَ بَعْضُهُمْ: [ .... ]. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ (٤٧) قَالَ بَعْضُهُمْ: هو صلة قوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} أي: نزعنا ما في صدورهم من غل؛ الذي كان في الدنيا بالكفر؛ فصاروا إخوانا بالإسلام الذي هداهم إليه؛ فكانوا إخوانًا، ثم قيل لهم: ادخلوا الجنة بلا غلٍّ، وهو ما قال: {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا}، قد نزع من قلوبهم الغل في الدنيا، فصاروا إخوانا فدخلوا الجنة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} وفي الآخرة إذا دخلوا الجنة وتقابلوا واتكئوا على سرر، فعند ذلك ينزع الغل من قلوبهم، والمظالم التي كانت بينهم، فإذا كان هذا فهو بين أهل الإسلام. وعلى ذلك يحتمل أن يكون كل من جفا آخر في الدنيا أن ينسى اللّه ذلك منهم في الجنة؛ لأن ذكر الجفاء ينغص النعم التي فيها، وكذلك ما يكون بين الرجل وولده من الجفاء والعقوق - يجوز أن ينسى ذلك عليهم. وعلى ذلك ما روي عن عليٍّ رضي اللّه عنه؛ قال: إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير من الذين قال اللّه: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مُتَقَابِلِينَ}: قَالَ بَعْضُهُمْ: يجعل اللّه منازلهم بعضها مقابل بعض؛ فينظر بعضهم إلى بعض، ويزور بعضهم بعضًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يأمر اللّه السرر التي هم عليها جلوس؛ ليكون بعضها مقابل بعض، إذا اشتهى بعضهم زيارة بعض، ولا يكونون مدبرين؛ ولا معرضين، بل مقبلين، يخبر عن اجتماعهم في الآخرة في الشراب، وأنواع المطاعم على ما يستحسن في الدنيا الإخوان بينهم الاجتماع على الشراب والطعام، والتلذذ، والنظر بعضهم إلى بعض، فعلى ذلك أخبر أن لهم في الآخر كذلك اجتماع في الشراب، والنظر، وأنواع التلذذ واللّه أعلم. ٤٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ (٤٨) أي: عناء ومشقة، أخبر أنه لا عناء يمسهم كما يكون في الدنيا؛ لأن في الدنيا: من أطال المقام في موضع يمل عن ذلك ويسأم، وكذلك إذا أكثر من نوع من الطعام؛ أو الشراب، أو الفاكهة - يمل عن ذلك ويسأم، ويؤذيه، ولا يوافقه، فأخبر أن أهل الجنة لا يملون ولا يؤذيهم طعامها؛ وإن أكثروا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ}. أخبر أنهم لا يخرجون منها، ولا هم يطلبون الخروج منها؛ كقوله: {لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا}؛ لأن خوف زوال النعم ينغص على صاحبها تلك النعمة، وطعمها؛ فأخبر أنهم فيها أبدًا، وتلك النعمة لهم دائمة غير زائلة عنهم واللّه أعلم. ٤٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) قَالَ بَعْضُهُمْ: {نَبِّئْ عِبَادِي} أي: أخبرهم {أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} لمن استغفرني وتاب عما ارتكب من معاصيه، {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} لمن عصاني، ولم يستغفر، ولم يتب إليه. ويحتمل غير هذا؛ وهو أن يقول: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} لئلا ييئسوا من رحمتي، ولا يقنطوا مني، ولكن يرجون رحمته وعفوه، ويخافون عذابه ونقمته، ونبئهم أيضًا أن عذابي هو العذاب الأليم لئلا يكونوا آمنين أبدًا؛ فيكون فيه أمر بأن يبشر، وأن ينذر؛ كأنه قال بشر أوليائي أني أنا الغفور الرحيم لأوليائي، وأن عذابي شديد أليم لأعدائي. وفي قوله: {نَبِّئْ عِبَادِي} فيه بشارة ونذارة: أما البشارة: فهو قوله: {أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}، وأما النذارة: فهو قوله: {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ}. ٥١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ}. أي: نبئ قومك عن ضيف إبراهيم؛ أي: نبئهم بتمام ما فيه من الزجر والموعظة؛ لأن في ذلك أخبار ما نزل بالمكذبين؛ بتكذيبهم الرسل، وهو الإهلاك، ونجاة من صدق الرسل، ففيه تمام ما يزجرهم، ويعظهم، من الترهيب والترغيب، فإن فيهم آية لرسالتك ونبوتك؛ لأنه يخبرهم على ما في كتبهم لم يشهدها هو، فيدلهم أنه إنما عرف ذلك باللّه. أو نبئهم؛ فإن ذلك ما يزجرهم عن مثل صنيعهم، وفيه ذكر نعم اللّه؛ لأنهم جاءوا بالبشارة؛ بشارة الولد، وجاءوا بإهلاك قوم مجرمين، فذلك بالذي يزجرهم عن مثله، والبشارة ترغبهم في مثل صنيع إبراهيم، فنبئهم فإن فيه ما ذكرنا. ودل قوله: {ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} أن الضيف اسم لكل نازل على آخر، طعم عنده أو لم يطعم، وكان نزله للطعام أو لا. ٥٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا ... (٥٢) أي: سلموا على ايراهيم، فرد إبراهيم عليهم السلام. وقال أبو بكر الأصم: السلام جعله اللّه أمانًا بين الخلق، وعطفًا فيما بينهم، وسببًا لإخراج الضغائن من قلوبهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: جعل اللّه السلام تحية على كل داخل على آخر، وهو ما ذكرناه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: السلام: هو اسم كل خير وبز وبركة؛ كقوله: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا}، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} أي: خائفون. قال بعض أهل التأويل: إنما خاف؛ لأنه ظن أنهم لصوص وأهل ريبة، لكن هذا لا يحتمل أن يخاف منهم؛ ويظن أنهم لصوص وأهل ريبة، وقد سلَّموا عليه وقت ما دخلوا عليه، واللصوص وأهل الريبة إذا دخلوا بيت آخر لا يسلمون عليه، لكنه إنما خافهم إذ رأى أيديهم لا تصل إليه؛ كما قال: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً}، عند ذلك خافهم؛ فلما رأى ذلك ظن إبراهيم أنهم ملائكة؛ إنما جاءوا لأمر عظيم؛ حيث لم يتناولوا مما قرب إليهم؛ وبين إبراهيم وبين المكان الذي يرتحل منه - مكان يقع لهم الحاجة إلى الطعام. ٥٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تَوْجَلْ ... (٥٣) أي: لا تخف: {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ}. وقال في آية أخرى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ}، والحلم: هو الذي ينفي عن صاحبه كل أخلاق دنية، والعلم: هو الذي يدعو صاحبه إلى كل خلق رفيع؛ ليعلم أنه اجتمع فيه جميع الخصال الرفيعة، ونفى عنه كل خلق دنيء. ٥٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ ... (٥٤) أي: أبشرتموني أن يولد لي، وأنا على الحال التي أنا عليها، أو يرد إليَّ شبابي وشباب امرأتي. {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} على الحال التي أنا عليها وامرأتي، أو يرد الشباب إلينا، وإلا لا يحتمل أن يخفى عليه قدرة اللّه هبة الولد في حال الكبر، لكنه لم ير الولد يولد في تلك الحال، فاستخبرهم أنه يولد في تلك الحال، أو يرد إلى حالة أخرى حالة الشباب. واللّه سبحانه أعلم. ٥٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (٥٥) أي: بما هو كائن لا محالة، أي: وعد كائن لا محالة، والواجب على كل من أنعم عليه بنعمة أن يشتغل بالشكر للمنعم، لا يستكشف عن الوجوه التي أنعم، والأحوال التي يكون عليها. ثم في بشارة الولد بشارتان: إحداهما: بشارة بالغلام. والثانية: بالبقاء والبلوغ إلى وقت العلم؛ حيث قالوا: {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ}، وهو ما قال في آية أخرى: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا}، ففي قوله " كهلا " دلالة وبشارة: إلى أنه يبقى إلى أن يصير كهلا، وإلا الكهل يضعف. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ}. قد ذكرنا فيما تقدم أن الأنبياء قد نهوا عن أشياء قد عصموا عنها ما لا يحتمل أن يكون منهم ما نهوا عنه؛ نحو قوله: {فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}، {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، و {مِنَ الظاِلمينَ}، (الكافرين)، وأمثاله، وذلك مما لا يتوهم كونه منهم؛ وذلك لما ذكرنا أن العصمة لا ترفع المحنة؛ لأنها لو رفعت لذهبت فائدة العصمة؛ لأنها إنما يحتاج إليها عند المحنة، وأمَّا إذا لم يكن محنة فلا حاجة تقع إليها، فعلى ذلك إبراهيم لم يكن قنط من رحمة ربه؛ أنه لا يهب له الولد في حال كبره؛ ولكن ما ذكرنا، ثم بين أنه لا يقنط من رحمة ربه إلا الضالون: أخبر أن القنوط من رحمة اللّه هو ضلال، والإياس من رحمته كفر، فعندهم تضيق رحمته حتى لا يسع فيها الكبائر، والمعتزلة يقنطون من رحمة ربهم؛ لقولهم في أصحاب الكبائر ما يقولون. ٥٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قيل: فما خبركم، وما قصتكم، وما شأنكم؟ والخطب: الشأن؛ أي: على أي أمر وشأن أرسلتم. ٥٨(قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) لم يحتمل أن يكون أول ما أخبروا إبراهيم وقالوه هذا، ولكن كان فيه ما ذكر في آية أخرى: {قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ}، {إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}، فقال إبراهيم {إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا}، يذكر هاهنا على الاختصار؛ فذلك يدل أن الخبر إذا أدى معناه يجوز، وإن لم يؤت بلفظه على ما كان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلَّا آلَ لُوطٍ (٥٩) كأن الثنيا هاهنا تكون عن الأشخاص، وأنفس أهل القرية؛ عن قوله: {مُجْرِمِينَ}؛ لأن آل لوط لم يكونوا مجرمين؛ فلا يحتمل الاستثناء من ذلك. أو لا يكون على حقيقة الثنيا، وإن كان في الخبر استثناء. ٥٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلَّا امْرَأَتَهُ ... (٦٠) أخبر أنهم يهلكون قومه، ثم استثنى له منهم، ثم امرأته من آله؛ ففيه دلالة أن الثنيا ليس برجوع؛ لأنه لو كان رجوعًا لكان يوجب الكذب في الخبر، ولكن في الثنيا بيان تحصيل المراد مما أجمل في اللفظ. وفيه دلالة أيضًا أنه يجوز أن يستثنى من الاستثناء؛ لأنه اسشى امرأته من آله؛ بقوله: إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) ٦٠إِلَّا امْرَأَتَهُ فحصلت المرأة من قومه؛ حيث استثناها من آله. وفيه أنه قد يجوز أن يستثنى من خلاف نوعه؛ لأنه استثنى آل لوط من قومه، والمجرم ليس من نوع الصالح، ثم استثنى امرأته من آله؛ وهي ليست منهم. وفيه أيضًا أن آل الرجل يكون أتباعه؛ حيث استثنى آله منهم، يدخل فيه من تبعه؛ ألا ترى أنه قال: آل فوعون، وإنما هم أتباعه، وآل موسى، وآل هارون، وآل عمران: كل يرجع إلى أتباعهم، فيدخل في قولهم: اللّهم صلِّ على مُحَمَّد وعلى آل مُحَمَّد - كل من تبعه. واللّه أعلم. وقوله: {إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ}. قال أبو بكر الأصم: {قَدَّرْنَا إِنَّهَا}: أي: أخبرنا، لكن هذا منه احتيال على تقوية مذهب الاعتزال؛ لأنهم ينكرون أن يكون أفعال العبيد مقدرة للّه مخلوقة، ففي ذلك دلالة أن أفعالهم مخلوقة للّه، مقدرة له، وأصله: أي: قدرنا بقاءها من الأصل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَمِنَ الْغَابِرِينَ}: أي: الباقين. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: الغابرون: الباقون، والغابرون: الماضون أيضًا؛ يقال: غبر يغبر غبرًا: إذا بقي، وإذا مضى أيضًا. ٦٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) أي: إنكم قوم منكرون؛ لا تعرفون بأهل هذه البلدة، وإنما قال لهم هذا؛ لأن قومه إنما يعملون ما يعملون بالغرباء؛ لا يعملون بأهل البلد؛ ألا ترى أنهم قالوا له: {أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ}، أن تضيف أحدًا منهم. واللّه أعلم. ٦٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) هذا ليس بجواب لما سبق من قوله: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ}، ولكن قالوا ذلك له، واللّه أعلم بعدما كان بين لوط وقومه مجادلات ومخاصمات من ذلك قوله: {إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ}، {وَاتَّقُوا اللّه وَلَا تُخْزُونِ}، وغير ذلك من المخاصمات. وقد كان لوط يعدهم العذاب بصنيعهم الذي كانوا يصنعون؛ ولذلك قالوا له: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}؛ فعند ذلك قالوا: {بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ}. قَالَ بَعْضُهُمْ: بما كانوا فيه يشكون؛ بما كان يعدهم من العذاب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ} أي: بما كانوا، يجادلون وينازعون، أو يقول: بل جئناك بجزاء ما كانوا يمترون. ثم امتراؤهم، يحتمل مجادلتهم إياه، ويحتمل ما كانوا عليه من الريبة. ٦٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (٦٤) قَالَ بَعْضُهُمْ: {وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ}: أي: بنجاتك؛ ونجاة أهلك وإهلاك قومك. وقال بعضهم: {وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ}: أي: بالعذاب الذي كنت تعدهم. {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} فيما نقول، يحتمل هذا: أن لم يكن هذا منهم قولا قالوه؛ لأن لوطًا يعلم أنهم صادقون فيما يقولون؛ حيث علم أنهم ملائكة اللّه، لكن أخبر عنهم على ما كانوا عليه، على غير قول كان منهم. واللّه أعلم. ٦٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥) أي: ببعض من الليل. وقَالَ بَعْضُهُمْ بسحر؛ على ما قال: {نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} وهو بعضٌ سحرًا كان أو غيره. {وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ} أي: سر من ورائهم، وهكذا الواجب على كل مولى أمر جيشٍ أن يتبع أثرهم، أو يأمر من يتبع أثرهم؛ ليلحق بهم من تخلف منهم، ويحمل المنقطع منهم؛ وليكون ذلك أحفظ لهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ} قَالَ بَعْضُهُمْ {وَلَا يَلْتَفِتْ} أي: لا يتخلف منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون. وقال في آية أخرى: {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ}. فإنها تتخلف عنكم؛ فيصيبها ما أصاب أُولَئِكَ، هذا يدل أن ليس في تقديم الكلام وتأخيره منع، ولا في تغيير اللسان ولفظه بعد أن يؤدي المعنى خطر؛ لأن قصة لوط وغيرها من القصص ذكرت وكررت على الزيادة والنقصان، وعلى اختلاف الألفاظ واللسان، فدل أن اخلاف ذلك لا يوجب تغييرًا في المعنى، ولا بأس بذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: في قوله: {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ}: أي: لا ينظر أحد وراءه، فهو - واللّه أعلم - لما لعلهم إذا نظروا وراءهم فرأوا ما حلّ بهم: من تقليب الأرض وإرسالها عليهم - لا تحتمل بنيتهم وقلوبهم؛ فيهلكون أو يصعقون، ألا ترى أن موسى مع قوته لم يحتمل اندكاك الجبل، ولكن صعق؛ فصار مدهوشا في ذلك الوقت، فهَؤُلَاءِ أضعف، وما حلّ بقومهم أشد فَبِنْيَتُهُم أحرى ألا تتحمل ذلك. واللّه أعلم. ٦٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦) قوله: {وَقَضَيْنَا} قيل: أوحينا إليه، كقوله: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ}: أي: أوحينا إليهم، وقال بعضهم: قوله: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ} أي: أنهينا إليه وأعلمناه، وهو قول الكسائي والْقُتَبِيّ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذَلِكَ الْأَمْرَ}. يحتمل قوله: ذلك الأمر هو ما ذكر: أن دابر هَؤُلَاءِ مقطوع مصبحين، هذا الذي أوحى إليه وأعلمه. ويحتمل قوله: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ} أي: أوحينا إلى مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أن ذلك الأمر الذي بلغك مقطوع مصبحين. ويحتمل الوحي إلى لوط على البشارة: أن دابر قومه مقطوع مصبحين. أي: مقطوع نسلهم، فيه إخبار عن قطع نسلهم، وفي الخبر عن قطع نسلهم إخبار عن هلاكهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ}: قَالَ بَعْضُهُمْ: أصل هَؤُلَاءِ. وقال بعضهم: دابر هَؤُلَاءِ مقطوع: أي: مستأصلون، {مُصْبِحِينَ}: ليس يريد به حين أصبحوا، وحين بدا طلوع الفجر، ولكن أراد طلوع الشمس؛ ألا ترى أنه قال: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ}، وإشراق الشمس: هو ارتفاعها وبسطها في الأرض، دلّ أنه ما ذكرنا. واللّه أعلم. والصيحة: تحتمل وجوهًا: أحدها: ذكر الصيحة؛ لسرعة هلاكهم أي: قدر صيحة. والثاني: أهلكوا بالصيحة، أو صاح أُولَئِكَ لما أهلكوا، والصيحة اسم كل عذاب. ٦٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) يحتمل: يُسَرُّون بنزول أضيافه، أو يبشر بعضهم بعضا؛ لما رأوا بهم من حسن الهيئة والمنظر، ورفعة اللباس. ٦٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (٦٨) يحتمل هذا وجهين: فلا تفضحوني في ضيفي؛ فإنهم إنما نزلوا بنا على أمن منا؛ فلا تفضحوني عندهم، وهو ما قال في آية أخرى: {وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي}، ويحتمل: لا تفضحوني في الخلق، يقولون: إن في أهل بيت لوط يُفعل بالأضياف كذا، وإنما عرف أهل بيتي عند الخلق بالصلاح والأمن فلا تفضحوني في الخلق؛ واتقوا اللّه في صنيعكم بالرجال، ولا تخزون عند الخلق؛ قيل: هو من الهوان. ٦٩ويشبه أن يكون قوله: (وَاتَّقُوا اللّه وَلَا تُخْزُونِ (٦٩) أن يكون الإخزاء: هو الفضيحة، دليله ما ذكر: أن هَؤُلَاءِ ضيفي فلا تفضحون؛ فيكون هذا تفسير ذلك. ويحتمل الهوان، وكذلئط قيل في قوله: {إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ}، أي: الهوان اليوم. ٧٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (٧٠) هذا يدل على أنه قد كان سبق النهي عن إنزال الأضياف؛ كأنهم قد نهوه عن إنزال الأضياف؛ لذلك قالوا: {أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ}. قال أبو بكر الأصم: يخرج قولهم: {أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ} مخرج الاعتذار له؛ لأنهم كانوا يعظمون الرسل - أعني: أقوام الرسل جميعًا - إذ لم يكن من الرسل، إليهم، سوى الخلاف في الدِّين والدعاء إلى دين اللّه، فهم وإن كذبوا الحجج التي أتت بها الرسل فقد كانوا يعظمونهم؛ ألا ترى أنه قال لرسولنا صلوات اللّه عليه: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ. . .} الآية، والأول أشبه. واللّه أعلم. ٧١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (٧١) وفي موضع آخر: {هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ}، وقد ذكرنا في السورة التي فيها ذكر هود. قَالَ بَعْضُهُمْ: إنما عرض عليهم نساء قومهم؛ لأنه كالأب لهم على ما ذكر أن نساء رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أمهاتهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: في ذكر البنات إخبار منه لهم بنهاية فحش صنيعهم؛ لأنه يجوز ورود الشرع على بناته لهم، ولا يجوز حل ذلك بحال. ٧٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢) قال الحسن: يقسم اللّه بما شاء من خلقه، وليس لأحد أن يقسم إلا باللّه، وإنما أقسم بحياة مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ ولم يقسم بحياة غيره وبغيره. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {لَعَمْرُكَ} كلمة تستعملها العرب في أقسامهم؛ على غير إرادة القسم بحياة أحد. ومنهم من قال: إنما ذلك على التعريض؛ وأصله: أن اللّه قد أقسم بأشياء: أقسم بالشمس، والقمر، والليل، والنهار، وأقسم بالجبال، والسماء، وغيرها من الأشياء التي تعظم عند الخلق، فرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وقد أخبره أنه أرسله رحمة للخلق وهدى - أولى أن يعظم بالقسم به؛ ألا ترى أنه قال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} فمن كان رحمة للعالم كله أولى أن يعظم من غيره؛ إذ منافعه أعتم وأكثر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {لَعَمْرُكَ}: القسم ليس بحياة الرسول؛ ولكن بدينه، وهو قول الضَّحَّاك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}. قَالَ بَعْضُهُمْ: السكرة: الشدة التي تحل بهم عند الموت، شبههم بحيرتهم التي فيهم بسكرة الموت، يعمهون أي: يترددون. وقَالَ بَعْضُهُمْ: في ضلالتهم وكفرهم، يعمهون: يتحيرون. ٧٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) قد ذكرنا في غير موضع اختلافهم في الصيحة: قَالَ بَعْضُهُمْ: الصيحة هي العذاب نفسه؛ أي: أخذهم العذاب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: سمي {الصَّيْحَةُ} لسرعة نزوله بهم، وأخذه إياهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مُشْرِقِينَ}. قَالَ بَعْضُهُمْ: أشرقت الشمس: إذا ارتفعت وأنارت، وشرقت: إذا بزغت، وهو قول الكسائى. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: {مُشْرِقِينَ}: أي: إذا أشرقوا، أي: إذا طلعت الشمس عليهم، وقد ذكرنا هذا. ٧٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤) قد ذكرناه في السورة ألتي فيها ذكر هود. ٧٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥) قَالَ بَعْضُهُمْ: {لِلْمُتَوَسِّمِينَ}: للمتفرسين؛ من الفراسة، وروي في ذلك خبر عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ يرويه أبو سعيد الخدري؛ قال: " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور اللّه " قال: ثم قرأ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ}. فإن ثبت الخبر، وثبت تلاوة هذه الآية على إثر ما ذكر فهو هو.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: {لِلْمُتَوَسِّمِينَ}: المعتبرين. وقيل: المتفكرين. وقيل: الناظرين. ذكروا أنه آية للمعتبرين، ولكن لم يبينوا من أي وجه يكون آية لمن ذكر؛ فيحتمل وجوهًا: أحدها: آية للمتوسمين: للمعتبرين لرسالته؛ لأنه ذكر قصة إبراهيم ولوط - على ما كان - وهو لم يشهدها؛ فذلك يدل على صدقه وآية لرسالته. والثاني: آية لصدق خبر إبراهيم، وصدق لوط؛ لأنهم كانوا يخبرون قومهم أن العذاب ينزل بهم، وغير ذلك من الوعيد، فيدل ذلك على صدق خبر الأنبياء عليهم السلام في كل ما يخبرون. والثالث: في هلاك من أهلك منهم؛ ونجاة من أنجى منهم - آية لمن ذكر، من هلك منهم هلك بالتكذيب، ومن نجا منهم نجا بالتصديق؛ فيكون لهم آية. والرابع: قد بقي من آثار من هلك منهم آية؛ فيكون هلاكهم آية لمن ذكر. وأصل هذا أن اللّه ذكر: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ}: أي: المؤمنين المتقين، والاعتبار والتفكر للمؤمنين؛ لأنهم هم المنتفعون. قال: والمتوسم: هو الذي يعمل بعلامة، وكذلك المتفرس: هو الذي يعمل بعلامة في غيره، ينظر في غيره: بأن هلاكه بمَ كان؟ فينزجر عن صنيعه ويتعظ به، وهو كالمتفقه الذي يعمل بالمعنى. واللّه أعلم. ٧٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) أي: طريق دائم لا يزول، يعلم أن في ذلك لآية للمؤمنين؛ وهو ما ذكرنا أن الآية تكون للمؤمن. واللّه أعلم. ٧٧ذكر في الآية الأولى: (الآيات) لأنه أنبأ إبراهيم وقصته، وقصة قوم لوط؛ ففي ذلك آيات لمن ذكر. وذكر في هذه الآية: (لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧)؛ لأنه ذكر شيئًا واحدًا؛ وهو السبيل. ٧٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ}. أي: وقد كان أصحاب الأيكة لظالمين. والأيكة: ذكر أنها الغيضة من الشجر؛ وهي ذات آجام وشجر، كانوا فيها فبعث إليهم شعيب وهم في الغيضة. وذكر أبعض، أهل التأويل: أن شعيبًا بعث إلى قومين: إلى أهل غيضة مرة، وإلى أهل مدين مرة؛ على ما ذكر: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا}، وقال في آية أخرى: (كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (١٧٧). وقوله: {وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ} سمى اللّه تعالى الكفرة بأسماء مختلفة: سماهم مرة ظالمين، ومرة فاسقين، ومرة مشركين، واسم الظلم قد يقع فيما دون الكفر والشرك، وكذلك اسم الفسق يقع فيما دون الكفر والشرك، ثم الكفر لم يقبح لاسم الكفر، وكذلك الإيمان لم يحسن لاسم الإيمان؛ إذ ما من مؤمن إلا وهو يكفر بأشياء ويؤمن بأشياء؛ قال اللّه تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللّه}، المؤمن يكفر بالطاغوت وبالأصنام؛ التي كان أهل الكفر عبدوها، وكذلك الكافر يؤمن بأشياء ويكفر بأشياء: يؤمن بالأصنام ويكفر باللّه؛ فثبت أن الكفر لاسم الكفر - ليس بقبيح، وكذلك الإيمان لاسم الإيمان - ليس بحسن، ولكن إنما حسن؛ لأنه إيمان باللّه، والكفر إنما قبح؛ لأنه كفر باللّه. وأما الظلم: فهو لاسم الظلم قبيح، وكذلك الفسق لاسم الفسق قبيح؛ فسماهم بأسماء هي لاسمها قبيحة، لكن الإيمان المطلق هو الإيمان باللّه، والكفر المطلق هو الكفر باللّه، وإن كان يسمى بدون اللّه كفرًا وإيمانًا؛ كما قلنا: الكتاب المطلق كتاب اللّه، والدِّين المطلق دين اللّه؛ وإن كان اسم الكتاب والدِّين يقع على ما دونه. ٧٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (٧٩) ذكر الانتقام منهم؛ ولم يذكر هاهنا بِمَ كان الانتقام، وقال في آية أخرى: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ}، وقال في آية أخرى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ}، وقال في آية أخرى: {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ}، فيحتمل أن يكون الرجفة لقوم؛ والصيحة لقوم؛ وعذاب يوم الظلة لقوم منهم، أو كان كله واحدًا؛ فسماها بأسماء مختلفة، وليس لنا إلى معرفة ذلك العذاب حاجة - سوى ما عرف أنهم إنما أهلكوا أو عذبوا بالتكذيب؛ ليكون ذلك آية لمن بعدهم؛ ليحذروا مثل صنيعهم. واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} للرسل؛ كما انتقمنا من قوم لوط للوط؛ بسوء صنيعهم، وسوء معاملتهم إياه، فعلى ذلك ننتقم من أهل مكة لمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ بسوء صنيعهم ومعاملتهم إياه، وقد كان ما نزل بأصحاب الأيكة كفاية مزجر لهم، وعظة لا يحتاج إلى ذكر ما نزل بقوم لوط. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنَّهُمَا} قَالَ بَعْضُهُمْ: يعني قوم لوط، وقوم شعيب. وقوله: {لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ}: أي: طريق مستبين؛ أي: بين هلاكهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ}، {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} - واحد؛ أي: بين واضح آثارهم من سلك ذلك الطريق؛ أو دخل قراهم ومكانهم - لاستبان له آثار هلاكهم؛ وما حل بهم. وقوله: {لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ}: أي: طريق يُؤتم، ويقصد؛ بين واضح. ٨٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) قال أهل التأويل: أصحاب الحجر: هم قومُ صالحٍ ثمودُ، وقالوا: الحجر: هو اسم واد. وقيل: هو اسم القرية على شط الوادي؛ نسبوا إليه. وقوله: {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ} قال أهل التأويل: يعني بالمرسلين أولم يذكر؛ صالحًا وحده، لكن ذكر المرسلين؛ لأن صالحًا كان يدعوهم إلى ما كان دعا سائر الرسل، فإذا كذبوه فكأن قد كذبوا الرسل جميعًا؛ إذ كل رسول كان يدعو إلى الإيمان بالرسل جميعًا، فإذا كذب واحد منهم - فقد كذب الكل. واللّه أعلم. ٨١وقوله: (وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (٨١) تحتمل الآيات: آيات وحدانية اللّه وحججه، ويحتمل: جميع الآيات: آيات الوحدانية، وحججه، وآيات رسالتهم. {مُعْرِضِينَ}: أي: لم يقبلوها؛ فإذا لم يقبلوها - فقد أعرضوا عنها؛ أو أعرضوا عنها، أي: كذبوها. ٨٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (٨٢) يحتمل آمنين عما وعدهم صالح من عذاب اللّه؛ حيث قالوا: {يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}، كانوا آمنين عن ذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كانوا آمنين عن أن يقع عليهم ما نحتوا لحذاقتهم، وهو ما قال: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ}، على تأويل بعضهم: حاذقين. ٨٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) يحتمل: أخذتهم ظاهرة بالنهار ٨٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤) يحتمل قوله: {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ}: أي: ما كانوا ينحتون، لا يغنيهم من عذاب اللّه من شيء. ويحتمل: فما أغنى عنهم ما عملوا من عبادة الأصنام والأوثان؛ حيث قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى}، ولقولهم: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّه} أي: لم يغنهم ما عبدوا من عذاب اللّه. أو يقول: ما أغنى عنهم ما متعوا وأنعموا في هذه الدنيا؛ في دفع عذاب اللّه عن أنفسهم؛ كقوله: {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ. . .} الآية، أي: وإن أعطوا ما ذكر؛ من السمع، والبصر، والأفئدة، إذا لم ينظروا، ولم يتفكروا في آيات اللّه فجحدوها. ٨٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ}. يحتمل {بِالْحَقِّ}: الحق الذي جعل لنفسه على أهلها، والحق الذي لبعض على بعض، والحق: هو اسم كل محمود مختار من القول والفعل، والباطل: اسم كل مذموم من القول والفعل. قَالَ بَعْضُهُمْ: تأويله: وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا شهودًا للّه بالحق على أهلها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِلَّا بِالْحَقِّ}: أي: لم يخلقهما لغير شيء؛ ولكن خلقهما للمحنة؛ يمتحنهم بالعبادة فيها، وإلى هذا ذهب الحسن. وقيل: خلقهما وما بينهما لأمر كائن؛ أي: لعاقبة: للثواب أو الجزاء، لم يخلقهم للفناء خاصة؛ ولكن للعاقبة؛ لأن خلق الشيء للفناء خاصة عبث؛ وهو ما قال: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}، أخبر أن خلقهم لا للرجوع إليه ولا للعاقبة - عبث، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم. وجائز أن يكون قوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ} على الاحتجاج على أُولَئِكَ لإنكارهم الساعة، لوجهين: أحدهما: ما ذكرنا أنه لو لم تكن الساعة حصل خلقهما وما بينهما للفناء خاصة؛ وخلقُ الشيء للفناء خاصةً عبث باطل؛ كبناء البناء للنقض خاصة لا لعاقبة تقصد - عبث. والثاني: أنه يكون في ذلك التسوية بين الأعداء والأولياء، وفي الحكمة التفريق بينهما، وما قال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا. . .} الآية. لم يكن ظنهم أنه خلقهما باطلا؛ ولكن لما أنكروا البعث صار في ظنهم خلقهما باطلا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}. قَالَ بَعْضُهُمْ: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} أي: أعرض عنهم، ولا تكافئهم بما آذوك بألسنتهم وفعلهم {وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ} فإني أكافئهم عنك على أذاهم إياك وصنيعهم يومئذ. والصفح الجميل: هو ما لا نقض فيه ولا منة في العُرف؛ أي: اصفح الصفح ما يوصف فيه بتمام الأخلاق، وما لا نقض فيه ولا منة يحتمل الصفح الجميل: هو أن يصفح ولا يمنّ عليهم، كأنه أمره أن يصفح صفحًا لا منة فيه. قوله تعالى: {وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ} فتجزى أنت على صفحك الجميل؛ وهم على أذاك. واللّه أعلم. ٨٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (٨٦) هذا يحتمل وجهين: أحدهما: أنه على علم بما يكون منهم من المعصية والخلاف خلقهم، لا خلقهم عن غفلة وجهل بذلك؛ ليعلم أنه لم يخلق الخلق لحاجة نفسه ولا لمنفعة نفسه، ولكن خلقهم ليمتحنهم بما أمرهم به ونهاهم، ولما يرجع إلى منافعهم وحوائجهم. والثاني: إن ربك هو الخلاق لخلقه؛ العليم بمصالحهم بأن الصفح الجميل لهم، ذلك أصلح في دينهم من المكافأة. واللّه أعلم. ٨٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) اختلف في قوله: {سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي}: قَالَ بَعْضُهُمْ: {سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي}: المثاني: هو القرآن كله؛ كقوله تعالى: {اللّه نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ}. وقيل: سمي مثانيًا لترديد الأمثال فيه والعبر والأنباء؛ فإن كان على هذا فيكون قوله: {سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي}: أي: سبعًا من القرآن العظيم. ثم يحتمل السبع الطوال؛ على ما ذكر بعض أهل التأويل؛ كأنه قال: آتيناك سبعًا من القرآن العظيم. ويحتمل: {سَبْعًا} يعني فاتحة الكتاب من القرآن؛ أي: آتيناك فاتحة الكتاب من القرآن. وقال قوم: يقولون: سبع المثاني: فاتحة الكتاب، ويروون على ذلك حديثًا عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مروي عن أبي هريرة رَضِيَ اللّه عَنْهُ قال: قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " الحمدُ للّه أم القرآن وأم الكتاب، والسبعُ المثاني " وعن أُبَي رَضِيَ اللّه عَنْهُ قال: قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " ما أنزل اللّه في التوراة والإنجيل مثل أم القرآن؛ وهي السبع المثاني، وهي مقسومة بيني وبين عبدي؛ ولعبدي ما سأل ". ومنهم من يقول: المثاني: القرآن كله؛ يذهب إلى ما ذكرنا من الآية؛ وبما يروى عن أبي هريرة أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " ما أنزلت في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور والقرآن مثلُها - يعني أمّ القرآن - وإنها سبع من المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيت " ذكروا أنها سبع من المثاني؛ فإن كان سبع المثاني فاتحة الكتاب، يصير كأنه قال: ولقد آتيناك سبعًا؛ وهي المثانى، وإن كان سبعًا من المثاني هي السبع الطوال يكون هكذا: أي: آتيناك سبعًا؛ وهو المثاني. وروي أيضًا عن نبي اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وقال: " آتاني السبع الطوال مكان التوراة والمثاني مكان الإنجيل، وفضلني ربي بالمفصل " ثم إن ثبت ما روي في الخبر أن سبع المثاني فاتحة الكتاب وإلا الكفّ والإمساك عن ذلك أوْلى؛ لأنه لا حاجة بنا إلى معرفة ذلك، وليس يكون تسميتنا إياها سوى الشهادة، وما خرج مخرج الشهادة - من غير حصول النفع لنا - فالكف عنه والإمساك أولى. ومنهم من يقول: هن المفضل. ومن قال: المثاني فاتحةُ الكتاب - قال: لأنها تثنى في كل ركعة أو ما جعل فيها مكررة معادة؛ لأن كل حرف منها يؤدي معنى حرف آخر؛ فسمي مثاني بذلك. ومن قال: المثاني: هو القرآن؛ قال: لما ذكرنا؛ لأن أمثاله، وأنباءه، وغيره معادة مرددة. ومن قال: المثاني السبع الطوال - فقال: لأنه يثنى فيها حدود القرآن، وفرائضه، وعامة أحكامه. واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}. سماه عظيمًا، وسماه مجيدًا، وحكيمًا؛ وهو اسم الفاعلين، ولا عمل له ولا فعل في الحقيقة؛ لكنه يخرج - واللّه أعلم - على وجوه: يحتمل: سمَّاه عظيمًا مجيدًا؛ لما عظمه وشرفه ومجده، فهو عظيم مجيد حكيم: أي: محكم، الفعيل بمعنى المفعول، وذلك جائز في اللغة. أو سماه بذلك لأن من تمسك به؛ وعمل به؛ يصير عظيمًا مجيدًا، حكيمًا، أو سماه عظيمًا مجيدًا حكيمًا: أي: جاء من عند عظيم هو مجيد حكيم، وأصل الحكيم: هو المصيب، الواضع كل شيء موضعه. واللّه أعلم. ٨٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) يحتمل المراد بقوله: {عَينَيكَ} نفس العين. ثم هو يحتمل وجهين: أحدهما: نهى رسوله أن ينظر إلى مامتع أُولَئِكَ مثل نظرهم؛ لأنهم ظنوا أنهم إنما متعوا هذه الأموال في الدنيا لخطرهم وقدرهم عند اللّه، وعلى ذلك قالوا: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} وقال: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي. . .} الآية، ونحوه، ظنوا أنهم إنما متعوا في هذه الدنيا؛ لخطرهم وقدرهم عند اللّه؛ لذلك قالوا ما قالوا؛ فنهاه أن ينظر إلى ذلك بعين الذين نظروا هم إليه؛ ولكن بالاعتبار. والثاني: نهاه أن ينظر إلى ذلك نظر الاستكبار والتجبر على المؤمنين، والاستهزاء بهم على ما نظروا هم؛ لأنهم بما متعوا من أنواع المال استكبروا على الناس، واستهزءوا بهم؛ إذ البصر قد يقع أعلى ما ذكر، من غير تكلف؛ فيصير كأنه نهاه عن الرغبة والاختيار فيما متعوا فيه؛ لأن ما متعوا به هو ما ذكر، {وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا}، وقال في آية أخرى {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ}. وقوله: {لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} فيما متعوا فإنهم إنما متعوا لما ذكر، ويحتمل النهي عن مدّ العين لا العين نفسه ولكن نفسه؛ كأنه قال: لا تمنَّيَن نفسك فيما متعوا هم ولا ترغبنها في ذلك؛ فإنه ليس يوسع ذلك عليهم لخطرهم وقدرهم؛ ولكن ليعلم أن ليس لذلك خطر عند اللّه وقدر؛ حيث أعطى من افترى على اللّه، وجحد نعمه وفضْله. وفي الآية تفضيل الفقر على الغنى؛ لأنه نهى رسوله أن يمد عينيه إلى ما متعوا، ومعلوم أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا مدّ إلى ذلك ليس يمد للدنيا ولا لشهواته؛ ولكن يستعين به في أمر جهاد عدوه، ويعين به أصحابه في سبيل الخيرات، ثم نهاه مع ذلك عنه؛ دل أن الأخير والأفضل ما اختاره من الفقر، وقصور ذات يده. واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَزْوَاجًا مِنْهُمْ}. أي: أصنافًا من الأموال، وألوانًا من النعم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {أَزْوَاجًا مِنْهُمْ}: أي: الأغنياء منهم وأشباهه؛ فإن كان قوله: {أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} هو أصناف الأموال - فهو على التقديم والتأخير، كأنه قال: لا تمدن عينيك إلى ما متعنا منهم أزواجًا. وإن كان أزواجًا منهم هو أصناف الناس فهو على النظم الذي جرى به التنزيل؛ أي: لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به قومًا منهم. وفي قوله: [{لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ}] دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأنهم يقولون: إن اللّه لا يعطى أحدًا شيئًا إلا ما هو أصلح له في الدِّين، ولو كان ما متع هَؤُلَاءِ أصلح لهم في الدِّين - لم ينه رسوله عن مد عينيه إليه، دلّ أنه قد يعطي ما ليس بأصلح في الدِّين، وكذلك قوله: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا}، أخبر أنه إنما يملى لهم ليزدادوا إثمًا، وهم يقولون: يملي لهم ليزدادوا خيرًا. وكذلك قوله: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ. . .} الآية، هذه الآيات كلها تنقض عليهم قولهم، وقد ذكرنا هذا في غير موضع فيما تقدم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ}. يحتمل النهي نفسه نهاه أن يحزن عليهم؛ إشفاقًا عليهم؛ بل أمره أن يغلظ عليهم؛ كقوله: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}، وعلى هذا يخرج قوله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} أي: ارفق بهم، ولِنْ عليهم، واشدد على أُولَئِكَ، واغلظ عليهم؛ وهو ما وصفهم: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}، {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}، أخبر أنهم أهل شدة على الكفار وأهل غلظة، رحماء بينهم، وأهل ذلة على المؤمنين، وأهل شدة عليهم؛ أي: على الكفار، فعلى ذلك هذا. ويحتمل أن ليس على النهي؛ ولكن على التخفيف والتسلي، ودفع الحزن عن نفسه؛ لأنه كان يحزن لكفرهم باللّه وتركهم الإيمان؛ حتى كادت نفسه تتلف لذلك؛ كقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} الآية، وقوله: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ} الآية، وأمثاله. ويحتمل أيضًا وجهًا آخر: وهو أنه كان يحزن عليهم، ويضيق صدره؛ لما مكروا به وكادوه؛ كقوله: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ}، فإني أكافئهم. واللّه أعلم. ٨٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩) يحتمل: أنا النذير على معاصيه، المبين على طاعاته، أو النذير على العصاة من عذاب اللّه، المبين لأموره ونواهيه. واللّه أعلم. ٩٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) قال الحسن: الكتب كلها قرآن؛ يعني كتب اللّه اقتسموها وجعلوها عضين؛ أي: فرقوها بالتحريف والتبديل؛ فما وافقهم أخذوه، ومالم يوافقهم غيَّروه وبدلوه؛ كقوله: {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} ونحوه، فذلك اقتسامهم وتعضيتهم على قوله، وكقوله: {قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا}، وقوله: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا}، ونحوه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: اقتسامهم: وهو أن نفرًا من قريش كانوا اقتسموا عقار مكة؛ ليصدّوا الناس عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فيقول طائفة منهم - إذا سئلوا عنه -: هو كاهن، وطائفة أخرى: هو شاعر، ساحر، مجنون، ونحوه. ٩١الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) وعضين: قولهم: هو: سحر، شعر، كهانة، أساطير الأولين، افترى على اللّه كذبًا، وأمثال ما قالوا. فذلك اقتسامهم وعضتهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو على التقديم: أي: آتيناك المثاني والقرآن العظيم؛ أنزلناه عليك كما أنزلنا التوراة والإنجيل على اليهود والنصارى؛ فهم المقتسمون كتاب اللّه؛ فآمنوا ببعض وكفروا ببعض. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: يقال: عضيت الجزور: أي: قسمتها عضوًا عضوًا. وقال غيره: هو من العضة: وهو السحر؛ بلسان قريش؛ يقال للساحر عاض. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: المقتسمون: قوم تحالفوا على عضة النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ وأن يذيعوا ذلك بكل طريق، ويخبروا به النزاع إليهم. وعضين: أي: فرقوه وعضوه. وقيل: فرقوا القول فيه، وهو ما ذكرنا. واللّه أعلم. ٩٢وقوله: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) قوله: {فَوَرَبِّكَ}: قيل: قسم أقسم به تعالى. {لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}: قَالَ بَعْضُهُمْ: الخلائق كلها؛ كقوله: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ}، أخبر أنه يسألهم جميعًا: الرسل عن تبليغ الرسالة، والذين أرسل إليهم عن الإجابة لهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}: هَؤُلَاءِ الذين سبق ذكرهم؛ المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين، والذين استهزءوا برسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه؛ يسألهم عن حجج ما فعلوا، والمعنى الذي حملهم على سوء معاملة رسوله وكتابه، لأي: شيء نسبتم رسولي وكتابي إلى السحر، والكذب، والكهانة، والافتراء على اللّه؟ لا يسألون ما فعلتم؟ وأي شيء عملتم؛ لأن ذلك يكون مكتوبًا في كتبهم؛ يقرءونه؛ كقوله: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}، وهو وعيد شديد في نهاية الوعيد والشدة؛ لأنه وعيد مقرون بالقسم، وكل وعيد قرن بالقسم فهو في غاية الشدة؛ إذ لو جاءنا ذلك الوعيد من ملك من ملوك البشر يجب أن يخاف؛ فكيف من ربنا؟! ٩٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) قَالَ بَعْضُهُمْ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ}: أي: استقم كما تؤمر؛ كقوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}. فهو في كل ما أمر به. وقَالَ بَعْضُهُمْ: اصدع: أي: امض بما تؤمر من تبليغ الرسالة. {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}. أي: أعرض عن مكافأتهم؛ ومعناه - واللّه أعلم - امض على ما تؤمر؛ من تبليغ الرسالة إليهم ولا تخفهم، ولا تهبهم، ولا يمنعنك شيء عن تبليغ الرسالة؛ الخوف، ولا القرابة، ولا شيء من ذلك، ولكن امض على ما تؤمر؛ وهو كما قال: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا}، وقال: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للّه وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} أي: لا يمنعكم عن القول بالحق والعدل بغضكم إياهم، ولا قرابتكم التي فيما بينكم، فعلى ذلك قوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ}: أي: امض على ما أمرت من تبليغ الرسالة، ولا يمنعنك عن ذلك: الخوف، والوعيد، والقرابة التي فيما بينك وبينهم. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ}: أي: أظهر ذلك، وأصله: الفرق والفتح؛ يريد: اصدع الباطل بحقك؛ حتى يأتيك الموقن به؛ وهو الموت. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: اصدع: أي: امض على ما تؤمر، وصدعت: أي: مضيت؛ وذلك من المضي، وأصل هذا كله: الشق، ويقال: تصدعوا: أي: تفرقوا. واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} أي: أعرض عن مكافأتهم؛ فأنا أكافئهم عنك على ما آذوك. وقال بعض أهل التأويل: قوله: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} وهو منسوخ بآية السيف؛ لكن على الوجه الذي ذكرنا ليس بمنسوخ، ويحتمل: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}؛ إن كان أراد به القتال والدعاء إلى التوحيد فهو في وقت دون وقت أو في قوم خاص علم اللّه أنهم لا يجيبونه ولا يؤمنون به أيئس رسوله عن إيمانهم فقال: أعرض عن هَؤُلَاءِ ولا تشتغل بهم ولا تدعهم فإنهم لا يؤمنون ولكن ادع قومًا آخرين واللّه أعلم. ٩٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ}: الكفرة جميعًا؛ فمنعناهم عن أن يصلوا إليك؛ على ما قصدوا إليك من إهلاكك، وغيره؛ كقوله: " نصرت بالرعب مسيرة شهرين ". وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} والذين كانوا على الطرق والمراصد؛ ليصدوا الناس عن سبيل اللّه؛ على ما ذكر في القصة؛ العدد الذي ذكر سبعة أو خمسة؛ كفاه اللّه بأن أهلكهم بما ذكر أهل التأويل: أن الذين استهزءوا به هلكوا جميعًا بعقوبات مختلفة. ٩٦وقوله تعالى: (الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّه إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦) قوله: {يَجْعَلُونَ} وليس على الجعل؛ لأنهم لو جعلوا لكان؛ لأن كل مجعول كائن موجود؛ ولكن قوله: {يَجْعَلُونَ}: أي: يزعمون أن مع اللّه إلهًا آخر؛ إما في التسمية أو في العبادة، وكذلك قوله: {جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} هم لا يقدرون على أن يجعلوه عضين، ولكن زعموا أنه كذا؛ لأن اللّه وكل حفظه إلى نفسه؛ بقوله: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وقال: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ}، أخبر أنه يحفظه حتى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ فلو قدروا على جعله عضين - لكان قد أتى الباطل من بين يديه، دل أنه على القول الذي قالوا؛ وهو على المجاز كقوله: {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ}، وقوله: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا}، فهو على المجاز، على ما عندهم، إما بحق التسمية لها أنها آلهة، وإما بصرف العبادة إليها، ظاهر هذا أن المستهزئين الذين ذكرهم أنه كفاه عنهم هم الكفرة جميعًا؛ لكن يحتمل في الذين ذكرهم أهل التأويل كانوا على مراصد مكة، أضاف ذلك إليهم ونسب؛ لأنهم هم الذين أمروا غيرهم أن يجعلوا دونه إلهًا؛ فكأنهم فعلوا ذلك، وهم قالوا. وقوله: {كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} الذين فعلوا به ما فعلوا ممن تقدم ذكرهم؛ فيكون قوله: {الَّذِينَ يَجْعَلُونَ} على إضمار (كان)؛ أي: الذين كانوا يجعلون مع اللّه إلهًا آخر. وإن كان في الذين يكونون من بعد - فهو على ظاهر ما ذكر؛ يجعلون على المستقبل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}. أي: سوف يعلمون ما عملوا من الاقتسام، والعضة، والاستهزاء برسول اللّه وأصحابه، إذا نزل العذاب بهم. واللّه أعلم. ٩٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (٩٧) وما قالوا؛ من الاقتسام، والعضة، والاستهزاء به، وأنواع الأذى الذي كان منهم برسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ أي: نعلم ذلك، وهو محفوظ عندنا، نجزيهم على ذلك فلا يضيقن صدرك؛ لذلك فهو على التصبير على الأذى، والتسلي عن ذلك، وترك المكافأة لهم، واللّه أعلم. وكان يضيق صدره؛ مرة لتركهم الإجابة له، ومرة للأذى باللسان. والثاني: على علم منا بما يكون منهم، ومن ضيق صدرك بذلك، لكن أنشأناهم ومكناهم على علم منا بذلك؛ امتحانًا منا إياك بذلك وإياهم. ٩٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) قال بعض أهل التأويل: أي: صل بأمر ربك وكن من الساجدين؛ أي: من المصلين. وقوله: {فَسَبِّحْ}: هو أمر؛ فإذا فعل ذلك كان بأمر ربه؛ فلا معنى لذكر الأمر من بعد قوله: {بِحَمْدِ رَبِّكَ} إن كان الحمد هو الأمر؛ على ما قال بعض أهل التأويل. ويحتمل وجهًا آخر: وهو أن قوله: {فَسَبِّحْ} أي: نزه اللّه عن جميع ما قالت الملحدة فيه؛ إذ التسبيح هو التنزيه في اللغة {بِحَمْدِ رَبِّكَ}؛ أي: بثناء ربك؛ أي: نزهه عن ذلك كله بثناء تثنيه عليه، وكن من الساجدين؛ أي: من الخاضعين؛ إذ السجود هو الخضوع. أو أن يكون أمره إياه بالتسبيح على التسلي، وتوسيع صدره بالذي يكون منهم؛ أي: فسبح ربك مكان ذلك. ٩٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ ... (٩٩) يحتمل التوحيد؛ أي: وحِّد ربك، وكذلك قال ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللّه عَنْهُ: كل عبادة ذكرت في القرآن - فهو توحيد يأمره باعتقاد الإخلاص له في كل أمر، ويحتمل العبادة نفسها؛ يأمره بالعبادة له؛ شكراً له؛ على ما روي في الخبر عن نبي اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أنه صلى حتى تورمت ساقاه؛ فقيل له: ألم يغفر اللّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال: " بلى، أفلا أكون عبدًا شكورًا؟! ". وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}: أي: ما تيقنت به؛ وهو الموقن به. وكذلك قوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ}، أي: من يكفر بالمؤمن به فقد حبط عمله؛ لأن الإيمان لا يكفر به، فعلى ذلك اليقين لا يأتيه؛ ولكن يأتيه الموقن به. وكذلك ما ذكر: الصلاة أمر اللّه؛ أي: بأمر اللّه، وهو المأمور به؛ لأن الصلاة لا تكون أمر اللّه، لكن بأمر اللّه، وكذلك ما يجيء من هذا النحو. ويحتمل قوله: {حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} فيهم؛ وهو ما وعد من العذاب فيهم؛ أي: يتيقنون بذلك واللّه أعلم. * * * |
﴿ ٠ ﴾