سُورَةُ النَّحْلِمكية إلا ثلاث آيات بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ١قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَتَى أَمْرُ اللّه فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ}. في قوله: {أَتَى أَمْرُ اللّه فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} وجهان: أحدهما: أن يعرف قوله: أمر اللّه، ما أراد به وما الذي استعجلوه، وإنما استعجلوه الساعة والقيامة؛ بقوله: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَ. . .} الآية، ونحوه من الآيات. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أمر اللّه هو عذابه، وكذلك أجميع، ما ذكر في جميع القرآن من أمر اللّه؛ المعنى منه عذابه؛ كقوله: {جَاءَ أَمْرُ اللّه}، أي: عذابه، ونحوه. ويحتمل قوله: {أَتَى أَمْرُ اللّه}: رسوله الذي كان يستنصر به أهل الكتاب على المشركين؛ كقوله: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا. . .} الآية، وكان يتمنى مشركوا العرب أن يكون لهم رسول كسائر الكفرة؛ كقوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللّه جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ. . .} الآية، {فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} ذهاب ما كنتم تتمنون بمحمدٍ - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أو شيء آخر. واللّه أعلم. ثم إنه لم يرد بقوله: {أَتَى أَمْرُ اللّه} وقوعه؛ ولكن قربه؛ أي: قرب آثار أمر اللّه؛ كما يقال: أتاك الخبر، وأتاك أمر كذا؛ على إرادة القرب؛ لا على الوقوع. وجائز أن يكون قوله: {أَتَى أَمْرُ اللّه} أي: ظهر أعلام أمر اللّه وآثاره، ليس على إتيان أمره من مكان إلى مكان؛ كقوله: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ}، وآثاره: هو رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه كان به يختم النبوة؛ فهو كان أعلام الساعة على ما روي عنه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فقال: " بعثت أنا والساعة كهاتين " أشار إلى أصبعين لقربها منه. واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ}. لأنه لا منفعة لكم فيها فلماذا تستعجلونه؟ كقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ}، إذ لا منفعة لهم فيه، بل فيه ضرر عليهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ). سبحان: هو كلمة إجلال اللّه يجريها على ألسن أوليائه على تنزيه ما قالت الملحدة فيه، وتعاليه عن جميع ما نسبوا إليه من الولد، والصاحبة، والشريك، وغيره من الأشباه والأضداد، تعالى عن ذلك. سُبْحَانَ اللّه: حرف يذكر على أثر شيء مستبعد، أو مستعجب، أو مستعظم؛ جوابًا لذلك، وهو ما ذكره على أثر وصف أو قول لا يليق باللّه من الولد، والشريك، ونحوه؛ فقال: {سُبْحَانَ اللّه} على التنزيه مما وصفوه. ٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (٢) قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {بِالرُّوحِ} أي: بالوحي الذي أنزله على رسله، والرحمة، أو الروح: الرحمة؛ وهو الذي به نجاة كل من رحمه اللّه، وهداه لدينه؛ وهو ما ذكر؛ حيث قال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}. وقيل: الرسالة أهي القرآن والرسالة، وما ذكر روحًا؛ لأنه به حياة الدِّين؛ كما سمي الذي به حياة الأبدان أرواحًا. وقال الحسن: قوله: {بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ}: أي: بالحياة من أمره؛ وهو ما ذكرنا من حياة الدِّين. وقوله تعالى: {عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}. أي: على من يشاء أن يختص من عباده ويختاره، وهو مشيئة الاختيار؛ وإن كان غيره يصلح لذلك، وفيه دلالة اختصاص اللّه بعضهم على بعض؛ وإن كان غيره يصلح لذلك. وقولهَ عَزَّ وَجَلَّ -: {أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ}. على هذا جاءت الوسل والأنبياء عليهم السلام جميعًا بالإنذار والدعاء إلى وحدانية اللّه، وتوجيه العبادة إليه. وقوله: {أَن أَنذِرُوا} هو صلة ما تقدم من قوله: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ} أن أنذروا، ولا يوصل بما تأخر، ثم يخرج على الإضمار؛ أي: أنذروا وقولوا: إنه لا إله إلا أنا فاتقون. ٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ}. قد ذكرنا قوله: {بِالْحَقِّ} في غير موضع أنه لم يخلقهما وما فيهما عبثًا، إنما خلقهم لأمر كائن، أو للمحنة، والجزاء، ونحوه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}. من لا يخلق، ولا ينفع، ولا يضر، ولا يدفع في الذي يخلق، وينفع، ويضّر، ويدفع تعالى عن ذلك وتبرأ. ٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤) يذكرهم - عَزَّ وَجَلَّ - نعمه عليهم، وقدرته، وسلطانه، وعلمه؛ لأنه لو اجتمع الخلائق كلهم؛ على أن يدركوا المعنى الذي به تصير النطفة نسمة وإنسانا - ما قدروا عليه حيث خلق من النطفة إنسانًا على أحسن تقويم؛ وأحسن صورة. وفيه نقض قول الدهرية؛ حيث أنكروا خلق الشيء من لا شيء؛ لأنهم لم يدركوا المعنى الذي به خلق الإنسان من النطفة؛ فيلزمهم أن يقروا بخلق الشيء من لا شيء، وإن لم يشاهدوا ذلك ولم يدركوا، وفيه دلالة البعث؛ لأن من قدر على إنشاء الإنسان من النطفة؛ وليس فيها من آثار الإنسان شيء يقدر على البعث وإنشاء الأشياء؛ لا من شيء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ}. قَالَ بَعْضُهُمْ: {خَصِيمٌ}: هو الذي يجادل بالباطل {مُبِينٌ}: أي: ظاهر مجادلته بالباطل ومخاصمته. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الخصيم: هو الجدل الذي يجادل فيما كان. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: الخصيم: هو المخاصِم، والمخاصَم كلاهما خصيم، ويقال: فلان خصيمي أي: خصمي. مبين: ظاهر خصومته، والخصيم: هو الفعيل، والفعيل: قد يستعمل في موضع الفاعل والمفعول جميعًا؛ فكأنه قال: فإذا هو خصيم مبين: أي: منقطع عن الخصومة؛ بيِّن انقطاعه، وهو ما ذكر من خصومته في آية أخرى؛ وانقطاع حجته؛ حيث قال: (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨)، فهذا احتجاج عليه؛ فانقطعت حجته، وبهت الذي أنكر قدرته على البعث؛ حيث لم يتهيأ له جواب ما احتج عليه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (٥) يحتمل قوله: {خَلَقَهَا لَكُمْ} على الظاهر؛ أن خلق هذه الأشياء وخلق لنا فيها دفئا ومنافع؛ كقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}. ويحتمل قوله: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ}: أي: هو خلقها، ثم أخبر أنه خلق لنا فيها منافع يذكر أنواع المنافع والنعم التي أنعم علينا، مفسرة مبينة، واحدة بعد واحدة؛ في هذه السورة، وفي غيرها من السور، إنما ذكرها مجملة غير مشار إلى كل واحدة منها؛ على ما أشار في هذه السورة؛ ليقوموا بشكرها، وليعلموا قدرته على خلق الأشياء لا من الأشياء. ثم قوله: {فِيهَا دِفْءٌ}: قَالَ بَعْضُهُمْ: الدفء نسل كل دابة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ما ينتج منه. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الدفء ما استدفأت به، ويشبه أن يكون تفسير الدفء والمنافع الذي ذكر هو ما فُسِّر في آية أخرى؛ وهو قوله: {وَاللّه جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ. . .} الآية، جعل اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - الأنعام وما ذكر وقاية لجميع أنواع الأذى من السماوي وغيره؛ مما يهيج من الأنفس من الحرّ، والبرد، والجوع، وغير ذلك مما يكثر عدها، ويطول ذكرها، وجعل فيها منافع كثيرة: من الركوب، والشرب، والأكل؛ كما قال: {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ}، ٦وقال: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ}، وأخبر أيضًا أن فيها جمالا وزينة؛ بقوله: (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) فإن قال قائل: أي جمال يكون لنا فيها حين الإراحة وحين السرح. وقال بعض أهل التأويل: وذلك أنه أعجب ما يكون؛ إذا راحت عظامًا ضروعها، طوالا أسنمتها. {وَحِينَ تَسْرَحُونَ} وإذا سرحت لرعيها. أو أن يكون الجمال عند الإراحة والسرح: شرب ألبانها، وقرى الضيف من ألبانها؛ في الرواح والمساء. وقَالَ بَعْضُهُمْ قوله: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ}: وذلك أنهم كانوا يشرون عند الإراحة والتسريح، وذلك السرور يظهر في وجوههم؛ فإذا ظهر ازداد لهم جمالا وحسنًا، وهكذا المعروف في الناس: أنهم إذا سروا يظهر ذلك السرور في وجوههم؛ فيزداد لهم بذلك جمالا، وإذا حزنوا وأصابهم غم - يؤثر ذلك الغم نقصانًا في خلقتهم؛ فيزداد لهم قبحًا وتشويهًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنهم إذا أراحوها أو سرحوها رأى الناس أن أربابها أهل غنى؛ وأهل ثروة، وأنهم لا يحتاجون إلى غيرهم، وأن يكون لغير إليهم حاجة؛ فيكون لهم بذلك ذكر عند الناس وشرف، وذلك جمالهم وشرفهم فيها، والجمال لهم فيها ظاهر؛ لأن ما يبسط ويفرش إنما يتخذ منها ومن أصوافها، وكذلك ما يلبس إنما يكون منها، وإنَّمَا يبسط، ويفرش، ويلبس للتجمل والبهاء. واللّه أعلم. ٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (٧) ذكر أيضًا ما جعل فيها لنا من النعم ما تحمل من الأثقال، من مكان إلى مكان، ومن بلد إلى بلد؛ ما لو لم يكن أنشأهن أعني: الأنعام التي أخبر أنها تحمل أثقالنا إلى ذلك بدونه إلا بجهد وشدة، وذلك - واللّه أعلم - أن اللّه جعل في هذه الأنفس حوائج وقواما ما لا قوام لها إلا بذلك؛ فلعله لا يظفر بما به قوام النفس إلا في بلد آخر أو مكان آخر، فلو تحمل ذلك بنفسه - لكان في ذلك تلف نفسه، وذهاب ما به قوامه، فذكر أنه خلق لنا ما نحمل به من بلد إلى بلد؛ مما به قوام أنفسنا وحاجاتنا. واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} أي: من رحمته ورأفته ما جعل لكم من المنافع في الأنعام؛ وما ذكر، أو ذكر هذا ليرحموا على هذه الأنعام التي خلقها لهم؛ في الإنفاق عليها، والإحسان إليها؛ وذكر فيه: {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} وذلك لا يوصل إلى أكله إلا بالذبح؛ ليعلم أن الذبح فيما يؤكل ليس بخارج من الرحمة والرأفة. وذلك ينقض على الثنوية قولهم؛ حيث أنكروا ذبح هذه الأشياء ويقولون: إنهم يتألمون بالضرب، والقتل، والذبح؛ كما تتألمون أنتم، فمن قصد أحدكم بالقتل فهو سفيه عندكم غير حكيم ولا رحيم، بل موصوف بالقساوة والسفه، فاللّه سبحانه موصوف بالحكمة، والرحمة، والرأفة، لا يجوز أن يأمر بالذبح والقتل لهذه الأشياء؛ إذ ذلك مما يزيل الرحمة والحكمة. فيجاب لهم بوجوه: أحدها: أن اللّه خلق هذا البشر في هذه الدنيا للمحنة ولعاقبة قصدها، إمَّا ثوابًا وإمّا عقابًا، وأخبر أنه خلق هذه الأشياء لنا، وجعل لنا فيها منافع، تتأمل وتقصد، وقد نجد في الشاهد من هو موصوف بالرحمة والرأفة على نفسه، يجرح نفسه الجراحات، ويحمل عليها الشدائد والمكروهات؛ لمنافع تقصد وخير يتأمل في العاقبة، ثم لم يوصف بالسفه، ولا بالخروج عن الحكمة والرحمة، من نحو الحجامة والافتصاد، وشرب الأدوية الكريهة الشديدة ما لو لم يتأمل ما قصد من النفع والعافية في العاقبة؛ ما تحمل تلك المكروهات والشدائد، فدل ما وصفنا أن تحمل الأذى، والألم، والمكروه - غير خارج عن الحكمة والرحمة، ولا الفعل بما فعل سفه؛ إذا كان لمنافع تقصد في العاقبة، وعاقبة تتأمل. فيبطل قول الثنوية: أن ذلك مما يزيل الرحمة؛ على أن هذه الأنعام والبهائم لم تخلق للمحنة وللجزاء في العاقبة؛ ولكن خلقت لمنافع البشر؛ فلهم الانتفاع بها؛ مرة بلحومها، ومرة بحمل أثقالهم والانتفاع بظهورها، مع ما ذكرنا أن تحمل المكروهات وأنواع الشدائد، والآلام - لا تخرج الفعل عن الحكمة، ولا تزيل الرحمة والرأفة إذا قصد به النفع، في العاقبة، وطمع فيه الخير. وهذا يدل أنه أبيح لنا الانتفاع بها؛ والذبح على غير جعل حقيقتها لنا؛ حيث لم يبح لنا إتلافها؛ إذ لو كان أصول الأشياء لنا لكان لا يمنع عن الإتلاف، فدل أنه أبيح لنا الانتفاع بها على غير جعل الحقيقة والأصول لنا، فيبطل قول من يقول: إن الأشياء في الأصل على الحل والإباحة حتى يقوم ما يحظر. قال أبو عبيد: {حِينَ تُرِيحُونَ} يقال منه: أرحت الإبل أريحها إراحة، والإراحة عند العرب: أن يصدر الرعاء مواشيها بالليل إلى مآويها؛ ولهذا سمي ذلك الموضع: المراح. وقوله: {وَحِينَ تَسْرَحُونَ} هو إخراجها إلى المرعى؛ يقال: سرحتها، أسرحها سرحًا وسروحا. وكذلك قَالَ الْقُتَبِيُّ وأَبُو عَوْسَجَةَ. والدفء: ما ذكرنا أنه من الاستدفاء. ٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٨) قوله: {وَزِينَةً} يحتمل وجهين: أحدهما: أن الماشي هو دون الراكب، والمشي يؤثر نقصانًا في الوجه والركوب لا، وذلك زينة؛ على ما ذكرنا في قوله: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ}. والثاني: أن الراكب إذا نظر إلى الماشي سرّ بركوبه، فالسرور يظهر في وجهه، وذلك يزيد في حسنه وجماله، وأصله: ما ذكر - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ. . .} الآية، {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} بيِّن أنه لماذا خلق الأنعام وما جعل فيها؛ وهو ما ذكر: أنه جعل فيها الدفء والمنافع ومنها تأكلون، وبيّن أنه لماذا خلق الخيل؛ وهو ما ذكر: لتركبوها وزينة. وسئل ابن عَبَّاسٍ: عن لحوم الخيل؟ فقرأ: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} ولم يقل: لتأكلوها؛ فكره أكلها لذلك. وتمام هذا أن اللّه ذكر الأنعام، وما ذكر من النعم والانتفاع بها، وبالغ في ذكرها؛ لأنه قال: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} وقال: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ. . .} الآية، وقال: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ}، وقال: {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ}، وقال: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا. . .}، إلى آخر ما ذكر، ذكر جميع ما ينتفع به؛ من أنواع المنافع ذكرًا شافيًا مبالغا غير مكفي، فدل ما ذكر في الخيل من الركوب، وكذلك في البغال والحمير؛ على أنه ليس فيها منفعة أخرى سوى ما ذكر؛ وهو الركوب؛ إذ خرج الذكر لها على المبالغة والاستقصاء؛ ليس على الاكتفاء، ولو كان هنالك منفعة أخرى لذكر على ما ذكر في غيره. واللّه أعلم. والثاني من الأشياء: أشياء يعرف خبثها؛ بنفار الطباع، والصبيان أول ما بلغوا يرغبون في ركوبها، لا أحد يرغب في أكلها إلا من غير طبعه عما كان مجبولا به؛ فهو يرغب في أكله، وأما من ترك وطبعه يستخبث وينفر طبعه عن أكله. واللّه أعلم. وروي عن جابر قال: لما كان يوم خيبر أصاب الناس مجاعة، وأخذوا الحمر الأهلية فذبحوها، فحرم رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لحوم الحمر الإنسية، ولحوم الخيل والبغال، وكل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، وحرم الخلسة والنهبة. وروي عن جابر رَضِيَ اللّه عَنْهُ عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خلاف ذلك قال: أطعمنا رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لحوم الخيل ونهانا عن لحوم الحمر. وعن أسماء بنت أبي بكر قالت: نحرنا فرسًا في عهد رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فأكلنا. وفي بعض الأخبار: أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - نهى عن لحوم الحمر وأذن لنا في لحوم الخيل. قلنا: قد يجوز أن يكونوا أكلوه في الحال التي كان يؤكل فيها الحمر؛ لأن النبي إنما نهى عن أكل لحوم الخيل صحيحًا، فقد يجوز أن يكونوا أكلوا لحم الفرس في حال الإباحة؛ إذ لم يذكروا الوقت. وعن الحسن قال: كان أصحاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يأكلون لحوم الخيل في مغازيهم، وكان الحسن لا يرى فيها بأسا على كل حال، وقول الحسن: إنهم كانوا يأكلون لحوم الخيل في مغازيهم يدل على أنهم كانوا يأكلونها في حال الضرورة. رُويَ عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " الخيل لثلاثة: فهي لرجل كذا، ولرجل آخر كذا، وعلى رجل وزر ". يبيِّن أنها لا تصلح لغير ذلك، ولو صلحت للأكل لقال: الخيل لأربعة؛ ولقال: ولرجل طعام. ومما يبين ما ذكرنا: أن البغل حرام؛ وهو من الفرسة؛ فلو كانت أمه حلالا كان هو أيضًا حلالا؛ لأن حكم الولد حكم أمه؛ لأنه منها أو هو كبعضها، فمن حرم لحم البغل لزمه أن يحرم لحم الفرسة في حكم النظر والمقاييس؛ ألا ترى أن حمار وحش لو نزا على حمارة أهلية لم يؤكل ولدها، ولو أن حمارًا أهليًّا نزا على حمارة وحشية؛ فولدت أُكل ولدها، أفلا ترى أنه جعل حكم الولد حكم أمه؛ ولم يعتبر بالفحل، فلما كان لحم البغل حرامًا وجب أن يكون لحم الفرسة كذلك. إلا أن أبا حنيفة - رحمه اللّه - كان لا يطلق تحريم أكلها؛ لما فيها من الشبهة، والاختلاف، والأحاديث المروية عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لكنه ذكر الكراهة للشبهة التي فيها؛ وكان أبو يوسف - رحمه اللّه - يبيح أكلها. وقد يجوز أن يحتج لأبي يوسف؛ في الفرق بين المولود من الفرسة وبين ولد الحمارة الوحشية إذا نزا عليها حمار أهلى بأن ولد الحمارة لم يتغير عن جنس أمه؛ فحكمه حكمها، والبغل ليس من جنس أمه؛ هو من جنس ثالث، فلذلك لم يكن سبيلها بسبيله. واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}. أخبر أنه يخلق ما لا نعلم؛ فليس لنا أن نتكلف في علم ذلك. أو يخلق من النعم - فيما خلق - ما لا تعلمون أنتم أنها نعم. أو قال: يقول قوم: أن ليس للّه أن يخلق شيئًا لا يطلعه الممتحن. ٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعَلَى اللّه قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (٩) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: على اللّه بيان قصد السبيل، وهو الهدى: يبين الهدى من الضلالة، ويبين من السبل التي تفرقت عن سبيله؛ كقوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمِنْهَا جَائِرٌ} أي: عليه بيان ما يجوز منها؛ من قصد السبيل يعدل ويجار، أو يقال: وباللّه يوصل إلى قصد السبيل. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَعَلَى اللّه} أي: وباللّه يوصل بقصد السبيل؛ وهي السبل التي ذكرنا، {وَمِنْهَا جَائِرٌ} كقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ}. وقَالَ بَعْضُهُمْ: طريق الحق والعدل للّه، وقد يستعمل حرف (على) مكان (له) كقوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} أي: للنصب وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ} أي: لربهم، كقوله: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}، {وَمِنْهَا جَائِرٌ}: وهي السبل المتفرقة عن سبيله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}. قد ذكرنا تأويله، وقوله: {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} يخرج على وجهين: أحدهما: لو شاء أكرم الخلق كله اللطف الذي أكرم أولياءه؛ فاهتدوا به؛ فيهتدون. والثاني: لو شاء أعطاهم جميعًا الحال التي يكون بها الاهتداء؛ وهو ما قال: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً}، إلى آخر ما ذكر؛ لما لا يحتمل أنه إذا كان ذلك مع الكفار لكفروا جميعًا، وإذا كان تلك الحال للمسلمين لا يسلمون. ١٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} موصول بقوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ}، وقوله: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ}، وقوله. {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا} {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ}. يقول: الذي خلق لكم ما ذكر من الأشياء هو الذي أنزل من السماء ماء لكم؛ منه شراب، ومنه شجر هذا يحتمل ما ذكرنا: أنه أنزل من السماء ماء لنا؛ ثم أخبر أنه منه شراب، ومنه شجر. ويحتمل: هو الذي أنزل من السماء ماء، ثم أخبر: {لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ}. ثم يحتمل قوله: {مِنْهُ شَرَابٌ} جميع ما يشرب من الأشربة؛ إذ منه تكون الأشربة جميعًا؛ وجميع الأشياء. ويحتمل {مِنْهُ شَرَابٌ} الماء خاصة. {وَمِنْهُ شَجَرٌ}: الشجر: معروف؛ هو الذي يعلو ويرتفع في الأرض؛ لا يسمى الحشيش وما ينبسط على وجه الأرض شجرًا، فظاهر هذا أن يرجع إلى ذلك المعروف؛ إلا أنه ذكر شجرًا {فِيهِ تُسِيمُونَ}: أي: تزرعون، دل هذا أنه إنما أراد بالشجر المنبسط على وجه الأرض والمرتفع عليها. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: السائمة: الراعية، وكذلك قال أبو عوسحة، وقال أبو عبيدة: أسمت سائمتي: أي: رعيتها؛ وكذلك قوله: {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ}، أي: الراعية. ١١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) أي: ينبت لكم بالماء الذي ذكر أنه أنزل من السماء الزرع، والزيتون، وجميع ما ذكر، جعل اللّه - بلطفه - الماء لقاح كل الأشياء المختلفة والمتفقه، ليس كغيره من الدواب؛ حيث لم يجعل لقاح شيء من جنس آخر، إنما جعل لقاح كل نوع من نوعه، وجعل في الماء بلطفه سرية توافق جميع الأشياء المختلفة، لو اجتمع الخلائق على إدراك ذلك - وإن اجتهدوا - لم يقدروا عليه، يعرفون الماء ظاهرًا؛ ولكن لا يدركون ما فيه من اللطف والسرية؛ التي يكون بها حياة كل أحد وموافقته. وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}. ذكر أن فيه آية لقوم يتفكرون، ولم يذكر أنه لماذا؟ لكنه ذكر أنه آية لقوم يتفكرون؛ بالتفكر يعرف أنه آية لماذا، وهذا يدلّ على أن الأشياء التي غابت عنا ظواهرها بالتفكر والنظر تدرك. ١٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ ... (١٢) وما ذكر. ووجه تسخير هذه الأشياء لنا: هو أن اللّه خلق هذه الأشياء، وجعل فيها منافع للخلق؛ تتصل تلك المنافع إلى الخلق شئن؛ أو أبين أحببن أو كرهن؛ جعل في النهار معاشًا للخلق؛ وتقلبًا فيه يتعيشون ويتقلبون، وجعل الليل راحة لهم وسكنًا، ينتفعون بهما شاءا أو أبيا، وكذلك ما جعل في الشمس والقمر والنجوم من المنافع: من إنضاج الفواكه والثمرات، وإدراك الزروع وبلوغها، ومعرفة الحساب والسنين والأشهر، ومعرفة الطرق والسلوك بها، وغير ذلك من المنافع ما ليس في وسع الخلق إدراكه، ينتفع الخلائق بما جعل فيها من المنافع شاءت هذه الأشياء أو أبت، فذلك وجه تسخيرها لنا. ويحتمل ما ذكر من تسخير هذه الأشياء لنا: ما جعل في وسعنا استعمال هذه الأشياء؛ والانتفاع بها، والخيل التي بها نقدر على استعمالها في حوائجنا. ويحتمل تسخيرها لنا: ما ينتفع بهن شئن أو أبين بالطباع. واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ}. يحتمل وجهين: يحتمل: أي: بأمره تنفع الخلائق ويحتمل {بِأَمْرِهِ}: أي: كونها في الأصل هكذا؛ بأن تنفع الخلق. واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}. قال في الآية الأولى: {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} جعل اللّه تعالى التفكر سبيلا للعقول إلى إدراك الأشياء المغيبة بالحواس الظاهرة؛ إذ لا سبيل للعقل إلى إدراك ما غاب عنه إلا بالحواس الظاهرة، والتفكر فيها؛ لأن ما غاب عن الحواس الظاهرة، لا يدركه العقل؛ فجعل الحواس الظاهرة سبيلا للعقول إلى إدراك المغيب عنها. ذكر - عَزَّ وَجَلَّ - في الآية الأولى: {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، وذكر في الآية الثانية: {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، وفي الآية الثالثة: {لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}، وفي الرابعة: {لَعَلَّكُمْ تشَكُرُونَ}: فهو - واللّه أعلم - كرره على مراتب؛ لأنه بالتفكر فيها يعقل ويعلم، ثم بعد العلم والعقل والفهم يتذكر، وإذا تذكر عند ذلك شكر نعمه، ثم قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} و {يَتَفَكَّرُونَ} وما ذكر فيه: دلالة وحدانية اللّه تعالى، ودلالة تدبيره وعلمه وحكمته، ودلالة بعث الخلائق، ودلالة قدرته وسلطانه؛ لأن الليل والنهار يأتيان الجبابرة والفراعنة، ويذهبان بعمرهم ويفنيانه؛ شاءوا أو أبوا، فذلك آية سلطانه وقدرته؛ ليعلم أن له السلطان والقدرة، لا لهم، وفيهما دلالة البعث؛ لأنه إذا أتى هذا ذهب الآخر حتى لا يبقى له أثر، ثم ينشئ مثله بعد أن لم يبق من الأول شيء ولا أثر، فالذي قدر على إنشاء النهار أو الليل بعد ما ذهب أثره وتلاشى - لقادر على إنشاء الخلق بعد ما ذهب أثرهم. وكذلك الشمس، والقمر، والنجوم، وما ذكر: لما اتسق هذا كله على سنن واحد؛ وتقدير واحد؛ على غير تفاوت فيها ولا تفاضل، وعلى غير تقديم ولا تأخير بل جرى كله على سنن واحد، وتقدير واحد، وميزان واحد؛ من غير تفاوت أولا تفاضل، ولا اختلاف. دل أنه على تدبير واحد خرج ذلك، لا على الجزاف، وأن مدبر ذلك كله واحد؛ إذ لو كان تدبير عدد لخرج مختلفا متفاوتًا، فدل أنه تدبير واحد لا عدد، وأنه على تدبير غيرٍ خرج وجرى كذلك، لا بنفسه، وأنه على حكمة، وعلم جرى كذلك، فدل على لزوم الرسالة والعبادة له؛ فهذا - واللّه أعلم - تأويل قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}. ١٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣) أي: مختلفًا أصنافه وجواهره. يخبر - عَزَّ وَجَلَّ - عن قدرته، وسلطانه، ونعمه التي أنعم عليهم بها. أما سلطانه وقدرته: ما خلق في الأرض وأنبت فيها بالماء لم يرجع إلى جوهر الأرض وجنسها، ولا إلى جوهر الماء وجنسه، وهما كالوالدين: الماء كالأب، والأرض كالأم، فلم يرجع ما خرج منهما من جنسهما، ولا من جوهرهما؛ كما كان في سائر الأشياء رجع التوالد منها إلى جنس الوالدين وجوهرهما؛ بل رجع التوالد والنشوء من الأرض والماء إلى جنس البذر وجوهره؛ ليعلم قدرته وسلطانه على إنشاء الأشياء؛ بأسباب وبغير أسباب، ومن شيء ومن لا شيء. ويذكر نعمه: حيث أخبر أنه خلق في الأرض من الأصناف المختلفة، والجواهر المتفرقة؛ لينتفعوا بها. ويحتمل قوله: {مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} من جنس واحد؛ من شيء واحد؛ لأنه يكون من جنس واحد ألوان مختلفة، ومن قدر على إنشاء ألوان مختلفة من شيء واحد لا يعجزه شيء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}، وفي آية: {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، وفي آية {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، وفي آية: {لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}، و {لِلْمُتَوَسِّمِينَ}، وفي آية: {لِلْمُؤْمِنِينَ}. فيحتمل أن يكون كله كناية عن المؤمنين؛ كأنه قال: إن في ذلك لآية للمؤمنين؛ إذ يجمع الإيمان جميع ما ذكر: من التفكر، والتذكر، والعقل، والاعتبار، والصبر، والشكر، وغيره. ويحتمل: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، و {يَعْقِلُونَ}، و {يَذَّكَّرُونَ}: أي: لقوم همتهم الفكر والنظر في الآيات، ولقوم همتهم التفهم والاعتبار فيها، لا لقوم همتهم العناد، والمكابرة، والإعراض عن النظر في الآيات والفكر فيها. وفي ذكر الآية للمتفكرين، والعاقلين، والمتذكرين: لما منفعة الآية تكون لهَؤُلَاءِ، وإن كانت الآيات لهم ولغيرهم، فمنفعتها لمن ذكر. واللّه أعلم. ١٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤) وتسخيره إياه لنا: هو ما بذل للخلق ما فيه من أنواع الأموال التي خلق اللّه فيه: من الحلى والجوهر واللؤلؤ، وبذل ما فيه من الدواب: السمك وغيره، فلولا تسخير اللّه إياه للخلق؛ وتعليمه إياهم الحيل التي بها يوصل إلى ما فيه من الأموال النفيسة؛ وإلا ما قدروا على استخراج ما فيه والوصول إليه؛ لشدة أهواله وأفزاعه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا}. يحتمل السمك خاصة. ويحتمل السمك وما فيه من الدواب؛ من نوع ما لو كان بريًّا أكل؛ من نحو الجواميس وغيرها. وقوله تعالى: {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا}. يحتمل الحلية: اللؤلؤ والمرجان؛ الذي ذكر في آية أخرى؛ حيث قال: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ}. ثم يحتمل قوله: {حِلْيَةً}: أي: ما يتخذ منه حلية. وهذا جائز؛ أن يسمى الشيء باسم ما يتخذ منه؛ وباسم ما يصير به في المتعقب. أو يسمى حلية؛ لأنه زينة. ولا شك أن اللؤلؤ والمرجان هما زينة؛ ألا ترى أنه ذكر في الأنعام زينة وجمالًا، وفي الخيل والبغال كذلك، فالزينة في اللؤلؤ والمرجان أكثر، والجمال فيه أظهر أخبر أنه جعل لنا الوصول إلى ما في قعر البحر وهو ما ذكر من اللؤلؤ وأنواع الحلي، وما في بطن البحر: وهو ما ذكر من اللحم الطري، وما هو على وجه الماء: وهو السفن التي ذكر. ووجه تسخيره إيانا الخيل والأسباب التي علمنا؛ حتى نصل إلى ما فيه؛ فكأنه قال: سخرت لكم البحر من أسفله إلى أعلاه. وفي ذلك دلالات: إحداها: إباحة التجارة بركوب الأخطار؛ لأن الغائص في البحر يخاطر بنفسه؛ وروحه، وكذلك راكب السفن؛ فلولا أنه مباح له طلب ذلك؛ وإلا ما ذكر هذا في منته؛ إذ هو يخرج مخرج ذكر الامتنان. واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} قال الحسن، والأصم: المواخر: السفن المحشوات؛ الوافرة أحمالها وأثقالها، يذكر منَّته التي منَّ بها عليهم؛ حيث جعل لهم السفن والفلك؛ التي يحمل بها الأحمال الثقال العظام في البحار ما سبيلها التسفّل والانحدار في البحر؛ فأمسكها فيه بالسفن العظام الثقيلة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: مواخر: أي: جارية مقبلة مدبرة بريح واحدة في البحر؛ لأن ماء البحر راكدة؛ فأجرى السفن فيه بالرياح؛ حيثما أرادوا وقصدوا؛ إذ الأشياء قد تجري على الماء، إذا كان له جرية، وأما إذا كان راكدًا ساكنًا فلا سبيل إلى ذلك؛ فيذكر عظيم منته وقدرته على إجراء السفن في الماء الراكد بالريح. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {مَوَاخِرَ} أي: جواري تشق الماء شقًّا وتخرقه، يقال: مخرت السفينة؛ ومنه: مخر الأرض: إنما هو شق الماء لها؛ وهو قول الْقُتَبِيّ. وكذلك قال أبو عبيدة: إنه من شق السفن الماء. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: المواخر: المستقبلة، يقال: استمخر الإنسان الريح: إذا استقبلها. وقال أبو عبيدة: مواخر من الاستدبار؛ يقال: إذا أراد أحدكم البول فليستمخر الريح: أي: يستدبرها. واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ}. يحتمل بالتجارة التي جعل فيها؛ حيث جعل سبيل قطع البحار إلى بلاد نائية بعيدة بالسفن؛ ليبتغوا ما به قوام أبدانهم وأنفسهم؛ إذ جعل بنيتهم بنية لا تقوم إلا بالأغذية، ولعلهم لا يظفرون ما به قوام أبدانهم وبنيتهم في بلادهم؛ فيحتاجون إلى البلاد النائية البعيدة عنهم، فمنَّ عليهم بذلك؛ كما من بقطع المفاوز والبراري بالدواب؛ بقوله: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ}. أو قال: {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} بما يستخرج منه، ولعلكم تشكرون جميع ما ذكر: من ألوان النعم والمنافع؛ من أول السورة إلى آخرها؛ يستأدي به شكره. وفي قوله: {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} دلالة إباحة التجارة، وطلب الفضل بركوب الأخطار واحتمال الشدائد؛ حيث أخبر أنه سخر البحر؛ حتى أمكنهم ركوبه بالحيل والأسباب التي علمها لهم؛ لأن الغواص يخاطر بروحه ونفسه، وكذلك راكب السفينة. ١٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) أي: ألقى في الأرض الجبال؛ لئلا تميد بكم؛ قال بعض أهل التأويل: قوله: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ} لئلا تميد بكم، لأنها بسطت على الماء؛ فكانت تكفو بأهلها؛ كما تكفو السفينة في الماء؛ فأثبتها بالجبال؛ لتقر بأهلها، لكن لو كان على ما ذكروا أنها بسطت على الماء لكانت لا تكفو ولا تضطرب، ولكنها تتسرب في الماء وتنهار فيه؛ لأن من طبعها التسقل والتسرب في الماء؛ إلا أن يقال: إن اللّه - عز وجل - جعل - بلطفه - طبعها طبع ما يضطرب؛ وتكفو؛ فعند ذلك يحتمل ما ذكروا. واللّه أعلم. ولو قالوا: إنها بسطت على الريح لكان يحتمل ما قالوا؛ ويكون أشبه بقولهم؛ ألا ترى أن السراج في الآبار والسروب لا يضيء بل ينطفئ كما أسرج؛ فيشبه أن يكون انطفاؤه لريح تكون في الأرض، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم، واللّه أعلم بذلك.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: بسطت على ظهر الثور فكانت تضطرب بتحركه فأرساها بما ذكر، واللّه أعلم. ثم قوله: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا} يخرج ذكر ذلك منه ذكر الامتنان والنعمة؛ لأن له أن يترك الأرض على ما خلقها؛ ولا يثبتها بالجبال؛ لتميد بأهلها وتميل؛ فلا يقدروا على القرار عليها والانتفاع بها، لكنه - بفضله ومنته - أثبتها بالجبال؛ ليقروا عليها، ويقدروا على الانتفاع بها. وكذلك له ألا يجعل لهم فيها أنهارًا جارية؛ فيكون مياههم من آبارها، وكذلك له أن يحوجهم بأنواع الحوائج؛ ثم لا يبين لهم الطرق والسبل التي بها يصلون إلى قضاء حوائجهم، ويكلفهم طلب الطرق والسبل التي بها يصلون إلى قضاء حوائجهم، ويكلفهم طلب الطرق والسبل التي بها تقضى حوائجهم بأنواع الحوائج، ثم لا يبين لهم الطرق والسبل، لكنه بفضله ومنّه بيَّن لهم الطرق والسبل التي تفضي إلى البلدان والأمكنة التي فيها تقضى حوائجهم، وكذلك بفضله جعل لهم في الأرض أنهارًا جارية، وأثبت الأرض بالرواسي؛ ليقروا عليها، وذلك كله بمنه وفضله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} يحتمل تهتدون الطرق والسبل التي تفضيهم إلى الحوائج. ويحتمل: تهتدون الهدى المعروف؛ بما ذكر من نعمه ومننه. واللّه أعلم. ١٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦) هذا أيضًا يخرج مخرج ذكر المنن والنعم عليهم؛ لأنهم لولا ما جعل اللّه أعلامًا في البحار والبراري يعرفون بها السلوك فيها؛ وإلا لم يقدر أحد معرفة الطرق في البحار والبراري. ثم يحتمل الأعلام: مرة بطعم الماء والجبال التي جعل فيها وبالرياح، ومرة تكون بالنجم؛ يعرفون بطعم الماء أن هذا الطريق يفضي إلى موضع كذا، وكذلك يعرفون بالجبال وبالرياح، يعرفون السبل إلى حوائجهم ومقصودهم. وكذلك بالنجم يعرفون الطرق؛ فالأعلام مختلفة بها يهتدون الطرق والسبل. ويحتمل: يهتدون بما ذكر من الأعلام والنجبم سبب اهتدائهم إلى توحيد اللّه. ١٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (١٧) يحتمل هذا وجهين: أحدهما: على الاحتجاج عليهم؛ أي: لا تجعلوا من لا يخلق ولا ينفع ولا ينعم كمن هو خالق الأشياء كلها؛ منعم النعم عليكم، {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}: أي: إن صرف العبادة والشكر إلى غير خالقكم وغير منعمكم جور وظلم. والثاني: يخرج مخرج تسفيه أحلامهم؛ أنهم يعبدون من يعلمون أنه ليس بخالق، ويتركون عبادة من يعلمون أنه خالق الأشياء كلها، أفلا تذكرون واللّه أعلم. ١٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللّه لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللّه لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) هذا يحتمل وجوهًا: أحدها: وإن تعدوا أنفس نعمة اللّه التي أنعمها عليكم وأعينها لا تقدروا على عدّها لكثرتها. والثاني: {وَإِنْ تَعُدُّوا}: وإن تكلفتم واجتهدتم كل جهدكم أن تقوموا لشكر ما أنعم اللّه عليكم ومنَّ، وما قدرتم على القيام لشكر واحدة منها؛ فضلا أن تقوموا للكل. والثالث: يخرج على العتاب والتوبيخ؛ أي: كيف فرغتم لعبادة من لا يخلق ولا ينعم عن عبادة من خلق وأنعم، وكنتم لا تقدرون على إحصاء ما أنعم عليكم؛ فضلا أن تقوموا لشكره. وقال الحسن في قوله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللّه لَا تُحْصُوهَا}: لا تعرفوا كل النعم؛ لأنه كم من النعم ما لا يعرفه الخلق؛ كقوله: {نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}، فإذا لم يعلموا لم يقدروا إحصاءها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ اللّه لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}. هذا يحتمل وجهين: أحدهما: إنكم وإن افتريتم على اللّه، وعاندتم حججه وآياته، وكذبتم رسله فإذا استغفرتم؛ وتبتم عما كان منكم؛ يغفر لكم ذلك كله؛ كقوله: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}. والثاني: {لَغَفُورٌ}: أي: يستر عليكم ما كان منكم؛ ما لو أظهر ذلك لافتضحتم؛ لكنه برحمته ستر ذلك عليكم، رحيم بالستر عليكم. أو ذكر {لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} على أثر ذكر النعم وأنواع المنافع؛ ليكونوا رحماء على ما ذكر مما سخر لنا وأذل. واللّه أعلم. ١٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاللّه يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} هذا يخرج على وجهين: أحدهما: ذكر هذا ليكونوا أيقظ وأحذر؛ لأن في الشاهد من يعلم أن عليه رقيبًا حافظًا بما يفعل، كان هو أرقب وأحفظ لأعماله، ويكون أحذر ممن يعلم أنه ليس عليه حافظ ولا رقيب. والثاني: يعلم ما تسرون من المكر برسول اللّه، والكيد له من القتل، والإخراج، وغير ذلك أي: يعلم ذلك، كله منكم، ما أسررتم وأعلنتم، وهو يخرج على نهاية الوعيد والتعيير، واللّه أعلم. ٢٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) يحتمل يدعون: أي: يسمونها: آلهة، وربما كانوا يدعونهم عند الحاجة. ويحتمل {يَدْعُونَ}: يعبدون؛ أي: الذين يعبدون من دون اللّه لا يخلقون شيئًا وهم يخلقون؛ فهذا يرجع إلى الأول؛ أفمن يخلق كمن لا يخلق؟ ٢١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١) يحتمل المراد بقوله: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ}: الذين عبدوا الأصنام والأوثان وجميع من كفر باللّه؛ هم أموات غير أحياء؛ لأن اللّه تعالى سمَّى الكافر في غير آي من القرآن ميّتًا؛ فيشبه أن يكون قوله: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} أيضًا. {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}. أي: يشعرون حين يبعثون، أي: لو شعروا هذا في الدنيا ما شعروا في الآخرة؛ لم يعلموا ما عملوا. ويحتمل قوله: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ}: الأصنام التي عبدوها؛ هن أموات غير أحياء. قَالَ بَعْضُهُمْ: أموات لأنها لا تتكلم، ولا تسمع، ولا تبصر، ولا تنفع، ولا تضرّ؛ كالميت {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ}: أي: ليس فيها أرواح ينتفع بها كالبهائم والأنعام، ويكون قوله: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} راجعًا إلى الذين عبدوا الأصنام؛ لأنها لا تشعر أيان يبعثون، وهم يعلمون أنها لا تشعر ذلك؛ لكن هم يشعرون حين يبعثون. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} يبعث الآلهة والذين عبدوها جميعًا؛ كقوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ} ٢٢وقوله: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللّه). قَالَ بَعْضُهُمْ: يحشر أُولَئِكَ الذين عبدوا الأصنام، {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}: أي: حين يبعثون، ولو شعروا ذلك في الدنيا ما فعلوا ما فعلوا، وإن كان قوله: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} راجعًا إلى الملائكة والملوك الذين عبدوا دون اللّه يكون تأويل قوله: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}: أي: لا يشعرون وقت يبعثون، وإن كان راجعًا إلى الأصنام، فقوله: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}: أي: لا يشعرون أنهم يبعثون، لا يحتمل أن يكون قوله: {لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} وإن يقال ذلك، في الأصنام؛ لأن أُولَئِكَ يعلمون أنهم لا يخلقون، وإنما يقال ذلك في الأصنام: لا تسمع، ولا تبصر، ولا تنفع، فدل أن ذلك راجع إلى الملائكة والذين عبدوهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) قد ذكرنا فيما تقدم ما يبين إبطال ما كانوا يعبدون، وما لا يليق بأمثالها العبادة لها؛ ونصبهم آلهة ثم ذكر ما يبين جعل الألوهية والربوبية أنه لواحد، وأنه هو المستحق لذلك دون العدد الذي عبدوها؛ فقال: إلهكم إله واحد لا العدد الذي عبد أُولَئِكَ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ}. يحتمل قوله: {قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ}: أي: منكرة للإيمان بالآخرة والبعث بعد الموت. أو قلوبهم منكرة لجعل الألوهية والربوبية لواحد وصرف العبادة إليه؛ كقولهم: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}. ويحتمل قوله: {قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ} لما جاء به الرسول، وهم مستكبرون على ما جاء به من اللّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} يحتمل مستكبرون على رسول اللّه، لم يروه أهلا لخضوع أمثالهم لمثله، أو مستكبرون إلى ما دعتهم الرسل؛ لأن الرسل جميعًا دعوا الخلق إلى وحدانية اللّه وجعل العبادة له. ٢٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا جَرَمَ أَنَّ اللّه يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣) يحتمل قوله: {مَا يُسِرُّونَ}: من المكر برسول اللّه، والكيد له، {وَمَا يُعْلِنُونَ} من المظاهرة عليه. أو يعلم ما يسرون من أعمالهم الخبيثة التي أسروها وما أعلنوها، يخبر أنه لا يخفى عليه شيء من أعمالهم؛ أسروا أو أعلنوا. وقوله: {لَا جَرَمَ} قال الأصم: {لَا جَرَمَ}: كلمة تستعملها العرب في إيجاب تحقيق أو نفي تحقيق؛ كقولهم: حقُّا، ولعمري، وايم اللّه، ونحوه. وقال الحسن: هو كلمة وعيد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا جرم، وحقُّا، وبلى، ولا بدّ، كله في الحاصل: يرجع إلى واحد، وهو وعيد؛ لأن قوله: {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} وعيد. واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ}. لأنه لا يحب الاستكبار، ولا يليق لأحد من الخلائق أن ينكبر على غيره من الخلق؛ لأن الخلق كلهم أشكال وأمثال، ولا يجوز لكل ذي مثل وشكل أن يتكبر على شكله ومثله؛ لأن تكبر بعضهم على بعض كذب وزور؛ إذ جعل كلهم أمثالا وأشكالا، لذلك كان زورًا وكذبًا، وقد حرم اللّه الكذب والزور، وجعله قبيحًا في العقول. ٢٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}. أي: قال الأتباع للرؤساء: ماذا أنزل ربكم؟ قال الرؤساء: أنزل أساطير الأولين، أو يخرج على الإضمار، كأنهم قالوا لهم: ماذا يقول إنه أنزل ربكم عليه؟ فقالوا عند ذلك: أساطير الأولين، وإلا لا يحتمل أن يكون ذكروا أساطير الأولين، جواب سؤالهم: ماذا أنزل ربكم؟ مفردًا؛ لأنهم كانوا يقرون باللّه بقولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى}. و {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّه}؛ فلا يحتمل أن يكونوا إذا سئلوا ماذا أنزل ربكم؛ فيقولون: أساطير الأولين إلا أن يكون في السؤال زيادة قول، أو في الجواب إضمار؛ فيكون - واللّه أعلم - كأنه قال: وإذا قيل لهم: ماذا يزعم هذا أنه أنزل عليه ربكم؟ قالوا عند ذلك: إنه يقول: أساطير الأولين؛ كقوله: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ} أي: قالوا: يَا أَيُّهَا الذي يزعم أنه نزل عليه الذكر. أو يكون قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ} فقالوا: لم ينزل اللّه شيئًا إنما يقول أساطير الأولين، ومثل هذا يحتمل أن يكون. وقوله: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} قال أَبُو عَوْسَجَةَ: أحاديث الأولين والواحد أسطور، وهي الأحاديث المختلقة؛ كقوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} أي: لا أصل له؛ وأصله الكذب. وهكذا عادة أُولَئِكَ الكفرة يقولون للأنباء: أساطير الأولين، وكانوا ينسبون ما يقرأ عليهم إلى السحر، ولو كان في الحقيقة سحرًا أو أحاديث الأولين كان دليلا له. أو قالوا ذلك على الاستهزاء له، وذلك جائز أن يخرج قولهم ذلك على الاستهزاء. واللّه أعلم. ٢٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (٢٥) هذا يحتمل وجهين: أحدهما: أنه يحتمل: أنهم يحملون أوزارهم كاملة؛ يعني الذين قالوا للرسل: أساطير الأولين، ومن أوزار الذين يقلدون رسلهم، ووفدهم الذين بعثوا عن السؤال عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فحملوا أوزار أنفسهم؛ وأوزار الرسل وأوزار الذين يقلدون الرسل ويقتدون بهم بغير علم؛ لأنهم لم يعلموا أن أُولَئِكَ يقتدون بالرسل فيضلون، وهم وإن لم يعلموا فذلك عليهم؛ لأنهم هم الذين سنوا ذلك؛ وهو كما روي: " من سَنَّ سنة سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة " ويحتمل: ليحملوا أوزارهم ومن أوزار الذين طمعوا الإسلام؛ إذا أسلموا سقط تلك الأوزار عنهم. وقوله: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ}: هم لم يفعلوا ما فعلوا ليحملوا أوزارهم، ولكن معناه - واللّه أعلم - أي: ليصيروا حاملين لأوزارهم والذين أضلّوهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} يحتمل {بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي: بسفه. {أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} أي: ساء ما يحملون. وقوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي: لم يعلموا أن تصير أوزارهم عليهم، أو لم يعلموا ما يلحق بهم. ٢٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّه بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٢٦) لم يزل كانت عادة الكفرة بالمكر برسل اللّه؛ والكيد لهم، وكذلك مكر كفار مكة برسول اللّه، يذكر هذا - واللّه أعلم - لرسول اللّه ليصبره على أذاهم إياه؛ كما صبر أُولَئِكَ على مكر قومهم وترك مكافأتهم إياهم؛ كقوله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}. ثم مكرهم الذي ذكر كان يخرج على وجهين: أحدهما: فيما جاءت به الرسل؛ كانوا يتكلفون تلبيس ما جاءت به الرسل على قومهم. والثاني: يرجع مكرهم إلى أنفس الرسل؛ من الهم بقتلهم وإخراجهم من بين أظهرهم؛ ونحوه، فخوف بذلك أهل مكة بصنيعهم لرسول اللّه؛ أن ينزل بهم كما نزل بأُولَئِكَ الذين مكروا برسلهم؛ لئلا يعاملوه بمثل معاملة أُولَئِكَ رسلهم، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَأَتَى اللّه بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ}. قال الحسن: هذا على التمثيل بالبناء الذي بُني على غير أساس؛ ينهدم ولا يعلم من أي: سبب أنهدم، فعلى ذلك مكرهم يبطل ويتلاشى؛ كالبناء الذي بني على غير أساس ويشبه أن يكون على التمثيل من غير هذا الوجه؛ وهو أنهم قد مكروا وأحكموا مكرهم بهم؛ فيتحصنون بذلك؛ كالبناء الذي يتحصن به؛ فأبطل اللّه مكرهم؛ كقوله: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا. . .} الآية، وقوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللّه. . .} الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ}. هو ما ذكرنا من إبطال مكرهم الذي به كانوا يتحصنون؛ كوقوع السقف الذي به يتحصن من أنواع الأذى والشرور. ويحتمل على التحقيق؛ وهو ما نزل بقوم لوط؛ من الخسف، وتقليب البنيان، وإمطار الحجر عليها. وأما ما ذكر بعض أهل التأويل: من الصرح الذي بنى نمرود وبنيانه، ووقوعه عليهم؛ فإنا لا نعلم ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ}. كذلك كان يأتي العذاب الظلمة الكذبة؛ من حيث لا علم لهم بذلك؛ كقوله: {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً. . .} الآية، وقوله: {فَأَتَى اللّه بُنْيَانَهُمْ}، هو من الإتيان، ومعلوم أنه لا يفهم من إتيانه الانتقال من مكان إلى مكان، ولكن إتيان عذابه، أضيف إليه الإتيان؛ لما بأمره يأتيهم، ومنه [ .... ]، فعلى ذلك لا يفهم من قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ}، وقوله: {إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللّه فِي ظُلَلٍ. . .} الآية إتيانُ الانتقال ومجيئه من مكان إلى مكان، وقد ذكرنا هذا وأمثاله في غير موضع. ٢٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ ... (٢٧) أخبر أنه يخزيهم يوم القيامة بعد ما عذبهم في الدنيا؛ بقوله: {وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ}. وقوله: {يُخْزِيهِمْ}: قال أهل التأويل: يعذبهم، وكأن الإخزاء هو الإذلال، والإهانة، والفضح، يذلهم، ويهينهم، ويفضحهم في الآخرة؛ مكان ما كان منهم من الاستكبار، والتجبر على النبي وأصحابه، وكذلك قوله: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللّه النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا}، أي: لا يذلهم، ولا يهينهم؛ لتواضعه للمؤمنين، وخفض جناحه لهم، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} أي: تعادون أوليائي فيهم، أو تعادونني فيهم. وقوله: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ} ليس له بشركاء؛ ولكن أضاف إلى نفسه: شركائي؛ على زعمهم في الدنيا أنها شركاؤه، وكذلك قوله: {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ} أي: إلى ما في زعمهم؛ وتسميتهم إياها آلهة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} أي: كنتم تخالفون فيهم وتعادون؛ أي: تخالفون المؤمنين في عبادتهم إياها؛ لأنهم يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى} وهم شفعاؤنا عند اللّه، ونحوه، كانوا يخالفون المؤمنين، وكانوا يشاقون في ذلك؛ إلا أنه أضاف ذلك إلى نفسه لأنهم أولياؤه، وأنصار دين اللّه، وأضاف إليه المخالفة والمشافة لأنهم خالفوا أمر اللّه. وقوله: {قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}. قال أهل التأويل: الذين أوتوا العلم الملائكة الكرام الكاتبون، لكن هم وغيرهم من المؤمنين محتمل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ} أي: الذل والهوان والافتضاح وكل سوء على الكافرين هكذا يقابل كل معاند ومكابر في حجج اللّه وبراهينه مكان استكبارهم وتجبرهم في الدنيا، واللّه أعلم. ٢٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّه عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) قال الحسن: تتوفاهم الملائكة من بين يدي اللّه يوم الحساب إلى النار. وقَالَ بَعْضُهُمْ: تتوفاهم الملائكة - وقت قبض أرواحهم - ظالمي أنفسهم بالشرك والكفر باللّه. وعلى تأويل الحسن: يكون قوله: {ظَالِمِي أَنْفُسِهِ} في الدنيا، ويجوز أن يوصفوا بالظلم في الآخرة أيضا؛ بكذبهم فيها في قولهم: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} وقولهم: {وَاللّه رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}، وأمثاله من الكذب؛ حيث ينكرون الإشراك في ألوهية اللّه وعبادته، كأن هذا الإنكار والكذب منهم في أول حالهم، ظنّا منهم أن ذلك ينفعهم، فإذا لم ينفعهم إنكارهم طلبوا الرد إلى الدنيا، أو إلى حال الأمن؛ ليعملوا غير الذي عملوا؛ كقولهم: {أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}، فإذا لم يردوا وأيسوا عن ذلك؛ فعند ذلك أنطق اللّه جوارحهم؛ حتى تشهد عليهم بما كان منهم فعند ذلك يقرون، ويعترفون بذنوبهم؛ كقوله: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ}. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَأَلْقَوُا السَّلَمَ} قَالَ بَعْضُهُمْ: يسلمون ويستسلمون لأمر اللّه، ولكن لو كان ما ذكروا لم يكونوا ينكرون عمل السوء، كقولهم: ما كنا نعمل من سوء. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {فَأَلْقَوُا السَّلَمَ}: هو الاستخزاء، والخضوع والتضرع. ويشبه أن يكون قوله: {فَأَلْقَوُا السَّلَمَ} عند الموت يؤمنون عند معاينة ذلك، أو سلموا عليهم في الآخرة على ما رأوا في الدنيا المؤمنين يسلم بعضهم على بعض. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} في الآخرة، واللّه أعلم بذلك، فأكذبهم اللّه في قولهم: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ}؛ فقال: {بَلَى إِنَّ اللّه عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} هذا وعيد يخبر ألا يجوز كذبهم في الآخرة، ولا يحتمل كما جاز في الدنيا؛ ولم يظهر. ٢٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا (٢٩)، وقوله: {فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} أي: بئس مقام المتكبرين الذين تكبروا على دين اللّه، أو تكبروا على ما جاء به الرسل من اللّه، وما أنزل اللّه عليهم. ٣٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا). قال أهل التأويل: هذا قول المؤمنين؛ مقابل قول المشركين: {وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}. ثم اختلف في قوله: {قَالُوا خَيْرًا}: قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {قَالُوا خَيْرًا} أي: قولهم الذي قالوا أنه أرسل بحق، وأنه كذا خير. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {قَالُوا خَيْرًا} حكاية عما أنزل على رسول اللّه عصم: و {خَيْرًا}: أي: أنزل عليه ربنا خيرًا، أو أن يكون الناس الذين يأتون من الآفاق يسألون عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فإذا سألوا المؤمنين: ماذا أنزل ربكم؟ قالوا: خيرًا، وإذا سألوا الكفرة قالوا: أساطير الأولين. وجائز أن يكون أتباع المؤمنين سألوا كبراءهم: ماذا أنزل ربكم؟ قالوا: خيرًا، مقابل ما كان من كبراء الكفرة لأتباعهم أساطير الأولين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} من النصر لهم، والظفر على عدوهم. {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ} لهم مما كان أعطاهم في الدنيا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: للذين أحسنوا العمل في هذه الدنيا لهم حسنة في الآخرة، ولدار الآخرة خير لهم مما كان أعطاهم في الدُّنيَا؛ أي: الجنة خير وأفضل للمؤمنين مما أوتوا في الدنيا. {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ}: ٣١قال هذا للمؤمنين مكان ما قال للكافرين: {فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}، ثم نعت الدار التي وعد المتقين؛ فقال: (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ (٣١) من اللذات والشهوات. فَإِنْ قِيلَ: أرأيت لو شاءوا أن يكون لهم درجات الأنبياء ومنازل الأبرار والصديقين؛ أيكون لهم ما شاءوا؟ قيل: لا يشاءون هذا؛ لأن مثل هذا إنما يكون في الدنيا إمّا حسدًا؛ وإما تمنيًا، فلا يكون في الجنة حسد؛ لأن الحسد هو أن يرى لأحد شيئًا ليس له؛ فيحسد أو يتمنى مثله، فأهل الجنة يجدون جميع ما يتمنون ويخطر ببالهم، فلا معنى لسؤالهم ربهم ما لغيرهم، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {كَذَلِكَ يَجْزِي اللّه الْمُتَّقِينَ} ظاهر. ٣٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢) على تأويل الحسن: تتوفاهم الملائكة وهم طيبون من بين يدي اللّه يوم الحساب، يقولون لهم: {سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} وقد ذكرنا: أن السلام هو تحية؛ جعل اللّه بين الخلق في الدنيا والآخرة؛ وقد ذكرناه في غير موضع. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الذين تتوفاهم الملائكة بقبضهم الأرواح في الدنيا، يقبضون أرواحهم وهم طيبون. وقَالَ بَعْضُهُمْ: طيبون أحياء وأمواتًا، وهم المؤمنون الذين طابت أعمالهم في الدنيا. يحتمل السلام وجهين: أحدهما: تحييهم الملائكة بالسلام في الجنة؛ كما يحيي أهل الإيمان في الدنيا بعضهم بعضا. والثاني: السلام يكون منهم أمن عن جميع الآفات والمكروهات، واللّه سبحانه أعلم. ٣٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ}. هذا الحرف يخرج على الإياس له من إيمانهم؛ أي: ما ينظرون لإيمانهم إلا وقت قبض أرواحهم، أو وقت نزول العذاب عليهم؛ أي: لا يؤمنون إلا في هذين الوقتين، ولا ينفعهم إيمانهم في هذين الوقتين؛ لأن إيمانهم إيمان اضطرار؛ كقوله: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللّه}، وكقوله: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} يؤمنون عند معاينتهم بأس اللّه؛ لكن لا ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت، يخبر أنهم ينظرون ذلك الوقت يؤيس رسوله عن إيمانهم، لما علم أنهم لا يؤمنون؛ ليرفع عنه مؤنة الدعاء إلى الإيمان والقتال معهم. وقوله: {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} يحتمل العذاب في الدنيا، ويحتمل عند معاينتهم العذاب وقوله تعالى: {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}. هذا يحتمل وجهين: أحدهما: كذلك فعل المعاندون، والمكابرون، الذين كانوا من قبل برسلهم؛ من التكذيب لهم، والعناد، وتركهم الإيمان إلى الوقت الذي ذكر، كما فعل قومك من التكذيب لك يا مُحَمَّد والعناد. ويحتمل كذلك فعل الذين من قبلهم؛ أي: هكذا أنزل العذاب بمن كان قبل قومك بتكذيبهم الرسل والعناد معهم، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا ظلَمَهُمُ اللّه} بما عذبهم {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} حيث وضعوا أنفسهم في غير موضعها الذي وضعها اللّه، وحيث صرفوها عن عبادة من نفعهم، وأنعم عليهم، واستحق ذلك عليهم إلى من لا يملك نفعًا ولا ضرًّا، ولا يستحق العبادة بحال، فهم ظلموا أنفسهم؛ حيث صرفوها عن الحكمة إلى غير الحكمة لا اللّه؛ إذ اللّه وضعها؛ حيث توجب الحكمة ذلك، والظلم: هو وضع الشيء في غير موضعه، والحكمة: هي وضع الشيء في موضعه، فهم وضعوا أنفسهم في غير موضعها، فأما اللّه تعالى فقد وضعها في المواضع التي توجب الحكمة وضعها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ}. كأنه قال: ما ينتظرون للإيمان بعد الحجج السمعيات، وبعد الحجج العقليات، والحجج الحسيات إلا نزول الملائكة بالعذاب من اللّه تعالى عليهم؛ لأن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قد أقام عليهم الحجج السمعيات والعقليات والحسيات، فلم يؤمنوا به ولم يصدقوه، فيقول: إنهم ما ينتظرون إلا الحجج التي تقهرهم وتضطرهم، فعند ذلك يؤمنون؛ وهو ما ذكر من نزول العذاب بهم. أو يقول: ما ينظرون بإيمانهم إلا الوقت الذي لا ينفعهم إيمانهم، وهو الوقت الذي تخرج أنفسهم من أيديهم؛ فأخبر أن إيمانهم لا ينفعهم في ذلك، وهو ما قال: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ. . .} الآية. ٣٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللّه مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، وقال في سورة الأنعام قوله تعالى: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، وقال: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا}، وقال هاهنا: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}. و (هل): هو حرف استفهام في الظاهر، لكن المراد منه: ما على الرسول إلا البلاغ المبين؛ على ما قاله أهل التأويل، ما قد كان من اللّه من البيان أن ليس على الرسل إلا البلاغ المبين. وكذلك قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ}، أي: ما ينظرون إلا أن تأتيهم كذا. وكذلك قوله: {أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى} (أم): هو حرف شك، ومراده: ما للإنسان ما تمنى، وأمثاله لما سبق من اللّه ما يبين لهم أن ليس للإنسان ما تمنى، وقد ذكر تأويل قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} في سورة الأنعام. ويحتمل قولهم هذا وجوهًا: أحدها: قالوا ذلك على الاستهزاء به؛ كقوله: {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا}. والثاني: قولهم: {لَوْ شَاءَ اللّه} أي: لو أمر اللّه أن نعبده ولا نعبد غيره لفعلنا؛ كقوله: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللّه أَمَرَنَا بِهَا. . .} الآية. والثالث: قالوا: لو لم يرض اللّه منا ذلك ما تركنا فعلنا ذلك؛ ولكن أهلكنا. ٣٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا ... (٣٦) يخبر رسوله أنك لست بأول رسول، مبعوث إلى أمتك؛ ولكن قد بعث إلى كل أمّة رسول، وهو كقوله: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ}، يصبره على ما يصيبه منهم من المكروه والأذى؛ أي: لست أنت بأول من يصيبه ذلك، بل كان لك قبلك إخوان أصابهم من أممهم ما يصيبك من أمتك. وقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللّه}. هو على الإضمار؛ كأنه قال: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا وقلنا لهم: قولوا: {أَنِ اعْبُدُوا اللّه. . .} الآية، {أَنِ اعْبُدُوا اللّه وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} على ذلك كان بعث الرسل جميعًا إلى قومهم بالدعاء إلى توحيد اللّه؛ وجعل العبادة له، والنهي عن عبادة الأوثان دونه؛ كقوله: {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّه مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}. ويكون قوله: {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}: كقوله: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} هما واحد. والطاغوت: قَالَ بَعْضُهُمْ: كل من عبد دون اللّه فهو طاغوت. وقال الحسن: الطاغوت هو الشيطان، أضيف العبادة إليه بقوله: {لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ}، لأن من يعبد دونه يعبد بأمره، فأضيف لذلك إليه، وقد ذكرنا هذا أيضًا فيما تقدم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللّه وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ}. هذا يدل أنه لم يرد بالهدى البيان؛ على ما قاله بعض الناسي؛ إذ قد سبق منه البيان لكل واحد، وما ذكر أيضا: {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} وهذا يرد على المعتزلة قولهم؛ حيث قالوا: الهدى: البيان من اللّه، لكن الهدى منه في هذا الموضع ليس هو البيان، هو ما يكرم اللّه به عبده؛ ويوفقه لدينه. وقوله: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللّه} لاختياره الهدى {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} أي: لزمت للزومه الضلالة واختياره إياه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ. . .} الآية. قال الحسن: قوله: {فَسِيرُوا} ليس على الأمر؛ ولكن كأنه قال: لو سرتم في الأرض لرأيتم كيف كان عاقبة المكذبين؛ بالتكذيب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: سيروا؛ كأنه على الحجاج عليهم أن سيروا في الأرض؛ فإنكم ترون آثار من كان قبلكم الذين أهلكوا بالتكذيب، كان النبي يخبرهم من أنباء الأمم الخالية؛ وما نزل بهم، فينكرون ذلك؛ فقال عند ذلك: فسيروا في الأرض فانظروا إلى آثار من كان قبلكم. ويشبه أن يكون ليس على السير نفسه؛ ولكن على التأمل والنظر في آثار أُولَئِكَ وأمورهم أنه بم نزل بهم ما نزل، واللّه أعلم. ٣٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّه لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٣٧) قال أبو بكر الأصم: قوله: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ}:، كان يحب ويحرص على هدى قراباته؛ كقوله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}، فقال: {فَإِنَّ اللّه لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ}؛ أي: لا يهديهم بضلالهم وقت ضلالهم أو لا يهديهم وقت اختيارهم الضلال، أو لا يهدي من علم أنه يختار الضلال أويهلك على الضلال، أو لا ينجي من يهلك على الضلال. وفيه لغات ثلاث: {فَإِنَّ اللّه لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} أي: لا يُهْدَى من أضله اللّه؛ أي: إذا أضله اللّه فليس أحد يهديه، و {لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ}؛ ما ذكرنا، و {لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ}؛ أي: لا يهتدي من أضله اللّه، واللّه أعلم بذلك. أو لا يهتدي في الآخرة طريق الجنة مَنْ أضله اللّه في الدنيا لاختياره الضلال، وهو كقوله: {وَاللّه لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} {وَاللّه لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، وقت اختيارهم الكفر والظلم، أو لا يهدي من علم منه أن يختار الضلال والظلم، أو لا يهدي من يلزم الضلال وقت لزومه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}. ظاهر تأويله. ٣٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَقْسَمُوا بِاللّه جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللّه مَنْ يَمُوتُ}. فَإِنْ قِيلَ: لنا: ما الحكمة والفائدة في ذكر قسمهم الذي أقسموا في القرآن؛ وجعل ذلك آية تتلى؟ وذلك القسم الذي أقسموا كان بحضرة النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، وهم علموا ذلك ليس كالأنباء والقصص التي كانت من قبل، إذ كان ذلك شيئا غاب عنه لم يشهدها؛ فأخبرهم على ما كان، ففي ذلك إثبات رسالته ونبوته؟ فالحكمة والفائدة من ذكرها في القرآن؛ وجعلها آيات تتلى؛ ليعلم أنه إنما عرف ذلك باللّه تعالى. وأمَّا القسم الذي أقسموا ليس فيه ما ذكرنا من إثبات الرسالة؛ وهم قد علموا ذلك؛ فما الفائدة في ذكره؟ قيل: يشبه أن يكون ذكره لنا - عَزَّ وَجَلَّ - لنعلم نحن عظيم سفه أُولَئِكَ؛ وقلة عقولهم، وحلم الرسول واحتمال ما احتمل منهم من الأذى والمكروه؛ لنعلم نحن أن كيف يعامل السفهاء؛ وأهل الفساد؛ والعصاة من الناس؛ على ما عامل رسل اللّه أقوامهم؛ مع عظيم سفههم وقلة عقلهم، فذلك فائدة ذكر قسمهم في القرآن قد تكلف أُولَئِكَ الكفرة الكبراء منهم في تلبيس الآيات والحجج، التي أتت بها الرسل: مرة بالقسم الذي ذكر؛ حيث أقسموا باللّه جهد أيمانهم أنه لا يبعثون، ومرة بالنسبة إلى السحر، ومرة بالافتراء، ومرة بالنسبة إلى الجنون، وفي الإنباء بأنه إنما يعلمه بشر منا، يريدون بذلك التلبيس على الأتباع. ثم البعث واجب بالعقل، والحكمة، وأخبار الرسل؛ إذ ليس خبر أصدق من أخبار الرسل وآثارهم، وهم ممن يقبلون الأخبار، فأخبار الرسل أولى بالقبول والتصديق من غيرهم؛ لأن معهم آيات صدقهم ودلالات تحقيقهم. وأما العقل فهو أن كون هذا العالم وإنشاءه للفناء خاصة خارج عن الحكمة، إذ كل عمل لا يكون له عاقبة حميدة عبث، وهو كما قال: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا. . .} الآية، أخبر أنه إذا لم يكن رجوع إليه يكون خلقه إياهم عبثًا. وأما الحكمة فهي أن الانتقام لأوليائه من الظلمة واجب لظلمهم، والإحسان لأهل الإحسان، فلو لم يكن بعث والحياة بعد الموت؛ لينتقم من الظالم لظلمه، ويجزى المحسن لإحسانه يذهب فائدة الترغيب على الطاعة والإحسان، ووعيد الظالم بالانتقام، فالبعث واجب؛ للوجوه التي ذكرنا، والتفريق بين الأولياء والأعداء؛ وقد جمعهم في هذه الدنيا، وفي الهحكمة التفريق بينهما. وقوله: {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}. ذكر أن مشركي العرب كانوا لا يقسمون باللّه إلا فيما يعظم من الأمر، ويشتد عليهم؛ تعظيمًا له وإجلالا؛ إنما كانوا يقسمون بالأصنام والأوثان التي عبدوها، فإذا حلفوا باللّه فذلك جهد أيمانهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا}. قوله: {بَلَى} رد على قولهم: {لَا يَبْعَثُ اللّه مَنْ يَمُوتُ} فقال: بلى يبعث. وقوله: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا}. يحتمل {وَعْدًا}: أي: وعد أنه يبعثهم، فحق عليه أن ينجز ما وعد، أو حقا عليه أن يعد البعث والإنجاز له، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}. وهذا يحتمل وجهين: أحدهما: أنه نفى عنهم العلم لما لم ينتفعوا بعلمهم، فهو كما نفى عنهم السمع والبصر وغيرهما من الحواس؛ لما لم ينتفعوا بها انتفاع ما لذلك كان خلقها، فنفى ذلك عنهم. والثاني: نفى عنهم ذلك على حقيقة النفي؛ لأنهم لم ينظروا؛ ولم يتأملوا في الآيات والأسباب التي بها جعل لهم الوصول إلى العلم، فلم يعلموا، ثم لم يعذرهم بجهلهم ذلك؛ لما جعل لهم سبيل الوصول إلى علم ذلك بالنظر والتأمل في الآيات والحجج، لكنهم شغلوا أنفسهم في غيرها، ولم ينظروا في الأسباب التي جعلها لهم سبيل الوصول إليه، فهذا يدل أن من جهل أمر اللّه ونهيه يكون مؤاخذًا به؛ بعد أن جعل له سبيل الوصول إليه بالدلائل والإشارات، فلا يخرج مؤاخذته إياه؛ وعقوبته بترك أمره عن الحكمة، وأما في الشاهد من أمر عبده شيئا؛ ولم يعلمه ما أمره، ثم عاقبه بذلك؛ فهو خارج عن الحكمة؛ إذ لا سبيل إلى الوصول بما أمر به إلا بالتصريح، ولم يكن منه تصريح إعلام، لذلك كان ما ذكر؛ ألا ترى أنه أوعد لهم الوعيد الشديد في الآخرة ٣٩بقوله: (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (٣٩). يحتمل قوله: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: ليعلم أتباعهم أن الرؤساء كانوا كاذبين، وإلا كان الرؤساء منهم كانوا كاذبين عند أنفسهم. أو أن يكون قال ذلك لما ادمًمى أُولَئِكَ الكفرة أن الآخرة لهم؛ كقوله: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى. . .} الآية. فقال جوابًا له: ليعلم الذين كفروا منهم أنهم كانوا كاذبين؛ لادعائهم الآخرة لأنفسهم. ثم قوله: {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ}. قَالَ بَعْضُهُمْ: إنما اختلفوا في البعث: منهم من صدقه، ومنهم من كذبه يقول: يبين لهم ذلك. ويحتمل قوله: {الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ} أي: في الدِّين والمذهب؛ لأنهم اختلفوا في الدِّين والمذهب، وكل من ادعى دينا ومذهبا؛ حتى دعى غيره إلى دينه ومذهبه يتبين لهم المحق منهم من غيره؛ والصادق منهم من الكاذب. ٣٩وقوله: (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (٣٩). يحتمل كفرهم بالبعث؛ وإنكارهم إياه، أو كفروا برسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أو وحدانية اللّه {أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ}. في إنكار ما أنكروا، يتبين لهم ذلك في الآخرة. ٤٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠) يخبر عن سرعة نفاذ أمره، وسهولة الأمر عليه، أنه يكون أسرع من لحظة بصر ولمحة عين وفيه دلالة أن خلق الشيء ليس هو ذلك الشيء؛ لأنه عبَّر بـ (كن) عن تكوينه، ويكون عن المكون، وكذا كنى عنه بالشيء؛ لقوله: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ} فكنى عنه بوقوع القول عليه، والتكوين ثبت أن التكوين غير المكون، ثم لا يخلو من أن يكون التكوين بتكوين آخر إلى ما لا نهاية له، أو لا بتكوين، وقد بينا فسادهما جميعًا، وهما وجها الحديث، ثبت أن اللّه تعالى به موصوف في الأزل، وباللّه التوفيق. والثاني: من فعله كسب سمي كاسبًا، ومن فعله باسم سمي به، فلو كان فعل اللّه كلية الخلق يسمى به، فيسمى ميتا، متحركًا ساكنًا، خبيثًا طيبًا، صغيرًا كبيرًا، ونحو ذلك، فإذا كان يتعالى عن ذلك وقد سمي فاعلا، مميتا محييا، محركًا مسكنًا، جامعًا مفرقًا؛ ثبت أن فعله غير مفعوله، وأنه بذاته يفعل الأشياء؛ لا بغيره، وفي ذلك لزوم الوصف له به في الأزل، واللّه أعلم. ٤١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللّه مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا}. كان ظلمهم إياهم على وجوه: منهم من ظلم بالإخراج من الدّيار والطرد من البلد؛ كقوله: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللّه عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ. . .} الآية، ومنهم من ظلم بالمنع عن الهجرة، ومنهم ظلم بالمنع عن إظهار الإسلام؛ والعمل له، وأنواع ما أوذوا وظلموا بإظهارهم الإسلام، وإجابتهم رسول اللّه، واتباعهم إياه. ثم وعد لهم في الدنيا حسنة؛ فقال: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ}: قيل: لنعطينهم، وقيل: لنرزقنهم، وهو واحد. {فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً}. تحتمل الحسنة في الدنيا العزّ بعد الذل، والسعة بعد الضيق، والشدة والنصر والغلبة لهم بعد ما كانوا مقهورين مغلوبين في أيدي الأعداء، والذكر والشرف بعد الهوان، هذه الحسنة التي بوأهم في الدنيا. والمهاجرة: المقاطعة؛ كأنه قال: والذين قاطعوا أرحامهم، وأقاربهم، وأموالهم، ومكاسبهم، وديارهم، فأبدل اللّه لهم مكان الأرحام والأقارب أخلاء وإخوانًا، ومكان أموالهم أموالا أخرى، وكذلك الدور وكل شيء تركوا هنالك؛ فأبدلهم مكان ذلك كله. وأما قوله: {وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}. يشبه أن يكون ذكر هذا عن حسد كان من الكفرة للمهاجرين؛ لما أنزلهم في المدينة، وبوأهم فيها، وأعزهم، ورفع ذكرهم، وأمرهم، ونصرهم حسدهم أهل الكفر بذلك، فعند ذلك قال: ولأجر الآخرة لهم أكبر وأعظم في الآخرة، لو كانوا يعلمون ما وعد لهم في الآخرة. ويحتمل أيضًا قوله: {وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} هَؤُلَاءِ المهاجرون فيخفّ عليهم احتمال ما أوذوا وظلموا، ويهون، واللّه أعلم. ٤٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢) قال الحسن: أي: على ربهم يثقون في إنجاز ما وعد لهم في الآخرة أنه ينجز ذلك. ويحتمل قوله: {صَبَرُوا} على أمره، أو صبروا على الهجرة، وانقطاع ما ذهب عنهم، وفراق ما كان لهم. ٤٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٤٣) هذا - واللّه أعلم - يكون على إثر أمر كان من الكفرة، نحو ما قال أهل التأويل: أنهم قالوا: {أَبَعَثَ اللّه بَشَرًا رَسُولًا}، وقالوا: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ} ونحوه؛ من كلامهم، فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} أي: إلا بشرًا، أي: لم نرسل من غير البشر، فيكون قوله: {إِلَّا رِجَالًا} كناية عن البشر، أو أن يكون قوله: {إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} أي:، لم يبعث من النساء رسولا إنما بعث الرسل من الرجال إلى الرجال والنساء، واللّه أعلم وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}. قَالَ بَعْضُهُمْ: ليس على الأمر بالسؤال، ولكن لو سألتم أهل الذكر لأخبروكم أنه لم يبعث الرسول من قبل إلا من البشر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو على الأمر بالسؤال؛ أي: اسألوا أهل الذكر فتقلدوهم؛ أي: إن كان لا بد لكم من التقليد فاسألوا أهل الذكر فقلدوهم؛ ولا تقلدوا آباءكم ومن لا يعرف الكتاب، ولكن قلدوا أهل الذكر، وقوله تعالى (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: فاسألوا أهل الذكر فقلدوهم؛ إن كنتم لا تعلمون بالبينات والحجج؛ لأنهم كانوا أهل تقليد، لم يكونوا أهل نظر وتفكر في الحجج والبينات. ويحتمل أن يكون قوله: (إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ) والحجج التي أتت بها الرسل فيكون تأويله: أي اسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون البينات والزبر التي أتت بها الرسل ليخبروكم، أن الرسل إنما بعثوا من البشر بالبينات والكتب، فيكون على التقديم الذي ذكره بعض أهل التأويل: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم بالبينات والزبر. ويحتمل قوله: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} أي: أهل الشرف من أهل الكتاب؛ ليبينوا لكم البينات والزبر؛ لأنهم يأنفون الكتمان والكذب، وإن كان أهل الذكر جميع أهل الكتاب، فالسؤال عن الرسل أنهم كانوا من البشر والرجال؛ لأنهم يعلمون ذلك. ٤٤وقوله: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ (٤٤) قيل: أنزل إليك القرآن؛ لتبين للناس ما نزل إليهم. يحتمل قوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} من أنباء الغيب؛ وما غاب عنهم، وما للّه عليهم، وما لبعضهم على بعض، ولتبين لهم جميع ما يأتون وما يتقون، وما يحل وما يحرم. {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} في ذلك. ويحتمل قوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ} لهم ما حرفوا من كتبهم وبدلوه وغيروه، فيكون فيه آية لرسالتك، أو يكون الذي أنزل إليه كالمنزل إليهم، حيث ذكر أنه يبين ما أنزل إليه، واللّه أعلم. * * * قوله تعالى: (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللّه بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (٤٧) ٤٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ}. قوله: {أَفَأَمِنَ}. قد ذكرنا أنه حرف استفهام؛ إلا أنه من اللّه غير محتمل ذلك، وهو على الإيجاب. ثم هو يخرج على وجهين: أحدهما: على الخبر أنهم قد أمنوا مكره. والثاني: على النهي؛ أي: لا تأمنوا؛ كقوله: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللّه فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللّه إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}. هذا يشبه أن يكون على هذا الذي ذكرنا أنه إخبار عن أمنهم مكر اللّه، وعلى النهي ألا يأمنوا، ثم أخبر أنه لا يأمن مكر اللّه إلا القوم الخاسرون الكافرون؛ لأنهم كذبوا الرسل فيما أوعدوا لهم من العذاب، فأمنوا لذلك، أو لما لم يعرفوا اللّه، ولم يعرفوا حقوقه، ونعمته، ونقمته، فأمنوا لذلك وأمَّا من عرف اللّه؛ وعرف حقه، ونعمته، وعرف نقمته؛ فإنه لا يأمن مكره، واللّه أعلم. ثم قوله: {مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ}. قَالَ بَعْضُهُمْ: مكرهم السيئات: هو ما مكروا برسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه ما لو أصابهم ذلك لساءهم، وما ظاهروا عليهم عدوهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: مكرهم السيئات: هو أعمالهم التي عملوها، وكل ذلك قد كان منهم، كانوا مكروا برسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، وكانوا ظاهروا عليهم عدوهم، وقد عملوا أعمالهم الخبيثة السيئة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَنْ يَخْسِفَ اللّه بِهِمُ الْأَرْضَ}. أي: أمنوا حين مكروا السيئات أن يخسف اللّه بهم الأرض، أو يأخذهم العذاب من حيث لا يشعرون في الحال التي لا يكون لهم أمن ولا خوف. ٤٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ (٤٦) قيل: في أسفارهم وفي تجاراتهم؛ لأن الناس إنما يسافرون ويتجرون في البلدان في حال أمنهم. ٤٧(أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ (٤٧) قَالَ بَعْضُهُمْ: على تقريع، وقال: على تنقيص من الأموال وغيره؛ كقوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ. . .} الآية، وقَالَ بَعْضُهُمْ: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} أي: يأخذ قرية فقرية؛ وبلدة فبلدة، حتى يأتي قريبًا منهم، ثم يأخذهم، كلما أخذ قرية كان لهم من ذلك خوف، فذلك أخذ بتخوف، وهو ما قال: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ. . .} الآية، وعد اللّه حلوله قريبًا من دارهم، كان يخوفهم حتى نزل بساحتهم، فذلك أخذ بالتخوف، يخبر أن عذابه لا يؤمن حلوله. وأخذه إياهم في كل حال؛ في الحال التي ليس لهم أمن ولا خوف؛ أي: لم يغلب هذا على هذا، وفي الحال التي يكونون آمنين في تقلبهم وحوائجهم، وفي الحال التي يكونون متخوفين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}. حيث لم يستأصلكم، ولم يأخذكم بما كان منكم من الافتراء على اللّه، والتكذيب لرسله، والمكابرة، والمعاندة لآياته وحججه وقتئذ، ولكن أمهلكم وأخر ذلك عنكم. أو رءوف رحيم إذا تبتم ورجعتم عما كان منكم يرحمكم ويغفر لكم ذلك. ٤٨قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا}. يحتمل وجهين: أحدهما: أن قال ذلك لقوم قد تقرر عندهم وثبت أن كل شيء يسجد للّه ويخضع له، فقال ذلك لهم على العتاب: إنكم قد علمتم أن كل شيء لم يركب فيه العقل، ولم يجعل فيه الفهم والسمع يخضع للّه ويسبح له، فأنتم لا تخضعون له مع ما ركب فيكم العقول وجعل فيكم الأفهام وغيرها، والثاني: على الأمر؛ أي: اعلموا أن كل شيء من خلق اللّه يسجد له ويخضع، وقد أقام عليهم من الحجة على ذلك ما لو تأملوا وتفكروا لعلموا أن كل ذلك يخضع ويسبح، والا ظاهر قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللّه مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ} أن يقولوا: لم تر أن كان الخطاب لأهل مكة على ما ذكره أهل التأويل، لكن يخرج على هذين الوجهين اللذين ذكرتهما، ويشبه أن يكون ذكر قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللّه. . .} الآية لما استوحش أهل الإسلام مما عبد أُولَئِكَ الكفرة الأصنام، وعظيم ما قالوا في اللّه ما قالوا، فقال لذلك: أولم يروا إلى كذا. وقوله: {يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ}. قَالَ بَعْضُهُمْ: يريد بالظلال شخص ذلك الشيء، والظلال كناية عن الشخص، كما يقال: رأيت ظل فلان؛ أي: شخصه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أراد بالظل الظل نفسه، لكن خضوعه وسجوده يكون للشمس والقمر. وعلى تأويل من يجعل الظل كناية من الشخص يجعل كل نفس تفيء خضوعًا وسجودًا. ثم معنى سجود: هذه الأشياء الموات وخضوعهن، من نحو قوله: {يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا للّه} ومن نحو قوله: {يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ}، وقوله: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ}، وقوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}، وقوله: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ}، وأمثاله. يحتمل وجوهًا: أحدها: أن يجعل اللّه عَزَّ وَجَلَّ - بلطفه في سرية هذه الأشياء معنى تعلم السجود للّه والخضوع له، وهو كما ذكر في الريح التي تجري بأمره رخاء حيث أصاب، أخبر أنها تجري بأمره، دل أنها تعلم أمر اللّه. وقوله: (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللّه الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ). أخبر أنها تشهد وتنطق، ولولا أنها تفهم وتعلم الخطاب؛ والا ما خوطبت، وإن كانت مواتًا فعلى ذلك تسبيحها وخضوعها جائز أن يكون اللّه يجعل في سرية هذه الأشياء ما تعرف السجود والتسبيح وتفهمه. والثاني: يكون سجود هذه الأشياء وتسبيحها بالتسخير، جعلها مسخرات لذلك، وإن لم تعلم هي ذلك ولم تعرف، لكن جعلها بالخلقة كذلك. والثالث: أنه جعل خلقة هذه الأشياء دالة وشاهدة على وحدانية اللّه وألوهيته، فهن مسبحات للّه وساجدات وخاضعات له؛ بالخلقة التي جعلها دالة وشاهدة على وحدانية اللّه وألوهيته، هذا - واللّه أعلم - معنى سجودهن وخضوعهن، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَهُمْ دَاخِرُونَ}. قيل: صاغرون ذليلون. ٤٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَللّه يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يذكر هذا - واللّه اعلم - أنه يسجد له أعلى الخلائق وأعلمهم وهم الملائكة، ويسجد له أشد الخلق وأصلبه وهو الجبال والسماوات والأرض، ويسجد له أيضًا ويخضع أسفه الخلق وأجهله وهو الدواب وغيرها، وأنتم أبيتم السجود له والخضوع، واستكبرتم عن عبادته، فهَؤُلَاءِ الذين ذكرهم يسجدون، يخبر عن سفه أُولَئِكَ في إبائهم السجود له والخضوع، واستكبارهم عليه. ٥٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ (٥٠) قَالَ بَعْضُهُمْ: خوف الملائكة والرسل خوف هيبة اللّه وجلاله لا خوف نزول شيء من نقمته عليهم، وخوف غيرهم من البشر خوف نزول شيء يضر بهم، وكذلك رجاؤهم وطمعهم رجاء نفع يصل إليهم، ورجاء الملائكة والرسل، وطمعهم رجاء رضاء اللّه عنهم لا رجاء نفع يصل إليهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يخافون خوف العقوبة والانتقام؛ لأنهم ممتحنون، وكل ممتحن يخاف عذاب اللّه ونقمته، ألا ترى أنه كيف أوعدهم الوعيد الشديد وقال: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ. . .} الآية، وقال إبراهيم عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ}، خاف عبادة غير اللّه، ومن خاف ذلك يخاف وعيده وعذابه، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ}. الفوق، والتحت، والأسفل، ونحوه في الأمكنة والمجلس ليس فيه فضل عز وشرف ومرتبة؛ لما يجوز أن يكون الذي كان فوق هذا في المكان والمجلس تحته وأسفل منه؛ فلا يزداد لهذا بما صار فوقه عز وشرف ومرتبة، ولا لهذا بما كان تحته ذل، وهوان؛ لأنه لا يفهم من فوقه: فوق المكان ولا تحته؛ لأن من صعد الجبال والأمكنة المرتفعة لا يوصف بالعلو والعظمة، وإذا قيل: فلان أمير على العراق أو على خراسان كان في ذلك تعظيم؛ لأنه ذكر بالقدرة والسلطان ونفاذ أمره ومشيئته وقدرته وسلطانه فيهم، أو اطلاعه على جميع ما يسرون ويضمرون، ويعلنون، ويظهرون، وعلمه على جميع أفعالهم على هذا يجوز أن يتناول الفوق، واللّه أعلم. قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}. وصفهم اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - بفضل خضوعهم له وطاعتهم إياه، وهو ما قال: {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ}، وهو ما قال: {لَا يَعْصُونَ اللّه مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}، ومثله. ٥١قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَقَالَ اللّه لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ}. لا نعلم الخطاب بهذا أنه لمن كان الخطاب بهذا لأهل مكة؛ فهم قد اتخذوا آلهة بقولهم: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا. . .} الآية، إلا أن يخاطب به الثنوية والزنادقة، فإنهم يقولون باثنين، ويشبه أن يكون أهل مكة وإن اتخذوا آلهة فإنهم في الحقيقة عباد إلهين؛ لأنهم إنما كانوا يعبدون تلك الأصنام بأمر الشيطان وطاعتهم إياه، فنسب العبادة إليه؛ لما بأمره يعبدون هذه الأصنام واللّه أعلم؛ ألا ترى أن إبراهيم قال لأبيه: {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ}، وإن كان في الظاهر لا يعبد الشيطان، لكن لما بأمره يعبد الأصنام أضاف العبادة إليه، أو أن يكون المراد من ذكر اثنين: إنما هو على الزيادة على الواحد، كأنه قال: لا تتخذوا ولا تعبدوا أكثر من إله واحد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}. لا تخافون الأصنام التي تعبدونها؛ فإنكم إن تركتم عبادتها لا تضركم. ٥٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللّه تَتَّقُونَ (٥٢) أي: وله يخضع ما في السماوات والأرض وأنتم لا تخضعون، أو ما في السماوات والأرض كلهم عبيده وإماؤه؛ فكيف أشركتم عبيده في ألوهية اللّه تعالى وربوبيته؟ وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا}. قَالَ بَعْضُهُمْ: دائمًا؛ لأن غيره من الأديان كلها يبطل ويضمحل، ويبقى دينه في الدارين جميعًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا} أي: مخلضا، من الوصب والنصب، والتعب، وتأويله - واللّه أعلم -: أي: وله دين لا يوصل إليه إلا بتعب وجهد؛ فاجتهدوا واتعبوا؛ لتخلصوا له الدِّين؛ هذا معنى قوله: (مخلصا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَفَغَيْرَ اللّه تَتَّقُونَ}. أي: مخالفة غير اللّه تتقون؛ أي: لا تخافوا ولكن اتقوا مخالفة اللّه لا تتقوا مخالفة، غيره. أو يقول: لا تخافوا غير اللّه ولا تتقوا سواه، ولكن اتقوا اللّه واتقوا نقمته. ٥٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللّه ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (٥٣) أي: تتضرعون؛ يخبر عن سفههم وقلة عقلهم أنهم يعلمون أن له ما في السماوات والأرض، وأن كل ذلك ملكه، وأن ما لهم من النعمة منه، وأن ما يحل بهم من البلاء والشدة هو الكاشف لهم والدافع عنهم، ثم يكفرونه ويصرفون شكرها منه إلى غيره في حال الرخاء والسعة، ويؤمنون به في حال الشدة والبلاء؛ فيقول: أنا المنعم عليكم تلك النعم، وأنا المالك للكشف عنكم لا الأصنام التي عبدتموها، فكيف كفرتم بي في وقت الرخاء والسعة وآمنتم بي في وقت الضيق والبلاء؟! كانوا يخلصون له الدِّين في وقت ويشركون غيره في وقت، فيقول: أديموا لي الدِّين بقوله: {وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبً} ولا تتركوا الإيمان بي في وقت وتؤمنوا بي في وقت، وكذلك كان عادتهم: كانوا يكفرون بربهم في حال الرخاء والسعة، ويؤمنون به في حال البلاء والشدة؛ كقوله: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللّه. . .} الآية. ويحتمل أن يكون فرض الجهاد على المسلمين والقتال معهم لهذا المعنى؛ لأن من عادتهم الإيمان في وقت البلاء والشدة والخوف، ففرض عليهم القتال معهم؛ ليضطروا إلى الإيمان فيؤمنوا ويديموا الإيمان، ومنذ فرض القتال معهم كثر أهل الإسلام فدخلوا فيه فوجًا فوجًا، وكان قبل ذلك يُدخَل فيه واحدًا واحدًا. وفيه دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث قال: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللّه} فإنما أخبر عما عرفوا وتقرر عندهم أن كل ذلك من عند اللّه؛ ليعلموا أنه إنما عرف ذلك باللّه تعالى. ٥٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥) هذا يحتمل وجهين: أحدهما: أن يجهعلوا ما آتاهم اللّه وأنعم عليهم سبب كفرهم باللّه. والثاني: يكفرون بنعم اللّه - تعالى - بعبادتهم الأصنام، وصرفهم الشكر عنه. ويشبه أن يكون إخباره عن سفههم من وجه آخر؛ وهو أنهم لم يروا في البشر أحدًا يطاع ويخضع إلا أحد رجلين: دافع بلاء عنه، أو جاز نفع إليه، فالأصنام التي عبدوها ليس منها دفع بلاء ولا جز منفعة، فلماذا يعبدونها؟ وقال أبو بكر: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ}: أي بالقرآن. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}. هذا وعيد من اللّه لهم، يقول: فسوف تعلمون ما ينزل بكم من كفران نعمة وصرف الشكر عنه أنه مهلكهم ومنزل بهم عذابه. وفي قوله: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللّه ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ}. أي: تتضرعون، موعظة للمؤمنين أيضًا؛ لأنهم يجعلون يتضرعون إلى اللّه إذا أصابهم الضر والبلاء، وإذا انكشف ذلك عنهم تركوا ذلك التضرع ونسوا ربهم؛ فيعظهم لئلا يصنعوا مثل صنيع أُولَئِكَ، يقول واللّه أعلم؛ أي: تعلمون أن ما بكم من نعمة فمن اللّه؛ فكيف تصرفون شكرها إلى غيره في حال؟!. ٥٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَجْعَلُونَ ... (٥٦) أي: يقولون {لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ}. قَالَ بَعْضُهُمْ: يجعلون للأصنام والأوثان التي يعبدونها نصيبًا مما رزقناهم، من الأنعام والحرث وغيره الذي جعل اللّه لهم. ولا يعلمون لهم نصيبًا في ذلك؛ وهو كقوله: {وَجَعَلُوا للّه مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا للّه بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا}، حرموا على أنفسهم ما جعل اللّه لهم وجعلوه لآلهتهم. ويحتمل قوله: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا} وهو الشيطان؛ أي: ما يجعلون للأوثان، فذلك للشيطان في الحقيقة، لأنه هو الذي أمرهم بذلك، وهو الذي دعاهم إلى ذلك، وهو كقوله: {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ}، ولا أحد يقصد قصد عبادة الشيطان، لكنهم إذا عبدوا الأوثان فكأن قد عبدوا الشيطان؛ لأنه هو أمرهم بذلك، وهو دعاهم إلى ذلك، فعلى ذلك ما يجعلون للأوثان ذلك للشيطان لما ذكرنا، لكن لا يعلمون أن ذلك له نصيب. ويحتمل قوله: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا} أي: يعلمون أن ليس لها نصيب في ذلك، ولكن يجعلون ذلك لها على علم منهم أن لا نصيب للأوثان في ذلك، وهو كقوله: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّه بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} أي: أتنبئون اللّه بما يعلم أنه ليس ونحوه، أي: يعلم غير الذي تنبئون، وقد ذكرنا قوله: {يجعَلُونَ} على القول، أي: يقولون: وإلا لا يملكون جعل ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {تَاللّه لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ}. يحتمل قوله: {تَفْتَرُونَ}: تسميتهم الأصنام آلهة، ويحتمل افتراؤهم على اللّه ما قالوا: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللّه أَمَرَنَا بِهَا}، زعموا أن ما فعل آباؤهم أوفعلوا هم، كان بأمر من اللّه ورضاه؛ حيث تركهم على ذلك، فذلك افتراؤهم. وقوله: {تَاللّه لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ}. يحتمل السؤال الجزاء؛ أي: تاللّه لتجزون عما كنتم تفترون، ويحتمل السؤال سؤال حجة، يسألون على ما ادعوا على اللّه من الأمر الحجة على ذلك، واللّه أعلم. ٥٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَجْعَلُونَ للّه الْبَنَاتِ}. أي: يقولون: للّه البنات، يخبر عن شدة سفههم؛ حيث يأنفون ويستحيون عن البنات، ثم ينسبون ذلك إلى اللّه ويضيفونها إليه، يصبر رسوله على أذى الكفرة؛ حيث قالوا فيه ما قالوا: إنه ساحر، وإنه مفترٍ، ونحوه، على علم منهم ويقين أنه ربهم وخالقهم، لمحمن أنكر رسالته أولى بالصبر على قوله والحلم منه. {سُبْحَانَهُ}. كلمة تنزيه عما قالوا فيه، وحرف تعجيب؛ حيث نسبوا إلى اللّه ما كرهوا لأنفسهم {وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ}: يجعلون لأنفسهم البنين ويجعلون للّه ما يكرهون لأنفسهم. ٥٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) قَالَ بَعْضُهُمْ: قول العرب: قبح اللّه وجهك، وسوّد اللّه وجهك ليس على إرادة السواد والقبح، ولكن على إرادة ما يكرهه. وقال الحسن: قوله: (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا أي: متغيرًا من الغم وهو كظيم: أي: حزين، وهكذا العرف في الناس أنه إذا اشتد بهم الحزن والغم، يظهر ذلك في وجوههم قبحًا وسوادًا. ٥٩(يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (٥٩) يذكر فيه كيف يصنع به: أيمسكه على هون أي: على هوان يضر به ويسيء صحبته أم يدسه في التراب وهو حي؛ فيقول: إن ربي اختار البنات فأبعث بها إلى ربي، فإنه أحق بها، وهي الموءودة التي قال اللّه: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ}، وإنَّمَا كانوا يصنعون ذلك خشية إملاق؛ كقوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ}. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} في جعلهم للّه ما كرهوا لأنفسهم، أو في قولهم: {وَاللّه أَمَرَنَا بِهَا}، أو في قولهم: {هَذَا للّه بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا}، ونحوه، واللّه أعلم. ٦٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَللّه الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠) قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {مَثَلُ السَّوْءِ} أي: لهم جزاء السَّوْءِ؛ وهو النار. وقال الحسن: مثل السوء: أي: صفة السوء التي وصفوا بها ربهم أنه اختار البنات. {وَللّه الْمَثَلُ الْأَعْلَى}. أي: الصفة الأعلى التي ليس لها شبه؛ فإن تلك الصفة من صفته، ويشبه أن يكون قوله: {مَثَلُ السَّوْءِ} بما سماهم مرة موتى، ومرة فسقة، ومرة ظلمة، ومرة هم في الظلمات، وأمثاله، لهم ذلك الوصف بما أنكروا الآخرة، وذلك مما توجبه الحكمة والعقل والشريعة، فلهم ذلك الوصف والمثل السوء؛ بما أنكروا ما توجبه الحكمة والعقل والشريعة. ويحتمل {مَثَلُ السَّوْءِ}: شبه السوء. ويحتمل {مَثَلُ السَّوْءِ}: النعت والصفة، فإن كان هو على الشبه فهو في الدنيا؛ لما شبههم في غير آي من القرآن، بالشجرة الخبيثة والكلمة الخبيثة، وبالرماد وبالزبد والتراب، ونحوه. وإن كان على النعت والصفة فهو في الآخرة، وهو ما ذكر: الذي يحشرون على وجوههم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَللّه الْمَثَلُ الْأَعْلَى}. أي: لأولياء اللّه المثل الأعلى، وهم المؤمنون، لا أن اللّه وصف المؤمنين بالحياة، والنور، والعدل، وغير ذلك من الأسماء الحسنة، وذلك للّه في الحقيقة، لكنه بفضله ومنه وصفهم وسماهم بذلك، فأضيف إلى اللّه؛ لما بفضله استوجبوا لا باستحقاق أنفسهم. وكذلك قوله: {وَللّه الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}، أضيف ذلك إليه؛ لما بفضله يستوجبون تلك الأسماء التي سماهم. ويحتمل قوله: {وَللّه الْمَثَلُ الْأَعْلَى}: أي: لأولياء اللّه المثل الأعلى، كأنه قال: وللذين يؤمنون بالآخرة مثل الأعلى، مقابل ما ذكر؛ حيث قال: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَللّه الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} قال الحسن: العزيز بالغلبة منه في الأشياء كلها على ما أمره، وكل شيء دونه ذليل، الحكيم بالعدل منه في كل قضاء قضى وقد ذكرناه في غير موضع. وقوله: {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} في هذا الموضع كأنه قال: وهو العزيز بنفسه لا بخلقه وأوليائه؛ كما يكون لملوك الأرض؛ يكون عزهم بخدمهم وحشمهم، فإذا ذهبوا أو عصوه يصير مقهورًا مغلوبا، فأما اللّه - سبحانه وتعالى - فهو عزيز بذاته. والحكيم: أي: إنشاؤه العصاة منهم على علم منه بذلك، لم يخرج ذلك على غير الحكمة، واللّه أعلم. ٦١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّه النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) دل قوله: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّه النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ} أنَّ له أن يستأصلهم ويهلكهم بما كان منهم؛ لكنه - بفضله - تركهم إلى المدة التي ضرب لهم؛ لأنه لو لم يكن له ذلك لم يكن للوعيد الذي أوعد معنى. وقال أبو زيد البلخي إن اللّه بما أوعد من الوعيد ليس يوعد لمضرة نفسه ولا لنفع يصل إليه، ولكن يوعد بما توجبه الحكمة، فدل أن الوعيد لازم واجب. ونحن نقول: يوعد بما توجبه الحكمة، وقد أمهلهم بعد الوعيد، فعلى ذلك يجوز أن يخرجهم من النار بعد ما أدخلهم النار؛ بما ارتكبوا من الكبائر. ثم في قوله: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّه النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ. . .} الآية - دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأنهم يقولون: ليس للّه أن يهلك قومًا قد علم منهم الإيمان في وقت، أو يكون في أصلابهم من يؤمن؛ إذ قد كان ممن أوعد ذلك الوعيد من بعضهم الإيمان أو في أصلابهم من قد كان آمن، فدل الوعيد لهم أنه قد يهلك من يعلم أنه يؤمن في آخر عمره؛ إذ لا يوعد إلا بما له أن يفعل لكنه بفضله أخره إلى وقت وفيه دلالة أن له أن يفعل بما ليس ذلك باصلح لههم في الدِّين. ثم اختلف في قوله: {بِظُلْمِهِمْ}: قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا للكفرة خاصة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لهم وللمؤمنين كل مرتكب زلة؛ إذ ما من أحد ارتكب زلة إلا وقد استوجب العقوبة بذلك والمؤاخذة به، لكنه بفضله عفا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ}. قَالَ بَعْضُهُمْ: أراد بالدابة: الدابة التي خلقها لهم، إذا أهلك الناس فقد أهلك الدواب؛ إذ خلقه إياها لهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: ما ترك عليها من دابة: أي: على ظهر الأرض من دابة؛ لأن الدواب إنما تتعيش بالذي يتعيش الناس؛ فإذا هلكوا هم هلكت الدواب أيضًا؛ لما ذهب سبب عيشها. وجائز أن يكون أراد بالدابة البشر؛ أي: ما تركهم بظلمهم ولكن يهلكهم، وسماهم دابة لأنه إذا ذكرهم في موضع الظلم وإن كان سماهم في غير موضع بالأسماء الحسنة، وهو كما سماهم في موضع آخر دابة؛ حيث قال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللّه رِزْقُهَا}، ولا شك أن البشر دخلوا في هذه التسمية، فعلى ذلك جائز دخولهم في الأخرى، وإن كان المراد مما ذكر من الدابة البشر فالأنبياء والرسل إنما يكون هلاكهم بقطع نسلهم؛ لأن الأنبياء أكثرهم ولدوا من الآباء الظلمة؛ فإذا أهلك آباؤهم لم يولد الرسل والأنبياء، فيكون هلاكهم لا بظلم هَؤُلَاءِ ولكن بقطع النسل. وإن كان المراد بتلك الدابة الدواب أنفسها فلأن الدواب إنما أنشئت للبشر ولمنافعهم، فإذا أهلكت الدواب أهلك المنشأ لهم، واللّه أعلم. وفي قوله: {لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأنهم يقولون: يجعل اللّه للخلق آجالا، ثم يجيء كافر فيقتله دون بلوغ الأجل الذي جعله اللّه؛ حيث أخبر أنهم لا يستأخرون ساعة - بعد الأجل المضروب لهم - ولا يستقدمون قبل ذلك، وهم يقولون: بل يستقدمه كافر فيقتله، فذلك سرف في القول. وهذا يخرج على وجهين: أحدهما: لا يتأخر الأجل الذي جعل لهم ساعة ولا يتقدم عن ذلك. والثاني: لا يجاب في التأخير ولا في التقديم. ٦٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَجْعَلُونَ للّه مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢) كانوا يجعلون للّه أشياء يكرهون ذلك لأنفسهم من نحو البنات، يقولون: للّه البنات؛ ويكرهون لأنفسهم البنات، ويجعلون له الشركاء من عبيده؛ وهم كانوا يكرهون لأنفسهم الشركاء من عبيدهم، وأمثاله؛ كقوله: {ضَرَبَ لَكُم مَّثَلا مِن أَنفُسِكُم. . .} الآية. يخبر - عَزَّ وَجَلَّ - عن سفههم وسرفهم في القول، ويخبر عن حلمه؛ حيث لم يستأصلهم ولم يهلكهم مما قالوا في اللّه من عظيم القول من الولد والشريك؛ لنعلم أنه لم يمهلهم لغفلة ولا سهو ولكن لحلم؛ لأن يحلم الخلق في ذات اللّه ولا يعجلوا بالعقوبة؛ إذ لو أراد إهلاكهم لأهلكهم ساعة قالوا ذلك؛ ولا يمهلهم يعيشون، لكن أخر ذلك ليوم، وهو ما قال: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللّه غَافِلًا. . .} الآية. وجائز أن يكون قوله: {وَيَجْعَلُونَ للّه} أي: يجعلون لأولياء اللّه مما يكرهون لأنفسهم؛ لأنهم يقولون: إن لهم الحسنى في الآخرة؛ وهي الجنة، وإن للمؤمنين النار؛ بقوله: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى}. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ}. قال أبو بكر الأصم: يقولون: إنا على دين اللّه وعلى الحق لعبادتنا، ويقولون: إن لهم الحسنى يعنون أنهم محسنون في أعمالهم، وبما هم عليه من دين. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى} يعنون البنين، لأنهم كانوا يضيفون البنات إلى اللّه وينسبون البنين إلى أنفسهم، فذلك الحسنى الذي ذكروا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: بأن لهم الحسنى: أي: الجنة؛ كقوله: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى. . .} الآية. ثم كذبهم في قولهم فقال: {لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ} ليس لهم الحسنى على ما زعموا؛ ولكن النار، وقد ذكرنا قوله: {لَا جَرَمَ} فيما تعَدم، كان أهل الكفر فرقا، منهم من ادعى الاشتراك في نعيم الآخرة كما كان لهم اشتراك في نعيم الدنيا؛ كقوله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ}، ومنهم من ادعى الآخرة لأنفسهم كما كانت لهم الدنيا، فجائز أن يكون قوله: {وَيَجْعَلُونَ للّه مَا يَكْرَهُونَ} وهم الذين ادعوا الحسنى - وهي الجنة - لأنفسهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ}. هو من الفرط؛ وهو: السبق والتقدم، كأن الآية في الرؤساء منهم، أخبر أنهم سابقون أتباعهم إلى النار، وهو كقوله: {وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ}، الأولى هم المتبوعون، وأخراهم الأتباع. وقَالَ بَعْضُهُمْ: معجلون إليها بين يدي أتباعهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {مُفْرَطُونَ} أي: متروكون، منسيون في النار. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {مُفْرَطُونَ} مبعدون عن رحمة اللّه لكن هذين ليسا بتأويل ألبتَّة، إذ كل من في النار فهو منسي متروك فيها مبعد عن رحمة اللّه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: وأنهم مدخلون فيها. والوجه فيه ما ذكرنا. ٦٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَاللّه لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٦٣) هذا لا يحتمل أن يكون هذا القسم منه ابتداء؛ ولكن كأنه عن إنكار كان منهم للرسالة، فعند ذلك أقسم بقوله: {تَاللّه لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ} وأكد بما أنكروا الرسالة بالقسم الذي ذكر، فقال: {تَاللّه لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ} يا مُحَمَّد. قوله: {تَاللّه لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ} كما أرسلناك إلى أمتك {فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} كما زين لأمتك فهو كان وليهم يومئذ كما هو ولي لأمتك اليوم، يصبّره. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} يقول ليس هَؤُلَاءِ بأول من زين لهم الشيطان أعمالهم، ولكن كان في الأمم الماضية من زين لهم الشيطان أعمالهم فيكذبون رسلهم، فلست أنت بأول مكذب، بل كان لك شركاء في التكذيب {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ} قَالَ بَعْضُهُمْ: هو وليهم اليوم، في الدنيا؛ لأن الدنيا هي دار الولاية بينهم، كقوله: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، وقوله: {أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ}، وأمّا في الآخرة فيصيرون أعداء، كقوله: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} وقوله: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ. . .} الآية وقوله: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ}، ونحوه، ولا يحتمل أن يكونوا أولياء في الآخرة ثم يلعن بعضهم بعضا، ويتبرأ بعضهم من بعض، فذلك علامة العداوة. ٦٤وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ} في الآخرة، أي: أولى بهم فيقرن بهم، كقوله: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}، فهو وليهم: أي: صاحبهم، كقوله: {احْشُرُوا. . .} الآية، وكقوله: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ}. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤) قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ}: الكتب التي كانت من قبلهم؛ لأنهم اختلفوا في كتبهم، فمنهم من بدَّل، ومنهم من غير وحرَّف، فيقول - واللّه أعلم -: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} أي: في كتبهم؛ لأن هذا الكتاب أنزله مصدقًا لما بين يديه من الكتاب، يبين هذا الكتاب ما اختلفوا في كتابهم، الحق من الباطل. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} أي: في الرسل والأديان وفي الكتاب المنزل عليه، اختلفوا عنه في ذلك كله، يبين لهم الحق من الباطل في جميع ما اختلفوا فيه بالكتاب الذي أنزله عليك؛ إذ فيه أنباء الأمم الماضية، وهو لم يشهدها، ولم يختلف إلى من يخبره عنها ثم أنبأهم على ما كانت، فدل أنه إنما عرف ذلك باللّه، ومنه نزل ذلك، وفيه دلالة أن الحوادث التي علم اللّه أنهم يبتلون بها إلى يوم القيامة أنه جعل لهم سبيل الوصول إلى بيانها في الكتاب، إمّا بيان كناية وإما بيان تصريح، حيث قال: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ. . .} الآية، حيث لم يدعهم في الاختلاف على غير بيان، فعلى ذلك علم أنهم يبتلون بالحوادث التي ليس لها نصوص في الكتاب لا يحتمل ألا يبين لهم ذلك ويدعهم حيارى، لكن البيان على وجهين: بيان تصريح يعقل بديهة العقل. وبيان كناية يدرك بالنظر والتأفل والاستدلال. وأصله في قوله: {إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} أي: إلا لتبين لهم الحق فيما اختلفوا فيه؛ لأنهم اختلفوا في المحق في ذلك؛ لأن كل فريق منهم ادّعى أنه هو المحق، وأن الذي هو عليه الحق، وأن غيره على باطل، فأخبر أنه أنزل الكتاب عليه ليبين لهم الحق فيما اختلفوا فيه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} جعل اللّه تعالى رسوله وكتابه هدى ورحمة للمؤمنين؛ لأنهم آمنوا بهما، وصدقوهما، وقبلوهما، فصار ذلك لهم، هدى ورحمة ونورًا، وأمَّا من كذبهما ولم يقبلهما فهو عذاب عليهم وعمى، وهو كقوله: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ. . .) الآية. وهو ما ذكر {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى}. ٦٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاللّه أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} يذكر - عَزَّ وَجَلَّ - قدرته وسلطانه، حيث أخبر أنه ينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض وهي ميتة، ويخرج منها نباتًا وزروعًا وأشجارًا، فمن قدر على هذا لقادر على إحياء الأنفس بعد موتها لأنه لا فرق بين الإحياءين إحياء الأرض واحياء الأنفس، إذ من قدر على أحدهما قدر على الآخر {إِنَّ فِي ذَلِكَ} فيما ذكر {لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} قَالَ بَعْضُهُمْ: لآية لقوم يسمعون المواعظ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لآية لقوم يسمعون الآيات والحجج، وأما من لم يسمع فلا يكون له آية، وأصله: إن في ذلك لآية لقوم ينتفعون بسماعهم، ولآية لقوم يعقلون، أي: ينتفعون بعقولهم، وأصله أن هذا كله يصير آية للمؤمنين على ما ذكر كله؛ لأنهم هم العاقلون عن اللّه ما أمرهم به ونهاهم عنه، وهم يسمعون آياته ومواعظه، وكله كناية عن المؤمنين، واللّه أعلم. ٦٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (٦٦) والعبرة الآية، أي: أنشأ لكم أنعامًا فيه الآية، هو صلة قوله: {وَاللّه أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} أي: أنزل من السماء ماء، وأنشأ الأنعام لكم فيه الآية أنشأ - عَزَّ وَجَلَّ - في الأنعام لبنًا غذاء الأولاد، في الوقت الذي لا يحتمل الغذاء بالعلف، وجعل لأربابها الانتفاع بذلك اللبن وفي الأشياء التي لا يؤكل لحمها لم يجعل لأربابها الانتفاع بما يفضل من اللبن، ولم يجعل لها فضل لبن. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ} ذكر بالتذكير، فظاهره أن يذكر بالتأنيث؛ لأنه إما أن يريد به الأمهات التي يدر منها اللبن أو جماعة من الذكران منها، فكيفما كان فهو يذكر بالتأنيث، لكن بعضهم يقول: ذكر باسم التذكير على إرادة الأصل الذي به كان اللبن، وهو الفحل، وهذا يدل لأبي حنيفة وأصحابه - رحمهم اللّه - لقولهم في لبن الفحل أنه يحرم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذكر باسم التذكير على إرادة الجنس والجوهر من بين الأجناس والجواهر دون العدد والجماعة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} وقال ابن عَبَّاسٍ رضي اللّه عنه: يعني استخراج اللبن من بين فرث ودم، وذلك أن العلف إذا وقع في الكرش طبخه الكرش، فيجعل الفرث أسفله والدم أعلاه واللبن بين ذلك، ثم يسلط الكبد عليهم فيجري الدم في العروق، واللبن في الضرع، ويُبقي الفرث في الكرش كما هو. وقال بعض الفلاسفة: إن العلف إذا وقع فيه يصير منه فرثًا، ثم يصير منه دمًا، ثم يصير لبنًا خالصًا، فهو كالنطفة التي وقعت في الرحم، تصير علقة، ثم تصير مضغة مأكولة، فعلى ذلك اللبن الذي، ذكر واللّه أعلم. ويحتمل ما قاله بعض الفلاسفة أن العلف يصير فرثًا، ثم دمًا، ثم لبنًا. ويحتمل أن يكون مجرى اللبن بين ما ذكر من الفرث والدم، فأي الوجهين كان، كان فيه اللطف الذي ذكرنا. ووجه ذكر هذا - واللّه أعلم - على الامتنان وكذلك ما ذكر من الثمرات والأعناب أنه بلطفه أخرج اللبن الصافي أصفى الأشياء وألطفها من بين أخبث الأشياء وأكدرها في رأي العين، فمن قدر على حفظ هذا مما ذكر بلا حجاب يدرك أو حاجز يعرف لقادر على إنشاء الأشياء من لا شيء لأن الخلائق لو اجتمعوا على أن يدركوا السبب الذي به كان حفظ هذا من هذا وامتناعه عن الخلط بالخبيث ما أدركوا ذلك، وكذلك ما يخرج من النخيل والكروم الثمرات الطيبة والأعناب الحلوة من غير أن يرى أثر ذلك فيها، ومن غير أن يدركوا السبب الذي كان به الأعناب والثمرات، دل أنه قادر على إنشاء الأشياء من لا شيء إذ هي خشبة يابسة، واللّه أعلم. ٦٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا (٦٧) قَالَ بَعْضُهُمْ: السكر ما يحرم منه، والرزق الحسن: ما يحل من ثمرها. وقال بعضهم: السكر: ما يتخذ من الشراب، والرزق الحسن: ما يؤكل تمرًا وزبيبًا، ونحوه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: السكر خمر الأعاجم، والرزق الحسن ما ينبذون ويخللون ويأكلون. وروي في بعض الأخبار أنه حرم السكر، ولم يفسر الآية. وفي بعض الأخبار أنه بعث معاذا إلى اليمن، وأمره أن ينهاهم عن نبيذ السكر. وعن عبد اللّه قال: إن أولادكم ولدوا على الفطرة فلا تسقوهم السكر، فإن اللّه تعالى لم يجعل في حرام شفاء. وليس بين فقهاء الأمصار في تحريم السكر وفضيخ البسر ونقيع الزبيب إذا أسكر كثيرها ولم يطبخ - اختلاف أنها حرام، وقد ذكرنا هذا في سورة البقرة {إِنَّ فِي ذَلِكَ} لما ذكر [{لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}]: يعقلون. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الفرث ما في الكرش؛ لأن اللبن كان طعامًا، فخلص من ذلك الطعام دم، وبقي منه فرث في الكرش، وخلص من الدم لبنًا سائغًا أي: سهلا في الشرب، لا يشجى به شاربه ولا يغص. وكذلك قال أَبُو عَوْسَجَةَ: أسغته: أي: أدخلته في حلقي سهلا. وقوله: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} أي: تتخذون منه ما يحرم أكله، ورزقًا حسنًا: ما يحل منه، وهو كقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللّه لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ. . .} الآية. أو يخرج على تذكير النعم في الوقت الذي كان السكر حلالا، أي: تتخذون منه سكرا ما تشربون، ورزقًا حسنًا سوى الشراب. ٦٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا. . .} إلى آخر ما ذكر. قَالَ بَعْضُهُمْ: {وَأَوحَى} أي: قذف في قلوبها أن افعلي ما ذكر، والوحي هو القذف؛ سمي بذلك لسرعة وقوعه، ونفاذه في القلوب من غير أن يشعر الملقى فيه والمقذوف في قلبه أن أحدًا فعل ذلك أو ألقاه فيه، وهو ما مكن اللّه للشيطان من الوسوسة في القلوب من غير أن يعلم الموسوس إليه والمقذوف في قلبه أن أحدًا دعاه إلى ذلك أو زين له ذلك، وكذلك ما يلهم الملائكة بني آدم من أشياء من غير أن يعلموا أن أحدًا دعا إلى ذلك أو زين ذلك له، أو ألقاه في قلوبهم فهذا كله يرد على من ينكر الشيطان والملائكة، وهم طائفة من الملحدة يقولون: إن الشهوات والأماني التي جعلت في أنفسهم هي التي تبعثهم وتهيجهم على ذلك لا الشيطان. فيقال لهم: إن الإنسان قد يناله أشياء من غير أن كان منه تفكر في ذلك، أو أماني أو سابق تدبير، فذلك يدل أن غيرًا ألقى ذلك في قلبه وقذف، لا عمل الأماني والشهوات، وهذا أيضًا يدل على لطف اللّه في البشر أنه يوفقهم على الطاعات ويحثهم عليها من غير أن علموا أن لغير في ذلك صنعًا، وكذلك الخذلان في المعاصي وأنواع الأجرام التي يكتسبونها. ثم يحتمل قوله: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} أي: النحل وغيرها من البهائم - وجهين: أحدهما: يحتمل أنه أنشأ هذه البهائم على طبائع تعرف بالطبع مصالحها، ومهالكها، ومعاشها، وما به قوام أبدانها وأنفسها، وما به فسادها وصلاحها من غير أن يعلم أن أحدًا يدعوهم إلى ذلك، أو يشير إليها، أو يأمر وينهى، ولكنه بالطبع يعرف ذلك ويعلم من نحو أشياء يعلمهن أشياء بالطباع من غير أن يعلم أن أحدًا علمهن ذلك من نحو الوز يسبح في الماء بالطبع من غير أن يعلم أنها تسبح، وكذلك الطير الذي يطير في الهواء من غير أن يعلم بالطيران، فعلى ذلك يحتمل فهم هذه البهائم وعرفانها ما ذكرنا من المصالح والمهالك من غير أن يعلم أنها تعرف ذلك، واللّه أعلم. والثاني: يحتمل أن يكون اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - جعل خلقة هذه الأشياء بالذي يقفون على المخاطبات والأمر والنهي، ويعرفون ذلك ما لا يعرف مثله البشر ألا ترى أن البشر لا يعرفون المهالك والمصالح إلا بالتعلم، والبهائم وإن صغر ذلك تعرف حتى تتوقى المهالك وترغب في المصالح، ومما يدل أن هذه الأشياء مما يفهم الأمر والنهي والمخاطبات قوله: (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠). وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللّه الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ)، ألا ترى أنهم فهموا الخطاب حيث ردوا عليهم الجواب بقوله: {أَنطَقَنَا} فذلك ما ذكرنا، واللّه أعلم. فذلك الوحي والقذف لكل البهائم لا للنحل خاصة لما ذكرنا من معرفتها المهالك والمصالح، وما به معاشها وغذاؤها مما به فسادها وهلاكها حتى عرفت ذلك من غير أن تعلم، والبشر لا يعرفون إلا بالتعلم، فهو - واللّه أعلم - لوجهين: أحدهما: للمحنة أن البشر امتحنوا بالتعليم، فذلك من اللّه امتحان لهم، والبهائم لا محنة عليهم، فعرفوا ذلك على غير تعلم، أو كان ذلك للبشر بالتعلم؛ لفضل بعض على بعض في العلم بالتعليم؛ إذ البهائم يستوي صغيرها وكبيرها في معرفة ذلك، وفي بني آدم تتفاضل وتتفاوت بالتعلم، واللّه أعلم. فَإِنْ قِيلَ: فإذا كانت البهائم كلها مشتركة في ذلك الإلهام والوحي فما معنى تخصيص النحل بالذكر من غيرها من البهائم؟ قيل: يحتمل تخصيص النحل بالذكر - واللّه أعلم - لما أن هذه الأشياء غير النحل لا تعطي تلك المنافع التي جعلت فيها، ولا تبذل للبشر إلا بالرياضة والتعلم، والنحل تعطي ذلك لهم وتبذل من غير تعلم ولا رياضة، واللّه أعلم. ثم قوله: {أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} ٦٩وقوله: (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ (٦٩)، وقوله: {فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا} ونحوه، ظاهره أمر، لكن حقيقته تمكين وتسهيل، نحو قوله: سيروا في كذا، هو في الظاهر أمر، وفي الحقيقة تمكين وتيسير. ثم في هذه الآية، وفي قوله: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ} وفيما سبق من الآيات، وهو قوله: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ} وفي قوله: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} دلالة قدرته على إنشاء الأشياء من لا شيء، ودلالة علمه وتدبيره؛ لأنه أخرج من هذه الجواهر المختلفة أشياء من غير جوهرها وجنسها ما لم يكن شيء مما أكل منها هذه البهائم من الجواهر التي أخرج منها، من نحو العسل الذي أخرج من الفواكه التي أكلت، واللبن من العلف الذي أكل، والعصير والسكر والأعناب من الكروم؛ إذ ليس شيء خرج منها من جنس ما أكل، ولا من جوهر ما سقى، دل أنه كان فعل عليم قادر على إنشاء الأشياء من لا شيء ولا سبب، وفيه دلالة علمه وتدبيره وحكمته؛ لأن إنشاء ذلك اللبن في البطن على غير جوهر ما تناولت، ومن خلاف لونه في تلك الظلمات دل أن علمه وتدبيره غير مقدر بعلم الخلق، وأن حكمته غير مقدرة بحكمة الخلق، وكذلك قدرته غير مقدرة بقدرة الخلق، ثم قوله: {فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ} قيل: طرق ربك ذللا، وقيل مطيعة، وقيل من الذل، أي: الرفق واللين، كقوله: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} وقوله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ. . .} الآية من الذل، ومن الرفق واللين، وهذا يخرج على وجهين. أحدهما: ذللت سبل ربها، وسهل السلوك فيها حتى تسلك كيف شاءت. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - {وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} قيل: مما يبنون، ويحتمل مما يتخذ من العريش، وهو الذي يتخذ من الخشب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ}. قال الحسن: الشهد والعسل. وقَالَ بَعْضُهُمْ: مختلف في الطعم، وقيل: في الألوان: الأبيض، والأحمر، والأصفر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} قَالَ بَعْضُهُمْ: فيه شفاء للناس، من كل داء، حتى القروح، وكل شيء. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {فِيهِ شِفَاءٌ} من داء دون داء. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {فِيهِ شِفَاءٌ} يعني: في القرآن، فيه شفاء القلوب للدِّين. ويحتمل قوله: فيه شفاء للأجساد، فإن أراد هذا فهو ظاهر، لا شك أن فيه ذلك الشفاء. ويحتمل: فيه شفاء للدِّين، فإن كان هذا فيكون ذلك من جهة النظر فبه يدرك ويوصل إلى ذلك الشفاء. وقوله: {ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ}. قَالَ بَعْضُهُمْ: من نوع ما تأكل النحل. وقَالَ بَعْضُهُمْ: من جميع الثمرات التي تكون في الجبال. عن عبد اللّه قال: القرآن والعسل هما الشفاءان، القرآن شفاء الدِّين، والعسل شفاء الأبدان. وقَالَ بَعْضُهُمْ من أهل اللغة: إن الوحي في كلام العرب على وجوه: منها: وحي النبوة، وهو إرسال اللّه الملائكة إلى أنبيائه ورسله، كقوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللّه إِلَّا وَحْيًا}، ومنها: وحي الإشارة كقوله: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا}، ومنها: وحي الإلهام، وهو كقوله: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ}، وقوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى}، وقوله {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا}، ونحوه. ومنها: وحي الأسرار، كقوله: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ. . .} الآية. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن أصل الوحي عندنا هو أن يلقي الإنسان إلى صاحبه شيئًا للاستتار والإخفاء وقد يكون ذلك بالإيماء والخط. وأصل الوحي ما ذكرنا أنه سمي به لسرعة وقوعه وقذفه في القلب. وقال أبو بكر: تأويل الوحي أن يعلم الذي يوحي إليه ويرشده، وذلك من وجهين: أحدهما: أن اللّه أرشد كل دابة سوى الإنسان إلى مصلحتها، والهرب عن مهلكها ومتلفها بما فطوها اللّه عليه، كما أرشد الإنسان إلى ما يصلحه في دينه ودنياه بالتعليم، فمثل اللّه تعليمه كل دابة ما فيه مصلحتها ومفسدتها بما دبرها عليه، كما علم الإنسان بالقول والبيان، فقال: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} أي: أرشدها ودلها بفطرتها {أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ} بيوتًا فيها {وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} يعني: واتخذي مما يبني الإنسان لمسكنه. وقال: العريش: الحيطان التي لا سماء لها، بفطرتها تتخذ خلاياها في كل ذلك لمنافع الخلق، ثم قال: {ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} والثمرات مختلفة الطعم والمنظر والمشبم: {فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا} وهو ما سبل اللّه لها من الرزق والمأوى {ذُلُلًا} قال: يقول: ذلك ذلل لك كل شيء قدره لرزقك ومسلكك، وذللك في طلب ما سبل لبني آدم وجعلها سببًا لمنافعهم وصغر قدرك لديهم فذلك قدرته وسلطانه على ما شاء؛ ليعلموا أن خالقهم لا يعجزه شيء، وأنه القدير على ما يعدهم من البعث والثواب والعقاب. وقوله: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} يقول: الجنس واحد، ثم هو ضروب كألوان التمر والعنب وسائر الثمار في مذاقه ومشامه ومنظره، وكله عسل فيه شفاء للناس لمنافعهم وملاذهم وفيما أراهم اللّه من قدرته على ما يشاء من ذلك، فيه شفاء لهم في الدِّين والعلم، يعلمون بما يشاهدون من تدبير اللّه وقدرته، على ما بينا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} يقول: لعبرة ودليلا وبرهانًا {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فيما يشاهدون من تدبير اللّه وتقديره وقدرته على ما يشاء، واللّه أعلم. وقال في قوله: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ} يقول: ولكم عبرة ودليل أن النخل أجذاع خشب لا طعم فيها والكرم خشب أيضًا وما فيهما من سعف وورق لا عسل فيها ولا عنب، فأخرج اللّه منهما ثمرات مختلفات، فيه عسل، وفيه تمر وزبيب، وتتخذون منه ما تلذون من الشراب. وقال: هذا قبل تحريم الخمر، والسكر: كل ما أسكرهم، وتتخذون منه أيضًا رزقًا حسنًا، أي: طيبًا، وهو ما تأكلون منها، سوى ما تشربون، وتكسبون بها أموالا كثيرة، منَّ اللّه به عليهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: السكر: كل شيء حرمه اللّه من ثمارها من الشراب، الخمر من العنب، والسكر من التمر، والرزق الحسن: ما أحل من ثمرها، الزبيب، والتمر، والنبيذ، وقال السكر: ما أسكر، والرزق الحسن: الخل، وأشباهه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} ودليلا وبيانا {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ما ينبهون، فيعلمون أن الذي لم يعجز عما خلق لهم من الثمار من خشب يابس يقدر أن يحيي الموتى، ويخلق ما يشاء، وما عرفه الخلق أنه يكون من النطفة الولد، ومن الماء والأشجار الفواكه، ومن العلف اللبن، وغير ذلك من الحوادث التي تحدث من الأشياء، وتلك أسبابها ما لم يدرك كون تلك الأشياء فيها ولا يرى لا يعرف ذلك إلا بتعليم من هو عالم بذاته لأن علم ذلك لو كان لا بتعليم لو اجتهدوا كل جهدهم لم يدركوا حدوث تلك الأشياء مما ذكرنا، ولا كونها منها، دل أن الذي علمهم هو عالم بذاته؛ فإذا ثبت كونه بعالم بذاته وإن كانوا لم يشاهدوا إلا عالمًا بغير، فعلى ذلك هو قادر على إنشاء الأشياء من لا شيء وإن كانوا لم يعاينوا في الشاهد شيئًا إلا من شيء، وفيه أن ما يحدث ويكون من اللبن بالعلف الذي يؤكل، أو الطعام الذي يتناول، أو الفواكه والثمار التي تخرج ليس يكون بنفس الماء، أو بنفس الطعام والعلف، ولكن باللطف من اللّه تعالى؛ لأنه قد يسقي ذلك الماء الشجر والنخل في حال ثم لا يكون فيه الثمر، وكذلك الدواب تعلف في حال لا يكون ذلك منه. ٧٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - {وَاللّه خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} فَإِنْ قِيلَ لنا أيُّ منَّةٍ له علينا في ذكر خلقنا ثم توفيه إيانا ورده لنا إلى الحال التي ذكر وهو حال الجهل حتى لا نعلم شيئًا. قيل ذكر هذا - واللّه أعلم - يحتمل وجوهًا: أحدها: يذكرهم أنه هو الذي خلقكم، ثم هو يتوفاكم، ثم هو يملك ردكم إلى الحال التي لا تعلمون شيئًا، وفي ملكه وسلطانه تتقلبون، فكيف عبدتم الأصنام والأوثان التي لا يملكون شيئًا من ذلك وأشركتموها في ألوهيته وعبادته، أو يذكر هذا أنه خلقكم ولم تكونوا شيئًا، ثم يتوفاكم بعد ما أحياكم، ثم يردكم إلى الحال التي لا تعقلون شيئًا بعدما جعلكم عقلاء علماء، فمن يملك هذا ويقدر على هذا، يقدر على الإحياء بعد الموت والبعث بعد الفناء. أو يذكر هذا؛ ليعلموا أنه لم يكن المقصود بخلقهم الفناء خاصة، لكن لأمر آخر قصد بخلقهم، وهو ما ذكر فيما تقدم من أنواع النعم وتسخير ما ذكر من الأشياء لهم ليعلموا أن المقصود في خلقهم لم يكن الفناء خاصة؛ إذ لو كان الفناء خاصة لم يحتج إلى ما خلق لهم من الأغذية والنعم التي أنشأ لهم والأشياء التي سخرها لهم. وقال أبو بكر الأصم: قوله: {وَاللّه خَلَقَكُمْ} وكنتم نطفًا أمواتًا فأحياكم، ثم يتوفاكم أطفالا وشيوخًا، ومنكم من يعمر إلى أرذل العمر، يقول: يرده بعد قوة وعلم وتدبير الأمور إلى الخرف والجهل بعد العلم ليبين لخلقه أن العمر والرزق ليس بهما ربي وقوي؛ لأنهما ثابتان ثم يبلى ويفنى بهما ويرجع إلى الجهل، ولكن بلطف من اللّه وتدبير منه، لا بالأغذية، واللّه أعلم. {إِنَّ اللّه عَلِيمٌ} بما دبر في خلقه مما يدركون به قدرة خالقهم، وتصريفه الأمور، وبما يكونون به حكماء وعلماء أن الذي دبرها حكيم قدير على ما شاء، والحكمة فيما ذكر من تفريق الآجال ليكونوا أبدًا خائفين راجين؛ لأنه لو كانت آجالهم واحدة يأمنون ويتعاطون المعاصي على أمنٍ، لما يعلمون وقت نزول الموت بهم. والثاني: ليعلموا أن التدبير في أنفسهم وملكهم لغيرهم لا لهم؛ لأن التدبير والأمر لو كان إليهم لكان كل منهم يختار من الحال ما هو أقوى وآكد. ٧١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللّه فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللّه يَجْحَدُونَ (٧١) قال بعض أهل التأويل: يذكر هذا مقابل ما أشركوا خلقه وعباده في ألوهيته وعبادته، يقول: فضل اللّه بعضكم على بعض في الرزق والأموال حتى بلغوا السادة والموالي فلا ترضون أن يكون عبيدكم ومماليككم شركاء في ملككم وأموالكم، فكيف ترضون للّه أن يكون عبيده ومماليكه شركاء، إلى هذا ذهب بعض أهل التأويل. وقال أبو بكر الأصم: قوله: {فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} أغنى بعضكم، وأفقر بعضًا، وجعل منكم أحرارًا وعبيدًا {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا} بالغنى والتمليك {بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} من عبيدهم {فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} إذ يستوي المولى وعبده فيما ملكت يمينه، يقول: فليس أحد منكم يرضى أن يكون عبده بمنزلته فيما يملك سواء، فإذا رأيتم أنتم ذلك نقصا بكم لو فعلتم، فكيف زعمتم أن اللّه أشرك بينه وبين أحجار حتى أشركتم ما ملككم اللّه بينه وبين الأوثان في العبادة وفيما آتاكم من رزق، فقلتم: هذا للّه، وهذا لشركائنا {أَفَبِنِعْمَةِ اللّه يَجْحَدُونَ} يقول أنعم اللّه عليهم بأنفسهم وأرزاقهم وأموالهم وأولادهم، فأشركوا غير اللّه فيها، وجحدوا نعمة اللّه عليهم بها عصوا، وبها كفروا، ثم ألزمهم النظر في الفضل الذي ذكر أنه فضل بعضهم على بعض إلى عين الفضل الذي كان من اللّه، لا إلى الأسباب التي اكتسبوها، ليعلموا أنهم لم ينالوا تلك الفضائل باستحقاق منهم، ولكن إنما نالوا بفضل منه ورحمة، فيكون ذلك دليلا لهم فيما أنكروا من أفضال اللّه، واختصاصه بعضهم بالرسالة والنبوة، وإن كانوا جميعًا من بشر، ومن جنس واحد على ما فضل بعضهم على بعض في الرزق، والسعة، والملك، والحرية والسلطان، وإن كانوا جميعًا في الجنس واحد، فإذا لم تنكروا هذا النوع من الفضل والاختصاص لبعض على بعض، فكيف أنكرتم ذلك الفضل والاختصاص بالرسالة من فضله ورحمته، فلذلك قال - واللّه أعلم -: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ}، أخبر أنه برحمته وفضله ينال ما ينال من الرسالة وغيرها، لا بالاستحقاق والاستيجاب كان منهم، أو أن يذكر سفههم بأنهم يأنفون أن يشركوا عبيدهم ومماليكهم في ملكهم وأموالهم ولهم بهم منافع من الخدمة والإعانة في الأمور، فما بالهم يشركون أحجارًا وخشبا، لا منفعة لأحد منهما في ألوهية اللّه وربّوبيته وفي عبادته: {أَفَبِنِعْمَةِ اللّه يَجْحَدُونَ} على تأويل النبوة بفضل اللّه وبرحمته يجحدون أنه لا يفضل بعضا على بعض بالرسالة، أو يجحدون ما آتاهم اللّه من النعم، فيصوفون نعمه إلى غيره، وهي الأصنام التي عبدوها، فقالوا: هذا لشركائنا، أو يصرفون شكر نعمه إلى غيره، وهي الأوثان التي عبدوها، واللّه أعلم. ٧٢وقوله: - عَزَّ وَجَلَّ - (وَاللّه جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً ... (٧٢) قال الحسن وغيره: الحفدة: الخدم والمماليك، فهو على التقديم، على تأويل هَؤُلَاءِ، يقول: جعل لكم من أنفسكم أزواجًا وخدمًا من جنسكم؛ لأنه ذكر فيما تقدم: {وَاللّه فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ. . .} الآية، يذكرهم نعمه وفضله الذي ذكر أنه جعل لكم من جنسكم أزواجًا وخدمًا تحت أيديهم، يستمتعون بالأزواج، ويستخدمون الخدم والمماليك، وهم من جنسهم وجوهرهم، يذكرهم فضله ومننه عليهم. أو يشبه أن يكون هذا صلة قوله: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا. . .} الآية، كانوا يأنفون عن البنات، ويدفنونهن أحياء إذا ولدن أنفا منهن، يقول - واللّه أعلم -: كيف تأنفون منهن وقد جعل لكم من البنات أزواجًا تستمتعون بهن حتى لا تصبروا عنهن، وكذلك جعل لكم من البنات والبنين الذين ترغب أنفسكم فيهم ما لولا البنات لم تكن لكم الأزواج التي تستمتعون بهن، ولم يكن لكم البنون الذين ترغبون فيهم، والأنصار والأعوان والخدم الذين ترغبون فيهم، يبين ويذكر تناقضهم في الأنفة منهن يأنفون منهن، ومن البنات يكون ما يرغبون فيهم؛ فهذا يدل أن النساء يصرن كالملك للأزواج، ويصرن تحت أيديهم في حق ملك الاستمتاع، كالمماليك في حق ملك الرقاب، ثم جعل - عَزَّ وَجَلَّ - التناسل في الخلق على التفاريق، وتقلبهم من حال إلى حال، وتنقلهم أبدًا كذلك ليكون أذكر لتدبيره، وأنظر في آياته ودلالاته، ولو شاء لأنشأ الخلق كله بمرة واحدة، وأفناهم بدفعة واحدة، وكذلك ما جعل لهم من الأرزاق وأنواع النبات، لو شاء لأخرج لهم ذلك كله بمرة واحدة في وقت واحد، لكنه أنشأ لهم بالتفاريق ليذكرهم النظر في آياته وتدبيره، ليكون ذلك لهم أدعى إلى المرغوب، وأحذر للمرهوب، وكذلك ما ردد من الأنباء والقصص، والمواعيد، وذكر الجنة والنار في القرآن في غير موضع ليبعثهم ويحثهم على النظر في آياته وتدبيره، ويركبهم في كل وقت في المرغوب، ويحذرهم عن المحذور والمرهوب، ثم قوله: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} وقال في آية أخرى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ}، وقال: {وَلَا تَقْتُلُوَا أَنْفُسَكُمْ}، ونحوه، ذكر الأنفس في هذا كله، ثم لم يفهم أهل الخطاب من هذا كله معنى واحدًا وشيئًا واحدًا، وإن كان في حق اللسان واللغة واحدا لكنهم فهموا في كل غير ما فهموا في آخر، فهذا يدل أنه لا يفهم الحكمة والمعنى في الخطاب بحق ظاهر اللسان واللغة، ولكن بدليل الحكمة المجعولة في الخطاب، ومن اعتقد في الخطاب الظاهر حسم باب طلب الحكمة فيه والمعنى؛ لأنه يجعل المراد منه الظاهر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} هو ما ذكرنا، وحفدة اختلف فيه، قَالَ بَعْضُهُمْ: الحفدة: الخدم والمماليك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحفدة: ولد الولد. وقال ابن مسعود رضيَ اللّه عنه: الحفدة: الأختان وروي عنه أنه قال: الحفدة: الأصهار فالأصهار والأختان عنده واحد، وقيل: الحفدة: الأعوان والأنصار يذكرهم التناقض فيما يأنفون من البنات أن كيف يأنفون عنهن ومنهن يكون لكم الأعوان والأنصار، والأختان في أمر الدنيا. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الحفدة: بنو البنين، وقال أيضًا: الحفدة: الأعوان، والحافد: المجتهد في العبادة وفي العمل، يقول: حفد يحفد، أي: خدم واجتهد، وقوله: وإليك نسعى ونحفد، أي: نجتهد. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الحفدة: الخدم والأعوان، يقال: هم بنون وخدم. وقال: أصل الحفد: مداركة الخطو والإسراع في المشي، وإنَّمَا يفعل ذلك الخدم، فقيل لهم: حفدة، واحدها: حافد. وقال: ومنه يقال في دعاء الوش: وإليك نسعى ونحفد. وقال أبو عبيد: وأصل الحفد: العمل وقال: ومنه الحرف في القنوت: نحفد، أي: نعمل، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} قَالَ بَعْضُهُمْ: الطيبات: الحلالات. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الطيبات: أي: كل ما طاب ولانَ ولطف، ورزق غيركم من الدواب والبهائم كل ما خشن، وخبث يذكرهم مننه عليهم ونعمه عليهم، ليستأدي بذلك شكره. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ} قَالَ بَعْضُهُمْ: أبالشيطان يصدّقون، ويجيبونه إلى ما دعاهم من الأنفة من البنات، وبنعمة اللّه هم يكفرون، أي: هذه البنات لكم نعمة، فكيف تكفرونها، وقال: {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ} أي: أبالشيطان إلى ما دعاكم وبنعمة اللّه أي: بمُحَمَّد يكفرون، أو بالإسلام، أو بالقرآن. وقال أبو بكر الأصم: {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ} يقول: تقرون بأنكم عبيد لأحجار. وثذلون لها وتعبدونها، {وَبِنِعْمَتِ اللّه هُمْ يَكْفُرُونَ} يقول: وبما أنعم اللّه عليكم في أنفسكم وما خولكم ورزقكم تكفرون به، وكان الشكر أولى بكم، واللّه أعلم. ٧٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا} فائدة ذكر هذا لنا - واللّه أعلم - لئلا نتبع بعض المخلوقين بأهوائنا، ولا نكل في أمورنا إلى من نعلم أنه لا يملك ضرّا ولا نفعًا، ولا يستطيع شيئا من الرزق، كما تبع أُولَئِكَ في عبادة من يعلمون أنه لا يملك شيئًا، ولا نفعًا ولا ضرا فيعبدونه؛ يذكر سفههم في عبادتهم من يعلمون أنه لا يملك شيئًا من النفع والضر والرزق لئلا نعمل نحن مثل صنيعهم بمن دون اللّه من المخلوقين. ثم اختلف في قوله: {مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا} وقال الحسن: هو على التقديم، أي: يعبدون من دون اللّه شيئًا لا يملك لهم ما ذكر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يعبدون من دون اللّه ما لا يملك لهم رزقًا من السماوات والأرض، ولا يستطيعون شيئًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يعبدون من دون اللّه ما لا يملك لهم رزقًا من السماوات والأرض ولا يستطيعون شيئًا. ٧٤وقَالَ بَعْضُهُمْ: يعبدون من دون اللّه ما لا يملك لهم رزقًا من السماوات والأرض ولا شيئًا (فَلَا تَضْرِبُوا للّه الْأَمْثَالَ إِنَّ اللّه يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٧٤) أي: لا تتخذوا للّه أمثالا من الخلق وأشباها في ألوهيته وعبادته، أو لا تقولوا للّه إن له أشباهًا وأمثالا. أو يقول: فلا تجعلوا للّه أمثالا في العبادة له، وأشباها في تسميتها آلهة، على علم منكم أن ما يكون لكم إنما يكون باللّه لا بالأصنام التي تجعلونها أمثالا للّه في العبادة والألوهية. وجائز أن يكون قوله: {فَلَا تَضْرِبُوا للّه الْأَمْثَالَ} أي: فلا تضربوا لأولياء اللّه الأمثال، فإنه قد بين محل أوليائه ومكانهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ اللّه يَعْلَمُ} أن لا مثل له من الخلق ولا شبه {وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} ذلك، أو أن اللّه يعلم بمصالحكم، وأنتم لا تعلمون ما به صلاحكم وهلاككم. ٧٥وقوله: - عَزَّ وَجَلَّ -: (ضَرَبَ اللّه مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ للّه بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٧٥) ضرب المثل بهذا من وجهين: أحدهما: أن من لا يقدر ولا يملك أن ينفق في - الشاهد عندكم ليس كمن يملك ويقدر أن ينفق، فهو كقوله: {هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ}. وقوله: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ. . .}، أي: ليس يستوي البصير والأعمى، ولا الأصم والسميع، فعلى ذلك لا يستوي من يملك الإنفاق والإنعام على الخلق، وهو المعبود الحق، كمن لا يملك ذلك، وهو المعبود الباطل. والثاني: ضرب مثل المؤمن والكافر، أن الكافر لا ينفق ما أنعم عليه من المال في طاعة اللّه وفي خيراته، والمؤمن ينفق جميع ما أنعم عليه وأعطى في طاعة اللّه وخيراته فليسا بسواء من أنفق في طاعة اللّه كمن لا ينفق شيئًا أحدهما يكون ضرب مثل الإله الحق والمعبود الحق بالمعبود الباطل، والثاني مثل المؤمن بالكافر ثم في الآية وجوه من الدلائل. إحداها: أن القدرة لا تفارق الفعل، حيث قال: {عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} ثم قال: {وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ} جعل مقابل الفعل القدرة، فلو كانت تفارق الفعل لكان ذكر مقابل القدرة قدرة مثلها، أو مقابل الفعل فعلا مثله، فلما ذكر مقابل القدرة الفعل دل أنها لا تفارق الفعل، وفيه أن العبد لا يملك حقيقة الملك، حيث ذكر عبدًا مملوكًا لا يقدر على شيء، وإن قدر على ما يملك إنما يملك بإذن من له الملك، وكذلك الخلائق كلهم لا يملكون حقيقة الإملاك، إنما حقيقة الملك في الأشياء للّه وإن قدراوا على ما يملكون إنما يملكون بالإذن على قدر ما أذن لهم. وفيه أن العبد لا يملك الإنفاق والتصدق، حيث قال: {عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} ثم قال فيمن يملك: {وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنهُ} دل أنه لا يملك العبد الإنفاق والهبة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ للّه} قَالَ بَعْضُهُمْ: ذكر الحمد للّه على إثر ما ذكر؛ لأنه عرَّف رسوله النعم وأنواع المنافع، ثم عرفه على إثر ذلك الحمد للّه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحمد للّه ثناء، أخبر أن أكثرهم لا يعلمون حمد اللّه وثناءه. وقوله: {وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا} أي: من أوليائنا، أو من أولياء ديننا، وذلك جائز سائغ في اللغة، ثم قوله: {لَا يَعْلَمُونَ} يحتمل نفي العلم عنهم لما لم ينتفعوا بما علموا، أو على حقيقة النفي لما لم ينظروا في الآيات والحجج، ولم يتأملوا فيها فلم يعلموا، واللّه أعلم. ٧٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَضَرَبَ اللّه مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ ... (٧٦)، إلى آخر الآية " قالوا: هذا المثل كالأول، يحتمل الوجهين اللذين ذكرناهما في الأول. أحدهما: المؤمن والكافر، شبه الكافر بالمملوك الأبكم الذي لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه، لا يأتي المولى بخير، ولا ينتفع به، وشبه المؤمن بالذي يأتي المولى بكل خير ونفع، يقول: هل استوى هذا مع هذا عندكم؟ لا يستوي، فعلى ذلك لا يستوي الكافر الذي لا يعمل شيئًا من طاعة اللّه، ولا يأتي بخير والمؤمن الذي يعمل كل طاعة اللّه، ويأتي بكل خير، ويأمر بكل عدل. والثاني: ضرب مثل الإله المعبود الحق بالمعبود الباطل، يقول: هل يستوي من أتاكم بكل نعمة وكل خير، ويأمر بكل عدل، بمن هو أبكم لا يقدر على شيء، ولا يضر، ولا ينفع، ولا يجيب، وهو عيال على من يعبده ويخدمه، هل يستوي هذا مع ذلك؟ لا يستويان مثلا ألبتَّة غير أن المثل هاهنا ضرب بالذي لا ينفق بالحق، ولا يأمر بالعدل، ذكر مقابل الأبكم الذي يأمر بالعدل، وفي الأول ضرب مثل الذي لا يملك الإنفاق بالذي يملك الإنفاق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي: هو على الحق المستقيم، وهو المعبود بالحق. قال أَبُو عَوْسَجَةَ الكَل: العيال، وكذلك قال غيره من أهل الأدب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الكل الفقير، وهو واحد، والأبكم: الأخرس، وهو الذي لا ينطق ألبتَّة. وقال: {وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} بالتوحيد. ٧٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَللّه غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... (٧٧) هذا يحتمل وجوهًا: أحدها: ما ذكر أهل التأويل من السؤال عن الساعة وعن وقتها، كقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لخفائها على أهلها؛ لأن كل خفي ثقيل، أخبر أنه لا يجليها إلا لوقتها، فوقت قيامها لا يعلمه غيره. والثاني: وللّه علم ما غيب أهل السماوات وأهل الأرض، أي: ما غيب بعضهم من بعض، فذلك ليس بمغيب عن اللّه بل ما غاب عن الخلق وما ظهر لهم، فذلك للّه كله ظاهر بمحل واحد، وهو كقوله: {يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}. والثالث: قوله: {وَللّه غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: له علم ما في سرية هذه الأشياء الظاهرة ما لا سبيل للخلق إلى علم ذلك، وإن كانوا يعلمون هذه الأجسام والأشياء الظاهرة، وتقع حواسهم عليها لا يعلمون ما في سريتها: من نحو الماء الذي به حياة كل شيء، ونحو النطفة التي يخلق منها الإنسان - لا يعلمون المعنى الذي به يصير إنسانًا، ومن نحو السمع والبصر والعقل يعلمون ويرون ظواهر هذه الحواس، ولكن لا يدركون المعنى الذي به يسمع وبه يبصر وبه يعقل ويفهم. يقول - واللّه أعلم -: وللّه علم ما غاب عن الخلق ما في هذه الأشياء الظاهرة والأجسام المرئية. أو يقول: وللّه ملك ما غاب عن أهل السماوات والأرض، وملك ما لم يغب عنهم وظهر؛ فيكون كقوله: {وَللّه مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} كأنه قال - واللّه أعلم - وللّه العلم الذي غيب عن أهل السماوات وأهل الأرض، وهي الساعة: لم يطلع عليها غيره. وقوله: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ}. قَالَ بَعْضُهُمْ قوله: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ} أهون على اللّه وأيسر من لمح البصر؛ إذ ليس شيء أيسر وأهون على الإنسان من لمح البصر؛ لأنه يلمح البصر، {أَوْ هُوَ أَقْرَبُ}. أي: بل هو أقرب، أي: أيسر من لمح البصر. وقال الحسن: إعادة الخلق على اللّه أيسر وأهون من لمح البصر؛ لأنه يلمح بصره فيبصر به - بلحظة - ما بين الأرض إلى السماء، وهو مسيرة خمسمائة عام. يقول: من قدر أن ينشئ في خلق من خلائقه ما يبصره بلمحهَ البصر مسيرة خمسمائة عام - لقادر على إعادة الخلق وبعثهم بعد الفناء، بل هو أقرب أي: إعادته إياهم أسرع وأقرب من لمح البصر، إلى هذا يذهب الحسن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ} أي: ما وقت قيام الساعة إلا لمح البصر، أي: ليس بين وقت قيامها وبين كونها إلا لمح البصر، بل هو أقرب من لمح البصر، لكنه مثل لمح البصر لما ليس شيء عند الناس أسرع وأهون من لمح البصر، ولما ذكرنا أنه يلمح البصر، ولا يشعر به لسرعته ولخفته عليه؛ فذكر هذا على التمثيل، ليس على إرادة حقيقة الوقت بقدر لمح البصر، ولكن على المبالغة في السرعة، وذكر أقصى ما يقع في الأوهام ويتصور؛ من نحو ما قال: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨)، وما قال: {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} {وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا}، {وَلَا يُظلَمُونَ نَقِيرًا}، وأمثاله كله يذكر على التمثيل ليس على التحقيق، أي: فمن يعمل من قليل وكثير يره، شرًّا كان أو خيرًا، وكذلك {وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} و {نَقِيرًا}، أي: لا يظلمون شيئًا، وكذا {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} أي: لا يملكون شيئا؛ لأن القطمير لا يملك؛ فإنما يذكر هذا وأمثاله على التمثيل الذي ذكرنا. أو أن يكون تأويل قوله: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ}، أي: ليس ما بين الساعة وبينكم مما مضى من الوقت إلا قدر لمح البصر، أي: لم يبق من وقت قيامها مما مضى إلا ما ذكر من لمح البصر أو أقرب مما ذكر على الاستقصار مما بقي. {إِنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. وعلى البعث والإعادة، وعلى كل شيء، لا يعجزه شيء. وظاهر الآية ينقض على المعتزلة قولهم؛ لإنكارهم خلق أفعال العباد؛ لأنه أخبر أنه على كل شيء قدير، وعلى قولهم: هو غير قادر على العالم بشيء. ٧٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللّه أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨) يذكر بهذا قدرته وسلطانه على ما سبق: من ذكر سرعة القيامة، والعلم بها، والحكمة التي جعل في البعث؛ فقال: {وَاللّه أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا}: خلق الولد في ظلمات ثلاث، وجعل غذاه بغذاء الأمهات وبقواهن، ثم تقلبه في تلك الظلمات من حال إلى حال: ما لو اجتهد الخلائق أن يعلموا اغتذاءه بغذاء الأمهات، وتقليبه من حال إلى حال، ومن جوهر إلى جوهر - ما قدروا على ذلك؛ فيدل هذا على أن من قدر على هذا، وعلم هذا في تلك الظلمات لقادر على البعث وإعادة الخلق بعد الفناء، وعلْم ما غاب عن الخلق. ويذكرنا ابتداء أحوالنا أنه أخرجنا من بطون أمهاتنا ونحن لا نعلم شيئًا، ثم صيَّرنا بحال صرنا عالمين أشياء، يذكرنا نعمه ومننه علينا في بلوغنا إلى الأحوال التي صرنا إليها بعدما كنا ما ذكر. والثاني: يذكرنا أنكم كنتم بالحال التي ذكر؛ لنعلم أنه صيرنا في البطون بلا استعانة بأحد منا ولا عون منه إلى أحد، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ}. فمن قدر على جعل السمع حتى يسمع الأصوات ويميز بينها، والبصر ليبصر ويميز بين ألوان الأجسام، والفؤاد ليفهم ويعقل ما له وما عليه، ما لا يدركون ماهية ما به يسمعون ويبصرون ويعقلون، وما به يميزون بين ما ذكرنا فهو قادر على إنشاء الخلق بعد الفناء والإعادة بعد الموت. ثم ذكر على أثر قوله: {لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا}: السمع والبصر والأفئدة؛ فذلك يدل على أن هذه الأشياء من أسباب العلم بالأشياء، بها يوصل إلى العلم بالأشياء؛ فمن أعطي أسباب العلم بالشيء فكأنْ قد أعطي له العلم به، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. هو حرف شك في الظاهر؛ ذكر - واللّه أعلم - لأنه لا كل الناس يشكرون نعمه، أو لكي يلزمهم الشكر. ٧٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللّه}. أي: من قدر على إمساك الطير، وهي أجسام كغيرها من الأجسام في الهواء بلا إعانة في الأسفل ولا تعلق بشيء من الأعلى، لقادر على إنشاء الخلق وإعادتهم بعد الفناء. أو يقول: أو لم يروا إلى اللطف الذي جعل في الطير، والحكمة التي أنشأ فيها حتى قدرت على الاستمساك في الهواء، والطيران في الجو: ما لو اجتمع الخلائق جميعًا أن يدركوا ذلك اللطف أو تلك الحكمة - ما قدروا على إدراكه. وفي ذلك نقض قول المعتزلة؛ لأن الطيران فعل الطير، ثم أضاف ذلك إلى اللّه حيث قال: {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللّه}: دل ذلك أن للّه في ذلك صنعًا وفعلًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}. جميع ما ذكر يكون آية لمن آمن؛ لأنه هو المنتفع. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: لمح البصر: سرعة النظر، وجو السماء: هواؤها، ويقال: بطن السماء، ويقال: جوف السماء، ويقال: الجو: ما اطمأن من الأرض. والأول أشبه. ٨٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللّه جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (٨٠) ظاهر هذا أنه قد جعل لنا من البيوت -أيضًا- ما ليس بسكن؛ لأنه قال: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا}، وهو ما ذكر في قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ}: وهو كالمساجد والرباطات وغيرها. ويشبه أن يكون ذكر هذا؛ ليعرفوا عظيم مننه ونعمه، حيث جعل الأرض بمحل يقرون عليها ويمكن لهم المقام بها؛ بالرواسى التي ذكر أنه أثبت فيها بعدما كانت تميد بهم ولا تقر بها، أخبر أنه أجعل، فيها رواسى أو أن يكون حرف (من) صلة، أي: جعل لكم بيوتًا تسكنون فيها. ثم قوله: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} يحتمل وجهين: أحدهما: أي: سخر لكم الأرض حتى قدرتم على اتخاذ المساكن فيها تسمكنون. أو جعل لكم بيوتًا، أي: علمكم تسكنون فيها. ثم قوله: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا}: أي أعلمكم، ما تبنون فيها من البيوت ما لولا تعليمه إياكم ما تقدرون على بناء البيوت فيها؛ يذكر مننه عليهم، واللّه أعلم. وفي هذه الآيات في قوله: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا}. ونحوه: دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأنه ذكر أنه جعل بيوتًا سكنًا، والسكن فعل العباد؛ دل أن للّه في فعلهم صنعًا. {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا}، قال أهل التأويل: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا}، أي: من صوفها، لكنه أضافها إلى الجلود؛ لما من الجلود يخرج، ومنها يجز ويؤخذ، وهو ما ذكر. {وَمِنْ أَصْوَافِهَا}: وهو صوف الغنم. {وَأَوْبَارِهَا}: وهو صوف الإبل. {وَأَشْعَارِهَا}: ما يخرج من المعز. {يَوْمَ ظَعْنِكُمْ}: قيل: ليوم سفركم وسيركم. {وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ}: قَالَ بَعْضُهُمْ: في المصر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: في السفر حين النزول. والجعل في هذا يحتمل الوجهين اللذين ذكرنا في قوله: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا}: أحدهما: على التسخير لهم، والثاني: على التعليم. ذكر - عَزَّ وَجَلَّ - في البيوت المتخذة من المدر السكنى؛ حيث قال: {مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا}، ولم يذكر في البيوت المتخذة من الجلود والأوبار والأشعار؛ فكأنه ترك ذكره في هذه، الذكر في الأول ذكر تصريح، وذكر في الثاني ذكر دلالة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَثَاثًا} قيل: الأثاث والرياش: واحد، وهو المال. وقيل: ما يتخذ من الثياب والأمتعة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ}. يحتمل إلى حين، إلى وقت بِلَى ذلك الأثاث، أو إلى حين وقت فنائهم. ٨١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللّه جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١) يحتمل قوله: {ظِلَالًا} البيوت التي ذكر وهي تظلهم، ويحتمل الأشجار. {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا}. وهى الغِيرَان والبيوت التي تتخذ في الجبال؛ تقيهم من الحرّ والبرد. {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ}. قيل: القميص والدروع، ثم ذكر أن ما ذكر من البيوت والأكنان والسرابيل تقيكم الحر، وتقيكم أيضًا بأس العدو. {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ}. على ما ذكر من أنواع النعم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ}. ذكر أنها تقى من الحر، وهي تقى الحر والبرد جميعًا؛ فكان في ذكر أحدهما ذكر الآخر ذكر كفاية.
وقوله: {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ}. أي: كذلك يتم ذكر نعمته عليكم؛ ليلزمهم الإسلام أو حجته، ثم يحتمل النعمة على ما تقدم ذكره، ويحتمل: الرسول. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ}. جميع ما ذكر من النعم والآيات في هذه السورة من أولها إلى آخرها؛ إنما ذكر لهذا الحرف، وهو قوله: {لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ}. وما ذكر {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} و (لَعَلَّكُمْ {تَهْتَدُونَ}: يحتمل أن يكون هذه الأحرف كلها واحدًا، ويحتمل أن يكون لكل حرف من ذلك معنى غير الآخر، واللّه أعلم. ٨٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (٨٢) عن الإجابة لك وعما تدعوهم إليه. {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}. أي: ليس عليك إجابتهم، إنما عليك التبليغ إليهم والبيان لهم. ٨٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّه ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (٨٣) يحتمل النعمة - هاهنا - محمدًا - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كانوا يعرفونه لكنهم أنكروه؛ كقوله: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}، وما ذكر: {يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ}. ويحتمل: {نِعْمَتَ اللّه}: يعرفون نعمة اللّه، وهو ما ذكر عرفوها أنها من اللّه {ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا}؛ بعبادتهم الأصنام، وصرفهم شكرها إلى غيره، كقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللّه}، مع ما يعرفون: أن اللّه هو خالقهم، وأن ما لهم كله من عند اللّه يعبدون الأصنام؛ فتكون عبادتهم دون اللّه كفران نعمة اللّه. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: {يَوْمَ ظَعْنِكُمْ}: يوم سيركم؛ ظعن يظعن: سار، والسراويل: القميص. يقول: {تَقِيكُمُ}، أي: تستركم. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: {ظِلَالًا}، أي: ظلال الشجر والجبال. وقوله: {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ}. هذا - واللّه أعلم - في قوم علم اللّه أنهم يؤمنون بما ذكر لهم من أنواع النعم والأفضال؛ ليعلم أن الإسلام من أعظم نعم اللّه، لا يناله أحد إلا بنعمته. وقال بعض أهل التأويل: سميت سورة (النحل) سورة النعم؛ لما فيها من ذكر النعم وأنواع منافع الخلق من أولها إلى آخرها. ٨٤وقوله: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا}. قَالَ بَعْضُهُمْ: شهيدها: أن يشهد عليهم من نحو ما ذكر من شهادة جوارحهم عليهم، وهو قوله: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ. . .} الآية وقوله: {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ. . .} الآية، وقوله: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا}، ونحو ذلك من الآيات التي فيها ذكر الشهادة عليهم؛ عند إنكارهم أعمالهم التي عملوها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: شهيدها: رسولها الذي بعث إليهم يشهد عليهم أنه قد بلغ إليهم رسالات ربهم، وهو كقوله: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ}، والنذير: هو الرسول المبعوث إليهم، وهو ما ذكر -أيضًا-: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} وكقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}، وقال: {وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ}. أخبر أنه يجيء بمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - شهيدًا على أُولَئِكَ: أن الرسل قد بلغوا الرسالة إليهم، وهو ما ذكر: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ}، وقوله: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللّه الرُّسُلَ. . .} الآية، وقوله: {وَيَومَ يُنادِيهِم}: يسأل الرسل عن تبليغ الرسالة إلى قومهم، ويسأل قومهم عما أجابوا الرسل. إلى هذا يذهب بعض أهل التأويل، واللّه أعلم. جميع ما ذكر في القرآن من مجيئه وإنبائه ونحوه جائز أن يكون ذلك البعث تفسير ذلك كله. قوله: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ}: كذا من ذلك، وقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ} و {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللّه}، وقوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ}، فهو البعث، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا}. قال الحسن: لا يؤذن لهم بالاعتذار؛ لأنه لا عذر لهم، وهو ما قال: (هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦)؛ لأنه لا عذر لهم، وأعذارهم لا ينفع لهم شيئا؛ إذ اعتذارهم من نحو قولهم: {رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا}؛ وقولهم: {لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ}، ونحو هذا مما لا ينفعهم ذلك؛ فلا يؤذن لهم لذلك. {وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}. قال الحسن: ولا هم يقالون، وكذلك قال في قوله: {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ}، أي: من المقالين، أي: لا يقالون مما كان منهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا يؤذن لهم ولا يمكن لهم من التوبة والرجوع عما كانوا؛ لأن ذلك الوقت ليس هو وقت التوبة والرجوع، كقوله: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللّه}. وهذه الآية، وقال: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ}، ونحوه - {وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} العتاب في الخلق: هو تذكير ما كان من الفرط؛ ليرجع عما كان منه، وذلك في الآخرة لا يحتمل. ويحتمل قوله: {ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا}، أي: لا يؤذن لهم بالكلام، كقوله: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ}، أو: لا يؤذن للشفعاء أن يشفعوا للذين كفروا، ويؤذن للشفعاء أن يشفعوا للمؤمنين. ٨٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥) أي: وقعوا فيه؛ دليله ما ذكر. {فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ}. دل هذا أنه لم يرد به رؤية العذاب؛ ولكن الوقوع فيه؛ فلا يخفف عنهم؛ لأنه يدوم، ولا تخفيف مما يدوم من العذاب. {وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ}. أي: يمهلون من العذاب. والثاني: لا يخفف عنهم عما استحقوا واستوجبوا، أو ما ذكرنا: أنه لا يكون لعذابهم انقطاع. ٨٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (٨٦) قال الحسن: قوله: {شُرَكَاءَهُمْ}، أي: قرناءهم وأولياءهم من الشياطين، كقوله: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ. . .} الآية، وكقوله: (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ. . . الآية، وقوله: {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} وقوله: {نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا. . .} الآية. وقوله: {شُرَكَاءَهُمْ}: أولياءهم الذين كانوا لهم في الدنيا فهم شركاؤهم الذي ذكر. وقولهم: {هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ}؛ على هذا التأويل: كنا ندعوك وإياهم من دونك. {فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ}. أي: يقولون لهم: {إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ}. وقَالَ بَعْضُهُمْ قولهم: {هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ}: الأصنام التي عبدوها. {فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ}: أي: يكذبونهم، وهو ما ذكر: {إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ}؛ يكذبونهم فيما قالوا، ويخبرون أنهم كانوا غافلين عن عبادتهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: شركاؤهم الملائكة الذين عبدوهم، كقوله: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ): أخبر أنهم إنما عبدوا الجن بأمرهم ولم يعبدوهم، أو يكون شركاؤهم رؤساءهم الذين انقاد الأتباع لهم ويحتمل الأصنام وما ذكر، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ}. هو ما ذكرنا: يقولون لهم: إنكم لكاذبون، أو يكذبونهم فيما يزعمون ويدعون. ٨٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَلْقَوْا إِلَى اللّه يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧) أي: يخضعون كلهم للّه يومئذ، ويخلصون له الدِّين، ويسلمون له الأمر والألوهية. {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي: بطل عنهم ما طمعوا بعبادتهم الأصنام والأوثان التي عبدوها من الشفاعة وغيرها؛ كقولهم: {مَا نعبُدُهُم إلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى}، وقولهم: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّه}: بطل عنهم ما طمعوا ورجوا من عبادة أُولَئِكَ من الشفاعة لهم، والقربة إلى اللّه. ٨٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللّه زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨) قَالَ بَعْضُهُمْ: هَؤُلَاءِ كانوا رؤساء الكفرة وقادتهم ضلوا هم بأنفسهم وأضلوا أتباعهم؛ فلهم العذاب الدائم بكفرهم بأنفسهم، وزيادة العذاب بإضلال غيرهم، وهو كقوله: قوله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ}. وكقوله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ. . .} الآية: أخبر أنهم يحملون أوزارهم، وأوزار الذين أضلوهم ومنعوهم عن الإسلام؛ فعلى ذلك قوله: {زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ}؛ بما أضلوا أتباعهم، وسعوا في الأرض بالإفساد، وهو قول أبي بكر الأصم. وقَالَ بَعْضُهُمْ؛ إن عذابهم كلما أراد أن يفتر بنضج الجلود، زيدت لهم - بتبديل الجلود - نارها كلما أرادت أن تخمد زِيد لهم سعيزا؛ كقوله: {بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا}، وقوله: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا}؛ فذلك هو الزيادة في العذاب. ويحتمل غير ذلك، وهو أن عذاب الكفر دائم أبدًا؛ فيزداد لهم عذابًا بما كان لهم في الكفر - سوى الكفر - أعمال ومساوٍ، كما يعفى ويتجاوز عن المؤمنين ما كان منهم من المساوي؛ كقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ}؛ مقابل ما كان يعفى عن المؤمنين المساوي، زيد لأهل الكفر، على عذاب الكفر؛ لمساويهم. وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: {زِذنَاهُم عَذَابًا ضِعفا بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ}، وأصله أن جزاء الآخرة من الثواب والعذاب على المضاعفة؛ لأنه دائم لا انقطاع له. وما ذكر من الزيادة والفوق وغيره - فهو على المضاعفة. ٨٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩) يحتمل قوله: {مِن أَنفُسِهِم}، أي: من البشر، ويحتمل ما ذكرنا من شهادة الجوارح عليهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ}. هو ما ذكرنا: يشهد الرسول عليهم بالتبليغ، ويشهد لمن أجابه وأطاعه، وعلى من رد كذبه بالرد والتكذيب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}. يحتمل قوله: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}: ما ذكر في هذه السورة؛ لأنه ذكر فيها جميع أصناف النعم وجواهرها، ووجوه الأسباب التي بها يوصل إليها، وذكر فيها ما سخر لهم من أنواع الجواهر، وفيه ذكر ما وعد وأوعد، وأمر ونهى، وذكر ما حل بالأعداء وما ظفر أولياؤه بهم. وفيه ذكر سلطانه وقدرته، وذكر سفه الكفرة وعنادهم، وذكر ما يؤتى ويتقى؛ فذلك تبيان لكل شيء. أو أن يكون في الكتاب تبيان كل شيء، وفي القرآن ما ذكرنا: من الأمر والنهي، والوعد والوعيد، وأخبار الأمم الماضية وأمثالهم، وجميع ما يؤتى ويتقى؛ ففيه تبيان كل شيء من الوجه الذي ذكرنا. أو أن يكون أنزل عليه الكتاب أتبيانا، لكل ما دعا به الرسل وجاءت به الرسل والكتب جميعًا. في هذا الكتاب جميع ما أتى به الرسل والكتب من الأمر والنهي والوعد والوعيد، كقوله: {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ}. ثم اختلف في ذلك البيان: قَالَ بَعْضُهُمْ: تحتمل الآية وجهين: أحدهما: الخصوص على الأصول دون الفروع؛ كذكر الكمال للدِّين، لكن ذلك وصف الدِّين، وقد يقع له الكمال بالكتاب والسنة، وهذا للكتاب؛ فلم يجز التقصير عن الاشتمال عما لزمت الحاجة في أمر الديانة. وذكر أن الكتاب تبيان لكل ما وقعت إليه حاجة في أصول الدِّين: من الإيمان، وأنواع العبادات، والأحكام مع الحدود والحقوق، ومكارم الأخلاق: تنتظم صلة الرحم، وعشرة الإخوان، وصحبة الجيران، ونحو ذلك؛ فتشتمل هذه الجملة على أصول الدِّين، وما وراءها يكون موكولًا إلى بيان الرسول؛ ليفي الكتاب بما شرط له تلاوة ودلالة الوجه. والوجه الثاني: أن يكون تبيانا لكل شيء منتظمًا لما فيه، مجمله ومبهمه ومشكله، ولبيان الرسول مجمله وتفسيره مبهمه، وإيضاحه، ودلالته على مشكله. وقال: والسنن كلها بيان للكتاب؛ لارتباط بعض ببعض. ثم قد يحتمل الآيات التي فيها ذكر البيان والتفصيل وجوهًا غير الوجهين اللَّذين ذكرتهما: أحدها: أنه تبيان كل شيء ظهر فيه التنازع بين أهل الأديان، وألزمتهم الضرورة فيه إلى البيان؛ فجعل اللّه الكتاب تبيانا ألزمهم بالتدبر العلم بأنه من عند اللّه؛ بخروجه عما عليه وسع القوم عن نوع ما ذكر فيه من الحجج والأدلة، وبما أعجزهم عن الطمع في تأليف مثله ونظمه؛ ليعرفوا أن اللّه قد أعانهم فيما مستهم الحاجة، وألجأتهم الضرورة إلى من يطلعهم على الحق فيما لو أهملوا عن ذلك لتولد منه العداوة والعناد؛ فأنعم اللّه عليهم به، وبين فيه جميع ما بين إليه من الحاجة لدوام الأخوة. والثاني: أن يكون فيه تبيان كل شيء بالطلب من عنده، وبالبحث فيه الظفر بكل ما ينزل بهم من الحاجات إلى الأبد؛ فيكون هو أصل ذلك. لكن باختلاف الأسباب يوصل إلى حقيقة العلم به، وذلك نحو ما جعل الماء حياة لكل شيء ووصف أن في السماء رزق جميع الخلق؛ فأخبر أنه أنزل من السماء اللباس والرياش لكل شيء، وأخبر أنه خلقنا من تراب، ثم أخبر أنه خلقنا جميعًا من نفس واحدة؛ على رجوع كل ما ذكر باختلاف الأسباب والتوالد إليه، واللّه أعلم. وذلك كما قال أهل الكلام في جعل المحسوسات أدلة لكل غائب: جعلها اللّه أدلة توصل إليه بالتأمل والنظر فيكون المحسوس مبينًا من ذلك، وإلا على اختلاف الدرجات في حد البيان مع ما قد جعله اللّه كذلك، حتى إن في الفلاسفة من تكلف استخراج كلية أمور العالم العلوي والسفلي. وما على ذلك مدار ما عليه من هذا المحسوس؛ فمثله أمر القرآن، واللّه الموفق. والثالث: أن يكون فيه بيان على الرمز والإشارة مرة، وعلى الكشف ثانيًا؛ فما كان منه على الرمز فهو مطلوب في المعاني وطريق الرسول إلى ما في تلك المعاني من الأمور المختلفة: منها ما يقع بمعونة الوحي من غير الكتاب على اختلاف وجوه الوحي من إرسال على لسان ملك، أو رؤيا، أو إلهام. والتأمل في ذلك، أو الاستدلال بما قد أوضحه بعد توفيق اللّه للحق في ذلك وعصمته عن الزيغ. أو على ما شاء من ترتيب الحكماء في حق التفاهم لغوامض الأمور، أو غير ذلك مما يريد اللّه أن يطلع عليه نبيه؛ فإن لطف رب العالمين بما عامل به الأخيار يجل عن احتمال العبارة عنه أو تصويره في الأوهام، نحو كتابة الحفظة، وقبض ملك الموت أرواح الخلق في وقت واحد في أطراف الأرض، ونحو ذلك، وذلك كله حد اللطف الذي يعجز البشر عن الإحاطة؛ فعلى ذلك أمر تبيان كل شيء مع ما يحتمل الرجوع بتأويل الآية إلى أغلب الأمور وأعمها، كقوله - تعالى -: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}، وغيره، ولا قوة إلا باللّه. والأصل عندنا: أن ليس للبيان عدد يجب حفظ العدد، على ما ذكره قوم: أنه على خمسة أوجه؛ إنما هو أمران: أحدهما: ما يبين هو. والثاني: ما يبين غيره، لكن الوجه الذي به يقع ما غاب عن الحواس بالبيان أصله الواقع تحت الحواس؛ إذ البين الذي من جحده حرم أول درجات البيان ومنع عن فهم المجحود عنه؛ إذ الجحود يكفى كلًّا مؤنة خصومته، ثم غيره مما يصير بالتأمل على الوجوه التي جعلت للوصول إليه، وإن بعد أو قرب بدليله كالمحسوس؛ إذ التأمل في الأسباب هو سبب الوصول إلى ما غاب، كاستعمال الحواس فيما يشهد؛ فمن أراد القطع على حد أو شيء يحتاج إلى دليل فيه. وأصل البيان - حقيقة - هو الظهور، وأسباب إظهار الأشياء متفاوتة، وعلى ذلك مقاديرها من الظهور، وجملته ارتفاع التواتر عن القلوب، وتجلي حقائق الأمور لها؛ على قدر العقول في الإدراك وما يتجلى للقلوب على مقدار ما يحتمل من الظهور. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَهُدًى وَرَحْمَةً}. يجب أن يكون قوله: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}، وقوله: {وَهُدًى وَرَحْمَةً} - كله واحد الرحمة والهدى والبيان، وبرحمته وبهداه يتبين لهم ويتضح، لكنهم قالوا: البيان للناس كافة يبين ويتضح إلا من عاند وكابر، والهدى والرحمة للمؤمنين خاصة؛ على ما ذكر وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين؛ ذلك للمسلمين خاصة، واللّه أعلم. ٩٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ اللّه يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ. . .} إلى آخر ما ذكر. قال الحسن: قوله: {إِنَّ اللّه يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} فيما بين الناس، أي: يأمر بالحكم فيها بينهم بالعدل، {وَالْإِحْسَانِ}: هو ما كلفهم بالطاعة له، أو أن يكون الأمر بالإحسان إلى أنفسهم أو إلى الناس، وجَائز أن يكون الأمر بالعدل فيما بينه وبين اللّه، والإحسان فيما بينه وبين الخلق، أي: يعامل ربه بالعدل؛ لأن العدل هو وضع الشيء موضعه، وهو لا يقدر على المجاوزة عن العدل حتى يكون في حد الإحسان فيما بينه وبين ربه، ويقدر أن يصنع إلى خلقه أكثر مما يصنعون هم إليه؛ فيكون محسنًا إليهم، وأما إلى اللّه فلا يكون محسنًا. {وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى}. أي: إعطاء ذي القربى الصدقة من غير الزكاة المفروضة. {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ}. هي المعاصي، أي: نهى عن المعاصي كلها. وقال أبو بكر الأصم: {يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ}، أي: بالحق الذي له عليهم، والإحسان: هو ما تعبدهم من العبادات والطاعات التي جعل بسبب عطف بعضهم على بعض. {وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى}. صلة القرابة والأرحام. {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ}. قال ابن عَبَّاسٍ ومقاتل وقتادة وهَؤُلَاءِ: قوله: {يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ}: بالتوحيد، {وَالْإِحْسَانِ}، أي: أداء الفرائض، وهو قول ابن عَبَّاسٍ وقتادة. وقال مقاتل: قوله: {وَالْإِحْسَانِ}: هو فيما بينهم، يحسن بعضهم إلى بعض، {وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى}: صلة الأرحام، {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ}، أي: الزنى، {وَالْمُنْكَرِ}، أي: السكر، {وَالْبَغْيِ}: مظالم الناس. وقَالَ بَعْضُهُمْ: المنكر: ما لا يعرف في الشرائع والسنن. ويقال: المنكر: ما أوعد اللّه عليه النار، والبغي: الاستطالة، والظلم، ثم يجب أن نقرر حقيقة العدل: ما هو؟ فهو - واللّه أعلم -: وضع كل شيء موضعه؛ فيدخل فيه كل شيء: التوحيد وغيره؛ بجعل الربوبية والألوهيةِ للّه لا شريك فيها غيره، ولا يصرفها إلى غيره، ولا يضيف، بل ينسب الربوبية والألوهية إلى اللّه، والعبودية إلى العباد، ولا يضاف العبودية إلى اللّه، ولا الربوبية والألوهية إلى العباد؛ فذلك العدل ووضع كل شيء موضعه: الربوبية في موضعها، والعبودية في موضعها، هذا - واللّه أعلم - معنى العدل. وأمَّا الإحسان: فهو ما قال النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: إن جبريل سأله عن الإحسانِ حين سأله عن الإيمان والإسلام؛ فقال ما الإحسان؟ فمَال: " أَنْ تَعْمَلَ للّه كَأنكَ تَراهُ، فَإنْ لَم تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَهُ يَرَاكَ ". ومن يعمل لآخر بحيث يراه وينظر إليه يكون أبدًا طالب رضاه في ذلك العمل، وإخلاصه له وطلب مرضاته فيه؛ فهو يحتمل وجوهًا ثلاثة - أعني الإحسان -: أحدها: ما ذكر أنه يعمل له كأنه يراه، وذلك فيما بينه وبين ربه. والثاني: فيما بينه وبين الخلق، وهو أن يحب لهم كما يحب لنفسه فيما أذن له في ذلك، أو نقول على الإطلاق يحب لهم كما يحب لنفسه. فإن عورض بالقتال والحروب التي بيننا وبين أهل الحرب، وذلك بالذي لا نحب لأنفسنا ونحب لهم - قيل: في ذلك طلب نجاتهم وتخليصهم من الهلاك والعذاب الدائم الأبدي، وذلك ما نحبه نحن لأنفسنا: أن يسعى أحد في نجاة أحدنا من المهلكة؛ ألا ترى أنه قال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} وليس في القتال في الظاهر رحمة، لكن في الحقيقة رحمة؛ حيث يحملهم القتال على الإسلام؛ إذ كان قبل نصب القتال والحروب معهم لم يسلم إلا قليل منهم؛ فلما نصب الحروب معهم والقتال دخلوا في الإسلام أفواجًا أفواجًا؛ فصار ذلك في الحقيقة رحمة، وإن كان في رأي العين في الظاهر ليس برحمة. وكذلك هذه المصائب والبلايا التي تحل بالخلق، هي في الحقيقة نعمة ورحمة؛ ولذلك عدها وسماها بعض الناس؛ لما تعقب من الثواب والنعمة إذا صبر عليها، ورأى ذلك منه حقا وعدلًا، ورأى حال الضراء والسراء منه؛ فهو بطيب نفسه في جميع الأحوال تنصرف به من الشدة والضيق، فإذا رأى نعمة، لما تعقب من الخير والنفع في العاقبة - فمن هذه الجهة يجوز أن يقال: ذلك نعمة ورحمة، وأمَّا في ظاهر الحال فلا؛ وذلك أن كل بلاء ينزل بأحدٍ، فصبر عليهِ كان في ذلك خصال أربعة: أحدها: تكفير ما كان ارتكب من المعاصي. والثاني: معرفة العبودة وملك غيره عليه. والثالث: ما يعقب من الثواب والنعيم الدائم. والرابع: معرفة النعم من الشدة؛ لأنه بالشدة يعرف النعم. وأمَّا الإحسان إلى نفسه: فهو أن يحفظها عما فيه هلاكها. وقوله: {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ}. هو ما يكبر ويفحش من الشيء. {وَالْمُنْكَرِ}. هو الشيء الغريب الذي لا يعرف؛ ألا ترى إلى قول إبراهيم: {سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} سماهم منكرين لما لم يعرفهم؛ فالمنكر: ما يفعل من هو معروف بالخير والصلاح من الزلات لما يكون ذلك منهم غريبًا؛ إذ لم يعرفوا بذلك، فذلك منهم منكر. و {الْفَحْشَاءِ}. ما يكون من أهل الفساد والشرور، وذلك مما يكبر ويفحش ذلك منهم. {وَالْبَغْيِ}. هو الظلم، ويحتمل أن يكون هذا كله المنكر والفحشاء والبغي وكله واحد: الفحشاء هو المنكر، والفحشاء هي البغي، والمنكر هو الفحشاء والبغي، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَعِظُكُمْ}. قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: ينهاكم عما ذكر كله. {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}. وتنتهون عنه، وقَالَ بَعْضُهُمْ: الموعظة هي التي تلين القلوب القاسية، وتصرفها إلى طاعة اللّه، وقد ذكرنا. ٩١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللّه إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّه عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللّه يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (٩١) يحتمل أمره بوفاء العهد، العهود التي يُعطي بعضهم لبعض، أمرهم بوفاء ذلك، ونهاهم عن نقضها، ويلزمهم وفاء عهد اللّه وإن لم يعاهدوا في ذلك، لكنه ذكر وفاء العهد إذا عاهدوا وئهى عن النقض؛ لأن ترك وفاء ما عاهدوا، ونقض ما أعطوا على ذلك شرطًا أقبح وأفحش مما لم يعاهدوا، وهو كقوله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّه عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}؛ ترك الوفاء ونقضه بعد قولهم: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}: أفحش، وأفحش من نقضه إذا لم يكن لهم عهد سابق وشرط متقدم، وهذا - واللّه أعلم - معنى أمره بوفاء العهد إذا عاهدوا، وإن كان وفاء العهد لازمًا لهم، وإن لم يعاهدوا؛ إذ جعل اللّه البشر بحيث يقبلون الحكمة والمحنة، وجعل بنيتهم وخلقتهم بحيث يقدرون على القيام بذلك، كقوله: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا. . .} الآية، أي: أبى خلقتهم وبنيتهم، أي: لم يجعل خلقة هذه الأشياء وبنيتها بحيث تحتمل ذلك، {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ}، أي خلقته وبنيته تحتمل ذلك والقيام بها، وتحتمل أن تكون العهود التي أمر بوفائها إذا عاهدوا على الأيمان التي يقيمون بها، حيث قال: {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}: ذكر الأيمان ونهى عن نقضها، ثم لا يحتمل أن يكون النهي عن النقض في الأيمان التي يأثم بها المرء إذا حلف؛ لأنه نهى عن نقضها، ولو كان يأثم بعقدها لكان لا ينهى عن نقضها؛ لأن الأيمان التي ياثم بها المرء إذا حلف يؤمر بنقضها أو لا يؤمر بوفائها وحفظها، ثم ذكر فيه بعد توكيدها، ولم يسغ نقض اليمين، وإن لم يؤكدها إذا لم يكن في الوفاء بها إثم، لكنه ذكر التوكيد؛ لأن النقض بعد ذلك أفبح وأفحش من النقض على غير التوكيد؛ على ما ذكر من القبح والفحش في بعض العهود بعد ما عاهدوا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} هو حَلِفُهم باللّه؛ لأن مشركي العرب كانوا لا يقسمون باللّه إلا ما يعظم من الأمر ويجل، وذلك آخر أقسامهم؛ ولذلك قال بعض أهل التأويل في قوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللّه جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}: يقول: جهد أيمانهم هو قسمهم باللّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّه عَلَيْكُمْ كَفِيلًا}. قيل: كانوا يحلفون فيما بينهم على جعل اللّه كفيلًا عيهم، وقيل: الكفيل: هو الشهيد الحافظ، وهكذا يؤخذ الكفيل فيما يؤخذ؛ ليحفظ المال أو النفس. وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: {إِنَّ اللّه يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}. من الوفاء بما عاهدوا أو النقض، واللّه أعلم. ٩٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّه بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢) اختلف في تأويل الآية: قَالَ بَعْضُهُمْ: الآية نزلت في مخالفة أهل الكفر بعضهم بعضًا، وهو أن يرث بعضهم بعضًا، وينصر ويعين بعضهم بعضًا، ويحلفون على ذلك ويقسمون؛ فإن هلكوا في ذلك - أي: في نصر بعضهم بعضًا وإعانة بعضهم بعضا، - ثم إذا رأوا الكثرة والغلبة مع غير الذين خالفوهم - نقضوا ذلك، ورجعوا إلى الذين معهم الكثرة والغلبة؛ فنهوا عن ذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الآية في الذين يكونون بعد رسول اللّه وأصحابه لما علم أنه يكون خوارج وأهل اختلاف في الدِّين، فربما كانت الكثرة والغلبة لهم على أهل العدل؛ فنهى من عاهد أهل العدل وبايعهم - أن يترك بكثرتهم وغلبتهم الكون مع أهل العدل، وإعانتهم، ونقض ما عاهدوا؛ ولذلك قال: {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّه بِهِ}. وقال: هذا يدل أنه في أهل الإسلام. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الآية في أهل النفاق؛ أنهم كانوا يقسمون باللّه إنهم ينصرون رسول اللّه وأصحابه، ويقولون: إنا معكم، كقوله: {وَيَحْلِفُونَ بِاللّه إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ. . .} الآية، كانوا يُرُون من أنفسهم الموافقة لهم، والنصر، والعون لهم على أعدائهم ويحلفون على ذلك، ثم إذا رأوا الكثرة مع الكفرة والغلبة، وقلة المؤمنين - تحولوا إلى أُولَئِكَ، ونقضوا أيمانهم، وكانوا معهم، كقوله: {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللّه قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ. . .} الآية. ويحتمل قوله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ. . .} أي: لا تكونوا في نقض العهود والمواثيق كالمرأة التي تنقض غزلها من بعد قوة، وجائز أن يكون غير هذا. يقول: ولا تظنوا في اللّه أن يكون في إنشاء الخلق كالمرأة التي نقضت غزلها من بعد قوة؛ فلو لم يكن بعث لكان يكون في إنشاء الخلق كالمرأة التي نقضت غزلها من بعد قوة، وقد عرفتم قبح ذلك؛ فعلى ذلك: إنشاء الخلق إذا لم يكن بعث يكون في القبح ما ذكر. ثم ضرب اللّه مثل من أعطى العهد والمواثيق ووكد الأيمان في ذلك، ثم نقض ذلك بامرأة تغزل ثم تنقض ذلك الغزل من بعد قوة أنكاثًا؛ يقول - واللّه أعلم -: كما لم تنتفع هذه المرأة بغزلها إذا نقضته من بعد إبرامها إياه؛ كذلك لا ينتفع ولا يوثق بمن أعطى العهد، ثم نقضه. يقول: فلا هي تركت الغزل تنتفع به، ولا هي تركت القطن والكتان كما هو؛ فكذلك الذي يعطي العهد ثم ينقضه فلا هو حين أعطاه وفَّى به، ولا هو ترك العهد، فلم يعطه ونحوه. ثم اختلف في تلك المرأة: قَالَ بَعْضُهُمْ: هي امرأة من قريش حمقاء بمكة، كانت إذا غزلت نقضته. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هذا على التمثيل؛ يقول - واللّه أعلم -: أي لو سمعتم بامرأة نقضت غزلها من بعد إبرامه - لقلتم: ما أحمق هذه!! فعلى ذلك من أعطى العهد والميثاق، ثم نقض - فهو كذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا}. قال أبو بكر الأصم: الدخل: الذي لا يصح ولا يستقيم؛ يقال: هذا مدخول، أي: غير صحيح. وقال غيره: {دَخَلًا}، أي: خديعة ومكرًا يخدع بعضكم بعضًا، وهو قول أبي عَوْسَجَةَ أيضا. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: {دَخَلًا بَيْنَكُمْ}، أي: خيانة ودغلًا بينكم. {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ}. أي: فريق. {أَرْبَى}. من فريق. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: {أَنْكَاثًا}: هي جمع " نِكْثٍ "، والنكث - من الحبل - خيوط تنكث ثم تطرق وتصير صوفًا، ثم من بعد ذلك تفتل. قال: والمِطْرَق: قضيب يضرب به الصوف حتى ينفش ويلين كما يُنْدَف القطن، يقال: طرقت الصوف - أطرقه طرقا - أي: ضربته، ويقال: نفشته - أنفشه نفشًا - أي: فرقت بينه فتفردّ، ومنه قوله: قوله تعالى: {كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ}. ويقال: حبل مَثْنِي: إذا كان طاقين، ومثلوث، ومربوع، ومخموس ومسدوس ومسبوع، ومثمون ومتسوع، ومعشور. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الأنكاث: ما نقض من غزل الشعر وغيره، واحدها: نكث. يقول: لا تؤكدوا على أنفسكم الأيمان والعهود ثم تنقضوا ذلك وتحنثوا؛ فتكونوا كامرأة غزلت ونسجت ثم نقضت ذلك فجعلته أنكاثًا، واللّه أعلم. ٩٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ شَاءَ اللّه لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣) قال الحسن: {وَلَوْ شَآءَ اللّه} المشيئة - هاهنا - مشيئة القهر والقسر، أي: لو شاء لجبرهم وقهرهم على الإيمان فآمنوا جميعًا. فهذا فاسد؛ لأنه لا يكون بالقهر والجبر إيمان؛ لأنه لا صنع للعبد في حال القهر والجبر؛ فيبطل تأويله؛ إذ لا يجوز أن يثبت إيمان في تلك الحال. وقال أبو بكر: تأويله قوله: لو شاء لأنزل لهم آية حتى يؤمنوا جميعًا بتلك الآية، كقوله: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ}: أخبر أنه لو أنزل آية يكونون لها خاضعين، لكن عندنا أنهم ليسوا يؤمنون ويخضعون للآية، ولكن بما شاء لهم ذلك، ولا يحتمل أن تحملهم الآية على الإيمان، شاءوا أو أبوا؛ ألا ترى أنهم يكذبون يوم الحشر عند معاينتهم الآيات، وهو قوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ} إلى قوله: {وَاللّه رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}: أخبر أنهم يكذبون وقد عاينوا الآيات، وليست الآية التي تنزل عليهم في الدنيا بأعظم من الآيات التي يعاينونها يوم القيامة، ثم لم يمنعهم ذلك عن الكذب؛ دل أن الآية ليست تحملهم على الإيمان، ولا تضطرهم عليه، ولكن لو شاء لآمنوا بالاختيار فيبطل تأويله. ثم الآية تحتمل عندنا وجهين: أحدهما: قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللّه لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} بظاهر السبب الذي إذا أعطاهم لآمنوا له، {وَلَوْلَا أَن يكونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً. . .} الآية: أخبر أنه لو ما يرغب الناس في الكفر فيكونون كفارًا كلهم، وإلا جعل سقف أهل الكفر ومعارجهم من فضة؛ فلو أنه جعل ذلك بعينه لأهل الإسلام وفي أيديهم لآمنوا -أيضًا- كلهم؛ لأنه لا يحتمل أن يكون ذلك في أيدي الكفرة؛ فيحمل أهل الإسلام على الكفر، وإذا كان ذلك بعينه لأهل الإسلام - لا يحمل أهل الكفر على ترك الكفر والدخول في الإسلام. والوجه الثاني: لو شاء لجعلهم أمة واحدة بلطف منه: يشرح صدره للإسلام من غير أن يعلم أن أحدًا ألقى ذلك في قلبه، من نحو ما مكن للشيطان عدو اللّه؛ حتى يقذف في قلوب الخلق ويلقي وساوس، من غير أن يعلموا أن أحدًا دعا إلى ذلك وألقى إلى قلوبهم؛ ألا ترى أن إبليس لما وسوس إلى آدم - عليه السلام - ليتناول من الشجرة التي نهى عنها ربه لو علم أنه إبليس لما أجابه، وكذلك ما مكن للملائكة من تثبيت قلوب الذين آمنوا، وإلقاء أشياء في قلوبهم، ويلهمونهم، وهو قوله: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا}، من غير أن يعلموا أن أحدًا دعاهم إلى ذلك، أو ألقى أحد ذلك في قلوبهم؛ فمن ملك تمكين عدوه وملائكته على ما ذكرنا يملك شرح الصدر للإسلام والدعاء إلى ذلك من غير أن يعلموا أن أحدًا فعل ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}. على قول الحسن: على الحكم لذلك. وقال أبو بكر الأصم: يضل بالنهي من نهى، ويهدي بالأمر. لكن هذا فاسد؛ لأنه لو كان بالنهي مضلًا وبالأمر هاديًا - لكان مضلًا للأنبياء والرسل؛ لأنه قد نهاهم بمناهٍ؛ فيكون مضلًّا لهم. فَإِنْ قِيلَ: لم يصر ما ذكرت؛ لأنهم لم يرتكبوا المناهي - قيل: الارتكاب فعلهم؛ فلا يحتمل أن يكون بفعلهم ذلك؛ فدل أن ما ذكرنا فاسد، وعلى قولهم يكون بالنهي عاصيًا مضلّا، وعندنا قوله: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} أي: يخلق فعل الضلال منهم، أو يضل من علم أنه يختار الضلال على الهدى ويخذلهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}. هو ظاهر. ٩٤وقوله: (وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللّه وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٩٤) قد ذكرنا. وقوله: - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا}. قال أبو بكر: دل قوله: {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا} أن الآيات التي تقدم ذكرها في أهل الإسلام؛ لأنه أخبر أنه تزل قدم بعد ثبوتها، وهو الكفر بعد الإسلام. وعندنا هو ما ذكرنا أن قوله: {فَتَزِلَّ قَدَمٌ} بالخوف، {بَعْدَ ثُبُوتِهَا} أي: بعدما كانوا آمنين؛ لأنهم بأيمانهم كانوا يأمنون، وبنقضهم العهود والأيمان يخافون، فيكون قوله: {فَتَزِلَّ قَدَمٌ} كناية عن الخوف، والثبوت كناية عن الأمن، أي صاروا خائفين بنقضهم العهود والأيمان بعدما كانوا آمنين بها، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللّه}. على هذا التأويل: يذوقون ذلك في الدنيا؛ بالقتل والقهر، ويحتمل في الآخرة؛ بما صدوا الناس عن دين اللّه، واستبدلوا به الكفر بعد الإيمان. {وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. ٩٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللّه ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللّه هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥) قَالَ بَعْضُهُمْ: عهد اللّه: دين اللّه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: عهد اللّه الذي عهد إليهم. ويحتمل عهد اللّه: ما أعطوا من العهد والأيمان، أي: ينقضوها بشيء يسير؛ إنما عند اللّه هو خير لكم دائم باقٍ، وهذا زائِل فانٍ، أو ما يجزي بوفاء ما عهدوا خير لكم من هذا، أي: يجزيكم بوفاء ما ذكر من العهد - خير لكم من غيره، واللّه أعلم. ٩٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللّه بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦) أي: ما أخذتم من الأموال واكتسبتم بنقض العهود والأيمان ينفد ويفنى، وما عند اللّه من الجزاء والثواب بوفاء العهد بافي. {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ}. يحتمل قوله: {صَبَرُوا} على ما أمروا به، ونهوا عنه، وصبروا على وفاء العهد. {بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. يحتمل قوله: {بِأَحْسَنِ}، أي: الجزاء الذي يجزيهم على الصبر أحسن من وفاء العهد، أو يجزيهم بأحسن ما عملوا، أي: يجعل سيئاتهم حسنات؛ كقوله: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللّه سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ}، وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ}، واللّه أعلم. ٩٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧) اختلف أهل التأويل في قوله: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}: قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {حَيَاةً طَيِّبَةً} في الآخرة، وهي الجنة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {حَيَاةً طَيِّبَةً} في الدنيا. فمن قال: الحياة الطيبة هي الجنة، في الآخرة، يكون تأويله: من يكن عمله في الدنيا صالحًا فليحيينه اللّه في الآخرة حياة طيبة؛ وإلا ظاهر قوله: {مَن عَمِلَ صَالِحًا} إنما هو على عمل واحد، وى لك قوله: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً}: ظاهره على حسنة واحدة، لكن الوجه به ما ذكرنا: من يكن عمله في الدنيا صالحًا فيفعل ما ذكر. وقوله: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً}، أي: ما تؤتينا في الدنيا آتنا حسنة، أو أن يكون على الختم به، أي: من ختم بالعمل الصالح فيحييه اللّه حياة طيبة في الجنة، كقوله: من جاء بالحسنة فله كذا. وقال الحسن: الحياة الطيبة هي الجنة؛ لأن في الدنيا ما ينغص حياته. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحياة الطيبة في الدنيا؛ فتأويله: من يكن همه وجهده في الدنيا العمل الصالح فلنحيينه حياة طيبة، أي: نوفقه ونيسره الخيرات والعمل الصالح والطاعات، وهو ما روي أنه قال: " كُل مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ "، وكقوله: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (٧)، وكقوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} ونحوه؛ فذلك هو الحياة الطيبة في الدنيا؛ حيث يسَّر عليه العمل الصالح، ووفق للطاعات والخيرات. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى}، أي: قنع في الدنيا بما قسم اللّه له ورزقه، ورضي به، {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} مما أزال عنه هم طلب الفضل، وغمهُ، وذله وحرصه عليه؛ لأن أكثر هموم الناس في الدنيا وذلهم؛ لما لم يرضوا بما قسم اللّه لهم، ولم يقنعوا به؛ فهو يحيا حياة طيبة لما عصم من ذلك، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ} أي: في الآخرة. {أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. على تأويل من قال: الحياة الطيبة في الدُّنيَا. وقَالَ بَعْضُهُمْ - وهو قول أبي بكر -: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}: في الدنيا، ما ذكر هَؤُلَاءِ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {حَيَاةً طَيِّبَةً} الرزق الحلال. وقوله: {بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}: وقد ذكرنا. ٩٨وقوله - عزَّ وجلَّ -: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّه مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}. وقال في آية أخرى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّه}. وقال في آية أخرى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} الآية. فيجب أن يتعوذ من همزاته على ما أمر رسولَه، أو عند نزغ الشيطان على ما ذكر، لكنه إذا تعوذ منه - تعوذ من همزاته ونزغاته. فَإِنْ قِيلَ: كيف خصت قراءة القرآن بالتعوذ منه دون غيره من الأذكار، والعبادات، والأعمال الصالحة؟ قيل: قد يتعوذ منه دون غَيره -أيضًا- في غيره من العبادات والأذكار؛ بقولهم: " بسم اللّه "؛ إذ لا يفتتح شيء إلا به؛ فذلك تعوذهم منه، لكن التعوذ في هذا تعوذ بكناية، والتعوذ في قراءة القرآن بالتصريح؛ وذلك أنه حجة وبرهان؛ فطعن الأعداء فيما هو حجة في نفسه أكثر من الأفعال التي فعلوها؛ ألا ترى أنه كان يلقنهم - أعني الشيطان وأولياءه - أنه سحر، وأنه: أساطير الأولين، وأنه إنما يعلمه بشر، ونحوه. وقوله: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ}: كانوا يطلبون الطعن في القرآن؛ لأنه حجة وبرهان، ولم يشتغلوا في طعن فعل من الأفعال أو ذكر من الأذكار؛ فعلى ذلك يجوز أن يكون التعوذ منه - فيما هو حجة - بالتصريح، وفي غيره بكناية، واللّه أعلم. ثم في هذه الآية، وفي غيرها من قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}، وقوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّه مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} - لم يفهم أهلها منها على ظاهر المخرج؛ ولكن فهموا على مخرج الحكمة؛ لأن ظاهر المخرج أن يفهم التعوذ بعد فراغه من القراءة، وكذلك يفهم من الأمر بالقيام إلى الصلاة الوضوء بعد القيام إليه، ثم لم يفهموا - في هذا ونحوه - هذا؛ ولكن فهموا: إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ باللّه، وكذلك فهموا من قوله: {إِذَا قُمْتُمْ} أي: إذا أردتم القيام إلى الصلاة {فَاغسِلُوا}، ولم يفهموا كل قيام؛ إنما فهموا قيامًا دون قيام، أي: إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأنتم محدثون، وفهموا من قوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ}، وفهموا من قوله: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا}، وكذلك فهموا من قوله: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللّه} - الفراغ منها؛ دل أن الخطاب لا يوجب المراد والفهم على ظاهر المخرج؛ ولكن على مخرج الحكمة والمعنى. وأصل التعوذ هو الاعتصام باللّه من وساوس عدوه وكيده. ٩٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) قَالَ بَعْضُهُمْ: ليس له سبيل على الذين آمنوا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: السلطان: الحجة، أي: ليس له حجة على الذين آمنوا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي ليس له ملك على الذين آمنوا - ملك القهر والغلبة - إنما ملكه على الذين يتولونه، لكن ليس له ملك القهر على الذين يتوتونه أيضا؛ إنما يتبعونه ويطيعونه بإشارات منه طوعًا؛ فدل أن تأويل الملك لا يصح في السلطان، ويكون تأويله السبيل أو الحجة. ثم يحتمل قوله: {لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} - بالقرآن؛ لأنه ذكر على أثر ذكر القرآن، ويحتمل: الذين آمنوا بربهم، وهما واحد في الحاصل؛ {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ}: حجته أو سبيله على الذين يتخذونه وليًّا، فيطيعونه في كل أمره وجميع إشاراته وما يلقي إليهم، وأصله: ليس له سلطان على الذين آمنوا بربهم. {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}. في جميع أحوالهم وساعاتهم؛ أي: لا سلطان له ولا سبيل على من آمن به وتوكل عليه. ١٠٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠) يحتمل قوله: {بِهِ مُشْرِكُونَ}. إبليس يتبعونه ويعدلون بربهم، ويحتمل {بِهِ مُشْرِكُونَ}: بربهم، والتوكل: هو الاعتماد به، وتفويض الأمر إليه في كل حال: السراء والضراء وفي وقت الضيق والسعة؛ فذلك التوكل به. ١٠١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللّه أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (١٠١) الآية تحتمل وجهين: أحدهما: ما قاله أهل التأويل على التناسخ أن يبدل آية مكان آية، وهو على تبديل حكم آية بحكم آية أخرى، لا على رفع عينها. والثاني: قوله: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ}، أي: بدلنا حجة بعد حجة، وآية بعد آية لرسالته. {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} كلما أتاهم حجة على أثر حجة، وآية بعد آية يقولون: إنما أنت مفتر. ينسبون إليه الافتراء: أنه افترى، وكذلك كان عادتهم المعاندة والمكابرة؛ كقوله: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ}، وكقوله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ}، ونحوه من الآيات. كلما أتى بهم حجة وآية بعد آية كانوا يستقبلونه بالتكذيب لها، ونسبة رسول اللّه إلى الافتراء من نفسه؛ ويزداد لهم بذلك كفرًا، وهو ما قال: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ): أخبر أنه كان يزداد لأهل الإيمان بما ينزل عليهم من سُورَةٍ إيمانًا، ويزداد لأهل الشرك رجسًا وكفرًا إلى كفرهم مثل هذا. ولو كان يحتمل أن يكون حرف (إذا) مكان (لو) - لكان أقرب، ويكون تأويله: ولو أنزلنا حجة بعد حجة وآية على أثر آية جديدة - فما آمنوا؛ كقوله: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا}، وكقوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ. . .} الآية، أي: لو أن هذا القرآن - قرآن سيرت به الجبال أو كلم به الموتى - فما آمنوا به؛ لعنادهم؛ فعلى ذلك: الأول قد يحتمل قوله: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} بالسؤال مكان آية {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ}. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاللّه أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ}. يحتمل قوله: {وَاللّه أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} به صلاحهم وغير صلاحهم، أو أن يكون: {وَاللّه أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} من تثبيت قلوب الذين آمنوا؛ كقوله: {لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا}، أو أن يكون {وَاللّه أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ}: جبريل على رسوله؛ جوابَا لقولهم: {إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ}، وكقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ}، أي: ليس بمفتر؛ ولكن نزله جبريل من ربه. ١٠٢وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢) يحتمل قوله: {بِالْحَقِّ}، أي: بالحق الذي عليهم، أو بالحق الذي لبعضهم على بعض. والحق في الأقوال: هو الصدق، وفي الأفعال: صواب ورشد، وفي الأحكام: عدل وإصابة، والحق: هو الشيء الذي يحمد عليه فاعله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى}. هذا تفسير قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا}؛ لأنه أخبر أنه: ليثبت الذين آمنوا؛ نذكر من زيادة الإيمان - هو التثبيت - الَّذِي ذكر هاهنا - قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا}، وذكر قوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} - مقابل قوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ}؛ ليعلم أن الزيادة التي ذكر في سورة التوبة - هي ما ذكر هاهنا من التثبيت والطمأنينة ونحوه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}. أي: هدى من الجهالات والشبهات التي كانت تعرض لهم، أو من الضلالة، وبشرى للمسلمين. وقال: في آية أخرى: {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}؛ ليعلم أن الإيمان والإسلام واحد. ١٠٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣) هم لم يقولوا إنما يعلمه بشر؛ ولكن كانوا ينصُّون واحدًا فلانا، لكن الخبر من اللّه على ذكر البشر؛ ألا ترى أنه أخبر أن {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}. دل أن البشر - الذي أخبر عنهم أنهم يقولون: إنه يعلمه - كان منصوصًا عليه مشارًا إليه؛ حيث قال: لسان هذا أعجمى، ولسان النبي عربي؛ فكيف فهم هذا عن هذا، وهذا من هذا، ولسان هذا غير لسان هذا؟! وما قاله أهل التأويل: أنه كان يجلس إلى غلام يقال له كذا، وهو يهودي يقرأ التوراة؛ فيستمع إلي قراءته، وكان يعلمه الإسلام حتى أسلم، فعند ذلك قالت له قريش: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ}، ولو كان ما ذكروا أنه كان يعلمه الإسلام فأسلم؛ فلقائل أن يقول: كيف فهم ذلك الرجل منه لسان رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولسانه غير لسانه؟! على ما أخبر؛ لكن يحتمل أن يكون ذلك في القرآن؛ حيث قالوا: {إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ}، ثم يقولون: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ}؛ فيقول - واللّه أعلم -: إنه كيف علمه هذا القرآن، وهو لا يفهم من لسانه إلا يسيرًا منه؛ فأنتم لسانكم عربي لا تقدرون أن تأتوا بمثله، ولا بسورة من مثلها، ولا بآية؛ فكيف قدر على مثله من لا يفهم لسانه، ولا كان ذلك بلسانه؟! يخرج ذلك على الاحتجاج عليهم. وبعد، فإن في قولهم ظاهر التناقض؛ لأنهم قالوا: {إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ}، ثم قالوا: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ}، فالذي علمه غيره ليس بمفتر؛ إنما يكون الافتراء من ذات نفسه فهو ظاهر التناقض. وقوله: {عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}. يحتمل: مبين ما لهم وما عليهم، أو مبين للحقوق التي للّه عليهم وما لبعضهم على بعض، أو مبين: أي بين أنه من عند اللّه نزل؛ ليس بمفترى. وهذه الآية ترد على الباطنية قولهم؛ لأنهم يقولون: إن رسول اللّه هو الذي ألَّف هذا القرآن بلسانه، ولم ينزله اللّه عليه بهذا اللسان؛ فلو كان على ما ذكروا ما كان لأُولَئِكَ ادعاء ما ادعوا على رسول اللّه من الافتراء. قوله: {يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ}. قَالَ بَعْضُهُمْ: يميلون إليه، وهو قول أبي عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ؛ قالوا: الإلحاد: الميل، وكذلك سمي اللحد لحدًا؛ لميله إلى ناحية القبرِ. وقال الكسائي: هو من الركون إليه، أي: يركنون. ١٠٤قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّه لَا يَهْدِيهِمُ اللّه وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) قال الحسن: إنه - واللّه - من كذب بآيات اللّه فهو ليس بمهتد عند اللّه. وقال أبو بكر: لا يهديهم اللّه بتكذيبهم الآيات. فهو كله خيال على كل من يشكل ويخفي أن من كذب بآيات اللّه فهو غير مهتد من يظن هذا، وقول أبي بكر -أيضًا- من يتوهم أن من كذب بآيات اللّه أنه يهديه - هذا فاسد، خيال كله، وأصله عندنا قوله: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّه لَا يَهْدِيهِمُ اللّه}؛ لعنادهم ومكابرتهم؛ لأنهم كانوا يعاندون بآيات اللّه ويكابرونها، ويكذبون مع علمهم أنها آيات، وأنها حق أو قال ذلك في قوم علم أنهم لا يؤمنون، ويموتون عليه؛ فمن علم منه أنه لا يؤمن لا يهديه. ١٠٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّه ... (١٠٥) لا الذين يؤمنون بها ويصدقونها. {وَأُولَئِكَ}. الذين كذبوها. {هُمُ الْكَاذِبُونَ}. ١٠٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مَنْ كَفَرَ بِاللّه مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}. قوله: {مَنْ كَفَرَ بِاللّه مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} يحتمل وجهين - حيث ذكر من كفر باللّه -: أحدهما: كفر باللّه في زعم المكره؛ لأنه أكرهه به ففي زعمه كافر باللّه؛ لطلبه ذلك منه، وهو كقوله: {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ}: في زعمهم؛ لأنهم لم يكونوا آلهة، وكقوله: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ}: سماه إلهًا؛ لأنه - في زعم السامري - إله. والثاني: من كفر باللّه شارحًا صدره بالكفر هو الكافر به حقًّا، وأما من أظهر الكفر بلسانه بالإكراه، وقلبه معتقد بالإيمان على ما كان مطمئنًّا به - فهو ليس بكافر. وأصله: أن من اعتقد مذهبا أو دينا أن يعتقده بخصال ثلاث: إحداها: يقلد آخر؛ لما رآه أبصرَ وآخذ وأعلم فيه، وهو لا يبلغ ذلك، فيقلده؛ لفضل بصره وعلمه فيه ورأيه. والثانية: يعتقد للشبهة؛ لما يتراءى عنده أنه الحق؛ فيعتقده لذلك للشبهة التي ذكرنا. والثالثة: يعتقد لما يتضح له الحق فيعتقده. فلهذه الوجوه الثلاثة يعتقد من يعتقد دينا أو مذهبا، فأما أن يعتقد الإنسان مذهبا مجانا على الجزاف فلا؛ فكان إظهار كفر هذا لإكراه من أكرهه لم يصر كافرًا. وأصله أن الإيمان والكفر إنما يكونان بالاختيار؛ فإن الإكراه يزيل اختيار من كفر؛ لذلك يبقى على الإيمان على ما كان؛ لما لم يوجد منه اختيار الكفر. فَإِنْ قِيلَ: أليس أمرنا أن نقاتل أهل الكفر؛ ليسلموا، وذلك إسلام بإكراه؟! وعلى ذلك نطق الكتاب، وهو قوله: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ}، وقال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أمِرتُ أن أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لا إِلَهَ إِلا اللّه "، ثم إذا أسلم لخوف السيف - كان إسلامه إسلامًا في الظاهر ما يمنع كذلك أنه إذا أكره على الكفر، فأجرى كلمة الكفر على لسانه - كان كفره كفرًا في الظاهر؛ فيحكم بكفره كما حكم في الإسلام على الإكراه؛ فما الفرق فيه؟! قيل: إن ذلك كان يجيء إلا أن اللّه - تعالى - أعفى عباده عن ذلك؛ فأبقاهم على الإيمان وحكمه، وإن أظهروا بلسانهم كلام الكفر بعد أن تكون قلوبهم مطمئنة بذلك؛ فضلًا منه ونعمة، وإلا: القياس أن يحكم بحكم الكفر إذا تكلم بكلام الكفر، وأمَّا الطلاق والعتاق والنكاح ونحوه، وهو ظاهر على ما تكلم به، عامل واقع؛ لأن الطلاق والعتاق ونحوهما مما يتعلق بالكلام نفسه لا بغيره، فهو - وإن أكره على ذلك - فهو مختار للتكلم به، قاصد له؛ لأن المكره لو أحب أن يستعمل لسانه بالتكلم بما ذكر ما قدر عليه؛ دل أنه على الاختيار يتكلم، وأما البيع والشراء ونحوه لم يتعلق بالكلام نفسه؛ إذ قد يكون بالأخذ والتسليم دون التكلم به؛ لذلك عمل الإكراه في إبطاله كما أبقاهم على الإيمان وحكمه، وإن أظهر بلسانه كلام الكفر بعد أن يكون قلبه مطمئنا بذلك، وعلى ذلك ما روي عن نبي اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث قال: " رُفِعَ عَنْ أُمتِي الْخَطَأُ وَالنسيَانُ وَمَا اسْتكْرِهُوا عَلَيه "؛ وذلك في الكفر ليس في غيره؛ لأن الإكراه على الكفر كان ظاهرًا يومئذ، ولم يكن في غيره من طلاق وغيره. وأمَّا قتالنا إياهم؛ ليسلموا - فهو يحتمل وجوهًا: أحدها: على المجازاة؛ كقوله: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} فنقاتلهم ليظهروا الإسلام، وإن لم يعرف حقيقة على المجازاة. والثاني: قبلنا منهم الإسلام على الإكراه لنقرهم فيما بين المسلمين؛ فيرون الإسلام ويتعلمون منهم حقيقة؛ ألا ترى أنه قال: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ}؛ سمّاهنّ مؤمنات، ثم أمرنا بامتحانهن، بقوله: {فَامْتَحِنُوهُنَّ}؛ فإنما يمتحنَّ؛ ليظهر حقيقة إيمانهن، وإلا لم يكن للامتحان معنى لولا ذلك. وأصله: أن اللّه جعل حقيقة الإيمان والكفر بالقلب دون اللسان وغيره من الجوارح؛ لأن غيره من الجوارح يجوز استعمالها بالإكراه، وأمَّا القلب فإنه لا يملك أحد سواه استعماله، وذلك بفضله ومنه. {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا}. ومن شرح صدره بالكفر فهو كافر به إن كان ليس على الإكراه؛ لما ذكرنا أنه باختياره الكفر ينشرح له الصدر لما لا يعمل الإكراه على القلب. {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللّه وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. ظاهر. ١٠٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللّه لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (١٠٧) أي: ذلك الغضب والعذاب بأنهم. {اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ}. يحتمل وجهين: أحدهما: استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة؛ جحودا وإنكارا، وإلا نفس الاستحباب قد يكون من المؤمن؛ فلا يزيل عنه اسم الإيمان؛ كقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللّه} إلى قوله - تعالى - {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ}؛ فلم يزل عنهم اسم الإيمان باختيارهم واستحبابهم الحياة الدنيا؛ فدل أن الأول عن الجحود له والإنكار، وهذا على الميل إليه دون الجحود؛ أو أن يكون كذلك لما لم يروا الآخرة كائنة لا محالة ولكن ظنا ظنوا لعلها كائنة؛ كقولهم: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ}، وأمَّا أهل الإسلام فإنهم لم يكونوا فيها ظانين متشككين؛ ولكن متحققين مستيقنين؛ فاستحقوا بذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَنَّ اللّه لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}. وقت اختيارهم الكفر؛ لأن اللّه لا يهدي القوم المختارين الكفر على الإيمان؛ وقال ذلك لقوم علم اللّه أنهم يختارون الكفر، وأنهم يموتون على الكفر؛ فلا يهديهم. ١٠٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّه عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (١٠٨) الطبع: هو التغطية: تغطي ظلمة الكفر نور القلب والسمع ونور البصر، كأن لكل أحد نورين وبصرين، ظاهر وباطن يبصر بهما جميعًا؛ فإذا ذهب أحدهما أو عمي - صار لا يبصر؛ كمن يبصر ببصر الظاهر، إنما يبصر بنور بصره ونور الهواء؛ فإذا دخل في أحدهما آفة ذهب الانتفاع، وصار لا يبصر شيئًا؛ فعلى ذلك للقلب بصر خفي، وبصر ظاهر الذي هو معروف؛ فإنما يبصر بهما؛ فإذا غطى ظلمة الكفر بصر القلب صار لا يبصر شيئًا؛ ألا ترى أنه قال: {لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}، أخبر أن الأبصار الظاهرة لم تعْمَ؛ ولكن عميت القلوب التي في الصدور، هذا يدل على - ما ذكرنا واللّه أعلم - معنى طبع السمع والبصر. وقوله - عزَّ وجلَّ -: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}. يحتمل: غافلون عن النظر في آياته وحججه، ويحتمل: غافلون عما يحل بهم؛ بكفرهم وتكذيبهم آيات اللّه وحججه. ١٠٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا جَرَمَ ... (١٠٩) قد ذكرنا ما قيل فيه: لا بد، وحقّا، وقيل: هو حرف وعيد. {لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ}. قال الحسن: إنهم - واللّه - خسروا الجنة ورحمة اللّه، خسروا أهلهم ومنزلهم الذي كان لهم في الجنة، وخسروا منهم أنفسهم حين قذفوها في النار. وقال أبو بكر الأصم: خسروا النعم الدائمة الباقية بالزائلة الفانية، وخسروا أنفسهم؛ حيث قتلوا، وأسروا في الدنيا، واللّه أعلم. ١١٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠) قيل: عذبوا على الإيمان بمكة، ثم جاهدوا مع النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه عدوَّهم، وصبروا على ذلك. {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}. قيل: من بعد الفتنة لغفور لما كان منهم، (رحيم) ذكر مرتين: أحدهما: قوله: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا}، ثم قال: {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}، قيل: من بعد الفتنة، فيجيء أن يكتفى بواحد يقول: لغفور رحيم موصولًا بقوله: للذين فعلوا ما ذكر، لكنه ذكر مرتين - واللّه أعلم: إنه لغفور لهم يعني: لهَؤُلَاءِ الذين فتنوا وعذبوا، ولغيرهم. ذكر أهل التأويل أن أناسًا من المؤمنين خرجوا إلى المدينة فأدركهم المشركون؛ ليردوهم؛ فقاتلوهم؛ فمنهم من قتل، ومنهم من نجا؛ فأنزل اللّه - تعالى -: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا. . .} الآية. ومنهم من يقول -أيضًا-: فيهم نزل قوله: (الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا. . .) الآية. وأكثرهم قالوا: إن قوله: {مَنْ كَفَرَ بِاللّه مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}: إنما نزل في عمار بن ياسر، وليس لنا إلى ذلك حاجة؛ إنما الحاجة فيما ذكرنا من الحكم فيه والحكمة، واللّه أعلم. ١١١وقوله - عزَّ وجلَّ -: (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (١١١) قال الحسن: {تُجَادِلُ}، أي: تخبر، {عَنْ نَفْسِهَا}: عما عملت من خير أو شر. وقال أبو بكر الأصم: إن كل نفس رهينة بما كسبت من شر حتى يكون طائرًا في عنقه. ولكن ليس لنا فيما ذكر هَؤُلَاءِ مجادلة، المجادلة: المخاصمة؛ كأنها تخاصم عن نفسها من ارتكاب أشياء، ودعوى أشياء على ما ذكر في غير آية؛ من قوله: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ}. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن جهنم تزفر زفرة حتى لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا وقد جثا بركبتيه؛ خوفا منها؛ فعند ذلك تجادل وتخاصم كل نفس عن نفسها، ويشبه أن يكون مجادلتهم على غير هذا، وهو ما ذكر: (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللّه)؛ فتلك مجادلتهم أنفسهم، وكقوله: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ}، وكذلك ما ذكر في المنافقين: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّه جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ. . .} الآية. وذلك كله مجادلتهم أنفسهم، أو أن يقال: {تُجَادِلُ} لكن لا يفسر: ما تلك المجادلة؛ لأن اللّه - تعالى - ذكر المجادلة، ولم يذكر ما تلك المجادلة؟ وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: {وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}. أي: لا ينقصون من حسناتهم ولا يزدادون على سيئاتهم. وهذه الآية ترد على المعتزلة؛ لأنهم يقولون بالتخليد لصاحب الكبيرة، وقد أخبر أنه: توفى كل نفس ما عملت من سوء، ولا توفى ما عملت من الخيرات والطاعات. ١١٢وقوله: (وَضَرَبَ اللّه مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً ... (١١٢) اختلف في ضرب المثل بهذه الآية، وفي نزولها: قَالَ بَعْضُهُمْ: ضرب المثل لأهل مكة، وفيها نزلت - بقريات نزل بهم العذاب؛ بتكذيبهم رسلهم في بني إسرائيل، يحذر أهل مكة بتكذيبهم رسول اللّه نزول العذاب بهم كما نزل باوائلهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ضرب المثل لأهل المدينة، وفيهم نزل بأهل مكة؛ يحذر أهل المدينة؛ لئلا يكذبوا محمدًا كما كذب أهل مكة؛ فيحل بهم كما حل بأهل مكة من الناس الجوع والخوف؛ بالتكذيب. وقوله - عزَّ وجلَّ -: {قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ}. قيل: هي مكة؛ أهلها كانوا آمنين فيها من خير أو شر، مطمئنين يأتيهم رزقهم من كل مكان. ويحتمل قرية أخرى غيرها؛ كانوا على ما ذكر. وقوله - عزَّ وجلَّ -: {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّه} أي: كفرت بالشكر لأنعم اللّه، أي: لم يشكروها، ليس أنهم لم يروها من اللّه - تعالى - وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَأَذَاقَهَا اللّه لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ}. اللباس: هو ما يستر وجوه الجواهر، ألا ترى أنه سمى الليل لباسًا؛ لما ستر وجوه الأشياء؛ فعلى ذلك الجوع يرفع الستر واللباس الَّذِي كان قبل الجوع؛ لأن الجوع إذا اشتد غير وجه صاحبه، ورفع ستره، والجوع: ما ذكر أنه أصابهم جوع حتى أكلوا الكلاب والجيف والعظام المحرقة. والخوف: ما ذكر أنه بعث رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إليهم؛ ألا ترى أنه قال: " نُصِرتُ بالرعْب مَسِيرةَ شَهْرَينِ "، وقيل: الخوف: القتل. وقوله: {رَغَدًا}. قال الكسائي: رغد الرجل إذا أصاب مالا أو عيشا من غير عناء وكدّ. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: رغدًا، أي كثيرًا واسعًا. ١١٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (١١٣) قوله: {رَسُولٌ مِنْهُمْ}، أي: من أنفسهم، من نسبهم وحسبهم، يعرفونه، كقوله: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}. {مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ}. بالتكذيب؛ حيث وضعوا الشيء في غير موضعه، أو ظالمون على أنفسهم. أخبر أنه بعث الرسول من جنسهم ومن حسبهم؛ لأنه إذا كان من غير جوهرهم لم يظهر لهم الآية من غير الآية، ولا الحجة من الشبهة؛ لأنه إذا خرج على غير المعتاد والطوق عرفوا أنه آية، وأنه حجة؛ إذ لا يعرفون من غير جوهرهم الخارج عن المعتاد والطوق، ويعرف ذلك من جوهرهم، وكذلك يعرف صدق من نشأ بين أظهرهم من كذبه، ولا يعرف إذا كان من غيرهم. ١١٤وقوله - عزَّ وجلَّ -: (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّه حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللّه إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤) قَالَ بَعْضُهُمْ: الحلال والطيب: واحد، وهو الحلال، كأنه قال: كلوا ما أحل لكم؛ كقوله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ}، أي: ما حل لكم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {حَلَالًا طَيِّبًا}، أي: حلالًا يطيب لكم ما تتلذذون به؛ لأن من الحلال ما لا تتلذذ به النفس ولا تستطيب؛ بل تكره، وقوله: تستطيب له أنفسكم وتتلذذ به، لا ما تستخبث به؛ لأن اللّه جعل غذاء البشر ما هو أطيب وألذ، وجعل للبهائم والأنعام ما هو أخبث وأخشن؛ لأن ما هو أطيب أدعى للشكر له. ويحتمل أن يكون قوله: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّه حَلَالًا طَيِّبًا}: لا تبعةَ عليكم. وفي الآية دلالة أنه قد يرزق ما يخبث ولا يحل على ما يختارُهُ؛ حيث شرط فيه الحلال. وقوله - عزَّ وجلَّ -: {وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللّه إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}. الشكر له عليهم لازم، وإن لم تعبدوا؛ وهو كقوله: {وَأَطِيعُوا اللّه وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}: طاعته وطاعة رسوله واجبة، وإن لم يكونوا مؤمنين، أو يقول: وجِّهوا شكر نعمه إليه إن كنتم عابدين له بجهة، أي: افعلوا العبادة له والشكر في الأحوال كلها. ١١٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّه بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥) أي: حرم أكل الميتة وما ذكر؛ كأنه قال هذا، وذكر على أثر تحريمهم أشياء أحل لهم - لحومًا حرموا على أنفسهم - أشياء أحل لهم: من الزرع والأنعام، والبحيرة والسائبة، وما ذكر؛ فقال: لم يحرم ذاك؛ ولكن إنما حرم ما ذكر من الميتة والدم ولحم الخنزير ونحوه، على هذا يجوز أن يخرج تأويله، وأمَّا على الابتداء فإنه يبعد، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: {فَمَنِ اضْطُرَّ}. إلى ما ذكر من المحرمات. {غَيْرَ بَاغٍ}. على ما نهى عنه، وهو الشبع؛ كقوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ}. {وَلَا عَادٍ}. إليه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {غَيْرَ بَاغٍ}: يستحله في دينه؛ فلا عاد ولا متعدٍّ في أكله. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {غَيْرَ بَاغٍ} على المسلمين مفارق بجماعتهم مُشَاق لهم، ولا عاد: عليهم؛ يستفهم، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم وأقاويلهم. وأمَّا تأويله عندنا: {غَيْرَ بَاغٍ}: على المسلمين سوى دفع الإهلاك عن نفسه، {وَلَا عَادٍ}: متعد ومتجاوز اضطراره، ولا يحتمل ما قاله بعض الناس: غير باغ على الناس ولا متعد عليهم؛ لوجهين: أحدهما: أنه لا يحتمل البغي على الناس في حال الاضطرار؛ لأنه لا يقدر عليه والحال ما ذكر. والثاني: أنه - وإن كان باغيًا على ما ذكروا - لم يبح له التناول من الميتة؛ يكون باغيًا على نفسه؛ لأنه إن لم يتناول هلكت نفسه؛ فيصير باغيًا على نفسه فدل أنه على ما ذكرنا. ١١٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللّه الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّه الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (١١٦) يحتمل: أي: لا تعودوا إلى ما وصفت ألسنتكم من الكذب هذا حلال وهذا حرام، وألا تقولوا الكذب الذي تصفه ألسنتكم: هذا حلال وهذا حرام. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: لا تقولوا لما أحللتموه: هذا حلال، ولما حرمتموه: هذا حرام، وهو كقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللّه لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ. . .} الآية. وفي هذه الآية دلالة ألا يسع لأحد أن يقول: هذا مما أحله اللّه وهذا مما حرمه اللّه؛ إلا بإذن من اللّه، ومن يقول بأن الأشياء في الأصل على الإباحة أو على الحظر؛ فهو مفتر بذلك على اللّه الكذب؛ لأن اللّه لم يأذن له أن يقول ذلك؛ بل نهاه عن ذلك مما ذكرنا، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لِتَفْتَرُوا عَلَى اللّه الْكَذِبَ}. أي: تكونوا مفترين على اللّه الكذب إذا قلتم ذا. فَإِنْ قِيلَ: كيف سماهم مفترين على اللّه بتسميتهم الحرام حلالًا، والحلال - حرامًا؟ قيل: لأن التحليل والتحريم، والأمر والنهي - ربوبية، فإذا حرموا شيئًا أحله اللّه، أو أحلوا شيئا حرمه اللّه - فكأنهم على اللّه افتروا أنه حرم أو أحل، أو حرموا هم وأحلوا فأضافوا ذلك إلى اللّه - تعالى - أنه هو الذي حرم أو أحل فقد افتروا على اللّه؛ لأن من أحل شيئا حرمه اللّه، أو حرم شيئًا أحفه اللّه - فقد كفر وليس من انتفع بالمحرم، أو ترك الانتفاع بالمحلل - كفر؛ إنما يصير آثمًا مجرمًا، وكذلك تارك الأمر ومرتكب النهي. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّه الْكَذِبَ}. في تحليل ما حرم عليهم، وفي تحريم ما أحله، وقولهم: {وَاللّه أَمَرَنَا بِهَا}. وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: {لَا يُفْلِحُونَ}. أي: لا يفلحون وهم مفترون على اللّه، وأمَّا إذا انتزعوا من الافتراء وتابوا أفلحوا، ولا يفلحون في الآخرة؛ إذا كانوا مفترين على اللّه في الدنيا. ١١٧ثم قوله: (مَتَاعٌ قَلِيلٌ ... (١١٧) على الابتداء؛ وإنما سمي قليلًا - واللّه أعلم - لوجوه: أحدها: أن متاع الدنيا على الزوال والانقطاع؛ فكل ما كان على شرف الزوال والانقطاع فهو قليل، كما قيل لكلِّ آتٍ: قريب؛ لما يأتي لا محالة؛ فعلى ذلك كل زائِل منقطع - قليل. والثاني: سمي قليلًا؛ لما هو مشوب بالآفات والأحزان وأنواع البلايا والشدائِد؛ فهو قليل في الحقيقة، أو أنه سماه قليلًا؛ لما أن متاع الدنيا قليل عما وعَدَ في الآخرة؛ فمتاعها من متاع الآخرة قليل؛ لما ليس فيها الوجوه التي ذكرنا، واللّه أعلم. ١١٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨) وهو ما قمق في سورة الأنعام، وهو قوله: {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} إلى قوله: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ}، وقوله: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا. . .} الآية. طوقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ}. بتحريم ما حرمنا عليهم؛ لأنا إنما حرمنا عليهم تلك الطيبات عقوبة لهم، وهو ما قال في سورة النساء، وهو قوله: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا}، وهو ما قال: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ}، أخبر أنه إنما حرم عليهم ذلك؛ بظلم كان منهم عقوبة وجزاء لبغيهم، لكن هم ظلموا أنفسهم في ذلك. أو أن يكون قوله: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ}؛ لأنهم عبيده وإماؤه؛ وللّه أن يمتحن عباده وإماءه بتحريم مرة، وبتحليل ثانيًا، ولكن ظلموا أنفسهم؛ حيث وجهوها إلى غير مالكها، أو صرفوا شكر ما أنعم عليهم إلى غيره. ١١٩وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٩) أي: عمل السوء بجهالة، ويحتمل وجهين: أحدهما: أن الفعل فعل جاهل وسفيه وإن لم يجهل؛ يقال لمن عمل السوء: يا جاهل يا سفيه. والثاني: جهل ما يحل به بعمله السوء. ثم قوله {إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ. . .} إلى آخره، يمكن أن يكون في الآية إضمار لم يذكر؛ لأنه قال: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} ثم كرر ذلك الحرف على الابتداء من غير أن ذُكر له جواب، وهو قوله {إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} {مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}. فظاهر الجواب أن يقول: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} {لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}؛ على ما ذكرنا في قوله: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا. . .} الآية؛ لكن يخرج على الإضمار، أو على التكرار: على إرادة التأكيد، أو على الابتداء والاكتفاء بجواب ذكره في موضع آخر. ثم قال: [{ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}]: هذا - واللّه أعلم - جوابه، أي: إن ربك من بعد التوبة لغفور رحيم، فهمُوا قبل أن يعمل السوء، والعرب قد تكرر أشياء على إرادة التأكيد، واللّه أعلم. ١٢٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا}. قال عبد اللّه بن مسعود: الأمة: الذي يعلم الناس الخير، والقانت؛ المطيع للّه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أمة قانتًا، أي: مؤمنًا وحده والناس كلهم كفار. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كان أمة، أي: إمامًا يقتدى به في كل خير؛ كقوله: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا}. وقال الحسن: كان أمة، أي سنة يقتدى به. ويحتمل أن يكون سماه: أمة، لما كان كالأمة والجماعة من القيام مع الأعداء؛ لأنه، وإن كان منفردًا وحده، فكان قيامه مع الأعداء والأكابر منهم كالجماعة والأمة، والممتنع عنهم كالمتفرد. وأصل الأمة؛ قيل: الجماعة والعدد. ويحتمل قوله: {كَانَ أُمَّةً}، أي: مجمع كل خير وكل طاعة؛ لما عمل هو من الخير عمل الجماعة، واجتمع فيه كل خير؛ فسمي أمة لهذا الذي ذكرنا، أو أن يكون تفسير الأمة ما ذكر على أثره: {قَانِتًا للّه حَنِيفًا}، والقانت، قيل: المطيع، والقنوت هو القيام - كما ذكر - أنه سئل عن أفضل الصلاة؟ فقال: " طولُ القُنُوتِ "؛ أي: طول القيام؛ فعلى هذا: المعنى: هو القائم للّه في كل ما يعبده وأمر به. وقيل: {أُمَّةً}، أي: دينًا؛ لقوله: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}، أي: دينكم دينا واحدًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {حَنِيفًا}. قيل: الحاج، وقيل: الحنيف: المسلم، وقيل: المخلص، وفيه كل ذلك: كان حاجا مسلمًا مخلصًا للّه، وأصل الحنف: الميل، أي: كان مائلا إلى أمر اللّه وما يعبده به، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}. لا شك أنه لم يكن من المشركين، لكنه ذكر هذين الوجهين. أحدهما: لما ادعى كل أهل الأديان أنهم على دينه وانتسب كل فرقة إليه فبرأه اللّه من ذلك، وأخبر أنه ليس على ما هم عليه من الدِّين؛ وهو ما قال: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا. . .} الآية. والثاني: ذكر هذا: أنه لم يكن من المشركين بقوله: {هَذَا رَبِّي}؛ لأنه هو كان ذلك عنه على ظاهر ما نطق: كان ذلك في الظاهر إشراكًا، ففيه مشبه في ظاهره؛ فبرأه اللّه عن ذلك وأخبر أن ذلك منه لم يكن إشراكًا، ولكن على المحاجة خرج ذلك منه محاجة قومه؛ لقوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ}، واللّه أعلم. ١٢١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) أي: لم يصرف شكر نعمه إلى غير المنعم، بل صرف شكرها إلى منعمها، والشكر في الشاهد هو المكافأة، ولا يبلغ أحد من الخلائق في المرتبة التي يكافئ اللّه في أصغر نعمة أنعمها عليه، ولا يتفرغ أحد عن أداء ما عليه من إحسان اللّه عليه فضلًا أن يتفرغ لمكافأته؛ لكن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - بفضله ومنه سمي ذلك شكرًا، وإن لم يكن في الحقيقة شكرًا؛ كما ذكر الصدقة التي تصدق بها العبد إقراضا كما سمى تسليمه لنفسه وبذله الأمر للّه - شراء، وإن كانت أنفسهُم وأموالهم في الحقيقة - له، ولا يطلب المرء في العرف القرض من عبده، وكذلك شراء؛ لكنه بلطفه وفضله عامل عباده معاملة من لا ملك له في أنفسهم وأموالهم؛ فعلى ذلك في تسمية الشكر؛ واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {اجْتَبَاهُ}. قَالَ بَعْضُهُمْ: لرسالته ونبوته، واجتباه من بين ذلك القوم وجعله إمامًا يقتدى به. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. وهو دين الإسلام، وهو ما ذكر: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا. . .} الآية. ١٢٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢) قَالَ بَعْضُهُمْ: الثناء الحسن، وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحسنة في الدنيا؛ لأن جميع أهل الأديان يتوئونه ويرضونه. ويحتمل أن يكون قوله: {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً}، أي: ما آتاه اللّه - لم يؤته إلا حسنة؛ على ما ذكر في قوله: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} - أي: ما آتيتناه في الدنيا، آتنا كلها حسنة؛ لأن قوله: {حسَنَة} إنما هي اسم حسنة واحدة أو أن يكون {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} عند قبض روحه، أي: على الحسنة قبض روحه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}. أي: لم ينقص ما آتاه في الدنيا عما يؤتيه في الآخرة، وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً}: النبوة والرسالة، أو أن يقال: إنه لم يبين الحسنة التي أخبر أنه آتاها إياه؛ لكنه خص به كما هو خص في قوله: اللّهم صل على مُحَمَّد كما صليت على إبراهيم. قد كان من إبراهيم معنى؛ حتى خص اللّه إبراهيم به من بين غيره؛ فذلك الأول، واللّه أعلم. ١٢٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣) أي: دين إبراهيم وسبيله، وذكر في بعض الأخبار عن نبي اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال جبريل - عليه السلام - إلى إبراهيم - صلوات اللّه على نبينا وعليه - يوم التروية، فراح به إلى منى فعلمه المناسك كلها، وأراه أباه، فأوحى اللّه إلى مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}؛ فنحن أمرنا أن نتبع ملته في الحج وفي غيره. وأصل الملة: الذين، واللّه أعلم؛ كقوله: " لا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَينِ "، أي: أهل دينين. ١٢٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤) قَالَ بَعْضُهُمْ: اختلافهم؛ وذلك أن موسى - عليه السلام - أمر بني إسرائيل أن يتفرغوا في كل سبعة أيام يومًا للعبادة، وهو يوم الجمعة، وينزعوا فيه عمل دنياهم؛ فقالوا: نتفرغ يوم السبت؛ فإن اللّه لم يخلق يوم السبت شيئًا؛ فقال فريق منهم: انظروا إلى ما يأمركم نبيكم؛ فخذوا به، فذلك اختلافهم؛ فجعل لهم يوم السبت على ما سألوا، فاستحلوا فيه المعاصي؛ فحرم اللّه عليهم العمل فيه؛ عقوبة لهم. وقال الحسن وقتادة: {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ}، أي: إنما لعن في السبت؛ فمسخوا قردة {الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ}، وكان اختلافهم أنه حرمه بعضهم، واستحله بعضٌ. وقال أبو بكر: اختلافهم كان في تكذيب الرسل والأنبياء فمنهم من صدق، ومنهم من كذب؛ فحرم عليهم يوم السبت؛ عقوبة لهم؛ أو أن يكون اختلافهم ما سألوا موسى من الآيات العجيبة والأسئلة [الوَخْشة]؛ كقولهم: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللّه جَهْرَةً} وكقوله: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}، ونحوه بعدما أقام عليهم من الآيات ما كانت لهم فيها كفاية فيشبه أن يكون اختلافهم الذي ذكر ذلك. وقوله: {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ}: يخرج على وجهين: أحدهما: (إنما جعل محنة السبت على الذين اختلفوا فيه)، أي: على الذين فسقوا فيه؛ حيث قال: {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}. والثاني: إنما جعل عقوبة السبت على الذين اعتدوا فيه دون الذين اختلفوا فيه؛ لأن فريقًا منهم قد نهوهم عن ذلك، وفريقًا قد اعتدوا؛ فاهلك الذين اعتدوا دون الذين نهوهم. وقوله: {اخْتَلَفُوا فِيهِ}: يحتمل فيه، أي: في موسى، أو في يوم السبت الذي اختلفوا فيه وعوقبوا فيه، واللّه أعلم. وقوله - عزَّ وجلَّ -: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}. يحكم بينهم بالجزاء، ويحكم بما بين لهم المحق من المبطل: لكن لو قيل: قد بين في الدنيا: بين المحق من المبطل؛ حيث أهلك فريقًا؛ وأنجى فريقًا؛ فكيف قال: يحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون؟ لكن يشبه أن يكون ذلك بالجزاء على ما ذكرنا. ١٢٥وقوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ}. قيل: دين ربك. {بِالْحِكْمَةِ}. قال الحسن: الحكمة: القرآن، أي: ادعهم إلى دين اللّه بالقرآن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: بالحكمة: بالحجة والبرهان، أي: ادعهم إلى دين اللّه بالحجج والبراهين؛ أي: ألزمهم دين اللّه بالحجج والبراهين؛ حتى يقروا به. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}. قال الحسن: أي عظهم بالمواعظ التي وعظهم اللّه - تعالى - في الكتاب. وقال أبو بكر: أي ذكرهم النعم التي أنعم عليهم، {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، أي: جادلهم أحسن المجادلة بلين القول، وخفض الجانب والجناح؛ لعلهم يقبلون دينهم، ويخضعون لربهم. وكذلك اختلفوا في قوله: {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}، وقوله: {لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ}: قال الحسن: الكتاب والحكمة: واحد؛ اسم شيء، وهو القرآن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الكتاب هو القرآن، وهو سماع الوحي، والحكمة: وحي الإلهام، وهو السنة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الكتاب: هو التنزيل، والحكمة: هي المعنى المودع فيه؛ فمن يقول: إن الكتاب والحكمة واحد، وهي القرآن يقول في قوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ}: القرآن، ومن يقول عنه: إنهما غيرٌ - يقول - هاهنا -: إن الحكمة: الحجة والبرهان، إما من جهة الإلهام أو من جهة الانتزاع من الكتاب. ويحتمل أن يكون قوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ}: التي ذكر في هذه السورة؛ من ذلك قوله: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ}: يعني: من بطون النحل، وقوله: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} وما ذكر أنه يخرج من الخشب اليابسة - الأعناب وأنواع الثمرات ونحوه؛ فذلك كله بحكمته، أي: ادعهم إلى دينه وذكرهم بهذا، وهم يقرون به؛ ليقبلوا دينه ويخضعوا لأمره. والموعظة الحسنة: ما ذكر في قوله: {إِنَّ اللّه يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ. . .} الآية. وذلك كله مستحسن في العقل وتوجبه الحكمة؛ لأن العدل والإحسان، وما ذكر من إيتاء ذي القربى - الصدقة - مستحسن في عقل كل أحد. والانتهاء -أيضًا- عن الفحشاء والمنكر مستحسن، مستقبح ارتكابه وإتيانه؛ كأن الحكمة هي التي تشتمل على العلم والعمل جميعًا؛ كأنه قال: ادعهم إلى دين اللّه بالعلم والعمل جميعًا؛ حتى ينجع ذلك فيهم؛ أو: ادعهم باللين وخفض الجناح مرة، وبالعنف والخشونة ثانيًا؛ فيكون وضع الشيء موضعه، ثم قال: {يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}. يحتمل - واللّه أعلم - أي: جادلهم بالذي يقرون على ما ينكرون، وهو ما ذكر: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ. . .} الآية، وقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا} وقوله: {ضَرَبَ اللّه مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا. . .} الآية، وقوله: {وَضَرَبَ اللّه مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ. . .} الآية، وقوله: {وَاللّه فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ. . .} الآية، ونحو هذا. يجادلهم بأحسن المجادلة بالذي يقرون أنه كذلك على الذي ينكرون؛ فيلزمهم القبول والخضوع له. ثم في الآية دلالة تعليم المناظرة في الدِّين وكيفية المعاملة - بعضهم لبعض - فيها؛ حيث قال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ}: التي عنده بالقرآن أو غيره من الحجج والبينات، {وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}: هكذا يجب أن يناظر بعضهم بعضًا بالوجه الذي وصف اللّه، وعلى ذلك ما ذكر اللّه في كتابه: مناظرة الأنبياء والرسل مع الفراعنة والأكابر، وهو ما قال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ. . .} إلى آخر ما ذكر، وقوْله: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّه. . .} الآية ومناظرة فرعون مع موسى - صلوات اللّه عليه - حيث قال: (وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (٢٣) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. . .) الآية، ولما قال: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}، وقوله: (فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقَى عَصَاهُ)، وما قال: (قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (٤٩) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (٥٠)، وأمثاله مما يكثر، فهذه مناظرة الرسل والأنبياء مع الفراعنة والأعداء؛ فكيف المناظرة بين الأولياء؟! فهذا كله يرد على من يأبى المناظرة في الدِّين ويمتنع عن التكلم فيه والاحتجاج. وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ}. في الآية نسبتهم إلى الضلال إشارة وكناية لا تصريحًا؛ لأنه لم يقل لهم مصرحًا: إنكم قد ضللتم عن سبيله؛ لحسن معاملته التي علم رسوله وأمره أن يعاملهم؛ لأن ذلك أقرب إلى القبول وأَمْيل إلى القلوب وآخذ؛ ألا ترى أنه قال لموسى وهارون حين أرسلهما إلى فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}. ١٢٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) اختلف في سبب نزول ذلك: قَالَ بَعْضُهُمْ: نزلت في أصحاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وذلك أن نفرًا منهم قد مثلوا يوم أحد مثلة سيئة: من قطع الآذان، وتجديع الأنوف، وبقر البطون، ونحوه؛ فقال أصحابهم: لئن أدالنا اللّه منهم لنفعلن ولنفعلن كذا وكذا. فأرادوا أن يجازوا بذلك؛ فأنزل اللّه: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ. . .} الآية. وفيه البشارة لهم بالنصر والظفر على أعدائهم؛ لأنه لو لم يكنْ لهم الظفر فكيف يقدرون على معاقبة مثل ما عاقبوا؛ دل أنه على البشارة لهم بالنصر والظفر بهم. وفيه دلالة جواز أخذ من لم يتول القتل والأخذ والضرب؛ لما لعلهم لا يظفرون بأُولَئِكَ الذين تولوا ذلك، لكن لا يؤاخذ إخوانهم بهم؛ لما بمعونة بعضهم بعضا فيها، ويكون فيه دليل أخذ قطاع الطريق بالقتل والقطع، وإن كان الذي تولى ذلك بعضٌ منهم؛ لما أن من تولى ذلك إتما تولى بمعونة من لم يتول. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما نزلت الآية في ابتداء الأمر الذي كان القتل مع الكفرة قتل مجازاة؛ مثل قوله: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً}، وكقوله: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ}، ومثله؛ فإذا كان على المجازاة أمر ألا يتجاوزوا عقوبتهم، ولكن بمثله، وأمَّا إذا كان القتال معهم لا قتال مجازاة فإنهم يقتلون جميعًا إذا أبوا الإسلام؛ بقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤمِنُونَ بِاللّه. . .} الآية، وقوله - عليه السلام -: " أُمِرتُ أَنْ أُقَاتِلَ الناسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلا اللّه "، وقوله - تعالى - {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ}. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا، ولكن قد نزلت في أهل الإسلام، وحكمه في القصاص والقطع فيما دون النفس والجراحات: أمر ألا يتجاوزوا حقوقهم؛ كقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}، وقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ. . .} الآية، وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى. . .} الآية. وقوله - عزّ وجلَّ -: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ}. على ذلك. {لَهُوَ خَيْرٌ} أي: الصبر خير {لِلصَّابِرِينَ}. ودل قوله: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} على أن الآية في القصاص لا في الحرب؛ لأنه في الحرب لا يقال اصبر ولا تصبر، بل يكون الصبر جهادًا؛ دل أنه في غير المحاربة، واللّه أعلم. ١٢٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللّه وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) أي: ما توفيقك على الصبر إلا باللّه؛ كقول شعيب: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللّه. . .} الآية والثاني: واصبر وما صبرك إلا باللّه، أي: تركك القصاص لأمر اللّه؛ حيث أمرك به، لا لضعف أو عجز فيك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ}. قال: إنه كان يحزن ويضيق صدره؛ لمكان كفرهم باللّه، وتركهم الإيمان باللّه؛ كقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}، وقوله: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}؛ فقال: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ}: لذلك على التسلي والتخفيف لا على النهي عن ذلك. ويحتمل: أن يكون قوله: {وَلَا تَحْزَنْ}: على المؤمنين الذين قتلوا واستشهدوا؛ لأنهم مستبشرون فرحون عند ربهم بما آتاهم اللّه من فضله؛ كقوله: (بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ)، أي: لا تحزن عليهم، وهم فيما ذكر. أو لا تحزن على المؤمنين، ولا يضيقن صدرك مما يمكر بك أُولَئِكَ الكفرة؛ إذ كانوا يكفرون برسول اللّه وبأصحابه ويؤذونهم، أخبر أن لا يضيقن صدرك لذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: نزلت في أمر حمزة سيد الشهداء: أنه مُثِّل به وجرح جراحات عظيمة؛ فاشتد على النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال: " لَئِنْ ظَفِرنَا بِأُولَئِك لَنَفْعَلَنَّ كَذَا وَلَنَفْعَلَنَّ كَذَا "؛ فنزلت الآية: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ. . .}، لكن إن ثبت هذا فإنه يكون في الوقت الذي كان يؤخذ غيره - القاتل والجارح - بالقتل، وذلك قد كان في الابتداء؛ ألا ترى أنه قال: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ. . .}: كانوا هموا أن يأخذوا الحرَّ بالعبد والذكرَ بالأنثى، حتى نزل هذا فصار منسوخًا به، وبقوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}. ولو كان يؤخذ غير القاتل بالقصاص - لم يكن فيه حياة، أو إن قالوا في الحرب مع الكفرة فذلك لا يحتمل؛ لأنه في الحرب لهم أن يقتلوا الكل، وألا يتركوا واحدًا منهم؛ دل أنه يخرج على أحد وجهين: على النسخ الذي ذكرنا. أو على النهي عن أخذ أكثر من حقه، وكقوله: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ. . .} الآية. ١٢٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللّه مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا ... (١٢٨) يحتمل: اتقوا، مخالفة اللّه ورسوله بالنصر لهم والعون؛ فإن اللّه ناصركم ومعينكم عليهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}. في العمل والتوحيد، أو يقول: إن اللّه مع الذين اتقوا محارم اللّه وارتكاب مناهيه بالنصر لهم والمعونة. {وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} إلى نعم اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - بالقيام بالشكر لها. وباللّه التوفيق، وصلى اللّه - تعالى - على سيدنا مُحَمَّد وآله أجمعين. * * * |
﴿ ٠ ﴾