٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (٤)

اختلف في قوله: {وَقَضَيْنَا}:

قال الحسن وغيره: أوحينا إليهم وأخبرناهم وأعلمناهم في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قضينا عليهم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: كتبنا عليهم فكيفما كان، ففيه نقض قول المعتزلة؛ لأنه أخبر: أنه أخبرهم وأعلمهم؛ على تأويل من زعم أن القضاء - هاهنا - هو الإعلام والإخبار لهم؛ فيقال لهم: كان أخبرهم وأعلمهم؛ ليصدق في خبره أوْ لا: فإن كان أخبرهم ليصدق في خبره - فذلك منه حكم أنهم: ليفسدن في الأرض مرتين؛ فإن كان تأويل القضاء: الكتاب والحكم، فهو ظاهر، وهو ما نقول: إن كل فاعلٍ فعلًا طاعة كانت أو معصية - كان بحكمه.

ثم من سأل آخر عن المعصية أنها كانت بقضاء اللّه؛ فلا يجب أن يجاب له على الإطلاق: بـ (نعم) أو ب (لا)، إلا أن يبين أنه ما يريد بالقضاء وما يفهم منه؛ لأن القضاء يتوجه إلى وجوه:

يرجع إلى الخلق؛ كقوله: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ}، أي: خلقهن.

والقضاء: الأمر؛ كقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}، أي: أمر ربك.

والقضاء: الحكم؛ كقوله: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} أي: احكم ما أنت حاكم.

ولم يعرف القضاء: الحمل والدفع؛ على ما يقوله المعتزلة، ونحوه، فلا يجاب على الإطلاق إلا أن يبيِّن أنه ما أراد بالقضاء؟ فإن أراد بالقضاء: الحكم: فعند ذلك يقال: نعم، كان بقضائه وحكمه، وليس فيما قضى وحكم دفعه في المعصية.

ثم اختلف في قوله: مرتين:

قَالَ بَعْضُهُمْ من أهل التأويل: إن بني إسرائيل عصو ربهم؛ فسلط اللّه عليهم

 جالوت؛ فقتلهم، وسبى ذراريهم وأموالهم، فكانوا كذلك زمانًا، ثم تابوا ورجعوا عن ذلك، ثم بعث اللّه داود؛ فقتل جالوت، واستنقذهم من يديه، وردهم إلى مكانهم، ثم عادوا إلى ما كانوا من قبل؛ ثم سلط عليهم بختنصر؛ ففعل بهم ما فعل جالوت، ثم تابوا، فبُعِث مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: بعث - أولًا - بختنصر، ثم فلانا وفلانًا، وهو ما قال: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ} إلى قوله: {وَإِن عُدتُم عُدْنَا} أي: عدتم إلى العصيان عدنا إلى العقوبة، ولكن ليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة سوى ما فيه من وجوه الحكمة والدلالة:

أحدها: فيه دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه أخبر عما كان في كتبهم من غير أن علم ما في كتبهم، ولا اختلف إلى أحد منهم؛ فكان - على ما أخبر - دل أنه إنما عرف ذلك باللّه بما أخبره في كتابه.

وفيه أنه لم يُهْلَك قوم بنفس الكفر إهلاك استئصال، حتى كان منهم مع الكفر السَّعْيُ في الأرض بالفساد، والعناد للآيات.

وفيه أن ليس على اللّه حفظ الأصلح لهم وإعطاؤه في الدِّين؛ حيث لم يُمِتهُمْ على الإيمان، ولكن تركهم حتى عصوا ربهم، ثم سلط عليهم من قتلهم على تلك الحال، ودعاهم إلى دينه وهو كفر؛ فلو كان عليه إعطاء الأصلح لأماتهم على الإسلام؛ فذلك أصلح لهم في الدِّين.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا}.

قيل: لتجترئون جراءة عظيمة، وقيل: لتقهرُن ولتعلن غلبة؛ كقوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ} أي: قهر وغلب، ألا ترى أنه قال: {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ}، ثبت أنه على الغلبة والقهر.

وقيل: العلو هو العتو والجراءة والتكبر، وهو ما ذكرنا.

﴿ ٤