٢٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (٢٤) يحتمل أن يكون الجناح كناية عن اليدين؛ لأن اليدين في الإنسان بموضع الجناح للطائر، وجناح الطائر يداه؛ فكأنه قال: اخفض واخضع لهما بيديك كما أمره أن يخضع لهما بلسانه بقوله: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}، أي: اخضع لهما قولًا وفعلًا. ويحتمل أن يكون الجناح كناية عن النفس، أي: اخضع لهما بجميع النفس والجوارح، وقوله: {الذُّلِّ}: يحتمل أن يكون المراد من الذل: الذل نفسه، أي: كن لهما كالمستعين المحتاج إليهما لا كالمعين لهما قاضي الحاجة، ولكن ذليلًا كالمستعين من الآخر رافع الحاجة إليه. ويحتمل أن يكون الذلّ كناية عن الرحمة التي تكون في القلب، أي: اخضع لهما برحمة القلب والجوارح جميعًا؛ ألا ترى أنه قال: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}، أي: رحماء على المؤمنين أشداء على الكافرين؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}. وذكر مقابل الذل في تلك الآية - الرحمة في هذا، ومقابل العزة - الشدة؟! فعلى ذلك يحتمل أن يكون قوله: جناح الذل كناية عن الرحمة؛ فيكون معناه: أن اخضع لهما بالظاهر والباطن جميعًا على ما ذكرنا في قوله: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا}، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}. قَالَ بَعْضُهُمْ: {رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}، ويحتمل أن يكون على الإضمار؛ فيكون - واللّه أعلم - كأنه قال: رب ارحمهما كما رحماني وربياني صغيرًا. وقول أهل التأويل: إن هذا منسوخ نسخه قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ. . .} الآية - بعيد؛ وأمكن أن تكون الآية في المؤمنين والكافرين؛ فالرحمة التي ذكر: تكون في الكافرين سؤال الهداية لهم وجعلهم أهلًا للرحمة والمغفرة؛ وذلك جائز كقول نوح لقومه: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} أي: استهدوا ربكم؛ فيهديكم فيغفر لكم ما كان منكم؛ إنه كان لم يزل غفارًا؛ إذ لا يحتمل أن يأمرهم بالاستغفار ويعدهم بالمغفرة على الحال التي هم عليها، وكذلك استغفار إبراهيم لأبيه. أو أن تكون من الرحمة التي يتراحم بعضهم أعضًا، والشفقة التي تكون بين الناس كما يتراحم الصغار والضعفاء، ثم مثل هذه المعاملة التي أمر الولد أن يعامل أبويه يلزم المؤمنين من جهة الدِّين ومكارم الأخلاق أن يعاملهم الناس بعضهم بعضا، غير أن هذا فيما بين الناس ليس بفرض لازم، وذلك فرض لازم؛ لأنها بحق الشكر والجزاء لهما لما كان منهما إليه من البرّ والإحسان، وحق التربية والتعظيم حقهما وجليل قدرهما وخصوصيتهما، وهو كما يقال لرسوله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} وإلا فقد وصف المؤمنين بتراحم بعضهم على بعض؛ على ما ذكر: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}، وأمرهم بذلك. |
﴿ ٢٤ ﴾