سُورَةُ مَرْيَمَوهي مَكِّيَّة بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ١قوله: (كهيعص). قيل: اسم من أسماء القرآن. وقيل: اسم من أسماء اللّه تعالى، وعلى ذلك رُويَ عن علي - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قال: يا كهيعص، اغفر لي. قال أبو بكر الأصم: لا يصح هذا من علي؛ لأن هذا لم يذكر في أسمائه المعروفة التي يدعى بها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: حروف من أسماء اللّه افتتح بها السورة فهو ما ذكرنا، وهو الأول، وقَالَ بَعْضُهُمْ: الكاف مفتاح اسمه كافٍ، والهاء مفتاح اسمه هادٍ، والعين مفتاح اسمه عالم، والصاد مفتاح اسمه صادق. وقال ابن عَبَّاسٍ: الكاف من كريم، والهاء من هاد، والياء من حكيم، والعين من عليم، والصاد من صادق. وقال الربيع بن أنس: الياء من قوله: {وَهُوَ يجُيرُ وَلَا يُجَارُ عَليهِ} . وقال الكلبي: هو ثناء أئنى اللّه على نفسه؛ فقال: كافٍ هادٍ عالمٍ صادقٍ، يقول: كافٍ لخلقه، هادٍ لعباده، عالم ببريتَّه وبأمره، صادق في قوله.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: لم ينزل اللّه كتابًا إلا وله فيه سر لا يعلمه إلا اللّه، وسر القرآن فواتحه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: تفسيره ما ذكر على أثره، وهو قول الحسن، وأمثال هذا قد أكثروا فيه، وقد ذكرنا الوجه في الحروف المقطعة فيما تقدم في غير موضع. ٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) هذا يحتمل وجهين: أحدهما: على الأمر، أي: اذكر لهم رحمة ربك عبده زكريا بالإجابة له عند سؤاله الولد في الوقت الذي أيس عن الولد في ذلك الوقت؛ فيكون فيه دلالة رسالته، حيث ذكر لهم رحمة ربه على زكريا، وأخبرهم على ما في كتبهم. والثاني: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ}: هذا ذكر رحمة ربك لعبده زكريا في دعائه، وعلى هذا التأويل يكون الذكر هو القرآن، وقد سمى اللّه القرآن: ذكرًا في غير آي من القرآن، واللّه أعلم. ٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (٣) قَالَ بَعْضُهُمْ: نداءً خفيًّا في قلبه على الإخلاص من غير أن ينطق به. وقَالَ بَعْضُهُمْ: نداءً خفيًّا عن قومه ومن حضره. ثم يحتمل وجهين: أحدهما: أخفاه وأسره منهم إخلاصًا للّه وإصفاء له. والثاني: أخفاه وأسره منهم حياء أن يعيبوه أن سأل ربه الولد في وقت كبره وإياسه، واللّه أعلم. ٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ... (٤) أي: ضعف ورق {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا}: اعتذر إليه، وقدم زكريا ما حل به من الكبر وبلوغه الوقت الذي لا يطمع في ذلك الوقت الولد، أي: بلغت المبلغ الذي ضعف بدني، ورق عظمي، ثم سأل ربه الولد ليس على أنه كان لا يعرف قدرة اللّه أنه قادر على هبة الولد، وإنشائه في كل وقت في وقت الكبر والضعف، وبالسبب وبغير السبب؛ لكنه لأنه يعرف أنه لا يسع ويصلح سؤال الولد وهبته - في الوقت الذي كان بلغ هو، وهو الوقت الذي لا يطمع فيه الولد في الأغلب، وهو ما ذكر في سورة آل عمران: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّه}، فعند ذلك عرف زكريا أنه يسعه دعاء هبته الولد وسؤاله في وقت الإياس، حيث رأى عند مريم فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء غير متغيرة عن حالها، فسأل عند ذلك ربه الولد، وهو قوله: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً. . .} الآية، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا}. قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: كنت تعودني الإجابة في دعائي إياك فيما مضى. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: لم يكن دعائي مما يخيب عندك، وهما واحد، ذكر مننه وفضله الذي كان منه إليه. ٥وقود - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي ... (٥) قال الحسن: خاف مواليه أن يرثوا ماله، فأما علمه ونبوته فمما لا يورث. قال أبو بكر الأصم: هذا لا يصح، لا يحتمل أن يخاف زكريا وراثة ماله مواليه؛ فيسأل ربه لذلك الولد ليرثه ماله، ولكن خاف أن يُضَيعَ مواليه دينه وسننه من بعده؛ فسأل ربه أن يهب له الولد ليقوم مقامه في حفظ دينه وسننه. وقال: لا يحتمل وراثة المال؛ لما روي في الخبر: " إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة "، فلا يخلو هذا من أحد وجهين: إما أن كان هذا في المال له خاصة دون سائر الأنبياء، وإما إذَنْ لم يكن زكريا نبيا فدل هذا أنه لا يحتمل وراثة المال فدل أنه على العلم: أن يضيع الموالي علمي من ورائي. ويحتمل قوله: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي}، وسؤاله الولد وجهًا آخر، وهو أنه سأل ربه الولد الرضي الطيب؛ ليذكر هو به بعد وفاته بالأعمال والصنيع الذي كان منه في حياته، وُيدْعَى له، لئلا ينقطع ذكره، ودعاء الخلق له، وهذا هو المعروف في الخلق أنهم يذكرون ويدعون لهم بالخيرات التي كانت في حال حياتهم، إذا كان له ولد صالح فعلى ذلك سؤال زكريا الولد، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا} أي: لا تلد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا. يَرِثُنِي} أي: يلي أمري. ٦وقوله: (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦) قال بعض أهل التأويل: ما ذكرنا: يرثني مالي، ويرث من آل يعقوب النبوة، وقيل: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} وارثًا يرثني مكاني، ونبوتي، ويرث من آل يعقوب الملك؛ لأنهم كانوا ملوكًا، وكانوا أخواله، وهو كان حَثرًا، واللّه أعلم بذلك. ولكن قوله: {يَرِثُنِي} ما كان له من العلم والحكمة والذين وغيره، ويرث من آل يعقوب ما كان لهم من العلوم وغيرها، فإن ثبت أن آل يعقوب كانوا أخواله، ففيه دلالة أن ذوي الأرحام يرثون بعضهم من بعض، واللّه أعلم. ٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا}. قَالَ بَعْضُهُمْ: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا}، أي: لم نجعل له مثل يَحْيَى من قبل في الفضل والمنزلة؛ لأنه روي عن نبي اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " لم يكن من ولد آدم إلا وقد عمل بخطيئة أو همَّ بها غير يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا؛ فإنه لم يهم بخطيئة ولا عمل بها ". وقَالَ بَعْضُهُمْ: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} أي: لم يسم أحد قبله يَحْيَى. وجائز أن يكون قوله: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا}، أي: يتولى اللّه تسميته يَحْيَى، لم يول تسميته غيره، وسائر الخلق تولى أهلوهم تسميتهم. ٨وقوله: (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قال الحسن: إن زكريا استوهب ربه الولد، فأجابه وبَشره، فقال: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ}، وطلب منه الآية لذلك، فقال: {اجْعَلْ لِي آيَةً}، فماى به على ذلك، ولا وبَّخه، ولكن رحمه، أو كلام نحو هذا. وقال غيره: إنما أمسك لسانه واعتقله عقوبة لما سأل من الآية، هَؤُلَاءِ كلهم يجعلون ذلك منه زلة منه، إلا أن الحسن قال: لم يعبه على ذلك، ولا عاقبه عليه، ولكن ذكر ذلك رحمة منه إليه، وغيره يجعل ذلك عقوبة لما كان منه. وجائز أن يخرج ذلك على غير ما قالوا، وهو أن قوله: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ} أي: على أي حال يكون مني الولد، على الحال التي أنا عليها، أو أُردّ إلى شبابي، ففي تلك الحال يكون مني الولد، فذلك منه استخبار واستعلام عن الحال الذي يكون منه الولد، ليس على أنه لم يعرف أنه قادر على إنشاء الولد في حال الكبر، وبسبب وبلا سبب، وعلى ذلك يخرج قوله حيث قال كذلك: {قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا}، أي: قبل أن نخلقك لم تك شيئًا. وطلب الآية والعلامة بعدما بشر يخرج على وجهين: أحدهما: أنه لما بشر بالولد لعله أشكل عليه بأن تلك بشارة ملك أو غيره، فطلب منه العلامة ليعرف أن تلك بشارة ملك، وأنها من اللّه أو غيره لأنه ذكر في الآية: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّه يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى}، فطلب الآية يخرج منه على استعلام بشارة الملك، وأن ذلك من اللّه لا أنه لم يعرف قدرة اللّه أنه قادر على خلقه في كل حال، هذا لا يظن بأضعف مؤمن في الدنيا فكيف يظن بنبيّ من الأنبياء؟! أو أن يكون طلب الآية منه ليعرف وقت حملها الولد، ووقت وقوعه في الرحم؛ ليسبق له السرور بحمله عن وقت الولادة، وعن وقت وقوع بصره عليه، واللّه أعلم. ٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَلَيَّ هَيِّنٌ (٩)، لأني أخلق بسبب، وبغير سبب. ١٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (١٠) قَالَ بَعْضُهُمْ: آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال، وأنت سَوِئ صحيح. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا}، أي: ثلاثًا تامات بأيامها على ما قاله في آية أخرى: {ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا}، ذكر هاهنا ثلاث ليال وفي تلك الآية ثلاثة أيام والقصة واحدة. ١١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١) قوله: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ}، قيل: أومأ إليهم. وقيل: كتب لهم على الأرض. وجائز أن يكون أوحى إليهم بالشفتين على ما ذكر في آية أخرى: {ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} والرمز: هو تحريك الشفة والإيماء بها. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: عاقر وعقيم: المرأة التي لا تلد، وقوله: {عِتِيًّا} قال: هو أشد الكبر شيبًا، أي: كبر الشيب. والمحراب، قال: إن شئت قصرًا ودارًا، وقَالَ الْقُتَبِيُّ: {عِتِيًّا}، أي: يبسًا، ويقال: عِتِيًّا و [عُتِيًّا]، بمعنى واحد، ويقال: ملك عاتٍ، إذا كان قاسي القلب غير لين. وسويًّا أي: سليمًا. وقوله: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ}، قد ذكرنا أنه أومأ إليهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كتب لهم على الأرض. وقوله: {أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا}. يحتمل قوله: {أَنْ سَبِّحُوا}، أي: صلوا للّه بكرة وعشيًّا، فإن كان التسبيح هو الصلاة، ففيه أن الصلاة كانت في الأمم الماضية في ختام الليل. ويحتمل التسبيح نفسه والثناء على اللّه، والدعاء له بالغدوات والعشيات. ١٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) قَالَ بَعْضُهُمْ: خذ الكتاب بما قواك اللّه وأعانك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: خذ الكتاب واصبر على العمل بما فيه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: خذ الكتاب بقوة، أي: بجدٍّ. قال أبو بكر الأصم: الجد: هو الانكماش في العمل، والقوة هي احتمال ما حمل عليه. وفيه دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأنهم يقولون بأن القوة تتقدم الفعل، ثم لا تبقى وقتين، فيكون على قولهم آخذا بغير قوة، وقد أمره أن يأخذه بقوة، فقولهم على خلاف ما نطق به ظاهر الكتاب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}. قَالَ بَعْضُهُمْ: {الْحُكْمَ}، أي: النبوة حال صباه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: آتاه اللّه الفهم واللبَّ.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحكمة والعلم. فكيفما كان ففيه فساد مذهب المعتزلة؛ لأنهم يقولون: إن اللّه تعالى لا يخص أحدًا بنبوة، ولا شيء من الخيرات إلا بعد أن يسبق من المختص له ما يستوجب ذلك الاختصاص، ويستحقه، فما الذي كان من يَحْيَى في حال صباه وطفوليته ما يستوجب به النبوة، وما ذكر من الحكم أنه آتاه، فدل ذلك أن الاختصاص منه - يكون لمن كان - إفضالا منه وإنعامًا ورحمة، لا باستحقاق من المختص له واستيجابه. وفي قوله: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} دلالة أنه كان نبيَّا حيث كان أخبر أنه آتاه الكتاب. ١٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا ... (١٣) هو على قوله: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} وآتيناه حنانا وزكاة أيضًا. ثم اختلف في قوله: {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا}: قال ابن عَبَّاسٍ: تعطفًا من لدنا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: رحمة من لدنا، وهو قول الحسن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحنان: المحبة. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: حنانك وحنانيك كلاهما يعني: رحمتك، وقال: أصله من التحنن، وهو الترحم. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: أصله من حنين الناقة على ولدها. وقوله: {وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا}. قَالَ بَعْضُهُمْ: زكاة، أي: صدقة تصدق بها على زكريا وزوجته في الوقت الذي لا يرجو فيه مثلهما الولد.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: زكاة، أي: صلاحًا وما ينمو به من الخيرات. وجائز أن يكون الزكاة اسم كل خير وبركة، وهو كالبر من التقوى، كأنه قال: أعطيناه كل بر وخير. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكَانَ تَقِيًّا} عن جميع الشرور، كقوله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}، أي: تعاونوا على البرّ وتعاونوا أيضا على دفع الشرور. ١٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ ... (١٤) هو على قوله: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} أي: وآتيناه البرّ بوالديه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا}. بل كان خاضعًا للّه ذليلًا مطيعًا. وقال الحسن: {وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا}، أي: لم يكن فيمن يجبر الناس على معصية اللّه. وقال أهل التأويل: {وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا} أي: قَتَّالًا، أي: لم يكن ممن يقتل على الغضب ويضرب على الغضب. وأصله ما ذكرنا: أنه كان - على ضد ما ذكر - خاضعًا للّه، مطيعًا له، على ما ذكر أنه لم يرتكب ذنبًا ولا همَّ به. ١٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥) يحتمل: (السلام عليه) الوجوه الثلاثة: أحدها: هو اسم كل بر وخير، أي: عليه كل بر وخير في هذه الأحوال التي ذكر. والثاني: (السلام) هو الثناء، أثنى اللّه عليه في أوّل أمره إلى آخره، وبعد الموت في الآخرة، أو أن يكون قوله: {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ} أي: السلامة عليه في هذه الأحوال التي يكون للشيطان في تلك الأحوال الاعتراض والنزغ فيها؛ لأنه وقت الولادة يعترض ويفسد الولد إن وجد السبيل إليه، وكذلك عند الموت يعترض ويسعى في إفساد أمره فأخبر أن يحيى كان سليمًا سالمًا عن نزغات الشيطان، محفوظًا عنه حتى لم يرتكب خطيئة، ولا هم بها، واللّه أعلم. وفي قوله: {وَيَوْمَ يَمُوتُ} دلالة أن الموت والقتل سواء، وإن كان في الحقيقة مختلفًا؛ لأنه ذكر في القصة أن يحيى قتل، ثم ذكر الموت، فدل أنهما واحد، فهذا يرد على المعتزلة، حيث قالوا: إن المقتول ميت قبل أجله، وفيه أن قوله: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللّه أَمْوَاتٌ}، إنما نهانا أن نسميهم أمواتًا في جهة ليس في الجهات كلها، حيث سمى يَحْيَى: ميتًا، وهو كان شهيدًا على ما ذكر أنه قتل. وفي قوله: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} استدلال لأبي حنيفة - رحمه اللّه - حيث وقف في أولاد المسلمين والمشركين، فقال: لا علم لي بهم، ولم يقطع فيهم القول؛ لما يجوز أن يجعل اللّه لهم من المنزلة والتمييز والفهم في حال صغرهم حتى يعرفوا خالقهم ومنشئهم، على ما أعطى يَحْيَى وعيسى في حال صباهما وصغرهما الحكم والفهم والمعرفة. ١٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ}. قال الحسن: هو صلة قوله: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} أي: اذكر رحمة ربك مريم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: واذكر نبأ مريم وقصتها في الكتاب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا}، أي: نحو المشرق. ثم يحتمل قوله: {إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا} إذا بلغت مبلغ النساء فارقت أهلها، وانتبذت منهم؛ لئلا يقع بصر غير ذي الرحم المحرم عليها، وألا يراها أحد، ولا يصلح النظر إليها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {مَكَانًا شَرْقِيًّا} أي: جلست في المشرقة؛ لأنه كان في الشتاء. ١٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (١٧) قَالَ بَعْضُهُمْ: احتجبت من دونهم بالغيبة عنهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أخذت من دونهم حجابًا، أي: سترًا. وقال مقاتل: اتخذت من دونهم الجبل حجابًا وسترًا، أي: جعلت الجبل بينها وبين أهلها، فلم يرها أحد منهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا}: قال أبي بن كعب: هو روح عيسى، أرسله اللّه إلى مريم في صورة بشر، {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا}. وقال غيره من أهل التأويل: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا}: جبريل، وقد سمى اللّه جبريل: روحًا في غير آي من القرآن: {رُوحُ الْقُدُسِ}، وغيره. {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} أي: لم يكن به أثر غير البشر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {بَشَرًا سَوِيًّا} لا عيب فيه ولا نقصان، بل كان سو، لا صحيحًا كاملًا، واللّه أعلم. ١٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) فَإِنْ قِيلَ: كيف تعوذت بالرحمن إن كان تقيًّا، وإنَّمَا يتعوذ بالرحمن من الفاجر والفاسق؟ قال الحسن؛ قوله: {إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} مفصول من قوله: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ}، فيكون على الابتداء، كأنها قالت: {إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} لا ينالني منك سوء ولا يمسني شر. ويحتمل قوله: {إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} أي: ما كنت تقيا، أي: حيث دخلت عليَّ من غير استئذان منك ولا استئمار ما كنت تَقِيًّا، ويحتمل قوله: {إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} أي: وقد كنت تقيًّا، فعلى هذا التأويل كأنه دخل عليها على صورة بشر عرفته بالتقى والصلاح، فكأنها قالت: قد كنت عرفتك بالتقى والصلاح فكيف دخلت عليَّ بلا إذن ولا أمر؟! وقد يجوز أن يستعمل (إن) مكان (ما) ومكان (قد)، وهو في القرآن كثير، واللّه أعلم. ١٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (١٩) هو على الإضمار، كأنه قال: {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ} بالقول بأن أهب لك غلامًا زَكِيًّا، أي: أرسلني إليك بهذا القول وهو قوله: {لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا}. وفي حرف ابن مسعود: (إنما أنا رسول ربك ليهب لك غلامًا زَكِيًّا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {زَكِيًّا} أي: صالحًا، طاهرًا عن جميع الشرور. ٢٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) أي: قالت: لم يمسسنى بشر، يعلم أنه لم يمسها بشر لا تقي ولا غيره، لكن كأنها قالت: لم يمسسني بشر نكاحا ولم أك بغيًّا، فمن أين يكون لي ولد؟ كأنها لم تعرف الولد إلا بسبب؛ لذلك قالت: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ}. ٢١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ ... (٢١) أي: أخلق بسبب وبلا سبب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} أي: خلق الشيء بسبب وبغير سبب هَيِّنٌ عَلَيَّ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ} للأنبياء الذين كانوا من قبل: إنه يخلق ولدًا بلا أب ولا أم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ}، أي: نجعل ولادته بلا أب على ما أخبر الأنبياء من قبل - آية للناس لرسالتهم؛ لأنهم أخبروا أنه يولد ولد بلا أب ولا أم، فكان ما أخبروا، فدل ذلك أنهم إنما عرفوا ذلك باللّه؛ فيكون ذلك آية لصدقهم، ويكون قوله: {وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} أي: ذلك الخبر الذي أخبر الأنبياء من قبل، والوعد الذي وعد لهم أمرًا مقضيا كائنا. وقال أهل التأويل في قوله: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ}، أي: نجعل عيسى آية للناس حيث ولد بلا أب، وكلم الناس في المهد، وغير ذلك من الآيات التي كانت فيه. وجائز أن يكون آية للناس للبعث؛ لأنه أنشأه بلا أب ولا سبب، وهم إنما أنكروا البعث لما لم يعاينوا الولد بغير أب أيضًا ثم كان، فعلى ذلك البعث؛ إذ لا فرق بينهما؛ لأن من قدر على إنشاء الولد بلا أب ولا أم قدر على الإحياء بعد الموت، بل هو أولى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَرَحْمَةً مِنَّا} أي: رحمة منا للخلق؛ لأن من اهتدى واتبعه كان له به نجاة، وهو ما قال اللّه تعالى لرسوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}، وعلى ذلك جميع الأنبياء والرسل الذين بعثهم اللّه إلى خلقه كان ذلك رحمة منه إلى خلقه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} أي: كان أمره كائنا، وعلى التأويل الذي ذكره أبو بكر الأصم في قوله: {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} يكون قوله: {وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} أي: كان وعدًا وخبرًا معلومًا على ما أخبر الأنبياء عن نبأ عيسى وأمه. ٢٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (٢٢) دلَّ هذا على أن الولاد لم يكن على إثر الحمل، ولكن كان بين الولاد وبين الحمل وقت، لكن لا يُعلم كم ذلك الوقت إلا بخبر عن اللّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا}. قَالَ بَعْضُهُمْ: تباعدت به؛ حياء من أهلها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: انفردت به مكانا قصيًّا متباعدًا. ٢٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (٢٣) قَالَ الْقُتَبِيُّ: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ} أي: جاء بها، من المجيء، وألجأها إليها، يقول: جاءت بي الحاجة إليك، وأجاءتني الحاجة. والمخاض: هو الحمل. ودل قوله: {فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا} أن النخلة التي ألجأها المخاض إليها كانت يابسة، على ما قاله أهل التأويل؛ لأنه إنما انتبذت مكانًا قصيًّا وتباعدت حياء من أهلها، فلو كانت تلك النخلة رطبة ذات ثمار، لكان الناس يأوون إليها ويقيمون عندها، فلا يحتمل أن تأوي إليها مريم وعندها يأوي الناس، ثم التجاؤها إلى النخلة لتتساند إليها وتستعين بها على ما تقع الحاجة للنساء وقت الولادة إلى شيء يستعن به عما ينزل بهن من الشدة، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا}. يحتمل أن يكون {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا}، أي: وكنت غير معروفة. ويحتمل أن يكون - على ما ذكر - {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا}: لا أذكر بعد الموت بذلك، لأنه ذكر أنها كانت من أهل شرف وكرم، ومن أهل بيت النبوة، فتمنت أن تكون غير معروفة؛ لئلا تذكر بسوء بعدها ولا بقذف. وقال أهل التأويل: {وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} أي: حيضة ملقاة، وكذلك قال أَبُو عَوْسَجَةَ: النسي: الحيض. قال أبو بكر الأصم: لا يحتمل هذا؛ لأنها قد عرفت قدرها عند اللّه، فلا يحتمل أن تتمنى ما ذكر، لكن الإنسان ربما يتمنى الأمر العظيم إذا اشتد به الأمر، نحو ما يتمنى الموت في بعض الوقت لعظم ما يحل به، فعلى ذلك غير منكر هذا من مريم أن تتمنى ما ذكر أهل التأويل، واللّه أعلم. ٢٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا ... (٢٤) و [{مَنْ تَحْتَهَا}] اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: ناداها ملك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ناداها ابنها عيسى. قال أبو بكر الأصم: لا يحتمل أن يكون الذي ناداها ملكًا؛ لأنه قال: {مِنْ تَحْتِهَا}، ولو كان ملكًا لناداها من فوقها، لكن هذا ليس بشيء؛ لأن الملك إنما ينادي من حيث يؤمر، من تحت ومن فوق. وقال بعض أهل التأويل: ناداها جبريل من تحت الوادي: {أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا}. والأشبه أن يكون ابنها عيسى؛ لأنها كانت تحزن أن تشتم وتقذف به، فعيسى إذا تكلم وصار بذلك المحل تسر هي بذلك، لما تعلم أنه ينفي عنها بعض ما طعنت به وقذفت. ويحتمل حزنها من وجه آخر: وهو أنها كانت حزنت خوفًا على نفسها وعلى ولدها؛ لأنها أقامت في مكان لا ماء فيه ولا طعام، فخافت على نفسها وولدها الهلاك، فحزنت لذلك فبشرت حيث قال لها: {أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا}: أمَّنها عن الخوف الذي كان. ثم السري: قَالَ بَعْضُهُمْ من أهل التأويل: هو الجدول، وهو النهر الصغير. ٢٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (٢٥) فيه دلالة لزوم الكسب؛ لأنه أمر مريم أن تهز النخلة ليتساقط عليها الرطب، ولو شاء لسقط من غير فعل يكون منها؛ لتجتني هي، وذلك عليها أهون وأيسر؛ على ما كان رزقها عندما كانت مؤنتها على زكريا. وفيه دلالة ألا يسع للمرء المسألة ما دام به أدنى قوة يقدر على قُوتِه. وفيه دليل أن زكريا كان أفضل منها وأكبر منزلة عند اللّه حيث رزقها عندما كانت في عيال زكريا من غير تكلف كان من زكريا ولا مؤنة، فلما فارقت زكريا أمرها بالكسب. وفيه دلالة: أن الآيات التي تكون للأنبياء يجوز أن يجريها على غير أيدي الأنبياء، حيث جعل لمريم نخلة يابسة رطبة تثمر رطبًا، وحيث جعل من تحتها سَرِيًّا، أي: نهرًا جاريًا، وحيث رزقها عندما كانت في عيال زكريا من غير تكلف أحد، فذلك يشبه آيات الأنبياء والرسل ويقاربها. وهذه المحن التي امتحن بها مريم في الظاهر عظيمة عند الناس، وفي الباطن من أعظم كراماته إليها: أنه أخبر أنه - تعالى - اصطفاها على نساء العالمين بقوله: {إِنَّ اللّه اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ}، وسماها: صديقة بقوله: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ}، وذلك لا يسمى إلا من بلغ من البشر في الصدق والصبر له غاية، واللّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا} أي: من تحت النخلة. ٢٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦) أي: كلي الرطب الذي يتساقط عليك، واشربي من السرى الذي جعل تحتك. {وَقَرِّي عَيْنًا} أي: وارضي مكان ما حزنت عليه وخفت على نفسك وعلى ولدك، أو طيبي نفسًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} أي: صمتًا وسكونًا، وكذلك روى في بعض الحروف، وهو في حرف أبي، وقال: ثم قوله: {فَقُولي} ليس على القول نفسه، ولكنه إشارة، أشارت إليهم: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} فإن كان على هذا، ففيه دلالة أن الإشارة إذا كانت بحالة مُفْهِمَةٍ المراد تعمل عمل القول نفسه والكلام؛ ولذلك وقع الطلاق بالإشارة والنكاح، وكل عقد من الأخرس وغيره إذا كانت الإشارة مفهومة معقولة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {فَقُولِي} هو على حقيقة القول، أي: أمرت أن تقولي: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا}، فكان نذرها الصوم للرحمن بعد هذا القول، وإلى هذا يذهب الحسن. ٢٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} أي: بعيسى قومها تحمله: {قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا}. قال أبو بكر الأصم: لقد فريت عظيمًا من الأمر، لكنه يخرج تأويل فريت من التقدير، يقال: فري، أي: قدر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لقد افتريت عظيمًا، وهو قذف صريح بالزنى، كقوله: {يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ}. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {شَيْئًا فَرِيًّا} كل قائم عجب، أو من عمل فهو فري، وهو هاهنا عجب فري، وهذا أقرب؛ إذ لا يجوز أن يحمل كلامهم على تصريح القذف وثم لتعريض القذف مساغ ووجه، واللّه أعلم. ٢٨وقوله: (يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) قَالَ بَعْضُهُمْ: كانت أخت هارون بن عمران أخي موسى، وعلى ذلك روى خبر عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فإن ثبت فهو هو.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا، ولكن كان لها أخ من أبيها يقال له: [هارون بن ماثان]؛ لذلك نسبوها إليه فقالوا: {يَا أُخْتَ هَارُونَ}. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن هارون كان رجلًا صالحًا ناسكًا فيهم، فشبهوها به ونسبوها إليه؛ لصلاحها ونسكها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن بني إسرائيل تسمي كل صالح: هارون؛ حبًّا لهارون؛ لذلك سموها ونسبوها إلى هارون، لنسكها وصلاحها. وقوله - عَزَّ وَجَلََّ: {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} أي: ما كان أبوك ما ذكر ولا أمك ولا أنت، فمن أين كان لك هذا؟! هذا تعريض من الكلام: ليس بتصريح، فهو ما ذكرنا: أنهم قالوا ذلك على التعجب وليس على تصريح الفرية والقذف لها. ٣٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللّه آتَانِيَ الْكِتَابَ ... (٣٠) أي: آتاني علم الكتاب، ولا نفسر أي كتاب هو: الإنجيل أو التوراة أو غيره؟ لأنه قال في آية أخرى: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ}، فذكر الكتاب وذكر معه التوراة والإنجيل فهذا يدل أن الكتاب غير التوراة والإنجيل. ٣١وقوله: (وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ (٣١) هذا يدل أنه قد تكلم بعد هذه الكلمات، وليس كما قال أهل التأويل: إنه تكلم بهَؤُلَاءِ، ثم لم يتكلم بعد ذلك إلى أن بلغ المبلغ الذي يتكلم الصبيان؛ لأنه أخبر أنه جعله نبيا وجعله مباركا، فلا يحتمل أن يكون نبيا ولا يتكلم ولا يدعو الناس إلى دين اللّه، وأي بركة تكون فيه إذا لم يتكلم بكلام خير؛ فدل ذلك منه أن ليس على ما قالوا هم، والبركة هي اسم كل خير وصلاح، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا}. يحتمل: الصلاة المعروفة والزكاة المعهودة. ويحتمل: الصلاة: الثناء له والدعاء في كل وقت وفي كل مكان، والزكاة: كل ما تزكو به النفس وتصلح وتنمو من كل خير. فإن كان الأول الصّلاة المفروضة والزكاة المعروفة، فهو على تعليم الناس، كأنه قال: أوصاني أن أعلم الناس وأعلمهم من الزكاة؛ إذ لم يكن يملك عيسى ما تجب فيه الزكاة، فهو يخرج على إعلام الناس عن حكم الزكاة، أو أن يكون على المواساة، فذلك مما قلَّ وكثر سواء. وإن كان الثاني فهو وغيره من الناس في تلك الزكاة سواء، واللّه أعلم. ٣٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (٣٢) أي: جعلني برًّا بوالدتي، صلة بقوله: {وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} و {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا}، وجعلني برًّا بوالدتي. {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا}، قد ذكرناه في قصة يحيى. ٣٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣) هذا -أيضًا- قد ذكرناه في قصة يَحْيَى، غير أن اللّه تعالى هو مُسَلِّمٌ على يحيى في تلك الأحوال، وهاهنا ذكر أن عيسى سلَّم على نفسه. وذكر في بعض القصة: أن عيسى ويحيى - عليهما السلام - الْتقَيا، فقال يحيى لعيسى: " أنت خير مني ". فقال عيسى: " بل أنت خير مني، سلَّم اللّه عليك، وسلمت أنا على نفسي "، واللّه أعلم. ٣٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) أي: ذلك عيسى ابن مريم، ليس على ما قالت النصارى وغيرهم أنه ابن اللّه، وأنه ثالث ثلاثة على ما قالوا، ولكن عيسى ابن مريم عبد اللّه كما أقر هو بالعبودية حيث قال: {إِنِّي عَبْدُ اللّه}. ويحتمل قوله: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} أي: ذلك الذي أنباتهم من نبأ عيسى: {قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} أي: هَؤُلَاءِ الكفرة حيث أنكروا أنه ليس على ما أنبأتهم من نبيه، أي: الذي يشكون فيه هو قول الحق، واللّه أعلم. ٣٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا كَانَ للّه أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) نزه نفسه عن أن يتخذ ولدًا؛ لأنه لا تقع له الأسباب التي لها يتخذ الولد ويطلب منه. أو يقول: إن اتخاذ الولد يسقط الألوهية؛ لأن الولد في الشاهد يكون شكل الأب وشبيهًا له، فلا يحتمل أن تكون الألوهية لمن يشبه الخلق؛ لأن الولد في الشاهد إنما يتخذ ويطلب لأحد وجوه ثلاثة: إما لوحشة تأخذه فيستأنس به. وإما لحاجة تمسه فيستغني به في دفعها. أو لخوف يخاف من أعدائه فيستنصر به، فإذا كان اللّه سبحانه يتعالى عن ذلك وله من سرعة نفاذ أمره ما ذكر في قوله: {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فمن له من سرعة نفاذ الأمر ما ذكر، لا تقع له الحاجة إلى الولد في معنى من المعاني ولا وجه من الوجوه، تعالى اللّه عما يقول الظالمون علوا كبيرًا. ثم قول أهل التأويل: إنه نفخ في جيب مريم، أو في أنفها، أو في غيره، وغير ذلك من القصص التي ذكروها مما ليس في الكتاب ذكرها - فلا يجوز أن يقال ذلك إلا بخبر عن اللّه تعالى، أو عمن أوحى إليه، فإنه لم يعلم صدقه ولا نبوته، فنذكر مقدار ما في الكتاب لا يزاد على ذلك ولا ينقص؛ لأن هذه الأنباء لما ذكرت لرسول اللّه لتكون آية لرسالته ونبوته؛ لأنها كانت مذكورة في الكتب المتقدمة، وكان هنالك من يعرفها، فذكرت له هذه الأنباء على ما كانت في كتبهم؛ ليعلموا أنه إنما عرف ذلك باللّه، فلو زيد فيه أو نقص لكانت غير دالة لهم على ذلك. قَالَ الْقُتَبِيُّ: الصوم: الإمساك؛ صومًا: أي: صمتًا، فريا: أي: عظيمًا عجبًا، والبغي: يقال: امرأة بغي ونسوة بغايا، أي: فاجرات، وكذلك قال أَبُو عَوْسَجَةَ. ٣٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ اللّه رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦) إنهم كانوا يعرفون أن اللّه هو ربهم حيث قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى} ونحوه، فكأن عيسى قال لهم: ارجعوا إلى عبادة الذي تعرفون أنه ربّي وربكم، واتركوا العبادة لمن تعرفون أنه ليس بربّكم. ٣٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: اختلف الذين تحزبوا في عيسى في حياته، منهم من قال: هو ساحر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو كاهن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كذا من هذا النحو. وقَالَ بَعْضُهُمْ: اختلف الذين تحزبوا في عيسى بعد ما رفع من بينهم: فمنهم من قال: هو اللّه، وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو ابن اللّه، وقَالَ بَعْضُهُمْ: ثالث ثلاثة، وأمثال ما قالوا على علم منهم أنه لم يكن على ما وصفوه وقالوا فيه، لكنهم عاندوا وكابروا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ}: الذين تحزبوا واختلفوا في رسول اللّه لما بعث، فمنهم من قال: إنه ساحر، وإنه كاهن ومجنون، وإنه مفترٍ، وإنه كذاب، ونحو ما قالوا فيه على علم منهم أن ما يقول هو يوافق كتبهم، وأن كتابه مصدق لكتبهم، وأنه يؤمن بالرسل الذين يؤمنون هم بهم، لكنهم قالوا ذلك على المعاندة والمكابرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا}. قال أصحاب التأويل: الويل: الوعيد، واختلفوا فيه، وهو - واللّه أعلم - الويل لكل كافر، ما من كافر إلا وله ذلك الوعيد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ}: وصف ذلك اليوم بالعظم؛ لما فيه مجمع الأولين والآخرين، ويشهده الجن والإنس والملائكة، فهو مشهد يوم عظيم. ويحتمل أنه وصفه بالعظم؛ لأنه هو المقصود في خلق العالم في الدنيا، فهو إنما خلقهم لأمر عظيم وهو ذلك اليوم. ٣٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٣٨) قال الحسن: يكونون سمعاء وبصراء في الآخرة، ليس على ما كانوا في الدنيا عميًا بكمًا صمًّا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ما أسمعهم وما أبصرهم يوم يأتوننا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا يصح هذا؛ لأن هذا ليس على [وجه النهر والتعجب] (١)، ولكن تأويله أي: يسمعون ما قالوا ويبصرون ما عملوا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} أي: {أَسْمِعْ} بحديثهم إليهم وأعلمهم {وَأَبْصِرْ} كيف نصنع بهم يوم يأتوننا، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}. أي: في حسرة بينة، أو في هلاك بين، وقد ذكرنا ذلك في غير موضع. ٣٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٣٩) قال عامة أهل التأويل: الحسرة: هي أن يصور الموت بصورة كبش أملح، فيذبح (١) [وجه النهر والتعجب] لعل الصواب القهر والتعجب. واللّه أعلم. (مصحح النسخة الألكترونية). بين الجنة والنار، فينظر إليه أهل النار وأهل الجنة، فيندم أهل النار ويكون لهم الحسرة؛ لما كانوا يطمعون الموت يتأملون منه، فذلك الحسرة التي ذكر، ولكن هذا لا يعلم إلا بخبر عن رسول اللّه، فإن ثبت شيء عنه فهو ذاك، وإلا فالحسرة لهم هي أعمالهم التي عملوا في الدنيا، وهو ما قال: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّه أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ}، وقوله: {يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللّه}، وقوله: {يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا}، ونحوه كل عمل عملوا في الدنيا يكون لهم ذلك حسرة في الآخرة وندامة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ}، أي: أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ}، أي: هم كانوا في غفلة من هذا {وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}. ٤٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (٤٠) هذا - واللّه أعلم - كناية عن فناء الخلق جميعًا وبقاء الخالق، فذلك معنى الوراثة، واللّه أعلم. وعلى ذلك سمي الوارث في الشاهد: وارثًا؛ لأنه باقٍ بعد فناء مورثه، واللّه أعلم. ٤١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ}. قال الحسن: هو صلة (كهيعص. ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا). يقول: اذكر رحمة ربك إبراهيم، وكذلك يجعل جميع ما ذكر في هذه السورة من نحو هذا صلة ذلك، كأنه ذكر (كهيعص) في كل ذلك؛ لأنه يجعل تفسير (كهيعص) في كل ذلك على ما ذكر على إثره، وكذلك يقول في جميع الحروف المقطعة: إن تفسيرها ما ذكر على إثرها. وأمَّا غيره من أهل التأويل فإنه يقول: واذكر لهم نبأ إبراهيم وقصته في الكتاب لهم، واذكر في الكتاب نبأ موسى وخبره وذكره، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا}: الصديق: إنما يقال لمن كثر منه ما يستحق ذلك الاسم، وكذلك التشديد إنما يشدد إذا كثر الفعل منه وصار كالعادة له والطبع، فكأنه سمي بهذا لما لم يكن يجعل بين ما ظهر له من الحقوق والفعل وبين وفائها وأدائها إليها نظرة ولا مهلة، بل كان يفي بها ويؤديها كما ظهر له، ولذلك سماه - واللّه أعلم -: وفيًّا بقوله: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى}، وقال في آية أخرى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ}، سماه: وفيًّا، كانت عادته القيام بوفاء ما ظهر له وإتمام ما ابتلاه به، واللّه أعلم. ٤٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ ... (٤٢) إذا دعوته {وَلَا يُبْصِرُ} ولو عبدته {وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} إذا احتجت إليه وسألته. ويحتمل أن يكون قوله: {مَا لَا يَسْمَعُ} أي: لا يجيب لو دعوته واحتجت إليه، {وَلَا يُبْصِرُ} حاجتك إذا احتجت إليه، {وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا}، أي: لا ينصرك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} من عذاب اللّه في الآخرة. يقول: كيف لا تعبد من إذا دعوته سمع، وإذا عبدته أبصر، ونصرك إذا احتجت إليه وسألته، واللّه الموفق. ٤٣وقرله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ ... (٤٣) أي: من بيان ما يحل بك بعد الموت، إذا مت على ما أنت عليه، {مَا لَمْ يَأْتِكَ} ذلك {فَاتَّبِعْنِي} إلى ما أدعوك إليه من دين اللّه، {أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا}، أي: دينًا عدلًا سَوِيًّا قيمًا لا عوج فيه، فهذا يدل منه أنه قد أوحى إليه في ذلك الوقت، ويشبه أن يكون عرف ذلك استدلالًا منه واجتهادًا على غير وحي، كقوله: {هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ}، حتى انتهى إلى قوله: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا}، وكل ذلك كان له من اللّه؛ ألا ترى أنه قال في آخره: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ}. ٤٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (٤٤) هم لم يكونوا يعبدون الشيطان عند أنفسهم، ولكن يحتمل إضافة عبادتهم إلى الشيطان وجوهًا: أحدها: أن الأصنام التي عبدوها كانت لا تأمرهم بالعبادة ولا تدعوهم إليها ثم عبدوها، فإنما عبدوها بأمر الشيطان وبدعائه إياهم، فأضاف ذلك إليه للأمر الذي كان منه بذلك. والثاني: ذكر أن الشيطان كان ينطق من جوف الصنم، فعبدوها لكلامه، فكأنهم عبدوا الشيطان، واللّه أعلم. ٤٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (٤٥) قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {إِنِّي أَخَافُ}: أي: أعلم أنه يمشك عذاب من الرحمن لو دمت على الكفر وختمت به، فإن كان تأويله العلم فهو على هذا الشرط يخرج. ويحتمل أن يكون الخوف في موضع الخوف، أي: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} إن لم تنجز وعدك {فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} أي: قرينًا في العذاب. ٤٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦) ولا شك أنه كان راغبًا عن عبادة آلهتهم. وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ} يحتمل وجوها: أحدها: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ} عن دينك الذي أنت عليه {لَأَرْجُمَنَّكَ}، أي: لأقثلنك. والثاني: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ} عن قذف آلهتنا وسبِّها وذكرها بسوء {لَأَرْجُمَنَّكَ}، أي: لأشتمنك مكان شتمك وقذفك آلهتنا، فالرجم يشتمل على هذه الوجوه الثلاثة: القتل، والطرد، والشتم، فإن كان على القتل فهو مقابل الدِّين، أي: لئن لم تنته عن دينك لأقتلنك، وإن كان على الطرد فهو مقابل الدعاء، أي: لئن لم تنته عن دعائك إياي إلى ما تدعو لأطردنك، وإن كان علي الشتم فهو مقابل الشتم، أي: لئن لم تنته عن شتمك آلهتنا لأشتمنك، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا}. قَالَ بَعْضُهُمْ: طويلًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: دهرًا. فإن كان {مَلِيًّا}، أي: بعيدًا فهو على بعده منه، أي: ابعد مني، وتباعد مني داره ومقامه. وإن كان على الدهر والطول فهو يخرج، أي: لا تكلمني أبدًا، واللّه أعلم. ٤٧وقوله - عزَّ وجلَّ -: (قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) يحتمل أنه ليس على أن سفم عليه، ولكن كلمه بكلام السداد، كقوله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}، هو أن يقولوا لهم كلام السداد ليس على أن يسلموا عليهم. ويحتمل {سَلَامٌ عَلَيْكَ} على حقيقة السلام المعروف، لكنه يخرج على الإضمار، أي: {سَلَامٌ عَلَيْكَ} إذا أسلمت. وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} إذا أسلمت على نحو ما قلنا. ويحتمل قوله: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} أي: أسأل ربي ليوفقك على السبب الذي تستوجب به الاستغفار، وتكون أهلًا للاستغفار. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا}. قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: برًّا لطيفًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {حَفِيًّا}: عالمًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنه كان عودني الإجابة. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: الحفي: العالم بالأمر، ويقال: حفى الرجل يحفي: إذا سار بلا نعل ولا خف، وجمعه: حفاة، واحتفى يحتفي: إذا اجتنى حشيشًا. ٤٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨) الاعتزال - هاهنا - اعتزال هجرة إلى أرض الشام، ومفارقته إياهم مفارقة المكان والدار، كقوله: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ}، فقوله: {وَنَجَّيْنَاهُ} النجاة بالفراق منهم. وقوله: {وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه} أي: وأعتزلكم وما تعبدون من دون اللّه أيضًا، ففيه إخبار عن اعتزاله عنهم بالدار والمكان، وعن فعلهم أيضا، اعتزلهم عن الأمرين جميعًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا}. هذا يحتمل وجهين: أحدهما: أي أدعو ربي عسى ألا أكون بعبادة غير اللّه شقيًّا، كما كان قومه بعبادة غير اللّه أشقياء. والثاني: {أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا}، أي: خائبًا مردود الدعاء، واللّه أعلم. ٤٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (٤٩) اعتزال الدار والمكان بالهجرة إلى الأرض المباركة التي ذكر أنه نجاه إليها، واعتزل -أيضًا- صنيعهم الذي كانوا يصنعون من عبادتهم غير اللّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ}، وقال في آية أخرى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} ذكر الهبة؛ لأن الولد هبة من اللّه تعالى، خلقه على الإفضال منه والإنعام عليه؛ لأنه يعطي لا عن حق كان لهم عليه، فذلك فائدة ذكر الولد هبة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} هو ظاهر، وهب له ما ذكر، ثم أخبر - عز وجل - أنه جعلهم أنبياء. ٥٠وقوله: (وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠) اختلفوا فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: الرحمة - هاهنا -: هي النبوة، أي: وهبنا لهم النبوة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الرحمة: النعمة، أي: من نعمته وهب لهم ما وهب من النبوة وغيرها، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {لِسَانَ صِدْقٍ}: هي الكتب التي أنزلها اللّه فيها أنباء صدقهم وفضلهم، ومنزلتهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} هم أولادهم الذين جعلهم أنبياء ورسلًا يذكرون ويعظون من بعدهم؛ لأن جميع الأنبياء والرسل كانوا من نسل إبراهيم من لدنه إلى لدن مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فهم كانوا لسان صدق عليًّا، حيث يذكرون بكل خير وبكل بركة ويمن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} هو ما آمن جميع أهل الأديان به - أعني: بإبراهيم - ودانوا به جميعًا، وعلى ذلك يخرج تخصيص إبراهيم وآله بالصلاة وبالبركة عليهم والثناء على قول قوم حيث قالوا: " اللّهم صل على مُحَمَّد وعلى آل مُحَمَّد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ". ٥١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى}: هو ما ذكرنا في قوله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ}، و {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} - على قول الحسن - صلة قوله: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} أي: اذكر رحمة ربك موسى. وعلى قول غيره من أهل التأويل، أي: اذكر لهم نبأ موسى وقصته في الكتاب، وهو ما ذكرنا فيما تقدم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا}، و {مُخْلِصًا}، وقد قرئ بالنصب والخفض جميعًا: قَالَ بَعْضُهُمْ: {مُخْلَصًا}: أخلصه اللّه واصطفاه واختاره لرسالته ونبوته. وقوله: {مُخْلِصًا} بالخفض، أي: أخلص عبادته وتوحيده له. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا}. قَالَ بَعْضُهُمْ: الرسول هو الذي ينبئ ويخبر عن التأويل. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الرسول هو الذي ينزل عليه الوحي والكتاب، والنبي هو الذي ينبئ لا عن لسان، وأصل النبي هو الذي ينبئ عن كل خير وبركة، وسمي: نبيا، لاجتماع خصال فيه، كالصديق لا يسمى إلا بعد اجتماع كل خصال الخير والبركة ما لو انفرد بكل خصلة من تلك الخصال سمّي: صادقًا، فإذا اجتمع ذلك سمي: صديقًا، فعلى ذلك النبي سمي نبيًّا لاجتماع خصال فيه، وهو ما روي في الخبر: " الرُّؤْيَا الصالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ خَمْسةٍ وأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبوةِ " والسَّمْتُ الحَسَنُ جُزْءٌ مِن خَمْسَةٍ وعِشرِينَ جُزْءًا مِنَ النُبوَّةِ " فهذا يدل أن النبي إنما سمي: نبيًّا؛ لاجتماع خصال الخير والبركة فيه، كما ذكرنا في الصديق، واللّه أعلم. ٥٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (٥٢) فإن كان الأيمن من اليمن والبركة، فيكون تأويله: وناديناه من جانب الطور المبارك واليمن، وكذلك روي في الخبر أن موسى - عليه السلام - قال: " أتاني من جبل طور سيناء، واطلع من جبل ساعورا، وظهر من جبل فاران "، ومعناه: أتانى وحي ربي من جبل طور سيناء، " واطلع من جبل ساعورا "، أي: أتى وحي عيسى من جبل ساعورا، وأتى وحي محمّد في جبل فاران؛ فهو على اليمن: يمن الجبل وبركته. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو يمين الجبل. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يمين موسى. قال أبو بكر الأصم: هذا لا يعلم إلا بالخبر، ولا نفسره أنه ماذا أراد به؟ مخافة التغيير؛ لأنه ذكر في موضع الاحتجاج عليهم، فإن زادوا أو نقصوا عما في كتبهم يبطل الاحتجاج به عليهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا}. قال أهل التأويل: هو تقريب بالمكان، ولكن عندنا هو تقريب المنزلة والقدر والفضل، هذا معروف، وهو أسلم، {نَجِيًّا} من المناجاة، أي: ناجاه من حيث لم يطلع على ذلك غيرهما، وسمّي موسى بهذا؛ لأنه أخلص نفسه للّه وسلَّمها له، ولذلك سمي المصلي -أيضًا-: مناجيا ربه على ما روي في الخبر " انْظُر مَنْ تُنَاجِي " حيث فرغ نفسه عن جميع الأشغال وسلمها إليه فسمي لذلك مناجيًا، واللّه أعلم. ٥٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (٥٣) هو ما ذكرنا فيما تقدم. ٥٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ}. على قول الحسن هو صلة قوله: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} أي: اذكر لهم رحمة ربك إسماعيل. وعلى قول غيره من أهل التأويل على الابتداء، أي: اذكر لهم نبأ إسماعيل وقصته في الكتاب على الاحتجاج له عليهم؛ لأن هذه الأنباء والقصص كانت في كتبهم، فأخبر رسوله عن تلك الأنباء والقصص على ما كانت؛ ليخبرهم؛ فيعلموا أنه إنما عرفها باللّه؛ ليدلهم ذلك على النبوة ورسالته. ثم اختلف في إسماعيل: قال عامة أهل التأويل: هو إسماعيل بن إبراهيم، صلوات اللّه عليهما. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو الذي قالوا: {ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّه}، ولكن لا نعلم ذلك إلا بالخبر عن اللّه، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ}: قال عامة أهل التأويل: سماه: {صَادِقَ الْوَعْدِ}؛ لأنه وعد رجلًا أن يقيم عليه وأن ينتظره حتى يرجع إليه، فأقام مكانه أيامًا ينتظره للميعاد حتى رجع إليه. لكن لا يحتمل أن يكون مثل إسماعيل يَعِدُ عِدَةً ولا يستثني، وقد نهى اللّه رسوله أن يقول: إني فاعل كذا غدًا حتى يستثني، وهو قوله: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللّه)، ويكون قوله: {صَادِقَ الْوَعْدِ}، أي: صِدِّيقًا، والصِّدِّيق هو القائم بوفاء كل حق ظهر له؛ لأن كل مؤمن يعتقد في أصل إيمانه طاعة ربه في كل أمر يأمر به والانتهاء عن كل نهى ينهاه، ووفاء كل حق عليه، فسماه: صادق الوعد؛ لقيامه بوفاء كل حق ظهر له وتجلى، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} قد ذكرناه. ٥٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥) أي: يأمر قومه بالصلاة والزكاة، وإن كانت الصلاة هي الصلاة المعروفة والزكاة المعروفة، ففيه أنهما كانتا في الأمم الماضية، وإن كان الدعاء والثناء وما به تزكو الأنفس وتصلح، فهو على جميع الخلائق، ذلك واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} ظاهر. ٥٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ ... (٥٦) هو ما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلََّ: {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} قد ذكرناه أيضًا. ٥٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (٥٧) قال الحسن: " رفعناه "، أي: نرفعه في الجنة. وقال أهل التأويل: رفعه إلى السماء الرابعة، فهو ميت فيها، وكلام نحو هذا. ولكن عندنا: يشبه أن يكون رفعه إياه في المنزلة والقدر والرفعة عند اللّه وعند الناس جميعًا، على ما ذكرنا في قوله: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا}. ٥٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّه عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ ... (٥٨) أي: بالنبوة أو الرحمة التي ذكر فيما تقدم، والرحمة: هي النعمة؛ فهذا يرد قول أهل الاعتزال؛ لأنهم يقولون: لا يخص اللّه أحدًا بالنبوة أو بشيء من الإفضال إلا من يستحق ذلك ويستوجبه، فأخبر اللّه - عز وجل - أن ذلك منه إنعام وإفضال عليهم. {مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا}: الأنبياء كانوا من ذرية آدم، ومن ذرية من حمل مع نوح، ومن ذرية إبراهيم أيضًا، ومن ذرية إسرائيل - أي: يعقوب - ومن ذرية من هداه للتوحيد واجتباه للرسالة والنبوة، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا}: قال بعض أهل التأويل: هذا في مؤمني أهل الكتاب: عبد اللّه بن سلام وأصحابه إذا تتلى عليهم آيات القرآن بعدما آمنوا {خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا}. ويشبه أن يكون هذا في أُولَئِكَ الذين ذكر أنه أنعم عليهم كانت لهم آيات في كتبهم فيها سجود إذا تليت عليهم خروا للّه سجدًا وبكيًّا. أو أن يكون لا على حقيقة السجود، ولكن على الخضوع له والقبول لحججه وبراهينه التي تليت عليهم، أو أن يكونوا لا يملكون أنفسهم إذا رأوا آيات اللّه وسلطانه، ولكن وقعوا سجدًا على ما أخبر عن سحرة فرعون عند معاينتهم الآيات، حيث قال: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا}، {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ}، ليس أن سجدوا له، ولكن يلقون سجدًا لما لا يملكون أنفسهم عند معاينتهم الآيات. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: {وَبُكِيًّا}، فيه ثلاث لغات: بُكِيًّا، وبَكِيًّا، وبِكِيًّا، وهو جماعة الباكي. وقوله: {نَجِيًّا} يقال: فلان نجئ فلان، أي: موضع أسره. ويحتمل قوله: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا}: أن يكون كناية عن الصلاة، وصفهم - عَزَّ وَجَلَّ - أنهم كانوا يكونون في الصلاة خاشعين باكين. ٥٩ثم قال: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ}، أي: خلف من بعد أُولَئِكَ الذين وصفهم - عَزَّ وَجَلَّ - بالصلاة للّه، والخشوع للّه فيها، والبكاء، {خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ}، أي: جعلوها لغير اللّه، وهي الأصنام التي كانوا يعبدونها، فإذا جعلوها وصرفوها إلى غير الذي يصلي إليه أُولَئِكَ فقد أضاعوها؛ لأنهم كانوا يصلون للأصنام الصلاة التي كان يصلي أُولَئِكَ للّه. ويحتمل أن يكون قوله: {أَضَاعُوا الصَّلَاةَ}؛ لأن الصلاة هي آخر ما يترك ويضيع؛ لأنه روى في الخبر أنه قال: " سَيُنقَضُ عُرَى الإسْلامِ عُروةً فَعُروَة، أوَّلُها الأمانة، وآخِرُها الصَّلَاة ". وقال بعض أهل التأويل: {أَضَاعُوا الصَّلَاةَ}، إضاعتها: تأخيرها عن مواقيتها، لا أن تركوها أصلًا، فهذا في أهل الإسلام إن ثبت، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ}، أي: آثروا الشهوات على العبادات، وجعلوا الشهوات هي المعتمدة دون العبادات. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}: قَالَ بَعْضُهُمْ: الغي: وادٍ في جهنم، لكن هذا لا يجوز أن يقال إلا بالخبر عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: واد في جهنم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الغي: العذاب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الغي: الشر. وجائز أن يكون سمى جزاء أعمالهم التي عملوها في الدنيا بالغواية باسم أعمالهم: غيًا، ويجوز تسمية الجزاء باسم سببه، كقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}، ونحوه. ٦٠ثم استثنى فقال: (إِلَّا مَنْ تَابَ ... (٦٠) عن الشرك {وَآمَنَ} باللّه {وَعَمِلَ صَالِحًا}. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا}، يشبه أن يكون قوله: {وَلَا يُظلَمُونَ شَيْئًا}، أي: لا ينقصون من حسناتهم التي عملوها في حال إيمانهم لمكان ما عملوا من الأعمال في حال كفرهم، بل يبدل سيئاتهم حسنات على ما أخبر تعالى: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللّه سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ}، وقال في آية أخرى: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}، أخبر أنهم إذا آمنوا وانتهوا عن الشرك لا يؤاخذهم بما كان منهم في حال كفرهم، واللّه أعلم. ٦١ثم بيِّن أية جنة، فقال: (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) ثم يحتمل إيمانهم بالغيب، أي: باللّه آمنوا به بالخبر وإن لم يروه، ويحتمل الغيب: الجنة، أي: صدقوا بها وإن لم يروها والنار والبعث بالغيب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} أي: كان موعوده آتيًا، ولكن ذكر {مَأْتِيًّا}؛ لأن كل من أتاك فقد أتيته، فسمي لذلك {مَأْتِيًّا}. ٦٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا ... (٦٢) وقال في موضع آخر: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (٢٥) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (٢٦)، أي: لا يسمعون باطلًا، ولا ما يكره بعضهم من بعض، ولا ما يأثم بعضهم بعضًا إلا سلامًا، والسلام كأنه اسم كل خير وبركة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا}. قال الحسن: إن أطيب العيش وأحبه إلى العرب الغداء والعشاء، فأخبرهم اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - أن لهم في الجنة الغداء والعشاء، وأطيب العيش إلى العجم لباس الحرير واللؤلؤ، فأعلمهم أن لهم في الجنة ذلك بقوله: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ}. ويقول أهل التأويل: ليس في الجنة بكرة ولا عشي، ولا ليل ولا نهار، ولكن يؤتون على ما يحبون من البكرة والعشي. عن ابن عَبَّاسٍ قال: على مقادير الليل والنهار. ويشبه أن يكون قوله: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} ليس على تخصيص وقت دون وقت، ولكن الأوقات كلها في كل وقت يحبون ويشتهون، كقوله: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ}، {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ}. ويخرج ذكر البكرة والعشي: أن زمان الجنة يكون مشبهًا البكرة من وقت طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ومثل الوقت الذي يكون بعد غروب الشمس إلى أن يظلم؛ لأنه أخبر أن ظله ممدود بقوله: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ}. ٦٣ثم أخبر أن تلك الجنة التي ذكر أن فيها كذا هي (الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (٦٣) يحتمل أن يكون وعد الجنة للبشر كلهم بشرائط شرط عليهم، إن وفوا بها فلهم الجنة جميعًا، وإن لم يفوا بها فلا، فمن وفَّى بشرائطه التي شرط يجعل الذي كان وعد للذي لم يف - إذا وفَّى - للذي وفي بذلك، فهو الميراث الذي ذكر، وعلى ذلك يخرج قوله: (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ. . .) الآية، والوارث هو الباقي من المورث والخلف عن الميت. وقوله: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ}: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْخَلْف - بالجزم - يستعمل في موضع الذم، والْخَلَف بالتحريك والنصب في موضع الحمد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هما سواء، ويستعملان جميعًا في موضع واحد. ٦٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤) هذا الكلام منه لا يكون إلا عن سؤال كان منه، كأنه قد كان استبطأ نزول جبريل عليه، فعند ذلك قال له: إنا لا نتنزل إلا بأمر ربك. ثم فيه أنه لم يقل ذلك له إلا بأمر اللّه؛ لأن اللّه أخبر أنهم: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}: فلا يحتمل أن يقول له ذلك من تلقاء نفسه؛ فيجعل ذلك آية في كتاب اللّه تتلى. قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ}. كان هذا الكلام موصول بقوله: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ}؛ لأنهما جميعًا كانا يعلمان أن له ما بين أيديهم وما خلفهم وما بين ذلك؛ فدل ذلك أنه موصول بالأول، وجهة الصلة بالأول هو أن يقال: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ}، لا نتقدم إلا بأمره، ولا نتأخر ولا نعمل شيئًا إلا بأمره، وهو كقوله: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّه وَرَسُولِهِ}. وأمَّا غيره من أهل التأويل اختلفوا فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا}: هو الآخرة، {وَمَا خَلْفَنَا}: ما مضى من الدنيا، {وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ}: الحال التي نحن فيها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا}: الدنيا، {وَمَا خَلْفَنَا}: الآخرة، {وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ}: ما بين النفختين، وأمثال هذا، لكن الذي ذكرنا بدءًا أولى وأشبه؛ إذ هو على الصلة بالأول؛ إذ لا يتقدم ولا يتأخر ولا يعمل شيئًا إلا بأمره، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}. هذا يخرج على وجوه ثلاثة: أحدها: ما قال بعض أهل التأويل: إن جبريل قد كان احتبس عنه زمانًا، فقال أهل مكة: قد ودعه ربه وقلاه؛ فنزل: (وَالضُّحَى (١) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (٢) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (٣). على ما قال المشركون، فيخرج على هذا قوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} على الترك، أي: ما كان ربك تركك لما قال أُولَئِكَ من التوديع والقلى. ويحتمل: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} كملوك الأرض يطلب خدمهم وخولهم وقت سهوهم وحالة غفلتهم، فيقضون حوائجهم وحوائج من يطلب منهم القيام بها، أي: ما كان ربك بالذي يسهو ويغفل كملوك الأرض. والثالث: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} بتأخير نزوله عن وقت النزول، بل أنزل عليك في الوقت الذي هو وقت النزول. فهذان الوجهان يخرجان على السهو والغفلة، والأول على الترك. ٦٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥) أي: اصبر نفسك عليها وعلى طاعته. وقوله - عزَّ وجلَّ -: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا}، أي: ما تعلم له شريكًا تشتغل بعبادته عن عبادة اللّه، إنما هو إله واحد، لا راحة لك عن عبادته ولا ما يشغلك عنه. وقال بعض أهل التأويل: هل تعلم أحدًا اسمه: (اللّه) سواه؟! وقَالَ بَعْضُهُمْ: هل تعلم له مثلًا وشبيهًا؟! ٦٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا}. هذا الكلام يخرج على وجهين: أحدهما: على إنكار البعث: {لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} أي: ما أخرج حيًّا. والثاني: على التهزؤ والهزء، جواب ما قال لهم أهل الإسلام: إنكم تبعثون وتحيون، فقالوا عند ذلك: ذلك على التهزؤ بهم والسّخرية. ثم ذكرهم بدء حالهم حيث لم يكونوا شيئًا فخلقهم ٦٧فقال: (أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (٦٧) فإن قدر على خلقه في الابتداء ولم يك شيئًا كان على إحيائه وبعثه بعدما كان شيئًا أقدر. ٦٨ثم أقسم أنهم يبعثون فقال: (فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨) أي: لَنجعلهم والشياطين الذين أضلّوهم، كقوله: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللّه. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا}: قَالَ بَعْضُهُمْ: {جِثِيًّا}: جماعات، كقوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا}. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {جِثِيًّا} وعلى الركب؛ لأن أقدامهم لا تحمل؛ لشدة هول ذلك اليوم. ٦٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (٦٩) قَالَ بَعْضُهُمْ: الشيعة: الصنف، أي: من كل صنف، والشيعة: الأتباع، كقوله: {هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ}، أي: من أتباعه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا}، أي: تمردًا وعنادًا، والعاتي: هو القاسي المتمرد في عُتُوّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ}، أي: لنخرجنَّ، أي: نبدأ بهم من كان منهم أشد على الرحمن تمردًا وعنادًا وهم القادة والرؤساء منهم، فيقذفون في النَّار أولًا، ثم الأمثل فالأمثل على المراتب التي كانوا في الدّنيا. ٧٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (٧٠) أي: أعلم بمن أولى بها صِلِيًّا، أي: يصلي بالنار، وهم القادة والكفرة. وقوله: {يَلْقَوْنَ غَيًّا} قال أَبُو عَوْسَجَةَ: الغي: الشر، {جِثِيًّا}، قال: جماعات، والجاثي: هو الراكب على ركبتيه، والشيعة: الصنف من الناس. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: {جِثِيًّا}: جمع جاثٍ، وفي التفسير: جماعات. وقال قتادة في قوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} قال: لا سمي للّه ولا عدل ولا مثل، كل خلقه يقر له ويعرفه ويعلم أنه خالقه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا يسمى أحد باسمه، يعني: باللّه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: بالرحمن. ٧١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ... (٧١) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: الآية في الكفرة خاصة، واستدلّ بأوّل الآية بقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} إلى آخر ما ذكر، والمؤمنون لا يحشرون مع الشياطين، ولكن إنما يحشر الكفار مع الشياطين، كقوله: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللّه)، ويكون قوله: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} على ابتداء منع الورود عليها والنجاة منها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الآية في المؤمنين والكافرين جميعًا، لكن اختلف في الورود: فقَالَ بَعْضُهُمْ: الورود: الحضور دون الدخول؛ لأن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - أخبر أن من أدخل النار فقد أخزاه بقوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ}. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الورود: الدخول فيها، واستدل بقوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}، وبقوله: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ. . .} الآية، يقول: يدخل الفريقان جميعًا فيها، لكنها تصير جامدة وبردًا على المؤمنين على ما صارت بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ، ثم تصير حارة محرقة للكفار والظلمة. قال الحسن: لا يحتمل أن يدخل أهل الإيمان النار؛ لأن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - آمن المؤمنين أن يكون عليهم خوف أو حزن بقوله: {لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} فلو كانوا يدخلون النار، لكان لهم خوف وحزن، وقد أخبر أن {لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} دل أنهم لا يدخلونها. وجائز أن يكونوا واردين جميعًا، داخلين فيها، لا دخول تعذيب فيها وعقاب؛ لأنه ذكر أن ممرهم جميعًا على الصراط لجهنم كالسطح للدار؛ كمن حلف ألا يدخل دارًا فتسور بسورها أو صعد سطحًا من سطوحها حنث ويصير داخلًا فيها؛ فعلى ذلك جائز أنهم إذا مروا على الصراط نجا أهل الإيمان فمروا به، وتزل أقدام الكفار فيها؛ فبقوا فيها، فكان الفريقان يوصفان بالدخول على الوجه الذي وصفنا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ورود المسلمين: المرور بهم على الجسر بين أظهرها، وورود المشركين: أن يدخلوها. وقال النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " الزالُّونَ والزالات " وما ذكر الحسن أنه من المرسلين ألا يكون عليهم خوف ولا حزن، فجائز أن يكون اللّه يدخلهم فيها على غير جهة العقوبة فلا يكون لهم خوف ولا حزن، ألا ترى أنه أخبر أنه جعل الملائكة أصحاب النار بقوله: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً}، ثم لا يكون لهم خوف ولا حزن وهم ممن أوعدوا بها إذا خالفوا أمر اللّه وعصوه بقوله: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ. . .} الآية؛ ألا ترى أنه أخبر أن أهل الجنة يطلعون على أهل النار ثم لا يخافون ولا يحزنون بقوله: {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} وهم في الدنيا إذا اطلعوا عليها لا شك أنهم يخافون ويحزنون ويسوءهم ذلك أشد الخوف ثم في الآخرة لا، فعلى ذلك جائز أن يكونوا يرِدُونها ويدخلونها ولا يخيفهم ذلك ولا يحزنهم ولا يسوءهم، واللّه أعلم بذلك. ٧٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} أي: قضاء واجبًا، (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ... (٧٢) الشرك والفواحش {وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} على ركبهم. ٧٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ... (٧٣) قد ذكرناه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا}: كأن هذا القول من الكفرة خرج جواب ما احتج عليهم أهل الإيمان بالآيات التي ذكروا حجاجًا عليهم، فيقولون: إنكم تقولون: إن الدنيا والآخرة للّه، فقد وسع علينا الدنيا وضيق عليكم، فعلى ذلك يوسع الآخرة علينا ويضيق عليكم كما فعل في الدنيا؛ إذ لا يجوز أن يوالينا في الدنيا ويعادينا في الآخرة، وعلى هذا قولهم: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}، فظنوا أنه لما وسع عليهم وأحسن بهم الندى والمجلس كذلك يكونون في الآخرة، فأكذبهم اللّه، ورد عليهم ذلك ٧٤فقال: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (٧٤) أخبرهم بما عرفوا هم أنهم كانوا أهل السعة والزينة، ثم أهلكوا بتكذيبهم الرسل وعصيانهم ربهم، فلو كان ما ذكر هَؤُلَاءِ الكفرة لكانوا لا يهلكون؛ فيلزمهم بما ذكر أن من وسع عليه الدنيا وضيق عليه الآخرة إنما يكون بحق المحنة، لا بحق المنزلة والقدر، وأمَّا الثواب والجزاء فهو بحق القدر والمنزلة والخذلان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَثَاثًا} قيل: المتاع والمال، {وَرِئْيًا} أي: منظرًا. ٧٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا ... (٧٥) أي: خيرا وسعة في الدنيا، {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ} هو العذاب والهلاك الذي وعدهم رسول اللّه في الدنيا، {وَإِمَّا السَّاعَةَ} القيامة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا}: هذا يدل أن قولهم: {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} أرادوا: الخدم والحواشي، حيث قال: {وَأَضْعَفُ جُنْدًا}. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: {حَتْمًا مَقْضِيًّا} أي: واجبًا، {نَدِيًّا} أي: مجلسًا، وأندية: جمع، والأثاث: المتاع، {وَرِئْيًا} ومنظرًا، {وَنَمُدُّ لَهُ} أي: نطيل عذابه. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: {نَدِيًّا} مجلسًا، يقال للمجلس: ندي ونادٍ، ومنه قيل: دار الندوة التي كان المشركون يجلسون ويتشاورون بها في رسول اللّه، والأثاث: المتاع، والرئي: المنظر، والبشارة، والهيئة.
وقوله: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا}، أي: يمد له في ضلالته، {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ}، أي: نرثه المال والولد الذي قال: {لَأُوتَيَنَّ}. وقوله: {وَيَأْتِينَا فَرْدًا} لا شيء معه. ٧٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَزِيدُ اللّه الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى ... (٧٦) جميع ما ذكر اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - من زيادة الهداية وابتداء الهداية فهو إنما يزيد له الهداية ويهديه ابتداء إذا كان من العبد رغبة في ذلك وبغية وطلب، وإذا كان مهتديًا يزيد له الثبات على ما كان عليه في وقت رغبته وطلبه منه. أو إن لم يكن مهتديًا يهده ابتداء هداية في وقت رغبته وقبوله، على هذا يخرج عندنا ما ذكر بحق الزيادة أو بحق الابتداء. ويحتمل قوله: {وَيَزِيدُ اللّه الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى}، أي: يوفقهم - إذا اهتدوا وعرفوا وحدانية اللّه - لأنواع الخيرات والطاعات. وقالت المعتزلة: البيان، وهي هداية عامة، والهداية الثانية شرح الصدر لها والتوفيق، وهي هداية خاصة تكون في وقت ثانٍ بحق الثواب، فعلى زعمهم يجيء ألا يكفر أحد بعد ما هداه اللّه مرة أبدًا؛ لأنهم يقولون: إذا اهتدوا وقبلوا هدايته مرة، يوفقه ويشرح صدره في الوقت الثاني، فهو أبدًا يكون على الهداية والإيمان، فإذا وجد عن كثير ممن اهتدوا مرة الكفر من بعد، دل أن تأويلهم فاسد، وأن التأويل ما ذكرنا نحن: أنه يزيد لهم الهداية وقت رغبتهها وطلبهم الهداية إن كان بحق الزيادة: أو بحق الابتداء، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا}. يحتمل {وَالْبَاقِيَاتُ}: الأمور الباقيات التي لها البقاء، أي: ما يبقى لكم عند اللّه خير مما يبطل؛ لأن اللّه تعالى وصف الحق والخير بالبقاء والمكث، ووصف الباطل بالذهاب والتلاشى بقوله: {فَأَمَّا الزَّبَدُ. . .} الآية، و قال في آية: {مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً. . .} الآية، وقال: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ. . .} الآية: و قال في آية: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} أي: ذاهبًا. فيشبه أن يكون قوله: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ}، أي: الأعمال التي لها البقاء خير لكم عند اللّه ثوابًا من التي ليس لها البقاء. ويحتمل {وَالْبَاقِيَاتُ}، أي: ما أبقى اللّه لكم في الآخرة من الثواب خير لكم مما أعطى لكم في الدنيا؛ لأن هذا فانٍ وذاك باق، واللّه أعلم. ٧٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا}. قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا القول قاله العاص بن وائل السهمي لما حاجه أهل الإيمان في أمر الآخرة أنها لهم دون الكفرة، فقال لهم عند ذلك: {لَأُوتَيَنَّ مَالًا} في الآخرة إن كان ما تقولون أنتم حقا، إنما نبعث ونحيا كما أوتيت في هذه الدنيا. وقال الحسن: قائل هذا القول هو الوليد بن المغيرة وهو ما قال تعالى: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (١٢) وَبَنِينَ شُهُودًا (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥). وكان يطمع أن أزيد له في الدنيا أبدًا، فقال: {كَلَّا} ردًّا على ذلك، وقال هاهنا: ٧٨(أَطَّلَعَ الْغَيْبَ ... (٧٨) أنه يكون له في الآخرة ذلك على التأويل الأول، أو في الدنيا في وقت آخر؛ ذلك على تأويل الحسن، {أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} ردًّا على ما ادعوا ٧٩(سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ ... (٧٩) أي: سنحفظ. {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا}: قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {وَنَمُدُّ لَهُ} أي: نزيد له من العذاب في كل يوم، كقوله: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا}، وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا}، أي: نعذب بلا انقطاع له، واللّه أعلم. ٨٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ ... (٨٠) قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: نرثه المال والولد الذي قال: {لَأُوتَيَنَّ} أي: للّه ما يقول بأنه له من المال وغيره لا له. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {وَنَرِثُهُ}: أنه يعطى في الجنة ما يعطى المؤمنون فنرثه عنه ونعطيه غيره، وجائز إضافة الوراثة إليه على إرادة أوليائه، أي: يرثه ذلك أولياؤه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَأْتِينَا فَرْدًا} في الآخرة لا شيء معه ولا أهل، كقوله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى}. ويحتمل قوله: {وَيَأْتِينَا فَرْدًا} في الدنيا في وقت لا شيء معه ولا أهل ولا ولد، على تأويل من يقول في قوله: {لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا}: في الدنيا، واللّه أعلم. ثم اختلف أهل التأويل في العهد الذي ذكر: أن له عند اللّه: قَالَ بَعْضُهُمْ: شهادة أن لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه في الدنيا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قدم عملًا صالحًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الصلاة، وهو قول مقاتل. وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: " اتخذوا عند الرحمن عهدًا؛ فإن اللّه يقول يوم القيامة: من كان له عندي عهد فليقم "، فقيل: كيف هو؟ قال: " اللّهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة إني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا أنك لا تكلف إليَّ بعمل يقربني من الشر ويباعدني من الخير، وإني لا أثق إلا برحمتك، فاجعله لي عندك عهدًا تؤديه إلى يوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد ". ويرفع ابن مسعود هذا إلى رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. والأول أشبه إن ثبت الخبر. ٨١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّه آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلَّا). فإن كان على حقيقة العز، فهو في القادة منهم والمتبوعين الذين عبدوا تلك الأصنام والأوثان؛ ليتعززوا بذلك، ولا يذلون، وتدوم لهم الرياسة التي كانت لهم في الدنيا، فظنوا أنهم إن آمنوا تذهب تلك الرياسة والمأكلة عنهم. ويحتمل قوله: {لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} أي: نصرًا ومنعة، فإن كان هذا فهو في الرؤساء منهم والأتباع في الدنيا والآخرة: أما ما طمعوا بعبادتهم الأصنام النصر في الآخرة، وهو كقولهم: {مَا نعبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى} و {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّه}؛ طمعوا بعبادتهم النصر والشفاعة في الآحزة. وأمَّا في الدنيا ظنوا أن آلهتهم التي عبدوها ينصرونهم في الدنيا، حيث قالوا: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ}، فكيفما كان فقد رد اللّه عليهم ما طمعوا منها - عزُّا كان أو نصرًا - بقوله: {كَلَّا}؛ لأنهم أذلّوا أنفسهم لخشب، وحنوا ظهورهم لها، فكفى بذلك ذلًّا وصغارًا. ٨٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ ... (٨٢) قال الحسن: سجكفر عبّاد الأصنام في الدنيا بمن عبدوه في الآخرة أنهم ما كفروا وما عبدوها، كقوله: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللّه رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}، ينكرون في الآخرة أن يكونوا أشركوا معه غيره أو عبدوا دونه. وقال غيره من أهل التأويل: سيكفر المعبودون بالعابدين لهم، ويتبرءون منهم، وهو كقوله: {وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ}، وقوله: {فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} ونحوه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا}: قَالَ بَعْضُهُمْ: {ضِدًّا}، أي: عونًا، وتأويل العون: هو أن يلقى تلك الأصنام معهم في النار، فيحرقون فيها معهم، فيزداد لهم عذابًا؛ فكانت على إحراقهم، وعلى هذا يخرج. وقول من يقول: الضد: البلاء، أي. يكونون بلاء عليهم على ما ذكرنا وهو ما قال: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ. . .} الآية، فإذا صاروا حصبًا كانوا بلاء وعونًا على إحراقهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا}: أي: قرناء في النار بعضهم بعضًا، ويتبرأ بعضهم من بعض، ويخاصم بعضهم بعضًا، ويكذب بعضهم بعضًا؛ فذلك كله ضد عليهم، ضدّ ما طمعوا منها؛ لأنهم عبدوها في الدُّنيَا رجاء أن يكونوا لهم شفعاء في الآخرة ونصراء، فكانوا لهم على ضد ذلك أعداء. وقال ابن عبَّاسٍ: يكونون ضدًّا: أي: حسرة، وكله واحد. ٨٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣) قَالَ بَعْضُهُمْ: {أَرْسَلْنَا}: أي: سلَّطنا عليهم، كقوله: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ}. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ}: أي: قيضناهم بهم، كقوله: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا}، فهما في الحقيقة واحد؛ لأنه إذا أرسلهم اتصلوا بهم، فإذا اتصلوا بهم قيضوا وقرنوا بعضهم ببعض. وقال الحسن، وأبو بكر الأصم، وغيرهما: {أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ}: أي: خلينا بينهم وبينهم، ولم نمنعهم منهم على ما ذكر. لكن لو كان تأويل الإرسال التخلية وتأويل القيض كذلك، لم يكن لتخصيص الكفار بذلك معنى؛ إذ قد كان ذلك القدر من التخلية بينهم وبين المسلمين. وإن كان تأويل التخلية: أنه لم يمنعهم عنهم، وخلى بينهم - فدل تخصيص الكفار بهذا وأمثاله على أن ليس هو التخلية لا غير، وأن تخصيص هَؤُلَاءِ بهذا وأمثاله من قوله: {طَبَعَ اللّه عَلَى قُلُوبِهِمْ}، {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً}، ونحوه، وإن كان هنالك من اللّه معنى في الكفار ليس ذلك في المؤمنين، وفي المؤمنين معنى ليس ذلك في الكافرين، وهو - واللّه أعلم - إذا علم في المؤمنين الرغبة والإجابة، وفقهم على ذلك وهداهم، وإذا علم من الكفار خلاف ذلك وضده خذلهم وأضلهم، فذلك تخصيصه إياهم بما ذكر، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {تَؤُزُّهُمْ أَزًّا}: قَالَ بَعْضُهُمْ: تزعجهم إزعاجًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: تُشْلِيهِمْ إِشْلَاءً، وتغريهم إغراء. وقال الحسن: تحركهم تحريكًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: تقدمهم إقدامًا إلى الشر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: توقعهم إيقاعًا، ونحوه، وكله واحد. ٨٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ ... (٨٤) أي: لا تكافئهم على أذاهم إياك، ولا تعاقبهم، {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} أي: أنفاسهم يتنفسون في الدنيا، فهي معدودة تنقضي آجالهم عن قريب، فلا تكافئهم على ذاك وما يستقبلونك بالمكروه والسوء. ثم وجه ما ذكر من إرسال الشياطين عليهم والتمكين لهم من الوسوسة في الصدور، أعني: صدور المؤمنين، والنزغ في روعهم من غير أن يملكوا القهر والقسر على ذلك، وما جعلهم بمحل لا نراهم نحن، وهم يروننا، على ما أخبر {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ}، فهو - واللّه أعلم - أن من علم بحضرته وقربه عدوا له يراقبه ويطلب الفرصة عليه يكون أحذر وأهيب له ممن لا يعلم ذلك ولا كان بقربه وحضرته عدو، وعلى ذلك ما جعل اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - من الحفظة والكرام الكاتبين - صلوات اللّه عليهم - على بني آدم، رقباء عليهم في قليل ما يفعلون ويتفوهون وكثيره، وإن كان قادرًا على حفظ ذلك عليهم والتذكير لهم واحدًا بعد واحد، شيئًا على إثر شيء، وذلك لما ذكرنا أن من علم أن عليه رقيبًا يراقبه ويكتب عليه كل قليل وكثير كان أحذر وأهيب ممن لم يعلم ذلك على نفسه رقيبًا، واللّه أعلم. ٨٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (٨٥) أي: الذين اتقوا مخالفة أمر اللّه في كل ما لا يغلب عليهم؛ لأن المؤمن لا يرتكب المعصية إلا لغلبة شهوة، أو لغلبة رجاء إلى مغفرة ربه ونحوه، أو توبة يضمرها بعد ارتكابها، وعلى هذا يكون ارتكاب المؤمن مخالفة ربه. وقوله: {إلَى الرَّحْمَنِ} أي: إلى ما وعد لهم الرحمن من الثواب. وقوله: {وَفْدًا} الوفد في الشاهد: هم أهل الكرامة والمنزلة يبعثون لأمور، فكأنه قال: إن المتقين يحشرون وهم مكرمون معظمون، ولهم منزلة عند اللّه وقدر، واللّه أعلم. ٨٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (٨٦) الوارد: هو طالب الماء، والورد الجمع، فكأنه قال: ونسوق المجرمين إلى جهنم عطاشًا طلاب الماء، على ما قاله أهل التأويل. والمجرم، قال أبو بكر الأصم: هو الوثاب في المعصية، وأصل الإجرام: الاكتساب؛ ولهذا قال بعض الئاس في قوله: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ}، أي: يكسبنكم، وأصله هو كسب الإثم. وقوله: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ} فيه أنهم إنما يساقون على كره منهم؛ إذ ذكر في الكافرين السوق وذكر في المؤمنين الجمع والحشر. ٨٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ ... (٨٧) الشفاعة، إنما تكون فيمن استوجب العذاب والعقوبة، فأما من لا عقوبة عليه مغفور الذنب فإنه لا معنى لها ولا فائدة، فهو يرد على المعتزلة مذهبهم: أن صاحب الكبيرة لا يغفر له، وصاحب الصغيرة مغفور له، فالشفاعة التي ذكر لا تخلو إما أن تكون لأهل الكبائر فيغفر لهم بالشفاعة، فيبطل قولهم، أو لأهل الصغائر وتعذيبهم، فكيفما كان فهو يرد قولهم؛ إذ لا معنى لذكر الشفاعة في المغفورين. وقالوا: إن الشفاعة في الشاهد أن يذكر نجابة الإنسان عند آخر ليعرف محاسنه ومناقبه ليكون له منزلة وقدر عنده، لكن مثل هذا يجوز ممن يجهل ذلك ولا يعرف بنفسه، فأما اللّه - سبحانه وتعالى - هو عالم بذاته، يعلم حال كل أحد، فلا يحتمل ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: {إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} قَالَ بَعْضُهُمْ: شهادة أن لا إله إلا اللّه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: العمل الصالح. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الصلاة على ما ذكرنا، وأصل العهد هو أن يشترط شروط الوفاء حتى يفي بما شرط عليه وهو الوفاء بما أمر به ونهى عنه، واللّه أعلم. ٨٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا}: قَالَ بَعْضُهُمْ: الآية في مشركي العرب؛ لأنهم هم الذين قالوا: الملائكة بنات اللّه، لكن أهل التأويل قالوا أيضًا: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّه وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّه}، فهو في كل من قال ذلك. ٨٩ثم قوله: (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (٨٩) يخرج على الإضمار حين أخبر عنهم أنهم {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} أن قل لهم يا مُحَمَّد: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} أي: عظيمًا منكرًا. أو أن يكونوا لما قالوا ذلك أقبل عليهم فقال لهم: لقد جئتم شيئًا عظيمًا منكرًا، واللّه أعلم. ٩٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (٩٠) قَالَ بَعْضُهُمْ: مثل هذا إنما يقال على المبالغة في العظيم من الأمور والنهاية من الضيق والشدة على التمثيل. يقول الرجل لآخر: أظلمت الدنيا عليه وضاقت عليه الأرض بما رحبت ونحوه، على الإبلاغ في الضيق والشدة؛ فعلى ذلك هذا ذكر على الإبلاغ والنهاية في العظيم من القول لما قالوا عنه سبحانه، ثم جعل مثل ما قالوا في العظيم للّه بما يعظم من المحسوسات في العقول، وهو ما ذكر من انفطار السماوات وانشقاق الأرض وهذ الجبال، وهن أصلب الأشياء وأشدها؛ ليعرفوا عظم ما قالوا فيه، وهكذا تعرف الأمور الغائبة التي سبيل معرفتها الاستدلال بالمحسوسات من الأشياء المشاهدات منها. وجائز أن يكون ما ذكر من انشقاق الأرض وهذ الجبال وانفطار السماء على حقيقة ما ذكر يكون فيها وإن لم يشاهد ذلك منها ولم يحس، كقوله: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا}. وقال قائلون: ذكر هذا في أهل السماوات فثبت أنهم يكونون كما ذكر بما قالوا تعظيمًا لذلك وإنكارًا، واللّه أعلم. ٩٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (٩٢) أي: ما ينبغي له ولد. ٩٣(إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (٩٣) وفي الشاهد لا أحد يتخذ الولد من عبيده، فكيف ينبغي لمن له ملك السماوات والأرض وكلهم عبيده - أن يتخذ ولدًا من عبيده. {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا}، وأسباب الأولاد التي بها يتخذ الولد ليست فيه؛ لأن في الشاهد إنما يتخذ الولد لثلاث، وقد ذكرناها في غير موضع، فإن كان اللّه - سبحانه - يتعالى عن ذلك كله، لم ينبغ له أن يتخذ الولد. وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: {إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} في الآخرة، أي: كلهم يقرون بالعبودية له يومئذ. ٩٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) يحتمل قوله: {أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} من عد أنفسهم وإحصائه، أي: لا يخفى عليه شيء. أو أن يكون على الوعيد أن يحصي أقوالهم وأفعالهم بما سلط عليهم من الملائكة ما يراقبون ذلك منهم، كقوله: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}، وقوله: {كِرَامًا كَاتِبِينَ}، قال أَبُو عَوْسَجَةَ: الضد: الخصم، والإدّ السوق الشديد، وقوله: {شَيْئًا إِدًّا}، أي: شديدًا، والورد، أي: يوردهم إياها، أي: يدخلهم، وقال: الورد: النصيب من الماء، وقوله: {هَدًّا} أي: صوتًا يهدّ، أي: يهدم. ٩٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}. يحتمل وجوهًا ثلاثة: أحدها: خاطب أهل مكة: إذا آمنتم وعملتم الأعمال الصالحات يرفع اللّه ما بينكم من التباغض والتعادي، فيبدل سكانه المحبة والمودة، كقواله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّه عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}، أخبر أنهم صاروا بالإيمان إخوانا مؤلفة قلوبهم بنعمة من اللّه وفضله. والثاني: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} في الجنة، أي: ينزع عنهم ما في قلوبهم من غل وغش، كقوله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}. والثالث: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} في قلوب الأنبياء والأخيار وأصحاب الدّين؛ لأنهم إنما ينظرون إلى الإنسان لدينه ولخلوصه عمله للّه وصفائه له لا إلى الدنيا وما تحويه يده. وجائز أن يكون على ما رويت الأخبار إن ثبتت: رُويَ عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " إذا أحَبَّ اللّه عبدا نادى قد أحببتُ فلانًا فأحِبُّوه " وكذلك هذا في البغض. وقال كعب: وجدت في التوراة: أنه لم تكن محبة لأحد من أهل الأرض حتى يكون بدؤها من اللّه تعالى ينزلها على أهل السماء، ثم على أهل الأرض، وكذلك قال في البغض، ثم قال: وكذلك وجدت في القرآن، فقرأ هذه الآية {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}: يحتهم ويحببهم إلى المؤمنين في صدورهم، فعلى هذا إن ثبت يجب أن يخاف المرء على نفسه إذا رأى الناس يكرهونه أن يكون ذلك من سوء عمله، واللّه أعلم. ٩٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (٩٧) قَالَ بَعْضُهُمْ: يسرنا تبليغ الرسالة على لسانه حتى بَلَّغَهَا إلى الفراعنة منهم والأكابر الذين كانوا يقتلون من يخالفهم ويستقبلهم بغير الذي هم عليه قولًا وفعلًا، ويعاقبون على ذلك، يسر ذلك عليه حتى بلغها إلى أمثال هَؤُلَاءِ، وقدر على ذلك من غير أن يقدروا على إهلاكه، حيث أخبر أنه عصمه منهم بقوله: {وَاللّه يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يسره على لسانه حتى قدر على التكلم به والنطق؛ لأنه كلام ربِّ العالمين. قال أبو بكر الأصم: هذا لا يحتمل؛ لأنه أنزله بلسانه ولسان العرب، فلا يحتمل ألا يقدروا على التكلم بلسانهم. وقال قائلون: يسره على لسانه حيث جعله بحيث يحفظونه ويقرءونه عن ظهر قلوبهم، ليس كسائر الكتب المتقدمة: أنهم كانوا لا يقدرون على حفظها والقراءة عن ظهر القلب، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا}؛ وقال في آية أخرى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ}، وقال في آية أخرى: {لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ}. مرة ذكر النذارة للناس جميعًا، ومرة للذين ظلموا خاصة، ومرة للذين اتبعوا الذكر، والأصل في النذارة والبشارة: أن البشارة إذا كانت خاصة لأحد، فهي له على شرط الذوام على ذلك أبدًا، وفيها النذارة له إن لم يدم، وكذلك النذارة الخاصة لأحد لدوام ذلك ملتزمًا، فإن تاب ورجع عن ذلك فله فيها البشارة، على هذا يكون البشارة الخاصة والنذارة الخاصة يكون في كل واحدة منهما أخرى، وأمَّا البشارة المطلقة فهي بشارة لا يكون فيها النذارة، وكذلك النذارة المطلقة لا يكون فيها البشارة، على هذه الأقسام يخرج البشارة والنذارة، واللّه أعلم. ٩٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (٩٨) يخؤف به أهل مكة بإهلاكه القرون الماضية في الدنيا بتكذيبهم الرسل؛ لئلا يكذبوا محمدًا كما كذب أُولَئِكَ الذين من قبلهم فينزل بهم العذاب والهلاك كما أنزل بأُولَئِكَ، بقوله لنبيه: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ}، أي: هل ترى وتبصر منهم أحدًا، أي: لا ترى ولا تبصر منهم أحدًا {أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا}، قيل: صوتًا، وقيل: ذكرًا، أي: لا يذكرون بعد هلاكهم إلا بسوء، يحذر أهل مكة؛ لئلا يكذبوا رسولهم كما كذب الذين من قبلهم الرسل فيكونون كما كان أُولَئِكَ وصاروا مثلهم. قَالَ الْقُتَبِيُّ: اللد: جمع ألد، وهو الخصم الجدل، والركز: الصوت الذي لا يفهم. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الألد: هو شديد الخصومة {هَلْ تُحِسُّ}: هل تراه {رِكْزًا} أي: ذكرًا، والركز -أيضًا- الصوت وقال: {هَدًّا}: صوتًا إذا انهدمت. وقال أبو معاذ: وللعرب في البشرى ثلاث لغات: بَشَرته بالتخفيف فأنا أبشره، وَبَشَّرْتُهُ بالتشديد فأنا مُبَشِّره وأبْشَرْتُهُ فأنا مُبشِّرُهُ والرجل مَبشُور ومُبَشَّرٌ. وقوله: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا}، أي: وحده ليس معه من دنياه شيء. وقال الحسن: {قَوْمًا لُدًّا}، صُمًّا: صم آذان القلوب، وقَالَ بَعْضُهُمْ: فُجَّارًا، وقيل: عوجًا عن الحق، وأصله ما تقدم ذكره، واللّه الموفق وبه نستعين. * * * |
﴿ ٠ ﴾