سُورَةُ طه

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (طه):

قَالَ بَعْضُهُمْ من أهل التأويل: قوله: (طه): يا رجل بالنبطية،

وقَالَ بَعْضُهُمْ: بالسريانية، وقيل: يا فلان، وقيل: هو اسم من أسماء اللّه، وقيل: حروف من أسمائه ونحو ذلك، وقد ذكرنا القول في الحروف المقطعة فيما تقدم في غير موضع.

٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (٢) لا يحتمل أن يكون هذا نزل على الابتداء من غير سبب ولا أمر، لكنه لم يبيّن السبب الذي به نزل هذا، فيحتمل أن يكون سببه وجوهًا:

أحدها: ما حمل نفسه من الشدائد والمؤن العظام، وأجهد نفسه في ذلك؛ فنزل: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى}، أي: لتتعب به نفسك، كقوله: {فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} أي: تتعب؛ ألا ترى أنه قال: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى}.

والثاني: أنه لما كف نفسه عن الشهوات ومنعها عن جميع ما تهواه من اللذات، فقال أُولَئِكَ الكفرة: إنه شقي؛ حيث رأوه لم يعط نفسه شيئًا من شهواتها ولذاتها.

والثالث: أنهم قالوا ذلك لما رأوه أنه دعا الفراعنة والجبابرة إلى دينه واتباعه، وأظهر لهم الخلاف، واستقبلهم بما يكرهون، وكانت عادتهم القتل وإهلاك من يظهر لهم الخلاف، فخاطر بذلك، فعند ذلك قالوا: إنه شقي؛ حيث يخاطر بنفسه، فقال: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} على ما يقول أُولَئِكَ، بل أنزله عليك؛ لتسعد حيث أخبر أنه عصمه بقوله: {وَاللّه يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}. أو ألا يفسر ولا يذكر ذلك الأمر

 والسبب الذي به نزل؛ لأنه لم يبيِّن، ولا حاجة بنا إلا إلى معرفة ما ذكر، وهو قوله: {إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى}، أي: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى}، بل أنزلناه لتسعد، وأنزلناه ليتذكر به من يخشى، كقوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ}.

٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (٣) أي: عظة لمن يتقى ما به يخشى.

ويحتمل قوله: {لِمَنْ يَخْشَى}: كل مؤمن؛ لأن كل مؤمن يعتقد في أصل إيمانه الخشية منه والاتقاء من نقمته وعذابه.

٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (٤)

كأن هذا نزل على إثر قول قاله أُولَئِكَ الكفرة، وهو ما قالوا: إنه ساحر، وإنه مفتر، وإنه شاعر وإنما يعلمه بشر ونحوه، فقال جوابًا لقولهم: {تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى} وليس كما يقول أُولَئِكَ: إنه ساحر وإنه مفتر وإنما يعلمه بشر، بل تنزيلًا ممن خلق الأرض والسماوات العلا، واللّه أعلم.

٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (٥)

قال الشيخ - رحمه اللّه -: القول بالكون على العرش - وهو موضع - بمعنى كونه بذاته أو في كل الأمكنة لا يعدو عن إحاطة ذلك به أو الاستواء أو مجاوزته عنه أو إحاطته:

فإن كان الأول فهو إذن محدود محاط به منقوص عن الخلق؛ إذ هو دونه، ولو جاز الوصف له بذاته بما يحيط به الأمكنة لجاز أن يحيط به الأوقات؛ فيصير متناهيًا بذاته مقصرًا عن خلقه.

وإن كان على الوجه الثاني، فلو زيد في الخلق، لانتقص أيضًا، وفيه ما في الأول.

ولو كان على الوجه الثالث فهو الأمر المكروه الدال على الحاجة وعلى التقصير من أن ينشئ ما لا يفضل عنه مما يذم ذا من فعل الملوك أن يفضل عنهم من المقاعد شيئًا.

وبعد: فإن في ذلك تجزئة بما كان بعضه في ذي أبعاض، وبعضه يفضل عن ذلك، وذلك كله وصف الخلائق، واللّه يتعالى عن ذلك.

وبعد: فإنه ليس في الارتفاع إلى ما يعلو من المكان للجلوس شرف ولا علو ولا وصف بالعظمة والكبرياء كمن يعلو السطوح أو الجبال أنه لا يستحق الرفعة على من دونه عند استواء الجوهر؛ فلا يجوز صرف تأويل الآية إليه؛ حيث فيها ذكر العظمة والجلال؛ إذ ذكر في قوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} وصفه بالعظمة والسلطان، والقدرة، فكذلك على تعظيم العرش، أي شيء كان من نور أو جوهر؛ لا يبلغه علم الخلق، وإضافة الاستواء إليه لوجهين:

أحدهما: على تعظيمه، بما ذكر على إثره، ذكر سلطانه في ربوبيته، وقدرته وخلقه ما ذكر.

والثاني: على تخصيصه بالذكر بما هو أعظم الخلق وأجله؛ على المعروف من إضافة الأمور العظيمة إلى أعظم الأشياء، كما يقال: تم لفلان ملك بلد كذا، واستوى على موضع كذا لا على خصوص ذلك في الحق، ولكن معلوم أن من له ملك ذلك فما دونه أحق به؛ وعلى ذلك قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي. . .} الآية. بما صارت له أم القرى وأيس الذين كفروا من دينهم، وكذا ما ذكر من إرسال الرسل إلى الفراعنة، وإلى أم القرى لا بتخصيص ذلك، ولكن يذكر عظم الأمر، فمثله أمر العرش، وهو كقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا}.

وقوله: {أَمَرْنَا مُنزَفِيهَا} على لحوق غيرٍ بهم، ويحتمل أن يكون على المنع بوصف المكان؛ إذ هو أعلى الأمكنة عند الخلق ولا تقدر العقول شيئًا، فأشار إليه ليعلم علوه عن الأمكنة وتعاليه عن الحاجة، وعلى ذلك قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ. . .} الآية، والنجوى ليس من نوع ما يضاف إلى المكان، ولكن يضاف إلى الإسرار فأخبر بعلوه عن الأمكنة، وتعاليه عن أن يخفى عليه شيء، ثم بقدرته وقوته بقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} أي: بالسلطان والقوة، وبالألوهية في البقاع كلها؛ لأنها أمكنة العادة بقوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} ويملك كل شيء بقوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} وبقوله: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، ثم بعلوه وجلاله بقوله: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}، {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، فجمع في هذه الأحرف ما فرق في تلك، ليعلم أنه بكل ما سمى به ووصف كان ذلك له بذاته لا بشيء من خلقه، وكذلك عزه وشرفه ومجده، جل ثناؤه عن الأشباه ولا إله غيره.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: يريد بالعرش: الملك؛ إذ هو اسم ما ارتفع من الأشياء وعلا حتى سمي به السطوح ورءوس الأشجار، والاستواء قيل فيه بأوجه ثلاثة:

أحدها: الاستيلاء، كما يقال: استوى فلان على كورة كذا، بمعنى: استولى.

والثاني: العلو والارتفاع، كقوله: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ}

وقوله: {إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} أي: علوتم.

والثالث: التمام، كقوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى}، أي: تم واستقر.

وقد قيل بالقصد، وإلى ذلك وَجَّهَ أهل الأدب قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ}

 بمعنى: خلق على التمثيل بفعل الخلق فيما يتلو فعلهم فعلًا أن يكون بالقصد، وإن كان لا يقال له القصد، ولا قوة إلا باللّه.

ثم الوجه في ذلك لو كان على الاستيلاء، والعزيز الملك أنه مستولي على جميع خلقه، وعلى هذا التأويل المحمول غير هذا، يدل على الأمرين قوله: {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} بمعنى: الملك العظيم، وفيه إثبات عروش غيره، فذلك يحتمل ما يحمل ويحف به الملائكة، واللّه الموفق.

وأمَّا على تأويل التمام والعلو، فهو أن اللّه تعالى قال: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ. . .} الآية، فأخبر بخلق ما ذكر في ستة أيام على التفاريق، ثم أجملها في موضع، فقال: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّه الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ. . .} إلى قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى} بمعنى خلق الممتحن من خلق الأرض والسماوات فبهم ظهر تمام الملك، وعلا، وارتفع؛ إذ هم المقصودون من خلق ما بينا، فبذلك تم معنى الملك وعلا؛ إذ وصل إلى الذين لهم خلقوا وقد قيل ذا في خلق البشر خاصة بقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا. . .} الآية،

وقوله: {لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ}، ونحوه.

وذكر عن ابن عَبَّاسٍ: أن البشر خلق اليوم السابع فبه التمام والعلو؛ إذ خلق لهم كل شيء وخلقهم لعبادة اللّه، وألحق بهم الجن بقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. . .} الآية لكن المقصود البشر؛ إذ تسخير ما ذكرت كله إنما يرجع إلى منافعهم، واللّه الموفق.

والأصل عندنا في ذلك: أن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فنفى عن نفسه شبه خلقه، وقد بينا أنه في فعله وصفته متعال عن الأشباه؛ فيجب القول بـ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} على ما جاء به التنزيل، وينفي عنه شبه الخلق لما أضاف إليه، وإذ لزم القول في اللّه بالتعالي عن الأشباه ذاتًا وفعلًا، لم يجز أن يفهم من الإضافة إليه المفهوم من غيره في الوجود، واللّه الموفق، وقد ذكرنا هذا في غير موضع من القرآن.

٦

وفي قوله: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (٦) الوصف له بالسلطان والقدرة والملك على ما ذكرنا.

وفي قوله: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} الوصف له بالعلم في الغيب والسر والعلانية جميعًا؛ ليكونوا أبدًا على حذر وخوف ويقظة في جميع أفعالهم وأقوالهم، وفي

 الأوّل؛ ليصرفوا طمعهم ورجاءهم من الخلق إلى خالقهم، وألا يطمع ولا يرجى غيره.

٧

ثم اختلف في قوله: (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (٧)

قَالَ بَعْضُهُمْ: {السِّرَّ}: ما أسررت به إلى غيرك، {وَأَخَفَى}: ما أضمرته وأكننته في نفسك، لم تسره إلى أحد.

قال قائلون: {السِّرَّ}: ما أسررت به وحدثت به نفسك، {وَأَخفَى}: ما علم اللّه أنه كائن يكون، ولم يكن بعد، ولم تعلم به.

وقال قائلون: {السِّرَّ}: ما أسره في نفسه، {وَأخفَى}: ما خطر في قلبه، وهو لا يضبطه، ونحو ذلك، وأصله في قوله: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ} كأنه يقول: وإن تجهر بالقول أو تسرّ {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى}، واللّه أعلم.

٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اللّه لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (٨)

قال أبو بكر الأصم: أي: من وحَّد اللّه بأسمائه فله الحسنى، وهي الجنة، وقد ذكرناه فيما تقدم.

٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (٩) إِذْ رَأَى نَارًا)، ظاهر، هذا سؤال واستفهام، لكن المراد منه الإيجاب، ثم اختلف في معنى الإيجاب:

قال الحسن وأبو بكر: قوله {وَهَلْ أَتَاكَ}، أي: لم يأتك حديث موسى وسيأتيك، ثم أخبره وأعلمه بحديثه ونبيه.

 

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَهَلْ أَتَاكَ}، أي: قد أتاك حديث موسى؛ لتخبرهم عما كان في كتبهم؛ ليكون ذلك آية لنبوتك ورسالتك.

١٠

وقواله - عَزَّ وَجَلَّ - (فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (١٠)

قيل: رأيت نارًا، وقيل: علمت نارًا؛ {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ} ليس في هذه الآية بيان أن موسى في أي حال كان؟ وفي أيّ وقت؟ لكن في موضع آخر بيان ذلك، وهو ما قال: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا}، هذا يدل أنه كان في حال السير والسفر رأى ذلك، وقال في آية أخرى: {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}، فهذا يدل أنه كان في أيام الشتاء والبرد، حيث قال: {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}.

قال أَبُو عَوْسَجَةَ: {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ} القبس: النار، والأقباس: النيران، ويقال: قبس يقبس قبسًا، أي: جاء بالنار، ويقال: اقتبست نارًا، واقتبست -أيضًا-: تعلمت، وهذا من ذاك؛ لأن العلم ضوء، ويقال: اقتبستك، أي: علمتك، واقتبستك أي النار والعلم.

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: {آنَسْتُ نَارًا}: أبصرت، ويكون في موضع آخر: علمت، كقوله: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا}، أي: علمتم منهم رشدًا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى}:

هذا يشبه أن يكون قد استقبلته الطرق؛ فلم يعلم الطريق الذي له من غيره، فقال: {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى}، أي: من يدلني ويرشدني على الطريق.

أو أن كان قد ضل الطريق وعدل عنه، فقال عند ذلك ما قال، واللّه أعلم.

١١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ ... } نداء وحي (يَا مُوسَى (١١)

١٢

إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ (١٢)

قَالَ بَعْضُهُمْ: إنما أمره بخلع نعليه؛ لأنهما كانا من جلد ميتة.

وقال قائلون: أمره ينزع نعليه؛ ليس قدماه بركة ذلك الوادي، أو يصيبه من يمنه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: أمره بذلك؛ للتواضع والخضوع له؛ لأن لبس النعل يخرج مخرج المباهاة، فأمر بذلك؛ ليكون أخضع له وأكثر تواضعًا، واللّه أعلم بذلك، وليس لنا أن نفسر ذلك أنه لماذا أمره بذلك؟ إذ له أن يأمر بخلع نعليه لا لمعنى، وليس لنا أن نقول: أمره لهذا، أو لعله أمره بذلك لمعنى آخر، أو لا لمعنى؛ فيخرج ذلك مخرج الشهادة على اللّه تعالى.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى}:

المقدس: المطهر، ولعله سماه مطهرًا؛ لما لم يعبد عليه سواه ودونه، أو سماه: مطهرًا؛ لمعنى خصَّ به؛ لفضل عبادة أو غيرها على ما خصَّ بقاعًا بفضل عبادة تقام فيها من نحو المساجد والحرم وغيره.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {طُوًى}:

قَالَ بَعْضُهُمْ: هو من وطء الأرض، أي: طأ الوادى المبارك حافيًا.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {طُوًى}: قد قدس مرتين، وهو قول الحسن.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {طُوًى} يقول: يطوى مسيره.

نحو هذا قد قالوا، لكن الأصوب ألا يفسر إلا بعد حقيقة به؛ لأنه أنباء كانت في كتبهم ذكرت لرسول؛ لتكون له حجة ودلالة على رسالته عليهم، ففي التفسير خوف دخول الغلط فيه وتغييره، فإذا تغير لم يصر له عليهم حجة ودلالة على رسالته؛ لذلك كان السكوت عنه أولى، واللّه أعلم.

١٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (١٣) إما بالرسالة والنبوة، أو بأشياء أخر كقوله: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي. . .} الآية، وقال في آية أخرى: {إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا} أخلصه اللّه لنفسه بأشياء.

وقوله: {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى}:

هذا يدل أن النداء الَّذِي نودي كان نداء وحي، وهو قوله: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ}.

١٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّنِي أَنَا اللّه لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي (١٤) وهو ظاهر، كذلك أمر رسله أول ما أمروا بذلك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}:

قَالَ بَعْضُهُمْ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} لتكون ذاكرًا لي؛ لأن أكثر ما يذكر المرء به

 إنما يذكر في الصَّلاة؛ لأن الصلاة من أولها إلى آخرها ذكر للّه؛ ولذلك سمى الصلاة: مناجاة الرب، أو أن يكون قوله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}، أي: لتذكرني بها يا موسى.

وقال قائلون: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ} إذا أنت نسيت إذا ذكرتها، وعلى هذا رويت الأخبار عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال ذلك، وقرأ هذه الآية إن ثبتت.

وجائز أن يكون قوله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} أي: أقم الصَّلاة لتستوجب بها ذكرى.

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} أي: لتذكرني فيها.

١٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (١٥)

قال الحسن: {أَكَادُ} صلة، كأنه قال: إن الساعة آتية أخفيها، وفي حرف أُبي بن كعب: (إن الساعة آتية أكاد أخفيها من نفسي)، ثم يحتمل قوله: من نفسي وجهين:

 أحدهما: أخفيها من خلقي، ولا يجب أن يفهم من نفسه: ذاته بالإضافة إليه، كما لم يفهم من قوله: {رُوحِي} و (روحنا)، وهو أخفى من الناس: ذاته، ولكن فهم منه: خلقه؛ فعلى ذلك لا يفهم من قوله: من نفسي ذاته، هذا يحتمل، واللّه أعلم.

والثاني: أن يكون قوله: (أكاد أخفيها من نفسي)، أي: من أخيار عبادي، أي: أخفيها من أخيار عبادي مع عظيم قدرهم ومنزلتهم عندي من نحو الملائكة والأنبياء والرسل؛ فإن عادة ملوك الأرض: أنهم لا يكتمون سرائرهم من خواصهم، بل يطلعونهم على ذلك، فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - واللّه أعلم - أنه أخفاها من خواص عباده وأخيارهم،

 فكيف من دونهم؛ فيكون إضافته إياهم إلى نفسه؛ لعظم قدر أُولَئِكَ وفضل منزلتهم كقوله: {إِنْ تَنْصُرُوا اللّه يَنْصُرْكُمْ}، واللّه لا يُنصر، ولكن إن تنصروا دين اللّه ينصركم، أو إن تنصروا أولياء اللّه ينصركم، وكذلك قوله: {يُخَادِعُونَ اللّه} واللّه لا يخادَع، ولكن يخادعون أولياءه ونحوه؛ فعلى ذلك قوله: (أخفيها من نفسي): أي: من خواصي وأخيار عبادي، واللّه أعلم.

هذا على إسقاط قوله: {أَكَادُ} وجعله صلة، وأما على إثبات {أَكَادُ} فهو على وجهين.

أحدهما: يقال: كاد: أراد، أي: أريد أخفيها، وهو معروف باللّغة.

والثاني: كاد، يقال: قارب، وهو سائغ في اللغة، جارٍ (كاد) على إرادة مقاربة: كادت الشمس أن تطلع، أو تغرب، أي: قاربت وكدت أن أسقط، أي: قاربت، وإلا لا يريد السقوط، إذا كان على هذا فهو قال ذلك - واللّه أعلم - على التعظيم لها، أي: قارب أن يخفيها من نفسه فكيف من غيره؟!.

وقال ابن عَبَّاسٍ قريبًا من هذا، أي: (أكاد أخفيها من نفسي) فكيف أعلنها لكم؟! أي: لا أظهر عليها أبدًا غيري، فكأنه استجاز الإخفاء في موضع الإظهار باللغة، نحو ما قالوا في قوله: {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} أي: أظهروا، فعلى ما كان الإسرار في موضع الإظهار والكتمان، فعلى ذلك رأوا الإخفاء مستعملًا في الأمرين جميعًا، وكذلك قال أَبُو عَوْسَجَةَ: {أُخفِيهَا}، أي: أظهرها، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى}، أي: لهذا ما أخفيها {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى}؛ لأنها لو كانت ظاهرة يعاينها كل أحد، ويعلمها، لما كان ذلك جزاء، ولكن كان دفعًا؛ لأنه يعاين كل إنسان ما نزل بهذه النفس بما سعت من العذاب فيمتنع هو عنه، وإذا رأى كل أحد ثواب هذا بسعيه يرغب في مثله؛ فيكون ذلك كله بحق الدفع، لا بحق الجزاء، فأخبر أنه أخفاها؛ للجزاء والمحنة، لا للدفع، واللّه أعلم.

١٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (١٦) أي: عن الإيمان بها (مَن لا يُؤمِنُ بِهَا) يعني: الساعة، واللّه أعلم.

لا يصدنك عنها بأسباب ألقاها إليك، وقد يمتنع الإنسان عن الشيء بأسباب تعترض وشبه تستقبل، وإن لم يقدر على منعه بالتصريح والإفصاح، واللّه أعلم، أي: لا يصدنك

 عن الإيمان بها - يعني: الساعة - من لا يؤمن بها واتبع هواه في التكذيب بها بالشبه والأسباب التي ذكرنا {فَتَردَى} أي: فتهلك لو صدّك عنها، فالخطاب وإن كان لرسول اللّه فهو لكل أحد من المؤمنين، على ما ذكرنا في غير آي من القرآن فيما خاطب رسوله به.

١٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (١٧) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (١٨) كأن موسى - صلوات اللّه عليه - لم يفهم مراده بسؤاله إياه أنه ما أراد بقوله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى}: أنه يسأله عن اسمها وعما له فيها؛ فأجاب الأمرين جميعًا عن اسمها وعما له فيها، حيث قال: {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى}.

ثم قال الحسن: إنه واللّه كان يعلم أنّ في يده عصًا، لكنه أراد أن يقرر عنده: أنها عصا لا حيّة؛ ليرى له منها آية فيعلم ذلك.

أو أن يريد بذلك تنبيهه وإيقاظه؛ ليعلم أنه وقت ما أخذها عصًا، فيعلم أنها إنما صارت كذا بالآية التي جعلها له لا أنها كانت يومئذ كذلك حية، واللّه أعلم.

٢٠

فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (٢٠)

ثم يحتمل: جعلها حيّة تسعى، ثم جعلها حيّة، وأراد الآية له منها؛ لما أن قوم فرعون كانوا أهل بصر وحذق في ذلك النوع من السحر، فأحب أن يريهم الآية والعلامة من النوع الذي كان لهم فيه بصر وحذاقة؛ ليعلموا بخروجها عن وسعهم وطوقهم أنها آية وعلامة سماوية وربوبية لا بشرية؛ إذ الأعلام التي جعلها آيات وأعلامًا لرسله على رسالتهم إنما جعلها ما كانت خارجة عن وسع البشر وطوقهم؛ ليعلموا بذلك أنها سماوية ربوبية، لا بشرية سحرًا ولا كهانة، واللّه أعلم.

٢١

ثم قوله: (خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (٢١) على ما كانت في الحالة الأولى عصًا، كأن موسى خاف حين صارت حيّة، وهو ما قال في آية أخرى: {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا}، فعند ذلك قال له: {خُذْهَا وَلَا تَخَفْ}، وأخبره أنه يعيدها عصًا على ما كانت، واللّه أعلم.

وفي قوله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} دلالة أن العصا إنما تمسك باليد اليمنى.

قال أَبُو عَوْسَجَةَ: {فَتَرْدَى}، أي: تهلك أرداه: أهلكه، ويقال: تردى الرجل إذا

 وقع في البئر أو من فوق حائط، ويقال: رديته، أي: ألبسته الرداء، وارتديت: أي: لبست الرداء، وترديت: مثله.

وقوله: {أَتَوَكَّأُ}، أي: أستعين بها على المشي.

وقوله: {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي}، أي: أضرب الشجرة حتى تنثر ورقها فتأكله غنمه،

والهش: الكريم، والبش: من البشاشة، قال: والمآرب: الحوائج، والأرب -أيضًا-: الحاجة، والآراب جمع، ويقال: أربت الشيء: قسمته، وجعلته إربًا أقسامًا: أي: جزأته أجزاء.

وفي قوله: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (١٧) قَالَ هِيَ عَصَايَ) دلالة أن الإنسان إذا استخبر عن شيء، فإن عليه أن يخبر المستخبر عما يستخبر على الإجابة له، ولو كان يعلم أن المستخبر له عن ذلك عالم بذلك؛ لأن موسى كان يعلم أن ربه كان أعلم بما في يده منه، ولم يقل له حين استخبر عما في يده: إنك أنت أعلم به مني، ولكنه قال: هي عصاي إجابة له وتعظيمًا لأمره، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (٢٢) وقال في آية أخرى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ}، وكأن في هذا تفسير الأول.

وقوله: {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ}: قال عامة أهل التأويل: {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ}، أي: من غير برص، كأنهم ذهبوا إلى أن البياض في الإنسان إذا اشتد به حتى يغلف سائر بدنه لا يكون إلا بالبرص؛ لذلك قال: {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} أي: من غير برص بك {آيَةً أُخْرَى} سوى آية العصا.

وجائز أن يكون {بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} أي: من غير آفة وعيب بك وأذى؛ لأن التغيّر إذا وقع في بعض بدن الإنسان لا يكون إلا بعيب وآفة تحل به، فبين أن ذلك البياض ليس لآفة بك، ولا عيب في بدنك، ولا فيه أذى، ولكن آية ليريها منها، واللّه أعلم.

٢٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (٢٣)

قال قائلون: الآية في اليد أكبر من الآية في العصا؛ لأن سحر أُولَئِكَ كان في العصا.

وقال قائلون: آية العصا أكبر من آية اليد؛ لأن أُولَئِكَ كانوا أهل بصر وعلم في السحر في العصا، فخروج عصا موسى عما احتمل وسعهم وما لهم فيه بصر وعلم، يدل على أن ما أتى موسى ليس هو بسحر، ولكن آية من اللّه؛ لأن فضل بصر الرجل وعلمه في شيء إنما يظهر بمجاوزته في ذلك عن أهل بصر في ذلك النوع وعلم، لا يظهر ذلك على أهل الجهل في ذلك، فعلى ذلك أمر عصا موسى.

 وجائز أن يكون قوله: {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} التي ذكر في آية أخرى، هو قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ. . .} الآية، الآيات الكبرى هي التسع التي ذكر في هذه الآية؛ لا أن كان لموسى آيات سوى التسع هي أكبر.

أو أن يكون ذلك لا على تخصيص آية دون آية بالكبر والعظم، ولكن وصف الكل بذلك، كقوله: {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا}، هو على وصف آياته كلها بالكبر والعظم، وهو كقوله: {لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} هو على إثبات النفع في كل واحد عليها في الآخر فعلى ذلك الأول، واللّه أعلم.

٢٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} الطغيان: هو المجاوزة عن الحدود التي جعلت، كان فرعون قد تعدى، وجاوز الحد في كل شيء، حتى أدعى لنفسه الربوبتة، حيث قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}.

٢٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) إن موسى سأل ربه أن يشرح له صدره، وذكر مُحَمَّد أنه شرح له صدره بقوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ. وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ}، ثم جائز أن يكون شرح صدرهم لتسع ما حمل عليهم من ثقل النبوة والرسالة؛ ليتسع صدرهم لذلك، ويقدروا على القيام بذلك والوفاء به.

أو أن يكون سأله شرح صدره؛ لما كان الرسل يغضبون للّه عند تكذيبهم قومهم حين دعوهم إلى دينه، ويحزنون على ذلك، فيمنعهم غضبهم وحزنهم عن القيام بتبليغ الرسالة، كقوله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ}، أخبر أنه يخاف عند تكذيب قومه ضيق صدره وثقل لسانه؛ فسأله لذلك أن يشرح له صدره، ويطلق له لسانه.

ويحتمل ما قاله بعض أهل التأويل: {اشْرَحْ لِي صَدْرِي}، أي: ليِّن لي قلبي؛ لأن الرسل قد امتحنوا في حال واحدة بشيئين متضادين: بالغضب للّه عند تكذيب قومهم إياهم، والرأفة لهم، والرحمة بما حل بهم بالتكذيب من العذاب، فذلك أمران يتضادان خص الرسل بهما، فجائز أن يكون سأل ربه أن يشرح له صدره؛ ليتسع للأمرين جميعًا: الغضب له، والرحمة عليهم.

٢٦

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦).

يحتمل: تبليغ الرسالة إليهم، والقيام بها، أو سأله التيسير بجميع ما أمره به ونهاه عنه.

٢٧-٢٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨)

يحتمل ما ذكرنا أنه إذا اشتد به الغضب يحبس لسانه ويثقل حتى يمنعه عن النطق به؛ فيظن ذلك اللعين أنه لخوف صار كذلك.

أو أن يكون سأل ذلك لآفة كانت بلسانه ما كان يمنعه عن التكلم به، فسأله أن يحل تلك الآفة والرتوتة التي كانت به.

وأمَّا قول أهل التأويل: إنه أخذ بلحية فرعون، فلطمه، فأراد أن يعاقبه، فقالت له امرأته: إن فعل ذلك، فإنه لا يعقل. فأتى بطشت من جمر وطشت من حلو، فهَمَّ أن يتناول من الحلو، فأهوى، جبريل بيده إلى الجمر، فأخذه وجعله في فيه، فتلك الرتوتة التي سأله أن يحلها لذلك، لكن ذلك لا يعلم إلا بالوحي عن اللّه أنه كذلك، واللّه أعلم.

٢٩-٣٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (٢٩) هَارُونَ أَخِي (٣٠) سأل ربه أن يجعل أخاه معه وزيرًا له ويشاوره؛ ليتحمل عنه بعض ما حمل عليه من الأثقال؛ إذ قيل: الوزير: هو الذي يتحمل عن الملك بعض ثقل ما حمل.

٣١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١)

قَالَ بَعْضُهُمْ: {أَزْرِي} وظهرى.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} أي: عوني، وكذلك ذكر في حرف حفصة.

وقرأ بعضهم: [{أَشْدُد بِهِ أَزْرِي}] على الخبر من موسى، وكذلك في قوله: {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي}، وأمَّا قراءة عامة القراء فهي على الدعاء والسؤال.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي}، أي: ظهري، ويقال: آزرته: أعنته، ويقال: توازروا: أي: تعاونوا، واستوزرته: أي: استعنت به، ومن هذا أخذ الوزير.

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: {أَزرِي}: ظهري، ويقال: آزرت فلانًا على الأمر، أي: قويته عليه، فأما وازرته: فصرت له وزيرًا، وأصل الوزارة من الوزر: وهو الحمل، كأن الوزير يتحمل عن السلطان بعض الثقل ويرفع عنه.

 موسى سأل ربه أن يعينه بأخيه، ويقويه به فيما حمله، وأن يشركه فيما قلَّده من الرسالة والقيام بها، فأجابه اللّه لذلك، حيث قال: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ}.

٣٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (٣٣) يحتمل: كي نسبّحك كثيرًا بالجماعة؛ لأن الصلاة بالجماعة تتضاعف على الصلاة وحده، وأن يعين بعضنا على التسبيح لك والذكر، ونحوه.

٣٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (٣٥) أي: إنك بضعفنا وعجزنا فيما حملتنا وقلدتنا بصيرًا، عالمًا، واللّه أعلم.

٣٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (٣٦) أي: أعطيت ما سألته، وكان سأله أشياء فأوفي، فقوله: {سُؤْلَكَ}، وسؤالك، ومسألتك لغات ثلاثة، كلها واحد.

٣٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى. . .) الآية. يشبه أن يكون المنة حين أنجاه فيما ابتلى بالرد واشتباه الطريق، حتى قال: {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}، فتلك المنة الأخرى.

أو أن يكون المنة التي ذكر هي ما أنجاه اللّه حيث قتل ذلك القبطي فاشتد له ذلك الخوف حتى بلغ الإياس، فتلك المنة التي ذكر، أو ما ذكر من الوحي إلى أمه {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ}.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} مع النبوة مرة أخرى، ثم بيِّن النعمة، ثم قال: {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى} إلى آخر ما ذكر، وإلى هذا ذهب أهل التأويل، وإلا قد كان منه إليه من المنن ما لا يحصى، واللّه أعلم.

ثم الكلام فيما ألهم أمَّه في روعها أن تقذفه في البحر أنه يسع لهذا أن يفعل ذلك، ويحل أو لا؟ إذ قد يجوز أن يكون من الشيطان مثل هذا، نحو ما قال: {لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ. . .} الآية، فلم يعرفوا وقت ما كلمهم بهذا: هو وشيطان أو غيره؟ فعلى ذلك يجوز أن يلقي الشيطان إليها؛ فكيف وسع لها أن تعمل ما علمت من الأخطار؟ لكن يجوز أن يكون في ذلك الإلهام وما ألقي إليها - آية ومعنى،

 عرفت بذلك أن ذلك من اللّه، لا من أحد سواه.

أو أن يكون رفع الحجاب والموأنع من قلبها، وصار لها ذلك كالعيان.

أو كانت كالمضطرة إلى ذلك؛ فوسع لها ذلك لما ذكرنا، واللّه أعلم.

٣٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ... (٣٩)

قال عامة أهل التأويل: ألقى عليه محبة في قلب امرأة فرعون، حيث قالت: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ. . .} الآية، لكن ألقى عليه محبَّة في قلب امرأته وقلب فرعون أيضًا، حتى كان أشفق الناس عليه وأحبهم، بعد ما كان يقتل الولدان بسببه؛ ليجده ويظفر به، يذكره - عَزَّ وَجَلَّ - رحمته عليه ومننه له، وهي المنة التي ذكر، حيث قال: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}، الصنع: هو فعل الخير والمعروف، أي: لنصنع إليك المعروف والإحسان.

وقوله: {عَلَى عَيْنِي}:

قَالَ بَعْضُهُمْ: لتُغَذَّى على حفظي، يقال: عين اللّه عليك: أي كن في حفظ اللّه، وهو قول الحسن وقتادة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: لتربي على عيني، أي: على علمي، والأول أشبه.

٤٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (٤٠) أي: من يضمه، يسمى كافل اليتيم الذي يضمه ويضمنه ويحفظه، وهو كقوله: {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} أي: يضمها ويحفظها، فهذا يدل أنه كان عندهم من أحب الناس إليهم، وأشفقهم عليه، حيث قال: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ}، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} حيث قال لها: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} وعدٌ لها أن يرده إليها فردَّه.

وقوله: {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ}، أي: يذهب حزنها الذي كان؛ لأنها قد كانت حزينة بطرحها إياه في اليم؛ ألا ترى أنه قال: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ .. .} الآية وهذا يدل أن قوله: {وَلَا تَحْزَنَ}، أي: يذهب حزنها الذي كان بها.

وقود - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ}:

يحتمل أن يكون الغم الذي أخبر أنه نجاه منه هو الخوف الذي كان به بعد مقتل ذلك القبطي، حيث قال: {فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ}،

وقوله: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ}، ونحوه، أو نجاه من أنواع الغموم؛ إذ كان له غموم.

 وفي الآية دلالة أن لا قصاص يجب في شبه العمد وإن كان الضرب بشيء لا نجاة فيه؛ لأن موسى - صلوات اللّه عليه - كانت له قوة أربعين نفرًا على ما ذكر، فإنما لطمه لطمة، فقضى عليه، ثم قال: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}، هذا يدل أنه كان لا يحل له قتله، ثم قال: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} سماهم: ظلمة، فلو كان يحل القتل ويجب القصاص، لكان لا يسميهم ظلمة، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا}

قَالَ بَعْضُهُمْ: {فُتُونًا}: هو جمع فتنة، أي: فتناك فتونا.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {فُتُونًا}:، هو مصدر الفتنة، أي: ابتليناك ابتلاء، أي: بلاء، والفتنة في البلايا والشدائد: الغموم التي ذكر أنه نجاه منها.

ويحتمل: النعم والخيرات؛ إذ لم يكن الأنبياء في جميع الأوقات في البلاء، ولكن كانوا في وقت في بلاء وشدة، وفي وقت آخر في نعمة وخير.

أو فتنه بهما جميعًا، على ما أخبر: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ}.

هذا - واللّه أعلم - من المنة التي ذكر، حيث قال: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: بالنبوة والرسالة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: على موعود، أو على قدر وقت المجيء، فكيفما كان ففيه أن مجيء العبد وذهابه وجميع سعيه يكون بقدر من اللّه، وتقدير منه، وفيه أنه يجعل الأمور بأسباب، وإن كان يجعل أبعضها، بغير أسباب.

٤١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١) أي: اخترتك، واصطفيتك لرسالتي ونبوتي، فذكر نفسه؛ لأنه بأمره يقوم بأداء ذلك.

٤٢

وقوله: (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي (٤٢)

هو ما ذكرنا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي}: أي: لا تضعفا في الدعاء إلى ديني وتوحيدي.

وحرف عبد اللّه بن مسعود: (ولا تهينا في ذكري) وفي البلاغ (إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (٤٣) أمرهما ألا يقصرا ولا يعجزا في تبليغ الرسالة إليه، والدعاء إلى دينه، حيث

٤٣

 قال: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (٤٣) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا).

قال أَبُو عَوْسَجَةَ؛ {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}؛ أي: تربى بعيني، وسئل عن العين، فقال: العين: العلم هاهنا، والعين في غير هذا: المال، والعين: الأديم المتخرق، والعين: المصدر من عان يعين، فهو عائن، والمفعول به معيون: إذا أصابه بعين، والعين: الحقيقة، كقولك: هذا بعينه، أي: بحقيقته، قال: والعينة: السلف، ومثله قوله: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا}.

{عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ} أي: يضمه لا يضمنه.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى}، أي: وقت المجيء {وَاصْطَنَعْتُكَ}، أي: أخلصتك {لِنَفْسِي}، {وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} أي: لا تقصرا ولا تعجزا، واللّه أعلم.

٤٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا ... (٤٤) لأن القول اللين يكون أقر وأثبت في القلوب، وأنجع، وأقرب إلى الإجابة والقبول من القول الخشن البارد، وخاصة في الملوك والرؤساء؛ إذ طباعهم لا تحتمل ذلك، ولا تنجع فيهم، بل أكثر صولتهم على من دونهم إنما يكون عند استقبالهم بالخلاف وبما يكرهون، فأمر - عَزَّ وَجَلَّ - رسوله موسى وهارون أن يقولا له قولًا لينًا، ويلطفا معاملته؛ ليكون أقرب وأثبث في قلبه وأنجع؛ ولذلك قال: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}.

 قال الحسن: كل (لعل) من اللّه فهو على الإيجاب؛ لأنه قد تذكر وخشى، حيث قال: {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ. . .} الآية، وحيث قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ}، لكن لم ينفعه إيمانه في ذلك الوقت؛ لأنه إيمان دفع واضطرار.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} في علومكم، فإن كان على هذا فهو يحتمل الشك، وإن كان على الأوّل فهو على الإيجاب لا يحصل الشك.

ثم اختلف في القول اللين: قال ابن عَبَّاسٍ: هو قول اللّه: (هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (١٩)، أي: فتوحّد، قال: هذا القول اللّين.

وعن الحسن: {قَوْلًا لَيِّنًا}: قولا له: إن لك معادًا، إن لك مرجعًا.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {قَوْلًا لَيِّنًا}: قول: لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه.

٤٥

وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: لينًا، ونحوه، وأصله ما ذكرنا بدءًا.

وقوله - عر وبئ -: (قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (٤٥) قال أهل التأويل: قوله: {أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا}، أي: يعجل بالعقوبة من قبل أن يسمع حجتنا.

أو أن يطغى بقتلنا بعدما سمع الحجة منا.

وجائز أن يكون أحد هذين في الفعل، والآخر في القول: أن يفرط علينا أو أن يطغى أيهما كان؟ لأنه قال في الجواب لهما: {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}، أي: أسمع ما يقول لكما، وأرى ما يفعل بكما، فهذا يدل - واللّه أعلم - أن قوله: {أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} يرجع أحدهما إلى القول، والآخر إلى الفعل؛ لأنه قال في وقت: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ}، ونحوه، واللّه أعلم.

٤٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تَخَافَا ... (٤٦) يحتمل على نفي الخوف، والأمن منه، كقوله: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ}، ليس على النهي عن الحزن، فعلى ذلك الأول.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّنِي مَعَكُمَا}: في النصر والمعونة لكم والذب عنكم والدفع، {أَسْمَعُ} ما يقول {وَأَرَى} ما يفعل، وقد كان منه إليهما: النصر والمعونة لهما، والدفع عنهما.

٤٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ ... (٤٧)

 يشبه أن يكون {وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} هذا، أي: لا تضعفا في تبليغ الرسالة، ولكن قولا: {إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} لا يحتمل أن يكون أول ما أتياه قالا: {أَن أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} ولكن قد سبق منهما الدعاء إلى توحيد اللّه والإفراد له بالألوهية والربوبية؛ فإذا ترك الإجابة، فعند ذلك قالا له: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ}.

وهذا يحتمل وجهين:

أحدهما: كأنه كان يمنع بني إسرائيل عن الإسلام، وهم أرادوا الإسلام، فقالا: أرسل معنا بني إسرائيل ولا تمنعهم عن الإسلام.

أو: كان يستعبدهم، فأمره أن يستنقذهم من يديه، كقوله: {أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} ألا ترى ائه قال: {وَلَا تُعَذِّبْهُمْ}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ} وهو ما قال؛ {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى}.

هذا يدل أنه لا يبدأ بالسلام على أهل الكفر، ولكن يبدأ بأهل الإسلام، وفيه أن تحية أهل الإسلام هو السلام، لا قول الناس: (أطال اللّه بقاءك)، ونحوه.

٤٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٤٨) كأنه قال:

والسلام على من اتبع الهدى، والعذاب على من كذب وتولى.

والسلام هو اسم كل خير وبر.

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: {أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا} أي: يعجل ويقدم، قالوا: الفرط: التقدم والسبق، وفي الخبر عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أنَا فَرَطكم على الحَوض "، وهو من السبق، وكذلك قال أَبُو عَوْسَجَةَ: {أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا} أي: يعجل، يقال: فرط يفرط فرطًا: أي: عجل،

وقال: {وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} أي: لا تقصرا ولا تعجزا في البلاغ، {وَاصْطَنَعْتُكَ} أي: استخلصتك لنفسي، فإذا لم يفهم من قوله: {لِنَفْسِي}: ذاته فكيف يفهم {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} ما لم يفهم من الخلق، ولا يتصور هذا وأمثاله إلا في وهم من اعتقد التشبيه ولم يعرف ربه، وإلا لو عرف ربَّه حق معرفته، لكان لا يتصور في وهمه تشبيه الخلق به، ولا

 تشبيهه بخلقه، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.

٤٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (٤٩) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (٥٠) وقال في آية أخرى: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ. قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} الآية، {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا}، سأله عن ماهيته، فأجابه موسى عن آثار صنعه في خلقه، وأنه ربُّ كل شيء، وربُّ ما ذكر، لم يجبه عما سأله من ماهيته وكيفيته، حيث قال: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى}، فجوابه عن الماهية: ربنا فلان، وأنه كذا، ففيه دلالة أن اللّه لا يعرف من جهة الماهية والكيفية؛ إذ لا ماهية ولا كيفية؛ إذ هما أوصاف الخلق، فاللّه سبحانه يتعالى عن أن يوصف بشيء من صفات الخلق.

٥٠

ثم يحتمل قوله: (أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (٥٠) وجوهًا:

أحدها: أعطى كل شيء يكون، صورة ما قد كان معاشه وقوامه؛ ليعلم أنه قادر على بعثهم على الصورة التي كانت.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ثُمَّ هَدَى} فهو على قوله: أعطى كل شيء ثم هدى، فإن كان التأويل: أعطى كل شيء صورته وهيئته، فقوله: (ثُمَّ هَدَى للنجاة، وإن كان أعطى جنسه وشكله ثم هداه للنسل، وإن كان قوله: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ} ما به معاشهم وقوامهم، ثم هداه لما يتعيشون به، ويقومون به، وهداه لما يصلح لهم وما لا يصلح لهم، واللّه أعلم.

٥١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (٥١) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ).

قَالَ بَعْضُهُمْ: إنما سأل فرعون موسى عن القرون الأولى؛ لأنه سمع من ذلك الرجل المؤمن حين قال: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ}، ولم يكن لموسى بهم علم، فوكل علمهم إلى اللّه، ثم أنزل اللّه عليه التوراة، فبين له فيها أمرهم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: سأل فرعون موسى ذلك؛ لأن موسى أخبر أنه يبعث، وخوفه على ذلك، فعند ذلك قال: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} لم يبعثوا منذ أهلكوا؟ فقال له ما قال.

٥٢

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} إنما سأله عن حال القرون الأولى أهم في الجنة أو في النار، فقال: (عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي ... (٥٢)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما سأله عن أعمالهم: فما أعمال القرون الأولى؟ فقال: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} أي: أعمالهم عند ربي في كتاب مرقوم،

وقوله: {سَائِقٌ وَشَهِيدٌ}،

وقوله: {فِي كِتَابٍ}

قَالَ بَعْضُهُمْ: الكتاب الذي أثبتت فيه أعمالهم،

وقَالَ بَعْضُهُمْ: في اللوح

 المحفوظ، {لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} قال: هما واحد: لا يضل ولا ينسى ذلك الكتاب، وقرئ: {يَضِلُّ} ولا يُضِلُّ من ختم بالهدى، و {لَا يَضِلُّ} أي: لا يَضِلُّ ذلك الكتاب الذي ذكر، ليس أنه يرجع إلى قوله: {لَا يَضِلُّ رَبِّي}.

٥٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -. (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا ... (٥٣) هو على قوله: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}، {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا} أي: فراشًا، والذي {سَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} يذكر نعمه التي أنعمها عليهم؛ يقول: جعل لكم الأرض بحيث تفترشون، وتعيشون فيها، وتقرون عليها بعدما كانت تميد بكم، {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} أي: طرقًا تسلكون فيها، وتختلفون إلى البلدان النائية في حوائجكم وما به معاشكم وقوامكم ما لولا ذلك ما قام معاشكم، ولا قضيت حوائجكم {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ} أي: الماء {أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى}: ما به معاشكم وقوامكم وقوام أنعامكم، على اختلاف ما جعل لكل دابة من ذلك قوتًا وغذاء، ولم يجعل ذلك لغيرها؛ لأن من الدواب ما يأكل النبات، ومنها ما يأكل الحب، ومنها ما يأكل اللحم، ونحوه.

٥٤

قوله تعالى: (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ ... (٥٤) أي: كلوا أنتم وارعوا أنعامكم فيما به قوامها.

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى}:

قَالَ بَعْضُهُمْ: {لِأُولِي النُّهَى} أي: لأولي العقول.

وقال الحسن: إن في ذلك لآيات للذين يتناهون عما نهوا عنه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: لآيات لأولي الورع، وأولي النهي: هم أهل العقول؛ لأنه بالعقل ينهى، وبه ينتهي، وبه يؤمر ويؤتمر، فذلك آيات لهم، وكذلك قَالَ الْقُتَبِيُّ: لأولى النهي: أولي العقول،

وقال: النهية: العقل.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى}، أي: ما حالها؟ يقال: أصلح اللّه بالك، أي: حالك.

٥٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (٥٥)

يحتمل قوله: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ} وجوهًا:

أحدها: منها خلقنا أصلكم، وهو خلق آدم، لكنه أضاف خلقنا إليها وإن لم نخلق منها كما أضاف الإنسان إلى النطفة وإن لم يكن الإنسان منها، لكنه أضاف إليها؛ لأنها أصل

 الإنسان؛ فعلى ذلك إضافة خلق أنفسنا إلى الأرض.

والثاني: نسب إليها؛ لأنا من أول ما ننشأ إلى آخر ما ننتهي إليه يكون قوامنا ومعاشنا من الخارج من الأرض؛ فنسب خلقنا إليه، وهو ما قال: {قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا} واللّباس على هيئته ما هو لم ينزل من السماء، لكنه أضافه إليها؛ لأنه كان بأسباب من السماء وأصله منها.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذكر أن الملك ينطلق فيأخذ من تراب ذلك المكان الذي يدفن فيه الإنسان فيذره على النطفة التي قضى اللّه منها الولد؛ فيخلق من التراب والنطفة، قذلك معنى الإضافة إليهما، لكن هذا سمعي لا يعرف إلا بالخبر، فإن ثبث فهو هو، وإلا لا يجوز أن يقال ذلك رأيًا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ}.

قوله: {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} إذا متم، أي: تقبرون فيها، فيخرج مخرج الامتنان علينا، وذلك لنا خاصة دون غيرنا من الحيوان، لئلا نتأذى بهم، كقوله: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ}، أو أن يكون قوله: {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ}، أي: تصيرون ترابًا إذا متم، فيخبر عن قدرته وسلطانه، أي: من قدر على أن صيَّر الإنسان ترابًا، بعد أن لم يكن ترابًا لقادر على أن يصيره إنسانًا على ما كان بعدما صار ترابًا، وهو ما قال: {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} أي: منها نبعثكم وننشئكم مرة أخرى، واللّه أعلم.

٥٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا} ولم يره جميع آياته، إنما أراه بعض آياته، لكن إن كان المراد منها الإعلام له، فقد أعلم الآيات كلها؛ لأنه إنما أراه آية واحدة أو بعض الآيات، فرؤية آية واحدة وبعضها يدل على إعلام غيرها من الآيات، فهو على

 الإعلام قد أعلمه كلها، وهو ما قال له موسى: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، علم اللعين أنها الآيات وليست بسحر.

أو أن يكون يريد بالآيات كلها الآيات التي أرسلها إلى موسى، فقد أراه آياته كلها، فكذب بتلك الآيات وأبى أن يصدقها ويقبلها فيسلم.

٥٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (٥٧) قد علم التعين أنه لم يجئهم ليخرجهم من أرضهم، ولكنه يريد منهم الإسلام، لكنه أراد أن يغري قومه عليه، كقوله: {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ}، فهذا إغراء منه قومه عليه.

٥٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (٥٨)

قَالَ بَعْضُهُمْ: {سُوًى} المكان الذي نحن فيه الآن، وغير هذا المجلس.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: مكانًا عدلًا لا نخلف نحن ولا أنت ذلك المكان.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {مَكَانًا سُوًى} أي: منصفا.

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: {مَكَانًا سُوًى}، أي: وسطا بين فريقين.

وقال الكسائى: سُوًى وسِوًى يريد به سواء، وهما لغتان، إلا أنه يقرأ: " سوى " وقال أبو عبيدة: هو مثل {طُوًى} وهو المنصف.

٥٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩)

قَالَ بَعْضُهُمْ: يوم عاشوراء.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: يوم العيد.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: يوم سوقهم، لكا لا نعلم ذلك، وليس بنا إلى ص معرفة ذلك حاجة،

 وهم قوم قد عرفوا ذلك، حيث رضوا بذلك ولم يتنازعوا فيه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} بينوا اليوم، وبينوا الوقت، وهو وقت الضحى.

{وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى}

٦٠

قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: نهارًا جهارًا، كقوله: {أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى}، نهارًا، يعني: جهارًا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ ... (٦٠) أي: أقبل على أمره، وجمع كيده، ليس على الإعراض عما دعوا إليه، ثم أتى بهم، وهو كقوله: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ} أي: أقبل على السعي في الأرض بالفساد.

٦١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللّه كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (٦١)

هذا يحتمل وجهين:

أحدهما: لا تفتروا على اللّه كذبًا فيما بأن لكم الحق، وظهر لكم الحجة باتخاذكم فرعون إلهًا؛ لأنكم إذا اتخذتم دونه سواه إلهًا - ولا إله غيره - فقد افتريتم عليه.

والثاني: لا تفتروا على اللّه كذبًا فيما بأن لكم الحق وظهر لكم الحجة، فلا تفتروا على اللّه كذبًا بقوله: إنه سحر، وإنه كذاب.

وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} برفع الياء ونصبها جميعًا.

{فَيُسْحِتَكُمْ}: قال أبو معاذ: يقال: أسحته وسحته، قهره وأقهره.

وقال أهل التأويل: أي: يهلككم ويستأصلكم بعذاب.

ثم يحتمل ذلك العذاب في الدُّنيَا، أوعدهم بعذاب يأتيهم إذا افتروا على اللّه كذبًا بعدما بأن الحق، وظهر لهيم البرهان والحجة.

وقوله: {وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} في الدنيا والآخرة.

٦٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (٦٢)

قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} أي: تناجى السحرة فيما بينهم سرا من فرعون، فذلك قوله: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} من فرعون، فقال لهم: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} يعنون: موسى وهارون.

٦٣

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} من موسى وهارون، فنجواهم أن قالوا: (إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (٦٣) والأشبه هنا أنهم اعتزلوا

قومهم وأسروا النجوى عنهم فيما بينهم أنهما كذا.

ثم قوله: {إِنْ هَذَانِ} بالألف، قال أبو عبيدة: هذه لغة قوم من العرب، يقال: مررت ورأيت رجلان، فهو على تلك اللغة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن هذه الألف لا تسقط في الوحدان بحال، يقال: مررت بهذا ورأيت هذا، ونحوه، فهو الأصل لا يحتمل السقوط في الأحوال كلها في الوحدان والتثنية.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ}، أي: نعم هذان، وذلك لغة قوم أيضًا، يقولون: (إن) مكان (نعم)، كقول القائل في آخر بيته:

. . . . . . . . . . . . فقُلْتُ إِنَّهْ

أي: نعم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا، ولكن هذا خطأ من الكاتب، وكذلك عن عثمان: أنه لما نظر في الكتاب فقال: إني أَرَى فِيهِ [لَحْنًا وَسَتُقِيمُهُ الْعَرَبُ بِأَلْسِنَتِهَ] (١)، أو نحو هذا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا} هذا القول إنما أخذوا من فرعون، حيث قال: {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ. . .} الآية، وقوله أيضًا حيث قال: {أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى}، علم فرعون أن ذلك ليس بسحر لكنه أراد أن يغري قومه عليه؛ لئلا يتبعوه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} اختلف فيه:

قال الحسن: قوله: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى}، أي: بعيشكم أمثل العيش؛ لأنهم كانوا جبابرة وفراعنة، وكانوا بنو إسرائيل لهم خدمًا وخولًا يستخدمونهم ويستعملونهم في حوائجهم، فكان تعيشهم بهم، فقال {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى}، أي: يذهبا بأمثل عيشكم، حيث قال له موسى: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: {بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى}، أي: يذهبا بدينكم ومذهبكم الأمثل؛ لأنه يقول: إن الذي يدعوهم إليه هو الرشاد، وأن الذي يدعوهم موسى إليه هو باطل، وإنه سحر (١) في النسخة المطبوعة هكذا [خطابًا فيقومها العرب بألسنتها] والتصويب السمرقندي والقرطبي.

وهذا القول من أخبث ما وضع الوضاعون على عثمان رضى اللّه عنه، وقد أنكر العلماء صحة نسبته إليه. على أن عثمان لم يستقل بجمع المصحف بل شاركه؟؟ الصحابة في جمعه وكتابته ولم ينشروه بين المسلمين حتى قابلوه على الصحف التي جمع القرآن فيها عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللّه عَنْهُ، فلم يتداوله المسلمون إلا وهو بإجماع الصحابة موافق تمام الموافقة للعرضة الأخيرة التي عرض فيها النبي صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ القرآن على جبريل عليه السلام. وهل يظن ظان أن عثمان رضى اللّه عنه وهو ثالث الخلفاء الراشدين يرى في المصحف لحنا يخالف ما أنزل اللّه ويتركه ويقول: ستقيمه العرب بألسنتها! وكيف يفعل أن يقول ذلك في حضرة الصحابة ولا يقفون في وجهه ويردون عليه قوله وهم أنصار الدين وحماته. وممن أنكر نسبة هذا القول إلى عثمان المصنف والزمخشري وأبو حيان والآلوسي في سورة " النساء " عند قوله تعالى: " وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ " آية ١٦٢، راجع ج ٦ ص ١٣.

 وفساد، كقوله: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ}، وحيث قال: {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}، وحيث قالوا: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ}، ونحوه، يدعى أن ما يدعوهم إليه هو الرشاد، وأن الذي يدعو موسى إليه هو السحر والفساد.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى}، أي: خياركم وأشرافكم والأمثل منكم.

قَالَ الْقُتَبِيُّ: {فَيُسْحِتَكُمْ}، أي: يهلككم ويستأصلكم، يقال: سحته اللّه، وأسحته،

وقال: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى}، أي: الأشراف، ويقال: هَؤُلَاءِ طريقة قومهم: أي: أشرافهم، اشتقاق الطريقة من الشريف، ويقال: أراد: بسنتكم ودينكم، و {الْمُثْلَى}: مؤنت أمثل، مثل كبرى وأكبر.

٦٤

(فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ... (٦٤) أي: حيلتكم.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: {طَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى}، أي: بدينكم الأفضل، وهو من الأمثل.

وقال أبو عبيدة: {ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} أي: مصلى، والصف: المصلى،

وقال: حكى عن بعضهم أنه قال: ما استطعت أن آتى الصف اليوم أي: المصلى.

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: {صَفًّا}: أي: جميعًا، وكذلك قال غيره من أهل التأويل.

وقوله: {مَنِ اسْتَعْلَى} أي: غلب.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ} حرف الإجماع يستعمل في العزم مرة والاجتماع ثانيًا:

أما في العزم فما ذكر في الخبر: " لَا صَوْمَ لِمَنْ لَم يَجْمَع رَأيَهُ مِنَ اللَّيل " أي: لمن لم يعزم، على ما روى في الخبر: " لا صَوْمَ لمن لم يَعْزِمْ مِنَ الليل ".

وأما الاجتماع فظاهر، فإن كان على الاجتماع، فكأنه قال: فاجتمعوا على عمل واحد لا تختلفوا فيه.

وعلى العزم، أي: اعرفوا شيئا واحدًا؛ واقصدوا أمرًا واحدًا لكي تغلبوا.

 {ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا}

قَالَ بَعْضُهُمْ: جميعًا غير متفرقين،

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} أي: المصلى الذي كان موعود الاجتماع، وهو يوم الزينة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} قيل: من غلب، كقوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ}، أي: غلب.

وجائز أن يكون قوله: {اسْتَعْلَى}، أي: من طلب العلو، وأراد أن يسعد بما وعد فرعون للسحرة من الأجر إذا كانوا هم الغالبين، كقوله: (أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (٤١) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢)، فذلك هو ما طلبوا منه، فأخبر أنهم يظفرون بذلك، هذا إذا كان القول من فرعون، واللّه أعلم.

٦٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى. قَالَ بَلْ أَلْقُوا}، إنما ألقوا بأمر من اللّه وإذن منه.

٦٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ (٦٦) إلى موسى (مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (٦٦) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (٦٧) أي: وقع في قلبه الخوف، وخاف إذ صنع القوم ما صنعوا من الشحر، ثم يحتمل ذلك الخوف منه وجهين:

أحدهما: خاف على ما طبع البشر عليه من خوف الطبع، لا خوف غلبة؛ لأنه قال لهم: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّه سَيُبْطِلُهُ}، كان يعلم - صلوات اللّه عليه - أن تمويهات السحر لا تبطل حجج اللّه وآياته، فدل ذلك أنه خاف خوف الطبع والجِبِلَّة، لا خوف القهر والغلبة.

أو أن يكون خوفه لما أخذ سحر أُولَئِكَ أعين الناس؛ خاف موسى أن يمنعهم ذلك عن أن يبصروا ما جاء هو من الآية والبرهان.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: خاف أن يشكوا فيه فلا يتابعوه، ويشك فيه من تابعه، وهو ما ذكرنا

 قريبًا منه، واللّه أعلم.

٦٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (٦٨)

أي: الغالب، فإن كان الخوف الذي ذكر خوف طبع وما جبل عليه المرء، فيكون قوله: {لَا تَخَفْ} على تسكين القلب وتثبيته، وإن كان الثاني فهو على البشارة له، والإخبار على ألا يمنع سحر أُولَئِكَ عن أن يبصروا ما تأتي به أنت من الآية، واللّه أعلم.

٦٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا (٦٩) هذا يدل أن سحر أُولَئِكَ إنما صار بعدما ألقوا ما في أيديهم، لم يكن سحرًا وقت كونه في أيديهم، وكذلك عصا موسى إنما صارت آية وحجة بعدما ألقاها من يده لم تكن وقت كونها في يده، وكذلك حيث قال: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا}، أي: تلقم وتأكل ما صنعوا {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} أي: لا يفلح الساحر حيث أتى بسحره، وإلا قد أفلح سحرة فرعون، وفي حرف ابن مسعود: (أين أتى).

وقَالَ بَعْضُهُمْ: حيث كان. وحيث وحوث لغتان، وهو قول الكسائي.

٧٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (٧٠)

لأنهم عرفوا حقيقة ما أتى به موسى، فعلموا أنه سماوي وأنه آية ليس بسحر، فآمنوا إيمانا لم يرتابوا فيه قط، وهذا يدل أن كل ذي بصر وعلم في شيء يكون أبصر وأعلم في ذلك الشيء من غيره؛ حيث لم ينظروا لما رأوا ما أتى به موسى وعاينوا وقتًا ينظروا فيه، بل لسرعة معرفتهم، لم يملكوا أنفسهم، بل ألقوا على وجوههم على ما أخبر؛ حيث قال: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا}، و {سُجَّدًا}.

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى}: أي: أضمر خوفًا.

وقال غيره: وقع في قلبه حيث أنَى كان.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ}، أي: يظن، يقول: يخيل إلى، أي: يريني فهمي وعلمي أن هذا الشيء كذا وكذا، {فَأَوْجَسَ} أي: أحس. {تَلْقَفْ} وتلقم: واحد.

٧١

وقوله تعالى: (قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ... (٧١)

قَالَ بَعْضُهُمْ: يعني: موسى.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: كبير السحرة الذي علم غيره السحر.

وقال في آية أخرى: {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا. . .} الآية. قد علم اللعين أن ذلك ليس بسحر ولا مكر مكروا به، لكنه أراد أن

 يموه على قومه ويلبس عليهم أمر موسى وما جاء به من الآيات والحجج؛ لأنه هو الذي رباه ونشأ بين ظهرانيه وأهله، فعلم أنه لم يتعلم السحر من أحد، ولما فارقه وخرج من عندهم إلى مدين لم يكن هناك من يتعلم منه السحر، لكنه أراد التمويه والتلبيس على قومه، وكذلك أهل مكة حيث نسبوا رسول اللّه إلى السحر والكهانة والافتراء والجنون وغيره، علموا أنه ليس بساحر ولا كاهن ولا مجنون ولا مفتر؛ لأنه نشأ بين أظهرهم صغيرًا لم يؤخذ عليه كذب قط على أحد من الخلائق، فكيف على اللّه تعالى؟ ولا رأوه اختلف إلى أحد من السحرة والكهنة في تعلم ذلك، لكنهم أرادوا بذلك التمويه والتلبيس على الناس؛ لئلا يتبعوه ولا يجيبوه إلى ما دعاهم إليه من دين اللّه وتوحيده.

ثم الرسل - صلوات اللّه عليهم - لو لم يكن معهم الآيات المعجزة ولا الحجج النيرة، كانت أنفسهم وما طبعوا عليه من السيرة الحسنة والأخلاق الكريمة الجميلة وما اختاروا من الأمور العظيمة الرفيعة - دالة على رسالتهم ونبوتهم، فكيف وقد جاءوا بالآيات المعجزة والبراهين المنيرة؟ وما بطبع السحرة من السيرة المذمومة والأخلاق الدنيئة والأمور الخسيسة، يدل على كذبهم وافتعالهم، فكيف أشكل عليهم صرفة السحر من الرسالة والتمويه من الحجة، لكنهم أرادوا بذلك ما ذكرنا من التمويه على قومهم، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}.

يشبه أن يكون هذا الوعيد منه في وقتين: أوعدهم أولا بقطع اليد والرجل من خلاف على الإبقاء؛ رجاء أن ينتهوا عما اختاروا، فإذا لم ينتهوا عنه، فعند ذلك أوعدهم بالقتل والصلب؛ إذ في القتل والصلب إتلاف ما دونه من الجوارح، فإن كان على هذا ففيه أن كل حد يراد به الإبقاء، فإنه لا يؤتى على الجوارح كلها، والقطع في السرقة قد يراد به الإبقاء؛ لذلك لا يؤتى على الجوارح كلها، وكذلك حد قطاع الطريق؛ إذ يراد به الإبقاء لم يزد على قطع اليد والرجل من خلاف.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى}.

لو ذاق اللعين شيئًا من عذاب ربه لم يقل مثل هذه المقالة، ولولا ما عرف من حلم ربه، وإلا لم يتجاسر أن يتكلم بمثل هذا ويوعدهم أن عذابه أشد من عذاب اللّه تعالى.

٧٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (٧٢)

أي: لن نؤثرك بالربوبية والعبادة لك والطاعة على ما جاءنا من البينات على ربوبية اللّه وألوهيته وعبادته.

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالَّذِي فَطَرَنَا}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: لو نؤثرك على الذي خلقنا، لكن غيره كأنه أشبه، وهو أن قوله: {وَالَّذِي فَطَرَنَا} على القسم، أي: بالذي فطرنا، كأنهم أيأسوه عن العود إلى عبادته وخدمته.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} ليس على الأمر لكن على عناد لك، أي: إنك وإن فعلت بنا ما أوعدت فإنا لا نؤثرك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أي: إنما تقضي في هذه الحياة الدنيا.

٧٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللّه خَيْرٌ وَأَبْقَى (٧٣)

يحتمل قوله: {وَاللّه خَيْرٌ} معبود وثوابه أبقى من ثواب غيره.

أو أن يكون هذا جواب قوله: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} فيقول: عذاب اللّه أبقى، واللّه أعلم.

قال أَبُو عَوْسَجَةَ: جذوع النخل: ساق النخل وأصله.

٧٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (٧٤) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (٧٥).

أصل هذا - واللّه أعلم -: أن من قبل من اللّه حياته بالشكر وطيبها بالأعمال الصالحات، طيب اللّه حياته وعيشه في الآخرة، ومن لم يقبل حياته من اللّه بالشكر في الدنيا، بل كفر بها وخبثها وقبحها بالأعمال القبيحة الخبيثة الدنية خبث حياته في الآخرة وعيشه.

٧٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (٧٥)

هى ما يرتفع ويعلو، والدركات: ما يتسفل وينحدر في الأرض، والدرجات للمؤمنين في الآخرة؛ لاختيارهم في الدنيا الأعمال الصالحة الرفيعة العالية، فعلى ما اختاروا في الدنيا من الأعمال الرفيعة العلية، فلهم في الآخرة مقابل ذلك الدرجات العلا، وأما الدركات فهي لأهل الكفر مقابل ما اختاروا في الدنيا من الأعمال الدنية الخبيثة أخزاهم،

 كمثل من زرع بذر الشوك لم يحيصد بُرًّا قط.

٧٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٦)

أي: ذلك الذي ذكر جزاء من صلح عمله وأنماه، والزكاة: هي النماء في اللغة.

٧٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي}: وهو السير بالليل.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا} أي: اضرب بعصاك البحر، اجعل لهم طريقا في البحر يابسًا؛ كقوله: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ. . .} الآية.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى}.

أي: لا تخاف لحوق فرعون وجنوده، ولا تخشى غرق البحر، ليس على النهي، ولكن على رفع الخوف عنه والأمن عن أن يدركهم ويلحقهم؛ ألا ترى أنه قال: (قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ).

٧٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (٧٨)

دل قوله: {بِجُنُودِهِ} على أن كان معه جنود لا جند واحد، وأما العدد فإنهم كذا وكذا ألفا وقوم موسى كذا وكذا ألفا، فذلك لا يعلم إلا بالخبر وليس بنا إلى معرفة ذلك حاجة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ}؛ أي: من الغرق والهلاك.

٧٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (٧٩)

قَالَ بَعْضُهُمْ: وأضل فرعون قومه وما هداه اللّه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: وأضل فرعون قومه وما هداهم حيث قال: {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}.

وقيل: أضل قومه وما هدى نفسه.

وقال - بعضهم: {وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} أي: آمن؛ وذلك أنه بالإيمان تزكو الأعمال وتنمو، وبه يثاب عليها ويؤجر.

 وقَالَ الْقُتَبِيُّ: {لَا تَخَافُ دَرَكًا} أي: لحاقًا.

وقوله: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ} أي: لحقهم.

٨٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (٨٠)

هذا خبر يخبر عما أنعم عليهم ومن على أوائلهم وآبائهم من حضر رسول اللّه، يذكر هَؤُلَاءِ بما أنعم ومَنَّ على أُولَئِكَ، وإلا لم يكن هَؤُلَاءِ يومئذ، وفيه تذكير النعم والمنن على الصحابة في أواخر أمورهم؛ لأنه أمنهم في آخر أمرهم من عدوهم وأيأسهم عن عود هَؤُلَاءِ إلى دينهم.

وفيه تذكير لنا فيما أنعم علينا ومَنَّ في أوائل أمورنا وآخرها، ليس التذكير لبني إسرائيل خاصة، ولكن لكل من أنعم عليه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ}.

لسنا ندري أن الأيمن هو اسم ذلك الجبل، أو سماه الأيمن؛ ليمنه وبركته، وقال - عز وجل - في آية أخرى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ}.

أو سماه الأيمن من يمين موسى عليه السلام.

فإن كان هو من اليمن والبركة فهو كذلك؛ لأنه به كان بدء وحي موسى عليه السلام.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى}.

يذكر هَؤُلَاءِ ما وسع على أوائلهم من الرزق وأخصهم؛ ليستأدي بذلك الشكر على ما أنعم عليهم، وذلك تذكير لنا ولمن وسع عليه ذلك؛ إذ لم يزل علينا يوسع الرزق من أول عمرنا إلى آخره.

٨١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (٨١)

أي: قلنا لهم: كلوا من طيبات ما رزقناكم.

ثم يحتمل وجهين:

أحدهما: أن يكون قوله: {طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} أي: من حلالات ما رزقناكم، فإن كان على هذا ففيه دلالة أنه يرزق ما ليس بحلال.

والثاني: {مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} أي: ما تطيب به أنفسكم، ففيه دلالة أنه يجوز لنا أن نختار من الأطعمة ما هو أطيب إن كان على ما تستطيب به الأنفس.

وقوله تعالى: {وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ}.

الطغيان: هو المجاوزة عن الحدود التي جعلت، أي: لا تطغوا فيما رزقكم من

 الطيبات وتجعلونه في غير ما جعل وتتجاوزوا عن القدر الذي جعل.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} برفع الحاء والخفض جميعًا، يحل أن ينزل عليكم غضبي، ويحل بالرفع: يجب.

وقوله: {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى}.

قيل: {هَوَى}: هلك، أي: من يجب عليه عذابي فقد هلك، وكذلك قال الْقُتَبِيّ: {هَوَى}، أي هلك، يقال: هوت أمه: هلكت.

وقيل: {فَقَدْ هَوَى}، أي: سقط في النار، يقال: هوى في موضع كذا.

٨٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (٨٢)

يحتمل قوله: {لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} عن الشرك، ورجع عنه، وآمن بتوحيده، وعمل صالحًا فيما بين ذلك، {ثُمَّ اهْتَدَى}: في حفظ أمره والنهي عما نهى.

والثاني: {لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ}: عن جميع المناهي وآمن بجميع ما أمر.

وقوله: {ثُمَّ اهْتَدَى} أي: دام على ذلك وثبت؛ كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللّه ثُمَّ اسْتَقَامُوا}.

٨٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: إن موسى - صلوات اللّه عليه - خرج بنفر من قومه إلى الجبل؛ ليأخذ التوراة، فعجل حتى خلفهم وتركهم وراءه، فعند ذلك قال له ربه: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى}.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: لم يخرج بنفر، ولكن خرج وحده وترك قومه، فأصابهم ما أصاب من

 الافتتان بالعجل الذي اتخذه السامري.

٨٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي ... (٨٤)

هذا على التأويل الأول، أي: هم يجيئون على أثري.

وعلى التأويل الثاني، أي: تركتهم على ديني وسبيلي، وهو قول الحسن وقتادة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى}.

أي: عجلت إليك رب فيما دعوتني إجابة وطاعة فيما أمرتني؛ لترضى، هذا على التأويل الذي قال: إنه خرج وحده.

وعلى التأويل الذي يقول: إنه خرج بنفر يقول - واللّه أعلم -: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى}؛ إذ لم يكن لي سبب ولا معنى يمنعني عن الإسراع إلى ما دعوتني وأمرتني.

وهكذا عندنا أن من لزمه أمر اللّه وفرضه، لزمه الإسراع والعجلة إلى القيام بأدائه، إذا لم يكن هناك سبب يمنعه عن التعجيل له والقيام به، واللّه أعلم.

٨٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥)

الفتنة: هي المحنة التي فيها شدائد وبلايا، ومعنى الافتتان هاهنا: هو ما فتنهم بالعجل الذي اتخذه السامري، جعله جسدًا بدم ولحم على ما ذكر، ونفخ فيه الروح، وجعل له خوار، فذلك معنى الافتتان منه إياهم، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ}.

أضاف الإضلال إلى السامري؛ لأنه كان سبب إضلالهم حيث اتخذ لهم العجل، ودعاهم إلى عبادته،

وقال: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى}، فأضاف الإضلال إليه؛ لما ذكرنا من دعائه إليه والسبب الذي كان منه، وإلا لم يكن لأحد إضلال أحد، وأضاف الافتتان إلى نفسه؛ لما ذكرنا من جعل العجل جسداني من لحم ودم وروحاني.

فَإِنْ قِيلَ: ما معنى إجراء ما أجرى على يدي السامري مع ضلالة من الآية؟

قيل: هو - واللّه أعلم - أنه لو ادعى لنفسه الرسالة، لكان لا يتهيأ له ذلك، لكنه إنما ادعى أنه إله وآثار العبودية فيه ظاهرة قائمة يعرف كل أحد أنه ليس بإله، وأما الرسالة فإنه يجوز أن تشتبه على الناس وتلتبس عليهم، فيمنع اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - من ليس برسول إذا ادعى الرسالة إقامة دلالة الرسالة لاشتباهها على الناس، وأما الألوهية فلا يمنع عن إجراء ذلك؛ لأن آثار العبودة وأعلام العجز فيها ظاهرة يعرفها كل أحد.

وهكذا من أتى أهل قرية لم يبلغهم هذا القرآن فقرأ هذا القرآن

وقال: إني رسول اللّه إليكم لم يقدره اللّه على قراءته، ولو ادعى الربوبية لم يمنع؛ لأن آثار العجز عن إتيان

 مثله ظاهرة وفي الرسالة لا؛ لذلك افترقا، واللّه أعلم.

٨٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦)

والأسف: هو النهاية في الغضب، والنهاية في الحزن، وهكذا جبل اللّه رسله وأنشأهم على نهاية الغضب للّه والأسف له عند معاينتهم الخلاف للّه والتكذيب له؛ كقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ. . .} الآية،

وقوله: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا}.

على تأويل الحسن: وعدًا حسنا، هو الثواب الذي وعد لهم بالدِّين والسبيل.

{قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي}، أي: على ديني وسبيلي.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَعْدًا حَسَنًا} أي: عدلا وصدقا؛ حيث وعد لهم أنه يرجع إليهم عند رأس أربعين أو ثلاثين ليلة، على ما ذكر - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ} على تأويل الحسن: أفطال عليكم عهد ما وعد لكم من دون الثواب والجزاء على دينه وسبيله حتى نسيتم ذلك.

وعلى تأويل من قال: إن الوعد هو ما وعد أنه يرجع إليهم على رأس كذا يقول: أفطال عليكم ومضى وعدي حتى فعلتم ما فعلتم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ}.

أي: أم تعمدتم الخلاف فيحل عليكم غضب من ربكم.

{فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي} يحتمل الموعد الوجهين اللذين ذكرناهما فيما مضى.

٨٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا ... (٨٧) برفع الميم وكسره: فمن قرأه بمُلْكِنَا برفع الميم، أي: بسلطاننا وطاقتنا، أي: لم نفعل بسلطاننا وطاقتنا.

ومن قرأه: {بِمِلْكِنَا} بكسر الميم أي: بما ملكت أيدينا.

وقال الكسائي: من قرأ {بِمُلْكِنَا}، معناه: بسلطاننا، ومن قرأه: {بِمَلْكِنَا} بكسر الميم ونصبه معناهما: وهو ما ملكت أيدينا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ}.

قيل: أثقالا من زينة القوِمِ، أي: من حلى القبط.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَقَذَفْنَاهَا}، أي: قذفنا ما حملنا من حليهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ}.

أي: كذلك قذف ما حمل السامري من حليهم.

 وجائز أن يكون قوله: {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} ما أخذ من قبضته من أثر الرسول؛ كقوله: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (٨٨)

أي: عجلا جسده جسد عجل، وليس هو بعجل في الحقيقة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: عجلا جسدًا لا يتعيش كما يتعيش العجل المولود من البقر، والأول أشبه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ}.

هذا القول إنما قاله السامري.

وقوله: {فَنَسِيَ}

قَالَ بَعْضُهُمْ: نسي السامري حيث قال لهم: هذا إلهكم فنسي هذا القول، فيكون النسيان على هذا التأويل التضييع والترك؛ كأنه قال: ضيع السامري بعد ما علم وعرف رب العالمين ونسب الألوهية إلى العجل.

وقَالَ بَعْضُهُمْ؛ إن السامري لما قال: هذا إلهكم وإله موسى، لكن موسى نسي هذا حيث خرج في طلب غيره، ولا يحتمل أن يقبلوا هذا القول منه، ويجعلوا العجل الذي اتخذه السامري إلها، وقد علموا أنه إنما اتخذه من حلي حملوه من القبط، لكنه كان في عقدهم أنه يجوز اتخاذ إله دون إله رب العالمين والعبادة له؛ رجاء أن تقرب عبادتهم تلك الآلهة إلى اللّه، وعلى هذا كانوا يعبدون الأصنام دون اللّه؛ كقولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى}، و {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّه}، وكذلك قالوا: {يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}، وكذلك ما اتخذ لهم فرعون من آلهة عبدوها دونه، وإلا لم يحتمل أن يقع عندهم أن رب العالمين هو ذلك العجل، لكنه ما ذكرنا أنهم كانوا يستجيزون في اعتقادهم عبادة من دونه، فقال عند ذلك ورد عليهم اعتقادهم

٨٩

 فقال: (أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (٨٩) أي: ألا يرون أن لا إذن في عبادة من يرجع إليه القول ويملك النفع والضر وهو البشر، فكيف أذن في عبادة من لا يملك شيئًا من ذلك، واللّه أعلم.

٩٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠)

يذكر - واللّه أعلم - بهذا رسوله: أن الذين كذبوك وجحدوا رسالتك لم يكذبوك لجهلهم بالرسالة، ولكن لتعنتهم وعنادهم على ما ذكروا نبأه من قول هارون لقومه لما عبدوا العجل حيث قال: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ} فكأنه يؤيسه عن إيمان أُولَئِكَ لعنادهم، وهو ما قال: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللّه}.

وقوله: {إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ} يحتمل وجهين:

أحدهما: {فُتِنْتُمْ}، أي: صرتم مفتونين بالعجل بصوته وخواره أو بغيره.

والثاني: {فُتِنْتُمْ} أي: ضللتم به، أي: بالعجل وإن ربكم الرحمن.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَاتَّبِعُونِي}، أي: أجيبوا لي إلى ما أدعوكم به {وَأَطِيعُوا أَمْرِي}، أي: ما آمركم به.

٩١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (٩١)

قَالَ بَعْضُهُمْ: {لَنْ نَبْرَحَ}، أي: لن نزال على عبادة العجل مقيمين حتى يرجع إلينا موسى.

٩٢

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {لَنْ نَبْرَحَ}، أي: لن نفارق عبادته، ثم قال موسى: (يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢)

هذا يدل أن قول هارون لهم: {إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ} أراد به: الضلال؛ حيث قال له موسى: (إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢)

٩٣

أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) يحتمل {أَلَّا تَتَّبِعَنِ}، أي: ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا صرت إلى ما كنت صرت أنا؟ وقد علمت إلى أين صرت أنا، أو أن يكون قوله: {أَلَّا تَتَّبِعَنِ}، أي: ألا تتبع ديني وسنتي وكانت سنته ومذهبه القتال والحرب معهم إذا ضلوا وتركوا دين اللّه.

٩٤

فاعتذر إليه هارون فقال: (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤)

هذا أيضًا يخرج على وجهين:

أحدهما: أني خشيت إن اتبعتك وصرت إلى ما صرت أنت تقول لي: {فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}؛ لأنك لو نهيتهم عما اختاروا من عبادة العجل وبينت لهم السبيل لعلهم

 يتبعونك، فحيث لم تفعل فأنت الذي فرقت بينهم.

والثاني: على تأويل القتال والحرب في قوله: {أَلَّا تَتَّبِعَنِ} إني خشيت لو فاتلتهم ونصبت الحرب بينهم صاروا فريقين، فإذا تفرقوا اقتتلوا وسفكوا الدماء وتفانوا، فترك القتال لما أطمعوه الإيمان إذا رجع إليهم موسى ونهاهم عن ذلك، فلعل سنته في القتال مع من لم يطمع منه الإيمان، هذا على تأويل من يقول بأن هارون اعتزلهم لما عبدوا العجل مع عشرة آلاف نفر وأكثر أو أقل على ما ذكر.

وأما الحسن فإنه يقول: كلهم قد عبدوا العجل إلا هارون، فعلى قوله لا يحتمل الحرب والقتال معهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}.

قيل: هو ما قال: {وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}، ودل قوله: {لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي} بأن كان له الشعر، فكنى بالرأس عن الشعر.

٩٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ}.

قال الحسن: ما حجتك يا سامري على ما فعلت؟ ولا حجة كانت له قط.

وقال غيره: {فَمَا خَطْبُكَ} ما شأنك وما أمرك، والخطب هو الشأن والأمر في اللغة.

وتأويله - واللّه أعلم -: فما شأنك؟ أي: ما الذي حملك على صنيعك الذي صنعت؟

٩٦

ثم قوله: (بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ ... (٩٦) بالياء والتاء جميعًا، ثم بين ما الذي بصر هو ما لم يبصروا هم؟ فقال: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا}، أما عامة أهل التأويل: فإنهم يقولون: إنه قبض قبضة من تراب من أثر فرس جبريل فنبذتها، وليس في الآية ذكر التراب ولا ذكر الفرس، ولا أن ذلك الرسول جبريل أو غيره.

 ويشبه أن يكون الذي قبضه هو تراب من أثر الفرس، على ما قاله أهل التأويل، وقد ذكر في حرف أبي: (فقبضت قبضة من أثر فرس الرسول)، فإن ثبت ما قالوا، وإلا لم نزد على ما ذكر في الكتاب من هذه الأنباء والقصص التي كانت في كتبهم، فذكرت في القرآن؛ ليحتج بها رسول اللّه على أُولَئِكَ؛ ليعرفوا أنه إنما عرف باللّه تعالى، فلو زيد أو نقص عما في كتبهم، لذهب موضع الاحتجاج عليهم، بل يوجب ذلك شبه الكذب عليهم؛ لذلك وجب حفظ ما حكى في الكتاب من الأنباء والأخبار من غير زيادة ولا نقصان مخافة الكذب، إلا إن ثبت شيء يذكر عن رسول اللّه أنه كان، فعند ذلك يقال، وإلا الكف أولى لما ذكرناه.

وفي قراءة الحسن وقتادة: (فقبصت قبصة) بالصاد، والقبصة: هو الأخذ بأطراف الأصابع، والقبضة: هو بالكف؛ فلا يحتمل أن يصح الحرفان جميعًا؛ لأن الأخذ بأطراف الأصابع دون الكف فهو خبر يخبر عما في كتبهم، فإما أن يكون ذا أو ذا؟ فأما أن يكونا جميعًا فلا يحتمل، إلا أن يقال: إنه أخذه بأطراف الأصابع، ثم رده إلى الكف؛ فحينئذ يكون، أو أن يكون ثَمَّ مرتان، واللّه أعلم.

وقوله: {وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي}.

هذا يحتمل وجهين:

أحدهما: أي: كذلك سولت لي نفسي أنك متى تأخذ قبضة من أثر الرسول فنبذتها في الحلي يحيا.

أو أن يكون سولت له نفسه على ما كان عادتهم وطبيعتهم أنهم لا يعبدون ما لا يرونه ولا يقع بصرهم عليه؛ حيث قالوا: {يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} وكقولهم: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللّه جَهْرَةً}، فقال: سولت لي نفسي أن أتخذ لهم عجلا يرونه فيعبدونه.

أو سولت لي نفسي أن في قبضة أثر الرسول بناءً عظيمًا.

أو قال ذلك اعتذارًا لجميع ما كان منه من أول الأمر إلى آخر أمره، واللّه أعلم.

٩٧

وقوله تعالى: (فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ ... (٩٧)

قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: لا تزال تقول: لا مساس، لا تقول غيره؛ عقوبة له وجزاء لصنيعه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: أن تقول: لا مساس لم تمسني، ولا أمسك، أي: لا تمسني أبدًا،

أخرجه من بين أظهرهم؛ لما علم موسى منه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ}.

يحتمل: أن لك موعدا لعذابك لن تخلفه، يحتمل ذلك في الدنيا والآخرة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا}.

قوله: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ} الذي تزعم أنه إله، لا أن موسى سمى ذلك، وهو كما قال: {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ}، التي في زعمهم آلهة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} فقوله: {ظَلْتَ} يقال بالنهار، وفي الليل يقال: بات.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا}.

وفي هذا إثبات آية لموسى؛ حيث قال: {لَنُحَرِّقَنَّهُ}، والعجل الذي هو من لحم ودم ليس من طبع النار إحراقه، وكذلك الحلي والذهب والفضة ليس من طبع النار إحراقهما حتى تصير رمادًا، ولكن من طبعهما الإذابة، ثم أخبر أنه محرقه، فدل أنه آية.

وفي قوله: {لَنُحَرِّقَنَّهُ} لغتان: {لَنُحَرِّقَنَّهُ} بالتشديد وبرفع النون وهو التحريق بالنار، و {لَنَحْرُقَنَّه} بنصب النون وهو القطع بالمبرد.

وقال أبو معاذ: فمن قرأه {لَنَحْرُقَنَّه} بنصب النون، فقد كان العجل من الحلي فلم يقدر على تحريقه بالنار فحرق بالمبرد.

ومن قرأه: {لَنُحَرِّقَنَّهُ} برفع النون والتشديد يقول: كان لحمًا ودمًا فأحرق بالنار صار رمادًا ثم نسف في اليم.

قال أبو معاذ: يا سُبْحَانَ اللّه، إن كنت أحرقته بالنار فما حاجتك إلى المبرد، لكن أراد مقاتل أن يجمع القراءتين والتأويلين في قراءة واحدة.

لكنه عندنا لا يجوز أن يكون العجل من لحم ودم في إحدى القراءتين وفي الأخرى من الحلي لا لحم فيه ولا دم، وتكون القراءتان جميعًا منزلتين.

وما قاله مقاتل: إنه حرق بالنار ثم حرق بالمبرد حسن؛ لأن النار لا تحرق العجل إذا كان لحمًا ودما، ولكنها تذيبه، فأبرد بالمبرد، فعند ذلك نسف في اليم.

قال أبو معاذ: تقول العرب: نسفت البرد أنسفته نسفًا: إذا أخرجت المنسفة فطيرت غباره، ويقال في المشي: ما زلنا ننسف يومنا كله نسفا، أي: نمشي.

 وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: {لَنَنْسِفَنَّهُ}، أي: لنرمين به نسفًا، أي: رميا، والنسف: القلع من الأصل، وصرفه: نسف ينسفه نسفًا.

وقال: {لَن نَبْرَحَ}، أي: لن نزال.

قوله تعالى: {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} يقال: بصرت وأبصرت، بصر يبصر بصرًا.

وقبصت قبصة، والقبص بأطراف الأصابع.

وقال: {لَا مِسَاسَ} أي: لا يمسك أحد ولا يؤذيك.

وقال: " ظلت عليه " لغة سوء، وإنما هو: ظلت، وظَلِلْتَ.

وروى في حرف ابن مسعود: (بصرت بما لم يبصروا به إذ جاء الرسول فقبضت قبضة فألقيتها)، وفي حرف حفصة: (إذ مَرَّ الرسول)، وفي حرف أبي بن كعب: (إن لك في الحياة أن لا مساس)، ليس فيه {أَن تقُولَ}، وفي حرف حفصة: (إن لك في الحياة الدنيا أن تقول لا مساس).

وقَالَ بَعْضُهُمْ: تأويله: لا تخالط الناس ولا يخالطونك.

قال أبو معاذ: المساس: مصدر ماسه مماسا ومماسة، كما يقال: ضاره ضرارًا ومضارة، وساره سرارا ومسارة، ومن قرأه: {لَا مِسَاسَ} كان كقولك: نزال ودراك.

وفي حرف ابن مسعود وأُبي: (وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا وانظر كيف يفعل بإلهك الذي ظلت).

وقوله: {سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي}

قَالَ بَعْضُهُمْ: شجعت، وظاهره: زينت لي نفسي.

وقيل: سُمي السامري: سامريًّا؛ لأنه كان من قبيلة يقال لها: السامرة.

وقول هارون لموسى: {يَبْنَؤُمَّ} وكان أخاه لأبيه وأمه، قيل: أراد بذلك أن يرفقه عليه فتركه.

٩٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللّه الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (٩٨)

جائز أن يكون موسى لما أحرق العجل ونسفه في البحر قال عند ذلك: إنما إلهكم اللّه الذي تعرفونه لا إله إلا هو وسع كل شيء علما، لا يعزب عنه شيء ولا يخفى عليه شيء، فيشبه أن يكون موسى ذكر هذا لهم لما أضمروا هم وأسروا حب العجل في قلوبهم، على ما أخبر اللّه عنهم بقوله: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ}، فقال لهم: {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} يعلم ما تسرون وما تظهرون.

 أو أن يكون لا يعلمون أنه يعلم ما يسرون وما يضمرون وما يغيب عن الخلق ويكون عندهم كملوك الأرض يعلمون الظاهر من الأمور الحاضرة منها ولا يعلمون الغائب، فأخبر أنه عَزَّ وَجَلَّ يعلم الظاهر والباطن والسر والعلانية والحاضرة والغائبة، واللّه أعلم.

٩٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ}.

أي: هكذا نقص عليك من أنباء ما قد سبق؛ ليكون آية لرسالتك ونبوتك.

أو أن يقول: كما قصصنا عليك هذا النبأ كذلك نقص عليك سائر النبأ، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا}.

قال أهل التأويل: الذكر هاهنا: القرآن، وهو الظاهر؛ ألا ترى أنه قال على أثره: من أعرض عنه فإنه كذا، وجائز أن يكون قوله: {آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا} أي: شرفا وذكرا، يذكر هو بعده أبدًا، ومن اتبعه وأجابه إلى ما دعاه يصير مذكورًا به.

١٠٠

وقوله: (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (١٠٠)

والوزر: الحمل، وسميت، الآثام: حملا؛ لأن الآثام تنقض ظهور أصحابها في النار وتكسرها؛ كالحمل في الدنيا ينقض ظهر صاحبه ويكسره، وهو ما ذكر: (وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣).

١٠١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَالِدِينَ فِيهِ ... (١٠١) أي: في ذلك الوزر، أي: لن تقارقهم أوزارهم أبد الآبدين.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا}.

حمل السوء، حمل يورد صاحبه النار، بئس الحمل حمل يورد صاحبه النار، ويقال: بئسما حملوا على أنفسهم من الأعمال.

وقوله: {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا} يحتمل الإعراض عنه وجهين:

أحدهما: {أَعْرَضَ عَنْهُ}، أي: كفر به وكذبه ولم يلتفت إليه.

والثاني: {أَعْرَضَ عَنْهُ}، أي: لم يعمل بما فيه، ومن لم يعمل من المسلمين بما فيه

 يخاف أن يكون في وعيد هذه الآية.

١٠٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (١٠٢) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (١٠٣)

قيل: يتسارون بينهم ويتكلمون فيما بينهم كلاما خفيا {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا} مثل هذا الكلام، إنما يقولون تلهفا وتحزنا على ما كان منهم في وقت قليل؛ لاستقلالهم واستصغارهم الدنيا، يقولون: كيف كان منا كل هذا العمل في ذلك الوقت القليل؟!

ثم اختلفوا في ذلك اللبث الذي قالوا ذلك؛

قَالَ بَعْضُهُمْ: في الدنيا، استقلوا مقام الدنيا؛ لما عاينوا الآخرة،

وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذلك في القبور، ويستدل من ينكر عذاب القبر بهذه الآية، يقول: لأنهم استقلوا مقامهم في القبور، ولو كان لهم عذاب في ذلك لاستعظموا ذلك واستكثروا؛ لأن قليل اللبث في العذاب يستعظم ويستكثر لا يستقل ولا يستحقر، فلما استقلوا ذلك، دل أنهم لا يعذبون في القبور.

واستدلوا أيضًا لنفي العذاب فيه بقوله: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا}.

ومن يقول بعذاب القبر يزعم أن ذلك إنما قالوا في القبر يقول: ذلك بين النفختين، يقول: هم يعذبون ويكونون في العذاب إلى النفخة الأولى، ثم يرفع عنهم العذاب إلى النفخة الثانية، عند ذلك يرقدون فيستصغرون مقامهم للنوم، وقد يستصغر الوقت الطويل ويستقل في حال النوم على ما ذكر في قصة أصحاب الكهف حين قالوا: {لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}، وهم قد ناموا ثلاثمائة سنة وزيادة.

وجائز أن يكون عذاب القبر عذاب عرض وعذاب الآخرة عذاب عين؛ كقوله: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا}، فاستصغروا عذاب العرض واستقلوه عند معاينة عذاب العين.

ومن يقول ذلك في الدنيا، يقول: تحاقرت الدنيا في أعينهم ومقامهم فيها حين عاينوا الآخرة وأهوالها.

١٠٤

وقوله تعالى: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (١٠٤)

قوله: {أَمْثَلُهُمْ} قيل: أعقلهم، وقيل: أفضلهم {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} من كان أبصر وأعلم بأمور الآخرة وأهوالها، كان أكثر استخفافا بالدنيا واستحقارًا لها.

 وفي حرف ابن مسعود: (نحن أعلم بما يقولون إذ عيل عليهم إذ يقول أمثلهم طريقة) قال أبو معاذ: قوله: (عيل عليهم) أي: اشتبه وخفي وفاتهم علمه،

وقال: ومنه يقول: عالت الفريضة تعول عولا: إذا جاوزت السهام فأشكل على الفارض واشتبه، ومنه قيل: عيل صبري.

١٠٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا}.

يشبه أن يكون سؤالهم عن أحوال الجبال في ذلك اليوم لما بين أحوال الناس في الساعة بقوله: (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ. . .) الآية، وكقوله: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى. . .} الآية، وصف لهم أحوال الخلق في ذلك اليوم، ولم يصف أحوال الجبال والأرض، فعند ذلك سألوه عن أحوال الجبال، فأمر رسوله أن يخبرهم بما ذكر أنه {يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا}، وما ذكر أيضًا في آية أخرى: {هَبَاءً مَنْثُورًا}، قوله تعالى: {كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ}، {كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ}، ونحوه، فجائز أن يكون ذلك على اختلاف الأحوال، وقد ذكرناه فيما تقدم.

١٠٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (١٠٦) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (١٠٧)

قَالَ بَعْضُهُمْ: {قَاعًا صَفْصَفًا} أي: مستوية، والقاع والصفصف واحد.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هي الأرض الملساء التي لا نبات فيها ولا زرع.

١٠٧

وقوله: (لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (١٠٧) قيل: لا واديا ولا أمتا ولا رابية.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: العوج: الارتفاع، والأمت: الهبوط.

 

وقَالَ بَعْضُهُمْ: العوج: أَحْناء الأودية، والأمت: التلال.

وقيل: لا انخفاضا ولا ارتفاعًا، والقاع الصفصف: هو تفسير {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا}، و {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} تفسير قوله: {قَاعًا صَفْصَفًا}.

١٠٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (١٠٨) لا خلاف له، ليس كالداعي في الدنيا منهم من يطيعه ويجيبه ومنهم من لا يطيعه ولا يجيبه، فأخبر أنهم في الآخرة يجيبون الداعي في أي حال كانوا لا يخالفونه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ}: لا تخشع، لكن تنخفض وتلين عند خوف أهلها، وترتفع عند الأمن.

أو أن يكون خشوع الأصوات كناية عنهم، أي يخشعون ويذلون لشدة فزعهم لأهوال ذلك اليوم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا}.

قيل: الهمس: الكلام الخفي الذي لا يكاد يسمعه.

وقيل: رفع الأقدام ونقلها وهو تحريكها.

قال أَبُو عَوْسَجَةَ: {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ} أي: أخفى صوته.

وقوله: {أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً} أي: أفضلهم.

فأما {قَاعًا صَفْصَفًا}، قال: القاع: الأرض الصلبة التي لا شيء فيها، والصفصف: المستوية، والصفاصف جمع، والقيعان: جمع القاع، و {عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} والأمت: هو العوج وهو التل.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ}، أي: سكنت {فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا}، والهمس: الخفى.

١٠٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (١٠٩) هذا يحتمل وجهين:

أحدهما: لا تنفع الشفاعة، ليس أن يكون لهم الشفاعة فلا تنفع، ولكن لا شافع لهم إلا من أذن له الرحمن بالشفاعة أنه لا أحد يتكلم يومئذ إلا بإذنه، فضلا أن يؤذن لأحد

 بالشفاعة؛ كقوله: {لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ}، يقول: الشفاعة أنه لا أحد يتكلم يومئذ إلا بإذنه فضلا،

وقال: صوابا.

والثاني: لا تنفع الشفاعة إلا من وفق له بما يستوجب الشفاعة له ورضي له قولا وسأله ذلك، وهو قول الشهادة والتوحيد.

فيرجع أحد التأويلين إلى الشفعاء: أنه لا أحد يشفع لأحد إلا بإذنه ورضاه بالقول: قول الشفاعة، والثاني: يرجع إلى المشفوع له: أنه لا أحد يستوجب شفاعة إلا من وفق له الرحمن في الدنيا بالتوحيد وشهادة الإخلاص، واللّه أعلم.

١١٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (١١٠)

يحتمل قوله: {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} قبل أن يخلقوا، {وَمَا خَلْفَهُمْ} بعد ما خلقوا وكانوا.

أو أن يكون قوله: {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ}: ما قدموا من الأعمال، {وَمَا خَلْفَهُمْ}: من بعدهم.

أو أن يكون قوله: {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} كناية عن الخيرات، أي: لا يعلم ما يعملون من الخيرات، {وَمَا خَلْفَهُمْ} من الشرور، وما نبذوا وراء ظهورهم.

وجائز أن يكون المراد من البين والخلف: الأحوال كلها، أي: عالم بجميع أحوالهم وبكل شيء يكون منهم، وهو كقوله: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}، أي: لا يأتيه الباطل ألبتَّة؛ لأنه ليس للقرآن بين ولا خلف، ولكن المراد ما ذكرنا، فعلى ذلك الأول.

وجائز أن يكون المراد منه: ليس البين ولا الخلف، ولكن إخبار عن إحاطة علمه بهم، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا}.

هذا يحتمل وجهين:

لا يحيطون باللّه علما، ولكن إنما يعرفونه على ما تشهد لهم الشواهد من خلقه؛ لأن الخلق إنما يعرفون ربهم من جهة ما يشهد ويدل لهم من الدلالات من خلقه، والإحاطة بالشيء إنما تكون فيما كان سبيل معرفته الحس والمشاهدات، فأما ما كان سبيل معرفته الاستدلال فإنه لا يحاط به العلم.

والثاني: لا يحيطون به علما، أي: بعلمه؛ كقوله: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ}؛ وكقوله: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (٢٦) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى

 مِنْ رَسُولٍ. . .) الآية.

١١١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (١١١)

قيل: {عَنَتِ}: ذلت وخضعت الوجوه.

وجائز أن يكون ذكر الوجوه، كناية عن أنفسهم؛ لما بالوجوه يظهر الذلة والخضوع، فكنى بها عنهم.

فإن كان ما أخبر من خضوعهم وذلهم في الآخرة، فهو على ما أخبر من خضوع الخلائق له في الآخرة.

وإن كان بعضهم يتكبر في الدنيا، وإن كان في الدنيا فهو على خضوع الخلقة له خضعت خلقة الخلائق كلهم له.

وقوله: {لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} قد ذكرنا تأويل الحي القيوم فيما تقدم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا}.

أي: قد خاب من حمل الشرك، والظلم هاهنا الشرك، وقد خاب من حمل ما ذكر من الحمل والوزر، وهو ما ذكر في قوله: (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (١٠٠) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًاأي: خاب من حمل ذلك الحمل، واللّه أعلم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: في قوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} من أمر الآخرة، {وَمَا خَلْفَهُمْ} من أمر الدنيا، {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ} يعني: ألا يحيط، الملائكة به {عِلْمًا}، يقول: هم لا يعلمون من كلامه إلا ما علمهم إياه، فإن كان هذا في الملائكة خاصة، فإنه لا يحتمل ما ذكرنا من التأويل في قوله: {وَمَا خَلْفَهُمْ} من الشرور وما نبذوه وراء ظهورهم؛ لأنهم مطيعون للّه لا يعصونه طرفة عين، ويحتمل غيره من التأويلات التي ذكرنا، واللّه أعلم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: في قوله: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ}: في الشفاعة، {وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا}: قول: لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه، مسلمًا في الدنيا مؤمنا حقا، فذلك الذي رضي، والشفاعة تحل لهم، فأما غيرهم فلا يشفع لهم، وهو ما ذكرنا فيما تقدم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} أي: عملت الوجوه للحي القيوم، قالوا: وتأويل {عَنَتِ} العمل، أي: خضعت له بالعمل الصالح في الدنيا، على ما ذكر

 بعضهم من الركوع والسجود وغيره، وهو في المؤمنين خاصة ليس أن يكون تأويل قوله: {وَعَنَتِ} أي: عملت حقيقة، ولكن من الوجه الذي ذكرنا.

وإن كان التأويل في الآخرة فهو في الفريقين جميعًا يذلون له جميعًا ويخضعون في الآخرة، وإن كان من بعضهم التكبر في الدنيا.

١١٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (١١٢)

فيه دلالة أنه قد يستحق اسم الإيمان بدون الأعمال الصالحات؛ حيث قال: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ}.

وفيه أن الإيمان شرط في قبول الطاعات وجعلها طاعة للّه؛ حيث شرط الإيمان فيه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا}.

الظلم هاهنا على مذهبنا: النقصان، لا ظلم الجور؛ لأن الثواب على الأعمال بحق الإفضال لا بحق العدل، فإذا كان على هذا فيخرج قوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ} أن ينقص من حسناته شيئًا أو يزيد في سيئاته شيئًا، ويجوز في اللغة ذكر الظلم على إرادة النقصان؛ كقوله في ذكر الجنتين: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا}، والجنة لا توصف بالظلم الذي هو ظلم جور؛ فدل أنه أراد بالظلم هاهنا النقصان، أي: لم تنقص، بل أتت بثمارها وافية وافرة.

وإن كان على الظلم الذي هو ظلم الجور فهو على النهي، أي: لا تخف منه الظلم والجور.

١١٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا}.

أي: كما ذكرنا: أن من يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما، كذلك أنزلناه في القرآن العربى.

{وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}.

حرف (لعل) في جميع ما ذكر في القرآن يحتمل وجهين:

أحدهما: على الوعد أنهم يتقون فهو على الإيجاب.

 والثاني: لعلهم يتقون، أي: ألزمهم أن يتقوا بما صرف من الوعيد.

وإن كان على الوعد والإيجاب منه فهو لمن علم أنهم يتقون.

وإن كان على الإلزام - أي: ألزمهم - فهو في الكل.

ثم إن كان على الوعد فيخرج قوله: {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا}، فيكون كقوله: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}، إذا تذكر خشي، وإذا خشي تذكر؛ فعلى ذلك إذا اتقى فقد أحدث له الذكر، وإذا أحدث له الذكر اتقى، وإن كان ألزمهم أن يتقوا فهو على أو ثم.

ثم

قَالَ بَعْضُهُمْ: {ذِكْرًا}، أي: عذابًا.

١١٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَتَعَالَى اللّه الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (١١٤)

مثل هذا إنما يذكر على نوازل كانت إما قولا أو فعلا، يقال: فتعالى اللّه عن ذلك، لكن لم يذكر النوازل، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ}.

يحتمل ما قاله أهل التأويل أن جبريل كان إذا أتاه بالسورة وبالآي فيتلوها عليه، فلا يفرغ جبريل من التلاوة حتى يتكلم رسول اللّه بأولها؛ مخافة أن ينساها؛ فأنزل اللّه: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ} فتمْرأه من قبل أن يفرغ من تلاوته عليك، وقد أمنه عن النسيان بقوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى. . .} الآية، وكذلك: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} الآية. ثم أمره عَزَّ وَجَلَّ أن يسأله أن يزيد له علما.

ويحتمل أن يكون قوله: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ}.

أي: لا تعجل بما ذكر من الوعيد لهم في القرآن من قبل أن يأتي وقته؛ كقوله: {فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا}.

وقوله: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} جائز ما قال أهل التأويل: إنه كان يتلو مع تلاوة جبريل، فقال له: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ}، إن ثبت عنه أنه كان يتلو مع تلاوة جبريل.

وجائز النهي من غير أن كان منه ما ذكر - واللّه أعلم - على ما نهى عن أشياء من غير أن كان منه ذلك.

١١٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (١١٥)

قال الحسن وعامة أهل التأويل: إن قوله " {فَنَسِيَ}، أي: ضيع وترك، ليس نسيان السهو؛ لأنه عوتب عليه وعوقب به، ولا يعاتب المرء على ما هو حقيقة السهو والنسيان؛ فدل أنه على التضييع والترك، ليس على النسيان والسهو، إلى هذا يذهب هَؤُلَاءِ، لكن يقبح هذا أن يقال في آدم، أو في نبي من أنبيائه، أو في رسول من رسله - صلوات اللّه عليهم -: إنه ضيع، والنسيان عندنا على قسمين:

نسيان يكون عن غفلة منه وشغل، ما لولا ذلك الشغل منه والغفلة، لحفظه وذكره ولا ينساه، وجائز المعاتبة على هذا النسيان؛ إذ لو كان تكلف لكان لا ينساه ولا يقع فيه.

ونسيان آخر يقع فيه من غير سبب كان منه لا يملك دفعه، وذلك نسيان ما لا يعاتب عليه ولا يعاقب به، وهكذا الكلفة من اللّه تعالى والمحنة: أنه جائز أن يكلف ويمتحن من لا يعلم ولا يعقل الكلفة وقت تكليفه إياه بعد أن يحتمل عقله إدراك ذلك لو استعمله، فأما من كان عقله لا يحتمل إدراك ما كلفه وإن استعمله وأجهد نفسه فيه، فإنه لا يكلف ألبتَّة؛ فعلى ذلك النسيان الذي ذكر من آدم جائز أنه لو تكلف، حفظه وذكره؛ فإنما عوتب لذلك، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}.

قال الحسن: أي: منعًا من الشيطان.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: حفظا لم يحفظ أمره.

 

وقَالَ بَعْضُهُمْ: صبرًا، ونحوه.

والعزم: حقيقة القصد والقطع على الشيء، وهو ضد النسيان الذي ذكر.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: العزم: هو المحافظة على أمر اللّه والتمسك به.

١١٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (١١٦)

أي:

قَالَ بَعْضُهُمْ: لولا قول أهل التأويل في سجود الملائكة لآدم إلى حقيقة السجود، وإلا جائز أن يصرف الأمر بالسجود إلى الخضوع له، والسجود: هو الخضوع؛ حيث قال: {يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ}، وقد يؤمر الإنسان بالخضوع لمن يتعلم منه العلم.

١١٧

وقوله تعالى: (فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (١١٧)

قال أهل التأويل: ليس شقاء الدِّين، ولكن تعب النفس والنصب في العمل.

١١٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (١١٨)

١١٩

 وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (١١٩)

أي: لا تصيبك الشمس.

١٢٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (١٢٠)

أي: لا يفنى.

١٢١

قوله تعالى: (فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ... (١٢١) قد ذكرنا هذا فيما تقدم.

قال أَبُو عَوْسَجَةَ: قوله: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ}، أي: ذلت، يقال: عنا يعنو عنوا،

وقال: {وَلَا هَضْمًا}، أي: ظلما، يقال: هضمته، أي: ظلمته، وأهضمته مثله.

وقال أبو عبيدة: الهضم: النقصان،

وقال: {قَاعًا صَفْصَفًا}: القاع: الأرض التي يعلوها الماء، وهو قريب مما ذكرنا، واللّه أعلم.

وقوله - تعالى -: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}.

كل من عصى ربه فقد غوى، العصيان والغواية واحد.

١٢٢

وقوله: (ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (١٢٢)

 قوله: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ} يحتمل وجوها:

أحدها: اجتباه للتوبة وهداه لها.

أو اجتباه ربه للرسالة وهداه لها.

أو اجتباه ربه للدِّين وهداه للتوحيد، وهذا جائز عندنا، للتوحيد والإيمان حكم التجدد والحدوث في كل وقت وكل ساعة؛ لأنه مأمور بترك الكفر ونفيه في كل وقت، فإذا كان مأمورًا بترك الكفر في كل وقت منهيا عنه كان مأمورًا بالإيمان والتوحيد، فإذا كان ما ذكرنا دل أن للإيمان والتوحيد حكم التجدد والحدوث في كل وقت، وإلا ظاهر قوله: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ}: أنه لم يكن يجتبيه قبل ذلك فاجتباه من بعد، لكن الوجه ما ذكرنا من اجتبائه إياه للرسالة، واجتبائه للتوحيد والطاعات والخيرات ونحوه، واللّه أعلم.

١٢٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (١٢٣)

قال الحسن: قوله: {اهْبِطَا} أي: آدم والشيطان، {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}، يعني: ذرية آدم وذرية إبليس بعضهم لبعض عدو.

وقال فيما قال: {اهْبِطُوا}، عنى: آدم وحواء وإبليس، والهبوط: ليس هو الانحدار والتسفل من المكان العالي المرتفع، إنما هو النزول في المكان، فجائز أن يكون قوله: {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}، أراد ذريتهما: ذرية آدم وذرية إبليس، وعلى ذلك يخرج قوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} يعني: الذرية، {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} وقت اتباعه الهدى، أو لا يضل ولا يشقى إذا ختم بالهدى، أو لا يضل طريق الجنة ولا يشقى في النار، واللّه أعلم.

١٢٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ... (١٢٤) هو الشدة والضيق، ثم اختلفوا فيه.

قَالَ بَعْضُهُمْ: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} في الدنيا، وإن كانت في الظاهر واسعة عليه؛ لأنهم ينفقون ولا يرون لنفقتهم خلفا ولا عاقبة، ويريدون الدنيا أنها تدوم، فذلك يمنعهم عن التوسيع في الإنفاق؛ خوفًا لنفاد ذلك المال وبقاء أنفسهم؛ لما ذكرنا أنهم لا يرون لنفقتهم خلفا ولا عوضًا ولا عاقبة لها، فذلك الضنك.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا}؛ لأنهم يعصون بما أعطوا من المال وأنعموا فيه؛ لأن توسعهم يكون في معصية، فنفى عنهم الانتفاع به كما نفى عنهم السمع والبصر

 واللسان باستعمالهم هذه الجوارح في المعصية على قيامها؛ لما ذهبت منافعها في الطاعة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} في عذاب القبر، لكن لا يقال لمن في القبر: إن له معيشة ضنكا حتى يوصف بالضيق، وعذاب القبر سبيل معرفته السمع، فإن ثبت السمع وإلا فالترك أولى.

وقال قائلون: ذلك في الآخرة - واللّه أعلم - كقوله: {مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: نحشره أعمى عن حججه في دينه، لكن متى كانت له الحجج في الدنيا حتى يعمى عنها في الآخرة؟!

وقَالَ بَعْضُهُمْ: نحشره يوم القيامة أعمى: عمى الحقيقة؛ كقوله: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا}، فهو على حقيقة عمى البصر، وهو أشبه، واللّه أعلم.

١٢٤

وقال مجاهد: قوله: (رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى (١٢٥) قال: بلا حجة لي، {وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} في الدنيا لكن الأشبه هو ما ذكرنا من حقيقة ذهاب البصر؛ إذ لم يكن للكافر حجة في الدنيا حتى يقول: {وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا}.

ثم اختلف فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: ذلك بعد ما حوسبوا وسيقوا إلى النار - نعوذ باللّه من النار - فعند ذلك يعمى عليه البصر.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا ولكن يبعثون من قبورهم ويحشرون عميانًا، واللّه أعلم.

١٢٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (١٢٦)

أي: كما أتتك آياتنا فصيرتها كالشيء المنسي، لم تكترث إليها ولم تنظر فيها ولم ترغب فيها، كذلك تصير في النار كالشيء المنسي عن رحمته، لا يكترث إليك ولا ينظر إليك.

أو أن يقول: كما ضيعت آياتنا التي أتتك لنجاتك كذلك تضيع أنت وتترك في النار لا

 نجاة لك.

١٢٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (١٢٧)

أي: كذلك نجزي كل من أسرف في الدنيا ولم يؤمن بآيات ربه، ليس أحد المخصوص بذلك دون غيره، ولكن كل من كان هذا صنيعه في الدنيا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى}.

كأنه قد سبق منه الوعيد لهم بعذاب، ثم قال: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} من العذاب الذي أوعدتم، وإلا فعلى الابتداء لا يقال هذا.

١٢٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُم} جميع ما ذكر في القرآن مثل هذا {أَفَلَمْ يَهدِ لَهُم}، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا} {أَوَلَمْ يَرَوا}، وأمثاله كله أنه قد بين لهم وراء ذلك، أي: قد بين لهَؤُلَاءِ أنهم قد وافقوا أُولَئِكَ الذين أهلكهم من القرون الماضية وما نزل بهم بتكذيبهم الرسل والآيات التي أتوا بها، وهم آمنون يمشون في مساكنهم، فكيف أمن هَؤُلَاءِ من عذاب اللّه مع موافقتهم أُولَئِكَ في جميع صنيعهم.

أو يقول: أفلم نبين لهم سنتي فيمن كان قبلهم من القرون الماضية بتكذيبهم الرسل وردهم الآيات، وهم كانوا آمنين في مساكنهم فكيف أمن هَؤُلَاءِ من عذابه وقد ساووا أُولَئِكَ في جميع عمنيعهم وفعلهم، وهما واحد.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى}.

قال بعضهم: {لِأُولِي النُّهَى}: هم الذين انتهوا عما نهاهم اللّه عنه، وهم ذوو العقول، وقد ذكرنا هذا في غير موضع.

قال أَبُو عَوْسَجَةَ: {وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} أي: لا تظهر

للشمس، والظمأ: العطش، والضحى: الحر.

قال أبو عبيدة: وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: وطفقا وعلقا واحد، يقال علق يعلق علقا فهو

 عالق وطافق.

وقال: يقال من الخصف: خصفت الخف، إذا أنعلته، ونعلت الخف، ويسمى ذلك: النعيلة، والنعائل جمع.

وقال: قوله: {مَعِيشَةً ضَنْكًا}، أي: ضيقة.

قال أبو عبيدة: وكل ضيق - منزل أو غيره - فهو ضنك.

١٢٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩)

هو على التقديم والتأخير، أي: لولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى، لكان العذاب لازمًا لهم، يقول - واللّه أعلم -: يلزم كل إنسان بما عمل.

قال: والأجل المسمى: الساعة التي قال: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ}.

وجائز أن يكون قوله على غير التقديم والتأخير، لكنه على الإضمار، أي: لولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما ولكن سيلزمهم إلى أجل مسمى، وهو ما ذكر في آية أخرى: {وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}.

وقوله: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} بما يكون بحق الإفضال أو توجبه الحكمة، لكان العذاب لازمًا لهم، وحق الإفضال ما سبق منه من الوعيد أنه يؤخر، ولا يقال فيما كان طريقه الإفضال: لم تفضلت؟ وأصل هذا: لولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما، لولا ما سبق من وعده: أنه لا يعذب هذه الأمة تعذيب إهلاك وقت ثكذيبهم الرسل وردهم الآيات، ولكن يؤخوهم إلى أجل مسمى، وهو ما ذكرنا، وهو قوله: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ}.

١٣٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (١٣٠)

يصبر رسوله على أذاهم يلسانهم من السب والنسبة إلى السحر والجنون والافتراء على اللّه ونحوه، وإن كان وعد أنه يعصمه منهم حتى لا يقدروا على إتلافه وإهلاكه؛ لأن في حفظ نفسه من الإتلاف والإهلاك آية من آيات رسالته؛ إذ بعثه إلى الفراعنة والجبابرة الذين كانت همتهم وعادتهم قتل من يخالفهم في شيء وإهلاك من يستقبلهم بما يكرهون؛ فدل عجزهم عن إتلافه وإهلاكه وحفظ نفسه منهم: أنه كان ذلك لآية في نفسه، وأما أذاهم إياه باللسان ليس في حفظه عنه آية؛ لأن ذلك لو كان آية، لمنعهم وذلك مما لم يؤثر نقصًا في نفسه أو شيئًا؛ ألا ترى أنهم قالوا في اللّه ما لا يليق به من الولد وغيره، فدل أنه ليس في حفظ نفسه عن أذاهم بلسانهم آية، إنما الآية فيما ذكرنا من حفظ نفسه من الإتلاف، واللّه أعلم.

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ}:

قال أهل التأويل: صل بأمر ربك، وتأويل قولهم هذا صل بأمر ربك؛ لأنه أمره أن يصلي للّه بقوله: {أَقِمِ الصَّلَاةَ}،

وقوله: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ}، فيكون قوله: {وَسَبِّحْ} أي: صلِّ بأمر ربك الذي أمرك بقوله: {أَقِمِ الصَّلَاةَ}، ولولا صرف أهل التأويل التسبيح في هذه الآية إلى الصلاة وإلا يجوز أن يصرف إلى غيرها من الأذكار في كل وقت، لكن صرفوا إلى الصلاة؛ لأن الصلاة تشتمل على معان: قولا وفعلا، وسائر الأذكار لا تشتمل إلا معنى الذكر قولا، فهي أجمع وأشمل لذكره، واللّه أعلم.

ثم قوله: {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ}: قبل صلاة الفجر، {وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} وصلاة العصر.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} الظهر والعصر.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ} قيل: صلاة المغرب والعشاء.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ}؛ قيل: صلاة الفجر والعصر؛ فهو على التكرار والإعادة تأكيدًا؛ كقوله: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى}، ذكر الصلوات بجملتها، ثم خص الصلاة الوسطى، بالذكر لمعنى؛ فعلى ذلك جائز أن يكون قوله: {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} تكرارا منه لصلاة الفجر والعصر لمعنى.

وجائز أن يكون قوله: {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} أنه ليس على إرادة وقت دون وقت، ولكن يريد به الأوقات كلها، وعلى ذلك يخرج قول من قال في قوله: {وَقَبْلَ غُرُوبِهَا}: صلاة الظهر والعصر، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَعَلَّكَ تَرْضَى} بالنصب والرفع جميعًا، أي: يرضيك ربك بما عملت أو يرضى بذلك.

١٣١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (١٣١)

هذه الآية تحتمل وجهين:

أحدهما: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} أي: لا ترغبن في هذه الدنيا، ولا تركنن إلى ما متع به هَؤُلَاءِ من ألوانها وزهرتها، وهو كقوله تعالى: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ. . .} الآية.

والثاني: قوله: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} على حقيقة مد البصر، أي: لا تمدن بصرك إلى أعين الدنيا وإلى ظاهر ما هم عليه من الغرور والتزيين، ولكن انظر إلى الدنيا إلى ما

جعلت الدنيا؛ وإلى ما فيها من سمومها وتنغيصها على أهلها، فإن من نظر إليها لما فيها من سمومها وتنغيصها، لزهد فيها ورغب عنها، ومن نظر إليها وإلى عينها وظاهرها وما هي عليها من الغرور والتزيين، لاغتر بها ورغب فيها وركن إليها، ومن نظر إلى حقيقة ما هي عليه وجعلت على ما ذكرنا لزهد فيها ورغب عنها.

ثم معلوم أن رسول اللّه لم يكن يمد بصره إلى الدنيا أو يركن إليها ويرغب فيها لها، وإنما هو ابتداء نهي رسوله.

ومعلوم أيضًا أنه لو رغب في شيء منها لم يكن يرغب ليتمتع هو به، إنما يرغب ويتناوله ليوسع به على أهل الحاجة والفقر، ثم نهاه عن ذلك؛ فدل أن الزهد فيها والرغبة عنها خير من الأخذ منها والوضع في حق؛ حيث نهاه عن ذلك على علم منه أنه لا يتناولها ليتمتع هو بها وليوسع بها على نفسه، ولكن يأخذها؛ ليضعها في المستحقين لها.

ثم اختلف أهل التأويل في التقديم والتأخير:

قال الحسن: هو على تقديم قوله: {مِنْهُمْ} على قوله: {أَزْوَاجًا} يقول: تأويله: لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به منهم أزواجًا {زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}.

فعلى تأويله: أزواجًا: زهرة الحياة الدنيا، أي: ألوانا وأصنافًا من النبات؛ فذلك زهرة الدنيا.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: على غير تقديم، ولكن على سياق ما ذكر في الآية؛ فعلى هذا يكون تأويل الأزواج، أي: رجالا منهم، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ}.

قال أهل التأويل: أي: لنبتليهم ونختبرهم، وكأن الفتنة هي المحنة التي فيها شدة وبلاء، كأنه أخبر أنه إنما متعهم بما متع من زهرة الحياة الدنيا ليمتحنهم فيها بالشدائد؛ كقوله: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ. . .} الآية، وقال في آية أخرى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}،

وقال: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ} ففي هذه الآيات دلالة أن السعة والضيق فيها ليس لفضل أهلها ولا لهواهم، ولكن إنما هو محنة يمتحنهم، فيمتحن بعضهم بالسعة والغناء وبعضهم بالشدة والضيق، فالتكلم بأن هذا خير من هذا كلام لا معنى له مع ما ذكرنا من البينات في قوله: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ} أن الزهد في الدنيا وترك التناول منها حلالًا خير من التناول منها حلالا ووضعها موضعها.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى}.

 أي: ما رزق ربك من النبوة والرسالة والتوحيد له والإيمان به خير وأبقى مما متع به هَؤُلَاءِ من ألوان زهرة الحياة الدنيا وأصنافها.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} أي: حظك من ربك خير في البقاء مما متع به هَؤُلَاءِ من زهرة الدنيا، وهو قول أهل التأويل: إن نبي اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - نزل به ضيف فاستسلف من يهودي طعامًا، فأبى أن يعطيه إلا برَهْن، فرهن درعه عنده، فنزل قوله: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ. . .} الآية؛ تعزية له عن الدنيا، لكن لسنا نعرف نزول الآية على ما ذكر إلا أن يثبت، واللّه أعلم.

١٣٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (١٣٢)

قَالَ بَعْضُهُمْ: أراد بأهله: قومه، وقد يسمى قوم الرسل: أهلهم، وجائز أن يكون المراد بالأهل: الذين تأهلهم وكانوا في عياله.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}، أي: داوم عليها والزمها، وفيه أن الصلاة فرضت على الدوام عليها واللزوم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا}

قَالَ بَعْضُهُمْ: لا نسألك جعلا وأجرًا على نبوتك ورسالتك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {نَحْنُ نَرْزُقُكَ}

قَالَ بَعْضُهُمْ: لا نسألك للخلق رزقًا بل نحن نرزقهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى}؛ كقوله: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَقِينَ}.

١٣٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ}.

سألوه أن يأتيهم بآية من عند ربه على رسالته ونبوته، فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى}، أي: قد أتاهم بينة على رسالته ونبوته ما في الصحف الأولى؛ لأن الكتب المتقدمة كانت بغير لسان رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولم يكن يعرف الكتابة بلسانه فضلا

 عن أن يعرف غيرها من الكتب التي كانت على غير لسانه، ثم أخبر عن الأنباء التي كانت في الكتب المتقدمة على ما كانت فيها؛ دل أنه إنما عرف تلك الأنباء والقصص التي كانت في كتبهم باللّه تعالى، فهذا - واللّه أعلم - تأويل قوله: {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} أي: قد أتاهم على ما ذكرنا.

١٣٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (١٣٤)

أي: من قبل رسوله، {لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ}، من الناس من يقول: ليس للّه أن يعذبهم تعذيب إهلاك قبل أن يبعث رسولا، ويحتج بظاهر هذه الآية: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا}.

وعندنا: له أن يهلكهم بعذاب قبل بعث الرسول إليهم؛ لأنه تعالى قد أقام عليهم حجة العقل ما لو تأملوا أو نظروا فيه، لعرفوا وأدركوا حق اللّه عليهم، فإذا كان كذلك فكان إهلاكه إياهم إهلاكًا عن بينة وحجة، لكنه بفضله ورحمته لا يهلكهم بأول آية يرسل عليهم حتى يرسل الآيات؛ إفضالا منه ومنة، وإلا كان له إهلاكهم بآية واحدة؛ فيكون قوله: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا. . .} كذا، إنما ذلك لقطع ذلك القول منهم، لا أن كان لهم ذلك القول والاحتجاج بذلك؛ ولأن قوله: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا. . .} كذا يخرج مخرج الامتنان به أنه لم يهلكهم قبل بعث الرسول؛ فدل أن له إهلاكهم قبل بعث الرسول؛ لما ذكرنا من إقامة حجة العقل عليهم، واللّه أعلم.

١٣٥

وقوله - عزَّ وجلَّ -: (قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (١٣٥)

كانوا يتربصون هلاك رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وانقلاب أمره، ورسول اللّه يتربص بهم عذاب اللّه ومواعيده فيهم.

قال الحسن: {قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا}، أي: تربصوا أنتم مواعيد الشيطان، ونحن نتربص مواعيد اللّه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى}.

قوله: {فَسَتَعْلَمُونَ} في الآخرة علم عيان {مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى} نحن أو أنتم، وفي الدنيا لو تأملوا ونظروا، لعلموا علم استدلال وإدراك من أصحاب الصراط السوي؟

قَالَ بَعْضُهُمْ: {الصِّرَاطِ السَّوِيِّ}: العدل.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: السوي: القيم.

وفي حرف ابن مسعود وأُبي {وَمَنِ اهْتَدَى ومن على الهدى}

﴿ ٠