سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
وهي
كلها مَكِّيَّة بِسْمِ
اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ١
قوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ}. قال
الحسن: أي: محاسبتهم. وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ}. ظاهر
هذا أنه نزل في المشركين؛ لأنها نزلت بمكة وكان أكثر أهلها أهل شرك، لكن لأهل الإسلام
في ذلك حظ وشرك فيما وصفهم بالغفلة عن ذلك والإعراض عنه، وأهل الإسلام قد يغفلون
عن الحساب إلا أن غفلة الكفرة غفلة تكذيب وإعراضهم إعراض تكذيب بالحساب والآيات
التي أنزلها عليهم، وغفلة أهل الإسلام ليست كذا، قد آمنوا بالحساب وصدقوا بآياته
وعرفوها، لكنهم غفلوا عن الحساب؛ لشهوات مكنت فيهم وغلبت شهواتهم وأغفلتهم عنه،
فمن هذه الجهة كانوا كأُولَئِكَ، فأما من جهة الإيمان به والتصديق بالآيات فليسوا كأُولَئِكَ. ثم
وصف الحساب والساعة بالقرب والدنو والإتيان؛ كقوله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ}، وقوله: {أَتَى أَمْرُ اللّه}، و {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} وأمثاله: هي قريبة كالماهية عند اللّه؛ لأن اللّه تعالى عرف جملة
الأوقات فهي في جملة ما عرف قريبة كالماهية، وأما الخلق فإنهم قد استبعدوها؛ لأنهم
إنما يقدرون ذلك بآجالهم وأعمارهم وما جاوز أعمارهم، فهو عندهم بعيد ليس بقريب،
وهذا إنما يكون بعد ذهاب أعمارهم. وقال
قتادة: ذكر أنه لما نزلت هذه الآية {اقْتَرَبَ
لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ}، و {أَتَى أَمْرُ اللّه فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ}،
قال ناس من أهل الضلال: يزعم هذا الرجل أن الساعة قد اقتربت فتناهوا
قليلا، ثم عادوا إلى أعمالهم، وكذلك قالوا في قوله: {أَتَى أَمْرُ اللّه}، تناهوا عنها، ثم لما تأخر ذلك عنهم عادوا إلى ما كانوا من قبل؛
هذا لأنهم فهموا من قرب الساعة وإتيان أمره وقتًا يقرب ومدة تدنو، فلما مضى ذلك
وقع عندهم أن الخبر كذب فكذبوه؛ لأنهم إنما قدروه بآجالهم وما عرفوا هم من القرب
والدنو. وقوله: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} ما ذكرنا من غفلة تكذيب وإعراض، تكذيب بعد ما عرفوا أنها آيات،
واللّه أعلم. ٢
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا
اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) قوله: {مِنْ ذِكْرٍ}
ما يذكرهم ما يأتون وما يتقون. أو ما يذكر ما أوعدوا وخوفوا. أو {مِنْ ذِكْرٍ}
يذكرهم ما لهم وما عليهم. وقوله: {مُحْدَثٍ}
قَالَ
بَعْضُهُمْ: محدث: محكم أحكمه من أن يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه،
وأحكمه لما أعجز الخلق عن أن يأتوا بمثله. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: محدث؛ لأن اللّه أنزل هذا القرآن بالتفاريق وأحدث إنزاله في كل
وقت على قدر الحاجة، فعلى ما نزل بالتفاريق أحدثوا هم - أعني الكفرة - تكذيبه ورده
على ما ذكر، فزادهم رجسًا إلى رجسهم ونحوه، فهو محدث من الوجوه التي ذكرنا؛ لأن كل
موصوف بالإتيان فهو محدث. وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ}. دل
قوله: {إِلَّا
اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} أن استماعهم إياه
استماع استهزاء به. ٣
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ
هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) هذا الذي أسووا فيما بينهم {هَلْ
هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ}،
هذا كان نجواهم. وقوله: {لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ}، قيل:
غافلة قلوبهم عن الذكر، {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى
الَّذِينَ ظَلَمُوا} الذي أسروه هو ما ذكرنا قولهم: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ
وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} السحر. وفي
حرف ابن مسعود وأبي: (وأسروا النجوى
الذين كفروا منهم)، وقال الكسائى: وفي بعض الحروف: {وَأَسَرُّوا
النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا}، قال: وفي حرفنا: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى}. ثم
أخبر - عَزَّ وَجَلَّ -
عنهم خبرًا مستأنفًا فقال: {الَّذِينَ
ظَلَمُوا}؛ كقول اللّه تعالى: {ثُمَّ عَمُوا
وَصَمُّوا} ثم قال:
{كَثِيرٌ مِنْهُمْ}، وهذا على كلامين،
واللّه أعلم. ٤
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤) يشبه
أن يكون قوله: {يَعْلَمُ
الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} القول الذي
أسروا فيما بينهم: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}، وقوله: {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ
تُبْصِرُونَ}، وقوله: {أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ
بَلْ هُوَ شَاعِرٌ}، وأمثال ما قالوا فيه ونسبوه إليه، أي: قل لهم: ربي يعلم ذلك القول منكم في
السماء والأرض لينتهوا عن ذلك؛ لأن من يعلم في الشاهد أن أحدًا يطلع على جميع ما
يختاره من القول والفعل، ترك ذلك وامتنع عن التفوه به والإقدام على ما يختاره. أو أن يكون قال ذلك على الابتداء والاستئناف أنه لا يخفى عليه شيء في
الأرض ولا في السماء {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}: السميع لقولهم، العليم بأفعالهم. ٥
ثم
أخبر عن سفههم وقلة نظرهم في قولهم وكلامهم وحفظهم عن التناقض فقال: (بَلْ
قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ ... (٥) فيما نسبوه إلى الشعر والسحر والافتراء وأنه أضغاث
أحلام تناقض في قولهم؛ لأن السحر هو غير الافتراء، والسحر غير أضغاث الأحلام، كل
حرف من هذه الحروف التي نسبوه إليها يناقض الآخر ويبطله؛ فدل أنهم إنما قالوا ذلك
ونسبوه إلى ما نسبوا متعنتين مكابرين لا عن معرفة وعلم قالوا ذلك؛ إذ تناقض قواطم
وكلامهم؛ إلأ السحر لا يدوم ولا يبقى في وقت آخر، فإذا عرفوا وعلموا أنه دام وبقي
إلى آخر الدهر، وكذلك ما قالوا من أضغاث أحلام والافتراء، أعني: ما أتى رسول اللّه
به، وبعد فإنه لو كان ما أتاهم به سحرا كان ذلك آية وعلامة على صدقه ونبوته؛ لأن
السحر لا يعرفه أحد إلا بالتعليم، فإذا رأوه نشأ بين أظهرهم ولم يكن في قومه ساحر
حتى يتعلم منه، ولا اختلف إلى أحد من السحرة يتعلم منهم السحر، ثم أتى به - لكان
ذلك يدل على أنه إنما عرف ذلك باللّه تعالى، فكيف وقد أتاهم بالحجج المنيرة
الواضحة والآيات المعجزة الخارجة عن وسع البشر وطوقهم؟ لكنهم كابروا وعاندوا في
ردها وتكذيبها، واللّه الموفق. وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ}. قد
علموا علم حقيقة أنه قد أتاهم بآيات وحجج ما لو تأملوا فيها ولم يكابروا، لدلهم على
صدقه ورسالته، وقد عرفوا أنه صادق، لكنهم سألوا في قولهم: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ} الآية التي تنزل عند المكابرة والعناد،
وهي الآية التي نزلت في الأمم الخالية عند
مكابرتهم الآيات
والحجج، وهو إهلاكهم واستئصالهم؛ إذ من سنته وحكمه في الأولين الإهلاك والاستئصال
عند مكابرتهم الآيات والحجج، وسنته وحكمه في هذه الآية ختم النبوة بهم وإبقاء شريعة مُحَمَّد - صلوات اللّه عليه - إلى الساعة، وسنته في الأمم الماضية نسخ
شرائعهم واستبدال أحكامهم، فإذا كان ما ذكرنا جعل وقت إهلاكهم الساعة، وهو ما قال: {بَلِ
السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ. . .} الآية. ٦
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ
يُؤْمِنُونَ (٦) أي: ما آمنت قبلهم من قرية سألوا الآية سؤال مكابرة وعناد. وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ}. أي: لا يؤمن هَؤُلَاءِ وإن أتاهم بآية فإنهم لا يؤمنون، كما لم يؤمن أُولَئِكَ المتقدمون؛
لأنهم يسألون سؤال عناد ومكابرة لا سؤال استرشاد واستهداء. ٧
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ
فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٧) كان
هذا خرج جوابًا لقولهم: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ
مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ. . .}
كذا، وجواب قولهم: {أَبَعَثَ اللّه بَشَرًا رَسُولًا}، وجواب قولهم: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ
مَلَكٌ}، فقال:
{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا}،
أي: بشرًا، {نُوحِي
إِلَيْهِمْ} إلى عامة الخلق، أي: الرسالة في الأمم الذين من قبله إلى عامة الخلق كانت في البشر لم
تكن في الملائكة، وإلا كانت الرسالة إلى الخواص في الملاثكة وهم الرسل، فعلى ذلك
لا تجعل الرسالة في هذه الأمة إلى عامة الخلق في الملائكة، ولكن تجعل في البشر على
ما جعلت في الأمم الأولى في البشر. وجائز
أن يكون قوله: {وَمَا
أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ}،
أي: جعلها في الذكور منهم لم يجعلها في
النساء والإناث؛ لما لم يستكملن شرائط الرسالة والنبوة، فكأن الأول في بيان الجنس،
أي: لم يجعل الرسالة إلى عامة الخلق في
الملائكة، ولكن جعلها في البشر، والثاني في بيان استكمال شرائط الرسالة
واستحقاقها. وفي
حرف ابن مسعود وأبي: (وما أرسلنا قبله
إلا رجالا نوحي إليهم)، فعلى حرفهما كأنه خاطب به أُولَئِكَ الكفرة، أي: ما أرسلنا قبل مُحَمَّد إلا رجالا نوحى إليهم، وفي القراءة الظاهرة المشهورة يكون الخطاب
لرسول اللّه، أي: قل لهم: إنه ما أرسل اللّه من قبلك
إلا رجالا يوحي إليهم. وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}. قَالَ
بَعْضُهُمْ: إنما خاطب به مشرير العرب وأمرهم أن يسألوا أهل الكتاب الذين
كانوا يؤمنون بالرسل المتقدمة؛ ليخبروكم: أنه لم تجعل الرسالة فيهم إلى عامة الخلق
إلا في البشر، وقَالَ
بَعْضُهُمْ: إنما خاطب من كفر من أهل الكتاب - من لا يعرف الكتاب وغيره - بمُحَمَّد أن
اسألوا أهل الذكر، أي:
من آمن منهم؛ ليخبروكم أن محمدا رسول اللّه إليكم إن كنتم لا تعلمون أنتم أنه رسول
اللّه، فهذا التأويل في مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خاصة والتأويل الأول في جميع الرسل. ٨
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا
خَالِدِينَ (٨) قَالَ
بَعْضُهُمْ: ما جعلنا أجسادًا لا أرواح فيها لا يأكلون ولا يشربون، ولكن
جعلناهم أجسادا فيها أرواح يأكلون ويشربون ويمشون في الأسواق. وجائز
أن يكون قوله: {وَمَا
جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ}
من نحو الملائكة والجن، ولكن جعلناهم بشرًا. وحاصله:
أنهم كانوا يطعنون الرسل بأشياء، مرة قالوا: {أَبَعَثَ
اللّه بَشَرًا رَسُولًا}، وقالوا: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}
ونحوه، كانوا لا يرون الرسالة في البشر، ولا يرون الرسول يكون من نوع المبعوث
إليه، فألزمهم أن الرسل الذين كانوا من قبل الذين صدقهم آباؤهم وآمنوا بهم كانوا
من البشر بقوله: {وَمَا
أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ}،
ومرة طعنوا الرسل أنهم يأكلون الطعام ويشربون وينكحون ويمشون في الأسواق كغيرهم من
الناس؛ كقولهم: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ
الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ}، ونحوه، فألزمهم
- عَزَّ وَجَلَّ -
وأخبرهم أن الرسل الذين كانوا من قيل كانوا يأكلون ويشربون ويقضون حوائجهم؛ حيث قال: {وَمَا
جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} في الدنيا، وما قال في آية أخرى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ
قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً}؛
فعلى ذلك الرسول المبعوث إليكم هو كسائر الرسل الذين كانوا من قبل، هو ممن يأكل
ويشرب وينكح وهو رسول، وأنه بشر كسائر الرسل، وهو رسول اللّه؛ على هذا يخرج تأويل الآية. وهذه
الآية ترد على الباطنية قولهم ومذهبهم؛ لأنهم يقولون: إن الرسالة لا تكون في الجوهر
الكثيف الجسداني الذي يأكل ويشرب ويفنى ويبيد، إنما تكون في الجوهر البسيط الذي لا
يأكل ولا يشرب ولا يبيد ولا يفنى، فأخبر - عَزَّ
وَجَلَّ - أنه لم يجعلهم جسدًا لا يأكلون
الطعام ولا يبيدون، بل جعلهم أجسادًا يأكلون ويموتون بقوله: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا
يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ}. ٩
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ
وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩) أخبر
أنه وعد الرسل وعدًا، لكنه لم يبين ما كان ذلك الوعد الذي وعد رسله؛ لكن في آخره
بيان أن الوعد الذي وعدهم كان وعد أهلاك وتعذيب؛ لأنه قال: {فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ
وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ}، دل قوله: {فَأَنْجَيْنَاهُمْ
وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ}:
أن الوعد كان وعد إهلاك، فنقول: كان وعد - عَزَّ
وَجَلَّ - الرسل الذين من قبل إهلاك من كذبهم، فكان كما وعدوا، وإن تأخر
ذلك الموعود عن وقت الوعد؛ فعلى ذلك ما وعدكم مُحَمَّد من العذاب فإنه نازل بكم وإن تأخر نزوله، واللّه أعلم. ١٠
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا
تَعْقِلُونَ (١٠) يحتمل قوله:
{ذِكْرُكُمْ} ما يذكركم ما تأتون
وتتقون، أو يذكركم ما لكم وما عليكم. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: {فِيهِ ذِكْرُكُمْ}، أي:
شرفكم ونبلكم لو اتبعتم. وقال
الحسن في قوله: {فِيهِ ذِكْرُكُمْ} أي:
فيه دينكم الذي أمسك عليكم به. وقال
غيره: فيه شرفكم ونبلكم لو اتبعتموه؛ كقوله: {وَإِنَّهُ
لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} أي: شرف لك. ١١
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً}. قصمنا:
أهلكنا، وأصل القصم: الكسر، يخوف أهل مكة بتكذيبهم محمدًا ما نزل بأُولَئِكَ بتكذيبهم
الرسل. وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ}. ١٢
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (١٢) قوله: {أَحَسُّوا}
قَالَ
بَعْضُهُمْ: علموا بالعذاب، إذا هم يركضون، أي: يفرون ويهربون. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: يعدون، وهو واحد. ١٣
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ
وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (١٣) أي: أنعمتم فيه: مساكنكم، مثل هذا يخرج مخرج الاستهزاء بهم. وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ}. قَالَ
بَعْضُهُمْ: تعذبون. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: تحاسبون. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: لعلكم تسألون الإيمان كما سئلتموه قبل نزول العذاب. وقيل: لعلكم تسألون عن قتل نبيكم؛ لأنهم قتلوا نبيهم، تسألون فيم
قتلتموه؟ وقَالَ
بَعْضُهُمْ: كان هذا في نازلة - واللّه أعلم - تلقتهم الملائكة وهم هاربون
فارون، فقالوا لهم: {لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا
أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} استهزاء بهم. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ}: تفقهون. قال
أَبُو عَوْسَجَةَ: {أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ}: قال: الضغث: ما لا تأويل له، ويقال: حلم وأحلام، ويقال: حلم يحلم حلما فهو حالم: إذا رأى
شيئًا في النوم، واحتلم يحتلم، لا يكون مثل حلم يحلم، ويقال من الحلم: حلم حلما
فهو حليم، ويقال: حلمته، أي: جعلته حليما، والافتراء: الكذب، والشاعر: إنما سمى: شاعرًا؛ لأنه
يشعر من الكلام ما لا يشعر به غيره، والقصم: الكسر، والمراد منه الهلاك، قصمه غيره
وانقصم بنفسه، أي: انكسر، وقال: {أَحَسُّوا}،
أي: استيقنوا بعذابنا، ويقال: أحسست، أي: وجدت، وأحسست: علمت واستيقنت، يقال: أحسست: قطعت، وتحسست، أي: تخبرت، والمحسسة الفِرْجَون. وقال: يركضون: يهربون {إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ
فِيهِ}، أي:
أنعمتم ومتعتم، والإتراف: الإكرام. وقال
أبو عبيدة: {يَرْكُضُونَ} يعدون، وقوله: {لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا
أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ}، ليس على الأمر، ولكن أي: لو رجعتم إلى ما أترفتم فيه، وكذلك {قُلْ
سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا. .}، كذا، ليس على
الأمر، ولكن لو سرتم فانظروا كذا؛ فعلى ذلك قوله: {وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ
فِيهِ}، أي:
لو رجعتم لعلكم تسألون كما كنتم تسألون من قبل، فيخرج ذلك مخرج الاستهزاء جزاء
لصنيعهم، واللّه أعلم. ١٤
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (١٤) يقرون
يومئذ بالظلم، لكن لا ينفعهم ذلك ويندمون على سوء صنيعهم، فيطلبون العودة إلى
دنياهم؛ كقوله: {يَا
لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}. ١٥
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ ...
(١٥) أي: ما زالت تلك، أي
قولهم: {يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}
دعواهم، {حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ}،
فإن كان هذا القول منهم في الدنيا فيكون قوله: {حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا
خَامِدِينَ} بالقتل بالسيف والإهلاك. وإن
كان ذلك في الآخرة فيكون قوله: {حَصِيدًا خَامِدِينَ} في النار في الآخرة، واللّه أعلم. و
{حَصِيدًا}، أي: هالكًا وهو محصود، و {خَامِدِينَ}: كما يقال: خمدت النار: إذا طفيت. ١٦
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا
لَاعِبِينَ}. أخبر
أنه لم يخلق السماء والأرض وما بينهما لتكونا سماء وأرضًا على ما هما عليه ثم
تفنيان، ولكن خلقهما لعاقبة قصدها، وهو أن يمتحن أهلها؛ لأن من عمل في الشاهد عملا
لا يقصد به عاقبة يأمل ويرجو أمرًا فهو في عمله عابث لاهٍ؛ ولو كان على ما عند أُولَئِكَ الكفرة
بأن لا بعث ولا حساب ولا جزاء ولا ثواب لكان إنشاؤهما وما بينهما باطلا لعبًا؛
كقوله: {أَفَحَسِبْتُمْ
أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}، صير عدم الرجوع إليه بعد خلقهم عبثًا باطلا. وقال
الحسن: لم يخلقهما عبثا، ولكن خلقهما
لحكمة من نظر إليهما دلَّاهُ على
وحدانية منشئهما وسلطانه وقدرته وحكمته وعلى علمه وتدبيره. ١٧
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا
إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (١٧) قَالَ
بَعْضُهُمْ: {لَهْوًا}
أي: زوجة، لكن هذا بعيد؛ لأنه احتج
عليهم على نفي الولد بنفي الصاحبة بقوله: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ
تَكُنْ لَهُ صَاحِبَ}، فلولا أنهم أقروا وعرفوا أن لا
صاحبة له، وإلا لم يكن للاحتجاج عليهم على نفي الولد بنفي الصاحبة معنى، ويكون قوله: {لَوْ
أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا} أي: ولدًا؛ لأن الناس يتلهون بالولد
فسماه: لهوًا لذلك، قال:
{لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} هذا يخرج على وجهين: أحدهما: {لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} بحيث لا تبلغه أفهامكم ولا يدركه علمكم؛ لأن الولد يكون من جنس
الوالدين ومن شكلهما، وسبيل معرفته وعلمه الاستدلال الحسي، فإذا لم يعرفوه هو
بالحسي فكيف يعرفون من هو يكون منه لو كان؟! والثاني: أن الغائب إنما يعرف بالاستدلال بالشاهد، فلو كان له الولد على ما
تزعمون لكان لا يعرف؛ لأنه لا صنع للولد في الشاهد، إذ هو الواحد المتفرد بإنشاء
العالم، فيذهب معرفة الولد إدراكه لو كان على ما تزعمون. وقوله: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا
لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا}، ليس على أنه يحتمل أن يكون له الولد، أو أن يحتمل
أن يتخذ ولدًا، ولكن لو احتمل أن يكون لم يحتمل أن يدرك ويعلم، وكذلك يخرج قوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا
اللّه لَفَسَدَتَا}، ليس أنه يحتمل أن يكون فيهما آلهة، ولكن لو احتمل أن يكون فيهما آلهة لفسدتا. ١٨
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ
زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨) يشبه
أن يكون الحق الذي أخبر أنه يقذف على الباطل القرآن الذي أنزله على رسوله أو الرسول نفسه، أو
الآيات التي جعلها لوحدانيته أو
ألوهيته. {فَيَدْمَغُهُ}، أي:
يبطل ذلك الذي قالوا في اللّه ما قالوا من الولد والصاحبة وغيره مما لا يليق به. {فَإِذَا
هُوَ زَاهِقٌ}، أي:
هو ذاهب متلاشٍ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ
-: {وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}:
من الولد والصاحبة وجميع ما وصفوه مما لايليق به. ١٩
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩)
كأنه ذكر هذا جوابا لقولهم، وردًّا على وصفهم إياه بالذي وصفوه، فقال: {وَلَهُ
مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: له من في السماوات والأرض كلهم
عبيده وإماؤه، ولا أحد في الشاهد يتخذ لنفسه ولدًا من عبيده وإمائه، فإذا لم تروا
هذا في الخلق أنفًا من ذلك واستنكافًا، فكيف قلتم ذلك في اللّه سبحانه وتعالى، وأضفتم إليه. أو أن يخبر غناه عن الخلق بأن له من في السماوات والأرض والولد في
الشاهد إنما يطلب لحاجة تسبق، فإذا كان اللّه - سبحانه
وتعالى - غنيًّا بذاته بما ذكر أن له كذا لا حاجة تقع له إلى الولد،
تعالى اللّه عما يقول الظالمون علوًّا كبيرا. وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا
يَسْتَحْسِرُونَ}. يشبه
أن يكون ذكر هذا لقولهم: " الملائكة بنات اللّه "، فأخبر أنهم ليسوا كما
وصفوهم ولكنهم عبيد لي، هم لا يستريحون عن عبادتي ولا يفترون. أو أن يكون ذكر هذا لمكان من عبد الملائكة واتخذهم آلهة دونه، فأخبر
أنهم لا يستكبرون عن عبادتي ولا يفترون، ولم يدعوا هم الألوهية لأنفسهم، فكيف
نسبتم الألوهية إليهم وعبدتموهم دوني؟ أو أن يكون قال ذلك: إنكم إن استكبرتم عن عبادتي، فلم يستكبر عنها من
هو أرفع منزلة وأعظم قدرًا منكم، ٢٠
(يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (٢٠) ينزهون اللّه ويبرئونه عما وصفه الملحدة من الولد
وجميع ما قالوا فيه مما لا يليق به. وهذه
الآية تنقض قول المعتزلة ومذهبهم حيث قالوا: إن الأعمال لأنفسها متعبة منصبة، ولو كانت
الأفعال لأنفسها متعبة على ما ذكروا، لكان البشر والملائكة فيها شرعًا سواء، فلما
أخبر عنهم أنهم لا يعيون ولا يفترون ولا تتعبهم العبادة؛ دل أنها صارت متعبة لصنع
غير فيها لا لأنفسها، وهذه المسألة في خلق أفعال العباد: هم ينكرون خلقها، ونحن
نقول: هي خلق اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - كسب للعباد، وقد ذكرنا هذا في غير موضع كلامًا
كافيًا. قال
أَبُو عَوْسَجَةَ: {فَيَدْمَغُهُ} أي: يبطله. وقال
غيره: يهلكه، وهو من قولك: ضربت الرجل
فدمغته: إذا وصلت الضربة إلى الدماغ،
وإذا كان كذلك مات؛ فكذلك يدمغ الحق الباطل، أي: يهلكه. وقوله: {فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}، أي:
ذاهب وميت، زهق إذا مات وهلك، والزاهق في غير هذا السمين. {وَلَا
يَسْتَحْسِرُونَ} أي: لا يعيون، ومنه حسير ومحسور أيضًا، {لَا
يَفْتُرُونَ} والفتور: الإعياء أيضًا. ٢١
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ}. قوله: {أَمِ اتَّخَذُوا} استفهام في الظاهر من الخلق، لكن ذلك من اللّه على الإيجاب كأنه قال: قد اتخذوا آلهة، وهكذا كل ما خرج في
الظاهر من اللّه على الاستفهام فإنه على الإيجاب؛ لأنه عالم بما كان ويكون لا يخفى
عليه شيء، وأما الخلق فإنه يجوز أن يستفهم بعض من بعض لما يخفى على بعض أمور بعض،
فيطلب بعضهم من بعض العلم والفهم بذلك، واللّه الموفق. وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {هُم يُنْشِرُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: {هُم يُنْشِرُونَ} أي
يخلقون، أي: اتخذوا آلهة لا يخلقون؛ كقوله: {خَلَقُوا
كَخَلْقِهِ}، وكيف اتخذوا آلهة لا يخلقون؟ وإنما يعرف الإله بالخلق وبآثار
تكون في الخلق، فإذا لم يكن من هَؤُلَاءِ خلق كيف اتخذوها آلهة؟! والثاني: {هُم يُنْشِرُونَ}، أي:
يبعثون ويحيون. فإن
كان على البعث والإحياء فكأنه يقول: كيف اتخذوا من لا يملك البعث والإحياء آلهة؟!
وخلق الخلق لا للبعث والإحياء بعد الموت يخرج على غير الحكمة في الظاهر؛ لأن من
بنى في الشاهد بناء للنقض خاصة لا لعاقبة تقصد به كان غير حكيم في فعله عابثًا في
بنائه، وكذلك قوله: {أَفَحَسِبْتُمْ
أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} جعل خلق الخلائق لا للرجوع إليه عبثًا، فيخرج هذا على وجهين: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً}، أي: قد اتخذوا آلهة من الأرض {هُم يُنْشِرُونَ}. أو لم يتخذوا آلهة من الأرض هم يملكون النشر أو النشور، واللّه أعلم. ٢٢
وقوله: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا
اللّه لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللّه رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) وفي
حرف ابن مسعود وأبي وحفصة: (لو كان
فيهن آلهة لفسدن). ثم
يحتمل قوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا
اللّه لَفَسَدَتَا} وجوهًا: أحدها: {لَفَسَدَتَا}،
أي: لم يكونا من الأصل؛ لأن العرف في
الملوك أن ما بنى هذا وأثبته يريد الآخر نقضه وإفناءه، فلم يثبتا ولم يكونا من
الأصل لو كانا لعدد. والثاني: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا
اللّه لَفَسَدَتَا}: لم تكن منافع إحداهما متصلة بمنافع الأخرى للخلق؛ إذ يمنع
كل واحد منهما منافع ما خلق هو من أن تصل إلى الأخرى، فإذا اتصلت منافع إحداهما بالأخرى، دل أنه صنع واحد وتدبير
واحد لا عدد. والثالث: لو كان عددًا، لكان لا يخرج تدبيرهما على حد واحد في كل عام، فإذا
اتسق التدبير وجرى الأمر في كل عام على سنن واحد؛ دل أنه تدبير واحد لا عدد؛ إذ لو
كان لعدد لكان يختلف الأمر في كل عام ولم يتسق على سنن واحد، ولا جرى على أمر
واحد. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: هو قول اللّه: {مَا اتَّخَذَ اللّه مِنْ
وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ
وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ}، على ما هو من
عادة ملوك الأرض. وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {فَسُبْحَانَ اللّه رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} من الولد والشريك. ٢٣
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (٢٣) هذا
يحتمل وجوهًا: أحدهاة
أنه لا يُسأل؛ لأن ما يفعل يفعل في ملكه وسلطانه، وإنما يسأل من فعل في سلطان غيره
وملك غيره، ففي ذلك دلالة أنه لا يجوز التناول في شيء إلا بالأمر والإباحة من
مالكه، فيبطل قول من يقول: هو على الإطلاق والإباحة في الأصل. والثاني: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ}؛ لأنه حكيم بذاته لا يخرج فعله عن الحكمة، فإنما يسأل من يحتمل فعله السفه، فأما من لا يحتمل فعله إلا الحكمة، فإنه لا يحتمل السؤال: لم فعلت؟ ولماذا فعلت؟ والثالث: لو احتمل السؤال عما يفعل لاحتمل الأمر والنهي: أن افعل كذا، ولا
تفعل كذا، وذلك محال، ولو ثبت الأمر فيه لكان يخرج سؤاله سؤال حاجة؛ لأن من يأمر
من فوقه بأمر فإنما يكون أمره سؤال حاجة، ومن يأمر من دونه فيكون أمره أمرًا. ٢٤
وقوله: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً
قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤) فيه
دلالة لزوم الدليل على النافي؛ لأنه لما قال: {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} كان لهم أن يقولوا: هات أنت البرهان على ما ادعيت من الألوهية،
ونحن ننكر ذلك، فإذا لم يكونوا يقولون
ذلك، دل أن الدلالة تلزم النافي. وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي}. أي: هذا القرآن {ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ
وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي}. قَالَ
بَعْضُهُمْ: هذا القرآن فيه ذكر من معي من الحلال والحرام، {وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي}، أي: فيه ذكر أعمال الأمم السالفة
وأخبارهم وما صنع اللّه بهم إلى ما صاروا إليه. أو أن يكون قوله: {هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ} أي:
خبر من معي وخبر من قبلي؛ فيكون فيه دليل رسالته؛ لأنه أخبر عن أنباء الأمم
السالفة وأخبارهم على ما ذكرت في كتبهم من غير أن علم ما في كتبهم بتعلم منهم أو بنظر كان منه فيها؛ ليعلموا أنه إنما عرف ذلك باللّه. ويشبه
أن يكون تأويل قوله: {هَذَا
ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي}
ما ذكر: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ
أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}،
أي: هذا ذكر من معي وذكر الرسل من قبلي
ومن معهم، أي: هذا الذكر أرسلني إلى من معي وأرسل
الذين من قبلي إلى قومهم، واللّه أعلم. وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ}: كذلك كانوا لا يعلمون الحق بإعراضهم عنه. ٢٥
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ
أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥) أخبر:
أنه لم يرسل رسولًا من قبل إلا بما ذكر من قوله: {أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا
فَاعْبُدُونِ}. ثم
يحتمل قوله: {فَاعْبُدُونِ}
أي: وحدوني في الألوهية لا تصرفوا
الألوهية إلى غيري، ولا تشركوا من دوني في ألوهيتي. أو أن يكون: {فَاعْبُدُونِ} أي:
إليَّ؛ فاصرفوا العبادة إليَّ، ولا تصرفوا
العبادة إلى مَن دوني، واللّه أعلم. ٢٦
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ
مُكْرَمُونَ}. دل
قوله: {بَلْ
عِبَادٌ مُكْرَمُونَ}: أنهم لم ينسبوا الولد إليه، ولا
قالوا ذلك: إنه اتخذ ولدًا على حقيقة الولادة، ولكن قالوا ذلك على الصفوة واصطفائه
من أضافوا ونسبوا إليه؛ لأن الذين قالوا: إنهم ولده من نحو عيسى وعزير والملائكة
ليسوا كما وصفوا، ولكنهم عباد مكرمون، ثم أخبر بما أكرمهم فقال: ٢٧
(لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) أخبر أنهم لا يتقدمون في قول ولا فعل إلا بإذن
منه وأمر. أو أن يكون قوله: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ} أي:
لا يأمرون بشيء ولا ينهون عن شيء إلا بإذن من اللّه وأمر منه، واللّه أعلم. ٢٨
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ
إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) هذا قد ذكرناه في سورة " طه ". وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى}،
وقال في آية أخرى: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ
الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا}، فيكون تأويل قوله: {إِلَّا
لِمَنِ ارْتَضَى} أي: إلا لمن أذن له. ثم
يتوجه قوله: {إِلَّا
لِمَنِ ارْتَضَى} إلى الشفيع، أي: لا يؤذن لأحد بالشفاعة إلا من كان
مرضيا مرتضى دينا وعملا، ويتوجه قوله: {إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} إلى المشفوع له: إلا لمن ارتضى عنه الرب مذهبًا وعملا؛ حتى لم
يدخل في عمله تقصير. ثم
الشفاعة إنما جعلت في الأصل للتجاوز فيما دخل في العمل من التقصير. ثم
لا يخلو الذي يشفع له إما أن يكون صاحب الصغيرة فيجوز أن يعذب عليها، أو أن يكون صاحب كبيرة، ففيه دلالة التجاوز والعفو عن صاحب الكبيرة؛
لأنا قد قلنا: إن الشفاعة إنما جعلت لمن منه التقصير في العمل، ففيه دلالة نقض قول
المعتزلة؛ لأنهم يقولون: إن صاحب
الصغيرة معفو عنه الصغيرة حتى لا يجوز أن يعذب عليها، وصاحب الكبيرة لا يجوز العفو
عنه والتجاوز، بل هو معذب أبدًا. وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}
هذا - واللّه أعلم - كأنه صلة قوله: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ. . .} الآية،
أي: من خشية عذابه وهيبته لا يتقدمون
بقول ولا فعل ولا أمر ولا نهي؛ خوفًا منه وهيبة، واللّه أعلم. ٢٩
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ
جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩)
هذا
كأنه مقطوع عما سبق وتقدم ذكره غير موصول به؛ لأن ما سبق هو القول منهم: إنه اتخذ
الرحمن ولذا، فلو كان على اتصاله بالأول، لكان يقول: ومن يقل منهم: إني ولد إله؛
لأنهم قالوا: {اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدا}،
ولم يقولوا: إنه اتخذ الرحمن إلها، فلو كان على الصلة بالأول والجواب له، فهو يخرج على الجواب لهم، ومن
يقل منهم: إني ولد إله، لكن كأنهم كانوا فرقًا: منهم من قال: اتخذ ولدا، ومنهم من عبد دونه الملائكة واتخذهم آلهة، فخرج هذا
جوابًا لذلك فقال: {وَمَنْ
يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ. . .} الآية،
فَإِنْ قِيلَ لنا
في قوله: {إِنَّكُمْ
وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}، وقد عبد عيسى من دونه، وعبد الملائكة دونه؛ فيكون حصب جهنم على
ظاهر ما ذكر، قلنا: تأويل قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللّه حَصَبُ جَهَنَّمَ} أي: {إِنَّكُمْ
وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه} بأمر الذين
عبدوا وقالوا لهم: اعبدوني {حَصَبُ جَهَنَّمَ}، دليله ما ذكر في الآية: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ
مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} أي:
المشركين {الظَّالِمِينَ} وهاهنا: المشركين
الكافرين. ثم
قال الحسن في قوله: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ
مِنْ دُونِهِ}: لا يحتمل
أن يكونوا يقولون ذلك؛ لما وصفهم بالطاعة له وترك الخلاف لأمره، لكنه ذكر هذا؛
ليعلم الخلق أن من قال ذلك وإن عظم قدره عنده، وجلت منزلته أنه يجزيه بما ذكر أنه
يستوجب لذلك. ولكن
عندنا المعصية من الملائكة ممكن محتمل؛ دليله قوله: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ
مِنْ دُونِهِ}، ولأنه قد مدحهم بقوله: {لَا يَعْصُونَ اللّه مَا أَمَرَهُمْ. .
.} الآية.
وقوله: {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ. .
.} الآية،
فدل ذلك كله على أنهم مختارون في ذلك غير مجبولين عليه. وقَالَ بَعْضُهُمْ من أهل التأويل: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ
نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} وهو إبليس هو كان منهم، وهو الذي
قال ذلك {إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ}
فاعبدونى، واللّه أعلم. ٣٠
فَفَتَقْنَاهُمَا
وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (٣٠) قوله: {أَوَلَمْ يَرَ}
يخرج على وجوه: أحدها: أنِ اعْلَمُوا ورُوا: أن السماوات والأرض كانت كذا. والثاني: لو تفكروا وتأملوا لعلموا أنهما كذا. والثالث: على التنبيه: أن قد رأوا وعلموا أنهما كانتا كذا، كذلك هذا في كل
ما ذكر من قوله: {أَوَلَمْ
يَرَوا إِلَى. . .} كذا، و {أَلَمْ
تَرَ إِلَى. . .}، كذا، فهو كله يخرج على هذه الوجوه. ثم
يكون قوله: (وَجَعَلْنَا
مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (٣٠)
وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا
فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١)
وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا)،
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ} كل هذا كان في قوله: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا} كأنه يقول: أولم يروا كذا ما جعلناهم من أنواع ما ذكر، ثم ذكر هذا
لهم يكون لوجوه: أحدها: أن يذكر نعمه عليهم حيث أخبر أن السماء والأرض كانتا رتقا ففتق
منهما أرزاقهم، وذكرهم أنه جعل بالماء حياتهم، وجعل لهم الأرض بحيث تقر بأهلها
وتسكن بهم، وجعلها مهادًا لهم وفراشا بالجبال حتى قدروا على المقام بها والقرار،
ثم قال: إنه جعل فيها فجاجًا وسبلا، ليصلوا
إلى حوائجهم وشهواتهم ومنافعهم التي جعلت لهم في البلاد النائية، وذكرهم نعمه
أيضًا في حفظ السماء عن أن تسقط عليهم على ما أخبر أنه يمسكها هو بقوله: {إِنَّ
اللّه يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا}،
وذكرهم أيضًا نعمه فيما جعل لهم من الليل والنهار وفي الشمس والقمر من المنافع؛
يستأدي بذلك كله الشكر على ما أنعم عليهم. أو أن يذكرهم بهذا قدرته وسلطانه: أن من قدر على فتق السماء من
الأرض، وجعل حياة كل شيء من الماء، وإمساك السماء وحفظها عن أن تسقط بلا عمد، وما
ذكر من خلق الليل والنهار، وقطع الشمس والقمر بيوم واحد مسيرة خمسمائة عام - أن من
قدر على كل ما ذكر لقادر على بعثهم وإحيائهم بعد الموت وبعد ما صاروا ترابًا. أو أن يذكرهم غناه بذاته وملكه: أن من كان هذا سبيله فأنى تقع له
الحاجة إلى اتخاذ الولد أو
الشريك أو الصاحبة ردًّا على ما قالوا: {اتَّخَذَ
اللّه وَلَدًا}، و {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً}، ونحوه، فبين فساد ذلك كله وبطلانه حيث قال: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللّه لَفَسَدَتَا}. وقوله: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ
هُمْ يُنْشِرُونَ} ونحوه، يبين بهذا كله فساد ما ادعوا
على اللّه أنه اتخذ كذا. ثم
اختلف في قوله: {كَانَتَا
رَتْقًا}: قَالَ
بَعْضُهُمْ: فتق السماء بالمطر، والأرض بالنبات: فتق السماء، وهي أشد الأشياء
وأصلبها بألين شيء وهو الماء، وكذلك الأرض فتقها بالين شيء وهو النبات مع شدتها
وصلابتها، وهو ما ذكرنا من لطفه وقدرته. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: {كَانَتَا رَتْقًا} ملتزقتين، ففتقهما أي: جعل بينهما هواء مكانا لتخلق. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: كانت السماء واحدة والأرض كذلك، فجعل من السماء سبعًا ومن الأرض
كذلك سبعًا، فكذلك فتقه إياهما، واللّه أعلم. وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}. قَالَ
بَعْضُهُمْ: الماء نطفة الرجال منه يخلق الخلائق. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ} الذي خلق في الأرض، أو أنزل من السماء حياة كل شيء، يعلم حياة خلائق الأرض بهذا الماء،
ولكن لا يعلم حياة أهل السماء بماذا؟ واللّه أعلم. ٣١
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا
فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) هذا
يدل أن الأرض لم يكن من طبعها في الأصل التسفل والتسرب في الماء على ما قاله بعض
الناس؛ لأنه لو كان طبعها التسفل والتسرب لكان الجبال تزيد التسفل في الماء
والتسرب، فإذا لم يكن دل أن طبعها كان الاضطراب والزوال والتحرك والميد فأصلها:
ليس التسفل والتسرب ولكن على ما ذكرنا فأثبتها بالجبال، وإن كنا نشاهد بعض أجزائها
أنها تسفل وتسرب، وهذا كما نقول: إن بعض العالم متعلق ببعض وأنه لا يخلو عن مكان،
وكل العالم لا تعلق له به ولا الأمكنة آخذة لها، فعلى ذلك الأرض. أو أن كان طبعها التسفل والتسرب جعلها بحيث تقر وتسكن بشيء طبعه
الئسفل أيضا باللطف. وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا}. قَالَ
بَعْضُهُمْ: الفجاج والسبل واحد، وهي الطرق التي جعلها في الجبال. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: الفجاج: السعة والفسحة، والسبل: الطرق. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: الفجاج: هي الطرق التي في الجبال، والسبل: هي التي في المفاوز. ٣٢
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا
مُعْرِضُونَ (٣٢) قَالَ
بَعْضُهُمْ: {مَحْفُوظًا}،
أي: محبوسًا عن أن يسقط عليهم. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: محفوظًا من الشياطين، أي: صار محفوظًا منهم؛ حتى لا يستمعوا كلام الملائكة بعد ما كانوا
يستمعون من قبل، واللّه أعلم. ٣٣
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣) قَالَ
بَعْضُهُمْ: الفلك: السماء. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: استدارة السماء. وقيل: الفلك: المجرى والسرعة. وقيل: الفلك: فلكة كفلكة المغزل وهو دورانه، وكذلك فلكة الطاحونة: هو ما
يدور به الطاحونة، وهي الحديدة التي تدور بها الطاحونة، وقالوا: إن الفلك استدارة
وكل شيء دار فهو فلك وهو ما ذكرنا. وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {يَسْبَحُونَ}، قَالَ
بَعْضُهُمْ: يجرون. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: يسبحون: يعلمون، وكذلك روي في حرف عبد اللّه: (كل في فلك يعلمون).
وظاهر
الآية: أن يكون هنالك بحر ونهر فيه يجري
الشمس والقمر وفيه يغربان ومنه يطلعان؛ لأنه قال: {فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}، والسباحة هي المعروفة عند الناس، وهو ما يسبح المرء في بحر أو نهر، هذا ظاهر الآية، وعلى ذلك جاءت الأخبار؛ روي عن ابن
عَبَّاسٍ عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ
وَسَلَّمَ - أنه قال: " خلق اللّه بحرا دون سماء الدنيا مقدار ثلاث فراسخ، فهو موج
مكفوف قائم في الهواء بأمر اللّه تعالى، لا يقطر منه قطرة والبحور كلها ساكنة،
وذلك البحر جار في سرعة السهم، ثم انطباقه في الهواء مستو كأنه حبل ممدود ما بين المشرق
والمغرب، فتجري الشمس والقمر والخنس في ذلك البحر "؛ فذلك قوله: {كُلٌّ
فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} والخنس: هي التي تخنس
بالنهار وتجري بالليل، والفلك: دوران العجلة، في لجة: غمرة ذلك البحر، وقال رسول
اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ
-: " والذي نفسي بيده لو بدت الشمس من ذلك البحر، لحرقت كل شيء في الأرض حتى
الصخور، ولو بدا القمر من ذلك البحر لافتتن به أهل الأرض كلها يعبدونه من دون
اللّه إلا من عصمه اللّه ". وفي
بعض الأخبار: (الفلك: ماء مكفوف يجري فيه الشمس والقمر والنجوم والليل والنهار)،
ويقال: الشمس والقمر والليل والنهار كله
دون السماء يدور به الفلك، ومثل هذا قد قيل فيه، واللّه أعلم. وظاهر
الآية في الخبر ما ذكرنا: أن الشمس والقمر
هما اللذان يجريان ويسبحان في ذلك الماء. وعلى
تأويل بعضهم أنهما على حالهما لا يجريان، لكن الفلك هو يجري فيظهران ويبدوان في
وقت ويختفيان في وقت آخر، ولو كانا هما اللذان يجريان لكانا على حالة واحدة
ويظهران في الأحوال كلها، لكنا لا نعلم ذلك إلا بالخبر عن اللّه أنه كذلك، واللّه
أعلم. ٣٤
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ
فَهُمُ الْخَالِدُونَ}. كأنه
خرج جوابًا لقول أُولَئِكَ الكفرة في رسول اللّه صلوات اللّه عليه، والأشبه أن يكون ما أصابهم
من الشدائد والفتن والهلاك كانوا يتشاءمون برسول اللّه - صَلَّى
اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويتطيرون به أن ذلك
إنما يصيبهم به، وقالوا: لولا هو ما يصيبنا من ذلك شيء، فقال جوابًا لهم: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} بل حكمه أن يموت الكل على ما أخبر: {كُلُّ
نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} فإذا لم يكن لأحد من
قبلك الخلد بل كلهم قد ماتوا كيف يتشاءمون بك أن ذلك إنما يصيبهم بسببك وشؤمك؟! {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}،
أي: وإن مت أنت وتخرج من بينهم لا
يخلدون هم فيها؛ لأن من حكمه أن كل نفس ذائقة الموت. ٣٥
(وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا
تُرْجَعُونَ (٣٥) قد ذكرنا تأويله فيما تقدم في غير موضع. ٣٦
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا
أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ
كَافِرُونَ (٣٦) كان
رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ
- يذكر آلهتهم بسوء ويعيبها، يهزءون به مكان ما يعيب هو آلهتهم ويقولون: {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ}. ثم
يحتمل أن يكون من القادة منهم والرؤساء؛
إغراء لأتباعهم عليه أنه يذكر آلهتكم بسوء. أو أن يقول بعضهم لبعض إذا خلوا عنه؛ كقوله: {وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ
قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ. . .} الآية. وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ}. قَالَ
بَعْضُهُمْ: كانوا يقولون: لا نعرف ما الرحمن؟ فيكفرون باسم الرحمن. ويحتمل أن يكون قوله: {بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ} بنعمة الرحمن وهو مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أي:
يكفرون بنعمته. أو أن يذكر هذا، ليصبر رسوله ويعزيه على تكذيبهم، ليس أياديك بأكثر
من أيادي الرحمن، فهم يكفرون به ويكذبونه ويقولون فيه ما يقولون، فاصبر أنت على
أذاهم وما قالوا فيك، واللّه أعلم. ٣٧
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ...
(٣٧) وقال في آية أخرى: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا}، قال الحسن: عجولا، أي: ضعيفا، وضعفه هو أن يضيق صدره ويحرج عند إصابة أدنى شيء، حتى
يحمله ضيق صدره على أن يدعو على نفسه وعلى مجيئه بالهلاك لضيق صدره وذلك لضعف فيه.
وعندنا:
أنه خلقه عجولا حتى لا يصبر على حالة واحدة وإن كانت الحالة حالة نعمة ورخاء حتى
يمل عنها ويسأم ويريد التحول إلى حالة هي دون تلك الحالة ويرضى بشيء دون، لكنه وإن
خلقه على ما أخبر جعل في وسعه رياضة نفسه حتى يصير صبورًا
حليمًا، وهو ما أخبر (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ
هَلُوعًا (١٩) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ
جَزُوعًا (٢٠) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ
مَنُوعًا (٢١) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلَى
صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (٢٣). أخبر
أنه خلقه هلوعًا، ثم استثنى المصلين؛ دل أنه بالرياضة يتحول عن الحالة التي خلقه
إلى حالة أخرى، وهي حالة الحلم والصبر، وكذلك ما أخبر: {وَكَانَ
الْإِنْسَانُ قَتُورًا}، كان كذلك في الابتداء،
لكنه بالرياضة والعادة يصير سخيَّا جوادا، وكذلك ما قال: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} ثم قال:
{وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ}،
أخبر أن الأنفس أحضرت الشح، ثم أخبر أن من يوق شح نفسه فله كذا؛ دل بهذا كله أنه
بالرياضة والعادة يحتمل
التحول إلى حالة السخاء والجود بعد ما كان شحيحًا
قتورًا بخيلا؛ فعلى ذلك ما ذكر من العجلة والهلع والجزع فيه يحتمل بالرياضة والعادة إلى أن يصير حليمًا صبورًا في الأمور غير ملول
فيها، وليست المحنة إلا الرياضة والعادة، فأمره أن يروض نفسه ويعودها القيام بجميع
ما أمره اللّه، ويكفها عن جميع ما نهى عنه، فيعتاد اتباع أمره والانتهاء عن نهيه،
واللّه الموفق. وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ}. يشبه
أن يكونوا سألوا رسول اللّه الآيات على رسالته أنه رسول، أو سألوه آيات على وحدانية اللّه وربوبيته، فقال: {سَأُرِيكُمْ
آيَاتِي}، من الوجه الذي يريد ربي ويبين لكم ذلك، لا من الوجه الذي تريدون
أنتم وتسألونه. وقال
بعض أهل التأويل: سأريكم آياتي فيما نزل من العذاب فيهم وفي منازلهم، فلا تستعجلون
أنتم العذاب على من كان قبلكم من الأمم بتكذيبهم الرسل، فإن سافرتم وضربتم في
الأرض رأيتم آثار العذاب فيهم وفي منازلهم؛ فلا تستعجلون أنتم العذاب الذي يعد لكم
الرسول، كأنه يخوفهم العذاب ويعد لهم إياه، فكذبوه في ذلك فقال عند ٣٨
ذلك
ما قال، ويقولون أيضًا: (مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٣٨) بأنا نعذب. وجائز
أن تكون الآية فيهم بتكذيبهم الساعة والقيامة
وإنكارهم إياها، فقال:
{سَأُرِيكُمْ آيَاتِي} التي تكون قبل وقوعها ٣٩
{فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} وقوعها ووجوبها؛
دليله ما ذكر: (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ
لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ
يُنْصَرُونَ (٣٩) وقوله: {بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً. . .} الآية.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ
-: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}
ما نزل بهم بوقوع القيامة حتى لا يملكون كفها عن وجوههم ولا عن ظهورهم ولا هم
ينصرون، إنما تحيط بهم حتى لا يملكون هم دفعها عن أنفسهم، ولا يملك ما اتخذوا
أنصارًا وأعوانا في الدنيا دفع ذلك أيضًا، وهو كقوله: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ.
. .} الآية،
وقوله: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ
الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}. ٤٠
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً (٤٠) أخبر
أنها تأتيهم بغتة - أي:
فجأة - لا يعلم أهلها عن وقت وقوعها {فَتَبْهَتُهُمْ}، قال أهل التأويل: {فَتَبْهَتُهُمْ}: صتفجأهم، والبهتة كأنها حيرة، يقول: تأتيهم بغتة فجأة فتحيرهم،
وهو ما أخبر: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى}؛ وذلك لحيرتهم في أنفسهم، وهو ما ذكر: {إِنَّمَا
يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ. . .} الآية؛
يصيرون حيارى؛ لشدة أهوالها. وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ}. أخبر
أنهم لا يملكون دفعها إذا وقعت بهم، {وَلَا هُمْ
يُنْظَرُونَ} في وقوعها أن من ابتلى بالبلايا في الشاهد فإنما يملك دفعه عن
نفسه إما بقوة نفسه، وإما بأعوان وأنصار ينصرونه ويعينونه في دفعه عنه، وإما
بالتضرع والابتهال والاستسلام، كقوله: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا
تَضَرَّعُوا. .} الآية، فأخبر عَزَّ وَجَلَّ: لا يملكون دفعها بقوى أنفسهم ولا بأنصارهم الذين استنصروا؛ حيث قال: {وَلَا
هُمْ يُنْصَرُونَ}، {وَلَا
هُمْ يُنْظَرُونَ} بالتضرع والاستسلام. ٤١
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ
سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (٤١)
فيه تصبير رسول اللّه على ما يستهزئون به؛ لأنه قال: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ
قَبْلِكَ}، أي:
لست بأول رسول للّه استهزأ به قومه، فيه تخويف أُولَئِكَ باستهزائهم به بما نزل بأوائلهم باستهزائهم برسلهم. وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {فَحَاقَ} قال أهل التأويل: حاق: نزل ووجب
ووقع وأمثاله. وقال
بعض أهل المعاني: الحيق: هو ما اشتمل على الإنسان من مكروه، أي: بفعله؛ كقوله: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ
إِلَّا بِأَهْلِهِ}، وقَالَ
بَعْضُهُمْ: حاق، أي: رجع عليهم وأحاط بهم. ٤٢
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ}. أي: من يحفظكم ويحرسكم من عذاب الرحمن. وقيل: من يدفع عنكم عذاب الرحمن. ثم
هذا يخرج على وجهين: أحدهما: قوله:
{قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} أي:
لو سألتم من يكلؤكم من عذاب الرحمن لأقروا لك أن الرحمن هو الذي يكلؤهم ويحفظهم من
عذابه، لا الآلهة التي يعبدونها، وهو كقوله: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ}، وقل {مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ
كُلِّ شَيْءٍ}، ونحوه، فسيقولون: اللّه، لا الآلهة التي يعبدونها، فقل: أن كيف
صرفتم عن عبادته وعبدتم دونه من لا يكلؤكم ولا يدفع عنكم العذاب، وقد عرفتم أن
الرحمن هو الذي يكلؤكم بالليل والنهار، وهو إله السماوات والأرض، فكيف عبدتم من
ليس هو بإله؟! فيخرج عن الاحتجاج عليهم ولزوم الحجة لهم؛ لئلا يقولوا: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}. والثاني: يخرج على التذكير والتنبيه لهم؛ لأنهم كانوا ينكرون الرحمن
ويقولون: ما الرحمن؛ وقوله: {وَهُمْ يَكفُرُونَ بِالرَّحْمَن}، فيخرج قوله: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ} أي:
كيف تنكرون الرحمن وتكفرون به وهو يكلؤكم بالليل والنهار عن عذابه، وعلى هذا يخرج {بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ}، أي:
بل هم عن ذكر ربهم الرحمن معرضون، أي: منكرون له، واللّه أعلم. ٤٣
وقوله: (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ
دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣) أي: ليس لهم آلهة من دوننا تمنعهم من عذابنا، هو على النفي، أي: ليس لهم الآلهة من دونه وإن كان
ظاهره استفهامًا، ثم بين موضع
الاحتجاج عليهم، وهو ما أخبر عن عجزهم حيث قال: {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ
وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} أي: لا يستطيع الآلهة نصر أنفسها إذا
أرادوا بها سوءًا، {وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} أي:
ينصرون، تأويله: أن كيف عبدتم من دونه واتخذتموهم آلهة رجاء شفاعتهم ووسيلتهم حيث
قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى}، ونحوه، وفي قولهم: {هَؤُلَاءِ
شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّه}، فإذا كانوا لا يملكون
نصر أنفسهم إن أصابها سوء ولا يصحبها من يدفع عنها السوء، فكيف اتخذتم آلهة دونه،
فمن كان عن دفع السوء عن نفسه ونصرها عاجزا، فهو عن دفعه عن الآخر ونصره أعجز. ٤٤
ثم
بين الذي حملهم على ذلك وهو ما قال: (بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ
حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ (٤٤)
ولم يأخذهم بالعقوبة بأعمالهم التي عملوها فظنوا أن اللّه راضٍ عنهم وأنهم على
الحق؛ ولهذا قالوا: {لَوْ شَاءَ اللّه مَا أَشْرَكْنَا وَلَا
آبَاؤُنَا}، ادعوا رضاء اللّه بما هم عليه وآباؤهم. ثم
بين أنه وإن تركهم وقتًا طويلا ومتعهم عليه أنه قد نقص عما كانوا يملكون هم؛ حيث
غلب عليهم رسول اللّه على بعض أملاكهم وجعله ملكا للمسلمين وهو قوله: {أَفَلَا
يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا}، وجعلناها ملكا للمسلمين. ثم
اختلف في تأويل هذا؛ قال الحسن: قوله:
{أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ
أَطْرَافِهَا} أي:
اعكموا أنا ناتي الأرض ننقصها من أطرافها، أي: نحشرهم يوم القيامة من أطراف الأرض إلى المحشر، فذلك نقصها. وقال
غيره: أفلا يرون أن رسول اللّه كلما بعث
إلى أرض ظهر عليها، قال:
ننقصها بالظهور عليها أرضًا فأرضًا، {أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ}، أي:
ليسوا هم الغالبين، ولكن رسول اللّه هو الغالب عليهم. وقال
ابن عَبَّاسٍ: ننقصها: ذهاب فقهائها
وخيار أهلها. وقال
قتادة: ننقصها بالحرث، وكذلك قال عكرمة: ننقصها من أطرافها بالموت، وقال: لو كانت الأرض تنقص لم يوجد للرجل مجلس يجلس فيه، ونحو هذا قد
قالوا فيه. ٤٥
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ
-: (قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ ...
(٤٥) هذا
- واللّه أعلم - يخرج على وجهين: أحدهما: خرج جوابًا لقولهم: {مَا أَنْتَ إِلَّا
بَشَرٌ مِثْلُنَا}، أنهم كانوا ينكرون رسالته ويقولون:
إنه بشر كيف خص هو به؟ فيقول: إني لست أنذركم لأني بشر، ولكن إنما أنذركم بالوحي
من اللّه، وأنتم ممن لا تقبلون بشارة ربي ونذارته. والثاني: قال ذلك لما تقدم منه في الآيات النذارةُ المرسلة غير مضافة إلى
اللّه، فأمره أن يقول لهم: إني فيما أنذركم من النذارات، لم أنذركم من ذات نفسي،
ولكن إنما أنذركم بالوحي من ربي، فمعناه - واللّه أعلم - أي: فيما أنذرتكم مما نزل بالأمم المتقدمة والأنباء التي أخبرتكم عنها
مما لم أشهدها ولا أنتم، بل إنما أنذركم بالوحي، فذلك موضع الاحتجاج عليهم في
إثبات رسالته. وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ}. هذا
- واللّه أعلم - يقول: إن الأصم إذا أريد أن يدفع عن المهالك لا سبيل أن يدفع عنها ويكف بالدعاء
والنداء، ولكن إنما يكف ويدفع عن المهالك بالأيدي والراحات، كأنه قال ذلك لما أكثر
دعاءهم إلى ما به نجاتهم فأبوا ذلك ولم يجيبوه، فقال عند ذلك: إنكم لا تسمعون
الدعاء والنداء إلى ما به نجاتكم، ولكن تعرفون ذلك بالقتل والسيف. أو أن يقول ذلك: إنكم صم عن الحق حتى لا تسمعونه كالأصم بالسمع، والأصم يالسمع لا يدعى ولا ينادى؛ لأنه لا يسمع، ولكن يدعى باليد
والإشارة، فعلى ذلك أنتم صم عن الحق لا تدعون بالنداء، ولكن بالذي يعرف الدعاء وهو
اليد، واللّه أعلم. ٤٦
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا
وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (٤٦) قال
الحسن: {نَفْحَةٌ} أي:
طائفة من عذاب ربك. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: نقمة من ربك. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: عقوبة ربك، وأصل النفحة: الرمية؛ ولذلك سمي نفحة الدابة: أي رميها، وهو ما ذكر من رمي الشرر؛ كقوله: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ}. ٤٧
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا
تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا
بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (٤٧) في
ظاهر الآية أن الموازين هي القسط، والقسط هو
العدل؛ لأنه قال: {وَنَضَعُ
الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ}؛ فكأنه قال: ونضع الموازين التي توضع في الدنيا
ويعرف بها حقوق الناس في الآخرة
العدل الذي يعرف به حدود الأشياء وأقدارها، فيكون الموازين العدل ما ذكر بقوله: {فَلَا
تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا}، أي: لا ينقص من حسناته أو يزاد على جزاء سيئاته، ولكن يوفى كل جزاء عمله. ويحتمل أن يكون قوله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} على الإضمار، أي: نضع الموازين التي تكون في الدنيا يوم القيامة بالعدل لا تطفف ولا
تنقص ولا تحسر، كما تفعلون في الدنيا، ولكن العدل لا تطفف ولا تنقص ذلك تسوى
وتستوفى مستويا من غير زيادة ولا نقصان؛ لأن الزيادة والنقصان إنما تكون في الشاهد
لوجوه: الجهالة، أو
للحاجة، أو للجور، فيحمله كله على الزيادة والنقصان، واللّه - سبحانه وتعالى - يتعالى عن ذلك كله؛
لأنه عالم بذاته غنى بذاته عادل، فلا وجه للخسران منه والزيادة فيه. وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا}. أي: أتينا بجزائها، أو
أتينا بها، أي: بعينها لا يفوت شيء ولا يغيب عنه. وليس
المراد من ذكر {مِثْقَالَ حَبَّةٍ} و {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}، الذرة، والحبة، ولكن
ذكر على التمثيل، أي:
لا يفوت عنه شيء ولا يغيب ذلك المقدار من الخير والشر غير فائت عنه ولا منسى، ولكن
محفوظ محاسب. وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}. لا
يشغله كثرة الحساب وازدحامه، ليس كمن يحاسب آخر في الشاهد أنه إذا كثر الحساب عليه
وازدحم شغله ذلك عن حفظ الحساب، واللّه أعلم. ٤٨
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ}. فهو
ما يفرق بين الحق والباطل، وبين المشتبه والواضح، وبين ما يؤتى ويتقى، وبين ما
عليهم ولهم، والنور: ما يتجلى به حقائق الأشياء، والضياء هو ما يظهر به حسن ما
يتجلى واستنار، وروح: هو ما به حياة كل شيء، القرآن سماه: روحًا؛ لأنه به حياة
الدِّين، وسمى الماء: حياة؛ لأن به حياة الأبدان، والمبارك هو ما ينال به ويصل
إليه من كل خير، والذكر: هو ما يذكر ما لهم وعليهم. {وَذِكْرًا}. قيل:
هو الموعظة، والموعظة: قيل: هي التي تلين القلوب وتوسع الصدور وتفسح ويخشع بها الفؤاد، وعلى
هذا الوصف جميع كتب اللّه الذي وصف هذا القرآن
بها، ثم بين أنها على الوصف الذي ذكر لِمَنْ، فقال:
{لِلْمُتَّقِينَ} وإن كانت هي في أنفسها
على الوصف الذي ذكر، فإنها تتجلى بها الشبه من الحقائق والحق من الباطل لمن قبلها
وأقبل نحوها ونظر إليها بعين التعظيم والإجلال، فأما من أعرض عنها فليست لهم على
ما ذكر، لكن على ما أخبر بقوله: {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى
رِجْسِهِمْ}. ٤٩
ثم
بين من المتقون؟ فقال:
(الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ
مُشْفِقُونَ (٤٩) يحتمل قوله:
{يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ}، أي: يخشون العذاب الموعود في الغيب وهو
عذاب الآخرة ونقمتها، إن المؤمنين خافوا العذاب الموعود في الآخرة، فيحذرون ما به
يحل ذلك، وأما الكفار فإنهم لم يخافوا العذاب الموعود في الآخرة ولم يصدقوه إنما
يخافون العذاب المعاين المشاهد، فأما العذاب الموعود في الغيب فلا يخافونه. ويحتمل أيضًا قوله:
{يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ}، أي: يهابون ربهم ويخافونه وإن لم يروه؛
لما رأوا من آثار سلطانه وملكه. وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ}
يحتمل: هم من أهوال الساعة وأفزاعها
خائفون. أو أن يكون قوله: وهم من محاسبة أعمالهم مشفقون خائفون، فحاسبوا أنفسهم في الدنيا؛
إشفاقًا على محاسبة أنفسهم في الآخرة. ٥٠
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ
(٥٠) الذكر
المبارك ما ذكرنا. وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ}
ظاهره وإن كان استفهامًا فهو في الحقيقة إيجاب؛ كأنه قال: وهذا ذكر مبارك أنزلناه وتعرفونه أنه كذلك، فأنتم مع هذا له
منكرون، يذكر سفههم وتخبر عن عنادهم. ٥١
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ}. قال
الحسن: رشده: دينه وهداه. وقال
غيره: رشده: النبوة. ويثبه
أن يكون قوله: {آتَيْنَا
إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ} حججه وبراهينه التي حاج بها قومه على غير تعليم من أحد، وفيه
دلالة أن ليس كل رشد وهدى بيانًا؛ لأنه لو كان كله بيانًا لم يكن لتخصيص إبراهيم بالرشد كثير معنى؛ إذ
هو في ذلك البيان وغيره من الكفرة والفراعنة سواء، فدل قوله: {آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ} أنه يكون من اللّه
للمهتدين فضل صنع ليس ذلك في الكافرين، وهو التوفيق والعصمة. وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {مِنْ قَبْلُ} قَالَ
بَعْضُهُمْ: من قبل الأوقات التي يعطى البشر الرشد وهو حال الصغر. ويحتمل قوله:
{مِنْ قَبْلُ} أي: من قبل مُحَمَّد. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: من قبل موسى وهارون. ويحتمل: {آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ} من قبل إيمان أهل
الأديان كلها؛ لأن جميع أهل الأديان يدعون أنهم على دين إبراهيم، فلا يحتمل أن يكون دينه ورشده الذي آتاه اللّه هو كل ذلك، بل إنما كان ذلك
واحدًا، فوجب النظر فيه والتأمل في ذلك؛ ليظهر الدِّين الذي كان عليه إبراهيم. وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ}. يحتمل قوله:
{وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ}، أي: بالرشد والدِّين الذي عليه إبراهيم عالمين من قبل. ٥٢
أو أن يكون قوله: {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ}، أي:
كنا بجميع ما يكون من إبراهيم عالمين. وقوله
تعالى: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا
هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (٥٢)
كأنه قال: ما هذه التماثيل التي اتخذتموها {أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}، أي: إنما يعبد من يعبد لفعل يكون من
المعبود إلى من يعبده، فأما أن يعبد ما يفعله من المعبود فلا يحتمل، وهو ما قال إبراهيم: (أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (٩٥)
وَاللّه خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)،
يسفههم ويعيب
عليهم لعبادتهم ما ينحتون هم بأيديهم ويتركون عبادة من خلقهم وخلق أعمالهم. ٥٣
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (٥٣) قد
انقطع حجاجهم لما قال لهم إبراهيم ما قال وأظهر سفههم، ففزعوا إلى تقليد آبائهم فقالوا: (وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (٥٣)
٥٤
قَالَ
لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٥٤) لم ينكر عليهم فعل آبائهم وعبادتهم الأصنام، ولكن
أقر لهم بصنيع آبائهم، ثم جمعهم وآباءهم وأخبر: {أَنْتُمْ
وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} بعبادة الأصنام. ٥٥
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (٥٥) لما
علموا أن مثل هذا القول لا يقوله إلا من كان عنده حجة وبرهان، فقالوا: أجئتنا بما
تقول بحجة، {أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ}
تلعب بنا وتهزأ؟ وأخبر أنه جاءهم بالحق وبين لهم ذلك الحق ٥٦
فقال: (بَلْ
رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ (٥٦) لا الأصنام التي تعبدونها، أي: {رَبُّكُمْ
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الذي يعرف بالدلالات
والبراهين وآثار الصنعة في غيره، لا الذي أحدثتم أنتم واتخذتموه، واللّه أعلم. وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ}. يحتمل: وإنا على جميع ما قال وكان منه من الحجاج وإقامة الحجج على
ألوهية اللّه تعالى وتسفيه أُولَئِكَ في عبادة الأصنام - من الشاهدين، أو من الشاهدين على خلقها. ويجوز
أن يقال: الشاهد: المبين، وأنا على ذلكم من
المبينين، واللّه أعلم. ٥٧
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَاللّه لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا
مُدْبِرِينَ (٥٧) إن
الأصنام لا يقصد إليها بالكيد، لكن تأويله - واللّه أعلم - لأكيدن لكم في أصناكم. وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ}
قال عامة أهل التأويل: إن إبراهيم إنما قال ذلك: {لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ
بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} من الأصنام إلى
عيدهم؛ لأنهم كانوا يخرجون إلى عيدهم من الغد، فقال: {لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ}، أي:
لأكيدن لكم في أصنامكم {بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا
مُدْبِرِينَ} منها إلى عيدكم. وجائز
أن يكون قوله: {لَأَكِيدَنَّ
أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ}
عني، وكانوا في ذلك الوقت بحضرة الأصنام؛ ألا ترى أنه قال لهم: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}، ومثل هذا الكلام لا يقال إلا بحضرة الأصنام؛ لأنه أشار إلى
الأصنام فقال: {مَا
هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}،
فقال عند ذلك: {وَتَاللّه لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ}،
أي: لأكيدن لكم في أصنامكم بعد أن تولوا
مدبرين عني؛ على التأويل الأول، يكون توليهم الأدبار عن الأصنام إلى عيدهم، وعلى
التأويل الثاني يكون توليهم الأدبار عن إبراهيم، واللّه أعلم. ٥٨
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا ... (٥٨) و
{جِذَاذًا}: قَالَ
بَعْضُهُمْ: قطعًا. وقَالَ
الْقُتَبِيُّ: جذاذا: فتاتا، وكل شيء
كسرته فقد جذذته؛ ومنه قيل للسويق: جذيذ،
والجد: هو القطع، والمجذوذ: المقطوع، وذلك قوله: {غَيْرَ مَجْذُوذٍ} أي:
غير مقطوع. وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ} لم يكسره {لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ}. يقول:
إلى الصنم الأكبر الذي لم يكسره إبراهيم يرجعون من عيدهم. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: لعلهم إلى الحجة يرجعون، وقيل: هو أحج القولين، أي: من الحجة. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: {لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ}، أي:
يتذكرون. وجائز
أن يكون قوله: {لَعَلَّهُمْ
إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ}، أي: يرجعون إلى ما يريد أن يكيد لهم في
أصنامهم؛ لأنه إنما يريد أن يكيد لهم إذا رجعوا إلى الأصنام فرأوها مجذوذة،
والكيد: هو الأخذ على الأمن وكذلك المكر. ٥٩
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) لو
تأملوا كانوا هم الظلمة في الحقيقة؛ لأنهم كانوا يعبدون تلك الأصنام رجاء منفعة
تكون لهم حيث قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا
لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى}، و {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّه}،
فإذا رأوهم لا يقدرون على دفع الكسر والقطع عن أنفسهم ودفع من فعل بهم ذلك، كيف
طمعوا منها نفعًا أو
دفع الضر عن أنفسهم؛ لأن من عجز عن دفع الضر عن نفسه فهو عن دفعه عن غيره أعجز،
فهم الظلمة في الحقيقة؛ حيث طمعوا النفع ودفع الضر ممن لا يملك ذلك لنفسه، لكن
قالوا ذلك سفها منهم. ٦٠
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ ...
(٦٠) بالكيد لهم حين قال: {لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ}، سمع ذلك القول منه ناس، فأخبروا قومهم لما قالوا: {مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا}
فعند ذلك قالوا: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} بالكيد لهم {يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ}. وجائز
أن يكون قوله: {قَالُوا
سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ}: بالعداوة، وهو حين قال: {فَإِنَّهُمْ
عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ}،
أخبر أن أُولَئِكَ الذين
عبدوا الأصنام أعداء له، فالمعبود الذي عبدوه يكون عدوا له أيضًا، فاستدلوا بذلك
القول منه أنه هو فعل بهم ما فعل،
واللّه أعلم. ٦١
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ
يَشْهَدُونَ (٦١) قَالَ
بَعْضُهُمْ: على رءوس الناس. وقيل: بحيث ينظر الناس إليه، أو بحيث يراه الناس، وهو واحد. وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ}. اختلف
فيه: قَالَ
بَعْضُهُمْ: يشهدون عقوبته بما فعل بأصنامهم؛ فيكون نكالا له وزجرًا لغيره عن
أن يفعل بها مثل ما فعل هو؛ ولذلك قالوا: {حَرِّقُوهُ} نكالا وزجرًا لغيره؛ كقوله: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ
يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا}، أي: زجرًا، وكقوله: {فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ}. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: {لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} بفعله الذي فعله بالأصنام، لم يريدوا أن يعاقبوه بلا بينة ولا
حجة. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: لعلهم يشهدون أنه قال لآلهتهم ما قال، واللّه أعلم. ٦٢
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (٦٢)
قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ). اختلف
في هذا: قَالَ
بَعْضُهُمْ: هذا القول من إبراهيم كذب في الظاهر فيما أراد أن يكيد لهم، وإن لم يكن في الحقيقة عنده
كذبًا، وكذلك ما قال:
{إِنِّي سَقِيمٌ}، وكان صحيحًا، وقوله: {هَذَا رَبِّي}،
ومثل هذا قالوا: هذا في الظاهر كذب، وإن لم يرد هو به في الحقيقة كذبا. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: إنه إنما قال ذلك على أن يريهم من نفسه الموافقة لهم في الظاهر؛
ليكونوا للحجج أسمع وللبراهين أقبل، فيكون تأويله - واللّه أعلم -: لعل كبيرهم فعل
بهم هذا. أو أن يقول: أكبر فعل هذا بهم وكذلك قالوا في قوله: {هَذَا
رَبِّي}. ٦٣
قَالَ
بَعْضُهُمْ: ليس هذا ولا فيه كذب في الظاهر، ولكن قال ذلك على الشرط حيث قال: (بَلْ
فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣) أي: بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون، علق فعله بشرط النطق، فإذا كانوا
لا ينطقون لم يجئ منه. وقوله: {إِنِّي سَقِيمٌ}، أي:
سأسقم وكل حي يسقم يومًا، وقوله: {هَذَا رَبِّي}،
أي: ليس هذا ربي ومثل هذا قد قالوا،
واللّه أعلم. ٦٤
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ ...
(٦٤) أي: رجعوا إلى أنفسهم باللائمة، فقالوا فيما بينهم: {إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ}
هذا يحتمل وجوهًا: إنكم
أنتم الظالمون حيث نسبتم الفعل بهذه الأصنام والكسر إلى إبراهيم وقلتم: إنه فعل ذلك بهم، وإنما فعل بهم هذا كبيرهم؛ لما وقع عندهم
أن كبيرهم هو الذي فعل بهم. والثاني: إنكم أنتم الظالمون حيث اتخذتم مع كبيرهم آخرين شركاء في العبادة
حتى غضب عليهم فكسرهم. أو أن يكون قوله: {إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} يعنون الأصنام المكسورة: يا هَؤُلَاءِ
{إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ}؛ حيث حملتم
الكبير على تكسيركم، واللّه أعلم بما أرادوا بذلك، ولا يجوز لنا أن نزيد أو ننقص في هذه الأنباء المذكورة في الكتاب، أو نقطع على جهة دون جهة؛ لأنها ذكرت ليحتج عليهم بما في كتبهم، فلو
زيد أو نقص أو
قطع على جهة دون جهة
يذهب الاحتجاج بها عليهم، واللّه أعلم. ٦٥
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ
يَنْطِقُونَ (٦٥) قوله: {نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ} للتفكر والنظر في قول إبراهيم حيث قال:
{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا
يَنْطِقُونَ}، إنما علق فعل الكبير بهم إن نطقوا، فقالوا: لقد علمت يا إبراهيم ما هَؤُلَاءِ ينطقون، فكيف قلت: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ}، فإذا كانوا لا ينطقون لم يفعل كبيرهم، ثم ٦٦
قال: (أَفَتَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللّه مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (٦٦) فَإِنْ قِيلَ: إن إبراهيم
لم يحتج عليهم أن كيف تعبدون من دون اللّه ما لا ينطق؟ ولكن قال: {أَفَتَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللّه مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ}. قيل: قد كان احتج عليهم من ذلك النوع حيث قال: (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ)، وبعد فإنه قد احتج
عليهم بعجزهم عن النطق حيث قال: {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا
يَنْطِقُونَ}، ثم قال هاهنا: {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللّه مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا} إن عبدتموهم {وَلَا يَضُرُّكُمْ} إن تركتم عبادته. ٦٧
(أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه أَفَلَا
تَعْقِلُونَ (٦٧) أُفٍّ: هو كلام كل مستخف بآخر ومستحقر له في فعله؛ يقول: {أُفٍّ لَكُمْ}، فإبراهيم حيث قال ذلك لهم إنما
قال استخفافًا بهم وبما عبدوه، {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}: أن عبادة من لا ينفع ولا يضر لا تصلح ولا تحل. وفي
أنباء إبراهيم خصال ليست تلك في غيرها
من الأنباء: إحداها:
أنه لم يترك صنما كان يعبد دون اللّه إلا وقد نقض ذلك. والثانية:
أنه حاج قومه أولا في فساد مذاهبهم وفساد ما اعتقدوه، ثم بعد ذلك أقام عليهم حججه
وبراهينه؛ لأنه قال:
{هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ}، وقال: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا
فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ}،
وقال: {فَإِنَّ اللّه يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ
الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ}،
فلما أراهم فساد مذهبهم، فعند ذلك ذكر حججه وبراهينه حيث قال: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي
فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا}،
وقال: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ. .
.}، وهكذا الواجب على كل متناظر أن يبدأ أولا بإظهار فساد مذهب خصمه،
فإذا أراه فساد مذهبه، فحينئذ يذكر حجج مذهبه وبراهين ما يعتقد؛ ليكون لها أسمع
وعند إقامتها أقبل. والثالثة:
أنه لم يبتل نبي قط بفرعون مثل فرعونه ولا قوم مثل قومه في السفه والبغض والهم
بقتله بالنار. وجائز
أن يكون خصوصية الخلة لهذه الخصال التي ذكرناها، واللّه أعلم. ٦٨
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ
-: (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (٦٨) هذا ظاهر. ٦٩
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (٦٩) جائز
أن يكون قوله: {كُونِي
بَرْدًا وَسَلَامًا} أي: جعلها في الخلقة بردًا وسلامًا على إبراهيم
خاصة، وأما على غيره فهي على ما هي في طبعها من الإحراق والحر؛ فيكون ذلك من أعظم
آيات رسالة إبراهيم ونبوته. أو أن يكون على الوحي والإلهام على ما قاله أهل التأويل: إنه أوحى
إليها أن {كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}، لكنه إن كان على هذا فجائز أن يجعل في سريتها ما تفهم أمره ويمكن
فيها ما تفطن ذلك فلم تحرقه. وقول
أهل التأويل: إنها بردت حتى لم ينتفع به أهل المشرق والمغرب ثلاثة أيام، فذلك لا
يعلم إلا بالسمع. ٧٠
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠) الكيد:
هو الأخذ من حيث الأمن، فجائز أن يكونوا كادوه أن حبسوه في موضع، ثم جمعوا عليه
الحطب من غير أن علم هو ذلك، ثم أوقدوا عليه النار. أو أن يكون أخذوه مغافصةً، فجعلوه في المنجنيق ثم رموه في النار؛ على
ما قاله بعض أهل التأويل. أو أن يكونوا كادوه كيدًا آخر سوى ذلك فنحن لا نعلم ذلك. وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ}. لا
شك أنهم في الآخرة من الأخسرين، وأما خسرانهم في الدنيا فلا نعلم ذلك الخسران،
واللّه أعلم به. وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: {وَأَرَادُوا
بِهِ كَيْدًا}: وذلك أنه لما جعل في النار أنجاه اللّه منها، وجعلها عليه بردًا وسلامًا على إبراهيم، وأمره اللّه تعالى
بالخروج إلى الأرض المقدسة، فخرج إليها فطلبوه وبعث ملكهم إلى أصحاب المناظر فقال: لا يمر بكم إنسان يتكلم بالسريانية
إلا حبستموه، قال: فحول اللّه لسانه بالعبرانية، فمر
بهم فعبر عليهم، فانطلق إبراهيم متوجهًا نحو أهله، فذلك قوله: {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا
فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ}، أي: الأسفلين وأعلاهم إبراهيم صلوات اللّه عليه. ٧١
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا
لِلْعَالَمِينَ (٧١) دل هذا على أن إبراهيم كان كالمشرف على
الهلاك؛ لأن لفظة (النجاة) لا تقال إلا فيما كان هنالك إشراف على الهلاك. وفيه
أن لوطًا كان معه وإن كان إبراهيم هو الممتحن في ذلك وهم كانوا يقصدون قصد إهلاك الرسل والأتباع
جميعًا. وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} قال الحسن:
بركته ما ذكر في آية أخرى وهو قوله: {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ
قَرَارٍ وَمَعِينٍ}، كثيرة المياه والنبت ونحوه. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: بركته: سعته على أهلها. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: بركته؛ لأنها كانت مكان الأنبياء والرسل صارت مباركة بهم. وجائز
أن يكون صارت مباركة بإبراهيم ولوط؛ لما بهم ظهر الإسلام هنالك، واللّه أعلم. ٧٢
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا
صَالِحِينَ (٧٢) قَالَ
بَعْضُهُمْ: النافلة: العطية. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: النافلة: الفضل. وأصل
النافلة: الغنيمة؛ كقوله:
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ}
أي: الغنائم. والولد
وولد الولد فضل منه وعطية وغنيمة؛ لأنه سمى الولد: هبة بقوله: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا
وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ}، وسمى الولد:
مواهب، وخاصة إبراهيم لم يكن يطمع أن يولد له
الولد في ذلك الوقت، فكيف يطمع ولد الولد؟! وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ}. يحتمل قوله:
{صَالِحِينَ}: رسلا، أو صالحين في كل أمر وكل شيء. ٧٣
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً ... (٧٣)
قادة في أمر الدِّين، {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} يحتمل
قوله: {يَهْدُونَ}، أي:
يدعون الناس بأمرنا؛ كقوله:
(وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ أي: داع. وجائز
أن يكون قوله: {يَهْدُونَ
بِأَمْرِنَا}، أي:
يهدون الناس إلى ما به أمر اللّه وإلى وقوله - عَزَّ وَجَلَّ
-: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ}، دل قوله:
{وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ} أنهم كانوا
رسلًا ثم يحتمل قوله: {فِعْلَ الْخَيْرَاتِ}، وقوله: {وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ
الزَّكَاةِ} فيه أن الصلاة والزكاة كانتا في شرائع المتقدمين. وقوله: {وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} موحدين، أو
عابدين له في كل وقت. ٧٤
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا (٧٤) قَالَ
بَعْضُهُمْ: {حُكْمًا}
يعني: النبوة. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: {حُكْمًا}
أي: الفهم والعقل، وعلما. وجائز
أن يكون قوله: {حُكْمًا} أي:
الحكم الذي يحكم بين الناس، {وَعِلْمًا}، أي:
العلم الذي كان به يحكم بين الناس. ومن
قال: {حُكْمًا}
هو النبوة، قال: لأن الأنبياء إنما يحكمون بين الناس
بالنبوة فكتوا بالحكم عن النبوة. ومن
قال بالفهم فهو لأنه إنما يحكم بين الناس بعد ما فهم من الخصوم، وإلا حاصل الحكم
هو الحكم بين الناس، {وَعِلْمًا}،
أي: العلم الذي به يحكم، أو علمًا فيما بينه وبين ربه، واللّه أعلم. وقوله: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ
الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ}. أضاف
عمل الخبائث إلى القرية، ومعلوم أن القرية لا تعمل شيئًا، لكن معناه: نجيناه من
القرية التي كان أهلها يعملون الخبائث، وكذلك ذكر في حرف حفصة. وقوله: {الْخَبَائِثَ}:
كل أنواع الخبث من الكفر والتكذيب بالآيات واللواطة وغيرها. وقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ
فَاسِقِينَ}. أي: {كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ} في أفعالهم وأعمالهم التي كانوا يعملونها {فَاسِقِينَ}، أي: خارجين عن أمر اللّه تاركين له،
والفسق: هو الخروج عن الأمر؛ لأنه برحمته يدخل فيها ويدرك. ٧٥
وقال
غيره: (فِي
رَحْمَتِنَا ... (٧٥) أي: نعمتنا، ونعمته: النبوة؛ كقوله لعيسى: {إِنْ
هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ}،
النبوة. وجائز
أن يكون قوله: {فِي
رَحْمَتِنَا} أي:
أعطيناه كل أنواع الخير برحمتنا؛ إذ كل من أصاب خيرًا في الدنيا والآخرة إنما
يدركه برحمته. وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}
من النبيين. أو {مِنَ الصَّالِحِينَ}، أي:
كان يعمل بكل أنواع الصلاح. ٧٦
وقوله: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ}. قَالَ
بَعْضُهُمْ: من قبل إبراهيم وإسحاق ويعقوب؛ لأنه ذكر هَؤُلَاءِ
على أثره، ثم اختلف في ندائه: قَالَ
بَعْضُهُمْ: نداؤه هو قوله: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ
فَانْتَصِرْ}. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: نداؤه هو قوله: (رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا
وَنَهَارًا (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي
إِلَّا فِرَارًا). أو أن يكون ذلك قوله: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ
الْكَافِرِينَ دَيَّارًا}، وقوله: {رَبِّ
اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا. . .} الآية،
وأمثاله. وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ}. أهله:
أتباعه من أهله ومن غيرهم. وقوله: {مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} قال عامة أهل التأويل: {مِنَ الْكَرْبِ
الْعَظِيمِ} هو الغرق والهول الشديد الذي كان به. وجائز
أن يكون {مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ}: هو ما قاسى من
قومه ولقي منهم بدعائه إياهم إلى دين اللّه في تسعمائة وخمسين عامًا، وما كانوا
يسخرون به ويؤذونه من أنواع الأذى؛ كقوله: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا
نَسْخَرُ مِنْكُمْ}، ونحو ذلك من الأذى الذي قاساه
منهم، فأنجاه من ذلك الكرب، واللّه أعلم. ٧٧
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧) وفي
حرف أبي بن كعب: ونصرناه على القوم
الذين كذبوا بآياتنا، والنصر: هو اسم لأمرين: اسم للمنع، واسم للظفر، فمن قرأه: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا}، أي:
منعناه من أن يقتله قومه ويهلكوه، والنصر: المنع؛ كقوله: {فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ}، أي:
لا مانع لهم. ومن
قرأه: (على القوم الذين كذبوا بآياتنا) أي: أظفرناه على قومه؛ كقوله: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ
اللّه}، وقد كان له الأمران جميعًا: المنع، والظفر. وقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ} ما ذكرنا من أفعالهم وأعمالهم. وقوله: {فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} حتى لم ينج منهم أحد. قال
أَبُو عَوْسَجَةَ: الكرب: واحد، وجمعه
كروب، وهو الهموم والشدائد، والكربة واحدة، والكُرَب
جمع، وهو مثل الكروب، قال: والأكراب تكون للدلاء، وهي جماعة الكرب، وهو حبل يشد في عراقي
الدلو، وعراقي الدلو: خشبات الدلو، الواحدة: عرقوة، قال: والكراب: الحراث. ٧٨
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ
نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ. . .} الآية. قال
بعض الناس: دل تخصيص سليمان بالتفهيم على أنه لم يفهم داود ذلك، ويدل على ذلك
وجوه: أحدها: إشراكه - عَزَّ وَجَلَّ - إياهما جميعًا في الحكم والعلم وغيره؛ حيث قال: {إِذْ
يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ}، وقال: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا}، ذكر ما كانا مشتركين فيه، وخص سليمان بالتفهيم؛ فدل التخصيص
بالشيء أحدهما والإشراك في الآخر على أنه كان
مخصوصًا به دون الآخر. والثاني: أن هذه الأنباء إنما ذكرت لنا لنستفيد بها علمًا لم يكن، فلو لم
يكن سليمان مخصوصًا بالفهم دون داود، لكان لا يفيدنا سوى الحكم والعلم، وكنا نعلم
أنهما قد أوتيا حكما وعلما، وكانا يحكمان بالعلم، فإذا كان كذلك، فدل التخصيص
بالتفهيم لأحدهما على أن الآخر لم يكن مفهما ذلك،
واللّه أعلم. والثالث: فيه دلالة: أن المجتهد إذا حكم وأصاب الحكم أنه إنما أصاب بتفهيم
اللّه إياه وبتوفيقه؛ حيث أخبر أنه قد آتاهما جميعًا العلم، ثم خص سليمان
بالتفهيم، والتفهيم هو فعل اللّه؛ حيث أضاف ذلك إلى نفسه. ثم
إن كان ما ذكرنا كان في ذلك دلالة لأصحابنا، فيمن قتل مسلما في دار الحرب أسلم
هنالك: أن عليه الكفارة، وليست عليه الدية؛ حيث قال: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ
يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مُؤْمِنَةٍ}، ذكر في الأولين الدية والكفارة جميعًا، ثم خص الثالثة بذكر
الكفارة دون الدية؛ فدل التخصيص له بأحدهما على أن ليس عليه الآخر؛ لأنه لو لم يكن كذلك، لكان يذكر في الأول
الدية والكفارة، ولا يذكر في الآخرين، فيكون ما ذكر في الأول غير مذكور في
الآخرين، أو لا يذكر ذلك كله في الكل، فإذا لم يفعل هكذا، ولكنه ذكر كل الواجب
في الاثنين على الإبلاغ، وترك في الواحد أحدهما وذكر الآخر؛ فدل تخصيص الثالث بأحد الحكمين على أن ليس عليه
الآخر. ثم
استدلوا بهذه الآية على جواز العمل والقضاء باجتهاد
الرأي، فمنهم من استدل بإصابة المجتهد فيما يجتهد، وإن لم يصب هو الحكم الذي هو
حكم عند اللّه فيه حقيقة، وهو قول من يقول: كل مجتهد مصيب فيما عليه من الاجتهاد
في تلك الحادثة، وهو قول أبي يوسف ومُحَمَّد رحمهما
اللّه. ومنهم
من يستدل به بخطأ أحد المجتهدين وعذره في خطئه، فيذهب إلى أن المقصود مما كلف من
الحكم في ذلك واحد لا حكمين مختلفين، فإذا كان المقصود مما كلف من الحكم فيه واحد؛
فلا يجوز أن يحكم اثنان في شيء واحد بحكمين مختلفين والمقصود فيه واحد، فيكونان
جميعًا مصيبين، خص أحدهما
بالتفهيم ٧٩
بقوله: (فَفَهَّمْنَاهَا
سُلَيْمَانَ (٧٩) فلو كانا جميعًا مصيبين كانا جميعًا مفهمين، فإذا
أخبر أنه فهم سليمان ولم يفهم الآخر، دل أن المصيب هو المفهم منهما، وهو قول أبي
حنيفة وبشر وغيرهما. ومن
استدل بإصابته يستدل بقوله: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} أخبر أنه آتاهما حكما وعلما؛ فدل ذلك على أنه لم يكق عليهما غير
ما فعلا وحكما فيه، وإن لم يصيبا الحكم الذي هو حكم حقيقة عند اللّه. ثم
ذكر في الآية: أنهما يحكمان في الحرث، ولم يذكر
أنهما حكما بالضمان والبراءة عن الضمان وأى شيء كان حكمهما؛ فدل ترك بيان ما حكما
فيه على أن ليس علينا ذلك الحكم؛ إذ بين لنا ما علينا العمل فيه وهو العمل بالاجتهاد؛
حيث قال: {فَفَهَّمْنَاهَا
سُلَيْمَانَ}، ولم يبين لنا الحكم الذي حكما فيه، فدل بيان أحدهما وترك بيان الآخر على أن ليس علينا
الذي ترك ذكره وبيانه، إلا أن أهل التأويل حملوا حكمهما على الضمان والبراءة، وعلى
ذلك روي في الخبر عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ
وَسَلَّمَ -: روي: أن ناقة لرجل هاربة دخلت حائط رجل فأفسدت ما فيه، فكلم
رسول اللّه فيها، فقضى أن حفظ الحوائط بالنهار
على أهلها، وأن حفظ المواشي بالليل على أهلها، وأن على أهل الماشية ما أصابت ما
شيتهم بالليل. وروي
أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال:
" مَا أَصَابَتِ الماشيةُ بالليلِ فعَلَى أهلِهَا، ومَا أصَابَتْ بالنهارِ فليسَ على أهلِهَا منه
شَيء "، لكن الخبر إنما جاء في المدينة، وفي المدينة إنما ترعى
الماشية في السكك؛ إذ ليس لها مراعٍ، ونحن نقول: إن من أرسل ماشية في مكان لا مرعى
لها إلا كرم إنسان أو
حائط فأفسدته، فالواجب عليه الضمان: ضمان ما أفسدت، وهو كمن يرسل الماء في ملكه في
مكان لا يقر فيه، فتعدى إلى ملك جاره فأفسده - فعليه ضمان ما أفسده منه. ومن
الناس من يجعل الخبر منسوخًا بما جاء: (جرح العجماء جبار)، لكن الوجه فيه ما
ذكرنا، وإنَّمَا يكون جرحها جبارا إذا تعدت هي من غير
إرسال صاحبها، فأما إذا كان بصنع صاحبها فعليه الضمان، واللّه أعلم. وقَالَ
الْقُتَبِيُّ: {نَفَشَتْ} أي: رعت ليلا، يقال: نفشت الغنم بالليل، وهي إبل نفش
وأنفاش واحدها: نافش، وسرحت وسربت بالنهار. وقال
أَبُو عَوْسَجَةَ: {نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ}،
يقال: أنفشنا الغنم: إذا أثرناها في الليل
فرعت، وهو النفش ونفشت، أي: انتشرت بغير علم أهلها، ونفشت تنفش نفشًا فهي نافشة. قال
أبو عبيدة: النفش بالليل: أن تدخل
في زرع فتأكله، أو
رعت فتأكل. وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ}. ذكر
التسبيح هنا في الجبال ولم يذكر في الطير، ولكن ذكر في آية أخرى حيث قال: {وَالطَّيْرَ
مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ}: أي: يسبح له. ثم
يحتمل أن يكون تسبيح الجبال هاهنا والطير
تسبيح خلقة، لكنه لو كان تسبيح خلقة لكان تسبيحها مع داود وغيره سواء، وقد ذكر
يسبحن مع داود؛ ليعلم أن اللّه جعل لهذه الأشياء تسبيحًا يسبحن اللّه ويذكرونه،
كذلك ما روي في الأخبار أن الطعام يسبح في كف رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ
-، وروي أنه أخذ حجرًا فسبح في يده، وأنه أخذ كذا فسلم عليه، وأمثال هذا كثير،
وذلك كله آية لرسل اللّه على رسالتهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ
-: {وَكُنَّا فَاعِلِينَ}. أي: كنا فاعلين ما نريد: إن أردنا أن يسبحن، يسبحن، وإن أردنا ألا
يسبحن، لا يسبحن، أي:
كنا فاعلين جميع ما نريد، ليس كالخلائق؛ لأنهم يريدون أشياء لا تلتئم لهم. ٨٠
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ ...
(٨٠) وقال في آية أخرى: (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ. . .) الآية. ثم
يحتمل قوله: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} أي:
علمناه السبب الذي به يلين الحديد فيصنع به ما شاء، كما علم غيره من الخلق السبب
الذي يلين به الحديد. ويحتمل أن جعل له الحديد لينًا بلا سبب؛ تسخيرًا له كما سخر له غيره من
الأشياء الشديدة الصلبة، كما أعطى ولده عين القطر حيث قال: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} وذلك لم يكن لأحد سواه. وكذلك الحديدَ ألان لوالده حتى يعمل به ما
شاء ما لم يكن ذلك في حديد سواه، {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ
لَبُوسٍ لَكُمْ} قيل: دروع الحديد {لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ
بَأْسِكُمْ} أي:
تقيكم من بأسكم، أي:
من عدوكم ومن أمر حربكم، وفيه قرأت: {لِتُحْصِنَكُمْ} بالتاء: و (ليحصنكم) بالياء: و (لنحصنكم) بالنون. قال
الكسائي: من قرأ بالتاء: {لِتُحْصِنَكُمْ} أي: الصنعة تحصنكم من بأسكم، ومن قرأ
بالياء: (ليحصنكم) أي:
اللبوس يحصنكم من بأسكم، ومن قرأ بالنون: (لنحصنكم) فإنه يقول: نحصنكم بهن من
بأسكم. وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ}
ما أعطاكم من النعمة التي ذكر من تسخير الجبال له والطير والحديد والرياح وغيره،
فهل أنتم شاكرون ذلك، أي: اشكروا له في نعمه؛ لأن الاستفهام من اللّه على الإيجاب والإلزام. ٨١
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ ... (٨١) ذكر هاهنا " عاصفة "، وقال في آية أخرى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ
أَصَابَ} أي:
لينة، فهو يحتمل وجوهًا: قَالَ
بَعْضُهُمْ: كأنها تشتد إذا أراد سليمان وتلين إذا أراد. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: كانت تشتد وقت حمل السرير وتلين وقت سيره. ويحتمل أن تكون عاصفة شديدة في الخلقة، لكنها كانت تلين له وترخو؛ فكأنه
يقول: سخرنا لسليمان الريح العاصفة الشديدة حتى كانت تلين له. وقوله: {تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ
الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} لا تقصد غيرها. ٨٢
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ.
وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا
دُونَ ذَلِكَ ... (٨٢) ذكر
نعمه التي كانت عليهم حيث أخبر أنه سخر لهما أشد الأشياء وأصلبها من نحو الجبال
والرياح والبحار والحديد والشياطين أيضًا - وهم أعداء لبني آدم سخر لهم الأعداء:
الشياطين، والرياح. وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ}
يحتمل وجوهًا: أحدها: وكنا لهم حافظين، حتى لا يضلوا الناس. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: وكنا لهم حافظين على سليمان؛ لئلا يتفرقوا عنه؛ لأن سليمان كان لا
يملك إمساكهم واستعمالهم، لكن اللّه سخرهم له حتى عملوا له وذَلُّوا له وخضعوا. والثالث: وكنا لهم حافظين عن الخلاف له. واللّه أعلم. ٨٣
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ}، وقال في آية أخرى: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ
وَعَذَابٍ}، ذكر في سليمان أنه سلطه على الشيطان، وجعلهم مسخرين له يستعملهم
في كل أمر وعمل شاء، وذكر في أيوب على أثر قصة سليمان أنه سلط الشياطين عليه وصار
كالمسخر لهم؛ حيث قال:
{أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} حتى يعلم أن تسخير الشياطين لسليمان كان له إفضالاً وإنعامًا، لم يكن سبق منه ما
يستوجب به ذلك ويستحقه، ولا كان من أيوب إليه من العصيان ما يستحق ذلك، وما أصابه
من البلاء منه عدل، وكان ما يعطي من السلامة والصحة رحمة منه ونعمة، وله أن يعطي
من شاء ما شاء، ويحرم من شاء ما شاء، ألا ترى أنه قال في آخره لما رد عليه ما أخذ
وكشف عنه البلاء: {ورَحْمَةً مِنَّا}، ولو كان ذلك حقا له على اللّه لم يكن لذكر الرحمة معنى، فهذا يرد
على المعتزلة مذهبهم: أن على اللّه
الأصلح لهم في دينهم؛ لأن ما أصاب أيوب من البلايا أضاف ذلك إلى الشياطين حيث قال: {أَنِّي
مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ}،
ولو كان ذلك أصلح له في دينه لكان لا يضيف فعل الأصلح له في الدِّين إلى الشياطين؛
فدل على أنه ليس على ما يذهبون إليه. ثم
قوله: {وَأَيُّوبَ
إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ}
شبيه أن يكون فيه إضمار دعاء؛ كأنه قال: أني مسني الضر فارحمني وعافني وأنت أرحم الراحمين؛ ألا ترى أنه قال: {فَاسْتَجَبْنَا
لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} دل أنه على
الدعاء خرج. والثاني
في قوله: {أَنِّي
مَسَّنِيَ الضُّرُّ} وصرت بحال يرحمني من رآني من الخلق
وأنت أرحم
بي من كل الراحمين. واللّه أعلم. ٨٤
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ ... (٨٤) هو ظاهر أنه كشف عنه ما أصابه من البلاء في
بدنه وأهله حتى عاد إلى الحال التي كان قبل ذلك. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: أوتي أهله في الدنيا ومثل أجورهم في الآخرة. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: {وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ} فأحياهم اللّه {وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ}، وكانت امرأة أيوب ولدت قبل البلاء أولادًا بنين وبنات، فأحياهم
اللّه. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: {وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ} أي:
ما يتأهل به من الأهل والأنصار على ما كان له من قبل. واللّه أعلم. وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} يحتمل
وجوهًا: أحدها: أن من ابتلي ببلاء، فصبر على ما صبر أيوب على بلائه، ففرجه اللّه
عن ذلك البلاء - فيفرجه عنه كما فرج لأيوب. والثاني: يعلم أن ما أصابه ليس لأمر يسبق منه، ولكن ابتلاء محنة من اللّه
امتحنه بها، وله أن يمتحن من شاء بما شاء من المحن. ٨٦
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ}
يشبه أن يكون " ذا الكفل " اسمًا من أسمائه، وجائز أنه سمي ذا الكفل؛
لأمر كان منه: ذكر أنه كان رجلًا صالحًا، فكفل لنبي بأمر قومه، فوفى ما تكفل به؛ فسمي لذلك ذا الكفل. ثم
اختلف فيه: قَالَ
بَعْضُهُمْ: هو رجل صالح على ما ذكرنا. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: كان نبيا، لسنا نعلم ذلك سوى أنه ذكر أنه من الصابرين، سماهم
صابرين على الإطلاق، وكذلك سماهم صالحين على الإطلاق، وذلك - واللّه أعلم - لأنهم
جمعوا جميع أنواع الصبر وجميع أنواع الصلاح. واللّه أعلم. وقوله: (وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا
إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦) قال الحسن: أدخلناهم في رحمتنا وهي الجنة،
وجائز أن يكون جميع ما نالوا من الصبر والصلاح كان ذلك كله رحمةَ اللّه وفضله، وهكذا أن من نال
شيئًا من الخيرات والطاعات فإنما ينال ذلك كله برحمته. واللّه أعلم. ٨٧
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {وَذَا النُّونِ}: قَالَ
بَعْضُهُمْ: " ذا النون " هو اسم من أسمائه سُمِّيَ. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: سماه ذا النون؛ لكونه في بطن النون وهو الحوت، أي: صاحب النون، سمي باسمين مختلفين: أحدهما: اسم موضوع، والآخر: مشتق من فعله وما كان، وهو ما سمى عيسى مرة، وسماه مسيحًا أخرى، أحدهما: اسم موضوع، والآخر: مشتق من فعله، وهو مما كان يمسح به المرضى والموتى فيبرءون. وكذلك
" ذا الكفل " يخرج على هذين الاسمين: أحدهما موضوع له، والآخر: مشتق من فعله على ما ذكرنا. واللّه أعلم. وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا} اختلف فيه: قَالَ
بَعْضُهُمْ: {مُغَاضِبًا}
لربه، أي: حزينًا له؛ لأنه كان أراد أن يهلك
اللّه قومه لما أيس من إيمان قومه، وقد كثر عنادهم ومكابرتهم، فخرج حزينًا لذلك. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: مغاضبًا للملك، وذلك أو قومه قد أسرهم عدوهم، وقد كان اللّه أوحى إليهم فقال: إذا أسركم عدوكم أو أصابتكم مصيبة فادعوني، فإذا دعوتموني أستجب لكم، فلما أسروا نسوا
أن يدعوه زمانًا حتى إذا ذهبت أيام عقوبتهم ونزلت أيام عافيتهم أوحى اللّه تعالى
إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل أن ابعثوا رجلا قويا أمينا فإني ملقٍ في قلوب الذين
أسروا قومهم أن يرسلوهم، وفي القصة طول، غير أنَّا نختصر، فبعث ملكهم يونس إلى أُولَئِكَ الأسارى
ليستنقذهم من أيديهم، فخرج وائتمر بأمره، لكنه غضب عليه لما اشتد عليه، فذلك قوله: {ذهَبَ
مُغاضبًا} للملك، حيث أمره بالخروج إلى أُولَئِكَ الأسرى. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: {ذَهَبَ مُغَاضِبًا} لقومه، وذلك يخرج على وجوه: أحدها: خرج من عندهم لما أيس من إيمان قومه خرج مكيدة لقومه؛ لأن السنة
فيهم أنه إذا خرج رسوله من بين أظهرهم نزل بهم العذاب، فخرج من عندهم ليخافوا
العذاب فيؤمنوا. والثاني: خرج إشفاقًا على نفسه؛ لئلا يقتل؛ لما أن قومه هموا بقتله، فخرج
لئلا يقتل إشفاقا
على نفسه، كما خرج رسول اللّه من بين أظهر قومه لما هموا بقتله، لكن رسول اللّه
خرج بإذن، ويونس بغير إذن. والثالث: خرج من عندهم لما أكثروا العناد والمكابرة وأيس من إيمانهم خرج
ليفرغ لعبادته؛ إذ كان مأمورًا بعبادة ربه ودعاء قومه إلى ذلك، فلما أيس من
إيمانهم خرج كما ذكرنا بغير إذن من ربه، وإن كان في خروجه منفعة له ولقومه، فعوتب
لذلك، واللّه أعلم. وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ}
قَالَ
بَعْضُهُمْ: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} أي:
لن نضيق عليه، ولا نبتليه بالضيق الشديد لما خرج من عندهم، فيقال: فلان مقدر عليه، ومقتر، ومضيق عليه
الأمر، وهو كقوله: {يَبْسُطُ
الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} أي: يضيق، وقوله: {فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} أي:
ضيق عليه رزقه. وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} قالوا: في ظلمات
ثلاث: ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت. ٨٨
وقَالَ
بَعْضُهُمْ: التقم الحوت حوت آخر، فكان في بطن حوت، وحوت آخر، وظلمة البحر، فقال: {لَا
إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} وحد ربه ونزهه عن جميع ما قيل فيه، ثم اعترف بذلته وذنبه فقال: {إِنِّي
كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} فسمع اللّه دعاءه، وقبل
توبته، وأخبر أنه كشف عنه الغم الذي كان له حيث قال: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ
الْغَمِّ (٨٨) وأخبر أنه كذلك ينجي المؤمنين، فيرجى أن من
ابتلاه اللّه بالبلاء والشدة فدعا بما دعا به يونوإن يفرجه اللّه عنه، حيث قال: {وَكَذَلِكَ
نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ}؛ وعلى ذلك روي عن رسول
اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ
- أنه قال: " مَنْ
دَعَا بدَعْوةِ ذِي النونِ اسْتُجِيبَ له ". ثم
قَالَ
بَعْضُهُمْ: الْتَقَنَ ذلك
من الأرض لما بلغ إلى قرار الأرض فقال ذلك. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: كان رجلا صالحا عابدا وكان عود نفسه ذلك قبل أن يدخل بطن الحوت،
فلما دخل فيه فكان يقول فيه على ما كان يقول من قبل، وهو كقوله: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ
الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ. . .) الآية. قَالَ
بَعْضُهُمْ: هذا أنه كان من المسبحين قبل هذا وإلا للبث فيه إلى ما ذكر. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: لولا أنه كان قال هذا القول: {لَا
إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}، للبث فيه، فيكون على هذا التأويل: {كَانَ
مِنَ الْمُسَبِّحِينَ}، أي: صار من المسبحين، والأول أشبه، ثم
اختلف في قوله: {وَنَجَّيْنَاهُ
مِنَ الْغَمِّ}: قَالَ
بَعْضُهُمْ: ذلك الغم هو ما ابتلاه اللّه بالضيق في بطن الحوت والبحر، فنجاه
من ذلك الغم، ولكن جائز أن يكون نجاه من الغم الذي كان به سبب خروجه من بين
أظهرهم. وقول
أهل التأويل: إن يونس مكث في بطن الحوت أربعين يومًا، أو ثلاثة أيام، ونحو هذا فذلك لا يعلم إلا بالوحي، فإن ثبت الوحي فهو
هو، وإلا ليس بنا إلى معرفة ذلك حاجة. وقَالَ
الْقُتَبِيُّ: {وَذَا النُّونِ} يعني: ذا الحوت، والنون: الحوت. وقال
أَبُو عَوْسَجَةَ: إنما سمي: ذا النون؛
لأن الحوت التقمه، والنون: الحوت، والنينان: الجمع. وقَالَ
الْقُتَبِيُّ: قوله: {فَظَنَّ
أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ}: لن نضيق عليه، قال: فلان مقدر عليه ومقتر، ومنه: {فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ}،
أي: ضيق عليه، ومنه قوله أيضًا: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ}، أي:
ضيق، واللّه أعلم. ٨٩
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا} قوله:
{لَا تَذَرْنِي فَرْدًا} في الظاهر نهي،
وكذلك قوله: {رَبَّنَا
لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا}: وأمثاله، يخرج في
الظاهر مخرج النهي، وقوله: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا
عَلَى رُسُلِكَ} ونحوه يخرج مخرج الأمر أوالأمر،
والنهي إذا كان من العبد للسيد فهو تعوذ ودعاء، وإذا كان من السيد للعبد فهو أمر
ونهي، ليس بتعوذ ولا دعاء، ولكن حقيقة الأمر والنهي، وكذلك سؤال الأمير لرعيته أمر
ونهي، وسؤال الرعيّة للأمير تضرّع وتعوذ ودعاء. ثم
قوله: {رَبِّ
لَا تَذَرْنِي فَرْدًا} في الطاعة والعبادة
والذكر والتسبيح والتحميد ما دمت حيًّا، ولكن أشرك لي في العبادة والذكر من يعينني
على ذلك، وهو كقول موسى: (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ
أَهْلِي (٢٩) هَارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (٣٤)، وقوله: (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ
يَعْقُوبَ)، إذا مت. أو أن يكون قوله: {لَا تَذَرْنِي فَرْدًا} بعد مماتي في قبري، ولكن هب لي من يذكرني ويدعو لي بعد وفاتي
ويحيي أمري. وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ}
أي: وأنت خير من يرث العبادة، على هذا
التأويل، وعلى التأويل الأول: وأنت خير من يعين على العبادة والطاعة، واللّه أعلم. ٩٠
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ ... (٩٠) أي: دعاءه {وَوَهَبْنَا
لَهُ يَحْيَى} قال الحسن:
إن كان يَحْيَى على ما سماه اللّه في الطاعة
والعبادة، وفي الآخرة يحيى في الكرامات والثواب الجزيل، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم. وقوله: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} يخرج على وجهين: أحدهما: أن جعلناها بحيث يرغب فيها زوجها ذات هيئة ومنظر؛ لأنه ذكر في
القصة أنها بلغت في السن مائة غير شيء، والعرف في النساء أنهن إذا بلغن المبلغ
الذي ذكر أنها بلغت زوجة زكريا يكن من القواعد اللاتي لا يرغب فيهن أحد، فأخبر أنه
أصلحها وصيرها بحيث يرغب فيها، ذات هيئة ومنظر. والثاني: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} أي:
ولودًا بحيث تلد؛ لأنه لما بشر بيحيى قال: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ
امْرَأَتِي عَاقِرًا}، والعاقر: التي لا تلد، فيكون قوله: {وَأَصْلَحْنَا
لَهُ زَوْجَهُ} ولودًا بحيث نلد، واللّه أعلم. هذان
الوجهان محتملان. وأمَّا
قول من يقول بأن في لسانها بذاء وطولًا، وفي خلقها سوءا فذلك لا يحل أن يقال إلا
بثبت، وهو على خلاف ما ذكرهم ووصفهم، حيث قال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي
الْخَيْرَاتِ} ثم المسارعة في الخيرات أنه كان لا يمنعهم شيء عن الخيرات، وهكذا
المؤمن هو يرغب في الخيرات كلها، إلا أن يمنعه شيء من شّهوة أو سهو. وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا}
أي: يدعوننا رغبا فيما عندنا من جزيل
الثواب، ورهبا من أليم عقابنا. والثاني: رغبًا فيما عندنا من اللطائف من
التوفيق على الخيرات والعصمة عن المعاصي، ورهبًا مما عندنا من النقمات والخذلان
والزيغ. وقوله: {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}. قَالَ
بَعْضُهُمْ: الخشوع: هو الخوف الدائم الملازم للقلب لا يفارقه. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: متواضعين ذليلين لأمر اللّه، تفسير الخشوع ما ذكر بقوله: {وَيَدْعُونَنَا
رَغَبًا وَرَهَبًا}. ٩١
قوله
تعالى: (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا
فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ
(٩١) وقوله: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} أي:
عفت فرجها. وقوله: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} قال أهل التأويل: إن جبريل أتاها فنفخ في جيبها أو في فرجها، وهذا ليس في الآية؛ فلا يجوز القول به إلا بثبت، ولكن قوله: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} كقوله في آدم: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ
رُوحِي}، أي:
أنشأت فيه من روحي؛ إذ لم يقل أحد فيه بالنفخ، أي: جبريل نفخ فيه، فعلى ذلك قوله: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} أي:
أنشأنا فيها من روحنا، واللّه أعلم. وقوله: {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً
لِلْعَالَمِينَ} ذكر فيها آية واحدة؛ لأنها ولدت
بغير زوج، وولد بلا أب، فهو واحد إذا كانت هي ولدته بغير زوج، فيكون بغير أب فهو
آية واحدة، والآية فيها ما ذكر: {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّه
اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} وآية عيسى حين تكلم في المهد فقال: {إِنِّي عَبْدُ اللّه آتَانِيَ
الْكِتَابَ. . .} الآية. وقال
أَبُو عَوْسَجَةَ: {أَحْصَنَتْ}: أي: عفَّت، ويقال: امرأة حصان، أي: عفيفة، ومحصنة، أي: قد أحصنها زوجها، ومحصنة: أي عفيفة، وامرأة حصان، ونسوة حاصنات وحواصن، قال: والحصان ذكر الخيل، وحصن: جمع. ٩٢
قَالَ
بَعْضُهُمْ: إن هذه ملتكم وشريعتكم ومذاهبكم ملة واحدة وشريعة واحدة، يعني: شريعة الإسلام، وملة واحدة ليست
بمفترقة. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: إن هذا دينكم دين واحد، ليس كدين الأمم الخالية أديانًا مختلفة. أو أن يكون الأمة ما يؤم إليها ويقصد؛ لأن الأمة هي الجماعة، وهي
المقصودة. وجائز
أن يكون إخبارًا عن هذه الأمة على دين واحد وملة واحدة، ليسوا بمختلفين ولا
بمفترقين، كسائر الأمم الخالية، كقوله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ
تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا. . .} الآية. وقوله {وَلَا تَفَرَّقُوا} الآية،
أخبر عنهم أنهم غير متفرقين، ونهاهم عن أن يتفرقوا كما تفرق الأولون؛ ألا ترى أنه
قال على إثره: {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ}
هذا يدل على أنه إخبار عن أهل الإسلام في صدر الأمر أنهم على شيء واحد. وقال
الزجاج: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}
وما لزموا الحق واتبعوه، وأما إذا تركوا لزومه وتركوا اتباعه فهي ليست بأمة واحدة،
واللّه أعلم. وقوله: {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} وقال في آية أخرى: {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} ليعلم أن العبادة والتقوى واحد في الحقيقة؛ لأن الاتقاء هو ما
يجتنب من الأفعال والعبادة ما يؤتى من الأفعال والعبادة، فإذا اجتنب ما يجب
اجتنابه فقد أتى بما يجب إتيانه، وإذا أتى بما يجب إتيانه فقد اجتنب ما يجب
اجتنابه، وهو كقوله: {إِنَّ
الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}،
لأنه بفعله إياها مجتنب عن الفحشاء والمنكر. وجائز
أن يكون قوله: {وَأَنَا
رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} أي: توحدون، على ما قال أهل التأويل؛
لأنه إنما خاطب به أهل مكة. ٩٣
وقوله: (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ ... (٩٣) أخبر عن الأولين أنهم اختلفوا في دينهم
وتفرقوا {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ}
من تفرق ومن لم يتفرق، كقوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}. ٩٤
وقوله: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ
وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (٩٤) فيه دلالة ألا يقبل من الأعمال الصالحات إلا
بالإيمان؛ لأنه شرط في قبولها الإيمان، كقوله: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ
لِسَعْيِهِ} أي:
لشكر سعيه، ويقبل ولا يجحد ولا يكفر، كقوله: {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ
يُكْفَرُوهُ}، بالياء والتاء (فلن تكفروه)، وأصل الكفران: الستر، والشكر: هو
الإظهار؛ يخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه لا يستر ما عملوا من الحسنات والخيرات، بل يشكر ويظهر. وقوله: {وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} أي:
يكتب لهم تلك الحسنات والخيرات، كقوله: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا
حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ}. ٩٥
وقوله: (وَحِرْمٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا
أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (٩٥) {وَحَرَامٌ} بالألف أيضًا، ثم قوله: {وَحِرْمٌ}، {وَحَرَامٌ}
- على قول أهل اللسان واللغة - واحد، يقال: حِرْمٌ عليك
كذا، وحرام، كما يقال:
حِل وحَلَالٌ. وأما
على قول أهل التأويل فإنهم يفرقون بينهما، فيقولون: حرم: حتم وواجب {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} أي:
حتم وواجب على قرية إهلاكهم بعد ما علم {أَنَّهُمْ لَا
يَرْجِعُونَ} أي:
لا يتوبون؛ لأنه إنما يهلكهم لما علم منهم أنهم لا يتوبون. أو أن يكون قوله: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ} أراد اللّه إهلاكها {أَنَّهُمْ لَا
يَرْجِعُونَ}. وظاهر
قوله: {وَحَرَامٌ
عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} أن يكون لهم الرجوع؛ لأنه يقول: {وَحِرْمٌ.
. . أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ}، ألا ترى إلى قوله: {حَتَّى
إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} وظاهره أنهم لا
يرجعون، حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج واقترب الوعد الحق، فعند ذلك يرجعون لقوله: {فَإِذَا
هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا}. أو أن يكون ذكر هذا: {أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} ولقول قوم؛ لأن قوما يقولون: إن الخلق كالنبات ينبت، ثم ييبس، ثم
ينبت، فعلى ذلك الخلق يموتون، ثم يعودون ويرجعون. وبعض
من الروافض يقولون: يرجع علي وفلان، فأخبر أنهم لا يرجعون ردَّا عليهم وتكذيبًا
لخبرهم؛ لأن القرآن قد صار حجة عليهم وإن أنكروه لما عجزوا عن أن يأتوا بمثله،
واللّه أعلم بذلك كله. ٩٦
وقوله: (حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ
وَمَأْجُوجُ (٩٦) كأنه - واللّه أعلم - أضاف فتح ذلك السد إلى
أنفسهم وهم جماعة، وإلا لست أعرف لتأنيث فتح السد وجها، واللّه أعلم. وقوله: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ} قيل:
الحدب: الشيء المشرف. وقيل: الحدب: كل ما ارتفع من الأرض. وقيل: الحدب: الأكمة. وقيل: {مِنْ كُلِّ حَدَبٍ}: من كل جهة ومن كل مكان. {يَنْسِلُونَ} قيل:
يسر عون. وقيل: يخرجون. أخبر
أنهم من كل، حدب، أي:
من كل ناحية، ومن كل جهة يسرعون، كأنهم لما سد
عليهم ذلك السد، وحيل بينهم وبين ما يشتهون، أي: بين ما يتعيشون ويرتزقون من هذا العالم - تفرقوا في تلك الأمكنة
لطلب ما يتعيشون به، فإذا بلغهم خبر فتح السد أتوا من كل جهة وناحية التي كانوا
متفرقين فيها {يَنْسِلُونَ} يسرعون؛ لأنهم مذ سد
عليهم السد في جهد من فتح ذلك السد، فلما فتح خرجوا مسرعين، وهو ما ذكر: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ}. ٩٧
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ (٩٧)
قوله: {اقْتَرَبَ} أي:
وقع ووجب الوعد الحق؛ لأنه قد أخبر من قبل هذا الوقت أنه قد اقترب بقوله: {اقْتَرَبَتِ
السَّاعَةُ}، و {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ}، وهو كقوله: {إِنَّ رَحْمَتَ اللّه قَرِيبٌ مِنَ
الْمُحْسِنِينَ} ليس على القرب، ولكن على الوجوب،
فعلى ذلك الأول يحتمل
أن يكون إخبارًا عن الوقوع والوجوب. وجائز
أن يكون على القرب أيضًا، ويكون وجوبها ووقوعها في قوله: {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ
الَّذِينَ كَفَرُوا} كقوله: {إِنمَا يُؤَخرُهُمْ لِيَوم تشخَصُ فِيهِ
الأبصار. . .} الآية،
وكقوله: {مُهْطِعِينَ
إِلَى الدَّاعِ. . .} الآية. وقوله: - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَا وَيْلَنَا}
أي: يقولون: يَا
وَيْلَنَا {قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا}
كأنهم تذاكروا فيما بينهم: إنما كنا في غفلة من هذا، ثم تداركوا أنهم لم يكونوا في
غفلة، ولكن قالوا: {بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} في ذلك، ضالين؛ اعترفوا بالظلم والضلال. ٩٨
وقوله: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللّه حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (٩٨)
يقال: إن حرف (مَن) يتكلم عن البشر وحرف
(مَا) يتكلم عما سواهم من العالم، فإذا كان على هذا الذي ذكروا،
فما ينبغي لأُولَئِكَ أن
يفهموا من قوله: {وَمَا
تَعْبُدُونَ}: عيسى وعزير والملائكة وهَؤُلَاءِ، ويقولون: هَؤُلَاءِ عبدوا دون اللّه فهم حصب جهنم على زعمكم، إلى هذا يذهب أهل
التأويل، ويقولون: ثم نزل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا
الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} قالوا: استثنى من علمه
ممن عبد دون اللّه من سبقت له منه الحسنى، وهو عزير وعيسى وهَؤُلَاءِ، لكن قد ذكرنا أنه لا يجوز أن يفهم من هذا هَؤُلَاءِ، ولكن الأصنام والأحجار التي
عبدوها، كقوله: {وَقُودُهَا
النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}، التي عبدوها. أو أن يكون قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللّه حَصَبُ جَهَنَّمَ} الشياطين الذين أمروهم
ودعوهم إلى عبادة غير اللّه، فتكون العبادة لمن دون اللّه للشيطان حقيقة؛ لأنه هو
الآمر لهم بذلك، والداعي إلى ذلك دون من ذكروا؛ لأن هَؤُلَاءِ
- أعني: عيسى وعزيرًا والملائكة - لم يأمروهم بذلك؛ فيكون على هذا
كأنه قال: إنكم والشياطين الذين تعبدون من دون
اللّه حصب جهنم، وهو ما ذكر في آية أخرى: (احْشُرُوا
الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللّه. . .) إلى قوله: (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ
يَتَسَاءَلُونَ (٥٠) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ) دل هذا أن القرين هو الشيطان، كقوله: {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ
قَرِينٌ} وقوله: {حَصَبُ جَهَنَّمَ} بالصاد، وقرئ بالطاء: (حطب جهنم) قال ابن
عَبَّاسٍ: الحصب بلسان الزنجية: هو الحطب. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: هو حطب بلسان الحبشة، ويقال -أيضًا- بالضاد: (حضب جهنم) قَالَ
بَعْضُهُمْ: الحصب: هو الرمي، يحصب جهنم بهم، أي: يرمي بهم، والحطب: هو معروف، والحضب: هو التهيج، أي: يهيج النار عليهم. وقال
الكسائي: حصبت النار، أي: ألقيت فيها الحطب، وعن عائشة: (حضب
جهنم) بالضاد. وقوله: {أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} أي:
واقعون فيها. ٩٩
وقوله: (لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا
وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (٩٩)
أي: لو كان الذين عبدوا دون اللّه آلهة
على ما زعموا ما وردوا النار. فَإِنْ
قِيلَ: إنهم لم يقروا أنها ترد النار. قيل: لما عجزوا عن إتيان مثله فقد لزمتهم الحجة، فكأنهم أقروا أنهم
واردوها، وهو
كقوله: {كَيْفَ
تَكْفُرُونَ بِاللّه وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ
يُحْيِيكُمْ. . .} الآية؛ هم لم يقروا أنهم يحيون بعدما ماتوا، ولكن لما عرفوا أنهم كانوا
أمواتا فأحياهم، فقد لزمهم الإقرار والحجة بالإحياء بعد الموت؛ فعلى ذلك الأول
كأنهم أقروا بأنهم واردون بما لزمتهم الحجة. وقوله: {وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} ظاهر. ١٠٠
وقوله: (لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا
يَسْمَعُونَ (١٠٠) قيل: الزفير: هو الصوت الخفيض الذي فيه أنين، والشهيق: هو الصوت الرفيع
الذي فيه أنين. وقيل: الشهيق: أول نهيق الحمار، والزفير: هو آخر نهيقه. وقوله: {وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ} قيل:
لا يسمعون الخير، ويسمعون غيره. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: لا يسمعون؛ لأنهم يكونون صمًّا
بكمًا عميًا، وهو كقوله: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا}. وقَالَ
الْقُتَبِيُّ: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ}: حرام عليهم أن يرجعوا، ويقال: واجب، وقال: هو حِرْمٌ وحَرَامٌ:
واحدٌ، كما يقال: حِل وحلال. وقال: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ}: ومن كل نشز من الأرض وأكمة {يَنْسِلُونَ} من النسلان، وهو مقاربة الخطو مع الإسراع كمشي الذئب إذا بادر. قال
أَبُو عَوْسَجَةَ: الحدب: ما ارتفع من
الأرض، الواحد: حدبة {يَنْسِلُونَ}
أي: يجيئون. ١٠١
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى}. قال
عامة أهل التأويل: إنه لما نزل قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللّه حَصَبُ جَهَنَّمَ} قالت الكفرة: إن عيسى
وعزيرًا والملائكة قد عبدوا من دون اللّه فهم حصب جهنم، فنزل قوله: {إِنَّ
الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} استثنى من سبق له الحسنى منه، وهو عيسى وهَؤُلَاءِ، وكذلك في حرف ابن مسعود: (إلا الذين سبقت لهم منا الحسنى) على الاستثناء. عن
علي - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -
قال: {إِنَّ
الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى. . .} الآية: ذاك عثمان وطلحة والزبير، وأنا من شيعة عثمان وطلحة والزبير، ثم قال: {وَنَزَعْنَا
مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ. . .} الآية. ولكن
قد ذكرنا الوجه فيه، فإن ثبت أنه نزل بشأن هَؤُلَاءِ
وإلا فهو لكل من سبق له من اللّه الحسنى. ثم
{الْحُسْنَى}
يحتمل الجنة، كقوله: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى).
أي: بالجنة، فعلى ذلك قوله: {سَبَقَتْ
لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى}،
ويحتمل {الْحُسْنَى}:
السعادة والبشارة بالجنة وثوابها. وقوله: {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} أي: لا يعودون إليها أبدًا، ليس على بعد
المكان كقوله: {أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} أي:
لا يعودون إلى الهدى أبدًا. أو أن يكون قوله: {مُبْعَدُونَ}
وعنها مكانًا، لكن قد ذكر في آية: (فَالْيَوْمَ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤).
عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ)،
و قال
في آية: {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ
الْجَحِيمِ}، ولا نعلم هذا أنه يجعل في قوى أهل الجنة أنهم متى ما أرادوا أن
ينظروا إلى أُولَئِكَ ويروهم
يقدرون على ذلك؛ أو
تقرب النّار إليهم فينظرون إليهم، واللّه أعلم، والأول أشبه أنهم لا يعودون إليها
أبدًا. ١٠٢
وقوله: (لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ... (١٠٢) أي: صوتها، وهو ما ذكر من الإبعاد، وإذا بعدوا منها لم يسمعوا حسيسها. وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} وهو ما قال في آية أخرى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ
وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. ١٠٣
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ
الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣) أي: لا يحزنهم أهوال يوم القيامة وأفزاعها {وَتَتَلَقَّاهُمُ
الْمَلَائِكَةُ} أي: تتلقاهم الملائكة بالبشارة، كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللّه
ثُمَّ اسْتَقَامُوا. . .} الآية. أو {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ
الْأَكْبَرُ}، أي:
لا يحزنهم ما يحل بالكفرة من الفزع والعذاب، كمن رأى في الدنيا إنسانًا في بلاء
وشدة، أو يعذب بعذاب، فإنه يحزن ويهتم بما حل به، فأخبر أنهم لا يحزنون بما
حل بالكفرة من العذاب والشدائد. قال
أَبُو عَوْسَجَةَ: {حَصَبُ جَهَنَّمَ}، قال: الحصب والحطب واحد، قال: وما أكثر من العرب من يتكلم بهذه
اللفظة، قال: ولا أعرف (حضب جهنم) بالضاد. وقال
غيره ما ذكرنا من إلقاء الحطب فيه والتهييج. وقوله: {أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} أي:
داخلون. وقوله: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} الزفير: هو شدة النفس في الصدر، يقال: زفر يزفر زفيرًا. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: الزفير: هو أنين كل محزون ومكروب، وهو قريب مما ذكرنا. وقوله: {لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا}، أي:
صوتها، وهو من الحس: وهو الصوت. وقَالَ
الْقُتَبِيُّ: حصب جهنم: ما ألقي
فيها، وأصله: من الحصباء، وهي الحصاة، ويقال: حصبت فلانا - أي: رميته - حصبا بتسكين الصاد، وما رميت به حصب، بفتح الصاد، وكما
تقول: نفضت الشجرة نفضا، وما وقع نفض، واسم حصى الجمار: حصب. ١٠٤
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا
بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (١٠٤) كأن هذا خرج على إثر سؤال سألوه على غير
ابتداء؛ لأن الابتداء بمثله على غير تقدم أمر لا يحتمل، فكأنه - واللّه أعلم - لما ذكر أهل النار في قوله: {فَإِذَا
هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا. . .}
إلى قوله: {أَنْتُمْ
لَهَا وَارِدُونَ} وذكر أهل الجنة ووصفهم بقوله: {إِنَّ
الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى. . .} إلى آخر ما ذكر من قوله: {هَذَا
يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}
فكأنهم قالوا: متى يكون ذلك؟ فقال عند ذلك: {يَوْمَ
نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ}
أخبر أن السماء تطوى كما يطوي السجل الكتب. ثم
ذكر في السماء الطي مرة والتبديل في آية بقوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ
الْأَرْضِ. . .} الآية، وذكر الانفطار والانشقاق في آية، كقوله: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ}، و {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}، ونحوه، كما ذكر في الجبال أحوالا، مرة قال: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ
الْمَنْفُوشِ}، وقال في آية أخرى: {يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا}، وقال في آية أخرى: {هَبَاءً مَنْثُورًا} وقال في آية أخرى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا
جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ}،
ونحوه، فجائز أن يكون كذلك على اختلاف الأحوال، على ما ذكرنا فيما تقدم،
ثم تتلاشى وتفنى حتى لا يبقى منها شيء، كما ذكر {هَبَاءً
مَنْثُورًا}؛ فعلى ذلك السماوات والأرضون يختلف عليها الأحوال على ما ذكر، ثم
آخرها التبديل كما ذكر {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ
غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ}، فيما ذكر في هَؤُلَاءِ الآيات من تغيير الجبال
والسماوات والأرضين دليل فناء هذا العالم بجملته وأسره؛ لأن فناء السماوات والأرض
والجبال يبعد عن أوهام الخلق، وأمَّا غيرها من الخلائق فإنهم يشاهدون فناءه، فذكر
فناء ما يبعد في أوهامهم، ليعلموا أن هذا العالم يفنى بأسره، ويستبدل عالمًا آخر، يحتمل البقاء للجزاء، واللّه أعلم. وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ}. هذا
أيضًا لا يحتمل إلا على تقدم ذكر، فهو محتمل ما
ذكرنا مما سبق من ذكر أهل الجنة وأهل النار، فقالوا: كيف يحيون؛ فقال عند ذلك: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ}
ثم اختلف فيه: فقَالَ بَعْضُهُمْ: نطفا، ثم علقًا، ثم
مضغا، ثم عظامًا، ثم لحمًا، ثم ينفخ فيهم الروح. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ
نُعِيدُهُ} حفاة عراة على ما خلقوا في الابتداء. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ
نُعِيدُهُ} يعني:
السماوات السبع يطويها اللّه فيجعلها سماء واحدة كما كانت أولا قبل أن يخلق فيها
ست سماوات، والأرضين كذلك. وجائز
أن يكون ذكر هذا إخبارًا أنه قادر على أن يعيدهم كما قدر على ابتداء خلقهم. وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}
أي: بعثهم {وَعْدًا
عَلَيْنَا} لا يختلف ذلك على ما قال: {إِنَّ اللّه لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}، ثم اختلف في السجل، وفي قراءته: قَالَ
بَعْضُهُمْ: السجل: اسم رجل، وهو كاتب رسول اللّه - صَلَّى
اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: هو اسم الملك الذي يكتب. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: السجل: الصحيفة. ثم
قَالَ
بَعْضُهُمْ: من قرأ {السِّجِلِّ} بالتشديد فهو الصحيفة، ومن قرأ {السِّجْل} بالتخفيف: هو ملك موكل بالصحف، اسمه: السجل، ويقرأ الكتاب. قال
أَبُو عَوْسَجَةَ: {كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ}
قال: يقال: أسجلت وسجلت، أي: كتبت، إسجالا وتسجيلا، وسجلت أيضًا: عملت، وسجل: خلق، يقال منه:
سجل يسجل سجلا، والمساجلة: المفاخرة، ويقال: ساجلته: فاخرته، ويقال: أسجلت الكلام فهو مسجل، أي: أطلقته وأرسلته، واللّه أعلم. ١٠٥
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ
الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥) قَالَ
بَعْضُهُمْ: إن كل كتب اللّه التي أنزلها هي زبور. {مِنْ
بَعْدِ الذِّكْرِ} أي: الكتاب الذي عند اللّه وهو اللوح المحفوظ، معناه - واللّه أعلم -
على هذا التأويل: كتبنا في الكتب التي أنزلناها بعد ما كان مكتوبًا في اللوح
المحفوظ {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا. . .}
كذا. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: كتب اللّه في الزبور المعروف، وهو زبور داود بعد ما كتب {مِن بَعْدِ الذِّكرِ} أي: التوراة {أَنَّ
الْأَرْضَ يَرِثُهَا} يعني: الجنة {يَرِثُهَا عِبَادِيَ
الصَّالِحُونَ} وكتب ذلك في هذا القرآن فقال: {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ
عَابِدِينَ}. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ}، أي:
زبور داود بعد ما كتب في الذي الذي عنده. وجائز
أن يكون قوله: {كَتَبْنَا
فِي الزَّبُورِ}: في بعض كتاب، أي: في بعض السور: {مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ}، أي: من بعد السورة {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا} كذا. وجائز
أيضًا: {كَتَبْنَا} في كتاب {مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ}، أي: من بعد ما ذكرهم ووعظهم {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا} كذا. ثم
اختلفوا في قوله: {أَنَّ
الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}: قال
عامة أهل التأويل: هي الجنة؛ أخبر أن الجنة إنما يرثها عبادي الصالحون، وهو ما ذكر
في آية أخرى: (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ
الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) فيكون
هذا تفسيرًا لذلك. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: {أَنَّ الْأَرْضَ} يعني:
أرض بيت المقدس {يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} وهو كذلك كان، لم يزل بها عباد اللّه الصالحون إلى يوم القيامة. وجائز
أن يكون قوله: {أَنَّ
الْأَرْضَ يَرِثُهَا} [أمَّة محمد]، كقول رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ
-: " زُويت لي الأرضُ فأريتُ مشارقَهَا ومغاربَها
وسَيبلُغ ملك أمتي ما زُوي لي منها "، فذلك وراثتها، وهم عباده
الصالحون، كقوله: {كُنْتُمْ
خَيْرَ أُمَّةٍ. . .} الآية؛ أخبر أنها خير الأمم، واللّه أعلم. ١٠٦
وقوله: (إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ
عَابِدِينَ (١٠٦) يحتمل قوله:
{فِي هَذَا} أي: فيما ذكر من قوله: {وَلَقَدْ
كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا
عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} في ذلك {لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ}
أي: لقوم همتهم العبادة، أو لقوم مطيعين موحدين. وجائز
أن يكون قوله: {إِنَّ
فِي هَذَا} فيما تقدم من الآيات، وهو قوله: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا
هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا. . .}،
إلى قوله: {أَنْتُمْ
لَهَا وَارِدُونَ}، وما ذكر من قوله: {إِنَّ
الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى. . .} إلى آخر ما ذكر - أن فيما ذكر كله {لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ}. وجائز
أن يكون بلاغا للناس جميعًا، كقوله: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ}، فيكون قوله: {لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} أي:
لقوم يلزمهم العبادة. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: {إِنَّ فِي هَذَا} أي:
في هذا القرآن {لَبَلَاغًا} أبلغهم عن اللّه {لِقَوْمٍ عَابِدِينَ}. وفي
حرف ابن مسعود: (إن في هذا) أي: في هذا {لِقَوْمٍ
عَابِدِينَ}. ١٠٧
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} جائز أن يكون كل رسل اللّه رحمة من اللّه للعالمين، وكذلك كل كتب
اللّه رحمة للعالمين على ما ذكر في عيسى: {وَرَحْمَةً
مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا}. وجائز
أن يكون لرسول اللّه - صلوات اللّه وسلامه عليه - خاصة؛ فيكون في وجهين: أحدهما: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً
لِلْعَالَمِينَ} وما أرسلناك: إلا جعلناك رحمة
للعالمين. أو أن يقال:
وما أرسلناك إلا رحمة منا للعالمين، والعالمين: هو الجن والإنس؛ لأنه بعث إليهم،
ثم الرحمة فيه يحتمل وجوها: أحدها: تأخير العذاب عنهم. والثاني: أنه رحمة، حتى إذا اتبعوه يكون به نجاتهم، وبه عزهم في الدنيا
والآخرة. والثالث: شفاعته لأهل الكبائر في الآخرة، ونحو ذلك. ١٠٨
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ
فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨)
كأنه على الدعاء خرج الأمر، كأنه قال: أمرني ربي أن أخبركم: أن إلهكم إله واحد؛ فاصرفوا العبادة إليه،
ولا تشركوا فيها غيره. أو أن يقول: أوحى إفي أن أدعوكم إلى إلهكم الذي هو إله واحد، وإلا
كان رسول اللّه يعلم أنه إله واحد، لكنه خرج على الدعاء والإخبار أنه إله واحد. أو أن يخبرهم أني أدعوكم إلى ما أدعوكم إليه وآمركم، إنما أدعوكم
وآمركم بالوحي بما أوحى إليَّ، لا من تلقاء نفسي: {قُلْ
إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ}، واللّه أعلم. وقوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} ظاهره وإن كان استفهامًا فهو على الأمر والإيجاب كأنه قال: قد أوحى إلى أن إلهكم إله واحد،
فأسلموا له وأخلصوا العبادة له، لا تشركوا فيها غيره، والإسلام هو أن يجعل كلية
الأشياء والأعمال كلها للّه عَزَّ وَجَلَّ، ثم هو يكون على وجهين: أحدهما: على الاعتقاد أن يعتقد كلية الأشياء للّه، لا على تحقيق ذلك
الفعل. والثاني: على تحقيق جعل الأشياء كلها للّه اعتقادا وفعلا وقولا، منه يخاف،
ومنه يرجو، لا يخاف غيره، ولا يرجو من دونه، فهو حقيقة الإسلام. ١٠٩
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي
أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (١٠٩)
هذا يدل على أن الأول خرج على الأمر والدعاء، حيث قال: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} عن الإجابة إلى ما دعوتهم إليه {فَقُلْ
آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ} أي: أعلمتكم على عدل وحق، كقوله: {قُلْ
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} أي:
عدل بيننا وبينكم، فعلى ذلك هذا محتمل أن يكون قوله: {عَلَى سَوَاءٍ}
أي: على عدل وحق. ويحتمل أيضًا: {آذَنْتُكُمْ
عَلَى سَوَاءٍ} أي:
أعلمتكم، أي: حتى أنا وأنتم في العلم على سواء، أي: على الاستواء في العداوة والمخالفة،
وفي كل أمر على الاستواء، وهو كقوله: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ}، على الاستواء في العداوة، أي: انبذ إليهم حتى تكون أنت وهم على الاستواء في العلم بالمنابذة،
واللّه أعلم. وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} أي:
ما أدري أقريب أم بعيد ما توعدون؟ ثم
يحتمل قوله: {مَا تُوعَدُونَ} دُونَ الساعة
والقيامة التي كانوا يوعدون بها وهم كانوا يستعجلون بها، كقوله: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ بِهَا}، فيقول: ما أدري أقريب أم بعيد ما
توعدون؟ ويحتمل قوله:
{مَا تُوعَدُونَ} من العذاب الذي كان يعد
لهم أنه نازل بهم في الدنيا، وهم كانوا يستعجلون كقوله: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ
إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}، فيقول: ما أدري أقريب
أم بعيد ما توعدون من العذاب؟ واللّه أعلم. ١١٠
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ
(١١٠) يخرج ذلك على الوعد والتنبيه والزجر عن
المكر برسول اللّه والقول فيه بما لا يليق به؛ يخبر أنه يعلم ما تظهرون من القول {وَمَا تَكتُمُونَ} أي: ما تسرون من المكر به. ١١١
وفيه
دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد،
حيث أخبرهم عما أسروا فيما بينهم من المكر به. وقوله: (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ
لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (١١١)
ذكر أنه ما أدري {لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ}، ولم يبين ما الذي يكون فتنة لهم. لكن
بعض أهل التأويل قال:
ما أدري ما قلت لكم من العذاب والسّاعة: هل يؤخر عنكم لمدّتكم ومتاع لكم إلى حين
فيصير ما قربت لكم من العذاب والساعة فتنة لكم فتقولون: لو كان ما خوفنا به مُحَمَّد حقًّا، لكان نزل بعد؛ فيصير قولي ذلك فتنة لكم؛ هذا محتمل. ويحتمل وجهًا آخر، وهو: لما قال: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ
لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}: أنه كان خوفهم نزول
العذاب بهم، ولكن لم يبين لهم الوقت أنه متى ينزل بهم، فيقول: ما أدري لعل تخويفي
إياكم العذاب على بيان وقته فتنة لكم؛ لأنه إذا تأخر عنهم العذاب متاعًا لهم
يأمنون عنه؛ فيحملهم ذلك على تكذيبه فيما خوفهم من العذاب، ويكون ما يأمنون من
العذاب متاعًا لهم؛ لأنه لو كان وقت نزول العذاب مبينًا لكانوا أبدًا على خوف
فينقض ذلك الخوف ويمنعهم عن المتاع وإن لم يبين لهم الوقت، فإذا تأخر عنهم يأمنون ويتمتعون،
فيقول: ما أدري، لعل تخويفي إياكم لكم فتنة وعندنا: ألا يجب أن يفسر قوله: {فِتْنَةٌ
لَكُمْ} أنه أي
شيء أراد؟ وهم قد عرفوا أنه ما أراد به؟ وليس لنا أن نفسر ذلك: أنه أراد كذا إلا
ببيان عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ
وَسَلَّمَ -. ١١٢
وقوله: (قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ (١١٢) تعلق أكثر المعتزلة بظاهر هذه الآية في مسائل لهم؛ يقولون: يجوز أن يدعى بدعوات يعلم الداعي أنه قد
أعطى ذلك له، من نحو سؤال المغفرة: ربِّ اغفر لي، وهو مغفور له، ورب أعطني كذا،
وهو معطى له، ويقول: رب اغفر لي، وهو يعلم أنه لا يغفر له، ونحو هذا من المسائل
لهم، فيحتجون بظاهر قوله:
[{قُلْ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ}]
أمر رسول اللّه أن يدعو به على علم منه أنه لا يحكم إلا بالحق. ونحن
نقول: إنه لا يجوز أن يدعى بمثل هذا الدعاء على الإطلاق إلا على اعتقاد معنى آخر
في ذلك كان اللّه فعل ذلك؛ فيكون ذلك منه عدلا وحقا، نحو أن يكون قوله: {قُلْ
رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} أي: بالنصر له، والظفر على أعدائه، وله
ألا ينصره، ويكون ذلك عدلا منه وحقا. أو أن يكون المراد به: {احْكُمْ بِالْحَقِّ} أي:
بالعذاب الذي هو حكمك على مكذبي الرسل، فأما أن يعتقد من قوله: {رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} ما اعتقد المعتزلة فيحصل الدعاء به: اللّهم
لا تَجُز ورب اعدل، ومن عرف ربه هكذا فهو ليس
يعرف حقيقته. وقال
أبو عبيدة في قوله: {رَبِّ
احْكُمْ بِالْحَقِّ}، أي: رب احكم بحكمك وهو الحق، وهو محتمل مستقيم، وقد ذكرنا هذه المسألة
وأمثالها فيما تقدم. وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} أمر رسوله أن يستعين باللّه - تعالى - على ما يقولون من تكذيبهم
إتاه فيما يدعو ويعد. قَالَ
الْقُتَبِيُّ: {آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ} أي: أعلمتكم؛ فصرت أنا وأنتم على سواء، وإِنَّمَا يريد؛ بـ {آذَنْتُكُمْ}: أخبرتكم وأعلمتكم ذلك؛
فاستوينا في العلم، وهو ما ذكرنا. وقال
أَبُو عَوْسَجَةَ: قوله: {آذَنْتُكُمْ
عَلَى سَوَاءٍ}، أي:
كلكم. واللّه أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وعليه التكلان. *
* * |
﴿ ٠ ﴾