سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ
مَكِّيَّة بِسْمِ
اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ١
قوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}. الفلاح،
قال قائلون: الفلاح هو البقاء، أي: بقي المؤمنون. وقال
قائلون: الفلاح: السعادة. وقال
أقائلون: الفلاح: الفوز، وأمثاله. وفي
قوله: {قَدْ
أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. . .} إلى آخر ما ذكر دلالة
أن من المؤمنين من هم بهذا الوصف الذي وصف هَؤُلَاءِ، وأن اسم الإيمان يقع بدون الذي ذكر في هذه الآية؛ لأنه لو لم يكن لذكر ما ذكر من
الخشوع في صلاتهم، والحفظ لفروجهم، والإعراض عن اللغو، يعني: دل أنه يكون مؤمنًا بغير الوصف الذي وصف هَؤُلَاءِ، وكذلك في قوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}، وقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}؛ فدل أن فيهم من ليس بعدل، وفيهم من لا يرضى في الشهداء؛ حيث خصّ
العدل والمرضي في الشهادة. ٢
وقوله: (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ
خَاشِعُونَ (٢) قال
الحسن: الخشوع هو الخوف الدائم اللازم في
القلب. وقال
غيره: الخشوع في القلب، وأصل الخشوع كأنه
آثار ذل - من الخوف - تظهر في الوجه والجوارح كلها، لا الخوف الذي ذكر هَؤُلَاءِ؛ ألا لَرى أنه قال: {وُجُوهٌ
يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ}، وقال: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} - دل هذا أن الخشوع هو آثار ذلّ من خوف يظهر في الوجه والجوارح
كلها؛ ولذلك قَالَ
بَعْضُهُمْ: الخشوع في الصلاة هو ألا يعرف من عن يمينه وشماله؛ لأن ذلك يشغله
عن العلم بمن يليه، وأصله ما ذكرنا، واللّه أعلم. ٣
وقوله
- عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣)
اللغو:
كأنه اسم كل باطل، واسم كل ما يلغى ولا يعبأ به، أخبر أنهم يعرضون عن كل باطل وعن
كل ما نهوا عنه، ويقبلون على كل طاعة وبكل ما أمروا به. ٤
(وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (٤) يحتمل الزكاة: الزكاة التي بها تزكو أنفسهم عند اللّه. وجائز
الزكاة المعروفة المعهودة، أخبر أنهم فاعلون ذلك مؤدون. وجائز
أن يكون ذكر هذا من المؤمنين؛ من الطاعة للّه والائتمار لأمره، والرضا به، مقابل
ما كان من المنافقين من الكراهية في الإنفاق، والصلاة على الكسل، والمراءاة؛ كقوله: {وَإِذَا
قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ. . .} الآية،
وقوله: {وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ
كَارِهُونَ}، وقولهم:
{لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللّه} نعتهم بالكسل، والخلاف، وترك الإنفاق والمراءاة في الطاعات، ونعت
المؤمنين بضد ذلك، وبالرغبة في أوامره، والانتهاء عن معاصيه ونواهيه. ٥-٦
وقوله: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ
حَافِظُونَ (٥) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ
غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) استثنى
في هذا؛ لأن هذا مما يحل في حال ويحرم في حال، وأما اللغو وما ذكر من أول الآية إلى آخره لا يحل بحال، واللغو حرام
في الأحوال كلها، وكذلك ترك أداء الأمانة والزكاة والصلاة مما لا يحل تركه بحال. وقوله: {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}. ذكر
ألا يلحقهم لائمة في ذلك - واللّه أعلم - لوجهين: أحدهما: لقول الثنوية؛ لأنهم لا يرون التناكح، فأخبر أن اللائمة ليست في
هذين وإنما اللائمة في غير هذين. والثاني: ذكر لإبطال المتعة؛ لأنه استثنى الأزواج وما ملكت أيمانهم،
والمتعة ليست في هذين اللذين استثناهما، ثم أخبر أن لا لائمة في هذين، وفيما
عداهما لائمة، والمتعة مما عدا هذين، وهو ما قال: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى
الْبِغَاءِ}، وإلى هذا يصرف حفظ الفروج، وإلا: كان عامة الناس يحفظون فروجهم
عن الزنا، ويعرفون حرمته، لكنهم كانوا يستبيحون المتعة والإجارة فيه؛ فحرم ذلك ٧
ثم
قال: (فَمَنِ
ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (٧) والعادي:
هو المجاوز عن الحد الذي حدّ له. ٨
وقوله: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ
وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (٨) يحتمل الأمانات: العبادات والفرائض التي
فرضت عليهم، راعوها، أي:
أدوها في أوقاتها، والعهود التي فيما بينهم وبين ربهم. أو أن يكون الأمانات التي وضعت عندهم والعهود التي فيما بينهم وبين
الخلق، راعوها، أي:
حفظوها، وأدوها إلى أربابها ولم يضيعوها، واللّه أعلم. ٩
وقوله: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ
يُحَافِظُونَ (٩) يكون
محافظة الصلاة بوجوه: أحدها: يحافظونها بأركانها وفرائضها ولوازمها وآدابها. والثاني: يحافظونها بأسبابها التي جعلت لها من الأوقات والطهارات وستر
العورة وغيرها من الأسباب التي لا تقوم الصلاة إلا بها. والثالث: يحافظونها بالخشوع والوقار وإظهار الذل له والإخلاص، وغير ذلك من
الأشياء مما ندب المصلي إليه، وعلى ذلك جميع ما ذكر من الأمانات وغيرها، واللّه
أعلم. ١٠
وقوله: (أُولَئِكَ
هُمُ الْوَارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (١١) الوارث:
هو الباقي عن المورث. وقال
اللّه - عَزَّ وَجَلَّ -:
{إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ}
أي: إنا باقون عن الخلق، أي: يفني الخلائق، وهو يبقى. أو أن يكون قوله: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} هكذا هو ما وعد اللّه عباده الجنة إن أجابوه، وإليها دعاهم بقوله: {وَاللّه
يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ}؛ فمن ترك إجابته يصير
الموعود الذي وعد له إن أجاب لمن أجابه؛ فذلك الوراثة التي ذكر اللّه. ١١
وقوله: {الْفِرْدَوْسَ}،
قيل: هو بلسان الروم: بستان، سمى اللّه
الجنة بأسماء مختلفة: منها عدن، ونعيم، ومأوى، وفردوس، وهي في الحقيقة واحد؛ لأن
العدن هو المقام، والنعيم هو ما ينعم، ومأوى فهي كذلك، ثم فردوس وعدن، ومأوى نعيم. وروي
في بعض الأخبار عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ
وَسَلَّمَ - أنه قال: " الفِردَوْسُ رَبْوةُ
الجَنَّةِ الْعُلْيَا، وَهِيَ
أوْسطُهَا، وَأَحْسَنُهَا "،
فإن ثبت هذا فهو ما ذكر. وعن
ابن عَبَّاسٍ -
رَضِيَ اللّه عَنْهُ -
قال: {الَّذِينَ
هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ}، قال: الإقبال عليها، والذلة فيها. وعن
علي - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -
قال: الخشوع في القلب، وأن تلين كنفك
للمرء المسلم، وألا تلتفت في صلاتك. وقيل: التواضع، وأصله ما ذكرنا. ١٢
وقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ
سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ}. قَالَ
بَعْضُهُمْ: إنما ذكر سلالة؛ لأنه سُلَّ من كل تربة. وقال
أَبُو عَوْسَجَةَ: السلالة: الخالص من كل
شيء، وقوله: {مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} حز، أي:
من أجود الطين؛ ذكر مرة: {مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ}، ومرة: {مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ
مَسْنُونٍ}، ومرة قال: {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ}، ومرة: {كَالْفَخَّارِ}، ونحوه، وهو آدم - عليه السلام - وذلك على تغيير الأحوال، واللّه أعلم بالصواب. ١٣
وقوله: (ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ
مَكِينٍ (١٣) أي: ثم خلقنا ولده وذريته من نطفة، أخبر عن أصل ما خلق آدم منه، وأصل
ما خلق ولده منه، وهي النطفة. وقوله: {فِي قَرَارٍ مَكِينٍ}. قَالَ
بَعْضُهُمْ: الرحم. وجائز
أن يكون القرار هو صلب الرجل؛ لأن النطفة لا تخلق في الصلب أول ما خلق الإنسان،
ولكن تجعل فيه من بعد؛ فيكون الصلب قرارها ومكانها إلى وقت خروجها منه إلى الرحم؛
وعلى ذلك قوله: {فَمُسْتَقَرٌّ
وَمُسْتَوْدَعٌ}: الرحم. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: المستقر: الرحم، والمستودع: الصلب. وجائز
أن يكونا جميعًا واحدًا، أيهما كان: الرحم أو الصلب؛ لأن كليهما قرار وما يستودع فيه. وقال
ابن عَبَّاسٍ وغيره: السلالة: صفوة الماء. ١٤
وقوله: (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً ... (١٤) والنطفة هي المعروفة، والعلقة والدم والمضغة:
القطعة من اللحم إلى آخر ما ذكر، يخبرهم عن تحويله إياهم وتقليبه من حال إلى حال
لوجوه: أحدها: يخبر عن قدرته وسلطانه وعلمه وتدبيره؛ ليعلموا أن من قدر على
إنشاء العلقة من النطفة ما لو اجتمع الخلائق جميعًا على أن يعرفوا سبب خلق هذا عن
هذا، مع إحاطة علمهم أن ليس فيها من آثار العلقة شيء - ما قدروا على ذلك، وعلى ذلك
جميع ما ذكر من النطفة والمضغة، ومن العلقة والعظم، ومن المضغة والإنسان، دل ذلك
كله على أنه قادر؛ فمن قدر على هذا يقدر على إنشائهم من الأصل من لا شيء، ويقدر
على إحيائهم بعد ما صاروا ترابًا، والأعجوبة في خلق الإنسان مما ذكر من النطفة
والعلقة والمضغة ليس بدون خلقه إياهم من التراب من الوجوه التي ذكرنا. وفيه
دلالة علمه الذاتي؛ لأن من قدر على تحويلهم من حال إلى حال التي ذكر في الظلمات
الثلاث؛ دل أنه عالم بذاته لا بعلم مستفاد من أحد، ولا قوة مكتسبة؛ ولكنه بالعلم
الذاتي والقوة الذاتية؛ لأن مَنْ علمُه مستفاد، ومَنْ قوتُهُ مستفادة ومكتسبة لا يبلغ ذلك وفيه
دلالة تدبيره؛ لخروج الخلق جميعًا وتوالدهم من أول أمرهم إلى آخر ما ينتهون على
جري واحد وسنن واحد، على غير تغيير في التوالد والتناسل الذي جعل فيهم، وكذلك جميع
ما يخرج من الأرض من النبات والأشجار والأوراق في كل عام، وفي كل سنة يخرج على
جرية واحدة وسنن واحد لا يتغير ولا يتفاوت وقت خروجه؛ بل على تقدير واحد وميزان
واحد؛ دل أنه على تدبير ذاتٍ خرج، لا على الجزاف، وباللّه الحول والقوة. وفيما
ذكر من تحويله إياهم وتقليمه من حال إلى حال دلالة أنه لم ينشئهم لأنفسهم، وأن من
أنشأ من العالم سواهم إنما أنشاه لهم، وأنشا أنفسهم لعاقبة؛ لأنه لو كان إنشاؤه
إياهم لأنفسهم وللفناء الذي ذكر في قوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ
لَمَيِّتُونَ} لكان يتركهم على حالة واحدة ولا يحولهم من حال إلى حال، فإذا
حولهم وقلبهم من حال إلى حال دل أنه لا للموت الذي ذكر خلقهم خاصة بقوله: {ثُمَّ
إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ}؛ ولكن لعاقبة تقصد،
وهو البقاء الدائم لا فناء فيه، وهو ما ذكر: {ثُمَّ
إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ}. وقوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ}. أما
أهل التأويل فمنهم من قال: نفخ الروح فيه، وهو قول ابن
عَبَّاسٍ وغيره. وقَالَ بَعْضُهُمْ إنبات الشعر ونحوه، وهو
قول قتادة وغيره. وعن
الحسن وغيره: ذكر أو
أنثى. وجائز
أن يكون قوله: {أَنْشَأْنَاهُ
خَلْقًا آخَرَ}: غير ما قال هَؤُلَاءِ، وهو إظهار الجوارح والأعضاء وتركيبها، ما فيه دلالة؛ لأنه أخبر
أنه يقلبه شيئا واحدًا مصمتا ليس به هذه الجوارح والأعضاء، إنما يكون فيه آثارها
لا أعينها فيركب فيه أعين الجوارح والأعضاء حتى يكون إنسانا، فذلك هو إنشاء خلق
آخر، ويكون نفخ الروح ونبت الشعر في تركيب ما ذكرنا، واللّه أعلم. ومن
ينكر خلق الشيء لا من شيء، ويقول بقدم العالم إنما ينكر ذلك؛ لما لم ير في الشاهد
صنع شيء لا من شيء، فيقال له: وهل رأيت إنشاء شيء من شيء على إتلاف الأصل حتى لا
يبقى له أثر، فإذا لم تر هذا في الشاهد، وقد رأيت في الغائب إنشاء شيء من شيء على
إتلاف الأول منه، نحو النطفة تصير علقة على تلف النطفة فيها، والعلقة مضغة على
إتلاف العلقة فيها. . . إلى آخر ما ذكر، كل ذلك منشأ من آخر إنما كان بعد تلف
الأصل، فهلا دل ذلك على أن عدم الإنشاء في الشاهد لا من شيء لا يدل على عدمه في
الغائب، وأنه حيث قدر على هذا يقدر على كله. وقوله: {فَتَبَارَكَ اللّه أَحْسَنُ
الْخَالِقِينَ}. من
الناس من يستدل على أنه إذا لم يكن سواه خالقًا لم يكن لقوله: {أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} معنى؛ كقوله: {أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}، و {أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ}، ونحوه، إنما قال هذا لما يكون سواه رحيمًا
حكيمًا كريمًا؛ فأخبر أنه أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين؛ فعلى ذلك ما قال: {أَحْسَنُ
الْخَالِقِينَ}. ولكن
جائز القول بمثل هذا عند الناس على غير إثبات آخر سواه في ذلك حقيقة، وهو يخرج على
وجوه: أحدها: {أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} مما تنسبون أنتم إليه، وتجعلونه خالقًا عندكم؛ كقوله: {فَرَاغَ
إِلَى آلِهَتِهِمْ}: إبراهيم لم يسم معبودهم الذي عبدوه إلها على جعل الألوهية له، ولكن على ما
سموا هم ونسبوا الألوهية إليه، وكذلك قول موسى، حيث قال: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي
ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا}، على ما عندهم، ليس على
تسمية الإله له حقيقة؛ دل ما ذكرنا على أن تسمية ما ذكر وذكره يجوز، وإن لم يكن
هنالك سواه إلها خالقًا، وكذلك قوله: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}:
ليس على أن لهم شفعاء يشفعون لهم؛ ولكن لا شفعاء لهم؛ فعلى ذلك ما ذكرنا. والثاني: تأويل {أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}، أي:
لو جاز أن يكون خالق آخر سواه لكان هو أحسن الخالقين، ولكن لا يجوز، وهو كقوله: {لَوْ
أَرَادَ اللّه أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} أي:
لو جاز أن يتخذ ولدًا لاصطفى مما ذكر، لكن لا يجوز، وكذلك قوله: {لَوْ
أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا}، أي:
لو جاز أن يكون كذا لكان كذا، ليس على أنه يجوز أن يكون، وكذلك قوله: {مَا
اتَّخَذَ اللّه مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ
إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ. . .} الآية، أي: لو جاز أن يكون معه إله لذهب بما ذكر، لكن لا يجوز؛ فعلى ذلك قوله: {فَتَبَارَكَ
اللّه أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}، أي: لو جاز أن يكون هنالك خالق غيره
لكان هو أحسن الخالقين، ولكن لا يجوز، واللّه الموفق. والثالث: ذكر أحسن الخالقين؛ لما أن العرب تسمي كل صانع شيء خالقًا؛ فخرج
الذكر لهم على ما يسمونهم، ليس على حقيقة الخلق لمن دونه؛ كقول عيسى حيث قال: {أَنِّي
أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ}، أو أن يكون ذكر هذا القول من يقول: إن العالم أصله من أربع طبائع: من
الحرارة، والبرودة، واليبوسة، والرطوبة. أو أن يكون كقول بعض الفلاسفة: إن العالم أصله من أربع أو من خمس: من الماء، والأرض، والنار، وغيره. فأخبر
أنه ليس كذا، ولكن هو خالقهم لا من الأشياء التي توهموا هم. وعلى
قول من يقول: إنه يكون غيره خالقًا لكان الخلق غير دال على الخالق، وقد جعل اللّه
الخلق سببًا لمعرفة الخالق، فلو كان غيره خالقًا، لكان الخلق غير دال على معرفة
الخالق؛ لأنه قال: {خَلَقُوا
كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ}:
أخبر أنه لو كان سواه في ذلك تشابه الخلق عليهم؛ فإذا تشابه لم يكن سببًا لمعرفة،
على ما أخبر في إثبات عدد الآلهة؛ كقوله: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا
لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} فإذا بطل هذا
ولم يجز عدد الآلهة وإثبات الألوهية لغيره، فعلى ذلك في
الخلق على الوجوه التي ذكرنا. ١٥
وقوله: (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ
لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ) قد
ذكرنا فيما تقدم أن المقصود من خلق هذا العالم - لم يكن الإماتة والإفناء؛ ولكن
عاقبة تتأمل وتقصد حيث قلبهم من حال إلى حال، ثم لم يتركهم على حالة واحدة، فلو
كان المقصود من خلقهم الفناء والهلاك لا غير، لكان تركهم على حالة واحدة، ولم
يقلبهم من حال إلى حال؛ فدل التحويل والتقليب من حال إلى حال على أن المقصود من
الخلق العاقبة، على ما ذكرنا واللّه أعلم؛ لأنه أخبر أن خلقهم لا لعاقبة يقصد بها
عبث؛ حيث قال: {أَفَحَسِبْتُمْ
أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا}، صير خلقهم لا للرجوع
إليه عبثًا، وقال في آية أخرى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا. . .} الآية:
صير نقض الغزل بعد إبرامه وقوته سفها منها؛ فلا جائز أن يسفه تلك المرأة تنقض
غزلها بعد الإحكام والإبرام بلا نفع يكون لها، ثم هو يفعل ذلك؛ إذ خلق الخلق
للفناء والهلاك خاصة - عبث ولعب، وعلى ذلك بناء البناء في الشاهد لا لعاقبة
ومنفعة، ولكن للّهدم والنقض سفه ولعب. ١٦
قلنا:
إن خلق الخلق لا للموت خاصة، ولكن لما ذكر من قوله: (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
تُبْعَثُونَ (١٦) أي: تحيون. قَالَ
الْقُتَبِيُّ: يقال للولد: سلالة
أبيه، وللخمر: سلالة، ويقال: إنما جعل آدم من سلالة؛ لأنه سُلَّ
من كل تربة. وقال
أَبُو عَوْسَجَةَ: السلالة: الخالص من كل
شيء. قال
أبو معاذ: النسل: الولد يسل من
تحت كل شعرة. وقَالَ
الْقُتَبِيُّ: المضغة: اللحمة
الصغيرة؛ سميت بذلك لأنها بقدر ما يمضغ؛ كما قيل: غرفة، بقدر ما يغرف. وقوله: {فِي قَرَارٍ مَكِينٍ}. أي: مكان حريز، أو
هو الرحم أو الصلب، أيهما كان فهو ما وصف. ١٧
وقوله: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ
طَرَائِقَ ... (١٧) قَالَ
بَعْضُهُمْ: سبع سماوات. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: سبعة أفلاك. يذكر
هذا - واللّه أعلم - أيهما كان السماوات أو الأفلاك التي جعل لأمر الخلق ولحوائجهم؛ لوجهين: أحدهما: يخبر عن قدرته وسلطانه وغناه: أن من قدر على خلق ما ذكر وإنشائه
بلا سبب، لقادر على إنشاء الخلق لا من شيء. والثاني: أن من قدر على هذا يقدر على بعثهم وإحيائهم بعد الموت. قَالَ
الْقُتَبِيُّ: سبع طرائق، أي سبع سماوات: كل سماء طريقة، ويقال عن الأفلاك: كل واحد طريق. وإنما
سمي طرائق؛ لأن بعضها فوق بعض، يقال: طارقت الشيء؛ إذا جعلت بعضه على بعض. ويقال: وبشر طرائق. وغيره
قال: طرائق أهواء مختلفة. وقوله: {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ
غَافِلِينَ}. أي: لم نخلقهم على جهل منا بأحوالهم؛ ولكن على علم منا بذلك. ولا
يحتمل أن يكون خلقه إياهم على علم منه، ثم
يخلقهم للفناء لا لعاقبة تتأمل؛ لأن من يفعل هذا في الشاهد إنما يفعل إما للجهل به
أو لحاجة، واللّه يتعالى عن ذلك كله. أو أن يكون قوله: {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ
غَافِلِينَ}: خلق ما ذكر، أي: إذا عرفتم أن خلق هذه الأشياء لا لأنفسها، ولكن لأنفسكم
ولمنافعكم، فلا يحتمل
أن يكون خلقها لكم بلا محنة ولا ابتلاء، فإن ثبت المحنة فيكم ثبت الثواب والعقاب؛
فإن ثبت هذا ثبت البعث والحياة، واللّه أعلم. ١٨
وقوله: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (١٨) قَالَ
بَعْضُهُمْ: بقدر: بعلم منا. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: ما يقع لهم الحاجة والكفاية. وجائز
أن يكون قوله: {بِقَدَرٍ}، أي:
معلوم مقدر، لا يتقدم ولا يتأخر، ولا يزداد ولا ينتقص، ولكن على ما قدر، وكذلك
جميع الأشياء. وقوله: (فأسكناه في الأرض). يذكر
هذا ويخبر عن قدرته وسلطانه: أن من قدر على استنزال الماء من السماء يقدر على
البعث وعلى خلق الشيء لا من شيء؛ إذ لا أحد من الخلائق يقدر على ذلك إلا بالحيل
التي علمه اللّه. أو أن يكون يقول: إنه حيث جعل منافع الأرض متصلة بمنافع السماء،
ومنافع السماء متصلة بمنافع الأرض؛ على بعد ما بينهما، دل اتصال منافع أحدهما بالآخر، أمع، بعد ما بينهما على أن
منشئهما واحد، ومدبّرهما واحد عالم بذاته. وقوله: {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ
لَقَادِرُونَ}. كقوله: {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا. . .}
الآية. ١٩
وقوله: (فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ .. (١٩) أي: بالماء. {جَنَّاتٍ
مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ}. أي: الكروم؛ يذكر نعمة اللّه التي أنعمها عليهم من الماء الذي به حياة
الأبدان والأشياء جميعًا؛ ليتادى به شكره وعبادته. وقوله: {فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ
مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ}. إن
كان قوله: {لَكُمْ
فِيهَا}، أي:
في الجنات؛ حيث ذكر أنه أنشأ لنا فواكه كثيرة؛ ففيه حجة لأبي حنيفة - رحمه اللّه -
أن من حلف ألا يأكل فاكهة، فأكل عنبا - لم يحنث؛ حيث ذكر النخيل والأعناب، وذكر
فيها الفواكه على حدة. وإن
كان يعني به النخيل والأعناب، فليس فيه حجة له. ٢٠
وقوله: (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ
سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠) أي: أنشأنا لكم -أيضًا- شجرة في طور سيناء، ثم الشجرة التي تكون في
الجبال لا صنع للخلق في إنباتها، وما يكون في الجنان والبساتين إنما يكون بإنبات
الخلق، ثم أضاف كليهما: ما يكون للخلق فيه صنع وما لا يكون؛ دل إضافة ذلك إليه كله
على أن للّه في فعل العباد صنعا، وأن جميع ما يكون إنما يكون بصنع منه ولطف،
ويذكرهم نعمه التي أنعمها عليهم: من إنشاء الجنان لهم، والنخيل والأعناب والفواكه
التي ذكر ليتأدى بذلك
شكره. وفيه
دلالة قدرته وسلطانه؛ حيث أنشأ الشجرة، وأخرجها من الجبل، وهو أشد الأشياء
وأصلبها، وجعل في تلك الشجرة الدهن، وهو ألين الأشياء وألطفها؛ فيخبر أن من قدر
على إخراج ألين الأشياء من أشدها وأصلبها لا يعجزه شيء. وفيه
أن لا بأس بقران شيء إلى شيء، فهو كان جميعًا وضم بعضهم بعضه إلى بعض، ويجمع في
الأكل حيث قال: {تَنْبُتُ
بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} هو الإدام. ثم
اختلف في قوله: {طُورِ
سَيْنَاءَ}: قَالَ
بَعْضُهُمْ: الطور: الجبل، بالسريانية، والسيناء: الحسن، بالحبشية. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: الطور: الجبل وما ذكر، والسيناء: الشجرة الحسناء. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: الطور: هو الجبل الذي كلم اللّه موسى وأوحى إليه، والشجرة: هي
شجرة الزيتونة. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: السيناء: الحجارة. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: الطور: السيناء المبارك بما أوحى على موسى. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: الطور: الجبل، والسيناء: شجر حوله. وفي
حرف ابن مسعود وحفصة: (وشجرة تخرج من
طور سيناء تخرج الدهنَ وصِبغَ الآكلين). قَالَ
بَعْضُهُمْ: تخرج الثمر. قال
أبو معاذ: أنبت النبات ونبت:
لغتان؛ كقولك: أسرى وسرى. وقال
زهير: حتى إذا أنبت البقل. قال
الكسائي: تقول: خرجت بزيد
وأخرجت زيدًا، ولا تقول: أخرجت بزيد، إلا أن تقول: أخرجت بزيد عمرا. قَالَ
الْقُتَبِيُّ: {وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} مثل الصباغ كما
يقال: دبغ دباغًا، ولبس لباسًا. أَبُو
عَوْسَجَةَ: {وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} أي:
الصباغ، وهو ما اصطبغت به من شيء، أي: غمرته فيه. ٢١
وقوله: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ
لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ
كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (٢١) في
سورة النحل {مِمَّا فِي بُطُونِهِ}، قَالَ
بَعْضُهُمْ: إنما ذكره على الفرد والوحدان، وفيما ذكره على التأنيث على الجمع. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: فيما ذكره بالتذكير أراد به جنسًا من الأنعام مما في بطونه، وهذا
أشبه، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم. ثم
قوله: {وَإِنَّ
لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} وجه العبرة فيها
من وجوه: أحدها: ما قال ابن عَبَّاسٍ، وهو ما ذكر - عَزَّ وَجَلَّ -: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ. . .} الآية؛
ففي ذلك عبرة ودلالة على وحدانيته وربوبيته وعلمه وقدرته وتدبيره ولطفه؛ إذ ليس
شيء منها إلا وفيها دلالة وحدانيته وربوبيته، ودلالة علمه وقدرته وتدبيره. وفيه
أنه لم ينشئ هذه الأنعام لأنفسها، ولكن أنشأها للبشر؛ حيث أخبر أنه سخرها لهم؛
ليمتحنهم بها. ثم
اختلف في الأنعام: قال
مقاتل: الأنعام: كل شيء يؤكل لحمه ويشرب
لبنه، وما لا يؤكل لحمه ولا يشرب لبنه - فليس من الأنعام. وقال
أبو معاذ: إن من الأنعام ما لا
يؤكل لحمه ولا يشرب لبنه. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: الأنعام: كل بهيمة حتى الوحش. والأشبه
أن تكون الأنعام هي الإبل، ولكنا لا نعلم حقيقته؛ إنما هو اللسان، فهو على ما
يسميه أهل اللسان. وقوله: {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ}. قيل: من الحمولة وغيرها، وقد ذكرنا هذا في سورة النحل. ٢٢
وقوله: (وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ
تُحْمَلُونَ (٢٢) يذكرهم
نعمه فيما سخر لهم من الأنعام والسفن؛ ليتأدى به شكره. ٢٣
وقوله: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى
قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّه مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ (٢٣) يردد
- عَزَّ وَجَلَّ -
أنباء أولي العزم من الرسل وأخبارهم، ويكررها على رسول اللّه؛ ليكون أبدًا يقظانًا منتبهًا، ويعرف أن كيف عامل
أولو العزم قومهم، وكيف صبر أولو العزم من الرسل على أذى قومهم وتكذيبهم إياهم؛
ليعامل هو قومه مثل معاملتهم، ويصبر هو على أذى قومه؛ على ما صبر أُولَئِكَ على
أذى قومهم وتكذيبهم إياهم؛ لهذا ما يردد ويكرر أنباءهم عليه، ويعرف قومه -أيضًا-
ألا يظفروا بما يأملون من تكذيبهم العاقبة؛ بل العاقبة تصير له على ما صارت لأولي
العزم من الرسل لا لقومهم، واللّه أعلم. وقوله: {أَفَلَا تَتَّقُونَ}، يحتمل
وجوهًا: أحدها: {أَفَلَا تَتَّقُونَ} مخالفة اللّه ومخالفة رسوله. أو {أَفَلَا تَتَّقُونَ} عذابه ونقمته ووعيده. أو {أَفَلَا تَتَّقُونَ} عبادة غير اللّه. ٢٤
وقوله: (فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ
عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللّه لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي
آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤) هذا
الذي قالوا: هو تناقض؛ لأنهم قالوا: إنه بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم بما ادعى
من الرسالة والإجابة له إلى ما دعاهم، ثم هم - أعني: الرؤساء منهم والقادة - ادعوا
لأنفسهم الفضل بما استتبعوا هم السفلة، وطلبوا منهم الموافقة لهم والإجابة، وهم
بشر أمثالهم؛ فذلك تناقض في القول، ثم أقروا بتفضيل بعض الخلق على بعض، وعرفوا
قدرة اللّه على ذلك؛ حيث قالوا: {وَلَوْ شَاءَ اللّه
لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً}. فإن
قدر على تفضيل الملائكة على البشر، قدر على تفضيل بعض البشر على بعض، ثم أخبر عن
نوح أنه لا يريد بما ادعى من الرسالة التفضل عليهم؛ ولكن يريد النصح لهم والإشفاق
عليهم؛ حيث قال: {وَلَا
يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ}، وقال: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ
يَوْمٍ عَظِيمٍ}، {عَذَابُ
يَوْمِ الظُّلَّةِ}، ونحو ما قال؛ أخبر أنه إنما أراد
النصح والشفقة لا التفضل الذي قالوا هم. وقوله: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا
الْأَوَّلِينَ}. هذا
قولهم، وقد كذبوا في قولهم. ٢٥
وقوله: (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ
فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥) قد
عرفوا أن ليس به جنون؛ ولكن أرادوا التلبيس والتمويه على قومهم؛ حيث خالفهم في
جميع أمورهم، وعادى الرؤساء منهم والقادة، ويقولون: ما يفعل هذا إلا لجنون فيه
وآفة أصابته في عقله، وإلا: عرفوا هم في أنفسهم - أعني: القادة - أنه ليس بمجنون؛
ولكن أرادوا التمويه على قومهم، ثم قالوا: {فَتَرَبَّصُوا
بِهِ حَتَّى حِينٍ}. لسنا
ندري ما أرادوا بالحين: أرادوا الموت؟ أو وقت ارتفاع ما قالوا فيه من الجنون؟ أو أرادوا وقتا آخر. قال
مقاتل: يريد أن يتفضل عليهم بالرسالة،
وليس له عليكم فضل في شيء فننبعونه. وقوله: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا}. قَالَ
بَعْضُهُمْ: أي:
بالعذاب في آبائنا الأولين. ويقال: ما سمعنا التوحيد في آبائنا
الأولين، كما يدعو نوح. ٢٦
وقوله: (قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ
(٢٦) لم
يدع عليهم بأول ما كذبوه؛ ولكن إنما دعا عليهم بعد ما أيس من عودهم إلى تصديقه،
وهو ما قال: {أَنِّي
مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ}. وقال
أهل التأويل: {انْصُرْنِي}: بتحقيق ما وعدت لهم من
العذاب؛ فإنه نازل بهم في الدنيا وعذابهم {بِمَا
كَذَّبُونِ}: في قولي بأن العذاب نازل بهم في الدنيا. أو أن يكون قوله: {انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ}، أي:
اجعل لي الظفر عليهم بالتكذيب، ونحوه. ٢٧
وقوله
- تعالى -: (فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ
الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ
فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ
عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ
مُغْرَقُونَ (٢٧) قَالَ
بَعْضُهُمْ: بمنظر منا. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: بمرأى منا. وجائز
أن يكون - صلوات اللّه عليه - ظن لما أمر باتخاذ الفلك: أنهم لا يتركونه أن يتخذ
الفلك؛ فأخبره - عَزَّ وَجَلَّ -: أنك تتخذه بحيث تراه، وننصرك عليهم بحيث لا يملكون منعك عن
اتخاذها. وقوله: {وَوَحْيِنَا}،
أي: بأمرنا. وقوله: {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ
التَّنُّورُ}، أي:
إذا جاء الموعود بأمرنا وفار التنور. أو أن يقول: إذا جاء وقت أمرنا بالعذاب وفار ما ذكر، أي: خرج الماء من التنور وظهر. وقوله: {فَاسْلُكْ فِيهَا}. قيل: أدخل فيها، يقال: سلكت، وهو الإدخال؛ كقوله: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ}، أي:
أدخل. وتفسير
{اسْلُكْ}: ما ذكر في آية أخرى: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا}. وقوله: {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}. يحتمل أن يكون قوله: {اثْنَيْنِ}
نعتًا لقوله: {مِنْ
كُلٍّ زَوْجَيْنِ}: من الذكر والأنثى. وجائز
أن يكون قوله: {مِنْ
كُلٍّ زَوْجَيْنِ}، أي: من كل زوجين عددين لونين: أبيض، وأسود، وطيب وخبيث. وقوله: {وَأَهْلَكَ}،
أي: احمل أهلك -أيضًا- في السفينة. وقوله: {إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ}. بالعذاب
والهلاك، وقد ذكرنا هذا في سورة هود. وقوله: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ
ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ}. اختلف
فيه: قال
قائلون: إنما نهاه عن مخاطبته الذين ظلموا؛ حيث قال: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي}، أنهاه، أن يسأله؛ فإن كان على هذا أفقوله: {وَلَا تُخَاطِبْنِي}، أي:
لا تراجعني الكلام في الذين ظلموا. وقال
قائلون: قوله: {وَلَا
تُخَاطِبْنِي} في الذين ظلموا في جميع ظلمة قومه؛ {إِنَّهُمْ
مُغْرَقُونَ}؛ وإن كان على هذا فهو نهي عن ابتداء السؤال في نجاتهم، واللّه
أعلم. ٢٨
وقوله: (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ
مَعَكَ ... (٢٨) من
المؤمنين {عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ للّه الَّذِي نَجَّانَا مِنَ
الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}. هكذا
الواجب على كل من أنجاه اللّه من الظلمة أن يحمد ربه على ذلك ويسأله النجاة إذا
ابتلي بهم؛ كما علم نوحًا أن يقول ما ذكر ويحمده على النجاة منهم، وكما قال موسى
حين خرج من عندهم خائفا: {رَبِّ نَجِّنِي مِنَ
الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}، وكما سألت امرأة فرعون
النجاة من فرعون وقومه حين قالت: {وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ
وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}. ٢٩
ثم
علمه ربه أن يسأله الإنزال في منزل مبارك؛ حيث قال: (وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا
مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩) ثم
يحتمل سؤاله المنزل المبارك: جميع الخيرات
والحسنات وعمل الصالحات. ويحتمل سؤاله المنزل المبارك: الموضع الذي فيه السعة والخصب؛ على ما قاله
بعض أهل التأويل، المبارك بالماء والشجر وغيره؛ فإن كان هذا ففيه دلالة إباحة سؤال
السعة والخصب، واللّه أعلم. ٣٠
وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا
لَمُبْتَلِينَ (٣٠) قال
قائلون: قوله: {إِنَّ
فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ}، أي: في هلاك قوم نوح وإغراقهم لآيات لمن بعدهم، {وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ}
بآيات؛ تفضلا منا وإحسانَا سوى ذلك. ويحتمل وجهًا آخر، وهو أن قوله: {وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ}: بسور الآيات التي كانت؛ وجائز في اللغة (إن) بمعنى (ما). ويحتمل وجهًا آخر: وهو أن قوله: {وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ}، أي:
وقد كنا لمبتلين، أي:
قد ابتلاهم قبل إهلاكه إياهم، ولسنا نعرف ما حقيقة هذا الكلام وما مراده، واللّه
أعلم. وقَالَ
الْقُتَبِيُّ: {فَاسْلُكْ فِيهَا}، أي: أدخل فيها، يقال: سلك الخيط في الإبرة وأسلكته، وقال أبو عبيدة كذلك. وقال
أَبُو عَوْسَجَةَ: {وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ}:
هذا من الابتلاء، أي:
اختبار، ومن البلاء: مبلون. ٣١
وقوله: (ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ
قَرْنًا آخَرِينَ (٣١) قيل: من بعد قوم نوح قرنًا آخرين: عادا وغيرهم. ٣٢
(فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ ...
(٣٢) قالوا:
هودًا. {أَنِ
اعْبُدُوا اللّه مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}. جميع
الأنبياء والرسل إنما بعثوا بالدعاء إلى توحيد اللّه، وجعل العبادة له. وقوله: {أَفَلَا تَتَّقُونَ}. مخالفته،
أو عبادة من دونه، وجميع معاصيه، على ما ذكرنا من قبل. ٣٣
وقوله: (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ ...
(٣٣) أي: بالبعث. {وَأَتْرَفْنَاهُمْ
فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}. قَالَ
بَعْضُهُمْ: أترفناهم، أي: بسطنا لهم في الدنيا حتى ركبوا المعاصي. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: المترف: الغني الطاغي. وقوله: (مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ
يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا
مِثْلَكُمْ. . .) الآية. قد
ذكرنا فيما تقدم أنهم تناقضوا في قولهم: {مَا
هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ. . .} إلى قوله: {وَلَئِنْ
أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ}؛ لما أنهم منعوا الأتباع عن أن يتبعوا الرسول ويطيعوه؛ لأنه بشر
مثلهم، ثم طلبوا منهم الطاعة لهم والاتباع في أمورهم، وهم بشر أمثالهم؛ فذلك تناقض
في القول وفساد. ٣٦
وقوله: هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (٣٦) قَالَ
بَعْضُهُمْ: قوله:
{هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ}: استبعاد الأمر
وإنكاره، أي: بعيدًا
بعيدًا، أي:
أمر لا يكون. ٣٧
وقوله: (إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا
نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧) إن
كان هذا القول من الثنوية والدهرية فقوله: {نَمُوتُ وَنَحْيَا}: هم بأنفسهم؛ لأنهم يقولون: يموت الإنسان فيحيا غيره من البقر
والحمر وغيره من تراب إذا أكل. وإن
كان هذا القول من غير الثنوية فنقول: قوله: {نَمُوتُ وَنَحْيَا}، أي:
نموت نحن ويحيا الأبناء. وذكر
في حرف ابن مسعود وأبي: (نحيا ونموت وما
نحن بمبعوثين). ٣٨
وقوله: (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى
اللّه كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨) ٣٩
هذا
قولهم. وقوله: (قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ
(٣٩) قد
ذكرناه. ٤٠
(قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (٤٠) أي: عما قريب يندمون بالتكذيب عن هذا القول الذي قالوه والإنكار الذي
أنكروه، لا شك في ذلك. وقَالَ
الْقُتَبِيُّ: {وَأَترفنَاهُمْ}، أي: وسعنا عليهم حتى أترفوا، والترفة
منه، ومثلها: تحفة، كان المترف هو الذي يتحف. وقال
غيره: {وَأَتْرَفنَاهُمْ}، أي:
أنعمنا عليهم وبسطنا لهم؛ فكله يرجع إلى واحد. قال
أَبُو عَوْسَجَةَ: قوله: {هَيْهَاتَ
هَيْهَاتَ} هذا تبعيد للأمر، أي: أنه أمر بعيد؛ على ما ذكرنا أنه لا يكوِن. ٤١
وقوله: (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ ... (٤١) قد
ذكرناه. وقوله: {فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً} قَالَ
بَعْضُهُمْ: الغثاء: اليابس الهامد كنبات الأرض إذا يبس. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: الغثاء: هو الذي يحمله السيل بالموج. وقال
أبو معاذ: {غُثَاءً أَحْوَى}، أي: أسود. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: غثاء، أي: موتى. وجائز
أن يكون تأويل قوله: {غُثَاءً}، أي:
كالشيء المنسي الذي لا يذكر ألبتَّة؛ لأن أُولَئِكَ الفراعنة والأكابر إذا هلكوا لم يذكروا ألبتَّة، ولا افتخر أحد من
أولادهم بهم من بعد الهلاك، كما افتخر أولاد الأنبياء والرسل والصالحين بآبائهم
وأجدادهم من بعدهم، وصاروا مذكورين إلى أبد الآبدين، فأما أُولَئِكَ: صاروا خاملي الذكر
كالشيء الخسيس المنسي المتروك. وقوله: {فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً}، الغثاء: ما ذكرنا على قول بعضهم كالريم الهامد الذي يحمله السيل،
وعلى قول بعضهم: هو كالشيء البالي المتغير. وعلى
قول بعض: الغثاء: ما ارتفع على الماء مما لا يُنتفع به، وكله واحد. وقَالَ
الْقُتَبِيُّ: غثاء، أي: هلكى كالغثاء، وهو ما على السيل من
الزبد والقش؛ لأنه يذهب ويتفرق. وقال
أَبُو عَوْسَجَةَ: الغثاء: ما يحمله
السيل من العيدان والبعر والأغشية جميعا، والغثاء: حميل السيل. ثم
ذكر أنفس قوم عاد وثمود، وشبهها بما ذكر من الغثاء، وكذلك يذكر أنفس جميع أهل
الشرور والفساد، وذكر في أهل الخير أعمالهم لا أنفسهم؛ لأن لهم أعمال الخير
والصلاح؛ فتجعل أنفسهم حئة بالأعمال؛ كقوله: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ}، جعل أعمالهم أحاديث فيما بينهم، وأما أهل الكفر والشر فإنه لا
أعمال لهم تذكر؛ فتذكر أنفسهم بُعدا وسحقًا. ٤٢-٤٣
(قُرُونًا آخَرِينَ (٤٢) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣) كأنه
ذكر هذا لما كانوا يستعجلون العذاب الموعود والهلاك الذي أوعدوا؛ فأخبر أن لكل أمة
أجلاً: لا تسبق أجلها باستعجال من يستعجل، ولا يستأخرون أجلها الذي جعل لهم. ٤٤
وقوله: (ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا ... (٤٤) قَالَ بَعْضُهُمْ: {تَترَا} تباعًا، واحدًا بعد واحد، وبعضًا
على أثر بعض. {كُلَّ
مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا}. في
الهلاك الأول فالأول. {وَجَعَلْنَاهُمْ
أَحَادِيثَ}. لمن
بعدهم ولمن بقي منهم، يعني: الذين أهلكوا. {فَبُعْدًا
لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ}. ٤٥
قوله: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى}. قد
ذكرناه. ٤٦
(فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (٤٦) كقوله: {إنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الأَرْضِ}. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: متكبرين ومتجبرين. قال
أَبُو عَوْسَجَةَ: هو من العلو، ليس من
التعالي، والتعالي لا يوصف به الخلق. قَالَ
الْقُتَبِيُّ: {تَتْرَا}، أي: تتابع بفترة بين كل رسولين، وهو من التواتر، والأصل: (وترى)،
فقلبت الواو تاء؛ كما قلبوها في (التقوى) و (التخمة) و (التكلان). وقال
أَبُو عَوْسَجَةَ: {تَتْرَا} بعضهم على أثر بعضهم، وهو من
المتابعة. وفي
قوله: {ثُمَّ
أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا} دلالة أن أهل الفترة،
ومن كان فيما بين بعث الرسل - لا عذر لهم في شيء؛ لإبقاء الحجج والبراهين قبل أن
يبعث آخر وحسن آثارهم وأعلامهم - أعني: آثار الرسل وأعلامهم - أخبر أنه أرسل الرسل
تباعًا: بعضًا على إثر بعض، وإن كان بين بعثهم فترة؛ لما أبقى الحجج والبراهين
وآثار الرسل وأعمالهم، واللّه
أعلم. ٤٧
وقوله: (فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ
مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (٤٧) قَالَ
بَعْضُهُمْ، تعجب: نرفعهم بعد ما كنا غالبين عليهم؟!! نجعلهم غالبين علينا
وكانوا لنا عابدين؟! أي:
نرفعهم فوقنا ونكون تحتهم، ونحن اليوم فوقهم وهم تحتنا، كيف نصنع ذلك؟! وذلك
واللّه أعلم - حين أتوهما بالرسالة. ٤٨
(فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨) صاروا
من المهلكين بالتكذيب. ٤٩
وقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ
لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٤٩) يشبه
أن يكون حرف (لعل) لموسى، أي: آتينا موسى الكتاب؛ لعلهم يهتدون عنده، و (لعل) حرف رجاء وترجٍ؛
لكن يستعمل مرة: على الإيجاب والإلزام، ومرة: على النهي؛ كقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ}، أي:
لا تبخع نفسك، وقوله: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى
إِلَيْكَ}، أي:
لا تترك بعض ما يوحى إليك، وذلك جار في اللغة؛ يقول الرجل لآخر: لعلك " كذا، أي: لا تفعل، ونحوه، و (لعل) من اللّه يحتمل الإيجاب والإلزام والنهي، من الخلق:
يحمل على النهي والترجي، واللّه أعلم. ٥٠
وقوله: (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ
آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (٥٠) خص
- عَزَّ وَجَلَّ -
وأمه بأن جعلهما آية، وجميع البشر في معنى الآية واحد؛ إذ خلقوا جميعًا من نطفة، ثم حولت النطفة علقة، والعلقة
مضغة، إلى آخر ما ينتهي إليه؛ فيصير إنسانًا؛ فالآية والأعجوبة في خلق الإنسان من
النطفة ومما ذكرنا إن لم تكن أكثر وأعظم لم تكن دون خلقه بلا أب ولا زوج وما ذكر،
لكنه خصهما بذكر الآية
فيهما؛ لخروجهما عن الأمر المعتاد في الخلق، والعادة الظاهرة فيهم أن يخلقوا من
النطفة والأب والتزاوج والأسباب التي للتوالد والتناسل الذي تجري فيما بينهم
والأسباب التي جعل للتوالد في الخلق؛ وجهما عن الأمر المعتاد والعادة الظاهرة
خصهما بذكر الآية والأعجوبة في خلق البشر. النطقة،
وما ذكر إن لم يكن أكثر وأعظم لم يكن دونه، وهو كما خصَّ بني إسرائيل بالخطاب
بالشكر؛ لما أنعم عليهم من المن والسلوى، ولما أنجاهم من آل فرعون بقوله: {اذْكُرُوا
نِعْمَةَ اللّه عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ}. ،
وقال: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا
نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى
الْعَالَمِينَ} وقد
كان عليهم من النعم ما هو أعظم وأكثر مما ذكر من المن والسلوى ونجاتهم من فرعون
وآله، لكنه خصهم بذكر المن والسلوى واستأدى منهم الشكر بذلك من بين سائر النعم؛
لأنها خرجت عن المعتاد من النعم المعروفة، وهم كانوا مخصوصين بهذا من بين غيرهم؛
فعلى ذلك عيسى وأمه: كانا خارجين عن الأمر المعتاد ومخصوصين بذلك؛ لذلك خصهما بذكر
الآية، والآية ما ذكر بعض أهل التأويل أنه
خلق من غير أب، ولدته أمه من غير فعل أمثالها. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: الآية
في عيسى: بأن كلم الناس في المهد صبيا، ونحوه: من إبراء الأكمه، والأبرص، وإحياء
الموتى، ومثله. وقوله: {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ
قَرَارٍ وَمَعِينٍ}. ذكر
أنه آواهما إلى ربوة كما يؤوي الأب والأم الولد إلى مكان يتعيش به؛ إذ الربوة هي
مكان التعيش فيه؛ ألا ترى أنه ذكر {ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} هو المكان الذي يستقر فيه ويتعيش. وقوله: {وَمَعِينٍ}،
المعين: هو الماء الجاري الظاهر الذي تأخذه العيون، وتقع عليه الأبصار. ٥١
وقوله: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ
الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١) قال
عامة أهل التأويل: إنما خاطب بهذا محمدًا خاصة، على ما يخاطب هو، والمراد منه:
جميع أمته في ذلك. ولكن
جائز أن يقال: خاطب به جميع الرسل؛ لأنهم جميعًا
مخاطبون بهذا كله: من أكل الطيبات، والعمل الصالح، هذا الخطاب فيه وفي غيرهم؛ إذ
عمهم جميعًا بهذا. ثم
الطيبات يحتمل أن يراد بها الحلالات؛ كأنه قال: كلوا حلالا غير حرام؛ ألا ترى أنه قال: {وَاعْمَلُوا
صَالِحًا}، أي:
اعملوا صالحًا، ولا تعملوا سيئا؛ فعلى ذلك قوله: قوله تعالى:
{كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ}، أي: كلوا حلالا ولا تأكلوا حرامًا: ما
خبث. وفيه
أنهم يمتحنون كما يمتحن غيرهم بالأمر والنهي. ويحتمل -أيضًا- قوله: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ}: ما طابت به أنفسكم وتلذذت، فإن كان على هذا فهو يخرج على الإباحة
والرخصة، ليس على الأمر، معناه: لكم أن تأكلوا ما تطيب به أنفسكم، ولكم أن تؤثروا
غيركم به على أنفسكم. وإن
كان على الأمر فهو على الأمر يخرج والنهي، واللّه أعلم. وقوله: {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}. ظاهر،
وهو وعيد. ٥٢
وقوله: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً
وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢) جائز
أن يكون قوله: {وَإِنَّ
هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}: في الكتب
المتقدمة، وعلى لسان الرسل السالفة؛ كقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ
لِلنَّاسِ}، أي:
كنتم خير أمة في الكتب المتقدمة وفي الأمم الماضية؛ فعلى ذلك هذا. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: قوله {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ
أُمَّةً وَاحِدَةً}، أي: دينكم دين واحد، وملتكم ملة واحدة، وهي الإسلام. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: لسانكم لسان واحد. وجائز
أن يكون قوله: {أُمَّتُكُمْ
أُمَّةً وَاحِدَةً}: لا تختلفون في رسولكم إلى يوم
القيامة، كما اختلف الأمم الذين من قبلكم في رسلهم؛ بل تجعلوا رسولكم رسولا على ما
هو عليه، وأما سائر الأمم فإنهم قد فرطوا فيهم؛ حتى كان فيهم من جعل الرسول ابنًا
له؛ كقوله: {وَقَالَتِ
الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّه}، والنصارى، وأما هَؤُلَاءِ فإنهم لا يزالون على أمر
واحد، اللّه أعلم. وقوله: {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}، وقال في آية أخرى: {فَاعْبُدُونِ}:
جائز أن يكونا واحدًا، وجائز أن يكون قوله: {فَاتَّقُونِ}
أي: مخالفتي، {فَاعْبُدُونِ}، أي
اعبدوني وأطيعوني. ٥٣
وقوله: (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ
زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣) قَالَ
بَعْضُهُمْ: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ} و (قطعوا) واحد، وهما لغتان؛ نحو: تفرقوا وفرقوا. {زُبُرًا}: برفع الباء، و {زُبَرًا} بنصب الباء، قال أبو معاذ: من قرأ بالنصب: {زُبَرًا}؛ فمعناه: قطعا؛ كقوله: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ}، و {زُبُرًا}
بالرفع، أي: كتبا؛ كقوله: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ}، وقوله: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ
الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ}، ونحوه. وقال في حرف ابن مسعود وأبي: (وقطعوا الزبور
بينهم). قال
أبو معاذ: (قطعوا) (تقطعوا):
لغتان؛ كَقيلِك: علقت الشيء وتعلقته، وحولت وتحولت،
ووليت وتوليت ونحوه كثير. وقوله: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ
فَرِحُونَ}. راضون
أو مسرورون بما لديهم من الدِّين، أو ما ذكرنا. ٥٤
قوله
تعالى: (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى
حِينٍ (٥٤) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا
نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (٥٥)
نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (٥٦) وقوله: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى
حِينٍ}، وقال في آية أخرى: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا}، وقال: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ
يَعْمَهُونَ}، فذلك يحتمل وجوهًا: أحدها: قال ذلك عند الإياس عن إجابتهم لما علم أنهم لا يؤمنون، وذلك في
قوم مخصوصين؛ كأنه قال:
ذر هَؤُلَاءِ، وأقبل على هَؤُلَاءِ الذين يقبلون أمرك،
ويجيبون دعاءك ويسمعونه. والثاني: فذرهم في غمرتهم، ولا تكافئهم حتى أنا أكافئهم؛ كقوله: {فَذَرْهُمْ
حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ}. والثالث: أمره أن يعرض عنهم؛ لئلا يخوضوا في سب اللّه والطعن في الآية، كقوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ
فِي آيَاتِنَا. . .} الآية. وقوله: {حَتَّى حِينٍ}:
يحتمل القيامة، ويحتمل وقتًا آخر لم يبين، واللّه أعلم. قال
أَبُو عَوْسَجَةَ: قوله: {إِلَى
رَبْوَةٍ}: المكان المرتفع، و (آويته)، أي: أويته. وقَالَ
الْقُتَبِيُّ: الربوة: الارتفاع، وكل
شيء ارتفع أو زاد فقد ربا، ومنه الربا في البيع. قال
أبو معاذ: للعرب في الربوة أربع
لغات: رَبوة ورِبوة ورُبوة ورباوة. وقوله: {ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ}، قال أَبُو عَوْسَجَةَ: المعين: الماء الظاهر الجاري، والقرار: الثبات، وتقول منه: يقر
قرارا فهو قار، وأقررته، أي: أثبته، وكذلك قال الْقُتَبِيّ، وقال: معين ماء ظاهر، وهو مفعول من العين: كان أصله (معيون)؛ كما يقال: ثوب مخيط، وبُرٌّ
مكيل. وقوله: {فِي غَمْرَتِهِمْ}، قيل:
في ضلالتهم وغفلتهم. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: الغمر: الماء الكثير، وغمرة الحرب وسطها، وغمرة الموت: شدته، ورجل
غمر، أي: سخي، ليس به شح، وجمعه: غمار، ويقال: غمره الماء، أي: صار فوقه. قَالَ
بَعْضُهُمْ: والغمر: عداوة، والغمر: الذي لم يجرب الأمور، وقوم أغمار، والغمر:
الوسم، والغمرة: الشدة، والغمرات جمع، والغمر: القدح الصغير، والمغامرة: المخاطرة،
تقول: غامر بنفسه، أي:
خاطر بها. ٥٥
وقوله: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ
مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (٥٦) حسب
أُولَئِكَ الكفرة
أن ما أمد لهم من الأموال والبنين - ما أعطى لهم - إنما أعطى خيرًا لهم وبرا لا
شرا، فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ -
وكذبهم في حسبانهم الذي حسبوا، فقال: {بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} أنه إنما أعطى لهم ذلك شرا، وإنما مثل ما حسب أُولَئِكَ الكفرة
فيما أعطوا من الأموال والبنين إنما أعطوا خيرًا - حسب المعتزلة في قولهم: إن اللّه تعالى لا يفعل بأحد من الخلق إلا ما هو أصلح
له في الدِّين؛ فأخبر أن ذلك ليس بخير لهم في الدِّين ولا أصلح لهم، وهو ما ذكر في
قوله: {إِنَّمَا
نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا}، وهم يقولون:
إنما يملي لهم ليزدادوا خيرًا وبرًّا. وكذلك
قالوا في قوله: {فَلَا
تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه لِيُعَذِّبَهُمْ
بِهَا}، وهم يقولون: لا؛ بل إنما أراد: ليرحمهم بها. فيقال
لهم: أنتم أعلم أم اللّه؟! كما قال لأُولَئِكَ الكفرة؟!
حيث قال: {أَأَنْتُمْ
أَعْلَمُ أَمِ اللّه} إلا أن يكابروا في قوله: {بَلْ
لَا يَشْعُرُونَ}؛ لما أنهم قالوا ذلك على الظن
والحسبان، لا على العلم؛ حيث قال: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ
بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ}؛ فقال: {بَلْ
لَا يَشْعُرُونَ}؛ حيث قالوا ذلك ظنًّا وحسبانًا، وإنما الواجب عليهم أن
يعلموا ذلك علم إحاطة ويقين. فجواب
هذا أن يقال: إن عندهم أن ذلك إنما أعطى لهم
وأملى خيرًا وبرا لهم؛ فكانوا على يقين من ذلك وإحاطة عند أنفسهم، وإنما ذلك الظن
والحسبان لهم ما عند اللّه، وإلا: كانوا على حقيقة العلم عند أنفسهم: أنه إنما
أعطاهم ذلك وأمد لهم خيرًا؛ فأكذبهم اللّه في ذلك ورد عليهم قولهم: إنه إنما
أعطاهم ذلك لما ذكروا؛ بل أخبر أنه إنما أعطاهم؛ لمضادة ذلك. ٥٧
وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ
رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) جائز
أن يكون هذا موصولا بقوله:
{نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ}؛
على التقديم والتأخير؛ فكأنه قال: إنما نسارع في الخيرات للذين هم من خشية ربهم مشفقون إلى آخر ما
ذكر لأُولَئِكَ الكفرة،
جائز أن يكون على الابتداء وصف الذين آمنوا ونعتهم، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ
رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ}، أي: من عذاب ربهم خائفون. ٥٨
وقوله: (وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ
يُؤْمِنُونَ (٥٨) الإيمان
بالآيات يكون إيمانا باللّه حقيقة؛ لأن الآيات هن الأعلام التي تدل على وحدانية
اللّه وربوبيته، والإيمان هو التصديق، فإذا صدق آياته، وهن أعلام وأخبار تخبر عن
وحدانية اللّه؛ فإذا صدقها صدق اللّه وآمن به؛ لذلك قلنا: الإيمان بآياته يكون
إيمانا باللّه. ٥٩
وقوله: (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا
يُشْرِكُونَ (٥٩) أي: لا يشركون غيره في عبادتهم. ٦٠
وقوله: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا
وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (٦٠) وفي
بعض القراءات: (والذين يأتون ما أتوا)، مقصورة، وهي قراءة عائشة. فمن
قرأ: (والذين يأتون ما أتوا) تأويله، أي: الذين يعملون من عمل وجلت له قلوبهم، أي: يتقبل منهم أم لا؟ ومن
قرأ: {يُؤْتُونَ مَا آتَوْا} فهو من الإعطاء
والإنفاق؛ يقول: والذين يعطون وينفقون ما أنفقوا، وقلوبهم وجلة: أن ذلك يقبل منهم
أم لا؟ وفيه
دلالة أن المطيع فيما يطيع ربه يكون على خوف منه كالمسيء في إساءته، وكذلك روي عن
عائشة أنها سألت رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ
وَسَلَّمَ - عن هذه الآية، قالت: " أهم الذين يشربون الخمر، ويسرقون، ويزنون؟ فقال: لا؛ ولكنهم الذين يصومون، ويصلون،
ويتصدقون، وهم يخافون ألا يقبل منهم: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي
الْخَيْرَاتِ} ". وجائز
أن يكون قوله: {وَقُلُوبُهُمْ
وَجِلَةٌ} لا على ذلك؛ ولكن على ما يذكر، أي: قلوبهم وجلة أنهم يرجعون إلى ربهم: على السعادة أم على الشقاوة؟
واللّه أعلم. ٦١
وقوله: (أُولَئِكَ
يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (٦١) أخبر
أن الذين نعتهم ووصفهم هم الذين يسارعون في الخيرات، لا أُولَئِكَ الكفرة الذين تقدم ذكرهم، {وَهُمْ
لَهَا سَابِقُونَ}: يحتمل، أي:
سبقوا أُولَئِكَ الكفرة
بها، واللّه أعلم. ٦٢
وقوله: (وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا
وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٦٢) جائز
أن يكون ذكر هذا وقاله؛ لما عمل أُولَئِكَ من الأعمال التي لا تسع ولا تحل، وقالوا: اللّه أمرهم بذلك بقولهم:
{وَاللّه أَمَرَنَا بِهَا}؛ فقال: {وَلَا
نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}، أي: إلا ما يسعها، أي: إلا ما يسعها ويحل؛ كقوله تعالى: {إِنَّ اللّه لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ}؛
ردا لقولهم، وتكذيبا. ويحتمل وجهًا آخر، وهو أن يقول: لا نكلف نفسًا من الأعمال إلا وسعها، أي: طاقتها، وذلك يحتمل وجهين: أحدهما، أي:
لا نكلف أحدًا من الأعمال ما يتلف طاقة وسعه فيه: لا يكلف الغني من الإعطاء ما
يتلف به غناه، وكذلك لا يكلف كل حي من العمل ما يتلف به طاقته وحياته؛ ولكنه إنما
أمره وكلفه بأمور يحتمل
طاقتهم ذلك العمل والأمر؛ فإن كان كذلك؛ فدل ذلك أنه لم يرد به طاقة العمل وقدرته؛
ولكن طاقة الأحوال التي يجوز تقدمها عن الأحوال. والثاني: ذكر هذا؛ لئلا يقولوا: إنا لم نطق ما كلفنا؛ لأنهم تركوا الأعمال
التي أمروا بها، وكلفوا بأعمال مثل التي تركوها، وهي المعاصي التي عملوها، فما
أمروا من الأعمال ليس يفوق التي عملوها؛ ولكن مثلها؛ فلا يكون لهم في ذلك احتجاج. وقوله: {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ
بِالْحَقِّ}. قال
قائلون: هو الكتاب الذي يكتب فيه أعمالهم وأفعالهم من الخيرات والسيئات، وذلك كله
محفوظ محصى عليهم؛ كقوله:
{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}؛ فإن كان هذا فيكون قوله: {بِالْحَقِّ}،
أي: بالتصديق. وقال
قائلون: هو الكتاب الذي أنزل إلينا، وهو هذا القرآن؛ ينطق عليكم بالحق، أي: بالحق الذي للّه علينا، وبالحق الذي
يكون لبعض على بعض، وهو كقوله: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ
بِالْحَقِّ}، وهو ما ذكرنا من الحق الذي له علينا، ومن الحق الذي
لبعضنا على بعض. وجائز
أن يكون هو اللوح المحفوظ؛ فإن كان هذا، ففيه أن اللّه لم يزل عالمًا بما كان
ويكون في الأوقات التي يكون أبد الآبدين. {وَهُمْ
لَا يُظْلَمُونَ}. فإن
كان على الكتاب الذي يكتب فيه أعمالهم فيكون قوله: {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}، أي:
لا ينقص من أعمالهم التي عملوا من الخيرات، ولا يُزاد فيه على سيئاتهم، بل يحفظ ما
عملوا. أو أن يكون {لَا يُظْلَمُونَ}، أي:
لا يزاد على الجزاء على قدر أعمالهم، ولا ينقص من قدرها؛ بل يجزون على قدر
أعمالهم، واللّه أعلم. ٦٣
وقوله: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ
هَذَا}. قيل: في عماية وجهالة وغفلة، {مِنْ
هَذَا}: من الكتاب الذي فيه أعمالهم، وأحصى عليهم. وقال قائلون في قوله: {بَلْ
قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا}: أي: من هذا القرآن الذي ينطق بالحق، أي: قلوبهم في عماية وغفلة من هذا
القرآن. وجائز
أن يكون قوله: {مِنْ
هَذَا} من الأعمال التي ذكر للمؤمنين فيما تقدم: من ذلك قوله: (إِنَّ
الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧)
وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ. . .) إلى آخر ما ذكر من أعمالهم، فأخبر أن قلوب أُولَئِكَ الكفرة
في غفلة وعماية من الأعمال التي عملها المؤمنون؛ واللّه أعلم. وقوله: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ
هُمْ لَهَا عَامِلُونَ}. اختلف
فيه: قَالَ
بَعْضُهُمْ: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ}، أي:
من دون ما عمل أُولَئِكَ الكفرة
من الأعمال التي تقدم ذكرها: من قوله: (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى
حِينٍ (٥٤) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا
نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (٥٥)
نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ
خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) على ما
ذكر، ثم أخبر أن لهم أعمالا دون ما ذكر. وقال
قائلون: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ}، يعني: المؤمنين الذين ذكر أعمالهم، أي: لهم أعمال دون الذي ذكر لهم دون تلك
الأعمال. ٦٤
وقوله: (حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ
بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) قال
أهل التأويل: ذلك في العذاب الذي أخذ أهل مكة في الدنيا من الجوع الذي نزل بهم حتى
أكلوا الجيف والعظام المحرقة ونحوه. لكن
الأشبه أن يكون ذلك في عذاب الآخرة؛ ألا ترى أنه يقول: {إِذَا
هُمْ يَجْأَرُونَ} أي: يتضرعون. ٦٥
ويقول
أيضا: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى
أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ} فإنما يخبر: أن كنتم
تفعلون كذا في الدنيا، ويذكر: {إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ}؛ فلا يحتمل أن يتضرعوا إليه في الدنيا، ثم لا يقبل منهم ذلك التضرع، أو ينهاهم عن التضرع بقوله: (لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ (٦٥) فدل ذلك أنه في الآخرة، وهو ما ذكر: {فَلَمَّا رَأَوا بَأْسَنَا. . .}
الآية؛ مثل هذا يكون في الآخرة، وفي
الدنيا ما ذكر: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ
فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ}:
ذكر في عذاب الدنيا أنهم لم يتضرعوا في الدنيا عند نزول العذاب بهم، ولا يقبل منهم
التضرع والاستكانة؛ دل ذلك أنه ما ذكرنا؛ ألا ترى أنه قال: {لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ}. نهاهم
عن التضرع، ولا يحتمل
النهي عن ذلك. وقوله: {إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ}. أي: لا تمنعون من عذابه. ٦٦
وقوله: (قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ
فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦) قوله: {عَلَى أَعْقَابِكُمْ} ترجعون على التمثيل، ليس على التحقيق؛ لأنهم إذا رجعوا على
الأعقاب صار ما كان أمامهم وراءهم؛ فكأنهم نبذوا ذلك وراء ظهورهم. أو أن يكون المنقلب على الأعقاب كالمكب على الوجه، والمكب على وجهه
مذموم عند
جميع من رآه وعاينه؛ لهذا شبه به وضرب مثله به، واللّه أعلم. ٦٧
وقوله: (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا
تَهْجُرُونَ (٦٧) قال
عامة أهل التأويل: قوله:
{بِهِ}، أي: بالبيت. ووجه
هذا: أنهم لما رأوا أنفسهم آمنين بمقامهم عند البيت وفي حرم اللّه، وأهل سائر
البقاع في خوف - ظنوا أن ذلك لهم؛ لفضل كرامتهم ومنزلتهم عند اللّه؛ فحملهم ذلك
على الاستكبار على رسول اللّه ومن تابعه. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: {مُسْتَكْبِرِينَ}، أي:
بالقرآن وتأويله، أي:
استكبروا على اللّه ورسوله لما نزل القرآن، وإضافة الاستكبار إلى القرآن؛ لأنهم
بنزوله تكبروا على اللّه؛ فأضاف استكبارهم إليه؛ لأنه كان سبب تكبرهم، وهو كقوله: {وَإِذَا
مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ. . . فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ. . .} الآية:
أضاف زيادة رجسهم إلى السورة؛ لما بها يزداد رجسهم وكانت سبب رجسهم، وإن كانت لا
تزيد رجسًا في الحقيقة. وقوله: {سَامِرًا تَهْجُرُونَ}. قال
الزجاج: السامر: هو ظل القمر،
فيه كانوا يهجرون، والسمر: هو حديث بالليل. قوله: {تَهْجُرُونَ}
قال قائلون: تهتدون. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: تهجرون القرآن، أي: كانوا لا يعملون به ولا يعبئون؛ فهو الهجر، وفيه لغة أخرى: تُهْجِرُون، وهو كلام الفحش
والفساد. ٦٨
وقوله: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ
جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) قيل: أي:
في القرآن؛ يحتمل قوله: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا} أي:
فهلا دبروا ذلك القول الذي يقولون في الآخرة في الدنيا، وهو قولهم: {أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي
كُنَّا نَعْمَلُ}، وما ذكر من تضرعهم في الآخرة، وهو قوله: {إِذَا
هُمْ يَجْأَرُونَ}. وجائز
أن يكون قوله: {أَفَلَمْ
يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ}، أي: قد دبروا القول، لكنهم تعاندوا وكابروا
واستكبروا ولم يخضعوا له؛ أنفا واستكبارًا؛ أو لا ترى أنه إذا قرع أسماعهم قوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ}، وقوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ
وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ
بِمِثْلِهِ. . .} الآية، لا يحتمل
ألا يدبروا فيه؛ دل أنهم قد تدبروا فيه وعرفوه، إلا أنهم تعاندوا وكابروا
واستكبروا؛ أنفا منهم واستكبارا واستنكافا عن اتباعه والخضوع له. قال
أَبُو عَوْسَجَةَ: {إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ}، أي: يستغيثون، قال: وأصله من الصياح. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: {يَجْأَرُونَ}:
يصرخون. وقيل: يصيحون. وقيل: {سَامِرًا تَهْجُرُونَ} ما ذكرنا من الحديث بالليل، {تَهْجُرُونَ}، أي:
تهذون كما يهذي النائم والمريض الشديد المرض. قال: وأهجر يهجر، من الهُجْر: وهو الفحش، وَهَجَّر يُهجِّر: إذا سار في الهاجرة، وهي شدة الحر. وقوله: {تَنْكِصُونَ}:
قَالَ
بَعْضُهُمْ: ترجعون، وقَالَ
بَعْضُهُمْ: تستأخرون؛ كقوله: {نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ}: ترجعون، وتستأخرون واحد. وقوله: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ}: قد ذكرنا أنه يخرج على وجهين: أحدهما: على ترك التدبر فيه والتفكر، والإعراض عنه، أي: لم يدبّروا فيه، ولم يتفكروا. والثاني: على إيجاب حقيقة التدبر فيه والتفكر، أي: قد تدبروا فيه، وعرفوا أنه منزل من اللّه، لكنهم تركوا متابعته؛
عنادا وتمردًا وإشفاقًا على ذهاب رياستهم،
وطمعًا في إبقائها ودوام مأكلتهم، فأي الوجهين كان، ففيه لزوم حجج اللّه وبراهينه
على من جهلها ولم يعرفها؛ بالإعراض عنها وترك التدبر فيها، حيث استوجبوا عذاب
اللّه ومقته لجهلهم بها: بترك التدبر فيها بعد أن كان لهم سبيل الوصول إلى
معرفتها. وظاهر
قوله: {أَفَلَمْ
يَدَّبَّرُوا} استفهام، إلا أنه في الحقيقة: إيجاب لها؛ لا يجوز أن يستفهم اللّه
أحدًا؛ فهو على الإيجاب لأنه علام الغيوب. وقوله: {أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ
آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} أي: قد جاءهم ما جاء آباءهم الأولين من الرسل،
ثم لم يأت هَؤُلَاءِ شيء إلا ما أتى آباءهم،
لم يخصوا هم بالرسول؛ فكيف أنكروه؟! ألا ترى أنهم قالوا: {لَئِنْ
جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ}: قد أقروا أن في الأمم المتقدمة رسولا؛ حيث قالوا: {لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ}. وعلى
ذلك يخرج قوله: ٦٩
(أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أي: قد عرفوا رسولهم، لكنهم أنكروه وتركوا اتباعه؛ لما ذكرنا في
القرآن من أحد الوجهين؛ عنادًا وتكبرا؛ إشفاقًا على رياستهم لكي تبقى؛ ألا ترى أنه
قال: {يَعْرِفُونَهُ
كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ. . .} الآية. وعلى
هذا، {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ}. أي: قد عرفوا أنه ليس به جنة. وجائِز
أن يكون قوله: {أَمْ
جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ}:
جاء هَؤُلَاءِ ما لم يأت آباءهم، وخص هَؤُلَاءِ ما لم يخص آباءهم. وكذلك
قال ابن عَبَّاسٍ: لعمري لقد جاءهم ما لم
يأت آباءهم الأولين. وجائز
أن يكون قوله: {أَفَلَمْ
يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ}: إلى ما ذكر من قوله: {أَمْ
يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ}؛ لأنه يخرج على الأمر
بالتدبر فيه، ومعرفة الرسول أنه ليس كما يصفونه من الجنون وغيره؛ كقوله: {أَوَلَمْ
يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ}، أي: تفكروا فيه؛ فإنه ليس به جنة على ما
يصفونه، أو على ما ذكرنا: أنهم تفكروا وعرفوا: أنه ليس به جنون، ولا شيء مما
وصفوا به؛ لكنهم أرادوا أن يلبسوا أمره على أتباعهم وسفلتهم؛ إشفاقًا على إبقاء ما
ذكرنا. ٧٠
وقَالَ
بَعْضُهُمْ: قوله:
{أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ}: من البراءة من العذاب. وقوله: (بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ (٧٠) بالرسالة
والقرآن من عند اللّه، وجعل العبادة له من دون الأصنام التي عبدوها. وقوله: {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ}. كرهوا
الحق؛ لما ظنوا أن في اتباعه ذهاب الرئاسة والأسباب التي كانت لهم على أتباعهم،
بعد معرفتهم أنه حق، أو
كرهوا؛ لما لم يعرفوا في الحقيقة أنه حق، وإلا لا أحد ممن يوصف بصحة العقل وسلامته
يكره الحق ويترك اتباعه؛ إلا للوجهين اللذين ذكرناهما، واللّه أعلم. ٧١
وقوله: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ (٧١) قال
عامة أهل التأويل: الحق - هاهنا - هو اللّه، أي: لو تبع اللّه أهواءهم في كفرهم وشركهم {لَفَسَدَتِ
السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ}،
وتأويل هذا أن الكفر والشرك مما لا عاقبة له، وكل شيء لا عاقبة له فهو في الحكمة
والعقل فاسد باطل غير مستحسن. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: الحق - هاهنا - كتاب اللّه، وهو القرآن على ما يهوون هم؛ ليفسد ما
ذكر؛ لأنه يكون خارجًا عن الحكمة. وجائز
أن يوصل قوله: {وَلَوِ
اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ} الحق الذي سبق ذكره،
وهو قوله: {بَلْ
جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ}، أي:
لو اتبع ذلك الحق أهواءهم وجاء على ما هوته أنفسهم واشتهت من عبادة غير اللّه،
وتسميتهم إياها آلهة، وإنكارهم البعث والتوحيد، وغير ذلك من الأفعال التي كانوا
اختاروها وعملوها - لفسدت السماوات والأرض وما ذكر؛ لأنه يكون خلقهم وخلق ما ذكر
من السماوات والأرض وما فيهن - لا لما توجبه الحكمة والعقل؛ إذ خلقهم وخلق ما ذكر
لأفعالهم التي يفعلون؛ فإذا خرج أفعالهم على غير ما توجبه الحكمة والعقل، بل على
السفه والجهل - خرج الذي لها خلق، ومن أجلها أنشئ، كذلك؛ إذ خلق الشيء وفعله لا
لعاقبة تقصد - خارج عن الحكمة، واللّه أعلم بذلك. وجائز
أن يكون الحق هو رسول اللّه، أي: رسول اللّه لو اتبع أهواءهم لفسد ما ذكر. وقوله: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ}. قال
أهل التأويل: لشرفهم وذكرهم؛ كقوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ}. وقوله: {بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ
مُعْرِضُونَ}. أي: عن شرفهم معرضون. وجائز
أن يكون الذكر هو الحق الذي تقدم ذكره، أي: لو قبلوا ذلك الحق الذي جاءهم وأقبلوا نحوه يكون في ذلك ذكرهم من
بعد هلاكهم؛ كما يُذكر أصحاب رسول اللّه من بعد ما ماتوا؛ ألا ترى أولادهم بذكر
آباءهم يتعيشون يقولون: أنا من بني فلان؛ فيبرهم الناس بذلك ويكرمونهم، وأما أُولَئِكَ فإنهم
لا يذكرون بشيء من ذلك؛ فذلك يدل على ما ذكرنا. ويحتمل قوله:
{بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ}
الثناء عليهم أن لو آمنوا؛ كقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ
لِلنَّاسِ. . .} الآية، وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً
وَسَطًا} وقوله: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ. . .} الآية،
ونحو ذلك مما أثنى اللّه على من آمن منهم؛ فهم لو آمنوا استوجبوا بذلك الثناء. وجائز
أن يكون قوله: {بَلْ
أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ}، أي: يُدعى لهم، وهو ما دعا الملائكة
والرسل للمؤمنين، كقوله:
{وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا. . .}
الآية، وقوله: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ}، وقول نوح: {رَبِّ اغْفِرْ لِي
وَلِوَالِدَيَّ. . .} الآية، وقول إبراهيم ودعائه لهم: لو آمنوا استوجبوا دعاء هَؤُلَاءِ
الملائكة والرسل جميعًا، أو أن يكون ما ذكرنا من إبقاء ذكرهم إلى يوم القيامة؛ كما بقي ذكر أُولَئِكَ الذين
آمنوا به وصدقوه؛ فيكون في ذلك كله شرفهم وقدرهم؛ على ما قاله أهل التأويل، واللّه
أعلم. ٧٢
وقوله: (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ
رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢) جائز
أن يكون هذا صلة ما تقدم من قوله: {أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ
آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ}، اي: قد عرفوا رسولهم، {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ}،
أي: ليس به جنة، أي: ليس به شيء يمنعهم عن الإجابة
والإيمان به بما يعذرونهم في ترك الإيمان به؛ فعلى ذلك قوله: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا}، أي:
لم تسألهم أجرًا على ما تدعوهم إليه حتى يمنعهم ثقل ذلك الأجر عن إجابته وتصديقه؛
كقوله -أيضًا-: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ
مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ}، يقطع ما ذكر جميع
أعذارهم وحجاجهم، وإن لم يكن عذر ولا حجة في ترك الإجابة له. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: الخراج: الرزق، أي: لا تسألهم رزقًا، ثم أخبر: {فَخَرَاجُ
رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}. ٧٣
وقوله: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ}. المستقيم:
القائم بالآيات والحجج، ليس كالسبيل التي يسلكون هم بلا آيات ولا حجج ولا برهان. ٧٤
وقوله: (وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (٧٤) هذا
يحتمل وجهين: أحدهما: أن إنكارهم البعث والآخرة هو الذي حملهم على العدول عن الصراط
المستقيم. والثاني: الصراط الذي في الدنيا هو المجعول
للآخرة؛ فإذا تركوا سلوكه؛ لشهوات منعتهم عن ذلك - أنكروا الآخرة، أو كلام نحو هذا، وقوله: {لَنَاكِبُونَ}،
أي: لعادلون، من العدول عنه والمجانبة
والميل إلى غيره. ٧٥
وقوله: (وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا
بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥) ذكر
الضر، ولم يذكر أي
شيء كان، وليس لنا أن نقول: كان الجوع أو كذا إلا بثبت، وفيه وجهان من المعتبر: أحدهما: أن رفع المحن التي امتحنهم من البلايا والشدائد إنما يكون برحمة
منه وفضل، لا على ما قاله بعض الناس بالاستحقاق؛ حيث ذكر رحمته بكشف ذلك عنهم. والثاني: فيه دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لأنه أخبر أنه، إن كشف ذلك الضر عنهم، {لَلَجُّوا
فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}؛ فكشف عنهم ذلك فلجوا
في طغيانهم على ما أخبر؛ فدل أنه باللّه عرف ذلك، واللّه أعلم. ٧٦
وقوله: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ
فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (٧٦) يخبر
عن سفههم وجهلهم باللّه، وقسوة قلوبهم، وتمردهم وعنادهم؛ حيث أخبر أنهم وإن أخذوا
بالعذاب لم يتضرعوا إليه، وما استكانوا له بجهلهم بعذاب اللّه؛ حيث أخبر أنهم، وإن
أخذوا ألم يستكينوا. ٧٧
وقوله: (حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ
بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧) اختلف
في قوله: {مُبْلِسُونَ}: قَالَ
بَعْضُهُمْ: المبلس: الآيس من كل خير، وهو ما وصفهم أنهم: {لَيَئُوسٌ كَفُورٌ}، و {فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ}، ونحوه. وقال
الزجاج: المبلس: الساكن المتحير
لا يدري ما يعمل به فعلى ذلك هم كانوا حيارى لما نزل بهم العذاب، لا يدرون ما
يعملون به في دفع ذلك عنهم. وقال
الكسائي: المبلس: المقطع السيء
الظن، قال: ومنه سمي إبليس؛ لأنه أيس من رحمة
اللّه، وانقطع رجاؤه عنده. وقال
أَبُو عَوْسَجَةَ: المبلس، البائس
الحزين، ويقال: أبلس الرجل، أي: أيس فحزن، وأبلس غيره أيضا، وإنَّمَا سمي إبليسُ إبليس؛ لأنه يئس عن رحمة
اللّه فحزن. قال: وقوله: {فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ}، أي:
لم يذلوا لربهم بالطاعة له، والخضوع لما ذكرنا. ٧٨
وقوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ
السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ}. يذكرهم
نعمه التي أنعمها عليهم؛ ليتأدى بذلك الشكر له عليها، لكنه ذكر هنا أمهات النعم،
لم يذكر غيرها، وهو السمع والبصر والفؤاد الذي ذكر، إذ بها يوصل إلى معرفة: كل
نافع وضار، وكل طيب وخبيث، وكل لين وخشن، وكل سهل وشديد، وكل حلو ومر، وكان
الإنسان مطبوعًا على حب النافع والطيب واللين والسهل، واختياره على أضداده، والهرب
من كل ضار ومؤذ، والفرار عن أضداد ما ذكرنا من المختارات عنده؛ فأخبر أنه أعطى لهم
ما يعرفون به: النافع من الضار، والطيب والخبيث، ونحوه شهادة وخبرا، وما به يميزون
ذا من ذا، ويختارون ما هو المختار عندهم من غيره، وما ينفعهم مما يضرهم؛ ليتأدى
بذلك شكره. ٧٩
ويذكرهم
في قوله: (وَهُوَ
الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ (٧٩) أي: جعلكم سكان الأرض بقدرته وسلطانه، وأخبر أنه لم يخلقكم عبثا؛ ولكن
للبعث بعد الموت، والحشر إليه؛ لما ذكرنا في غير موضع: أن خلق الخلق للفناء خاصة
لا للبعث والإحياء بعد الموت - عبث ولعب، وأخبر عن قدرته وسلطانه؛ حيث قال: ٨٠
(وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ (٨٠) أي: من قدر - واللّه أعلم - على إحياء الموتى وإماتة الحي لقادر على
البعث، ومن ملك على إنشاء الليل بعد ما ذهب أثر النهار وإنشاء النهار بعد ما ذهب
أثر الليل لقادر على الإحياء والبعث بعد الموت. ثم
قال: {أَفَلَا
تَعْقِلُونَ}. أي: أفلا تعقلون أنه كذلك؛ فكيف تنكرون قدرته على البعث والإحياء بعد
ما صرتم رمادًا وترابًا؟! وكيف تشكرون غيره في
عبادتكم إياه وتصرفون الشكر إلى غيره فيما أنعم عليكم. وأهل
التأويل صرفوا قوله: {وَهُوَ
الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} إلى آخره إلى الكفار، وهم يكفرون بنعمته التي ذكر وينكرونها، وهم
لا يشكرون رأسًا؛ بقوله:
{قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ}، إلا أن يقال: إنهم في بعض الأحايين ربما يشكرون
اللّه ويتضرعون إليه؛ نحو قوله: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ. . .} الآية،
ونحوه من الآيات التي ذكر فيها دعاءهم وتضرعهم إلى اللّه عندما أصابهم الضرّ؛ فذلك
منهم شكر، أو أن يقال:
إن قوله: {قَلِيلًا
مَا تَشْكُرُونَ}، أي: قليلا ما تشكرون رأسًا؛ كقول الرجل: لآخر قليلا ما تفعل كذا، أي: لا تفعل؛ فعلى ذلك هنا إن كان
المراد منها والخطاب بها أُولَئِكَ الكفرة، وإلا: الخطاب بها يجيء أن يكون راجعًا إلى المؤمنين الذين
يقومون بفرض الشكر لنعمه وقليله، وأما الكفرة فهم يكفرونها وينكرون رأسًا. ٨١
وقوله: (بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ
الْأَوَّلُونَ (٨١) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا
وَكُنَّا تُرَابًا). يخبر
- جل وعلا - رسوله: سفه قومه، وقولهم الذي قالوا له بعد ما تبين لهم حكمته في
خلقهم وإنشاء ما أنشأ لهم، وذكرهم نعمه التي أنعم عليهم، وذكر قدرته وسلطانه فيما
ذكر من قوله: {وَهُوَ
الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ}، وقوله: {وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي
الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}، وقوله: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ}: ذكرهم ما ذكر في هَؤُلَاءِ الآيات خلقهم وقدرته في إنشاء ما أنشأ لهم، وعرفهم ذلك؛ حتى عرفوا
ذلك كله، ثم بين سفههم في جوابهم رسوله، فقال: {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ}: يخبر رسوله أن هَؤُلَاءِ ليسوا بأول مكذبي الرسل؛ ولكن كان لهم شركاء وأصحاب في التكذيب
فقلد هَؤُلَاءِ أُولَئِكَ الأولين، يصبر رسوله على سفه هَؤُلَاءِ، وأذاهم؛ ليصبر على ذلك كما صبر إخوانه الذين كانوا من قبل؛ إذ
يذكر لرسوله سبيل بعض ما تداخل فيه بتركهم إجابته، وخوضهم فيما فيه هلاكهم؛ لأنه
كان رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كاد أن تهلك نفسه لذلك؛ حتى ٨٣
قال: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ
حَسَرَاتٍ}:، {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ}: فبين ما قالوا: (أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا
تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢)
لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا
إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣) يقولون:
قد وعد آباؤنا بمثل ما وعدنا نحن، فلم ينزل بهم ما وعدوا من العذاب؛ ولا ينزل
-أيضًا- بنا ما تعدنا، وهو أساطير الأولحن، أي: أحاديث الأولين، ثم أمر رسوله أن يسألهم ما يلزمهم الإيمان
والاعتراف بما كانوا ينكرون، فقال: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا
إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. ٨٤
وقوله
تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا
إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. فقالوا:
للّه، لم يجدوا بدًّا من أن يقولوا: للّه وأن يقروا؛ لأنهم لو أنكروا ذلك لظهر
جهلهم عند كل الخلائق؛ فقالوا: للّه؛ فيقول: فإذا عرفتم أن ذلك كله له، وهو
خالقهم، فكيف تركتم طاعته، وأنا لست أدعوكم إلا إلى ذلك: أن تجعلوا الأرض وما فيها
كله للّه؛ أفلا تتعظون وتقرون بما أدعوكم إليه؛ ٨٦
وعلى
ذلك قوله: (قُلْ
مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ للّه) لابد لهم من أن يقروا بذلك، فإذا عرفتم بذلك وأقررتم به: {أَفَلَا تَتَّقُونَ}: مخالفته، وتتقون
نقمته. ٨٨
وكذلك
ما قال: (قُلْ
مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ... (٨٨) ٨٩
فإذا
عرفتم ذلك، وأقررتم به، (فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩) قيل: فانى تصرفون عن ذلك. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: فأنى تخدعون وتفرون في ذلك؛ إذا عرفتم أن ذلك كله للّه. وجائز
أن يكون قوله: {فَأَنَّى
تُسْحَرُونَ}: رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ
وَسَلَّمَ - وتقولون: إنه ساحر كذاب، وهو ليس يدعوكم إلا إلى ما أقررتم
واعترفتم به؛ فأنى تنسبونه إلى السحر، واللّه أعلم. وقوله: {مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ}: قد ذكرناه فيما تقدم. قوله: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ}. أي: هو يؤمن كل خائف، ولا يقدر أحد أن يؤمن من أخافه هو، وهو كقوله: {وَإِنْ
يَمْسَسْكَ اللّه بِضُرٍّ. . .} الآية. قال
أَبُو عَوْسَجَةَ: قوله: {وَهُوَ
يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ}، أي: لا يمنع، {وَلَا
يُجَارُ عَلَيْهِ}، أي: لا يقدر أحد أن يمنع منه أحدًا؛ {فَأَنَّى
تُسْحَرُونَ}، أي:
تغرون وتخدعون، تقول: سحرت، أي: خدعت وغررت، وقال: تسحرون، أي: تخدعون وتصرفون عن هذا، وسمي السحر من هذا. ٩٠
وقوله: (بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ
وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (٩٠) قد
ذكرنا أنه يحتمل وجوهًا: أحدها: بالحق، أي: بوحدانية اللّه، وألوهيته، وتعاليه عن الشركاء والولد، وعما
وصفوه. أو أن يكون قوله: {بِالْحَقِّ}،
أي: بالقرآن الذي عرفوه أنه حق، وأنه من
عند اللّه. أو أن يريد {بِالْحَقِّ}: محمدًا - صَلَّى اللّه عَلَيهِ
وَسَلَّمَ - عرفوا أنه حق وأنه رسول اللّه إليهم. أو أن يكون {بِالْحَقِّ} ما ذكر: من ذكرهم، وما فيه شرفهم ومنزلتهم. و
{بِالْحَقِّ} الذي يكون للّه عليهم،
وما لبعضهم على بعض من الحقوق، واللّه أعلم. وقوله: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}. في
وصفهم ربهم ما وصفوه بما لا يليق وصفه به. أو كاذبون في قولهم بأن القرآن مفترى مختلق من عند اللّه. أو كاذبون في قولهم: بأنه ساحر، وأنه مجنون، وأنه ليس برسول؛ كذبوا
في جميع ما أنكروا، واللّه أعلم. ٩١
وقوله: (مَا اتَّخَذَ اللّه مِنْ وَلَدٍ وَمَا
كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللّه عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) جائز
أن يكون كل حرف من هذه الحروف موصولا بعضه ببعض لما تقدم. وجائز
أن يكون كل حرف من هذه الأحرف منفصلا من الأول مستبدا بذاته. فإن
كان على الأول فيكون قوله:
{مَا اتَّخَذَ اللّه مِنْ وَلَدٍ}،
ولو كان اتخذ ولدا لكان إلها؛ إذ الولد يكون من جنس الوالد ومن جوهره، لا يكون من
خلاف جوهره ولا من غير جنسه في المتعارف؛ فإذا كان إلها من الوجه الذي ذكرنا لذهب
إذن كل إله بما خلق. وإن
كان منفصلا، فهو على ما ذكر من فساد ذلك كله؛ لأنه قال: ولو كان معه إله - على ما زعموا - إذن لذهب كل إله بما خلق من:
الخير، والشر، والدلالة على ألوهيته. {وَلَعَلَا
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ}. أي: فهر وغلب بعضهم بعضا على ما يكون من عادة ملوك الأرض؛ فإذا كان ما
قالوا ذهب
دلالة الألوهية والربوبية؛ فإذا لم يكن ذلك دل أنه واحد لا شريك معه ولا ولد؛ إذ
اتساق التدبير، وجري الأشياء على حد واحد وسنن واحد دل على ألوهية واحد لا لعدد؛
إذ لو كان لعدد لكان ما ذكر من غلبة بعض على بعض، وقهر بعض على بعض، ثم ما ذكر: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللّه لَفَسَدَتَا}. ثم
معلوم أن مثل هذا الاحتجاج لا يكون مع الذين ينكرون ألوهية اللّه ويعبدون الأصنام،
وهم مشركو العرب وكفار مكة، ولكن إنما يكون مع الذين يقرون بألوهية اللّه، لكن
يجعلون معه شريكا لحاجة تقع له، وهم: الثنوية والدهرية والمجوس، وأُولَئِكَ الذين
يجعلون خالق الشر غير خالق الخير، وخالق هذا غير خالق هذا؛ فيكون قوله: {سُبْحَانَ
اللّه عَمَّا يَصِفُونَ} على هذا، أي؛ يتعالى عما وصفوه بالحاجة له في خلق ما خلق، والنفع له في ذلك،
وكذلك قوله: {وَتَعَالَى
عَمَّا يُشْرِكُونَ}. وأما
على ظاهر ما تقدم ذكره: من اتخاذ الولد والشريك - سُبْحَانَ
اللّه عما يصفونه من الولد والشريك، وما قالوا فيه ونسبوا إليه ما لا
يليق به. أو أن يكون قوله: {سُبْحَانَ اللّه عَمَّا يَصِفُونَ} كما يوصف المخلوق المحدث؛ لأنهم وصفوه بالولد، والولد في متعارف
الخلق لا يكون إلا من الوالد والأم، هذا هو التوالد المعروف فيما بين الخلق، فإذا
وصفوه باتخاذ الولد شبهوه بالمخلوق المحدث من الوجه الذي ذكرنا؛ فنزه نفسه عن ذلك. ٩٣
وقوله: {قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا
يُوعَدُونَ. رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}. وقوله: (رًدث اقا تُرِلَنى مَا يوُعَأُونَ): يحتمل
على وجهين: أحدهما: {رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا
يُوعَدُونَ. رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}؛ لأنه كان وعد له أن يريه بعضًا وعد لهم بقوله: {فَإِمَّا
نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ}؛ فلا نريك شيئا؛ فقال: ربِّ إن أريتني ما يوعدون أو لا تريني فلا تجعلني في القوم الظالمين. والثاني: أنك، وإن أريتني ما تعدهم على التحقيق، فلا تجعلني في القوم
الظالمين. ثم
يحتمل قوله: {فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ} وجهين: أحدهما: لا تجعلني في القوم الظالمين: في العذاب الذي وعدت لهم أن ينزل؛
لأنه من العدل أن يعذبه ويعامله معاملة أهل العدل؛ كأنه يقول: ربِّ لا تعاملني
معاملتك إياهم، وإن كان ذلك من العدل أن تعاملني مثل ما تعامل أُولَئِكَ؛ لأن رسول اللّه، وإن
لم يكن له زلات ظاهرة، فلقد كان من اللّه إليه من النعم والإحسان: ما لو أخذ بشكر
ذلك لم يقدر على أداء شكر واحدة منها فضلا عن أن يؤدي شكر الكل؛ ألا ترى أنه روي
عنه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ
- أنه قال:: لا يدخلُ
أحدٌ الجنةَ إلا برحمةِ اللّه؛
فقيلَ: ولا أنتَ يا رسولَ اللّه؟ فقالَ: ولا أنا إلا أَنْ يتغمدني اللّه برحمتِهِ ". ويحتمل قوله:
{فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}: في الزيغ والغواية، يسأل ربه أن يعصمه عن الزيغ بالضلال والغواية
الذي عليه القوم الظالمون، وهو كدعاء إبراهيم ربه وسؤال العصمة عن الزيغ بقوله: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا
وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ}،
وإن كان وعد لهم العصمة عن ذلك، واللّه أعلم. ٩٥
وقوله: (وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا
نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (٩٥) هذا
أيضًا يحتمل وجهين: أحدهما: يخبر رسوله أنه ليس لعجز يؤخر ما وعد لهم من العذاب؛ ولكن لحلم
منه وعفو، وهو كقوله - عَزَّ
وَجَلَّ -: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللّه غَافِلًا
عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ}: على التنبيه والإيقاظ؛ فعلى ذلك يحتمل هذا. والثاني: يعزي رسول اللّه ويصبره على أذاهم إياه، يقول: إني مع قدرتي على
إنزال العذاب عليهم والانتقام منهم أحلم عنهم وأؤخر عنهم؛ فأنت مع ضعفك عن ذلك
أولى أن تصبر على أذاهم، وعلى هذا يخرج ٩٦
قوله: (ادْفَعْ
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ (٩٦)
أي: لا تكافئهم لأذاهم إياك، ولا تشغل
بهم بمجازاة ذلك أوادفع، بأحسن من ذلك وكِلْ مكافأتهم إليَّ حتى أنا أكافئهم. {نَحْنُ
أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} من الكذب والأذى الذي
يؤذونك. والثاني: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
السَّيِّئَةَ}، أي:
ادفع سيئاتهم المتقدمة بإحسان يكون منك إليهم؛ ليكونوا لك أولياء وإخوانا في حادث
الأوقات، وهو كقوله: {ادْفَعْ
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ
وَلِيٌّ حَمِيمٌ}. ٩٧
وقوله: (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ
هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨)
وقال في آية أخرى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ
بِاللّه}، علم رسوله وأمره أن يتعوذ به من الشيطان الرجيم اللعين إذا نزغه
- ونزغه: وسوسته - وأمره أيضًا أن يتعوذ من همزه، وهو: همه وقصده بذلك، وأمره أن
يتعوذ بحضورهم مكان الوسوسة؛ حتى يدفع عنهم ولا يحضرون ذلك المكان، وكأن التعوذ عن
نزغهم؛ ليدفع عنه؛ لئلا يؤثروا في نفسه بعد ما حضروه ووسوسوه. والتعوذ
عن همزهم: هو أن يدفع عنه طعنهم ونخسهم؛ لئلا يشغلوه بالذي قصدوه به، والتعوذ عن
حضورهم مكان الوسوسة. قال
الحسن: همز الشيطان: الموتة، والموتة:
غشيان القلب، روي في الخبر عن رسول اللّه - صَلَّى
اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يتعوذ من
الشيطان الرجيم، قال:
" في همزه، ونفخه، ونفثه ". وقَالَ
بَعْضُهُمْ: همزاته ونزغاته: واحد. وقَالَ
الْقُتَبِيُّ همزات
الشياطين: نخسها وطعنها، ومنه قيل للعائب: هُمَزة؛ كأنه يطعن ويعيب. وقال
أَبُو عَوْسَجَةَ: همزات الشياطين:
وساوسهم، يقال: همز يهمز همزًا، أي: وسوس، ومن وجه آخر: همز يهمز همزا، أي: عاب يعيب، ومنه قوله: {وَيْلٌ
لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ}. ثم
في قوله: {وَقُلْ
رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ}
إلى آخر ما ذكر وجهان على المعتزلة: أحدهما: أنه أمر رسوله أن يتعوذ به مما ذكر؛ فدل أن عنده لطفا لم يعطه: ما
لو أعطاه اللّه لدفع به ما ذكر وأنه مالكٌ لذلك؛ إذ لو كان غيره مالكًا لذلك يخرج
السؤال به مخرج الهزء به؛ إذ من طلب من آخر شيئا يعلم أنه ليس عنده ذلك خرج ذلك
الطلب مخرج الهزء به؛ فعلى ذلك هذا. والثاني: أن كل مأمور بالتعوذ جعل اللّه له الإعاذة مما يتعوذ منه. فالوجهان
جميعًا ينقضان على المعتزلة
في قولهم: إن اللّه قد أعطى كلا الأصلح في الدِّين، وأعطى كلا العصمة عن كل زيغ
وضلال. ٩٩
وقوله: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ
قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) ظاهر
هذا أن يكون قوله: {رَبِّ
ارْجِعُونِ} بعد الموت، وبعد ما عاين أهوال الآخرة وأفزاعها؛ لأن الموت ليس هو
شيء يأتي من مكان إلى مكان؛ إنما هو شيء يذهب بالحياة التي فيهم، إلا أن أهل
التأويل قالوا: إن ذلك عند معاينتهم ملك الموت، وعند هجومه عليهم بأهواله؛ فعند
ذلك يسألون الرجعة إلى الدنيا، والأول أشبه وأقرب. ثم
قوله: {حَتَّى
إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ}: ليس هو صلة قوله {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ. وَأَعُوذُ
بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ}، ولا جوابه؛ لأنه ليس
من نوعه، ولا من جنس ذلك، ولكنه - واللّه أعلم - صلة قوله: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ
وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}، وجواب قوله: {وَأَكْثَرُهُمْ
لِلْحَقِّ كَارِهُونَ}، ونحوه الذي تقدم ذكره،
يقول: وإنهم على ذلك {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ
الْمَوْتُ}، فعند ذلك يرجع إلى الحق والتصديق، لكن ذلك لا ينفعه في ذلك الوقت
{قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ}، ولم يقل: رب
ارجعني، وذلك يخرج على وجهين: أحدهما: سأل على ما يسأل الملوك ويخاطبون: افعلوا كذا، على الجماعة، وإن
كان إنما يخاطب واحدا؛ على ما خرج جواب اللّه وقوله: إنا فعلنا كذا، ونفعل كذا. والثاني: أن يكون قوله: {رَبِّ ارْجِعُونِ}: يسأل ربه أن يأمر الملائكة الذين يتولون قبض أرواحهم أن يرجعوه
إلى ما ذكر، واللّه أعلم. ١٠٠
وقوله: (لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا
تَرَكْتُ (١٠٠) قَالَ
بَعْضُهُمْ: {فِيمَا تَرَكْتُ}، أي:
فيما كذبت. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: {فِيمَا تَرَكْتُ}: في الدنيا من الأعمال الصالحة فأعمل بها. وجائز
أن يكون قوله: {فِيمَا
تَرَكْتُ}: من الأموال فأؤدي منه حقك؛ لأن من الكفرة ما كان سبب كفرهم منع
الزكاة وجحودها؛ كقوله:
{وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ. الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ
بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}، فيسأل ربه أن يرجع إلى
المال الذي تركه؛ ليؤدي الحق الذي كان فيه فمنعه، كقوله: {فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي
إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ}، وقوله: {فَأَصَّدَّقَ}،
أي: فأتصدق بالصدقة التي منعتها؛ لأن
الخطاب في الصدقة بقوله:
{أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ. . .}
الآية، وهذا أشبه، واللّه أعلم. وقوله: {كَلَّا}،
هو رد لما سألوا من الرجعة. وقوله: {إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا}. قَالَ
بَعْضُهُمْ: قوله:
{إِنَّهَا كَلِمَةٌ}: هو قول اللّه: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللّه نَفْسًا. . .}
الآية، {قَائِلُهَا}: يعني الكافر عند معاينة العذاب، وهو قوله: {ارْجِعُونِ. لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا
فِيمَا تَرَكْتُ}. ثم
قوله: {كَلَّا} على هذا يحتمل وجهين: أحدهما: أنه لا حقيقة لسؤاله الذي يسأله من الرجعة ليعمل العمل الصالح، أي: أنه وإن رد ورجع لا يعمل؛ كقوله - تعالى -: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ}. والثاني: أن لا منفعة لهم في سؤالهم الرجعة؛ إذ لو رجعوا لا يصلون إلى ما
يأملون؛ لأنهم إنما يسألون ليؤمنوا، والإيمان سبيله الاستدلال، فإذا لم يستدلوا به
وقت أمنهم وفسحتهم؛ فكيف يقدرون على الاستدلال في وقت خوفهم؟! واللّه أعلم. وقوله: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى
يَوْمِ يُبْعَثُونَ}. قَالَ
بَعْضُهُمْ: وراءهم، أي: أمامهم. قال
أبو معاذ: مشتقة من تواريت عنك،
فكل ما توارى عنك أمامك كان أو
وراءك فهو وراءك. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ}: على حقيقة الوراء. {بَرْزَخٌ
إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}، قَالَ
بَعْضُهُمْ: البرزخ: هو ما بين شيئين. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: البرزخ: هو الأجل بين الموت والبعث، وهو قول الكلبي وقتادة. وقال
مجاهد: البرزخ: هو حاجز بين
الموت والرجوع إلى الدنيا. وقَالَ
الْقُتَبِيُّ وأبو عبيدة: البرزخ: ما بين الدنيا
والآخرة، وقالا: كل شيء بين شيئين فهو برزخ. وقال
أَبُو عَوْسَجَةَ: البرزخ: ما بين
الحدين، يعني: الدنيا والآخرة، الأرض المستوية،
وأصل البرزخ: الحاجز بينه كقوله: {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا}، أي:
حاجزًا، وتأويله، أي:
صاروا إلى الوقت الذي يحجزهم عما يتمنون ويشتهون، وهو كقوله: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا
يَشْتَهُونَ}، وإنما يشتهون ويتمنون الإيمان والأعمال الصالحة. وجائز
أن يكون قوله: {وَمِنْ
وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ}، أي: من ورائهم أحوالهم أي: الحال التي
طلبوا الإيمان فيه أحوال لا يمكن فيها الإيمان وما تمنوا من العمل الصالح، واللّه
أعلم. وفيه
نقض قول الباطنية؛ لأنهم يقولون: البرزخ
هو أن يجعل للمؤمن من الأعمال الصالحة صورة روحانية تبقى أبدًا تثاب تلك الصورة
الروحانية من الأعمال، وأن يجعل من الأعمال السيئة للكافر صورة قبيحة روحانية هي
تعاقب وتعذب أبدًا، فذلك البعث عندهم، فأخبر - عَزَّ
وَجَلَّ - أن بين موتهم وبين البعث: البرزخ، وهو الأجل الذي ذكرنا، أو الحاجز؛ فدل ذلك على نقض قولهم: أن ليس البعث إلا خروج الصورة دون
المعاينة. ١٠١
وقوله: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا
أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (١٠١) إن
كان قوله: {فَلَا
أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ}
في الناس كلهم؛ فذلك في اختلاف المواطن، على ما قال ابن
عَبَّاسٍ وغيره من أهل التأويل، واختلاف الأوقات: لا يتساءلون في موطن أو في وقت، ويتساءلون في وقت آخر؛ ألا ترى أنه قال: {وَأَقْبَلَ
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ}،
ونحوه. وإن
كانت الآية في أهل، الكفر خاصة فهو يخرج على
وجهين: أحدهما: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ
وَلَا يَتَسَاءَلُونَ}؛ لأنه كان يتناصر بعضهم
ببعض على غيرهم، ويستعين بعضهم بعضا، ويكونون ردءًا لهم في هذه الدنيا وشفعاء وأعوانًا وأنصارًا، فأخبر أن ذلك ينقطع
بينهم ويذهب ذلك التناصر عنهم في الآخرة، والعرب خاصة كان يتفاخر بعضهم على بعض
بالأنساب ويتناصر؛ فأخبر أن ذلك منقطع عنهم في الآخرة. والثاني: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} وما ذكر {يَوْمَئِذٍ}؛ لشغلهم بأنفسهم؛ لفزع ذلك اليوم وأهواله ينسى بعضهم بعضا ويهرب
منه، كقوله: {مُهْطِعِينَ
مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ. . .} الآية،
وقوله: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ.
. .} الآية،
وقال في آية أخرى: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى. . .}
الآية، فذلك كله؛ لشدة أهوال ذلك اليوم
وأفزاعه كان لكل في نفسه شغلا حتى لا يتفرغ إلى أحد وإن قرب عنه لشغلهم بأنفسهم. وإن
كان في الناس جميعًا فهو ما ذكرنا أن ذلك يكون في اختلاف المواطن والأوقات: يسألون
في وقت ولا يسألون في وقت، ويسألون في موطن ولا يسألون في موضع، أو يسألون
عن شيء ولا يسألون عن آخر، وروي في الخبر عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ
- أنه قال: " كلُّ
نَسَب كانَ فهو منقطعٌ إلا نسبي " أو كلام نحو هذا، ثم يحتمل قوله:
" إلا نسبي " وجهين: أحدهما: الشفاعة له في أنسابه، لا يكون ذلك لغيره في نسبه؛ فإذا أراد هذا
فهو على حقيقة نسبه. والثاني: أراد بقوله: " إلا نسبي ": المعين له في دينه؛ لأن كل من اتبعه فقد
انتسب إليه؛ فكأنه قال:
إن كل ذى شفاعة دوني فهو منقطع إلا شفاعتي، فيمن اتبعني وانتسب إلي بقبوله ديني. ١٠٢
وقوله: (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) جائز
أن يكون قوله: {فَمَنْ
ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ}، أي: من عظم قدره ومنزلته عند اللّه
بالأعمال التي عملوها من الصالحات والحسنات فهو من المفلحين، ومن خفت منزلته وقدره عند اللّه بالأعمال
الخبيثة السيئة فهو من الذين خسروا أنفسهم، واللّه أعلم. وقد
ذكرنا أقاويل أهل التأويل في الموازين فيما تقدم. ١٠٤
وقوله: (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ
فِيهَا كَالِحُونَ (١٠٤) قَالَ
بَعْضُهُمْ: لفحتهم النار لفحة؛ فلم تدع لحفا على عظم إلا ألقته. {وَهُمْ
فِيهَا كَالِحُونَ}، قَالَ
بَعْضُهُمْ: عابسون. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: تلفح، أي: تنفح. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: تلفح: تشوي وتحرق، وذلك عادة النار أنها تعمل كل هذا العمل. وقال
أَبُو عَوْسَجَةَ: تلفح، أي تضرب، واللفح: الضرب، يقال: لفحته النار، أي: ضربته؛ فأحرقت وجهه، تلفح لفحًا فهي لافحة. والكالح:
العابس. ١٠٥
وقوله: (أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى
عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (١٠٥) كذلك
كانوا يكذبون، وقد ذكرناه في غير موضع. ١٠٦
وقوله: (قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا
شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (١٠٦) أما
ما قال أهل التأويل: غلبت علينا من الشقاوة فإنه لا يحتمل؛ لأنهم يقولون ذلك القول؛ اعتذارًا لما كان منهم من التفريط في
أمره والتضييع؛ فلا يحتمل
أن يطلبوا لأنفسهم عذرا فيما كان منهم؛ إذ لو كان ما ذكر أُولَئِكَ لكان في ذلك طلب العذر لأنفسهم، وهم في ذلك الوقت لا يطلبون عذرا
لأنفسهم؛ ولكن يقرون بما كان منهم؛ كقوله: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ}، لكن يحتمل وجهين: أحدهما: يقولون: ربنا شقينا بأعمالنا التي عملناها، وظلمنا أنفسنا، وكنا
قومًا ضالين. والثاني: عملنا أعمالا استوجبنا بتلك الأعمال جزاء؛ فنحن أولى بذلك الجزاء،
فغلب علينا جزاء تلك الأعمال، أو
كلام نحو هذا. وأما
ما قاله أُولَئِكَ من
أهل التأويل: {غَلَبَتْ}، أي: كتبت فهو بعيد؛ لأنه إنما يكتب ما
يفعل العبد وما يعلم أنه يختاره لا يكتب غير الذي علم أنه يفعله ويختاره، واللّه
أعلم. ١٠٧
قوله: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ
عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (١٠٧) قوله: {فَإِنَّا ظَالِمُونَ}: ظلم عيان، وظلم ظاهر، وإلا قد كانوا أقزوا بالظلم بقولهم: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ}. وقوله: {وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ}: قد أقروا بالظلم، لكنهم أقروا بظلم خبر وظلم سماع، لا ظلم عيان؛
فقالوا: {أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ}: ظلم عيان، واللّه أعلم. ١٠٨
وقوله: (قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا
تُكَلِّمُونِ (١٠٨) قَالَ
بَعْضُهُمْ: قوله:
{اخْسَئُوا}، أي: اسكتوا. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: {اخْسَئُوا}،
أي: ابعدوا فيها. قال
أَبُو عَوْسَجَةَ: يقال: خسأت فلانا، وأخسأت، أي: باعدته؛ فخسأ، أي: تباعد. وقوله: {وَلَا تُكَلِّمُونِ}. يحتمل الوجهين: أحدهما: جائز أن يكون هذا السؤال منهم في أول ما أدخلوا، فقال لهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ}
فإنكم ماكثون، أو أن يكون هذا السؤال منهم بعد ما سألوا الملك الموت مرة بقوله: {وَنَادَوْا
يَا مَالِكُ. . .} الآية، وسألوا مرة تخفيف العذاب بقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا
يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ}، فلما أيسوا منه فعند
ذلك يسألون ربهم إخراجهم والإعادة إلى المحنة؛ فقال: {اخْسَئُوا فِيهَا}، أي:
ابعدوا فيها ولا تكلمون، أي: يصيرون بحال لا يقدرون على الكلام؛ لشدة العذاب؛ فعند ذلك يكون
منهم الشهيق والزفير. ١٠٩
وقوله: (إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي
يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ
الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ
سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠) يخبر
- عَزَّ وَجَلَّ -
أُولَئِكَ الكفرة
الذين يسألون الإخراج من النار أنكم قد اتخذتم فريقًا من عبادي آمنوا سخريا، وكنتم
منهم تضحكون؛ يذكر هذا لهم - واللّه أعلم - ليكون ذلك حسرة ونكاية. ١١٠
وقوله {سِخْرِيًّا}
اختلف في قراءته: فقرئ، بكسر السين فهو من الاستهزاء والهزء. وقال
الكسائي: بالرفع والكسر جميعًا،
من الاستهزاء، ولا يقال في العبودة إلا برفع السين، وقَالَ
بَعْضُهُمْ: هما سواء. وقوله: {حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي}، قَالَ
بَعْضُهُمْ: حتى أنساكم الهزء بهم عن العمل بطاعتي. وقيل: أضاف الإنساء إلى الذكر؛ لأنهم كانوا عندما يذكرهم ويدعوهم إلى
ذكر اللّه يهزءون به؛ فأضاف إليه ذلك؛ فكان كإضافة الرجس إلى السورة؛ لأن ذلك إنما
يزداد لهم عند تلاوة السورة؛ فأضيف ذلك إلى السورة، وإلا كانت السورة لا تزيد
رجسًا؛ فعلى ذلك أضاف الإنساء إلى ذكره؛ لما عند ذكره ودعائهم إليه يحملهم إلى
ذلك، واللّه أعلم، فأضيف إليه. ١١١
وقوله: (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا
صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (١١١)
أي: إني جزيتهم اليوم الفوز بما صبروا
في الدنيا على أذى أُولَئِكَ الكفرة، أو
على أداء ما أمروا به ونهوا عنه. أو أن يكون ذلك كقوله: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا
وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}،
ونصره إياهم هو أن صارت لهم عاقبة، واللّه أعلم. ١١٢-١١٣
وقوله: (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ
عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (١١٣) اختلف
فيه: قال مقاتل بن سليمان: في القبور. وقال
أبو معاذ: أخطأ مقاتل، وذلك قول من ينكر عذاب القبر، وهو
قول الجهمية؛ لأن من كان في عذاب وشدة لا يقتصر المقام فيه كل هذا الاقتصار، حتى
يقول: لبثت يوما أو
بعض يوم؛ بل يزداد له مقام يوم في العذاب على سنة وأكثر، قال: إلا أن يكون عَنِيَ ما بين النفختين حين تؤخذ الأرواح فترقد، فإذا بعثوا استقلوا رقدة
ذلك المقدار؛ بما كانوا قاسوا قبل الرقدة من العذاب في القبور، إلى هذا يذهب بعض
أهل التأويل. وجائز
عندنا ما قال مقاتل ومُحَمَّد بن
إسحاق: بأن ذلك يكون في القبر، وذلك لا يدل على نفي عذاب القبر؛ لأنهم لا يعذبون
في القبور بالعذاب الذي يعذبون في الآخرة؛ فجائز أن يستقلوا عذاب القبر بعذاب
الآخرة، ويستقصرون ذلك الوقت بعذاب الآخرة لشدته وأهواله، وذلك جائز في متعارف
الخلق أن يكون الرجل في بلاء وشدة، ثم يزداد له البلاء والشدة؛ فيستقل ذلك البلاء
الذي كان به لشدة ما حل به؛ فعلى ذلك هم: جائز أن يكونوا في عذاب في قبورهم، لكنهم
إذا عاينوا عذاب الآخرة استقلوا عذاب القبر واستقصروه؛ لشدة عذاب الآخرة. أو أن يكون عذاب القبر: على النفس الروحاني الدراك الذي يخرج في حال
النوم ليس على روح الحياة، مثل النائم يرى نفسه في بلاء وعذاب في نومه، ويكون في
أفزاع، وكانت نفسه ملقاة في مكان لا علم لها بذلك ولا خبر، وبها آثار الأحياء؛
فجائز أن يكون عذاب القبر على هذا السبيل على الروح التي بها يدرك الأشياء، لا على
روح الحياة التي بها يحيا. وقال
قائلون: ذلك في الدنيا: استقلوا حياة الدنيا لحياة الآخرة، وهو كقوله: {فَمَا
مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ}؛ ألا ترى أنه قال: {فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ}: هذا يدل على أن ذلك في الحياة الدنيا أشبه؛ حيث أمر أن يسأل
الذين يعدون، وذلك
إنما يكون في الدنيا لا في الآخرة. ثم
اختلف في العادين: قَالَ
بَعْضُهُمْ: هم الملائكة الذين يكتبون أعمالهم في هذه الدنيا ويرقبونهم. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: هم ملك الموت وأعوانه. ١١٤
وقوله: (قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا
لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤) أي: ما لبثتم إلا قليلا لو كنتم تعلمون، ولكن لا تعلمون. قَالَ
الْقُتَبِيُّ: {سِخْرِيًّا} بكسر السين، أي: يسخرون منهم، و {سُخْرِيًّا}: بضمها، أي: يتسخرونهم من السخرية عبثًا. وقوله: {حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي}، أي:
شغلكم أمرهم عن ذكري، والوجه فيه ما ذكرنا فيما تقدم. ١١٥
وقوله: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ
عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (١١٥) قوله: {أَفَحَسِبْتُمْ}: يحتمل
وجهين: أحدهما: {أَفَحَسِبْتُمْ}: قد حسبتم أنما خلقناكم عبثًا. والثاني: {أَفَحَسِبْتُمْ}، أي:
لا تحسبوا أنا إنما خلقناكم عبثًا. {وَأَنَّكُمْ
إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}. صير
خلقه الخلق لا للرجوع والبعث عبثا؛ لوجهين: أحدهما: لأن خلقه إياهم لا لعاقبة تتأمل أو لمنافع تقصد؛ للّهلاك خاصة وللفناء - عبث؛ كبناء المباني لا
لمنفعة تقصد به، ولكن للنقض يكون عبثًا في الشاهد، وهو ما قال في آية أخرى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ
أَنْكَاثًا}: سفهها في غزلها للنقض خاصة لا لمنفعة قصدت به، ونهانا أن نفعل
مثل فعلها؛ فلو لم يكن المقصود من خلق الخلق إلا الموت والفناء خاصة، لا لعاقبة
تقصد - كان سفهًا وعبثًا. والثاني: ما أخبر أنه إنما أنشأ هذا العالم غير البشر لهذا البشر، وله سخر
ذلك كله؛ حيث قال: {وَسَخَّرَ
لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ}؛ إذ ليس لغير البشر منفعة بهذه النعم التي أنشأها لهم، من نحو
الجن والملائكة ونحوهم؛ إذ لهم قوام بدون ذلك: من الشمس، والقمر، ونحوه من النعم؛
إنما ذلك للبشر خاصة، فإذا كان كذلك
- لا يحتمل أن يجعل لهم كل هذه النعم التي
ذكرها وأنشأها لهم، ثم لا يمتحنهم بالشكر على ذلك ولا يأمرهم بأوامر ولا ينهاهم
بمناهٍ؛ فدل ما أنشأ لهم من النعم وسخر لهم من الأشياء أنهم يبعثون ويرجعون إليه؛
حتى يجزون جميعًا: المحسن جزاء الإحسان والمسيء جزاء الإساءة؛ إذ في العقول
التفرقة بين الولي والعدو، وبين المحسن والمسيء وبين الشاكر والكافر، ثم رأيناهم
جميعًا في هذه الدنيا عاشوا على سواء في الضيق والسعة، لم نر ما يفصل بين الولي
والعدو، وبين المحسن والمسيء، وبين الشاكر والكافر؛ فدل ما لم يكن من التفرقة ما
ذكرنا في هذه الدنيا على أن هنالك دارًا أخرى دار الجزاء، هناك يفصل بين ما ذكرنا
في الجزاء، واللّه الموفق. {لَا
تُرْجَعُونَ}: لا تبعثون. وقيل: لا ترجعون إليه بالأعمال التي عملتموها، كقوله: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ
كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ}،
وقوله: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ
وَاسْتَغْفِرُوهُ}. ١١٦
وقوله: (فَتَعَالَى اللّه الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا
إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦) أي: يتعالى اللّه عوإن يكون خلق الخلق منه عبثا، أو يتعالى أن يكون خلق الخلق لا لحكمة. {الْمَلِكُ
الْحَقُّ}. قال الحسن: الحق: اسم من أسماء اللّه، أو الملك الذي خلق الخلق للحكمة. {لَا
إِلَهَ إِلَّا هُوَ}: تنزيه وتبرئة عن جميع ما قالوا
فيه. وقوله: {رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} يشبه أن يكون على الأول: يتعالى الملك الحق ورب الملك الكريم عن
أن يخلقهم لا للحكمة أو
للعبث. وقالت
الباطنية: العرش: القيامة. ونحن
نقول: يشبه أن يكون العرش القيامة، على ما قالوا هم، إلا أنهم يقولون: هو قائم
الزمان، وقلنا نحن: هي القيامة المعروفة وهي الساعة، رب القيامة وهي الملك الذي
ذكرنا؛ كقوله: {لِمَنِ
الْمُلْكُ الْيَوْمَ للّه الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}:
خص ذلك اليوم بالملك له، وإن كان الملك له في الدارين جميعًا؛ لما لا يتنازع في
ملكه يومئذ، وقد نوزع في الدنيا، فخلص له ملك ذلك اليوم وصفا له يومئذٍ. وقال
بعض أهل التأويل: العرش: السرير، أضافه إلى نفسه؛ لمنزلته عند اللّه، والكريم: هو
نعت ذلك السرير، أي:
الحسن؛ كقولهم: (رجل كريم)، أي: حسن، وهكذا يوصف كل كريم بالحسن. وقَالَ
بَعْضُهُمْ: هو نعت الرب، أي: ذو عفو وصفح، واللّه أعلم. قوله تعالى: (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللّه إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ
فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ
رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨) ١١٧
وقوله: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللّه إِلَهًا
آخَرَ}. ظاهر
هذا يوحي أن هنالك إلهًا آخر؛ لأنه قال: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللّه إِلَهًا
آخَرَ}، لكنه يخرج على وجهين: أحدهما: لا يحتمل
مع اللّه إلهًا آخر؛ كقوله:
{وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللّه إِلَهًا آخَرَ}. والثاني: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللّه إِلَهًا
آخَرَ}، أي:
من يسم مع اللّه إلهًا آخر؛ إذ كانوا يسمون الأصنام التي كانوا يعبدونها: آلهة،
على هذين الوجهين يخرج تأويل الآية. وقوله: {لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ}. أي: لا حجة لهم بذلك؛ لأن الحجة إنما تكون بوجوه ثلاثة: إما
بالأخبار التي يجوز الشهادة على صدقها وصحتها. وأما
العقول السليمة. وأما
من جهة الحس يدل على ذلك؛ فلم يكن لهم واحد من هذه الوجوه. ثم
الحس يكون بالدلالة من وجهين: إما بوقوع الحس عليه بالبديهة أو بآثار تدل على الألوهية؛ فلا كان في ظاهر وقوع الحس دلالة ذلك،
ولا كان بها آثار تدل على ذلك، بل فيها آثار العبودة والذل، فضلا أن يكون لها آثار
الألوهية، فلا عذر لهم في ذلك؛ لأن العبادة لآخر إنما تكون: إما للنعم والأيادي
تكون منه إليه؛ فيعبده شكرًا لما أنعم عليه وأحسن إليه، وإما لحوائج يطمع قضاءها
له، وإما لما يرى له في نفسه من آثار العبودة له؛ فإذا لم يكن واحد من هذه الوجوه
التي ذكرنا فلا عذر لهم في عبادة تلك الأصنام. فإن
قالوا: لنا برهان وحجة في ذلك. قيل: قطع حجاجكم بما ذكر من قوله: {إِنْ أَرَادَنِيَ اللّه بِضُرٍّ هَلْ
هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ. . .} الآية، وقوله: {فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ
عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا}، ونحو ذلك من الآيات:
فيها قطع حجاجهم. وفي
حرف حفصة: {لَا بُرْهَانَ لَهُ}، أي: لا سلطان له به. وقوله: {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ}. قال
قائلون: {حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} هو قوله: {إِنَّهُ
لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}، وقال بعضهم:
{حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} أي: جزاؤه عند ربه؛ كقوله: (إِنَّ
إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (٢٦). ١١٨
وقوله: (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ
خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨) جائز
أن يكون هذا تعظيمًا من اللّه لكل أحد سؤال المغفرة والرحمة، وقيل: هو لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ
- فهو يخرج على وجهين: أحدهما: حكمته وعدله ألا يرحم ولا يغفر أحدًا، وإن كان في فضله ورحمته أن
يرحم ويغفر. والثاني: يجعل له العصمة والرحمة بهذا الدعاء.
أو أن يكون العصمة تزيد في الخوف، كقول
إبراهيم:
{رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا
وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ}،
وقوله: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ
إِذْ هَدَيْتَنَا}. وقوله: {وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}؛ لأن رحمته إذا أدركت أحدًا أغنته عن رحمة غيره، ورحمة غيره لا
تغنيه عن رحمته، واللّه الموفق، وصلى اللّه على سيدنا مُحَمَّد وآله أجمعين. *
* * |
﴿ ٠ ﴾