٢وقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}. لو كان الخطاب يجب اعتقاده على ظاهر المخرج والعموم على ما قاله بعض الناس، لكان لكل أحد أن يقيم على آخر حدَّا بظاهر قوله: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}؛ فيقول: اللّه أمرني بذلك بقوله: {فَاجْلِدُوا}، أو أن يضربوا جميعًا واحدا من الزنا بظاهر قوله: {فَاجْلِدُوا}؛ فيزداد الضرب والحد على ما حد اللّه أضعافًا مضاعفة؛ فدل أن اعتقادهم العموم فاسد بظاهر المخرج. أو أن يقول قائل: روي عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " العينان تزنيان، واليدان تزنيان، والرجلان تزنيان، والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه ": سمى الناظر إلى ما لا يحل نظره إليه زانيا، والماس لها: كذلك؛ فيلزمه الحد بظاهر قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}؛ فإذا لم يفهم من ظاهر قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} ما ذكرنا كله؛ دل أن الاعتقاد على عموم المخرج فاسد، وأن المراد بقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} - راجع إلى الخصوص: إلى مقيم دون مقيم، وإلى زان دون زان، وهو الزاني الذي يجمع في فعل الزنا جميع بدنه: العين، واليد، والرجل، والفرج، وجميع بدنه. ورجع الخطاب به إلى البكرين الحرين والثيبين الحرين الذين لم يستجمعا جميعًا أحكام الإحصان. فأما من استجمع جميع أسباب الإحصان فإن حده الرجم على اتفاق القول منهم جميعًا، إلا أن طائفة من أهل العلم أوجبوا عليه مع الرجم الجلد، وفي البكر مع الجلد تغريب عام. والدليل على أن المراد راجع إلى الحرين البكرين أو الثيبين اللذين لم يستجمعا أسباب الإحصان ما ذكرنا من القول المتفق. وقوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}، دل إيجاب نصف ما على المحصنات على الإماء على أنه أراد بالمحصنات: الحرائر اللاتي لم يستجمعن جميع أسباب الإحصان، وأن الخطاب بقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} إلى آخر ما ذكر راجع إلى الحرين اللذين ذكرناهما. ثم لم يضرب في الزنا الذي به زنا، وهو الفرج، وقطع في السرقة الذي به سرق: وهو اليد؛ فهو - واللّه أعلم - لما جعل الحدود زواجر عن المعاودة - لم تجعل دافعة مذهبة إمكان ذلك الفعل من الأصل، وفي ضرب الفرج ذهاب إمكان الفعل من الأصل، ولا كذلك في قطع اليد في السرقة؛ إذ تبقى أخرى: بها يأخذ، وبها يقبض؛ لذلك افترقا. أو أن يقال: في ضرب الفرج خوف هلاكه في الأغلب، وليس ذلك في قطع اليد؛ بل يبقى حيًّا في الغالب، وقد ذكرنا أن الحدود لم تجعل مهلكة متلفة؛ ولكن جعلت زواجر عن المعاودة؛ لذلك افترقا. وفي قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} دلالة على أن النفي ليس من عذاب الزانيين ولا من عقوبتهما؛ لأنه قال: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، والنفي مما لا يحتمل أن يؤمر بشهوده؛ لأنه لا يمكن؛ فدل أنه ليس من عذابهما. ويدل عليه -أيضًا- قوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}؛ لأنهم أجمعوا على أن لا نفي على الإماء إذا زنين، وقد أوجب عليهن إذا زنين: نصف ما على المحصنات. أو إن ثبت النفي فهو يحتمل وجهين: أحدهما: أنه أراد به قطع الشَّين الذي لحقهما بفعل الزنا؛ لأنه ليس جرم من الإجرام أكثر شينا وأشد من فعل الزنا؛ فأراد أن ينقطع ذلك من بين الناس. أو أن يكون أراد به قطع الشهوة، التي حملتهم على الزنا: بذل السفر وذلة الغربة. أو صار منسوخًا لما شدد في الضرب بقوله: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّه}، وفيما ذكر النفي، لم يذكر فيه الشدة؛ إنما ذكر فيه الجلد فحسب بقوله - عليه السلام -: " أما على ابنك هذا جلد مائة وتغريب عام "؛ فجائز أن يكون الضرب كان بالتخفيف وفيه نفي، فلما شدد في الضرب ارتفع النفي، وقد جاء عن عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه نفى رجلا فارتد عن الإسلام ولحق بالروم؛ فقال: كفى بالنفي فتنةً، وقال: لا أنفي بعد هذا أبدًا. وكذلك روي عن علي - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - واللّه أعلم. وقوله: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّه}. قَالَ بَعْضُهُمْ: لا تأخذكم بهما رأفة في تخفيفها؛ فهو - واللّه أعلم - لأنه من أعظم الإجرام في الشين. ثم للمعتزلة تعلقٌ بظاهر قوله: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّه}؛ قالوا: إن اللّه وصف نفسه بالرحمة بقوله: {رَءُوفٌ رَحِيمٌ}، ووصف المؤمنين بالرحمة فيما بينهم، والشدة على الكفار بقوله: {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} ثم نهاهم أن تأخذهم رأفة على الزانيين وقت إقامة الحد عليهم؛ دل أن الزاني قد خرج بفعله من الإيمان؛ لما ذكرنا من رفع الرأفة والرحمة عنهما. لكن عندنا في الآية دلالة أنه ليس على ما ذهبوا إليه؛ لأن الزاني لو كان يخرج من الإيمان بفعل الزنا لكان لا يحتاج إلى أن يقول: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ}؛ لأنهم كانوا على ما وصفهم اللّه بالشدة على غير المؤمنين بقوله: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ}، دل أن الزنا لم يخرجه عن الإيمان؛ فنهى ألا تأخذ بهما رأفة الأيمان والدِّين في تعطيل الحد أو تخفيفه. أو أن يكون النهي عن أخذ الرأفة؛ ليتحمل ذلك الحد، وإلا: لم ينتفع به في الآخرة، وهو ألا يعذب به؛ ألا ترى أنه قال: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}، وفائدته ما ذكرنا: أنه لا تأخذكم بهما رأفة في إضاعة الحد؛ لما يتأمل من النفع في الآخرة، نحو: من يشرب الأدوية الكريهة، ويفتصد، ويحتجم؛ لما يطمع البرء به والنفع؛ فعلى ذلك جائز أن يكون النهي عن أخذ الرأفة في حد الزاني؛ ليقام ذلك عليه؛ فينجو في الآخرة عن عذابه، واللّه أعلم. وقوله: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الطائفة: واحد واثنان فصاعدًا، وكذلك قالوا في قوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا}، هما رجلان اقتتلا؛ دل على ذلك قوله: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}، وهما اثنان في الظاهر، لكن أن ينضم إلى كل واحد منهما جماعة من عشيرته؛ فيكون الطائفة جماعة لا واحدًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ الطائفة: جماعة من العشيرة فصاعدًا. ثم يجب أن ينظر لأي معنى أمر أن يشهد عذابهما طائفة من بين سائر الإجرام؛ فهو - واللّه أعلم - يحتمل وجوهًا: أحدها: المحنة، أراد أن يمتحن من حضر ذلك، أو المرء قد يتألم على ضرب آخر، وما يحل لغيره؛ لينزجر عن مثله. والثاني: لانتشار الخبر في الناس؛ لينزجروا عن مثله. والثالث: لئلا يتعدى الضارب - والمقيم - ذلك الحد ويجاوزه على الحد الذي جعل له؛ فإن هو تعدى منعه من حضره عن المجاوزة والتعدي. والرابع: لدفع التهمة عن الحاكم؛ لئلا يتهمه الناس أنه إنما أقام عليه الحد بلا سبب كان منه، ولا جرم. فإن كان الأمر بشهود الطائفة عذابهما هذه الوجوه الثلاثة التي ذكرنا: من انتشار الخبر، ودفع التهمة عنه، ومنع المجاوزة، فالطائفة تحتاج أن تكون جماعة؛ لأن الواحد غير كافٍ لذلك. وإن كان الأول - وهو المحنة - فالواحد وما فوقه يكون يمتحن كلا في نفسه بحضور ذلك الحد؛ ليتألم به. وقد ذكرنا أن بعض أهل العلم قالوا: إنه يجمع مع الرجم والجلد؛ واحتجوا بما روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " الثيب بالثيب: جلد مائة ورجم الحجارة، والبكر بالبكر: جلد مائة وتغريب عام ": فأما الجلد فلا خلاف في أنه حد البكر، وأما النفي فمما اختلفوا فيه: فمنهم من رآه واجبًا، ومنهم من رآه عقوبة لهم يضم إلى الحد. ونحن قد ذكرنا المعنى في ذلك - إن ثبت - ما يغنينا عن تكراره، ونزيد -أيضًا- نكتة، وهي أن الحدود ذوو نهايات للمقدار وغايات، ولذلك سميت حدودًا؛ لأن لها نهاية وغاية، كما يقال: هذا حد فلان، وحد الدارين أنه منتهاها وآخرها، فلما لم يكن للنفي حد ينتهى الزاني إليه دل أنه ليس بحد؛ ولكن أراد به الوجوه التي ذكرنا، إما حبسًا كما يحبس الزاني حتى يحدث توبة، أو قطع الشَّين والذكر الذي يتحدث الناس به؛ لينسى ذلك ويترك، أو قطع الشهوات التي حملتهم على ذلك بذل السفر والغربة، أو أن كان ثم صار منسوخًا بما يشدد فيه الضرب، واللّه أعلم. وأما قول أصحابنا: يفهم أنه لم يكن الجلد عن الثيب إذا كان محصنًا؛ بقول النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث قال: " اغد يا أُنيسُ على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها "، ولم يذكر جلدًا. وذهبوا أيضًا إلى أن حديث ماعز بن مالك، لما رجمه النبي - عليه السلام - باعترافه، ولم يذكر جلدًا، وروي أن أبا بكر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال له - لما اعترف ثلاثًا -: " لو اعترفت في المرة الرابعة لرجمك "، ولم يقل: جلدك: علم أنه ينفي الرجم الجلد. وما روي عن عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه أمر برجم امرأة زنت، ولم يجلدها. وروي عن ابن عمر عن عمر مثله. إلى كل هذه الأخبار ذهب أصحابنا رحمهم اللّه، ويقولون: لا يجتمع على رجل في فعل واحد حدَّان: الجلد والرجم جميعًا؛ كما لا يجتمع في غيره من الإجرام في فعل واحد حدَّان أو عقوبتان. وقوله - عليه السلام -: " الثيب بالثيب: يجلد ويرجم " يحتمل الجلد جلد البكر المحصن، ويرجم ثيبًا آخر محصنًا، أو يجلد ثيبًا في حال ويرجم ثيبًا في حال، وقد ذكرنا هذه المسألة في سورة النساء. |
﴿ ٢ ﴾