٨والثاني: ما قال: (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللّه إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (٨) جعل الأيمان سبب درء الحد عنها؛ فإذا أبت ذلك لزم الحد. وعندنا أنه لا يحد بالإباء؛ لأنه ليس في الإباء ظهور الكذب؛ إذ ليس كل من أبى اليمين يظهر كذبه فيه؛ وإنما يحدّ لظهور كذبه في القذف، وهو لا يعلم، ولا يظهر بالإباء، وإنما حدّ في الأجنبية إذا لم يأت بأربعة شهداء؛ لأنه في الظاهر عند الناس كاذب؛ لأنه ليس بينه وبين الأجنبية سبب ولا معنى يبعثه على إظهار ما ذكر، وأمَّا فيما بينه وبين زوجته سبب ومعنى يحمله على إظهار ذلك، وهو الغيرة، فإذا كان كذلك فهو في قذف الزوجة في الظاهر صادق عند الناس؛ للسبب الذي ذكرنا؛ لأنه طالب حق قبلها؛ على ما روي: لا يوطئن فرشهن من يكره الأزواج؛ فلا يزال صدقه بإباء اليمين، وأما من قذف أجنبية فهو كاذب في الظاهر؛ لعدم السبب الحامل على إظهار ذلك الكذب، حتى يأتي ما يزيل الكذب وهو الشهود، وفي الزوجة: على الصدق، حتى يظهر بالأيمان؛ لذلك افترقا، ولأن الحد لا يقام بالإباء ألبتَّة. ولأن الأيمان لا تقابل بشهادة العدول بحال؛ ألا ترى أن من شهد عليه شاهدا عدلٍ بحق، فحلف هو بأيمان لم تقابل الأيمان بتلك الشهادة في سقوط الحق. وأما قوله: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللّه}: جائز أن يكون ذلك في تلك المرأة التي في أمرها نزلت الآية، علم رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كذبها بالوحي؛ ألا ترى أنه قال: إذا جاءت بكذا فهو لكذا، وإذا جاءت بكذا فهو لكذا، ثم إذا بها قد جاءت شبيها بالذي رميت به، فقال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لولا الأيمان لكان لي ولها شأن " كذبها؛ حيث قال: " لولا الأيمان لكان لي ولها شأن "، فدرأت تلك المرأة العذاب عنها بالأيمان. أو أن يكون العذاب الذي دُرئ عنها الحبس؛ إذ من قولنا: أيهما أبى اليمين حبس، حتى يشهد أربع شهادات باللّه، أو تقر بالزنا، أو يكذب نفسه؛ فدرأ الحبس عنها بالأيمان التي ذكر. وإنما لم يحد بالإباء؛ لأن الإباء لا تظهر الكذب كالإقرار، ولأن الإباء في الحقيقة إباحة. ولو أن إنسانًا أباح للحاكم أن يقيم عليه الحد لم يقم؛ فعلى ذلك هذا، أو لما يجوز أن يأبى عن الأيمان؛ صونًا لنفسه عن اللعن والغضب الَّذِي ذكر فلم يحدّ؛ لما ذكرنا. ثم مسألتان في هذا نذكرهما وإن لم يكونا في ظاهر هذه الآية: إحداهما: في إلحاق الولد أمه. والأخرى في تفريق الحاكم بينهما إذا تلاعنا. قال بعض أهل العلم: إذا فرغ الزوج من لعانه لحق الولد أمه، وإن لم تلتعن المرأة، والقياس في لحوق الولد ما قال أُولَئِكَ: إنه يلحق بفراغ الزوج من اللعان. والقياس في وقوع الفرقة: ما قال أصحابنا: إنه لا يقع إلا بعد فراغ الزوجين جميعًا وتفريق الحاكم بينهما؛ لأن الزوج إذا شهد أربع شهادات باللّه إنه لمن الصادقين قد ألزم امرأته الزنا في الظاهر؛ فإذا ظهر أن الولد ليس منه فجائز لحوقه بالأم بفراغه من اللعان. وأما الفرقة فإنها لا تقع بظهور الزنا؛ ألا ترى أن امرأة الرجل إذا زنت لا يقع بينهما الفرقة، وألا ترى أن دعوى المرأة باقية بعد فراغ الزوج من أيمانه؛ لذلك افترقا. والأخبار تدل لمذهب أصحابنا في المسألتين جميعًا؛ لأنه روي عن نافع، عن ابن عمر - رضي اللّه عنهما - أن رجلا لاعنَ امرأته في زمان رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وانتفى من ولدها؛ ففرق رسول اللّه بينهما، وألحق الولد بالمرأة. وعن ابن عَبَّاسٍ أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما لاعن بينهما فرق بينهما. وروي في الأخبار: أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال لهما: " اللّه يعلمُ أن أحدَكما كاذب؛ فهل منكما تائب؟ "، قال ذلك لهما ثلاثًا، فأبيا؛ ففرق بينهما. وفي بعض الأخبار قال: " حسابُكما على اللّه، أحدُكما كاذب، لا سبيلَ لكَ عليها ". فَإِنْ قِيلَ: إنما فرق بينهما النبي؛ لأن الفرقة قد وقعت بينهما؛ فأخبره النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه لا تحل له، وقال: " لا سبيل لك عليها ". قيل: قولكم: إن الفرقة قد وقعت بينهما باللعان دعوى منكم، وظاهر الأخبار يشهد لنا وعلى وهم الخصم. ثم يقال لهم: ألستم تقولون في الْمُولي إذا مضت مدته فارتفعا إلى الحاكم: هل تقع الفرقة بينهما إذا امتنع من قربانها وطلاقها ما لم يقل القاضي: قد فرقت بينكما؟! فَإِنْ قِيلَ: فرقة الإيلاء طلاق وفرقة اللعان غير طلاق عندنا. قيل: هما عندنا طلاق. فَإِنْ قِيلَ: إنكم تزعمون أن فرقة الإيلاء تقع بمضي الأجل؛ فما منع أن يقع الفرقة باللعان بتمام اللعان؟! قيل: لم يكن للحاكم في الإيلاء صنع؛ فلا يحتاج إلى حكمه، وفي الآخر: لا يتم اللعان إلا بالقاضي؛ فلا تقع الفرقة إلا بالقاضي. ويقال لهم: ما تقولون في رجل ادعى حقًّا فأقام عليه شاهدين عند قاض: هل يلزم الحكم قبل أن يقول القاضي: قد حكمت بذلك؟ فإن قالوا: لا يلزم الحكم حتى يقول: قد حكمت؛ فيقال: ما منع أن يكون اللعان مثله؟! ويقال لهم أيضًا: ما تقولون في العنين: أجَّله الحاكم أيفرق بينهما؟ فإن قالوا: لا تقع حتى يفرق الحاكم بينهما، قيل: ما منع في فرقة اللعان أنه كذلك؟! فإن قالوا: إنما صارت الفرقة لا تقع في العنين والمولى حتى يوقعها الحاكم، يقول: طلقها أو [فيء] إليها، ويقول لامرأة العنين: اختاري في الفرقة أو المقام معه؛ فلما كان الحاكم ينتظر ما يقول المولي وامرأة العنين، لم تقع الفرقة حتى يوقعها، وليس في اللعان شيء ينتظره الحاكم؛ لذلك افترقا. فقيل: بل ينتظر الحاكم تكذيب المرأة نفسها؛ فيحدها وتكون امرأته، وكذلك إن أكذب الزوج نفسه حده وترك عنده امرأته. وأصله أنه لا تقع الفرقة إلا بعد التعانهما جميعًا وتفريق الحاكم بينهما؛ لأنهما إذا التعنا جميعًا عند ذلك يكون أحدهما ملعونًا أيهما كذب، والانتفاع بالملعون حرام؛ ألا ترى أنه روي في الجبر أنها موجبة، أي: اللعنة التي ذكرت؛ فإنما يلحق اللعن أحدهما إذا التعنا جميعًا، فأما بالتعان الزوج خاصة فلا يقع؛ فإذا كان كذلك فيحتاج إلى أن يفرق الحاكم بينهما ويطرد أحدهما من صاحبه؛ إذ اللعن هو الطرد في اللغة، وهو عندنا كالعقود التي تفسخ: لا يكون إلا بالحاكم، نحو ما ذكرنا من العنين، والذي يأبى الإسلام، وغيرها من العقود؛ فإنه لا يقع بينهما الفرقة إلا بالحاكم؛ فعلى ذلك هذا. وروي عن عمر أنه قال: المتلاعنان يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدًا. ثم مسألة أخرى: أنه إذا فرق بينهما باللعان فأكذب الملاعن نفسه: يجوز له أن يتزوجها أم لا؟ فعند بعض أهل العلم: ليس له أن يتزوجها؛ احتجوا بما روي عن عمر وعلي - رضي اللّه عنهما -: " المتلاعنان لا يجتمعان أبدًا "، وعن عبد اللّه كذلك. وعند أبي حنيفة ومُحَمَّد - رحمهما اللّه -: له أن يتزوجها إذا أكذب نفسه، وليس في الخبر: " لا يجتمعان أبدا "، وإن تاب وأكذب نفسه فجائز أن يكون قوله: " لا يجتمعان أبدا " ما داما في تلاعنهما وما أقام على قوله ولم يكذب نفسه، وإن كان فيه حجة لمن قال إذا قال: " لا يجتمعان " قبل التوبة وبعدها، يدل على ما ذكرنا قوله: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا}، وقوله: {وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} ما داموا في ملتهم، فأمَّا إذا انقلعوا منها فقد أفلحوا؛ فعلى ذلك: لا يجتمعان أبدا ما داموا في تلاعنهما وما أقام الزوج على قوله، فأمَّا إذا رجع عن ذلك لهما الاجتماع، واجتمعوا: أنه إذا أكذب نفسه وادعى الولد ألحق به؛ فعلى ذلك هي. والثاني: لو أكذب الزوج نفسه بعد اللعان قبل الفرقة، وجب أن يحدّ، ويكونان على نكاحهما، فيجب إذا أكذب نفسه بعد اللعان فجلد - فله أن يتزوجها. ثم فرقة اللعان عندنا طلاق، وهي تطليقة بائنة؛ لما روي أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما لاعنَ بين عويمر وامرأته - قال: " كذبت عليها إن أمسكتها؛ هي طالق ثلاثا "؛ فصارت سنة في المتلاعنين، فإذا كانت سنة الفرقة بين المتلاعنين الطلاق الذي أوقعه عويمر؛ فواجب أن يكون كل فرقة تقع باللعان: طلاقا. ومن الدليل على ذلك أن قذف الزوج كان سبب هذه الفرقة، وكل فرقة تكون من الزوج، أو أن يكون الزوج سببها، وتقع بقوله فإنها طلاق: كالعنين، والخلع، والإيلاء ونحوه؛ فعلى ذلك فرقة اللعان تطليقة بائنة؛ لأن الزوج سببها وتقع به، وعلى ذلك جاءت الآثار عن السلف أن كل فرقة وقعت من قبل الرجال بقول، فهي طلاق، من نحو إبراهيم، والحسن، وسعيد وقتادة وهَؤُلَاءِ، وكذلك يقول أصحابنا: إن كل فرقة جاءت من الرجال بقول - فهي تطليقة. فإن عورض بأفعال تكون من الرجال، فثقع بها الفرقة والحرمة: من نحو الجماع ونحوه - فذلك ليس بمعارضة لما ذكرنا، واللّه أعلم. |
﴿ ٨ ﴾