سُورَةُ الْفُرْقَانِ

كلها مَكِّيَّة

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {تَبَارَكَ}: قال أهل التأويل: تبارك من التفاعل، وهو من تعالى؛ لأن البركة هي اسم كل رفعة وفضيلة وشرف، فكان تأويله: تعالى من التعالي والارتفاع.

وقال أهل الأدب: تبارك: هو من البركة، والبركة هي: اسم كل فضل وبر وخير، أي: به نيل كل فضل وشرف وبر.

قال أَبُو عَوْسَجَةَ: {تَبَارَكَ} هو تنزيه؛ مثل قولك: تعالى.

وقال الكسائي والْقُتَبِيّ: هو من البركة؛ وهو ما ذكرنا.

وقوله: {نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ}: سماه؛ فرقانا؛

قَالَ بَعْضُهُمْ: لأنه يفرق بين الحق والباطل، وبين الحلال والحرام، وبين ما يؤتى وما يتقى؛ وعلى هذا جائز أن يسمى جميع كتب اللّه التي أنزلها على رسله فرقانًا؛ لأنها كانت تفرق بين الحق والباطل، وبين ما يحل وما يحرم، وبين ما يؤتى وما يتقى؛ ولذلك سمى التوراة: فرقانًا بقوله: {وَلَقَدْ آتَينا مُوسَى وَهَارُونَ الفُرقَانَ}.

وأما القرآن: هو من قرن بعضه إلى بعض؛ يقال: قرنت الشيء إلى الشيء إذا ضممته إليه، قرن يقرن قرنا.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: سمي القران: فرقانا؛ لأنه أنزل بالتفاريق مفرقا، وسائر الكتب أنزلت مجموعة، لكن الوجه فيه ما ذكرنا بدءًا، وهو أقرب وأشبه.

وقوله: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}: جائز أن يكون قوله: {لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}، أي: القرآن الذي أنزله على عبده يكون نذيرًا لمن ذكر.

ويحتمل قوله: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} أي: ليكون مُحَمَّد بالقرآن الذي أنزل عليه نذيرًا؛ كقوله: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ}؛ وكقوله: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}، أي: من بلغه القرآن من الخلق فرسول اللّه نذيره.

ثم قوله: {لِلْعَالَمِينَ} جائز أن يراد به الإنس والجن.

ثم ذكر النذارة فيه ولم يذكر البشارة، فإن كان على هذا فهو حجة لأبي حنيفة - رحمه اللّه - أن ليس للجن ثواب إذا أسلموا سوى النجاة من العقاب، ولهم عقاب بالإجرام؛ لأن اللّه - تعالى - لم يذكر لهم الثواب في الكتاب، وذكر لهم العقاب بالعصيان؛ حيث قال: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللّه وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ. . .} الآية، جعل ثوابهم نجاتهم من عذاب أليم.

وجائز أن يكون في النذارة بشارة -أيضًا- ما كان وما يكون إلى يوم القيامة؛ لأنهم إذا اتقوا مخالفة اللّه ومعاصيه كانت لهم العاقبة، فلهم بشارة في ذلك ونذارة؛ كقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}.

٢

وقوله: (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... (٢) جائز أن يكون قوله: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وصلة قوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْفَانَ}، ووجهه - واللّه أعلم - أي: تعالى عن أن يكون النذير الذي بعثه فيهم، إنما بعثه لحاجة نفسه لجر منفعة إليه، أو لدفع مضرة عنه على بعث ملوك الأرض من الرسل لحوائج أنفسهم: لجر النفع إليهم، أو لدفع مضرة عنهم، ولكن إنما يبعث النذير والبشير إلى الخلق لمنافع أنفسهم؛ إذ لا يحتمل أن يكون من له ملك السماوات والأرض أن يبعث النذير والبشير لمنافع نفسه ولحاجته؛ لغناه، وأما ملوك الأرض لا يملكون ذلك؛ فلذلك ما يرسلون ويبعثون من الرسل إنما يبعثون ويرسلون لمنافع أنفسهم وحوائجهم؛ لدفع مضرة أو جر منفعة.

وجائز أن يكون قوله: {تَبَارَكَ} أي: تعالى عن أن يتخذ ولدا أو شريكًا في الملك على ما نسبوا إليه من الولد والشريك، فقال: تعالى عن أن يكون له الولد أو الشريك؛ إذ له ملك السماوات والأرض، فالولد في الشاهد إنما يتخذ لإحدى خلال ثلاث؛ وقد ذكرناها.

وبعد: فإن الولد في الشاهد إنما يكون من جنس الوالد ومن جوهره، ويكون من أشكاله، وكل ذي شكل وجنس يكون فيه منقصة وآفة؛ وكذلك الشريك إنما يكون من جنسه ومن شكله، وإنما يقع الحاجة إلى الولد إما لعجز أو آفة، فإذا كان اللّه سبحانه له ملك السماوات والأرض وهو خالقهما - فأنى يقع له الحاجة إلى الولد والشريك؟!

وقوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ}: فيه دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأنه أخبر أنه خلق كل شيء، وعلى قولهم أكثر الأشياء لم يخلقها من الحركات والسكون والاجتماع والتفرق وجميع الأعراض؛ لأنهم يقولون: إنها ليست بمخلوقة للّه ولا صنع له فيها.

وقوله: {فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}: جائز أن يكون قوله: {فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} لحكمة أو {فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} لوحدانية اللّه وألوهيته، أو {فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} أي: جعل له حدًّا لو اجتمع الخلائق على ذلك ما عرفوا قدره ولا حده من صلاح وغيره ما لو لم يقدر ذلك لفسد.

٣

وقوله: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ... (٣) أي: معبودا.

ثم تسميته إياها -أعني: الأصنام التي عبدوها-: آلهة على ما عندهم وفي زعمهم: أنها آلهة؛ والإله عند العرب المعبود، يسمون كل معبود إلها؛ وكذلك قوله: {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ}، عندهم وفي زعمهم، وقول موسى: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا}، في زعمهم وعندهم أن كل معبود إله، وإلا قد عابهم بتسميتهم الأصنام: آلهة.

ثم بين سفههم وقلة فهمهم في عبادتهم الأصنام وتسميتهم إياها: آلهة؛ حيث قال: {لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ}، أي: يتركون عبادة من يعلمون أنه خالق كل شيء، ويعبدون من يعلمون أنهم لا يخلقون وهم يخلقون، ويتركون عبادة من يعلمون أنه يملك النفع والضر لأنفسهم أيضًا، وهو قوله: {وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} لغيرهم؛ فعلى هذا الظاهر يجيء أن يكونوا هم سموا أنفسهم: آلهة لا الأصنام؛ لأنهم يملكون ضرر الأصنام ونفعها، والأصنام لا تملك ذلك لهم ولا لأنفسها.

وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: {وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا} أي: الموت الذي كان قبل أن يخلق الناس، كقول اللّه تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّه وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا}.

وأما قوله: {وَلَا حَيَاةً} يقول: لا يملكون أن يزيدوا في هذا الأجل المؤجل، {وَلَا نُشُورًا} أي: بعثًا بعد الموت.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا يملكون أن يميتوا حيًّا قبل أجله، {وَلَا حَيَاةً}: ولا يحيون ميتًّا إذا جاء أجله، {وَلَا نُشُورًا}، أي: بعثا، على ما ذكرنا، وباللّه العصمة.

٤

وقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ} يعنون هذا القرآن الذي أنزل على رسوله، وكان يقرؤه عليهم، يقولون: ما هذا إلا إفك -أي: كذب- افتراه من تلقاء نفسه ويخترعه من نفسه.

إن أهل الشرك كانوا يكذبون الأنباء والأخبار من غير أن كانت لهم أسباب التي بها ما يوصل إلى معرفة صدق الأخبار وكذبها، وذلك كانت عادتهم وهِمَّتهم، والأسباب التي يعرف بها صدق الأخبار وكذبها هي الكتب السماوية والرسل التي نطقوا عن وحي السماء، فكفار مكة لم يكن لهم واحد من هذين، فكيف ادعوا على رسول اللّه اختلاق هذا القرآن واختراعه من نفسه، وأنه مفترى، على غير كون أسباب معرفة الكذب والصدق لهم في الأخبار، مع ما ظهرت لهم آيات رسالته وأعلام صدقه في الأخبار؛ حيث لم يؤخذ عليه كذب قط، ولا رأوه اختلف إلى أحد من أهل الكتاب، ولا كان يحسن أن يخط بيده كتابًا، وما قرع أسماعهم من أول الأمر إلى أَخر الأبد قوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ}

وقوله: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ}، فدل عجزهم وترك تكلفهم ذلك على أنهم عرفوا أنه من عند اللّه، وأنهم كذبة في قولهم: إنه إفك مفترى.

وقوله: {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ}، وقالوا: إنه إفك مفترى، وأعانه على ذلك قوم آخرون في افترائه واختراعه، وهم قوم من أهل الكتاب أسلموا، وقد كانوا يجدون في التوراة والإنجيل نعته وصفته، وما كان أنبأهم رسول اللّه ويخبرهم من الأنباء المتقدمة والأخبار الماضية، فأخبروهم بذلك حين سألهم أُولَئِكَ المشركون عما يخبرهم رسول اللّه، وقالوا: إنه كما يقول، وإنه صادق في ذلك كله، وإنا نجد ذلك في كتابنا، فلما سمعوا ذلك من أهل الكتاب ما سمعوا من تصديقهم إياه - عند ذلك قالوا: ({وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ}.

٥

ثم أخبر أنهم {فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا}، أما قوله: {ظُلْمًا} لأنهم كذبوه، وقالوا: إنه مفترى من غير أن كان لهم أسباب الكذب والصدق، فهو ظلم؛ حيث وضعوا ذلك في غير موضعه. وأما قوله: {وَزُورًا} لأنهم قالوا: إنه مختلق، وإنه سحر، وإنه {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ}، وإنه {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ}، وإنه (أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٥) قد ظهر كذبهم بهذا فيما بينهم؛ لأنهم متى رأوه اختلف إلى واحد منهم يعلمه ذلك؟! أو متى رأوه كتب شيئًا قط أو يحسن الكتابة قط؟! وقولهم: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}؟!

فإذا عرف تلك الأنباء والأحاديث التي كانت من قبل -ولا شك أنها لم تكن بلسانه، وإنما كانت بلسان أُولَئِكَ- دل إخباره عما في كتبهم بلسانه أنما عرف ذلك باللّه تعالى.

وقوله: {فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} وقال أهل التأويل: غدوًّا وعشيًّا، فلو كان على ذلك لكان يحضرونه في البكرة والعشي، فيسمعون ويشاهدون ما يملى عليه؛ إذ الوقت وقت الحضور، ولكن -عندنا- كأنهم أرادوا بالبكرة والعشيّ: أول الليل وآخره، الأوقات التي هي ليست بأوقات الحضور والجلوس، يقولون: يأتونه سرًّا فتملى عليه ويعلمه، فلو كان ذلك أيضًا لكانوا يراقبونه ويحافظونه سرًّا؛ ليعرفوا ذلك ويشاهدوه، فإذا لم يفعلوا ذلك دل أنهم كانوا يعرفون صدقه، وأنهم كذبة في زعمهم، لكنهم كابروه وعاندوه في ذلك.

٦

ثم أخبر أنه إنما أنزل عليه الذي يعلم السر في السماوات والأرض؛ حيث قال: (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (٦) ليس بمختلق منه ولا مفترى، ثم قوله: {يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: يعلم الأعمال الخفية والسرية من أهل السماوات والأرض، أي: يعلم الكوائن التي في السماوات والأرض وخفياتها.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ} أي: قل لهم يا مُحَمَّد: أنزله - أي: هذا القرآن - الذي يعلم السر؛ وذلك أنهم قالوا بمكة سرًّا: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}، فإنه بشر مثلكم، بل هو ساحر {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ}، ففي ذلك دلالة إثبات رسالته؛ لأنهم قالوا سرًّا فيما بينهم ثم أخبرهم بذلك، دل أنه باللّه عرف ذلك.

وقوله: {إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} في تأخير العذاب عنهم، {رَحِيمًا} حين لا يعجل عليهم بالعقوبة إذا تابوا ورجعوا عن التكذيب إلى التصديق على ما ذكرنا.

وقوله: {إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} في تأخير العذاب، يحتمل قوله: {غَفُورًا رَحِيمًا} إذا تابوا عن ذلك وآمنوا به ورجعوا إلى الحق، أو غفور رحيم لا يعجل بالعقوبة أي: برحمته وفضله لا يعجل بعقوبتهم؛ لعلهم يتوبون.

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: " تبارك " مشتق من البركة، وكذلك قال الكسائي، وقد ذكرنا ذلك.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: تنزيه، مثل قولك: " تعالى "، على ما ذكرنا،

وقال: الفرقان هو الحق؛ فرق بين الحق والباطل، والقرآن: هو من قَرْنِ بعض إلى بعض، والزبور: هو اسم كتاب، والزُّبُر: جميع، وزبرت: كتبت، والزبَر: قطع الحديد، كقوله: ({آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ}، الواحد: زبْرة، والتوراة: اسم كتاب لا أظنه بالعربية.

قال أبو معاذ: الأساطير: الأحاديث، واحدها: أسطورة، كأرجوزة وأراجيز، وأحدوثة وأحاديث، وأعجوبة وأعاجيب.

وفي حرف حفصة: (فهي تُمَلُّ عليه)، وهما لغتان، وفي سورة البقرة: {أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ}.

٧

وقوله: (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (٧) كان الكفرة يطعنون رسول اللّه بشيئين:

أحدهما: أنه من البشر؛ بقولهم: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}، و {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا}، كانوا لا يرون أن يكون من البشر رسول كقوله: {لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ} الآية، وقو لهم: {لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا}، ونحو ذلك.

والثاني: كانوا يطعنون بالفقر والحاجة وصفارة اليد؛ حيث قالوا: {أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ}، وحيث قالوا: {يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} كأنهم ينكرون الرسالة في الفقراء وذوي الحاجة، ويرونها في ذوي الملك والأموال؛ ولذلك قالوا: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}، فعلى ذلك قولهم: {يَأْكُلُ الطَّعَامَ} كما يأكل الفقراء، {وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} وفي حوائجه كما يمشي الفقراء، ولو كان رسولًا لكان ملكًا غنيًّا يأكل طعام الملوك، لا يقع له الحاجة إلى أن يمشي في الأسواق في حوائجه.

فأجاب لهم في طعنهم فيه أنه بشر مثلهم، وإنكارهم الرسالة في البشر بوجوه:

أحدها: قول: {لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ}، قال: {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ} الآية، معناه - واللّه أعلم -: أنه لا ينزل الملك إلا بالعذاب، فلو أنزل لأنزل بالعذاب فأهلكوا.

والثاني: ما قال: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا}، تأويله - واللّه أعلم -: أنه لم يجعل في وسع البشر رؤية الملك على صورته وعلى ما هو عليه؛ إذ جنس هذا غير جنس أُولَئِكَ، وجوهرهم غير جوهر أُولَئِكَ، ولو جعلناه هكذا كنا لبسنا ما كان

يلبس أُولَئِكَ القادة على الأتباع؛ كقولهم: إنه ساحر وإنه كذاب وإنه مجنون؛ فكان في ذلك تلبيس عليهم.

والثالث: ما قال: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ. . .} الآية، أي: لو كان أهل الأرض ملائكة لكنا أنزلنا عليهم الرسول ملكا من جنسهم وجوهرهم؛ لأنهم أعرف به وأظهر صدقًا عندهم ممن هو من غير جوهرهم وجنسهم، فإذا كان أهل الأرض بشرًا فالرسول إذا كان منهم، فهم أعرف به وصدقه أظهر عندهم، وقلوبهم إليه أميل لا إلى من هو من غير جنسهم.

وأجاب لطعنهم في أكله ومشيه في الأسواق حيث قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ}، في حوائجهم، أي: غيره من الرسل الذين تؤمنون أنتم بهم كانوا فقراء، يأكلون الطعام ويمشون في حوائج أنفسهم، ثم لم يمنع ذلك عن أن يكونوا موضعًا لرسالته؛ فعلى ذلك مُحَمَّد، والفقير وذو الحاجة أحق أن يكون موضعًا لرسالته من الغني الثري؛ لأن الناس يتبعون الغني ومن له الملك والثروة، فلو كان الرسول غنيًّا مثريًّا لكان لا يظهر متبع الحق من غيره، وإذا كان فقيرًا محتاجًا لظهر ذلك، اللّهم إلا أن يكون ملكًا هو آية الرسالة نحو ملك سليمان وداود، وذلك لنفسه آية لرسالته على ما قال: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي}، واللّه أعلم.

٨

وقوله: {لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا}: كأنهم قالوا ذلك لما نزل قوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}، قالوا عند ذلك: {لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ}، وقالوا: (أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا (٨) عند سماع قوله: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، أي: قالوا: لو كان مُحَمَّد رسول اللّه من له ملك السماوات والأرض ونذيرًا للعالمين على ما يقول، لكان أنزل معه ملك نذيرًا، ولكان أعطي هو كنزًا أي: مالا أو تكون له جنة يأكل منها على ما يكون لرسل ملوك الأرض.

لكن الجواب لهم ما ذكرة {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ. . .} الآية، أي: لو شاء أعطاك خيرًا مما يقولون من البنيان والقصور على ما أعطى غيرك، لكن ليس فيما يمنع منقصة لك، ولا فيما أعطاهم فضيلة.

وقوله: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ} أي: ما تتبعون، {إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا}: لا تزال عادتهم بنسبة الرسول إلى السحر والجنون والكذب.

٩

وقوله: (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (٩) فتأويله - واللّه أعلم - أي: انظر إلى

سفههم أن كيف ضربوا لك الأمثال، وشبهوك بها؛ نسبوك مرة إلى السحر وقالوا: إنك ساحر، ومرة إلى الجنون وقالوا: إنك مجنون، ومرة إلى الشعر وقالوا: إنك شاعر، ومرة إلى الكذب حيث قالوا: بل هو كذاب أشر، ونحو هذا مما كانوا ينسبونه إليه، فيقول - واللّه أعلم -: انظر إلى سفههم أن كيف ضربوا لك الأمثال ونسبوك إلى ما ذكروا، على علم منهم أنك لست كذلك ولا على ذلك، وأنك على الحق وهم على باطل وكذب.

أو أن يكون قوله: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ} وما قالوا: (لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (٧) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا) وأمثال ما سألوا، فيقولون: لو كان ما يقول إنه رسول، لكان ذلك له أعلام الرسالة وأمارات صدقه، فيخبر أن الأعلام والآيات ليست تأتي على شهوات سؤال المعاندين وأمانيهم، ولكن إنما تجيء على ما توجبه الحكمة، مما يدل على صدق ما ادعى ويظهر كذب من عاند وتولى، وقد أتاهم مُحَمَّد صلوات اللّه عليه وسلامه بحجج وبراهين ما أظهر لهم صدق ما ادعى من الرسالة والنبوة، لكنهم عاندوها وكابروا، فلم يقروا بها خوفًا أن يذهب عنهم رياستهم.

وقوله: {فَضَلُّوا} لا شك أنهم قد ضلوا عن الهدى، أي: عدلوا بضربهم الأمثال له، ونسبتهم إياه إلى ما نسبوه إليه؛ فلا يستطيعون سبيلا إلى الهدى أو إلى ما سألوا من الأشياء.

وفي حرف حفصة: (فلا يهتدون سبيلا).

وقَالَ بَعْضُهُمْ: فلا يستطيعون مخرجًا من الأمثال التي ضربوها لك، واللّه أعلم.

١٠

وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ} قد ذكرنا أنه خرج جواب ما سألوه من الأشياء: من الملك والكنز والجنة وأنواع الطعن الذي طعنوه، أي: لو شاء لأعطاك

خيرًا من ذلك.

١١

ثم أخبر أن الذي حملهم على ذلك السؤال وأنواع الطعن فيه هو تكذيبهم بالساعة؛ حيث قال: (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ ... (١١) هو حيث لم يروا لأمورهم عاقبة ينتهون إليها؛ يثابون عليها أو يعاقبون.

ثم أخبر ما أعدّ لهم بتكذيبهم الساعة فقال: {وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا}.

١٢

ثم وصف ذلك السعير فقال: (إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (١٢)

وقوله: {رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}: يحتمل وجهين:

 أحدهما: يجعل لها أسبابًا تراهم كما يرونها. والثاني إذا صاروا في مكان بحيث يرونها كأنها رأتهم.

١٣

وقوله: (وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (١٣) قيل: إن النار ترفع ويعلو لهبها، وترد من كان في أعلاها إلى أسفلها، ويرد من كان في أسفلها إلى أعلاها، فيجمعهم جميعًا فيضيق عليهم المكان ويشتد بهم العذاب، كلما ضاق عليهم المكان كان العذاب لهم أشد.

وقوله: {مُقَرَّنِينَ}:

قَالَ بَعْضُهُمْ: مقيدين بعضهم ببعض.

ثم

قَالَ بَعْضُهُمْ: الشيطان يقرن، وَيقَتدُ كل بشيطانه الذي دعاه إلى دعائه واتبعه؛ كقوله: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا. . .} الآية.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: يقرن العابد والمعبود من دون اللّه، وهو الأصنام التي عبدوها؛ كقوله: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا. . .} الآية.

وقوله: {دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} أي: هلاكا، والثبور: الهلاك؛ كقوله: {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} أي: هالكًا.

١٤

والثبور والويل: هما حرفان يدعو بهما كل من كان في الهلكة والشدة، فقال: (لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (١٤) أي: لا تدعوا هلاكًا واحدًا؛ كما يكون في الدنيا أن من هلك مرة لا يهلك ثانيًا، وأما في النار فإن لأهلها هلكات لا تحصى؛ كقوله: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} أي: أسباب الموت تأتيهم من كل مكان وما هو بميت؛ وكقوله: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ. . .} الآية.

وإنما يسألون ويدعون بالهلاك لما يرجون من الهلاك النجاة من ذلك العذاب؛ وهكذا كل من ابتلي ببلاء شديد يتمنى الهلاك والموت.

١٥

قوله تعالى: (قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (١٥) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (١٦)

وقوله: {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ}: يشبه أن يكون قال هذا لقولهم: (لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (٧) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا، فيقول: أذلك الذي سألتموه أنتم خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون؟! أو يكون قال ذلك لهم لما رأوا لأنفسهم الفضل والمنزلة في الدنيا؛ لما وسع عليهم الدنيا وأعطوا من حطامها، فقال: أذلك الذي أعطيتم في الدنيا من السعة خير، أم جنة الخلد التي أعطي المتقون؟! واللّه أعلم.

١٦

وقوله: (لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (١٦) يحتمل قوله: {وَعْدًا مَسْئُولًا} مما سألته لهم الملائكة؛ كقوله: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ. . .} الآية، وسؤال الرسل؛ كقوله: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ. .} الآية، أو وعدًا مسئولا مما سألوا ربهم، فوعد لهم ذلك؛ فهذا يدل أنهم إنما يدخلون الجنة بالسؤال والتشفع لهم والتضرع، لا أنهم يستوجبون ذلك بأعمالهم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ}: في السلاسل وذلك أنهم إذا ألقوا فيها تضايق عليهم كتضايق الزج في الرمح، فالأسفلون يرفعهم اللّهب، والأعلون يخفضهم اللّهب، فيزدحمون في تلك الأبواب الضيقة فضايق عليهم، فعند ذلك يدعون بالثبور؛ يقولون: يا ثبوراه ويا ويلاه.

وروي مثله عن عبد اللّه بن عمر، وكان يقول: إن جهنم لتضيق على الكافر كضيق الزج في الرمح.

وقوله: {دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} يقول: ويلا وهلاكا، قال اللّه تعالى: {لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا}: ثم قيل: {أَذَلِكَ خَيْرٌ} يعني: الذي ذكر، {أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً} لأعمالهم، {وَمَصِيرًا} هو أي: منزلا.

قال أَبُو عَوْسَجَةَ: التغيظ: من الغيظ، والزفير: الشهيق يكون في الحلق، وشهق يشهق شهيقًا وشهقا، وهو نفس في الحلق شديد له صوت.

وقال: {ثُبُورًا} أي: إهلاكا، وصرفه: ثبر يثبر ثبرا وثبورا، فهو ثبور.

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: {تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا}، أي: تغيظًا عليهم؛ كذلك قال المفسرون.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: بل يسمعون فيها تغيظ المعذبين وزفيرهم واعتبروا ذلك بقول اللّه تعالى: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ}، واعتبره الأولون بقوله: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} هذا أشبه التفسيرين إن شاء اللّه؛ لأنه قال: {سَمِعُوا لَهَا}، ولم يقل: سمعوا فيها، ولا منها.

وقال: {ثُبُورًا} أي: بالهلكة؛ كما يقول القائل: واهلاكاه، واللّه أعلم.

١٧

وقوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} اختلف فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: نحشر أُولَئِكَ الذين عبدوا دون اللّه والمعبودين وهم الملائكة؛ لأن من العرب من قد عبدوا الملائكة؛ كقوله في آية أخرى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ. . .) الآية.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو عيسى يحشر بينه وبين من عبدوه؛ لأنه قد عبد دون اللّه فيقول له ما ذكر؛ كقوله: {وَإِذْ قَالَ اللّه يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ. . .} الآية.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: يحشر الأصنام ومن عبدها، ثم يأذن لها في الكلام فيقول: {أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ}؛ كقوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ} إلى قوله: {إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ}، ولو كان عيسى - عليه السلام - أو الملائكة لكانوا عالمين بعبادتهم إياهم غير غافلين؛ دل ذلك أنها الأصنام التي عبدوها دون اللّه وإياها يسألون.

وكل ذلك محتمل؛ إذ قد كان منهم ذلك كله، واللّه أعلم.

وقوله: {فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ}: واللّه - عَزَّ وَجَلَّ -

كان عالمًا لما كان منهم، لكن السؤال إياهم - واللّه أعلم - يخرج مخرج توبيخ أُولَئِكَ الكفرة وتعييرهم؛ لأنهم يعبدون من ذكر من دون اللّه، ويقولون: هم أمروهم بذلك، وكانوا مقبولي القول عندهم صادقين فيما يخبرون ويقولون، فأراد أن يظهر كذبهم عند الخلائق؛ لذلك سألهم، واللّه أعلم بالكائن منهم من أنفسهم، لكنه يخرج على ما ذكرنا.

ثم نزهوه عن جميع ما لا يليق به، وبرءوا أنفسهم عن أن يكون منهم أمر أو شيء مما نسبه أُولَئِكَ إليهم، وهو أعلم بهم

١٨

 فقالوا: (سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (١٨) قال أهل التأويل: {أَوْلِيَاءَ} أي: أربابًا، وهم لم يتخذوا أربابا من دونه، لكنه عندنا يخرج على وجهين:

أحدهما: ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونه أولياء هم المؤمنون.

الثاني: أو أن يكون: ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دون ولايتك ولاية سواك.

وفي بعض القراءات: (أن نُتَّخَذَ من دونك أولياء) برفع النون، لكن أهل الأدب يقولون: هو خطأ.

وقوله: {وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ}: هذا يحتمل وجهين:

أحدهما: أن آباءهم قد أمهلوا ومتعوا في هذه الدنيا، حتى ماتوا على ذلك من غير أن أصابهم شيء مما أوعدوا في كتابهم، ومما أوعدهم الرسل من العذاب والهلاك على ما اختاروا من الدِّين وصنيعهم، فظنوا أنهم على حق من ذلك؛ حيث لم يصبهم من المواعيد المذكورة في كتابهم، أو ما أوعدهم رسلهم بشيء؛ فعلى هذا التأويل الذكر: الذي نسوه هو كتابهم، أو ما أوعدهم رسلهم، واللّه أعلم.

فإن كان على هذا فالآية في أهل الكتاب منهم.

ويحتمل أن تكون الآية في الفراعنة، والقادة من هَؤُلَاءِ الكفرة متعوا في هذه الدنيا بأحوال ورياسة، ووسع عليهم المعيشة، حتى دعوا الناس وأتباعهم إلى ما هم عليه من التكذيب برسوله وما أنزل عليه، فأجيبوا بالأموال عندهم، فنسوا ما في القرآن من الوعيد.

{وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا} والبور:

قَالَ بَعْضُهُمْ: الهلاك.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: البور: الفساد.

١٩

وقوله: (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (١٩) أي: فقد كذبكم أُولَئِكَ، {بِمَا تَقُولُونَ}: أنهم أمرونا بذلك، وكانوا عندهم صدقة.

وقوله: {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا}: هذا يحتمل وجوها:

أحدها: أي: ما يستطيع أُولَئِكَ الكفرة صرف قول من عبدوهم وتكذيبهم حين كذبوهم في قولهم.

{وَلَا نَصْرًا} أي: ولا استطاعوا الانتصار منهم حين كذبوهم؛ وعلى ذلك يخرج قراءة من قرأه بالتاء: {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا}.

والثاني: يحتمل: (فما يستطعون) أُولَئِكَ المعبودون صرف عذاب اللّه ونقمته عنكم، ولا كانوا لهم نصراء؛ لأنهم قالوا: {هَؤلَآءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّه}، و {مَا نعبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى}.

والثالث: {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا} أي: فداء، {وَلَا نَصْرًا} أي: لا يقبل منهم الفداء، ولا كان لهم ناصر ينصرهم في دفع العذاب عنهم؛ كقوله: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ}.

وقَالَ الْقُتَبِيُّ وأَبُو عَوْسَجَةَ:

قَالَ بَعْضُهُمْ: الصرف: النافلة، سميت صرفًا لأنها زيادة على الواجب، والعدل: الفريضة. وقد روي في الخبر: " من طلب صرف الحديث ليبتغي به إقبال وجوه الناس، لم يرح رائحة الجنة " أي: من طلب تحسينه بالزيادة فيه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الصرف: الدية، والعدل: رجل مثله؛ كأنه يريد: لا يقبل منه أن يفتدي برجل مثله وعدله، ولا يصرف عن نفسه بديته، ومنه قيل: صارفي، وصرف الدرهم بالدنانير؛ لأنك تصرف هذا إلى هذا، وأصله ما ذكرنا.

قَالَ الْقُتَبِيُّ وأبو عبيدة: {قَوْمًا بُورًا}، أي: هلكى، وهو من بار يبور؛ إذا هلك وبطل؛ يقال: بار الطعام، إذا كسد، وبارت الأيم؛ إذا لم يرغب فيها، وفي الخبر: " كان رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يتعوذ من بوار الأيم ".

قال أبو عبيدة: يقال: رجل بور وقوم بور لا يثنى ولا يجمع.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: {قَوْمًا بُورًا}: لا خير فيهم، ورجل بائر؛ وكذلك قال ابن زيد: بورا أي: ليس فيهم من الخير شيء.

وقال قتادة: بورا: فاسدين، بلغة أهل عمان،

وقال: " ما نسي قوم ذكر اللّه قط إلا باروا وفسدوا ".

وقوله: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا}: أما على قول بعض الخوارج: كل ظلم ارتكبه فهو في ذلك الوعيد على أصل مذهبهم.

وعلى قول المعتزلة: كل صاحب كبيرة في ذلك الوعيد.

وأما على قول المسلمين: فذلك الوعيد لمرتكبي الظلم: ظلم كفر وشرك، وأمَّا ما دون ذلك فهو في مشيئة اللّه: إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه.

٢٠

وقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (٢٠) قد ذكرنا فيما تقدم أن هذا إنما أخرج جوابًا لقول أُولَئِكَ: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ}، فأخبر أن الرسل الذين كانوا من قبل مُحَمَّد كانوا يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق على ما يأكل هو ويمشي.

ثم من الناس من كره الركوب في الأسواق بهذا،

وقال: إنه أخبر عن الأنبياء والرسل جملة أنهم كانوا يمشون في الأسواق، لم يذكر منهم الركوب؛ فدل ذلك منهم أنه مكروه منهي عنه؛ فيشبه أن يكون ما قال هَؤُلَاءِ، وأنه يكون مكروهًا؛ لأنه يخرج الركوب في الأسواق مخرج التعزز والمباهاة؛ فالواجب على كل مسلم أن يكون تعززه بالإسلام وبدينه الذي اختاره اللّه تعالى، وخاصة على العلماء يجب أن يكون تعززهم ومباهاتهم بالعلم الذي أعطاه اللّه لهم وأكرمهم؛ فإنه عز لا يُعْقِبُهُ ذلاًّ: ولا يورثه صغارا ولا قهرا، وأمَّا كل عز كان سوى ما ذكرنا فهو إلى ذل ما يصير سريعًا، كأنه ليس بعز في الحقيقة، ولو تأصَّل، واللّه أعلم.

وقوله: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً}: الفتنة كأنها هي المحنة التي فيها شدة وبلاء.

ثم قال أهل التأويل: إنه لما أسلم عبد اللّه وأبو ذر وعمار وبلال وصهيب وأمثال هَؤُلَاءِ، قال الفراعنة من قريش نحو أبي جهل والوليد وأمثالهما: انظروا إلى هَؤُلَاءِ الذين اتبعوا محمدا، اتبعوه من موالينا وأعرابنا رذالة كل قوم، فازدروهم وآذوهم واستهزءوا

بهم؛ فأنزل اللّه هذه الآية لهَؤُلَاءِ الفقراء الذين اتبعوا رسول اللّه؛ ليصبرهم على أذاهم فقال: {فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} أي: اصبروا على الأمر؛ هذا محتمل.

وقال الحسن: قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} جعل أهل البلوى فتنة لغيرهم وغير أهل البلوى؛ يقول الأعمى: لو شاء اللّه لجعلني بصيرا مثل فلان، ويقول الفقير؛ لو شاء اللّه لجعلني غنيًّا مثل فلان؛ وكذلك يقول السقيم: لو شاء اللّه لجعلني صحيحًا مثل فلان، لكنه أعطى لأهل البلوى البلوى وأمرهم بالصبر عليها، وأعطى لأهل النعمة النعمة وأمرهم بالشكر عليها ".

وجائز أن يكون غير هذا، وهو قريب من هذا، وذلك أنه أعطى بعضا النعمة والسعة، وجعل بعضهم أهل ضيق وشدة، ثم جعل كل فريق محتاجًا إلى الفريق الآخر؛ جعل الغني والمثري محتاجًا إلى الفقير في بعض أموره، والفقير محتاجًا إلى الغني لغناه، وجعل لبعض على بعض مؤنة ما لولا فقر الفقير لا يعرف الغني قدر غناه، ولا الفقير قدر فقره، ولا قام بعض بكفاية مؤنة بعض، ثم أمر كلا بالصبر على تحمل مؤنة الآخر بقوله: {أَتَصْبِرُونَ} أي: اصبروا على الأمر يخرج، وإن كان ظاهره استفهامًا وسؤالا، واللّه أعلم.

وقوله: {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} أي: على بصر وعلم؛ جعل بعضا فتنة لبعض ليس على سهو وغفلة.

٢١

وقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا}: قال أهل التأويل: {لَا يَرْجُونَ} أي: لا يخافون ولا يخشون لقاءنا، أي: البعث بعد الموت.

وقال أهل الكلام: الرجاء: هو الرجاء لا الخوف، لكن جائز أن يكون في الرجاء خوف، وفي الخوف رجاء؛ لأن الرجاء الذي لا خوف فيه هو أمنٌ، والخوف الذي لا رجاء فيه إياس، فكلاهما مذمومان: الإياس والأمن جميعًا.

وقوله: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا}: جائز أن يكون قولهم: لولا أنزل علينا الملائكة رسلا دون أن أنزل البشر رسلا إلينا؛ لإنكارهم البشر رسولا؛ كقولهم: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}.

ويحتمل قولهم: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ}: بالوحي والرسالة لنا دونك، ونحن الرؤساء والملوك والقادة دونك؛ يقولون: لو كان ما تقول حقًّا وصدقًا أنك رسول، وأنه ينزل عليك الوحي والملك فنحن أولى بالرسالة منك؛ إذ نحن الملوك والرؤساء؛ كقولهم: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} وأمثال هذه الأفكار.

ثم الرسالة لمن هو دونهم في الدنياوية.

أو أن يكون ذلك؛ كقولهم: (لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (٧) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا) أي: رسول أو نرى ربنا عيانا ونكلمه ونسأله عن ذلك، واللّه أعلم.

وقوله: {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ}: الاستكبار: هو ألا يرى غيره مثلا له، ولا عدلا ولا شكلا في نفسه وأمره، فإن كان هذا فهو ما لم يروا رسول اللّه أهلا للرسالة وموضعًا لها؛ لفقر ذات يده وحاجته، ورأوا أنفسهم أهلا لها، فاستكبارهم هو ما لم يروا غيرهم مثلا ولا شكلاً لأنفسهم؛ فاستكبروا ولم يخضعوا لرسول اللّه، ولم يطيعوه، ولم يتبعوه أنفا منه، بعد علمهم أنه محق في ذلك وأنه رسول إليهم.

وقوله: {وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا}:

قَالَ بَعْضُهُمْ: العتو: هو الجرأة، وهو أشدّ من الاستكبار.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: العتو: هو الغلو في القول غلوا شديدًا.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو من التكبر.

٢٢

وقوله: (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (٢٢) قال الحسن: حِجْرًا مَحْجُورًا: كلمة من كلام العرب؛ إذا كره أحدهم الشيء قال: حجرًا حرام هذا، فإذا رأوا الملائكة كرهتهم،

وقال: حِجْرًا مَحْجُورًا، فعلى هذا القول الكفرة هم يقولون:

حِجْرًا مَحْجُورًا؛ إذا رأوا الملائكة وما معهم من المواعيد.

قَالَ بَعْضُهُمْ: إن الملائكة يتلقون المؤمنين بالبشرى على أبواب الجنة، ويقولون للكفرة: لا بشرى لكم، ويقولون: حِجْرًا مَحْجُورًا، أي: تقول الملائكة: حرام البشرى للمجرمين، أو حرام عليهم الجنة أن يدخلوها، والحجر على هذا القول هو الحرام.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحجر هاهنا هو المنع والحظر، يقولون: إنهم يمنعون ويحظرون عما طمعوا وقصدوا بعبادتهم الملائكة والأصنام التي عبدوها، حيث قالوا: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّه}، و {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى}، فيقول: يمنع عنهم ما قصدوا وطمعوا بعبادتهم.

أو يكون المنع: ثواب الخيرات التي عملوها في هذه الدنيا من صلة الأرحام والصدقات ونحوها، مما هي في الظاهر خيرات منعوا ثوابها في الآخرة؛ كقوله: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا}،

وقوله: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى}، ونحو ذلك كله، واللّه أعلم.

٢٣

وقوله: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (٢٣) هو ما ذكرنا من الأعمال عملوها في هذه الدنيا رجاء أن يصلوا إليها في الآخرة، فجعلناها هباء منثورا.

قال أهل التأويل: {وَقَدِمْنَا} أي: عمدنا وقصدنا إلى ما عملوا من عمل.

لكن عندنا: جعلنا أعمالهم تلك في الأصل هباء منثورا.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: منبثا وهو رهج الدواب.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الهباء المنثور: هو غبار الثياب.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو الغبار الذي يكون في شعاع الشمس، وهو الذي يسمى: الذر.

وقَالَ بَعْضُهُمْ قوله: {حِجْرًا مَحْجُورًا} أي: عوذا معاذا، يقول: المجرمون يستعيذون من الملائكة.

قال أَبُو عَوْسَجَةَ: {وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا}: هو من التكبر، ويقال: من الخلاف: عتا عتيا؛ إذا خالف، يقال في الكلام: لا تعت علي، أي: لا تخالفني.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو من الشدة واليبس؛ كقوله: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا} أي: يابسا.

وقال: {حِجْرًا مَحْجُورًا} أي؛ حراما محرمًا، وحجرت عليه ماله، أي: منعته من ماله أحجر حجرا. ويقال: حجرت عينه، أي: لطخت أجفانها بشيء من الدواء.

وقوله: {هَبَاءً مَنْثُورًا} أي: لا شيء، والهباء: هباء النار، أي: رمادًا يكون على أعلى النار إذا خمدت ويقال: هبت النار تهبو هبوا إذا خمدت والجمرة على حالها، إلا أنه قد غطاه ذلك الهباء، وكل شيء ليس لشيء فهو هباء، وتقول: هذا هباء، أي: لا شيء، ومنثور: قد نثر.

٢٤

وقوله: (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (٢٤) وصف عَزَّ وَجَلَّ أعمال الكفرة مرة بالهباء المنثور، ومرة بالرماد، ومرة بالسراب، ومرة بالتراب الذي يكون على الصفوان، وهو الحجر الأملس إذا أصابه الوابل. ووصف أعمال المؤمنين بالثبات والقرار ونحوه.

وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: " لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل أهل النار في النار، وأهل الجنة في الجنة ثم قرأ: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا}. وكذلك ذكر في حرفه في سورة الصافات: {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ} قرأ هو: (إن مقيلهم لإلى الجحيم) أي: إلى الجحيم.

ويشبه أن يكون ذكر هذا لقولهم: {أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} أي: لنا أموال وجنات، وليس له من ذلك شيء، فقال جوابا لهم: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا}.

٢٥

وقوله: (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (٢٥) وصف السماء لهول ذلك اليوم بأوصاف وذكر لها أحوالا، فقال في آية أخرى: {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ}، و {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}، و {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ}،

وقال: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ}، و {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ}، ونحو ذلك، وذلك في اختلاف الأوقات، يكون في كل وقت على الحال التي وصف؛ وكذلك ما

وصف مرة بالهباء المنثور، ومرة كالعهن المنفوش، ومرة كثيبًا مهيلا، ومرة قال: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} الآية، ونحوه من الأوصاف التي وصفها، وذلك في أوقات مختلفة، تكون في كل وقت على حال ووصف الذي وصف؛ فعلى ذلك السماء لشدة هول ذلك اليوم وفزعه.

وقوله: {تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} أي: تنشق عن الغمام فتبقى بلا غمام؛ كقوله: {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ}.

وجائز أن يكون قوله: {تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} أي: يبقى الغمام فوق رءوس الخلائق يظلهم، وهذا يدل أن قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللّه فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} إنما معناه: بظلل من الغمام؛ فإن كان على هذا فيرتفع الاشتباه، واللّه أعلم.

٢٦

وقوله: (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (٢٦) يحتمل إضافة ملك ذلك اليوم إليه، وإن كان الملك له في جميع الأيام في الدنيا والآخرة - وجوهًا:

أحدها: لما أن ملك الآحنرة ملك دائم باق بلا فناء له، وملك الدنيا جعله فانيا لا دوام ولا بقاء له.

والثاني: لما يقر له جميع الخلائق بالملك له في ذلك اليوم، وإن لم يقر له البعض بملك الدنيا.

والثالث: لما لا ينازعه أحد في ملك ذلك اليوم، وإن كان له منازع في الدنيا.

أو أن يكون المقصود بخلق هذا العالم في ذلك اليوم يظهر للخلق، ويومئذ يعلم كل أن خلقهم في الدنيا لذلك اليوم كان، لا للدنيا خاصة.

وقوله: {لِلرَّحْمَنِ}: ذكر هنا الرحمن، وقال في آية أخرى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ للّه الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}؛ لتعلم العرب أن الرحمن المذكور في هذه الآية هو اللّه الذي لا إله إلا هو ذكر في تلك الآية؛ لأن العرب تسمي وتعرف كل معبود: إلها، ولا تعرف الرحمن معبودا ولا تسميه الرحمن، فعرفهم أن اللّه والرحمن اللذين ذكرهما واحد.

وقوله: {وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا}: ظاهر لا شك فيه فكذلك يكون.

٢٧

وقوله: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (٢٧) قال بعض أهل التأويل: نزلت الآية في عقبة بن أبي معيط؛ كان يؤاخي رسول اللّه ويواده، وكان رسول اللّه يجيبه إذا دعاه إلى طعامه، فدعا يوما رسول اللّه إلى طعامه

فقال: " لا حتى تشهد أن لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه وأني رسول اللّه "، فشهد بذلك فطعم من طعامه، فبلغ ذلك أبيّ بن خلف فأتاه فقال: صبوت يا عقبة أصدَّقت، محمدًا وأجبته إلى ما دعاك؟!! فعيره على ذلك حتى رجع عقبة عن ذلك، وارتد عن دينه، وفي الحديث طول؛ فنزلت الآية في شأنه وصنيعه وندامته وحسرته على ما فعل، فقال: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا. . .} إلى آخر ما ذكر.

وذكر أن عقبة وأبي بن خلف قتلا: أحدهما يوم بدر، والآخر يوم أحد، ولكن الآية في كل ظالم وكل كافر يكون على ما ذكر.

ثبم يحتمل قوله: {يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} وعلى التمثيل، والكناية عن الندامة والحسرة؛ لأن من اشتد به الندامة والحسرة والغيظ على شيء كاد أن يعض يديه غيظًا منه على ذلك؛ كما كنى بغل اليد عن ترك الإنفاق، وبالبسط عن كثرة الإنفاق والمجاوزة فيه؛ وكما كنى بالنبذ وراء الظهر عن ترك الانتفاع وقلة النظر فيه والاكتراث إليه؛ كقوله: {نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ}، عن الرجوع ونحوه،

وقوله: {يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}، وقوله {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا}، وأمثال هذا على التمثيل والكناية عن الرجوع والثبات والأخذ والترك؛ فعلى ذلك جائز أن يكون عض الأيدي كناية عن شدة الندامة والغيظ على ما حك به.

ويشبه أن يكون على التحقيق: تحقيق عض اليد، يجعل اللّه عقوبته بعض اليد؛ كما جعل عقوبة أنفسهم بأنفسهم؛ حيث جعل أنفسهم حطبا للنار يعذبون ويعاقبون، واللّه أعلم.

وقوله: {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا}: السبيل الذي دعاه الرسول إليه.

٢٨

(يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (٢٨) يحتمل الإنسان، ويحتمل الشيطان، أي: لم أتخذ الشيطان خليلا، ولم أطعه فيما دعا، أو الإنسان الذي قلده فيما قلده.

٢٩

وقوله: (لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (٢٩) يحتمل قوله: {عَنِ الذكْرِ} أي: الشرف الذي يذكر به المرء، أضلني عن ذلك الشرف، أو أضلني عما يذكرني هذا، أو أضلني عن الذكر، أي: عن القرآن: وما فيه من الذكرى، واللّه أعلم.

وقوله: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} أي: تاركا له متبرئًا منه، يقول كما قال في آية أخرى حكاية عنه: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ}، ويقول كما قال: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ. . .} الآية، أو أن يكون كما ذكر: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ. . .} الآية.

أو أن يكون ذلك الخذلان منه له في الدنيا يمنيه بأماني ويزين له أشياء، ثم لا يوصله إليها.

٣٠

وقوله: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا}:

قَالَ بَعْضُهُمْ: المهجور: هو الذي لا ينتفع ولا يعمل به وقال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: مهجورًا أي: تركوه مهجورا، أي: متروكا، ويقال: مهجورا أي: كالهذيان، والهجر الاسم يقال: فلان يهجر في منامه، أي: يهذي، وهو بالفارسية " بلايه كفتى ".

٣١

وقوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (٣١) أي: مثل الذي جعلنا لك من العدو من الكفرة جعلنا لكل نبي من قبلك عدوًّا.

ثم العداوة تكون في الدِّين مرة، ومرة في الأنفس وأحوالها.

فإن كان العدو عدوا في الدِّين، فجميع الكفرة له أعداء لخلافهم له في الدِّين، ويكون حرف (مِن) صلة، أي: جعلنا لكل نبي المجرمين أعداء.

وإن كان على تحقيق (مِن) وإثباتها فالعداوة عداوة في الدِّين والإخوان، وذلك راجع إلى الفراعنة وأضداد الرسل، ما من رسول إلا وله فراعنة وأضداد ينازعونه ويقاتلونه ويهمون قتله.

ثم بشر رسوله بالحفظ له والنصر والظفر على أعدائه، وهو قوله: {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا}.

٣٢

وقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (٣٢)

ذكر أهل التأويل أن أهل مكة كانوا يأتون رسول اللّه فيتبعونه ويسألونه ويقولون: يا مُحَمَّد، أتزعم أنك رسول من عند اللّه، أفلا أتيتنا بالقرآن جملة واحدة؛ كما أنزلت التوراة جملة واحدة على موسى، والإنجيل على عيسى، والزبور على داود فقال: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ}:

أي: بمثل الذي نثبت به فؤادك.

ثم يحتمل قوله: {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} وجهين:

أحدهما: أنزلناه متفرقًا لنثبته في فؤادك تحفظه وتذكره؛ لأن حفظ الشيء إذا كان سماعه بالتفاريق كان حفظه أهون، وأيسر من حفظه إذا سمع جملة واحدة، وخاصة إذا كان الكلام من أجناس وأنواع.

والثاني: {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} أي: لنثبت بما في القرآن من الحكمة والمعاني فؤادك.

ثم يحتمل قوله: {فُؤَادَكَ} أنه يراد به: فؤاد من يسمع إليه ويسمعه، فإن كان هذا فهو كقوله: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ. . .} الآية، على ما ذكرنا أنه يكون أسرع حفظًا وأهون ثباتًا من سماعه جملة.

وجائز أن يكون أراد فؤاده؛ كقوله: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧).

وقوله: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (٦) إِلَّا مَا شَاءَ اللّه) كان يعجل بحفظه إذا قرئ عليه؛ خوفًا أن يذهب، فأخبره أنه يثبت فؤاده وينزله بالتفاريق؛ لكي يحفظه ويذكره.

ثم إن كان المراد تثبيته في الفؤاد: هو ما فيه من الحكمة والمعاني وقراءته على الناس على مكث كذلك فهو - واللّه أعلم - ينزله على قدر النوازل والحوائج؛ ليكونوا أحفظ لتلك المعاني وأعرف بمواضعها، وتقدير غيرها من النوازل بها من أن نزل جملة في دفعة واحدة، واللّه أعلم.

٣٣

وقوله: (وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (٣٣) أي: بصفة يشبهون بها على الخلق إلا جئناك بصفة هي أحق مما أتوا بها هم، فترفع تلك الشبهة عنهم، أعني: عن الخلق.

أو أن يقال: ولا يأتونك بصفة هي باطل إلا جئناك بحق - أي: بصفة هي حق - فتبطل تلك وتضمحل.

{وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} أي: بيانًا من الأول؛ على التأويل الأول، وعلى التأويل الثاني ظاهر لا شك أنه أحسن وأحق.

قال أَبُو عَوْسَجَةَ: {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} أي: أنزلنا بعضه بعد بعض، وعلى أثر بعض، لم ننزله في مرة واحدة؛ وكذلك قال في قوله: {وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا}.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} أي: بيناه تبيانا.

وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا}، قال: لا يخاصمونك بشيء ولا يجادلونك إلا جئناك بالحق -يعني: القرآن- {وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا}، يقول: جئناك بالقرآن بأحسن مما جاءوا به تفسيرا، وهو قريب مما ذكرنا بدءًا.

وفي حرف حفصة: (إلا جئناك بأحق منه وأحسن تفسيرا)، وهو شبيه ببعض التأويلات التي ذكرناها.

٣٤

وقوله: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا} يشبه أن يكون ذكر هذا على مقابلة سبقت، وإلا على الابتداء لا يستقيم ذكره؛ فجائز أن يكون ذكره على مقابلة قوله: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا. . .} الآية، هذا ذكر مقام أهل الجنة، فذكر مقابل ذلك مكان أهل النار، فقال: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا} أي: شر مكانا في الآخرة، وأضل سبيلا في الدنيا، ويكون مقابل قوله: {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا}، فقال {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا}، من الذين آمنوا، بل مقامهم الجنة -أعني: المؤمنين- ومقام الكفرة النار، فهم شر مكانًا منهم.

وفي بعض الأخبار: أن رجلا قال: يا نبي اللّه، كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ فقال: " إن الذي أمشاه على رجليه قادر على أن يمشيه على وجهه ".

٣٥

وقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} أي: التوراة، {وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا}: ذكر هاهنا أنه كان وزيرا له، وذكر في آية أخرى: {فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ}، وفي آية أخرى: أنه كان نبيًّا حيث قال: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا}، فكان ما ذكر ذلك كله نبيًّا ورسولا، وكان له وزيرا، والوزير هو العون والعضد، فإنه قال: {وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا} أي: عونا وعضدا؛ كقوله: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (٢٩) هَارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي)؛ لأنه سأل ربه المعونة له والإشراك في أمره،

وقال: {فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي}.

وقال الزجاج: الوزير هو الذي يلجأ إليه في النوائب ويعتصم بأمره؛ وهو واحد.

٣٦

وقوله: (فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (٣٦) أي: أهلكناهم إهلاكا.

٣٧

وقوله: (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ ... (٣٧) جائز أن يكون قوله: {لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ} نوحًا خاصة؛ لأنه ذكر قوم نوح، فإن كان ذلك، ففيه دلالة جواز تسمية الواحد باسم الجماعة.

وجائز أن يكون نوح دعاهم إلى الإيمان وتصديق الرسل، فكذبوه وكذبوا الرسل جميعًا، واللّه أعلم.

وقوله: {أَغْرَقْنَاهُمْ}: لم يغرقهم على أثر تكذيبهم إياه، ولكن إنما أغرقهم بعدما دعاهم ألف سنة إلا خمسين عامًا.

وقوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً}: يحتمل قوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً} أي: آية للمكذبين والمصدقين، لما بين حكمه في المكذبين منهم: الإهلاك والاستئصال، وفي المصدقين منهم: النجاة والخلاص منه، فذلك آية لكل مكذب ومصدق؛ لما إليه يئول عاقبة أمرهم: عاقبة المكذبين: الإهلاك، وعاقبة المصدقين: النجاة.

فَإِنْ قِيلَ: إنهم جميعًا قد هلكوا المصدقون منهم والمكذبون، قيل: أهلك المكذبون منهم إهلاك عقوبة وتعذيب، والمصدقون هلاكهم بانقضاء آجالهم لا هلاك عقوبة.

ثم ذكر: {وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً} فمعنى جعل أنفسهم آية ما ذكرنا.

وقال في آية أخرى: {وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} أي: السفينة.

قَالَ بَعْضُهُمْ: جعل السفينة آية؛ لأن من طبع السفن أنها إذا امتدت الأوقات وطال الزمان أنها تفسد وتتلاشى، وهي بعد باقية كما هي -أعني: سفينة نوح- لكن ذلك لا يعلم أنه كما ذكر أو لا، فالوجه فيه ما ذكرنا.

وقوله: {وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا}: هكذا جزاء كل ظالم -ظلم كفر وشرك- أن يعد له العذاب الأليم.

٣٨

وقوله: (وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (٣٨) أخبر أنه أهلك هَؤُلَاءِ كلهم بالتكذيب: عادا وهم قوم هود، وثمودا وهم قوم صالح، وأصحاب الرس: قال بعضهم: سموا أصحاب الرس؛ لأنهم رسوا نبيهم في بئر، أي: رسوه فيها.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الرس: هو اسم لبئر كانوا نزولا عليها، فبعث إليها شعيبًا فكذبوه، فسموا بذلك ونسبوا إلى تلك البئر.

وعن ابن عَبَّاسٍ: أنه سأل كعبًا عن أصحاب الرس فقال: إنكم معاشر العرب تدعون البئر: رسا، والقبر: رسا، وتدعون الخد: رسا، فخدوا خدودًا في الأرض فأوقدوا فيها النيران للرسولين اللذين ذكر اللّه في يس: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ}، واللّه أعلم.

٣٩

وقوله: (وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (٣٩) أي: ذكرنا لأهل مكة أمثال من تقدم منهم من الأمم من المكذبين والمصدقين، وما حل بهم وما إليه آل عاقبة أمورهم بالتكذيب، حيث قال: {وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} أي: أهلكنا إهلاكا.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {تَبَّرْنَا} أي: كسرنا بالنبطية، يقول أحدهم للشيء إذا أراد أن يكسره: أتبره.

٤٠

وقوله: (وَلَقَدْ أَتَوْا ... (٤٠) يعني واللّه أعلم: أهل مكة، {عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ}: وهي الحجارة، يعني - واللّه أعلم -: قريات لوط، أي: يمر عليهم أهل مكة في تجارتهم ويأتونها؛ وهو كما قال في الصافات: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ. . .}.

{أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا}: ما حلَّ بهم بالتكذيب فيعتبروا، {بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا} أي: بعثًا بعد الموت وإحياء، أي: إنما كذبوا الرسل؛ لأنهم لا يؤمنون بالبعث ولا يخافون نشورا.

٤١

وقوله: (وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللّه رَسُولًا (٤١) كانوا إذا رأوه هزئوا به، إذا خلا بعضهم إلى بعض يقولون فيما بينهم: أبعث اللّه بشرًا رسولا، هكذا كانت عادة الكفرة يهزءون به إذا حضروه، وإذا غابوا عنه قالوا ما ذكر.

٤٢

وقوله: (إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (٤٢) في قوله: {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا} دلالة أنه إنما أراد أن يضلهم عن عبادتهم الأصنام بالحجج والآيات؛ إذ ليس في وسع النبي صرفهم ومنعهم عن ذلك إلا من وجه لزوم الآيات والحجج، إلا أنهم رفضوا تلك الآيات والحجج، وكابروها وثبتوا على عبادة الأصنام والأوثان، وإلا علموا -من جهة الآيات والحجج التي أقامها عليهم- أنه على الحق، وأنهم على باطل.

ثم قوله: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا} أي: يعلمون حين لا يقدرون على الجحود والإنكار إذا أنزل بهم العذاب، ووقع: من أضل سبيلا هم أو المؤمنون؟ لأنهم وإن علموا بالآيات والحجج أنه على الحق، وأنهم على باطل، وعلموا الموعود من العذاب فأخبر أنهم يعلمون عند وقوعه بهم علما لا يقدرون على جحوده ولا إنكاره؛ كقوله: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللّه} وهذه الآية،

وقوله: {أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}،

وقوله: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا}، وأمثال ذلك إذا عاينوا الموعود في الدنيا يقرون به لا يقدرون على الجحود؛ فكذلك قوله: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} علما لا يقدرون على الإنكار والجحود {حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا}.

٤٣

وقوله: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (٤٣)

قَالَ بَعْضُهُمْ: إنهم كانوا يعبدون أشياء حجرًا أو غيره، فإذا رأوا أحسن منه في رأي العين والمنظر، تركوا عبادة ذاك، وعبدوا ما هو أحسن منه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: كلما هوت أنفسهم شيئًا عبدوه، وكلما اشتهوا شيئًا أتوه، لا يحجزهم عن ذلك ورع ولا تقوى للّه.

ويحتمل وجهين آخرين سوى ما ذكر هَؤُلَاءِ:

أحدهما: تركوا عبادة الإله الذي قامت الحجج والآيات بألوهيته وربوبيته، ولزموا

عبادة من لم يقم له الآيات والحجج بذلك بهواهم.

والثاني: أنهم عبدوا ما عبدوا من الأصنام بلا أمر كان لهم بالعبادة؛ لا بد من أمر يؤتمر بها، بل عبدوا بهواهم، أو كلام نحو هذا.

وقوله: {أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} أي: لست أنت بوكيل ولا مسلط عليهم ولا حافظ، أي: لا تسأل أنت عن أعمالهم ولا تحاسب عليها، بل هم المسئولون عنها، وهم محاسبون عليها؛ كقوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ}؛ وكقوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ. . .} الآية، واللّه أعلم.

٤٤

وقوله: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (٤٤)

قوله: {أَمْ تَحْسَبُ} إن كان في الظاهر استفهامًا، فهو في الحقيقة على الإيجاب، وهكذا كل استفهام من اللّه يخرج على الإيجاب أو على النهي؛ كأنه قال: قد حسبت أكثرهم يسمعون أو يعقلون، أي: لا ينتفعون بما يعقلون.

{إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}:

قَالَ بَعْضُهُمْ: كالأنعام لأن همتهم ليست إلا كهمة الأنعام، وهو الأكل والشرب، ليست لهم همة سواه، ليس للأنعام همة العاقبة، فعلى ذلك الكفرة فهم كالأنعام من هذه الجهة.

وقوله: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ}: قال قائلون: قوله: {أَضَلُّ} لأن الأنعام تعرف ربها وخالقها وتذكره، وهم لا يعرفون ربهم ولا يذكرونه.

أو هم أضل لأنهم ينسبون إلى اللّه ما لا يليق به من الولد والشريك، ويشركون غيره في العبادةِ والأنعامُ لا، فهم أضل.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هم أضل؛ لأن الأنعام إذا هديت الطريق اهتدت، وهم يهدون ويدعون إلى الطريق فلا يهتدون ولا يجيبون فهم أضل.

أو أن يقال: هم أضل لأنهم يَضلون وُيضلون غيرهم ويمنعونهم عن الهدى، والأنعام لا، واللّه أعلم.

٤٥

وقوله: {أَلَمْ تَرَ}: قد ذكرنا في غير موضع أن حرف {أَلَمْ تَرَ} هو حرف تعجب واستفهام، لكن في الحقيفة على الإيجاب، أي: قد رأيت.

وقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ} أي: إلى تدبير ربك ولطفه أن كيف مد الظل، وهو لا يؤذي ولا يضر ولا يحس، ولا يشعر به أحد بكونه فيه ولا يثقل ولا يخف، ولا يستر ولا يكشف عن وجوه الأشياء، إنما النور هو الكاشف عن وجوه الأشياء، والظلمة هي الساترة لذلك، ونحو ذلك ما يكثر ذكره مما يحيط بالخلائق كلها؛ ليعلم أن من المحسوسات التي يقع عليها الحواس ما لا يدرك حقيقة من نحو الظل الذي ذكرنا هو ما لا يدرك حقيقة، ومن نحو السمع والبصر والعقل والنطق باللسان، ونحو ذلك من المحسوسات؛ ليعلم أن الذي سبيل معرفته الاستدلال وهو منشئ هذه الأشياء - أحق ألا يدرك ولا يحاط بتدبيره ولطفه؛ وليعلم أن من بلغ تدبيره ولطفه هذا المبلغ لا يحتمل أن يعجزه شيء أو يخفى عليه شيء؛ يخبر عن قدرته وتدبيره ولطفه؛ ليعلم أنه قادر ومدبر بذاته لطيف.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا} أي: دائبًا لا يذهب أبدًا، ولا تصيبه الشمس ولا يزول.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {سَاكِنًا} أي: مستقرا دائمًا لا تنسخه الشمس كظل الجنة.

وقوله: {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا}:

قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: تتلوه وتتبعه حتى تأتي على كله.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا} يقول: حيثما تكون الشمس يكون الظل، وأصله: أنه بالشمس يعرف الظل أنه ظل، ولولا الشمس ما عرف الظل، فهو دليل معرفته وكونه أنه ظل.

٤٦

وقوله: (ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (٤٦)

قَالَ بَعْضُهُمْ: هَيِّنًا خفِيًّا، وأصله: أنه يقبض بالشمس الظل وينسخه شيئًا فشيئًا، حتى تأتي على كله.

٤٧

وقوله: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا ... (٤٧) قيل: سكنا يسكن فيه الخلائق.

وقيل: لباسا، أي: سترًا.

{وَالنَّوْمَ سُبَاتًا}

قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: راحة، يقال: سبت الرجل يسبت سباتا فهو مسبوت.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: أصل السبت: التمدد.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: سبت الرجل إذا نعس. وقيل: رجل مسبوت: لا يعقل كأنه مسبت.

{وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا}: فمن جعل السبات: النوم، جعل قوله: {النَّهَارَ نُشُورًا} أي: حياة يحيون فيه.

ومن يقول: السبات: راحة، يجعل النهار نشورا: ينشر فيه للمعاش والكسب وابتغاء الرزق.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: يذكر نعمه ومننه على عباده؛ لتأدي شكره.

وقال أبو معاذ: قال مقاتل: {مَدَّ الظِلَّ} يعني: الفيء من أول وقت صلاة الفجر إلى طلوع الشمس. وأخطأ؛ لا يسمى ذلك الظل: فيئًا.

وقال الكسائي: العرب تقول: الظل من حين تصبح إلى انتصاف النهار، فإذا زالت الشمس عن كبد السماء فما خرج من ظل فذلك الفيء ويقال للفيء: الظل، ولا يقال للظل: فيء قبل الزوال.

٤٨

وقوله: (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ نُشْرًا (١) ... (٤٨)

قَالَ بَعْضُهُمْ: {نُشْرًا} أي: حياة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {نُشْرًا} للسحاب: تنشره، أي: تبسطه.

وعلى التأويل الأول ننشرها، أي: نحييها.

وقوله: {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} أي: بين يدي المطر، سمي المطر: رحمة؛ لما برحمته يكون؛ وكذلك ما سمى الجنة: رحمة؛ لأنها برحمة ما يدخل من دخل فيها.

وقوله: {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}: هذا يدل أنه لا يفهم باليد: اليد المعروفة التي هي الجارحة، حيث ذكر للمطر ذلك ولا يعرف -أعني: اليد- ليعلم أنه لا يفهم من قوله: بيد اللّه، بين يدي اللّه - ذلك، وباللّه العصمة.

وقرأ بعضهم: {بُشْرًا} بالباء، وهو من البشارة؛ كقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ}، أي: تبشرهم بالرحمة والسعة، واللّه أعلم.

وقوله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} أي: ما يطهر به الأنجاس والأقذار الظاهر منها والباطن؛ وكذا الطهور أنه يطهر حيثما أصابه.

٤٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (٤٩)

قَالَ بَعْضُهُمْ: الأناسي: جمع إنسي.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هي جمع إنسان، وأصله بالنون (أناسين)، لكن أبدلت النون ياء.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: أَنَاسِيَّ مشددة، يعني: أناس، وأناسي جماعة الإنسان على (١) قال السمين:

وأمَّا «بُشْراً» فقرأه في هذه السورة وحيث ورد في غيرها من السور نافع وأبو عمرو وابن كثير بضم النون والشين، وهي قراءةُ الحسن وأبي عبد الرحمن وأبي رجاء بخلافٍ عنهم وشيبة بن نصاح والأعرج وعيسى بن عمر وأبي يحيى وأبي نوفل الأعرابيين.

وقرأ ابنُ عامر بضمِّ النون وسكون الشين وهي قراءةُ ابن عَبَّاسٍ وزر ابن حبيش ويحيى بن وثاب والنخعي وابن مصرف والأعمش ومسروق.

وقرأ الأخَوان: «نَشْراً» بفتح النون وسكون الشين.

وقرأ عاصم: «بُشْراً» بالباء الموحدة مضمومةً وسكونِ الشين، وهو جمعُ بشيرة كنذيرة ونُذُر. اهـ باختصار (الدر المصون للسمين ٥/ ٣٤٦ - ٣٤٩). (مصحح النسخة الإلكترونية).

ما ذكرنا.

ويحتمل قوله: {وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا}، أي: نسقيه من الماء الطّهور والمنزل من السماء كثيرًا من الأنعام، وكثيرًا من الإناس، وكثيرا ما يسقى من المياه المنتزعة من الأرض.

٥٠

وقوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا}، أي: صرفنا المطر والسحاب بينهم يمطر في مكان، ويسوق السحاب إلى مكان ولا يسوق إلى مكان آخر؛ كقوله: {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. . .} الآية؛ وكقوله: {فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ} الآية.

يذكرهم في هذه الآيات من قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} إلى قوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ} ليذكروا تدبيره وقدرته وحكمته ونعمه؛ أما تدبيره: حيث ترى السحاب في موضع ولا تراه في موضع، وتراه منبسطًا في الآفاق ثم يمطر في موضع آخر، ولا يرسل في مكان ويرسل في مكان آخر؛ ليعلم أنه عن تدبير كان هكذا لا بالطبع؛ لأنه لو كان بالطبع كان ذلك لكان لا جائز أن يمطر في مكان ويترك في مكان آخر، دل أنه بالتدبير كان ما كان وبالأمر.

وأما قدرته: فما ذكر من إحياء الأرض الميتة بعد موتها، وإماتتها بعد حياتها مما يعلم كل أحد حياتها وموتها، ويقر بذلك، فمن قدر على هذا قادر على إحياء الموتى بعد الموت، ولا يعجزه شيء.

وأما حكمته: أن ما خلق مما ذكر وأنشأه لم ينشئه عبثًا، يمهلهم لا يأمرهم ولا ينهاهم، ولا يمتحنهم بشيء، ولا يجعل لهم عاقبة يثابون ويعاقبون، ولا يستأدي بهم شكر ما أنعم عليهم من أنواع النعم مما يعجز عقولهم عن إدراكه، ويقصر أفهامهم عن تقدير مثله؛ ليعلم أنه قادر بذاته لا يعجزه شيء.

ثم قال: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} قال الكسائي: الكُفور برفع الكاف: الكفر، والكَفور -بفتح الكاف-: الكافر، والشُّكور -بضم الشين-: الشكر، والشَّكور -بفتح الشين-: الشاكر وهو المؤمن؛ فيكون تأويله: فأبي أكثر الناس إلا كفرا باللّه وتكذيبا لنعمه؛ بصرفهم العبادة إلى غيره ولتفاؤلهم وتطيرهم أن هذا من نوء كذا، واللّه أعلم.

٥١

وقوله: (وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (٥١) هذا يحتمل وجهين:

أحدهما: لو شئنا لرفعنا عنك، يعني: ما حملنا عليك من المؤن من مؤنة التبليغ والقيام بذلك، وحملنا غيرك؛ فيكون عليك أيسر وأهون من القيام بالكل.

والثاني: لو شئنا لجعلنا غيرك -أيضًا- أهلا للرسالة وموضعًا لها في زمانك وحينك، فبعثناه في بعض القرى والمدن، لكنا لم نجعل غيرك أهلا لها، وخصصناك لها من بين غيرك من الناس؛ فهو على الامتنان يخرج والاختصاص له.

ثم لا يخلو ذلك من أن يكون فيهم من يصلح للرسالة، ويصلح أن يكون أهلا لها وموضعًا، فلم يرسل، أو كان لم يكن فيهم من يصلح لذلك؛ فيكون تأويله: لو شئنا لجعلنا فيه من يصلح للرسالة، ويصلح أن يكون أهلا لها وموضعًا، فأي الوجهين كان، فهو ينقض على المعتزلة قولهم؛ لأنه إن كان فيهم من يصلح لها وأرسل كان أصلح له فلم يرسل، فقد ترك ما هو أصلح له وأخير، أو أن يكون لا يصلح فيهم أحد لذلك، لكنه يملك أن يصلحه ويجعله أهلا لها، فهو أصلح له وأخير ثم لم يفعل؛ دل أن له ألا يفعل الأصلح والأخير في الدِّين.

٥٢

وقوله: (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (٥٢) فيه وجهان:

 أحدهما: أنه لا يجوز للرسل النبذ والامتناع عن التبليغ إليهم والقيام بمجاهدتهم، وإن خافوا على أنفسهم الهلاك؛ حيث قال: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}، ولم يكن معهم يومئذ إلا قليل ممن اتبعه؛ إذ كان ذلك بمكة؛ لأن سورة الفرقان فيها نزلت.

والثاني: فيه دلالة إثبات رسالته؛ لأنه أمر بالخلاف لهم، والقيام بمجاهدتهم بالحجج والآيات، وهم يعلمون ألا يكون في وسع واحد القيام لذلك لأمثالهم، وكانت همتهم القتل والإهلاك لمن خالفهم؛ فعلموا أنه إنما قام لذلك باللّه لا بنفسه؛ إذ لا يملك واحد القيام لذلك، واللّه أعلم.

٥٣

وقوله: (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ (٥٣)

قَالَ بَعْضُهُمْ: مرج، أي: خلع ماء المالح على ماء العذب.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {مَرَجَ}: أرسل البحرين أحدهما عذب والآخر أجاج.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {مَرَجَ} أي: أفاض أحدهما على الآخر.

قال أبو معاذ: العرب تقول: مرجت الدابة إذا خلعتها وتركتها تذهب حيث شاءت، ومرج الوالي الناس من السجون إذا أرسلهم، فإذا رعيت دابة في المروج، قلت: أمرجت دابتي أمرجها إمراجًا، وإنما سمي المرج: مرجًا؛ لأنه متروك للسباع غير معمور، والممرج الذي يرعى دابته في المرج والدابة الممروجة.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: مرج البحرين مرجهما، أي: خلطهما فهو مارج،

وقال: {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} أي: مختلط، ويقال: مرجت عن كل شيء إذا خلطت، واللّه أعلم.

ثم اختلف في البحرين؛

قَالَ بَعْضُهُمْ: أحدهما بحر الأرض، والآخر بحر السماء، وجعل بينهما برزخًا، أي: حاجزًا عن أن يختلط أحدهما بالآخر.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: أحدهما بحر السماء، والآخر بحر تحت الأرض، وجعل بينهما برزخًا وهو الأرض.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: بحران على وجه الأرض: أحدهما بحر الروم والآخر بحر الهند.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: أحدهما بحر الشام، والآخر بحر العراق: أحدهما مالح أجاج، والآخر عذب، وكان الأجاج هو الذي بلغ في الملوحة غايته، والفرات هو الذي بلغ في العذوبة غايته؛ ذكر منَّتَه وفضله ولطفه؛ حيث لم يخلط أحدهما بالآخر، بل حفظ كلًّا على ما هو عليه إلى أن تقوم الساعة، فعند ذلك يصير الكل واحدا؛ كقوله: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ}.

ثم إن كان أحدهما بحر السماء والآخر بحر الأرض، وإن كانا بحرين في الهواء، فالحاجز بينهما ليس إلا اللطف؛ وكذلك إن كان الثالث ليعلم أن من قدر على حفظ هذا من هذا بلا حجاب ولا حاجز باللطف، لقادر على إحياء الموتى وبعثهم، ولا يعجزه

شيء، وله الحول والقوة.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: ماء أجاج: شديد الملوحة، ويقال: أجّ الماء يؤجّ أجّا فهو أجاج، ويقال: عاج، أي: ماء روي به.

٥٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (٥٤) أي: من النطفة؛ يخبر عن فضله ومنَّته وقدرته ولطفه.

أما لطفه وقدرته: فحيث خلق البشر من النطفة، ولو اجتمع جميع حكماء البشر على أن يعرفوا أو يدركوا البشر من النطفة أو يدركوا كيفيته - لم يقدروا على ذلك؛ دل أنه قادر بذاته لطيف لا يعجزه شيء.

وأمَّا فضله ومنَّته: فما أخبر أنه جعل لهم نسبًا وصهرا؛ أمّا النسب فيه يتعارفون ويتواصلون ما لولا ذلك ما تعارفوا ولا تواصلوا، وأما الصهر فلما به يتزاوجون ولوادون ويتوالدون؛ كقوله: {وَاللّه جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً}،

وقال: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}، يذكر فضله ومنته؛ ليتأدى به شكره؛ ليعلم أن خلق مثل هذا لا يخرج عبثًا باطلا بلا محنة ولا عاقبة، وكأن النسب: ما لا يجري بينهم التناكح والتزاوج، والصهر: ما يحل ويجري بينهم التناكح والتزاوج.

وفي حرف حفصة: (وهو الذي خلق من الماء نسبا وصهرا). قال أبو معاذ: الصهر الفتى وآله، والختن: أبو المرأة، والختنة: أم المرأة، والأختان: آل المرأة وأهلها، والأصهار، آل الفتى وأهله.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: {وَصِهْرًا} من المصاهرة، وكلهم أصهار من الجانبين جميعًا، والمعروف عندنا: أنه إنما يسمى قرابة الزوج: أختانًا، وقرابة المرأة أصهارًا، وذلك لسان فهو على ما تعارفوه بينهم، واللّه أعلم.

٥٥

وقوله: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (٥٥) أي: يعبدون من دون اللّه ما يعلمون أنه لا ينفعهم في الآخرة إن عبدوه، ولا يضرهم في الدنيا إن تركوا عبادته؛ يذكر سفههم بعبادتهم من يعلمون أنه لا ينفع ولا يضر، وتركهم العبادة لمن ينفعهم إن عبدوه ويضرهم إن تركوا عبادته؛ وهو كما ذكر: {هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ. .} الآية، وأمثال ما ذكر في غير آي من القرآن سفه أُولَئِكَ بعبادتهم للأصنام، وتركهم عبادة اللّه تعالَى.

وقوله: {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} أي: تأويله - واللّه أعلم -: وكان الكافر للكافر ولوليه ظهيرا على من أطاع ربه، يكون بعضهم ببعض عونًا وظهيرًا على أولياء اللّه، وإلا لا يكون الكافر على اللّه ظهيرًا، ولكن على أوليائه، ويكون ذكر الرب على إرادة وليه ومن

أطاعه؛ كقوله: {إِنْ تَنْصُرُوا اللّه يَنْصُرْكُمْ}؛ وكقوله: {يُخَادِعُونَ اللّه}، ونحو ذلك مما يراد به: أولياؤه لا نفسه.

٥٦

وقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (٥٦) مبشرًا لمن أطاعه، ونذيرًا لمن عصاه.

والبشارة: هي الإعلام لما يلحق من السرور والفرح في العاقبة بالأعمال الصالحة.

والنذارة: هي الإعلام لما يلحق من المكروه والمحذور في العاقبة بالأعمال السيئة القبيحة.

٥٧

وقوله: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (٥٧) أي: ما أسألكم على الدِّين الذي أدعوكم إليه من أجر؛ كقوله: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ}، أي: لا أسألكم أجرًا على ذلك حتى يمنعكم ثقل الغرم عن إجابتي؛ فعلى ذلك قوله: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} كان فيه إضمار، أي: لا أسالكم عليه أجرًا إلا من شاء، ولكن إنما أسألكم أن تتخذوا إلى ربه سبيلا.

أو أن يقول: قوله: {إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} أي: ولكن من أراد أن يتخذ إلى ربه سبيلا أطاعني وأجابني.

ويحتمل قوله: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ} على تبليغ الرسالة إليكم، وما أدعوكم إليه {مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} فيبرني.

أو أن يكون قوله: {إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} فيوادني؛ كقوله: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}.

٥٨

وقوله: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (٥٨) أي: توكل على اللّه، والتوكل: هو الاعتماد عليه بكل أمر.

وقوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} أي: نزه ربك وبرئه عن الآفات كلها والعيوب، بثناء تثني عليه وهو التسبيح بحمده.

وقال أهل التأويل: أي صل بأمر ربك، لكن التأويل ما ذكرنا.

وقوله: {وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} أي: كفى به علما بذنوب عباده، أي: لا أحد أعلم بها منه.

٥٩

وقوله: (الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا ... (٥٩) قد ذكرنا هذا.

وقوله: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا}: قال قائلون: قوله: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} لما يسأل عنه مُحَمَّد، وذلك أن بعض كفار مكة قالوا: يا مُحَمَّد، إن كنت تعلم الشعر فنحن لك، فقال النبي: " أفشعر هذا؟! إن هذا كلام الرحمن "، فقالوا: أجل لعمر اللّه إنه لكلام الرحمن

الذي باليمامة هو يعلمك، فقال النبي: " الرحمن هو اللّه الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما من عنده يأتيني ذلك "، فقالوا: أيزعم أن اللّه واحد وهو يقول: اللّه يعلمني، الرحمن يعلمني، ألستم تعلمون أن هذين إلهان، أو كلام نحو هذا.

وجائز أن يكون قولهم: {وَمَا الرَّحْمَنُ} لما لا يعرفون الرحمن وعرفوا اللّه فأنكروا ذلك لما لم يكونوا يسمعون ذلك، فعرفهم بقوله: {قُلِ ادْعُوا اللّه أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ. . .} الآية.

أو أن يكونوا يعرفون كل معبود: إلها؛ وكذلك يسمون الأصنام التي عبدوها: آلهة، وكان رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - دعاهم إلى عبادة الرحمن؛ فظنوا أنه غيره، فقالوا: فلئن جاز أن يعبد غير اللّه، فنحن نعبد الأصنام فلِمَ تمنعنا عن ذلك؟! فأخبر: أن الرحمن والإله واحد ليس هو غير؛ حيث قال: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا. . .} إلى آخر ما ذكر، يقول اللّه: محال أن يكون الرحمن غير الإله، بل الرحمن هو الذي جعل في السماء بروجًا، وقد كانوا يعلمون أن الذي جعل في السماء البروج وهي النجوم، وجعل فيها السراج وهي الشمس والقمر - هو اللّه، فأخبر أن الرحمن هو ذلك لا غير.

وفي قول بعضهم: إن قوله: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ. . .} الآية من المكتوم، وفي الآية دلالة أنه ليس من المكتوم، ولكنه مما يعلم ويفسر؛ حيث قال: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا}، ولو كان مما لا يعلم لكان لا يأمره أن يسأل به خبيرًا، أو إن أمره بالسؤال لكان لا يحتمل ألا يخبره؛ دل ذلك أنه ليس من المكتوم، ولكنه مما يعلم، لكن لا يعلمه إلا الخبير، وهو العالم.

ثم يحتمل: اللّه أو جبريل أو من يعلمه، واللّه أعلم.

وقوله: {فَاسْأَلْ بِهِ}:

قَالَ بَعْضُهُمْ: باللّه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: بالذي سبق ذكره من قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}.

٦٠

وقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ ... (٦٠) قد ذكرناه.

{أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} بالياء والتاء جميعًا.

وقوله تعالى: {وَزَادَهُمْ نُفُورًا} أي: زادهم دعاؤه إلى عبادة الرحمن نفورا عن رسول اللّه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: في قوله: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} يقول: ما أخبرتك من شيء فهو كما أخبرتك لا شك فيه، واللّه أعلم.

٦١

وقوله: (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (٦١) قوله: {تَبَارَكَ} قد ذكرنا أن بعضهم يقولون: هو من البركة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: من التعالي.

قوله تعالى: {جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا}: هو ما ذكرنا أنه خرج جوابًا لقولهم: {وَمَا الرَّحْمَنُ}؛

٦٢

وكذلك قوله: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً (٦٢) أي: جعل أحدهما خلف الآخر، إذا ذهب هذا جاء هذا.

{لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} أي: يذكر الليل والنهار لمن أراد أن يتذكر لمواعظه أو يشكر لنعمه؛ لأنهما يذكران قدرته وسلطانه، حيث يقهران الجبابرة والفراعنة ويغلبانهم حيث يظلانهم ويأتيانهم شاءوا، أو كرهوا لا يقدرون دفعهما عن أنفسهم.

وفيهما دلالة الإحياء والبعث بعد الفناء والهلاك؛ حيث ذهب بهذا أتى بآخر بعد أن لم يبق من أثره شيء، فمن قدر على هذا قدر على البعث والإحياء بعد الموت وذهاب أثره.

ويذكران أيضًا نعمه وآلاءه؛ لأنه جعل النهار متقلبًا لمعاشهم ومطلبًا لرزقهم، وما به قوام أنفسهم، وجعل الليل مستراحًا لأبدانهم وسكونهم لا قوام للأبدان بأحد دون الآخر؛ ألا ترى أنه كيف ذكر نعمه فيهما؛ حيث قال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللّه عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} الآية،

وقال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللّه عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّه يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} الآية، يذكرهم عظيم نعمه فيهما أعني في الليل والنهار؛ ليتأدى بذلك شكره؛ فعلى ذلك هذا ما ذكرنا قوله: {جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} النعمة التي جعل لهم.

قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} أي يكون كل واحد منهما خلفا للآخر فيما يفوت فيه من التذكر والتشكر، أي: ما فات في أحدهما من التذكر والتشكر يقضي في الآخر.

وقال الحسن قريبا مما ذكرنا،

وقال: من فاته شيء بالليل أدركه بالنهار، ومن فاته شيء بالنهار أدركه بالليل.

وعلى مثل ذلك روي عن عمر: أن رجلا قال له: يا أمير المؤمنين، إني لم أدرك الصلاة الليلة، فقال عمر: " أدرك ما فاتك من ليلك في نهارك، وما فاتك من نهارك في ليلك "، ثم قرأ: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً}.

وقَالَ بَعْضُهُمْ {خِلْفَةً} من الاختلاف، أي: يخالف أحدهما الآخر.

ثم يحتمل الاختلاف وجهين:

أحدهما: مجيء أحدهما وذهاب الآخر على ما ذكرنا؛ كقوله: {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}.

والثاني: هو اختلاف اللون من [السواد] والبياض: أحدهما أسود، والآخر أبيض، واللّه أعلم.

وقوله: {جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا}:

قَالَ بَعْضُهُمْ: البروج هي النجوم العظام، والواحد: برج، وهو قول ابن الأعرابي.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: البروج: القصور في السماء، فيها تنزل الشمس في كل ليلة، وروي مثل قول عمر عن سلمان أن رجلا قال له: إني لا أستطيع قيام الليل. قال: " إن كنت لا تستطيع قيام الليل، فلا تعجزه بالنهار ".

وذكر لنا أن نبي اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: " أصيبوا من الليل ولو ركعتين ولو أربعا ".

وذكر لنا أن نبي اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " والذي نفسي بيده، إن في كل ليلة ساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل اللّه فيها خيرًا إلا أعطي له في هذا الليل والنهار؛ فإنهما مطيتان تقحمان الناس إلى آجالهم، تقربان كل بعيد، وتبليان كل جديد، وتجيئان كل موعود، حتى يؤدي ذلك إلى يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يكون مصيرهم إلى الجنة وإلى النار؛ لتجزى كل نفس بما كسبت ".

٦٣

وقوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} وصف - عَزَّ وَجَلَّ - هَؤُلَاءِ

الصفوة والأخلاص من عباده أنهم يمشون على الأرض هونا - إلى آخر ما ذكر، وإلا كانوا كلهم عباد الرحمن.

وصف أهل الصفوة منهم والإخلاص والتقى.

وقوله: {يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا}:

قَالَ بَعْضُهُمْ: حلماء أنقياء بغير مرح ولا بطر.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {هَوْنًا} أي: متواضعين، لا خيلاء، ولا كبرياء، ولا مرحًا.

وعن الحسن قال: هم المؤمنون قوم ذلل، ذلت - واللّه الأسماع والأبصار والجوارح حتى يحسبهم الجاهل مرضى، واللّه ما بالقوم من مرض، وإنهم لأصحة القلوب، ولكن دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم.

وفي بعض الأخبار مرفوعًا عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " المؤمنون هينون لينون كالجمل الدنف؛ إن قيد انقاد، وإن أنيخ على صخرة استناخ ".

وأصله: أنهم يمشون هونًا من غير أن يتأذى بهم أحد، أو يُلْحِقَ بأحد منهم ضررٌ، واللّه أعلم.

وقوله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}:

قَالَ بَعْضُهُمْ: إذا خاطبهم الجاهلون، وشافههم السفهاء، لا يجاهلون أهل الجهل والسفه، ولكن قالوا: السلام عليكم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: وإذا سمعوا الشتم والأذى قالوا: سلامًا، أي سدادًا وصوابًا من القول، وردًّا مصروفًا أعرضوا عن سفههم وجهلهم بهم، ولم يكافئوهم؛ كقوله: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ. . .} الآية، يخبر - عز وجل - عن صحبتهم أهل السفه والجهل وحسن معاشرتهم إياهم، ورفقهم، فكيف يعاملون أهل الخير والعقل منهم ويصاحبون، فهذه معاملتهم الخلائق على الوصف الذي وصفه، ثم

٦٤

أخبر عن صنيعهم للّه وركونهم إليه، فقال (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (٦٤).

عن الحسن قال: لما نزلت هذه الآية قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " رحم اللّه الذين يبيتون الليل وأيديهم على ركبهم "، ثم قال: " من صلى ركعتين بعد العشاء، فقد بات للّه تعالى ساجدًا قائمًا ".

وقال الحسن: كانوا يبيتون للّه على أقدامهم ويفترشون وجوههم سجدًا لربهم تجيء دموعهم على خدودهم، فرقا من ربهم،

وقال: لأمر ما سهر ليلهم، ولأمر ما خشع له

نهارهم.

٦٥

وقوله: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (٦٥) يحتمل أن يكون هذا إخبارًا من اللّه تعالى عما في ضميرهم، ليس على حقيقة القول والدعاء؛ لأن من بلغ في العبادة والورع المبلغ الذي وصفهم لا يشغلون أنفسهم بالسؤال عن دفع المضار أو جر النفع.

ويحتمل: على الدعاء والقول على ما أخبر، واللّه أعلم.

ثم أخبر عن عذابها فقال: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا}.

قال الحسن: الغرام: اللازم الذي لا يفارق صاحبه، وكل غريم يفارق غريمه غير عذاب جهنم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الغرام: الهلاك

٦٦

وقال: (إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (٦٦) أي: جهنم بئس المستقر وبئس المقام لأهلها، هو مقابل ما ذكر لأهل الطاعة الجنة حيث قال: {حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا}.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: غراما: غرموا في الآخرة ما نعموا في الدنيا.

وفي حرف ابن مسعود: كان غراما إنما أنبئنا {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا}.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: {هَوْنًا} من الرفق يقال: وإن يهون هونًا، فهو هائن.

وقولهم: (وإذا عز أخوك فهن) أي: إذا اشتد، فارفق به.

والغرام: الهلاك.

وكذلك قَالَ الْقُتَبِيُّ: غراما، أي: هلكة.

وقال: مشيًا هونًا: رويدًا، سلامًا، أي: سدادًا من القول لا رفث فيه ولا هجر.

٦٧

وقوله: (إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا (٦٧)

قَالَ بَعْضُهُمْ: لم يسرفوا في غير حق، كسبوا طيبا وأنفقوا قصدًا وأعطوا فضلا وجادوا، واستبشروا {وَلَمْ يَقْتُرُوا} أي: ولم يتمسكوا عن الحق.

وقوله: {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} أي: بين الإسراف والتقتير مقصدًا؛ وهو تأويل مقاتل.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الإسراف هو الإنفاق في معصية اللّه، {وَلَمْ يَقْتُرُوا} أي: لم يمنعوا عن طاعته، {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} أي: عدلا، لا يمسك عن حق ولا ينفق في باطل، ولكن نفقة في طاعة اللّه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الإسراف في النفقة: هو الإنفاق فيما لا ينتفع به؛ من نحو: البحيرة

والسائبة والوصيلة التي كانوا يتركونها سدى ولا ينتفعون بها.

والإقتار: هو الإمساك عن الإنفاق فيما ينتفع به.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الإسراف: هو المجاوزة عن الحد الذي جعل له في الإنفاق: في الإكثار، والإقتار: هو المنع عن الحد الذي جعل له.

{وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} أي: وسطا؛ كقوله: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} ولكن بين ذلك.

وأصل {لَمْ يُسْرِفُوا}، أي: لم ينفقوا ولم يضعوا إلا فيما أمروا أن يضعوا فيه.

{وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} أي: قائمًا في ذلك، أخبر أن ما يفعلونه لا يفعلونه إلا بأمر، وأخبر أنهم لا يدعون مع اللّه إلها آخر.

٦٨

ثم يحتمل هذا وجهين: (لَا يَدعُونَ (٦٨) أي: لا يعبدون دون اللّه غيره، أو: لا يسمون غير اللّه.

{وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّه إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ}: أخبر في الآية الأولى في قوله {يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} عن معاملتهم الخلق، وصنيعهم بينهم وبين العباد؛ حيث أخبر أنهم يمشون هونًا ولا يؤذون أحدًا ولا يضرونه، وإذا أذاهم أهل الجهل والسفه لم يكافئوهم لأذاهم، ولكن احتملوا ذلك عنهم وتجاوزوا، وقالوا لهم قولا سديدًا؛ هذه معاملتهم فيما بينهم وبين الخلق بالنهار، وأخبر عن معاملتهم ودعائهم ربهم بالليل حيث قال: (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (٦٤) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ) الآية.

ثم أخبر عن صنيعهم في أموالهم التي في أيديهم أنهم لا يضعونها إلا فيما أمروا بالوضع فيها.

وأخبر عن صفتهم وإخلاصهم للّه في العبادة وكفهم عن محارم اللّه حيث قال: {إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا}،

وقوله: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللّه إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّه إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ}،

وقوله: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} موصول بهذا أيضًا، ومقدم عن قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا}؛ كأنه قال: ولا يزنون ولا يشهدون الزور، ومن يفعل ذلك - أي: ما ذكر من قتل النفس المحرمة، والزنا، وشهادة الزور، والشرك - يلق أثامًا.

قَالَ بَعْضُهُمْ: أثامًا: أي: واديًا في جهنم.

٧٢

وقَالَ بَعْضُهُمْ: أثامًا: عذابًا في النار.

وقوله: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (٧٢)

قَالَ بَعْضُهُمْ: لا يشهدون مكان الزور، وهو الغِناء، أي: لا يشهدون المكان الذي يتغنى فيه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا يشهدون بشهادة الزور، وهو الكذب.

وقوله: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا}: مرور الكرام، أي: إن قدروا على تغيير ما عاينوا من اللغو والمنكر غيروه، ومضوا على وجههم من غير أن دخل في ذلك فساد، وإن لم يقدروا مضوا، ولم يعبئوا به، ولا اشتغلوا به؛ كقوله: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ}.

وفي قوله: {وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّه إِلَّا بِالْحَقِّ} دلالة نقض قول الخوارج؛ بتكفيرهم أصحاب الكبائر؛ لأنه أخبر أنها محرمة بعد ارتكابها الزنا والقتل كما هي قبل ارتكابها إلا بالحق؛ حيث قال: {وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّه إِلَّا بِالْحَقِّ} دل أنها محرمة بعد غير كافرة.

{إِلَّا بِالْحَقِّ}: إما بحق القصاص، وإما بحق الزنا، واما بحق الارتداد؛ على ما ذكر في الخبر: " لا يحل قتل امرئ مسلم إلا في إحدى ثلاث خصال: زنا بعد إحصان، وكفر بعد إيمان، وقتل نفس بغير حق " ولو كانت كافرة بارتكاب ما ذكر لكانت غير محرمة؛

فدل أنه ما ذكرنا.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الإسراف: الفساد، والتقتير: التضييق، {وَلَمْ يَقْتُرُوا} أي: لم ينفقوا قليلا لا يكفي عيالهم.

قال: والقوام: الوسط. ويقال: لا قوام لي في هذا الأمر، أي: لا طاقة لي فيه، ولا أقاوم هذا الأمر، أي: لا أطيقه، والقوام: القصد.

قال أبو معاذ: في قوله: {وَلَمْ يَقْتُرُوا} لغات أربع: (ولم يُقْتِروا): برفع الياء وبخفض التاء غير مثقل، و {يَقْتِروا} بنصب الياء، وخفض التاء، و {يَقْتُرُوا} برفع التاء، والمعنى كله واحد.

٧٣

وقوله: (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (٧٣)

قَالَ بَعْضُهُمْ: يقول: إذا ذكروا بآيات ربهم لم يصموا عن الحق ولم يعموا؛ قال: هم - واللّه أعلم - قوم عقلوا عن اللّه، وانتفعوا بما سمعوا من كتاب اللّه.

وقال الحسن: من يقرؤها بلسانه يخر عليها أصم وأعمى؛ كأنه يخبر أن أُولَئِكَ - أعني: أهل صفوة اللّه وإخلاصه - لم يخروا على تلك الآيات صُمًّا ولا عميانا كالكفرة العندة، ولكن خروا عليها متذكرين ومتفقهين متيقظين، عالمين بما فيها، عاملين؛ كقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّه وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ. . .} الآية.

وقوله: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا}: فَإِنْ قِيلَ: أخبر هاهنا أنه يضاعف له العذاب، وقال في آية أخرى: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا}، فما معنى الضعف هاهنا؟

قيل: يحتمل هذا وجهين:

أحدهما: أنه يضاعف العذاب للذين تقدم ذكرهم إذا كفروا باللّه بعدما بلغوا المبلغ

الذي وصفهم والرتبة التي ذكر، وهو قوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} الآية: أن واحدا منهم إذا كفر يضاعف له العذاب؛ يتضاعف عذابه على قدر منزلته ومرتبته عند اللّه، وعلى قدر نعم اللّه عليه إذا كان منه عصيان وكفران لذلك، وهو كما قال لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (٧٤) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ). أي: ضعف عذاب الحياة، وضعف عذاب الممات، وما ذكر - أيضًا - لأزواجه حيث قال: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ}، كل من كان أعظم قدرًا وأكثر نعمًا عليه، فعقوبته إذا عصى ربه أكثر وأشد من الذي لم يبلغ ذلك ولا تلك الرتبة، فيكون ضعف غيره وجزاء مثله.

والثاني: أن يكون ذلك للأئمة -أعني: الكفرة والرؤساء- دون الأتباع؛ لأنهم عملوا هم بأنفسهم ودعوا غيرهم إلى ذلك؛ كقوله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ}.

أو أن يكون ذلك لهم العناد الذي كان منهم والمكابرة.

ثم استثنى من تاب منهم، فقال: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا. . .} الآية، في الذين قال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا}، فكان فيه دلالة قبول توبة المرتد إذا تاب ورجع إلى الإسلام؛ حيث استثنى من تاب منهم.

وقوله: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللّه سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ}: هذا يحتمل وجهين:

أحدهما: يوفقهم اللّه إذا تابوا وندموا على ما فعلوا من السيئات في الدنيا؛ حتى يعملوا مكان كل سيئة عملوها حسنة؛ فذلك معنى تبديل اللّه سيئاتهم حسنات، أي: يوفقهم على ذلك.

والثاني: يبدل اللّه سيئاتهم حسنات في الآخرة؛ لما كان منهم الندامة والحسرة على كل سيئة كانت منهم في الدنيا، وعلى ذلك روي عن أبي هريرة قال: " ليأتين أقوام يوم القيامة ودوا أنهم استكثروا من السيئات، فقيل له: يا أبا هريرة، ومن هم؟ قال: هم الذين يبدل اللّه سيئاتهم حسنات "؛ وكأنه روي مثله عن عبد اللّه بن مسعود.

وقوله: (وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللّه مَتَابًا (٧١) لا يرجع عنها أبدًا، وعلى ذلك يخرج قوله: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}، على الأمر؛ دليله قوله حيث قال: {خَفَّفَ اللّه عَنْكُمْ} الآية.

والثاني: أن يكون ذلك لقوم خاص، علم اللّه أنهم إذا تابوا توبة لا يرجعون عنها أبدًا،

وإلا ليس كل من تاب يكون على توبته أبدًا.

وقوله: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ}: قد ذكرناه، {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا}: قد ذكرناه أيضًا.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: إذا أوذوا صفحوا.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنهم كانوا إذا أتوا على ذكر النكاح أو غيره كنوا عنه.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: {يَلْقَ أَثَامًا} أي: عقوبة، الآثام: العقوبة.

وقوله: {مَرُّوا كِرَامًا} أي: لم يخوضوا فيه، وأكرموا أنفسهم عنهم.

{صُمًّا وَعُمْيَانًا} أي: لم يتغافلوا عنها.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنهم إذا وعظوا بالقرآن لم يخروا عليها صُمًّا وعميانًا عند تلاوة القرآن، فلا يسمعون ولا يبصرون، ولكن يخرون عليها سمعًا وبصرًا؛ وهو واحد.

٧٤

وقوله: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (٧٤) قد نعتهم - عَزَّ وَجَلَّ - في معاملتهم أن كيف عاملوا ربهم بالليل والنهار ونعتهم أيضًا في معاملتهم عباده أن كيف عاملوا عباده، ثم نعتهم في معاملتهم أهليهم ودعائهم لهم، فقال: يقولون: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ}، فهو - واللّه أعلم - لما أمرهم أن يقوا أنفسهم وأهليهم النار بقوله: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا. . .} الآية؛ فعند ذلك دعوا ربهم، وسألوه أن يهب لهم من أزواجهم وقرباتهم ما تقر به أعينهم في الدنيا والآخرة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: اجعلهم صالحين مطيعين؛ فإن ذلك يقر أعيننا.

قال الحسن: واللّه ما شيء أَحبَّ إلى العبد المسلم من أن يرى ولده أو حميمه يطيع اللّه، ودال: نراهم يعملون بطاعة اللّه، فتقر بذلك أعيننا، واللّه أعلم.

وقوله: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}:

قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: اجعلنا أئمة هدى وتقوى يقتدى بنا.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: واجعلنا بحال يقتدي بنا المتقون.

وأصله - واللّه أعلم - أنهم سألوا ربهم أن يجعلهم بحال من اقتدى بهم صار متقيًا، لا من اقتدى صار ضالا فاسقًا، هذا - واللّه أعلم - تأويله، وإلا سؤالهم: أن اجعلنا إمامًا

للمتقين لا معنى له أن يطلبوا لأنفسهم الإمامة، ولكن على الوجه الذي ذكرنا، واللّه أعلم.

ثم أخبر عن جزائهم في الآخرة لعملهم في الدنيا وصبرهم على ما أمروا، فقال:

٧٥

(أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (٧٥) والغرفة: هي أعلى المنازل وأشرفها؛ أخبر أنهم يجزون ذلك ويكونون فيها.

وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا}، فجائز أن يكون الغرفة المذكورة في الآية كناية عن الجنة؛ يدل له حرف ابن مسعود.

وجائز أن يراد به نفس الغرفة؛ وهو لارتفاعها وعلوها على غيرها من المنازل، وذلك مما يختار الكون فيها في بعض الأوقات في الدنيا، والناس يرغبون فيها لإشرافها وارتفاعها على غيرها؛ فرغبهم بذلك في الآخرة.

وقوله: {وَيُلَقَّوْنَ} فيها بالتخفيف والتشديد، {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا} أي: يلقاهم الملائكة بالتحية والسلام؛ كقوله: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ}،

وقوله: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ}.

أو يلقى بعضهم بعضا بالتحية والسلام، ويحيي بعضهم بعضا، ويسلم بعضهم على بعض.

٧٦

وقوله: (خَالِدِينَ فِيهَا ... (٧٦) دائمين.

{حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا}: تأويله - واللّه أعلم - أي: حسنت لهم الجنة مستقرا ومقاما؛ حتى لا يملوا فيها ولا يسأموا، ولا تأخذهم الوحشة والكآبة؛ كنعيم الدنيا يمل ويسأم عند الكثرة وطول المقام.

٧٧

وقوله: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ (٧٧)

قَالَ بَعْضُهُمْ: {مَا يَعْبَأُ بِكُمْ} أي: ما يعتد بكم ربي لولا دعاؤه إياكم إلى التوحيد لتوحدوه وتطيعوه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {مَا يَعْبَأُ} أي: ما يصنع بكم ربي.

وتأويله - واللّه أعلم - أي: ما يصنع ربي بعذابكم إن شكرتم وآمنتم.

وقوله: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا}: اختلف فيه؛

قَالَ بَعْضُهُمْ:

هو عذاب يوم بدر -يعني: ألزم بعضهم بعضا- وكذلك قال ابن مسعود قال: " مضت آية الدخان والبطشة واللزام يوم بدر "،

وقال: لزامًا، أي: عذابًا ملازمًا غير مفارق، وهو عذاب الآخرة.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: {مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي} أي: ما يصنع، يقال: عبأ يعبأ عبئا؛ فهو عابئ إذا احتاج إليكم، ويقال: " ما أعبأ بهذا الأمر " أي: ما أصنع به، ويقال: عبأت بفلان، أي: احتجت إليه؛ وكذلك قول الْقُتَبِيّ، واللّه أعلم.

* * *

﴿ ٠