٢٠

وقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (٢٠) قد ذكرنا فيما تقدم أن هذا إنما أخرج جوابًا لقول أُولَئِكَ: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ}، فأخبر أن الرسل الذين كانوا من قبل مُحَمَّد كانوا يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق على ما يأكل هو ويمشي.

ثم من الناس من كره الركوب في الأسواق بهذا،

وقال: إنه أخبر عن الأنبياء والرسل جملة أنهم كانوا يمشون في الأسواق، لم يذكر منهم الركوب؛ فدل ذلك منهم أنه مكروه منهي عنه؛ فيشبه أن يكون ما قال هَؤُلَاءِ، وأنه يكون مكروهًا؛ لأنه يخرج الركوب في الأسواق مخرج التعزز والمباهاة؛ فالواجب على كل مسلم أن يكون تعززه بالإسلام وبدينه الذي اختاره اللّه تعالى، وخاصة على العلماء يجب أن يكون تعززهم ومباهاتهم بالعلم الذي أعطاه اللّه لهم وأكرمهم؛ فإنه عز لا يُعْقِبُهُ ذلاًّ: ولا يورثه صغارا ولا قهرا، وأمَّا كل عز كان سوى ما ذكرنا فهو إلى ذل ما يصير سريعًا، كأنه ليس بعز في الحقيقة، ولو تأصَّل، واللّه أعلم.

وقوله: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً}: الفتنة كأنها هي المحنة التي فيها شدة وبلاء.

ثم قال أهل التأويل: إنه لما أسلم عبد اللّه وأبو ذر وعمار وبلال وصهيب وأمثال هَؤُلَاءِ، قال الفراعنة من قريش نحو أبي جهل والوليد وأمثالهما: انظروا إلى هَؤُلَاءِ الذين اتبعوا محمدا، اتبعوه من موالينا وأعرابنا رذالة كل قوم، فازدروهم وآذوهم واستهزءوا

بهم؛ فأنزل اللّه هذه الآية لهَؤُلَاءِ الفقراء الذين اتبعوا رسول اللّه؛ ليصبرهم على أذاهم فقال: {فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} أي: اصبروا على الأمر؛ هذا محتمل.

وقال الحسن: قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} جعل أهل البلوى فتنة لغيرهم وغير أهل البلوى؛ يقول الأعمى: لو شاء اللّه لجعلني بصيرا مثل فلان، ويقول الفقير؛ لو شاء اللّه لجعلني غنيًّا مثل فلان؛ وكذلك يقول السقيم: لو شاء اللّه لجعلني صحيحًا مثل فلان، لكنه أعطى لأهل البلوى البلوى وأمرهم بالصبر عليها، وأعطى لأهل النعمة النعمة وأمرهم بالشكر عليها ".

وجائز أن يكون غير هذا، وهو قريب من هذا، وذلك أنه أعطى بعضا النعمة والسعة، وجعل بعضهم أهل ضيق وشدة، ثم جعل كل فريق محتاجًا إلى الفريق الآخر؛ جعل الغني والمثري محتاجًا إلى الفقير في بعض أموره، والفقير محتاجًا إلى الغني لغناه، وجعل لبعض على بعض مؤنة ما لولا فقر الفقير لا يعرف الغني قدر غناه، ولا الفقير قدر فقره، ولا قام بعض بكفاية مؤنة بعض، ثم أمر كلا بالصبر على تحمل مؤنة الآخر بقوله: {أَتَصْبِرُونَ} أي: اصبروا على الأمر يخرج، وإن كان ظاهره استفهامًا وسؤالا، واللّه أعلم.

وقوله: {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} أي: على بصر وعلم؛ جعل بعضا فتنة لبعض ليس على سهو وغفلة.

﴿ ٢٠