سُورَةُ الشُّعَرَاءِ

وهي مَكِّيَّة

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (طسم) قد ذكرنا تأويل الحروف المعجمة فيما تقدم؛ وكذلك

٢

قوله: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (٢) قد ذكرنا تأويله، أيضًا.

٣

وقوله: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣) كان يشتد على رسول اللّه تركهم الإيمان وتكذيبهم إياه؛ إشفاقًا وخوفًا عليهم، وتعظيمًا للّه وإجلالا لحقه، حتى كادت نفسه تهلك حزنًا على ذلك؛ وكقوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} والأسف: هو النهاية في الحزن؛ كقول يعقوب: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ}.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الأسف: هو النهاية في الغضب؛ كقوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ}، قيل: أغضبونا، وقد ذكرنا في سورة يوسف على ما ذكر اللّه ورسوله ووصفه كان مطبوبًا بحزن وتأسف لمكان كفرهم وتكذيبهم؛ كقوله: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ. . .} الآية، يحزن عليهم إشفاقًا عليهم، ويغضب عليهم للّه تعظيمًا له وإجلالا لأمره لما ضيعوا أمره ونهيه، وهكذا الواجب على كل من رأى آخر في فاحشة أو كبيرة أن يحزن ويترحم عليه ويغضب للّه لما ارتكب من الفاحشة.

٤

وقوله: (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (٤) قالت المعتزلة: قوله: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً} مشيئة قسر وقهر حتى يضطروا لها فيؤمنوا.

لكن عندنا مشيئة الإيمان والاختيار، أي: إن شاء إيمانهم ينزل عليهم آية فيؤمنوا؛ لأن الآية لا تضطر أحدًا ولا تقهر على الإيمان، دليله قوله: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى} الآية، أخبر أنهم لا يؤمنون وإن فعل ما ذكر، ولا يضطرهم ذلك على الإيمان؛ وكذلك ما أخبر عنهم في الآخرة، قال: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّه جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ. . .} الآية.

وقوله: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ. . .} الآية، أخبر عن خلفهم وإنكارهم في

الآخرة: أنهم لم يكونوا على ما كانوا، ولا تكون آية أعظم مما عاينوا من أنواع العذاب، ثم لم يمنعهم ذلك عن التكذيب، ولا اضطرهم على الإقرار والتصديق؛ دل أن الآية وإن كانت عظيمة لا تضطر أهلها على الإيمان والتصديق، وقد ذكرنا هذه المسألة فيما تقدم ما يغنينا عن ذكرها في هذا الموضع.

وقوله: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} أي: مالت وخضعت لها أعناقهم، والأعناق كأنها كناية عن أنفسهم.

وعن ابن عَبَّاسٍ قال: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} قال: سيكون لنا دولة على بني أمية، فتذل لنا أعناقهم بعد صعوبة وهوانا بعد عزة، فقد كان ذلك.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الأعناق: السادة والقادة، والواحد عنق، أي: إذا أسلم القادة أسلم الأتباع اتباعًا لهم، واللّه أعلم.

٥

وقوله: (وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥)

قَالَ بَعْضُهُمْ: يقول: كلما نزل شيء بعد شيء من الموعظة والذكر فهو محدث من الأزل.

وجائز أن يكون قوله: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ} مما به فيه ذكرهم في الآخرين وشرفهم في الخلق إلا كانوا عنه معرضين؛ لأنهم لو آمنوا لذكروا في الناس، وبقي لهم ذكر وشرف كذكر الأنبياء والرسل فيهم إلى آخر الدهر.

وقوله: {مُحْدَثٍ} هو محدث على هذين الوجهين اللذين ذكرناهما.

قَالَ الْقُتَبِيُّ وأَبُو عَوْسَجَةَ: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ} كما تقول: ظللت اليوم، قالا: والأعناق: السادة والواحد منه: عنق.

٦

وقوله: (فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (٦) هي ظاهرة؛ قد ذكرنا تأويله فيما تقدم.

٧

وقوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) هذا يحتمل وجهين:

أحدهما: قد رأوا ما أنبتنا وأخرجنا منها. والثاني: على الأمر، أي: رأوا ما أنبتنا في الأرض، وأخرجنا منها.

{مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ}: قال الحسن: الكريم: الحسن البهيج.

وقوله: {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ} أي: جنس حسن.

٨

وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً ... (٨) يحتمل قوله: {لَآيَةً} لوحدانية اللّه وألوهيته، وآية لسلطانه وقدرته، وآية لعلمه وتدبيره؛ لأن من قدر على إحياء النبات والأرض بعد ما يبس وجف لقادر على إحياء الموتى وبعثهم.

ودل إخراج النبات من الأرض في كل عام على حد واحد، وعلى قدر وميزان واحد، على أنه إنما خرج ذلك عن تدبير وعلم ذاتي وقدرة ذاتية، ليست بمستفادة؛ فدل ذلك كله أنه فعل واحد قادر مدبّر عالم، لا يعجزه شيء أو لا يخفى عليه شيء، واللّه الموفق.

وقوله: {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}: يحتمل قوله: وما كان أكثر الذين بعث إليهم محمد مؤمنين، وهم الذين كانوا وقت مبعثه.

وجائز أن يكون: وما أكثر ما يكونوا مؤمنين.

٩

وقوله: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٩) جائز أن يقال: العزيز: المنتقم من أعدائه، الرحيم بأوليائه.

ويحتمل: العزيز على الخلائق كلهم، وهم أذلاء دونه، به يعز من عز.

١٠

وقوله: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} أي: أمر ربك موسى وأوحى.

{أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}: فيه دلالة أن موسى - صلوات اللّه عليه - كان مبعوثًا مرسلا إلى فرعون وقومه، وإن كان لم يذكر في بعض الآيات قومه حيث قال: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى}، وقال في بعضها: {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ}؛ فهذا لأنهم كانوا الرؤساء والقادة، فإذا آمنوا هم اتبعهم الأتباع في ذلك، وإلا كان مبعوثًا في الحقيقة رسولا إليه وإلى قومه جميعًا الأتباع والمتبوعين لما ذكر.

١١

وقوله: (قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (١١) كأنه على الإضمار: أن ائت القوم الظالمين، وقل لهم: ألا تتقون.

ثم قوله: {أَلَا يَتَّقُونَ} يحتمل وجهين:

أحدهما: ألا تتقون مخالفة أمر اللّه ونهيه.

أو يقول: ألا تتقون نقمة اللّه وعقوبته، واللّه أعلم.

١٢

وقوله: (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) لم يقطع موسى القول في التكذيب، ولكنه على الرجاء قال ذلك، وذلك - واللّه أعلم - كقوله: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}، فكأنه رجا ذلك منه لهذا، واللّه أعلم.

وجائز أن يكون على القطع والعلم منه بالتكذيب؛ كأنه قال: إني أعلم أن يكذبون، وذلك جائز في اللغة.

١٣-١٤

وقوله: (وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (١٣) لأن عليه أن يغضب للّه إذا كذبوه، فإذا اشتد بالمرء الغضب ضاق صدره وكَلَّ لسانه، وهو ما دعا ربه وساله حيث قال: (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي) الآية، وهو ما ذكرنا أن الغضب إذا اشتد بالمرء يضيق صدره حتى يمنعه عن الفهم، ويكل لسانه حتى يمنعه عن العبارة والبيان.

وجائز أن يكون ذلك لآفة كانت بلسانه.

ثم ضيق الصدر يكون لوجهين:

أحدهما: لعظيم أمر اللّه وجلال قدره إذا كذبوه وردوا رسالته وأمره - ضاق لذلك صدره.

أو يضيق لما ينزل عليهم من عذاب اللّه ونقمته بالتكذيب؛ إشفاقًا عليهم منه، واللّه أعلم.

وقوله: (فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤) قوله: {فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} لسؤاله إياه حيث قال: (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (٢٩) هَارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي)؛ فعلى ذلك قوله: {فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} يكون معي في الرسالة؛ وكقوله: {هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا. . .} الآية.

وذنبه الذي ذكر أنه عليه: هو قتل ذلك القبطي وهو قوله: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ}، ذلك ذنبه الذي لهم عليه.

١٥

ثم قال: (كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥)

وقوله: {كَلَّا} رد على قول موسى: {فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ}؛ كأنه قال: لا تخف، وهو ما قال في آية أخرى حيث قالا: {إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى}، فقال عند ذلك {لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}؛ فعلى ذلك قوله: {كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ}، وقال في تلك الآية: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}، أي: أسمع ما يقولون لكما، وأرى ما يفعلون بكم، فأمنعهم عنكما؛ لأنهما ذكرا الخوف منه من شيئين: من الفعل والقول حيث قالا: {إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا}: بالفعل، {أَوْ أَنْ يَطْغَى} باللسان.

١٦

وقوله تعالى: (فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٧)

قوله: {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} ليس على حقيقة الإرسال معه، ولكن على ترك استعبادهم؛

١٧

كقوله: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ} أي: خل بينهم وبين استخدامك إياهم واستعبادك، واللّه أعلم.

١٨

ثم قال له فرعون: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ}: يذكر نعمته التي أنعمها عايه بتربيته إياه صغيرًا، وكونه فيهم دهرا، وكفران موسى لما أنعم عليه وهو ما

١٩

 قال: (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (١٩) وهو قتل ذلك القبطي الذي وكزه موسى فقضى عليه، فأقرَّ له موسى بذلك، فأخبر أنه فعل ذلك حيث قال: (فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠)

٢٠

وقوله: {فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} أي: فعلت ذلك وأنا كنت من الجاهلين، لا يعلم أن وكزته تلك تقتله، وإلا لو علم ما وكزه؛ لأنه لم يكن يحل له قتله حيث قال: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}؛ دل ذلك منه أنه كان لم يحل قتله إلا أنه جرى

ذلك على يده خطأ وجهلا.

وفيه دلالة أن الرجل قد ينهى ويؤاخذ بما يجري على يده خطأ وجهلا، ويخاطب بذلك حيث قال: {فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ}.

٢١

ثم قال: (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ ... (٢١) وهو حين قال ذلك الرجل: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ} الآية، فخرج منها خائفًا يترقب، وذلك فراره منهم.

وقوله: {فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ}:

قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا} أي: نبوة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: حكما، أي: منَّ عليَّ بالحكم وجعلني من المرسلين، وقد كان ذلك له كله.

٢٢

وقوله: (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (٢٢) وهو استعبادك إياهم، أي: إذا ذكرت هذا فاذكر ذاك، هذا يحتمل وجوهًا.

أحدها: أن تذكر ما أنعمت عليَّ وتمنها، ولا تذكر مساوئك ببني إسرائيل، وهو استعبادك إياهم، أي: إذا ذكرت هذا فاذكر ذاك.

والثاني: أن تلك نعمة تمنها عليَّ حيث لم تعبدني وعبَّدت بني إسرائيل، يخرج على قبول المنة منه.

والثالث: وتلك نعمة لو خليت عن بني إسرائيل ولم تستعبدهم لولوا ذلك عنك، وتمام هذا يقول موسى لفرعون: أتمن عليَّ يا فرعون بأن اتخذت بني إسرائيل عبيدًا، وكانوا أحرارا فقهرتهم؟!

وقال موسى: {فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} أي: من الجاهلين بذلك أنه يتولد من وكزته الموت؛ وكذلك روي في بعض الحروف: (وأنا من الجاهلين)؛ دل أنه على الجهل ما فعل ذلك لا على القصد.

وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ} يقول: وهذه منة تمنها بقوله: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} أن يقول: تمن بها عليَّ أن تستعبد بني إسرائيل، وتمن عليَّ بذلك.

٢٣-٢٥

ثم قال فرعون لموسى: (وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (٢٣) فقال له: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا (٢٤) من خلق، {إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ}، ثم قال لمن حوله: (أَلَا تَسْتَمِعُونَ (٢٥)

إنما قال اللعين هذا - واللّه أعلم - لما وقع عنده أن موسى حاد عن جواب ما سأله؛ لأنه إنما له سأله عن ماهيته فهو إنما أجابه عن قهره وربوريته؛ فظن أنه حائد عن جواب ما سأله؛ وكذلك قال لقومه: {أَلَا تَسْتَمِعُونَ} إلى ما يقول موسى؛ تعجبًا منه أني أسأله عن شيء وهو يجيبني عن شيء آخر.

٢٦-٢٨

ثم قال موسى: (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) فقال عند ذلك. (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧) نسبه إلى الجنون لما ذكرنا أنه ظن أنه حائد عن الجواب في كل ما ذكر، إنما كان السؤال منه عن الماهية، وهو لم يجبه عنها، فعند ذلك قال موسى: (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨) لم يجبه موسى في كل ما ذكر عن الماهية، ولكن أجابه في الأول في بيان ربوريته وألوهيته حيث قال: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} ذلك، فعرف اللعين أنه ليس هو رب السموات والأرض لما يعلم أن لا صنع له في ذلك، وأنه لم ينشئهما ولكن أنشأهما رب العالمين على ما ذكر موسى، لكن كأنه لم يعرف حدوثهما ولا فناءهما بما ذكر له موسى؛ لما لم يشاهد حدوثهما وفناءهما، فلم يتقرر ذلك عنده لما يقع عنده أنهما كذلك كانا ويكونان أبدًا، فعند ذلك احتاج إلى أن ذكر له ما يشاهد حدوثهما وفناءهما وهو ما قال: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ}، ذكر له ما شاهد حدوثه وفناءه، فإذا عرف حدوث ما ذكر وفناءه يعرف أنه إذًا لم يكن بنفسه ولا كان نفسه، ولكن بمحدث أحدثه وبمدبر دبره.

ثم قال: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا}: ذكر هاهنا قدرته وسلطانه، وهو ما يأتي بالنهار من المشرق، وبالليل من المغرب، ويطلع الشمس من المشرق، ويغربها من المغرب؛ وكذلك القمر والنجوم، ففيه دلالة البعث؛ لأن من قدر على أن يأتي بالنهار من كذا، وبالليل من ناحية كذا، والشَّمس والقمر من كذا - قادر على البعث، لا يعجزه شيء؛ ففي كل حرف من هذه الأحرف دلالة واستدلال على شيء ليس ذلك في الأخرى.

وفي قوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} دلالة ربوبية اللّه وألوهيته.

وفي قوله: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} دلالة حدوث ما ذكر وفنائه، ودلالة محدث ومدبر.

وفي قوله: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} دلالة قدرته وسلطانه على البعث على الوجه الذي ذكرنا.

وفي ذلك دلالة أن اللّه تعالى لا يعرف بالماهية ولا بما يحس، ولكنه إنما يعرف من جهة الاستدلال بخلقه، وبالآيات التي تدل على وحدانيته، حيث سأل فرعون موسى عن

الماهية، فأجاب على الاستدلال بخلقه.

٢٩

ثم قال اللعين: (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩)

قَالَ بَعْضُهُمْ: إنما أوعده السجن ولم يوعده القتل؛ لأنه طلب منه الحجة على ما ادعى من الرسالة حيث قال: (قَالَ فَأْتِ بِهِ ... (٣١) ولو قتله لكان لا يقدر على إتيانها.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا، ولكن كان سجنه أشد من القتل ومن كل عقوبة.

فقال له موسى: {أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ} أي: ما يبين ربوبية اللّه وألوهيته أو ما يبين أني رسول اللّه، فقال له فرعون: {فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} بالرسالة، وبما ادعيت، فدل قول فرعون لموسى حيث قال له: {فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} أنه قد عرف أنه رسول، وأنه ليس بإله على ما ادعى، وأن الإله غيره حيث طلب هذه الآية.

وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} بالآيات التي تدل على وحدانية اللّه تعالى ومشيئته، ذكر هذا مقابل إنكارهم الصانع.

والإيقان: هو العلم الذي يستفاد من جهة الاستدلال؛ ولذلك لا يقال للّه. موقن.

وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}: صلة قوله: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ}.

٣٢

وقوله: (فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (٣٢)

قَالَ بَعْضُهُمْ: الثعبان: هو الكبيرة العظيمة من الحيات. وقال في موضع آخر: {تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ}، وقال في موضع آخر: {فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى}، فجائز أن تكون كالثعبان بعد ما طرحها وألقاها، وقبل أن يطرحها كالجان وهي الحية الصغيرة، واللّه أعلم.

٣٣

وقوله: (وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣) بياضا خارجًا عن خلقة البشرية، وخارجًا عن الآفة على ما ذكر في آية أخرى: {مِنْ غيرِ سُوءٍ}.

٣٤

وقوله: (قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (٣٥) هذا منه إغراء وتحريش منه لقومه على موسى؛ لئلا ينظروا إليه بعين التعظيم؛ لعظيم ما أتاهم من الآية وأراهم، حيث

٣٥

قال: {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ}، وموسى كان لم يرد إخراجهم من أرضهم، ولكن ذلك إغراء منه لهم عليه؛ لئلا يتبعوه؛ كأنه يقول: يريد أن

يخرجكم من أرضكم فيفسد عليكم معاشكم، ويضيق عليكم مقامكم ومتقلبكم.

وقوله: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}: هذا يبين أنه كان عرف أنه ليس بإله، فبين دناءته وقلة معرفته؛ لأنه لا يقول ملك من الملوك لقومه: ماذا تأمرون، وخاصة من يدعي لنفسه الألوهية بقوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}؛ فدل أنه كان خسيس الهمة في الرأي والبال.

٣٦

وقوله {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ}: احبسه وأخره، {وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ}: الحاشر: الجامع، والحشر: الجمع،

٣٧

(يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧).

وكان يجب أن يعرف أن السحر يقابل بسحر مثله، ولا يحتاج إلى أن يسأل قومه ذلك، لكنه كان اللعين ما ذكرنا من قلة البصر في الأمر وخساسة الهمة ودناءة الرأي.

٣٨-٤٠

وقوله (فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (٤٠) قال اللعين: نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين، ولم يقل: نتبعهم إن كانت معهم الحجة؛ ليعلم أنه قد علم وعرف أن لا حجة معهم، وأن الحجة مع موسى حيث وعد اتباع الغالبين دون من معهم الحجة.

وفي حرف ابن مسعود: (قال للناس هل أنتم مستمعون إلى السحرة أنهم يتغالبون لعلنا نتبع منهم الغالبين).

٤١-٤٢

وقوله: (فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (٤١) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢) هذا ظاهر، لكن أهل التأويل قالوا: كان السحرة كذا كذا عددا، وأن موسى

قال لأكبرهم ساحرًا: أتؤمن بي إن غلبتك، وقال الساحر كذا، وغير ذلك من الكلام مما ليس ذلك في الكتاب ذكره، وليس ينبغي لهم أن يشتغلوا بشيء من ذلك، أو أن يتأولوا شيئًا ليس في القرآن لما يدخل في ذلك من الزيادة والنقصان؛ فيكون للكفرة مقال في ذلك وطعن في رسالة رسول اللّه؛ لأن هذه الأنباء كانت في كتبهم، فذكرت لرسول اللّه لتكون آية له في الرسالة، فإن زادوا أو نقصوا يقولون: هذا كذب لم يذكر في كتابنا ذلك؛ فلهذا الوجه ما ينبغي لهم أن يزيدوا على ما ذكر في الكتاب أو ينقصوا؛ لئلا يجد أُولَئِكَ مقالا في تكذيب رسول اللّه.

٤٣

وقوله: (قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَإِنْ قِيلَ: كيف قال موسى لأُولَئِكَ السحرة: ألقوا، وهو يعلم أن ما يلقون هو سحر، فكيف أمرهم بالسحر؟!

قيل: هذا وإن كان في الظاهر أمرا فهو في الحقيقة ليس بأمر، إنما هو تهدد وتوعد، أي: ألقوا لتروا عجزكم وضعفكم، وذلك في القرآن ظاهره أمر، وهو في الحقيقة توعد؛ كقوله لإبليس: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ. . .} الآية، لا يخرج على الأمر، ولكن على التوعد والتهدد، أي: وإن فعلت ذلك فلا سلطان لك عليهم؛ كقوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}،

وقوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ}.

والثاني: أمرهم بذلك؛ ليظهر كذبهم ويتبين صدقه وحجته؛ إذ بذلك يظهر.

أو قال لهم ذلك لما كان ذلك سبب إيمان أُولَئِكَ السحرة، واللّه أعلم.

٤٤

وقوله: (فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (٤٤) هذا يدل أن السحرة كانوا يعبدون فرعون حيث قالوا: {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ}، وقد علموا عجز فرعون وضعفه؛ حيث فزع إليهم

وقال: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}.

٤٥

وقوله: (فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلَقَّفُ مَا يَأْفِكُونَ (٤٥) وقد قرئ: {تَلْقَفُ} بالتخفيف.

قال أَبُو عَوْسَجَةَ: تقول: تلقفت الشيء والتقفته، أي: أخذته، وقال غيره: تلقف، أي: تلقم؛ وهو واحد.

وقوله: {يَأْفِكُونَ}: وهو الفاعل بمعنى المفعود، أي: مأفوك، وذلك جائز في اللغة وأمثاله كثير؛ كقوله: {فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ}.

٤٦-٤٧

وقوله: (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (٤٦) أخبر لسرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا لما بانَ لهم من الحق وظهر، فقالوا: (آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٧)

٤٨

قال أهدٍ التأويل: إن فرعون قال عند ذلك: أنا رب العالمين، فقالت السحرة: (رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (٤٨)

لكن الامتناع عن هذا وأمثاله مما لم يذكر في الكتاب أولى؛ لما ذكرنا أنه إنما يحتج عليهم بهذه الأنباء على تصديقٍ من أهل الكتاب له في ذلك، لما هي مذكورة في كتبهم، فيخاف الزيادة والنقصان فيكذبون في ذلك، فيذكر القدر الذي في الكتاب؛ لئلا يدخل فيه الزيادة والنقصان فيفرق به ويكذب، إلا ما ظهر عن رسول اللّه القول به فيقال، وإلا الامتناع والكف أولى.

٤٩

ثم قال فرعون: (آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩) إن فرعون قد علم أن ما جاء به موسى هو حجة، لكنه كان يلبس على قومه وأصحابه ويغريهم عليه، فقال مرة: {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ}،

وقال: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ}، وقال مرة: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}،

وقال: {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ. . .} الآية.

٥٠

ثم أوعد لهم بوعائد فقال: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ}، فقالوا هم: (لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) أي: إنا إلى ثواب ربنا الذي وعد لنا لراجعون، لا يضرنا ما توعدنا به.

قال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: لَا ضَيْرَ: هو من ضاره يضوره ويضيره بمعنى: ضره، وقد قرئ: (وإن تصبروا وتتقوا لا يَضِرْكُم كيدهم شيئا) بالتخفيف بمعنى: لا يضركم.

٥١

فقالوا: (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١)

قَالَ بَعْضُهُمْ: {أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ}،

وقَالَ بَعْضُهُمْ: أن كنا أول أهل مصر إيمانًا.

وجائز: أن كنا أوّل المؤمنين للحال.

وقال بعض أهل التأويل: إن فرعون قد فعل بهم ما أوعد من قطع الأيدي والأرجل والصلب، لكن ليس في الآية بيان حلول ما أوعد بهم؛ فلا نقول به مخافة الكذب.

٥٢

وقوله: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) السرى: سير الليل، وهو ما قال في آية أخرى: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ}، أي: يتبعكم فرعون وقومه.

٥٣

وقوله: (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (٥٣) أي: أرسل في المدائن من يحشر الجنود والعساكر.

٥٤

وقالوا: (إِنَّ هَؤُلَاءِ ... (٥٤) يعنون: أصحاب موسى {لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ}

قَالَ بَعْضُهُمْ: الشرذمة: الجماعة العصابة، أي: عصابة قليلة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} أي: طائفة قليلة.

٥٥

(وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (٥٥) في الحلي الذي استعاروه منا، أي: ذهبوا به، مغايظة لنا.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} بما فعلنا بهم من قتل أولادهم، واستحيائهم نساءهم، ورجالهم يفعلون بنا ما فعلنا بهم إن ظفروا.

٥٦

وقوله: (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (٥٦) وحذرون:

قَالَ بَعْضُهُمْ: من الحذر.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} أي: مؤدون، أي: مقوون، أي: معنا أداة أصحاب الحرب، والمقوي: الذي دابته قوية.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {حَاذِرُونَ}، أي: مستعدون للحرب.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {حَاذِرُونَ} لما حدث لهم من الخوف، والحذر للحال حذر المعاودة، أي: حذروا أن يعودوا إليهم، وحذرون أي: كنا لم نزل منهم على حذر.

وقال أبو معاذ: حاذرون: مؤدون من الأداة، أي: تام السلاح.

وفي خروج موسى ببني إسرائيل مع كثرتهم على ما ذكر أنهم كانوا ستمائة ألف فصاعدًا من غير أن علم القبط بذلك - آية عظيمة؛ إذ لا يقدر نفر الخروج من محلة أو ناحية إلا ويعلم أهلها بخروجهم، ففي ذلك كان آية عظيمة؛ حيث خرجوا من بينهم من غير أن علم أحد منهم بذلك.

٥٧-٦٠

وقوله: (فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) يعني: فرعون وقومه، (مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (٥٨) أي: حسن، (كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (٥٩) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠) أي: تبع فرعون وقومه حين شرقت الشمس أي: طلعت - ومشرقين أي: كانوا في الشمس، أي: قوم موسى صاروا في الشمس، يقال: أشرقنا إذا صاروا فيها.

٦١

وقوله: (فَلَمَّا تَرَاءَا الْجَمْعَانِ (٦١) جمع موسى وجمع فرعون، أي: إذا تراءى بعضهم بعضا، {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}

٦٢

قال موسى (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) كان قوم موسى لم يعلموا بالبشارة التي بشرها اللّه موسى أنهم لا يدركون، وهو ما قال: {لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} أي: لا تخاف دركهم ولا تخشى فرعون وقومه؛ لذلك قالوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} وكانت البشارة لهم لا لموسى خاصة، يدل لذلك قول موسى: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} ءلمى أثر قولهم: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} أي: كلا إنهم لا يدركونكم.

٦٣

وقوله: (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ (٦٣) أي: انشق؛ وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود: (فانشق).

{فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} أي: كالجبل العظيم، والطَوْد والطور واحد، وأطواد جماعة.

٦٤

وقوله: (وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) قال الحسن: أزلفنا، أي: أهلكنا ثم الآخرين.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: جمعنا، ومنه قيل: ليلة المزدلفة، أي: ليلة الازدلاف وهو الاجتماع؛ وكذلك قيل للموضع: جمع.

فإن كان التأويل هذا ففيه دلالة أن للّه في فعل العباد صنعًا وتدبيرًا؛ لأنه أضاف الجمع إليه، وهم إنما كانوا خرجوا للمعصية؛ فدل ذلك أنه على ما ذكرنا.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ} أي: أدنيناهم وقربناهم، ومنه زلفك اللّه، أي: قربك اللّه، ويقال: أزلفني كذا عند فلان، أي: قربني منه، والزلف: المنازل، والمراقي؛ لأنها تدنو بالمسافر، ومنه: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ}، أي: أدنيت وقربت؛ وكذلك قال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ.

٦٥-٦٦

وقوله: (وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) الآية ظاهرة.

٦٧

وقوله (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً ... (٦٧) أي: في هلاك فرعون وقومه، وإنجاء موسى ومن معه متعظ ومزجر لمن بعدهم؛ حيث رأوا أنه أهلك الأعداء، وأبقى الأولياء.

وقوله: {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}: هذا يحتمل وجوهًا:

قَالَ بَعْضُهُمْ: لم يكن أكثر أهل مصر بمصدقين بتوحيد اللّه؛ إذ لو كان أكثرهم مؤمنين لم يعذبوا في الدنيا، ولكن غير هذا كأنه أشبه، أي: لو لم يهلكهم اللّه تعالى، ولكن أبقاهم لم يؤمن أكثرهم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ} من بني إسرائيل {مُؤْمِنِينَ} أي: لم يدم أكثرهم على الإيمان، بل ارتد أكثرهم من بعد ما أنجاهم حيث قالوا لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}، واللّه أعلم.

٦٨

وقوله: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٨) المنتقم من فرعون.

وقوله: {الرَّحِيمُ}: بموسى ومن معه من المؤمنين، هذا في هذا الموضع يستقيم أن يصرف تأويل العزيز إلى الأعداء، والرحيم إلى الأولياء، كل حرف من ذلك إلى الفريق الذي يستوجب ذلك: الرحمة إلى المؤمنين، والنقمة إلى الأعداء.

٦٩

وقوله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ}: أي: اتل على أهل مكة نبأ إبراهيم وخبره؛ لأنهم كانوا من أولاد إبراهيم ومن نسله، وهم يقلدون آباءهم في عبادتهم الأصنام، وإبراهيم وبعض أولاده: إسماعيل وإسحاق وهَؤُلَاءِ كانوا مسلمين، عباد رب العالمين لا عباد الأصنام، فهل اتبعوا إبراهيم ومن كان معه على دينه من آبائهم، دون أن اتبعوا من عبد الأصنام يسفه أحلامهم في عبادتهم الأصنام وتقليدهم أُولَئِكَ الذين عبدوا من آبائهم الأصنام، وتركهم تقليد من لم يعبدها وعبد اللّه.

٧٠

ثم قول إبراهيم حيث قال لأبيه وقومه: (مَا تَعْبُدُونَ (٧٠) يحتمل قوله: {مَا تَعْبُدُونَ} على ما ذكر في آية أخرى: {مَاذَا تَعْبُدُونَ}.

٧١

ويحتمل، {مَا تَعْبُدُونَ} أي: من تعبدون؟ فقالوا: (نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (٧١) أي: نقيم عاعابدين، أي: نديم على عبادتها، والعكوف على الشيء: هو الإقامة عليه والدوام.

قال أبو معاذ النحوي: " ظَلَّ " لا يقال إلا بالنهار، ومحال أن يقال: ظل ليله يصنع كذا، حتى يقول: بات ليله، ومنه الحديث: " ظل نهاره صائمًا، وبات ليله قائمًا ".

٧٢

ثم قال، يبين سفههم: (يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) يحتمل قوله: {يَسْمَعُونَكُمْ} أي: هل يجيبونكم إذ تدعونهم.

ويحتمل: هل يسمعونكم على السماع نفسه، أي: هل يسمعون دعاءكم إذ تدعونهم؛ كقوله: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} الآية.

وقوله: {إِذْ تَدْعُونَ}: يحتمل تعبدون، ويحتمل الدعاء نفسه، وإن كان على العادة فلا يحتمل تأويل السماع.

٧٣

وقوله: (أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣) وهل يقدرون على نفعكم وضركم إن أرادوا ذلك بكم وشاءوا.

أو أن يكون ما ذكر أهل التأويل: هل ينفعونكم إن عبدتموها وأطعتموها، أو يضرونكم إن عصيتموها وتركتم عبادتها، فبهتوا ولم يقدروا على الجواب له سوى ما ذكروا من تقليد آبائهم في ذلك فقالوا:

٧٤

(بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤) لما عرفوا أن تلك التي عبدوها لا تملك ضرا ولا نفعًا، لكنهم عبدوها تقليدًا لأبائهم؛ لما وقع عندهم أن آباءهم ما عبدوها إلا بأمر، إذ لو لم يكن ذلك بأمر ما تركوا، لكن قد ذكر أن في آبائهم من لم يعبدها قط، ثم لم يقلدوهم فكيف قلدوا أُولَئِكَ؟! دل أن الاعتلال فاسد.

٧٥-٨١

وقوله: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) ثم قال: إنهم وآباءهم الذين عبدوا الأصنام من قبل عدو له [(إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (٧٧)] استثنى رب العالمين، يقول: هم عدو لي وأنا بريء منهم، إلا أن يكون فيهم من يعبد رب العالمين، فيكون على الإضمار،

أي: فإنهم جميعًا عدو لي إلا مَن عَبَدَ رب العالمين.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: يقول: إن العابد والمعبود كلهم عدو لي إلا رب العالمين، أي: إلا المعبود بالحقيفة الذي يستحق العبادة، فإنه وليي.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: ليس على الاستثناء، ولكن على الابتداء؛ كأنه قال: أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي، ولكن ربي: (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١)

٨٢

وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢) ذكر هذا لهم أن الإله المستحق للعبادة هو هذا الذي يصنع هذا، وهو المالك للنفع ودفع الضر، لا الأصنام التي عبدتم أنتم وآباؤكم.

٨٣

وقوله: (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا (٨٣)

قَالَ بَعْضُهُمْ: فهما وعلما، وجائز أن يكون إبراهيم سأل ربه الإبقاء على الحكم؛ إذ كان قد أعطاه العلم والحكم؛ كقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}.

أو سأل الزيادة على ما أعطاه؛ كقوله: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}.

ويحتمل أن يكون سأل ربه قبول حكمه في الخلق، ورفع الحرج له عن قلوبهم على ما ذكر في حكم رسول اللّه؛ حيث قال: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ. . .} الآية.

وقوله: {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} أي: توفني على ما توفيت الصالحين حتى ألحق بهم، هذا - واللّه أعلم - يعني: آله؛ الإلحاق بالصالحين: أن يتوفاه على الذي توفي أُولَئِكَ - وهو الإسلام - ليلحق بهم، واللّه أعلم.

٨٤

وقوله: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤)

أي: اجعل لي الثناء الحسن في الناس، وكذلك إبراهيم - صلوات اللّه عليه - جميع أهل الأديان على اختلافهم قد انقادوا له وانتسبوا إليه، وادعوا أنهم على دينه، وأن دينه هو الذي هم عليه ليس من أهل ملة إلا وهم يتولونه.

٨٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) أي: اجعلني باقيا من بعد موتي في جنة النعيم؛ إذ الوارث هو الباقي عن الموروث؛ وكذلك تأويل قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا}، أي: نبقى بعد فناء أهلها؛ إذ الوارث هو الباقي؛ فعلى ذلك قول إبراهيم: اجعلني من الباقين في جنة النعيم، واللّه أعلم.

٨٦

وقوله: (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) لا يحتمل أن يكون استغفار إبراهيم لأبيه -

واللّه أعلم - على ما ذكر في ظاهر الآية: واغفر لأبي فإنه من الضالين؛ لأنه لا يجوز له أن يدعو له وهو كذلك، لكن كان من إبراهيم الاستغفار له، فأخبر اللّه له أنه من الضالين؛ فيكون هذا الثاني إخبارا من اللّه لإبراهيم أنه من الضالين، والأول قول إبراهيم.

وكذلك قال بعض أهل التأويل في قصة بلقيس حيث قال: {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً}، فصدقها اللّه تعالى في مقالتها

وقال: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}، يجعلون قوله: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} تصديقًا من اللّه لقول تلك المرأة، [وأمثال] ذلك كثير في القرآن، يكون بعضه مفصولا من بعض كقوله: (وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (١٥) لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ قوله: {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} مفصول من قوله: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ}، لا وصل بينهما؛ فعلى ذلك دعاء إبراهيم يحتمل أن يكون قوله: {وَاغْفِرْ لِأَبِي} مفصولا من قوله: {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ}، هذا جائز أن يكون إخبارًا من اللّه لإبراهيم حين دعا له بالمغفر أنه من الضالين.

وجائز أن يكون قوله: {وَاغْفِرْ لِأَبِي} أي: أعط له ما به تغفر خطاياه وهو التوحيد؛ فيكون سؤاله سؤال التوحيد له والتوفيق على ذلك، وبه يغفر ما يغفر من الخطايا؛ كقوله: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}.

وعلى ذلك يخرج دعاء هود لقومه حيث أمرهم أن يستغفروا ربهم، وهو قوله: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ}، {وَأَسْلِمُوا لَهُ}، طلب منهم ابتداء الإسلام؛ إذ لا يحتمل أن يقول لهم: قولوا: نستغفر اللّه، ولكن أمرهم أن يأتوا ما به يغفر لهم وهو التوحيد؛ وكذلك قول نوح: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا}.

وقول أهل التأويل: " إن إبراهيم كذب ثلاثا " كلام لا معنى له، لا يحتمل أن يكون اللّه يختاره ويجعل رسالته في الذي يكذب بحال.

٨٧

وقوله: (وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) قال أهل التأويل: {وَلَا تُخْزِنِي} أي: لا تعذبني يوم يبعثون، وكأن الإخزاء هو العذاب الذي يهتك الستر على صاحبه، فسأله ألا يهتك الستر عليه؛ لما خاف أن كان منه ما يهتك الستر عليه، فسأل ربه ذلك؛ إذ العصمة لا ترفع عن أصحابها الخوف، بل كلما عظمت العصمة كان الخوف أشد؛ لأن الأنبياء - صلوات اللّه عليهم - كان خوفهم أشدّ على دينهم وأنفسهم من غيرهم، ثم الأمثل فالأمثل، هم كذلك أشذ خوفًا ممن هو دونهم؛ ألا ترى إلى قول إبراهيم حيث قال: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ}، وقال يوسف: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}

ومثله كثير.

٨٨-٨٩

وقوله: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (٨٨) إِلَّا مَنْ أَتَى اللّه بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩) لا ينفع ويضر لا يكون في نفي النفع دفع الضر؛ وكقوله: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ}؛ وكقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ}؛ وكذلك قوله: {لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا}،

وقوله: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ).

وقوله: {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ}،

وقوله: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ}، وفي ظاهر ما استثنى من الآية دلالة أنه ينفع المال والبنون إذا أتوا بقلب سليم، حيث قال: {لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللّه بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}.

ويشبه أن يكون كذلك ينفعهم مالهم وأولادهم إذا أتوا ربهم بقلوب سليمة؛ لما استعملوا أموالهم في الطاعات وأنواع القرب، وعلموا الأولاد الآداب الصالحة والأخلاق الحسنة، فينفعهم ذلك يومئذ؛ كقوله: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا}، أخبر أنهم إذا آمنوا وتابوا تقربهم أموالهم وأولادهم عنده.

وجائز أن يكون على غير ذلك، أي: لا ينفع مال ولا بنون، وإنما ينفع من أتى ربه بقلب سليم.

والقلب السليم: هو السالم عن الشرك، أو السليم عن الآفات والذنوب، والخالص لربه لا يجعل لغيره فيه حقا ولا نصيبا. وشرط فيه إيتاءه ربه ما ذكر؛ ليعلم أنه ما لم يقبض على السلامة والتوحيد لا ينفعه ما كان منه من قبل من الطاعات، إذا لم يقبض على التوحيد؛ وكذلك ذكر في الحسنات الإتيان فقال: من جاء بالحسنة فله كذا، ولم يقل: من عمل بالحسنة، وهو ما ذكرنا أن يخرج من الدنيا على التوحيد، ولا يفسد ما عمل من الحسنات، واللّه أعلم.

٩٠

وقوله: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ)، وذكر في حرف ابن مسعود

وأبي: (وقربت الجحيم الضالين) وفي هذه القراءة الظاهرة: {بُرِّزَتِ}: أظهِرَتْ.

٩٠-٩٣

وقوله: (وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللّه ... (٩٣) في الدنيا، أي: ثم يقال لهم: أين ما كنتم تعبدون من دون اللّه في الدنيا، هل ينصرونكم ويمنعونكم من عذاب اللّه، أو ينتصرون هم من العذاب؟! لأنهم يطرحون جميعًا العابد والمعبود في النار؛ كقوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه حَصَبُ جَهَنَّمَ}، وإنما قالوا ذلك لهم؛ لأنهم كانوا يقولون في الدنيا: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّه}، و {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى}، فيقال لهم مقابل ذلك في الآخرة: {هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ} الآية.

٩٤

وقوله: (فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (٩٤) قال الزجاج: هو من كب، أي: كبوا، لكن ذكر كبكبوا على التكرار والإعادة مرة بعد مرة، أي: يكبون لم يزل عملهم ذلك، أو كلام نحو هذا.

وقال القتبي: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا}: ألقوا على رءوسهم، وقذفوا.

وأصل الحرف كبوا، من ذلك كببت الإناء، فأبدلت مكان الباء الكاف، وهو الطرح والإلقاء على الوجوه؛ يقال: كبكبتهم أي: طرحتهم في النار أو في البئر، هو من قوله: {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ}.

{وَالْغَاوُونَ}: قيل: الضالون، يقال: غوى يغوى غيا وغواية فهو غاوٍ، أي: ضل؛ وهو قول أبيءوسجة والْقُتَبِيّ.

وقال ألي ومعاذ: {فَكُبْكِبُوا}: أصله: كبوا.

٩٥

وقَالَ بَعْضُهُمْ: جمعوا فيها: (وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥)

قَالَ بَعْضُهُمْ: {وَالْغَاوُونَ} هم الشياطين، {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ}: ذريته، أي: الشياطين الذين أضلوا بني آدم؛ وهو قول قتادة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَالْغَاوُونَ}: هم كفار الجن، {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ} هم الشياطين.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَالْغَاوُونَ}: هم الأئمة من الكفار، {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ}: سائر الكفار أتباعهم وذريتهم، واللّه أعلم.

٩٦

وقوله: (قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (٩٦) ذكر أنهم يختصمون في النار، ولم يذكر فيم يكون خصومتهم؟ فجائز أن يكون في آية أخرى: {يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ. . .}، إلى آخر ما ذكر، وقوله! {قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ} الآية،

وقوله: {رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا} الآية، وأمثاله من المجادلات التي تجري فيما بين الأتباع والمتبوعين.

٩٧-٩٨

وقَالَ بَعْضُهُمْ: اختصامهم ما ذكر على أثره، قال: (تَاللّه إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٩٨) هذه مخاصمتهم.

وقوله: {تَاللّه إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}: فإن كان قولهم هذا للأصنام التي عبدوها، وذلك في تسميتهم آلهة، وجعلهم العبادة لها يسوونها برب العالمين في التسمية والعبادة.

وإن كان قولهم هذا للشياطين، فهو في اتباعهم أمرهم ودعاهم الذي دعوهم، وإلا لا أحد من الكفرة يقصد قصد عبادة الشيطان أو يسميه: إلها، ولكن على ما ذكرنا من متابعتهم أمرهم.

وفي حرف ابن مسعود: (إذ نسويكم برب العالمين إذ كنا نشرككم برب العالمين).

وقَالَ بَعْضُهُمْ: إذ كنا نطيعكم كما نطيع رب العالمين.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: إذ نعدلكم برب العالمين؛ وبعضه قريب من بعض.

٩٩

وقوله: (وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (٩٩) أي: ما أضلنا إلا أوائلنا؛ وكذلك في حرف ابن مسعود: (وما أضلنا إلا الأولون).

وتأويل هذا: أنهم لما رأوا الأولين تركوا على ما كانوا عليه من الكفر والشرك، ولم يعذبوا في الدنيا ولا أصابتهم نقمة - ظنوا أنهم أمروا بذلك، وهو ما ذكر في آية أخرى: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا).

١٠٠

وقوله: (فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (١٠٠) لأنهم قالوا: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ) فلم يشفعوا لهم، أي: ليست لنا شفعاء يشفعون، ولو كانت لهم شفعاء لا تنفعهم شفاعتهم، على ما قال: (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ)، وهو ما قال: (لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ)، ليس أنه كان ينفعهم فعلى ذلك هذا.

١٠١

وقوله: (وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١) الحميم: القريب، أي: ليس لهم حميم يهتم بأمرهم.

١٠٢

وقوله: (فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢)

وقوله: (فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً) أي: لو أن لنا رجعة إلى المحنة فنكون من المؤمنين، فأخبر اللَّه أنهم إو ردوا لعادوا بقوله: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا) إلى ما كانوا فيه لما نهوا عنه، وقد ذكرناه.

١٠٣

وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً (١٠٣) ما ذكرنا من الأخبار والأنباء لآية وعبرة لمن اعتبروا.

(وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ): قَالَ بَعْضُهُمْ: لو كان أكثرهم مؤمنين ما عذبوا في الدنيا.

وجائز أن يكون لو ردوا إلى المحنة التي سألوا الرجعة إليها، ما كان أكثرهم مؤمنين.

وجائز أن يكون نفر منهم، واللَّه أعلم.

١٠٤

 (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٠٤) قد ذكرناه.

١٠٥

وقوله: (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ): ذكر كذبت بالتأنيث على إضمار جماعة؛ كأنه قال: كذبت جماعة قوم نوح، وإلا القوم يذكر ويؤنث.

وقوله: (الْمُرْسَلِينَ): لأن من كذب رسولا من الرسل فقد كذب الرسل جميعًا؛ لأن كل رسول يدعو الخلق إلى الإيمان بجميع الرسل.

وبعد: فإن نوحًا كان يدعو قومه إلى الإيمان بالرسل الذين يكونون بعده؛ لذلك قال - واللَّه أعلم -: (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ).

١٠٦

وقوله: (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ ... (١٠٦) قال أهل التأويل: كان أخاهم في النسب، وليس بأخيهم في الدِّين. قال الشيخ أبو منصور - رحمه اللَّه -: إن اللَّه - تعالى - سمى الناس: بني آدم؛ على بُعدهم من آدم، فيجوز -أيضًا- تسميتهم: إخوة على بُعد بعضهم من بعض.

وقوله: (أَلَا تَتَّقُونَ): نقمة اللَّه وعذابه في مخالفتكم أمره ونهيه.

أو يقول: ألا تتقون عبادة غير اللّه، وطاعة من دونه.

١٠٧

وقوله: (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) هذا يخرج على وجهين:

أحدهما: أي: كنت أمينًا فيكم قبل هذا، فتصدقونني في جميع ما أخبرتكم وأنبأتكم، فما بالكم لا تصدقونني الآن إذا أخبرتكم أني رسول اللّه إليكم؟!

والثاني: يقول: إني لكم رسول أمين، ائتمنني اللّه وجعلني أمينًا على وحيه، فأبلغكم الرسالة وأؤدي الأمانة شئتم أو أبيتم، قبلتم أو لم تقبلوا، فلا أخافكم ما توعدونني بعد أن جعلني اللّه أمينا وائتمنني على أمانته؛ كقوله: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ}.

١٠٨

وقوله: (فَاتَّقُوا اللّه وَأَطِيعُونِ (١٠٨) أي: اتقوا نقمة اللّه وعذابه، أو اتقوا مخالفة اللّه في أمره ونهيه، وأطيعون فيما أبلغكم عن اللّه وأدعوكم إليه.

١٠٩

قوله تعالى: (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٠٩) أي: لا أسألكم على ما أدعوكم إليه وأبلغكم أجرًا وشيئًا يمنعكم ثقل ذلك عن الإجابة، ولا أحملكم في أموالكم وأنفسكم مؤنة فيما أدعوكم إليه، بل أدعوكم إلى عبادة الواحد، وعبادة الواحد أهون وأخف على أنفسكم من عبادة العدد، ولا أحملكم في أموالكم وأنفسكم مؤنة فيما أدعوكم إليه من عبادة العدد، ولا أحملكم - أيضًا - مؤنة يمنعكم ذلك عن إجابتي.

{إِنْ أَجْرِيَ} أي: ما أجري.

١١٠

{إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}: (فَاتَّقُوا اللّه وَأَطِيعُونِ (١١٠) {فَاتَّقُوا اللّه} ما ذكرنا، أي: اتقوا نقمة اللّه وعذابه، واتقوا مخالفة اللّه في أمره ونهيه، وأطيعوني فيما أدعوكم إليه.

١١١

وقوله: (قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١) يقولون: نصدّقك وإنما اتبعك الضعفاء منا والسفلة ممن لا رأي لهم ولا تدبير، ولو كنت صادقًا لاتبعك الأشراف والرؤساء، فكان في اتباع الأراذل له ومن ذكروا أعظم آية من الرسالة من اتباع الأشراف، وذلك أن الأراذل من الناس هم أتباع لغيرهم؛ لما يأملون من فضل مال ونيل منهم، أو رياسة ومنزلة تكون لهم، أو لفضل بصر وحظ وعلم في الدِّين؛ فيصيرون أتباعًا لمن كان عنده من هذه الخصال شيء، فالرسل - صلوات اللّه عليهم - حيث لم يكن عندهم أموال ولا طمع رياسة ولا منزلة اتبعهم الضعفاء والسفلة، مع خوف لهم على أنفسهم من أُولَئِكَ الأشراف من القتل والصلب لمخالفتهم إياهم، فما اتبعوهم إلا لما تبين عندهم أنهم على حق، وأن ما يدعون صدقٌ، ففي اتباع من ذكرنا أعظم دلالة على صدق الرسل فيما ادعوا من الرسالة لو تأملوا التفكر في ذلك.

١١٢

وقول نوح: (وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) يحتمل وجهين:

أحدهما: يقول: لم أكن أعلم أن اللّه يهديهم للإيمان والتوحيد من بينكم - يعني: الضعفاء - ويدعكم لا يهديكم.

١١٣

ثم قال: (إِنْ حِسَابُهُمْ ... (١١٣) أي: ما جزاء الذين اتبعوني من الأراذل {إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ}.

والثاني: {وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، أي: ما أنا بعالم بما يعملون هم في السر وما ذلك عليَّ، {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ}، أي: حسابهم عليه فيما يعملون في السر؛ فهذا يدل أن التأويل الأخير أشبه وأقرب من الأول، وكان من أُولَئِكَ طعن في الذين آمنوا بأنهم يعملون في السر على خلاف ما أظهروا، حتى قال لهم ذلك.

وفي بعض القراءات: (لو يشعرون) بالياء، فهو راجع إلى المؤمنين الذين اتبعوه، يقول: حسابهم على اللّه فيما يعملون في السر، أي: لو يشعرون ذلك ولا يعملون في السر خلاف، ما يعملون في العلانية، واللّه أعلم.

١١٤

وقوله: (وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤) قال أهل التأويل: إنهم سألوا نوحًا أن يطرد أُولَئِكَ الذين آمنوا به من الضعفاء؛ حتى يؤمنوا هم به، فقال عند ذلك: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ}.

وجائز أن يكونوا طعنوا في الذين آمنوا أنهم قالوا ظاهرًا، وأما في السر فليسوا على ذلك، فقال نوح عن ذلك: وما أنا بطارد الذين آمنوا؛ يدل على ذلك قول نوح حيث قال: {وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللّه خَيْرًا}، هذا القول منه يدل على أن كان منهم طعن في أُولَئِكَ الذي آمنوا به، حيث وكل أمرهم إلى اللّه فقال: اللّه أعلم بما في أنفسهم، واللّه أعلم.

١١٥

وقوله: (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥) قد ذكرناه فيما تقدم في غير موضع.

١١٦

وقوله: (قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦) المرجوم: هو المقتول بالحجارة، وهي أشد قتل؛ لذلك أوعدوه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: لتكونن من المشتومين باللسان.

لكن الأول أقرب؛ لأنه قد كان منهم الشتم فلا يحتمل الوعيد به.

١١٧

ثم دعا نوح عند ذلك فقال: (رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧)

١١٨

 فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا ... (١١٨) أي: اقض

بيني وبينهم قضاء، أي: اقض عليهم بالعذاب والهلاك، ألا ترى أنه قال: {وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}؛ فدل سؤاله نجاة نفسه ومن معه من المؤمنين على أن قوله: {فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا} سأل ربه هلاك من كذبه، وهو ما قال في قصة أخرى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ}، الذي وعدت أنه ينزل بهم، وهو العذاب، فعلى ذلك هذا.

ثم لا يحتمل أن يكون هذا منه في أول تكذيب كان منهم، بل كان ذلك بعد ما أيس من إيمانهم؛ لأنه لبث فيهم ما قال اللّه تعالى ألف سنة إلا خمسين عاما، وفي كل ذلك دعاهم إلى توحيد اللّه، وإنما دعا عليهم بالهلاك بعد ما أخبره اللّه تعالى عن أمرهم وأياسه عن ابمانهم، فقال: {لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ}، وأذن له بالدعاء عليهم بما دعا؛ إذ الأنبياء - صلوات اللّه عليهم - لا يدعون على قومهم بالهلاك إلا بإذن من اللّه في ذلك؛ ألا ترى أنه ذكر عتاب يونس بالخروج من بينهم بلا إذن كان من اللّه له بالخروج من بينهم، فإذا عوتب هو بالخروج بلا إذن فلا يحتمل أن يدعو بالهلاك بلا إذن، واللّه أعلم.

١١٩

وقوله: (فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩) قيل: المملوء.

قال أبو معاذ: والعرب تقول: شحنت السفينة فلم يبق إلا الدفع: وهو السوق، وتقول العرب: شحنا عليهم بلادهم خيلا ورجالا، أي: ملأناها.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: المشحون: المجهز الذي قد فرغ منه فلم يبق إلا دفعه؛ وهو واحد.

وإنما شحنت بأصناف من الخلق وإلا كان المؤمنون قليلي العدد، وهو ما قال فيها: {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}، أخبر أنه أنجى من كان معه في الفلك المشحون، وأهلك الباقين.

١٢١

وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً (١٢١) أي: في نبأ نوح الآية لمن كان بعدهم.

أو إن في هلاك قوم نوح وإغراقهم لعبرة لمن بعدهم.

{وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. . .} إلى آخر القصة قد ذكرناه.

١٢٣

وقوله: (كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) هو - واللّه أعلم - ما ذكرنا، أي: قد كذبت جماعة عاد المرسلين.

وقوله: {الْمُرْسَلِينَ} ما ذكرنا أن كل رسول كان دعا قومه إلى الإيمان به وبجميع الرسل فمن كذب واحدًا منهم، فمّد كذب الكل.

١٢٤

وقوله: (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ (١٢٤) هو كان أخاهم في النسب؛ لأنهم جميعًا ولد آدم على بعد من آدم؛ فعلى ذلك هم إخوة فيما بينهم على بعد بعضهم من بعض.

وقوله: {أَلَا تَتَّقُونَ} يحتمل وجهين:

 أحدهما: ألا تتقون نقمة اللّه وعذابه.

أو ألا تتقون مخالفة أمر اللّه ومناهيه.

١٢٥

(إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فيما ائتمنني اللّه، وبعث على يدي إليكم هدايا، فاقبلوا مني هداياه وأمانته، أو أن يكون ما ذكرنا من قبل، واللّه أعلم.

١٢٦

وقوله: (فَاتَّقُوا اللّه وَأَطِيعُونِ (١٢٦) ما ذكرناه.

١٢٧

(وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٢٧) أي: أسعى في نجاتكم وتخليصكم من عذاب اللّه، وما أسألكمى لي ذلك أجرا، وفي الشاهد: لا يعمل أحد إلا ويطمع على ذلك منه أجرًا، وأنا لا أسالكم اعلى ذلك أجرًا، فيمنعكم ذلك عن قبول ذلك مني.

{إِنْ أَجْرِيَ} أي: ما أجري {إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}.

١٢٨-١٢٩

وقوله أن (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ ... (١٢٩) هذا يحتمل وجوهًا:

أحدها: كأنهم كانوا يبنون بنيانًا لا حاجة لهم إلى ذلك البنيان ولا ينتفعون به فهو عبث؛ لأن كل من بني بناء أو عمل عملا لا ينتفع به ولا يحتاج إليه فهو عابث؛ لذلك سمى ما بنوا: عبثًا.

والثاني: جائز أن يكون ذلك المكان لهم كان مكان العبث والاجتماع للّهو، فبنوا على ذلك المكنان فسماه: عبثًا؛ لما لم يكن اجتماعهم في ذلك إلا للعبث واللّهو.

والثالث: أن يكون ذلك المكان مكانًا يمر فيه الناس فبنوا فيه أعلاما يضلون الناس بها لما يرون أنه طريق ولم يكن ذلك، فكان قصدهم بذلك البناء باطلا، وكل باطل عبث، واللّه أعلم.

وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ}: ولا تموتون، أي: تنفقون نفقة من يطمع أن يخلد في هذه الدنيا، ليس بنفقة من يموت ويرجو ثوابه وعاقبته.

أو أن يكون قوله: {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} لما وسع عليهم الدنيا ورزقهم الدعة يحسبون أنهم يخلدون؛ لأن من وسع عليه الدنيا ويكون له الدعة والسعة في هذه الدنيا، يطمئن فيها ويسكن؛ وهو كما قال: {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ}؛ فعلى ذلك الأول، واللّه أعلم.

١٣٠

وقوله: (وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠) كنى - واللّه أعلم - بالجبار عن الظالم والمعتدي، أي: وإذا بطشتم بطشتم ظالمين.

والريع: - هو المكان المرتفع.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو الطريق.

ومصانع:

قَالَ بَعْضُهُمْ: البنيان، وقيل: الحياض.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الريع: ما ارتفع من الأرض، وجمع الريع: ريع، وجمع الريع أرياع؛ وهما واحد. والريع: الربح -أيضًا- تقول: أراع إذا ربحت عليه، وجمعه: أرياع.

ومصانع في موضع: قصور وفي موضع: حياض يجتمع فيها الماء، الواحد: مصنعة من كلاهما.

وقال: البطش: الأخذ، يقال: بطشت بفلان أبطش بطشًا؛ إذا أخذته وقبضت عليه.

وقَالَ الْقُتَبِيُّ -أيضًا-: الريع: الارتفاع من الأرض، والمصانع: البناء، واحدها: مصنعة؛ فكان المعنى: أنهم يستوثقون في البناء والحصون، ويذهبون إلى أنها تحصنهم من أقدار اللّه وقضائه، وهذا يشبه أن يكون ما ذكر؛ لأنه قال في آخره: {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} أي: يبنون بناء كأنهم يخلدون ولا يموتون.

وقال: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ} أي: إذا ضربتم بالسياط ضربتم ضرب الجبارين، وإذا عاقبتم قتلتم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: بطشتم: أخذتم بالظلم والاعتذار والاستحلال لما حرم اللّه.

وقال أبو معاذ: وكل بناء مصنعة. وفي حرف حفصة: (وتبنون مصانع كأنكم خالدون).

والآية: العلم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الريع ما استقبل الطريق من الجبال والظراب.

وقال قتادة: كل نشز في الأرض.

وقال مُحَمَّد بن إسحاق: إنهم كانوا إذا سافروا فلا يهتدون إلا بالنجوم، فبنوا القصور الطوال عبثًا علمًا بكل طريق يهتدون بها في طرقهم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: مصانع، أي: مجالس ومساكن لعلكم تخلدون ما بقيت مصانعكم.

والجبار: هو الذي يضرب أو يقتل بلا حق بلا خوف تبعة في العاقبة.

١٣١

وقوله: (فَاتَّقُوا اللّه وَأَطِيعُونِ (١٣١) قد ذكرناه.

١٣٢

وقوله: (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (١٣٢) أمدكم: قيل: أعطاكم وهو من المدد، أي: أعطاكم الكم تباعًا واحدة بعد واحدة لا تنقطع.

ثم هو يحتمل وجهين:

أحدهما: اتقوا كفران الذي أعطاكم النعم، فلا توجهوا شكرها إلى من لم ينعم عليكم ولم يمدها لكم وأنتم تعلمون، وهو عبادتهم الأصنام التي لا يقدرون على إعطاء شيء من النعم.

والثاني: اتقوا نقمة اللّه الذي أعطاكم هذه النعم؛ فإن الذي قدر على إنعامها قدر على الانتقام منكم.

وعلى التأويل الأول: اتقوا كفرانها؛ فإن الذي قدر على إعطائها قدر على صرفها عنكم على هذين الوجهين، واللّه أعلم.

١٣٣-١٣٤

ثم ذكر الذي أمده لهم من النعم فقال: (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) هذا وغيره مما لا يحصى.

١٣٥

(إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥)

قَالَ بَعْضُهُمْ: {إِنِّي أَخَافُ} أي: أعلم أن ينزل بكم عذاب، يوم عظيم.

١٣٦

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الخوف هاهنا هو الخوف نفسه؛ لأنه كان يرجو الإيمان منهم بعد، فقال: إني أخاف عليكم العذاب إذا متم على هذا، فقالوا عند ذلك جوابًا له: (سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (١٣٦) الوعظ: هو الإخبار عن عواقب الأمور من ترغيب وترهيب، أي: سواء علينا تخوفنا العذاب أو لم تخوفنا لا نصدقك، ولا نجيبك إلى ما تدعونا إليه.

١٣٧

ثم قالوا: (إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧) قيل فيه بوجوه:

أحدها: أي: هذا الذي نحن عليه دين الأولين، وما أتيت أنت وتدعونا إليه هو حادث بديع.

والخلق: يجوز أن يكنى به عن الدِّين؛ كقوله: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّه} أي: لدين اللّه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {إِنْ هَذَا} أي: ما هذا الذي تقوله إلا كذب الأولين واختلاقهم، أي: تكذب وتختلق، كما اختلق الذين كانوا من قبلك من الرسل؛ كقوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}، فإن كان على هذا فيكون قوله: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرسَلِينَ} هذا لأنهم كذبوا الرسل جميعًا.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} قالوا: هكذا كان الناس قبلنا يعيشون ما عاشوا، ثم يموتون ولا بعث ولا حساب.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الوعظ: هو النهي؛ كقوله: {يَعِظُكُمُ اللّه أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} أي: ينهاكم.

١٣٨

وقوله: [(وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨)] عليه على ما تزعم وتخبر كما لم يعذب الآباء.

١٣٩

وقوله: (فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ ... (١٣٩) قيل: أهلكوا بالريح؛ كقوله: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ. . .} الآية.

وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً}: قد ذكرناه.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: {خَلْقُ الْأَوَّلِينَ}؛ أي: اختلاقهم وكذبهم؛ يقال: خلقت الحديث واختلقته، إذا افتعلته.

قال الفراء: والعرب تقول للخرافات: أحاديث الخلق.

قال ومن قرأ: {خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} - بضم الخاء - أراد: عادتهم وشأنهم.

١٤١-١٤٢

وقوله: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (١٤٢) قد ذكرنا تأويله فيما تقدم.

١٤٣

(إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) أي: كنت أمينًا قبل ذلك، فكيف تتهموني اليوم؟! ويقال: أمين على الرسالة ناصح لكم، وقد ذكرنا تأويله، إلى قوله: {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}.

١٤٦

وقوله: (أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (١٤٦) يخرج على وجهين:

أحدهما: أتتركون هذا، وإن خرج على الاستفهام فكأنه قال على الإخبار: ولا تتركون فيما ذكر آمنين.

والثاني: أتتركون: أي: أتظنون أن تتركوا فيما هاهنا آمنين، أي: لا تظنوا أن تتركوا.

١٤٧-١٤٨

(فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (١٤٨)

قَالَ بَعْضُهُمْ: الهضيم: المتهشم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الذي أرطب بعضه، وهو الذي يسمى: المذنب.

وعن ابن عَبَّاسٍ قال: هو الذي قد أرطب واسترخى وهو اللين.

وعن الحسن: الذي ليس له نوى.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو من الرطب الهضيم، وهو الذي ينقطع للينه، ومن اليابس: الهشيم يتكسر ليبوسته.

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: والهضيم: الطلع قبل أن ينشق عنه القشر وينفتح.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الهضيم: الذي لا شوك فيه ولا مشقة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الهضيم: هو الذي يتراكم بعضه بعضا، ويكون فوق بعض.

ولو قيل: إن الهضيم هو الهنيء المريء الذي لا داء فيه ولا مشقة يهضم كل ما فيه داء ومرض؛ ولذلك سمي الهاضوم: هاضوما، وهو الذي يهني الطعام ويهضمه - لجاز، واللّه أعلم.

١٤٩

وقوله: (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (١٤٩) بالألف، وفَرِهِينَ بغير ألف: {فَرِهِينَ}

أي: حاذقين مجيدين، أي: لهم حذاقة وبصر في نحت البيوت في الجبال؛ يقال: فلان فاره في أمر كذا، أي: حاذق.

و {فَرِهِينَ}: أشرين بطرين، أي: فرحين.

قَالَ الْقُتَبِيُّ: والفرح: قد يكون السرور، ويكون الأشر، ومنه قول اللّه - تعالى -: {إِنَّ اللّه لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} أي: الأشرين.

قال: ومن قرأها {فَارِهِينَ} - بالألف - فهي لغة أخرى؛ يقال: فره، وفاره؛ كما يقال: فرح، فارح، ويقال: فارهين: حا ذ قين.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: فَارِهِينَ وفرحين، أي: مسرورين، ويقال: فره يفره فرهًا، فهو فَرِهٌ وفاره.

١٥٠

وقوله: (فَاتَّقُوا اللّه وَأَطِيعُونِ (١٥٠) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) يقول - واللّه أعلم -: اتقوا نقمة اللّه في مخالفتكم أمره، وأطيعون ولا تطيعوا أمر المسرفين، أي: لا تطيعوا أمر من ظهر لكم منه الإسراف والفساد، ولكن أطيعوا أمري؛ إذا لم يظهر لكم مني إسراف ولا فساد، ولا تطيعوا الذين تعلمون أنهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون.

١٥١-١٥٢

أو أن يكون قوله: {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} مؤخرا عن قوله: {مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا}؛ يقول لهم صالح: تتركون طاعتي والإجابة لي لأني بشر مثلكم؛ فلا تطيعوا إذن بشرا هو دوني، وهم الذين ظهر لكم منهم الفساد والإسراف، ولم يظهر لكم مني شيء: يخبر عن سفههم وقلة تمييزهم؛ حيث تركوا اتباع الرسل وطاعتهم؛ لأنهم بشر دونهم في كل شيء، ثم أجابوا صالحًا في قوله: {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ}.

١٥٣

فقالوا: (إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) اختلف فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: يقولون: إنما أنت سوقة مثلنا، لست بأفضلنا، وإنما نتبع نحن الملوك وذا ثروة من المال، وأنت لست بملك ولا لك ثروة، فهُم - واللّه أعلم - طعنوا صالحًا كما طعن كفار مكة رسول اللّه حيث قالوا: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ}.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: يقولون: أنت بشر مثلنا في المنزلة، لا تفضلنا بشيء لست بملك ولا رسول،

١٥٤

 (فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤) بأنك رسول، فنتبعك كما أطعنا أُولَئِكَ وأُولَئِكَ.

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ}، أي: من المعللين بالطعام والشراب؛ وهو مثل الأول.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: {مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} ممن له سحروا السحر ألوية، وأسحار جمع.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: من المسحورين، لكنه عند الكثرة يشدد، واللّه أعلم.

ثم قال صالح: (هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥) ذكر أهل التأويل أن الماء منقسم بينهم: كان يوم لهم ويوم للناقة، واستدلوا بقوله: {وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}، فلما كان يوم لها معلوم، لكن ليس في الآية دلالة أن الأمر ما وصفوا، ولكن في الآية أن الماء قسمة بينهم: كل يوم لهم ويوم شرب محتضر، وظاهره أن الماء بينهم بالقسمة لا الشرب.

وقوله: {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}: جائز أن يكون الماء بينهم بعضه للناقة وبعضه لهم، ثم لهم يوم معلوم ليس للناقة في ذلك اليوم شيء، واللّه أعلم.

وقد ذكرنا أن هذه الأنباء إنما ذكرت في كتبهم حجة لرسول اللّه؛ فلا يزاد على ما ذكر في الكتاب، مخافة أن تذهب حجته عليهم - أعني: أهل الكتاب - لئلا يكذبوا رسول اللّه فيما يخبر من الأنباء التي في كتبهم.

١٥٦-١٥٧

وقوله: (وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (١٥٧) يحتمل قوله: {فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ} إذا هلكوا، وإلا لو ندموا على صنيعهم وتابوا قبل أن يهلكوا لقبل ذلك منهم.

١٥٨

وقوله: (فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ ... (١٥٨) كل آية آتاهم الرسل على أثر السؤال فكذبوها أخذهم العذاب فأهلكوا.

وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً}: قد ذكرناه.

١٦٠

وقوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ}: قد ذكر بالتأنيث على إضمار جماعة؛ كأنه قال:

كذبت جماعة قوم لوط المرسلين.

١٦١

(إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (١٦١). . .) إلى قوله: {الْعَالَمِينَ} قد ذكرناه فيما تقدم.

١٦٥

وقوله: (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (١٦٥) وقال في آية أخرى: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ}.

وقوله: (وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (١٦٦) أي: تذرون ما جعل اللّه ذلك طلبًا لإبقاء هذا النسل؛ لأنه لم يجعل النساء لهم لقضاء الشهوات خاصة، ولكن إنما جعل لهم الأزواج لإبقاء هذا النسل ودوامه، فيعيرهم لوط بتركهم إتيان النساء؛ لما في ذلك انقطاع ما جعلن هن له وهو إبقاء النسل، واشتغالهم بالرجال، وليس في ذلك إبقاء النسل، هذا - واللّه أعلم -

١٦٦

معنى قوله: {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ}، وإنما خلق لبقاء النسل لا لقضاء الشهوة خاصة، لكن جعل فيهم ومكن قضاء الشهوات؛ ليرغبهم على ذلك ليبقى هذا النسل إلى يوم القيامة، وإلا لو لم يجعل ذلك فيهم لعلهم لا يتكلفون ذلك، ولا يتحملون هذه المؤن التي يتكلفون حملها لذلك.

وفي الآية دلالة أن المرأة هي المملوكة عليها دون الزوج، والزوج هو المالك عليها حيث قال: {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ}، وقال في آية أخرى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا. . .} الآية، أخبر أنه خلق النساء لنا لا أنه خلقنا لهن، وفي ذلك حجة لأصحابنا في قولهم: إن المسلم إذا تزوج نصرانية بشهادة نصرانيين جاز النكاح؛ لأنه هو المتملك عليها النكاح وهي المملوكة، واللّه أعلم.

وقوله: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} أي: بل أنتم قوم متجاوزون حده الذي حد لكم.

أو عادون حقه الذي له عليكم.

أو عادون.

١٦٧

وقوله: (قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧) ذكر الانتهاء ولم يبين عن ماذا، فجائز أن يكونوا قالوا: لئن لم تنته يا لوط من تعييرك الذي تعيرنا به لتكونن من المخرجين.

ويحتمل: لئن لم تنته من دعائك الذي تدعونا إليه لتكونن كذا.

وقوله: {لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ}: يحتمل نفس الإخراج، أي: نخرجك من القرية ومن بيننا. وجائز أن يكون أرادوا بالإخراج: إخراجًا بالقتل؛ كقول قوم نوح حيث قالوا: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ}، وهو أشبه.

١٦٨

ثم قال لوط: (إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (١٦٨) أي: من المبغضين، أي: كيف توعدونني بالإخراج، وإني لعملكم الذي تعملون من المبغضين؛ أكره المقام فيكم، وأبغض رؤية أعمالكم التي تعملون، فكيف توعدونني بالإخراج؟!.

١٦٩

ثم دعا فقال: (رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩) هذا يحتمل وجوهًا.

أحدها: رب نجني وأهلى من عذاب ما يعملون وجزائه.

أو أن يكون: رب نجني وأهلي من عمل ما يعملون من الخبائث؛ كقول إبراهيم: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ}.

أو أن يقول: رب نجني وأهلى عن رؤية ما يعملون ومعاقبته.

١٧٠-١٧١

ثم قال: (فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (١٧١) قد ذكرناه فيما تقدم.

١٧٣

وقوله: (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣) يحتمل أن يكون أمطر عليهم الحجارة بعدما قلبهم ظهرًا لبطن وبطنًا لظهر؛ كقوله: {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً}. وجائز أن يكون جعل عاليها سافلها بما أمطر عليهم من الحجارة.

وجائز أن يكون جعل القريات ومَن فيها عاليها سافلها، وأمطر على من كان غائبًا منهم الحجارة.

قال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: {مِنَ الْقَالِينَ} أي: من المبغضين، يقال: قليت الرجل إذا أبغضته، ومن ذلك قوله: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}، والغابر: الباقي.

١٧٦

وقوله: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ}: الأيكة:

قَالَ بَعْضُهُمْ: هي شجرة نسبوا إليها.

١٧٧

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الأيكة: الغيضة.

(إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (١٧٧) قال بعض أهل التأويل: وإنما لم يقل هاهنا في شعيب أخوهم؛ لأن شعيبًا لم يكن من نسلهم - أعني: من نسل أصحاب الأيكة - لذلك لم

يقل: إذ قال لهم أخوهم شعيب، وقال في سورة هود حيث قال: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا. . .} الآية، كان من نسل أهل مدين، ويقولون: إن شعيبًا كان بعث إلى أهل مدين وهو كان منهم، وإلى أصحاب الأيكة وهو لم يكن منهم؛ لذلك قال ثَمَّ: أخاهم ولم يقل هاهنا.

لكن ليس فيما لم يقل: إنه أخوهم ما يدل أنه لم يكن من نسلهم ولا من نسبهم؛ لأن جميع أولاد آدم إخوة، إذ يسمى جميع البشر بنيه؛ فعلى ذلك أولاده إخوة وأخوات.

ثم لا ندري أن مدين غير الأيكة والأيكة غير مدين، فبعث شعيب إليهم جميعًا أو هما واحد نسبوا إلى الأيكة مرة وإلى مدين ثانيًا، واللّه أعلم.

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الأيكة: الغيضة، وجمعها: أيك.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الأيكة: شجرة، والأيك: جمع أيكة،

وقال: لا أعرف " لَيْكة " بلا ألف؛ وكذلك قال أبو عبيدة.

وقال أبو زيد: أصحاب الأيكة أصحاب بادية، واللّه أعلم.

١٨١

وقوله: (أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١) وكذلك قال لأهل مدين في سورة هود: {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}، ذكر فيهما جميعًا إيفاء الكيل، فلسنا ندري أنه قد ظهر فيهما جميعًا نقصان الكيل والوزن، فأمرهما بإيفاء ذلك لو كانت القصة واحدة فذكر فيهما ذلك.

١٨٣

ثم في قوله: (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣) جواز الاستدلال من وجهين:

أحدهما: وقوع المبيع بملك المشتري، وإن لم يقبضه المشتري.

والثاني: جواز بيع الجزء من الكيلي والوزني شائعًا من الكل؛ لأنه قال: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}، أضاف الأشياء إلى الناس ونسبها إليهم، فلولا أن ذلك ملك لهم وإلا لم تكن، أشياءهم، ولكن كانت أشياء هَؤُلَاءِ؛ إذ لا يخلو ذلك إما أن كان ثمنا أو كان مبيعا، فكيفما كان فهو موصوف بالملك لهم دون الذين عليهم إيفاء ذلك.

وقوله: {أَوْفُوا الْكَيْلَ}: كأنه قال: أوفوا الكيل والوزن فيما عليكم إيفاؤه، ولا تستوفوا

من الناس أكثر مما لكم عليهم.

{وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} القسطاس:

قَالَ بَعْضُهُمْ: العدل، أي: وزنوا للناس حقوقهم بالعدل ولا تنقصوها.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: القسطاس: هو المَبان وهو الميزان.

وقوله: {الْمُسْتَقِيمِ}: المستوي؛ كأنه قال: وزنوا بالميزان المستوي، لا تجعلوا إحدى الكفتين أثقل من الأخرى؛ كأنهم يجعلون الكفة التي يوفون بها حقوق الناس أثقل، والكفة التي يستوفون بها من الناس أخف، فأمرهم أن يسووا الكفتين جميعًا.

وقوله: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} أي: لا تفسدوا فيها.

١٨٤

وقوله: (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤) أي: اتقوا نقمة الذي خلقكم وخلق الجبلة الأولين، أي: كيف عذبهم وانتقم منهم بظلمهم. والجبلة: هي الخليقة؛ يقال: جبل أي: خلق.

١٨٥

(قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥)

قَالَ بَعْضُهُمْ: هو الذي سحر مرة بعد مرة؛ فعلى هذا التأويل يكون إنما أنت من المسحورين، لكن التشديد للتكثير.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما أنث مخلوق وبشر مثلنا، وقد ذكرناه.

١٨٦

وقوله: (وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (١٨٦) هذا يدل أنهم إنما قالوا ذلك ظنّا منهم لا يقينًا وحقا.

١٨٧

(فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) سألوا شعيبًا العذاب على التعنت، كما سأل غيرهم: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}، فنزل بهم العذاب من حيث سألوا من السماء.

وعن الحسن قال: سلط اللّه الحر على قوم شعيب سبعة أيام ولياليهن، حتى كانوا لا ينتفعون بظل بيت ولا ببرد ماء، ثم رفعت لهم سحابة في البرية فوجدوا تحتها الروح، فجعل بعضهم يدعو بعضًا، حتى إذا اجتمعوا تحتها أشعلها اللّه نارًا فأحرقتهم، فذلك قوله: {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ. . .} الآية.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: سقطت عليهم تلك السحابة فقتلتهم.

والظلة: قال أَبُو عَوْسَجَةَ: حر شديد.

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: {كِسَفًا}، أي: قطعة من السماء، والكسف القطع.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: أصابهم حر شديد وغم في بيوتهم، فخرجوا يلتمسون الرَّوْحَ قِبَلَهُ، فلما غشيتهم تلك السحابة أخذتهم الرجفة فأصبحوا جاثمين.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: ظلل العذاب إياهم، وبعضه قريب من بعض.

وعن ابن عَبَّاسٍ قريبًا من هذا قال: " بعث اللّه عليهم وهدة وحرَّا شديدًا، فأخذ بأنفاسهم، فلما أحسوا بالموت بعث لهم سحابة فأظلتهم، فتنادوا تحتها، فلما اجتمعوا سقطت عليهم، فذلك قوله: {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ}، والظلة: السحابة؛ وهو قريب من الأول.

١٨٨

وقول شعيب: (رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٨٨) من نقصان الكيل وغيره من صنيعهم.

١٨٩

وقوله: (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ ... (١٨٩) كذبوه فيما أخبر من نزول العذاب بهم، أو كذبوه فيما ادعى من الرسالة وما سوى ذلك؛ هو مذكور فيما تقدم.

١٩٢

وقوله: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ}: وإنه - أي: القرآن - تنزيل رب العالمين، أي: نزله رب العالمين.

{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ}: جواب لقولهم: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ}.

١٩٣

وقوله: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلَى قَلْبِكَ (١٩٤) يحتمل وجوهًا:

أحدها: أن جبريل لما ينزل من القرآن إنما ينزل على قلبه، لا يحجبه شيء عن قلبه.

والثاني: {عَلَى قَلْبِكَ} أي: لا يذهب عنه، بل اللّه يجمعه في قلبك؛ كقوله: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ).

أو أن يكون قوله: {عَلَى قَلْبِكَ} أي: يثبته على قلبك لقولهم: {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ}.

أو أن يكون قال ذلك لما انتهى إلى قلبه وحفظه غاية حفظه قال: {عَلَى قَلْبِكَ}؛ كأنه ألقي في قلبه وكذلك يقال.

١٩٤

وقوله: (لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥) كأنه - واللّه أعلم - على التقديم والتأخير يخرج، أي: نزل به الروح الأمين على قلبك بلسان عربي مبين لتكونن من المنذرين.

والباطنية يقولون: أنزله على رسوله كالخيال غير موصوف بلسان، ثم إن رسوله أداه بلسانه العربي المبين أي: بيَّنه، لكنه ليس كذا؛ لأنه قال في آية أخرى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا}؛ فيبطل قولهم: إنه أداه بلسانه عربيّا من غير أن أنزله كذلك، ولو كان على ما يقوله الباطنية: إنه لم ينزله بهذا اللسان - أعني: اللسان العربي - وأن الرسول هو الذي صيره بهذا اللسان وأداه به لكان لا يصير جوابًا لقولهم: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}، ولا حجة عليهم، فإذا ذكر هذا جوابًا لقولهم وحجة عليهم؛ دل أنه إنما أنزل عليه عربيا، وأن تأويل الأول ما ذكرنا على التقديم والتأخير.

١٩٦

وقوله: (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦) قال بعض أهل التأويل: وإنه - أي: نعت محمد وصفته - كان في كتب الأولين.

وجائز أن يكون قوله: {وَإِنَّهُ} أي: هذا القرآن كان ذكره في كتب الأولين أنه ينزل على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لا أن عينه كان فيها.

أو أن كان بعضه في زبر الأولين لا الكل، واللّه أعلم.

١٩٧

وقوله: (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٩٧) قال بعض أهل التأويل: أوَلم يكن لهم مُحَمَّد آية أن علماء بني إسرائيل كانوا يعلمون أنهم يجدونه مكتوبًا عندهم في الكتب.

لكن تأويله: أو لم يكفهم علم علماء بني إسرائيل آية أنه رسوله. ثم الآية تكون بوجهين:

أحدهما: ما ذكر أن أهل مكة أرسلوا إلى اليهود بالمدينة يسألونهم عن رسول اللّه، فأخبروهم عنه أنه يخرج في وقت كذا، وأن نعته كذا، وهذا وقت خروجه.

والثاني: يقول: أولم يكفهم آية إسلام علماء بني إسرائيل وفقهائهم أنه رسول نحو ابن

سلامٍ وغيره؛ إذ كانوا لا يسلمون إلا عن علم وثبت أنه رسول؛ إذ كان في إسلامهم ذهاب مكانتهم ورياستهم، واللّه أعلم.

١٩٨

وقوله: (وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩) قال بعضهم: نزلناه على رجل منهم عربي فلم يؤمنوا به، فكيف لو نزلناه على أعجمي؟!

وقَالَ بَعْضُهُمْ: لو نزلنا هذا القرآن على بعض الأعجمين، فقرأه عليهم، يقول: إذن لكانوا شر الناس فيهم ما فهموه وما دروا ما هو؛ وهو قريب من الأول.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: لو نزلناه على بعض الأعجمين من الدواب فكلمهم هذا ما صدقوه؛ يذكر سفههم وتعنتهم.

ويحتمل قوله: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ} أي: لو نزلناه أعجميا فلم يفهموه لقالوا: {لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ}، ولكن نزلناه عربيًّا؛ لئلا يقولوا ذلك، واللّه أعلم.

٢٠٠-٢٠١

وقوله: (كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (٢٠١)

قَالَ بَعْضُهُمْ: هكذا سلكنا الكفر والتكذيب، وأدخلناه في قلوب المجرمين.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: كذلك سلكناه - يعني: البيان والحجج - في قلوب المجرمين حتى عقلوه، ولزمتهم الحجة، لكنهم تركوا الإيمان تعنتًا وعنادًا، لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم، حين لا ينفعهم إيمانهم؛ لأن إيمانهم عند معاينة العذاب إيمان دفع واضطرار لا إيمان اختيار، وهو كما قال: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللّه وَحْدَهُ}؛ لأنه إيمان دفع العذاب عن أنفسهم حين خرج أنفسهم من بين أيديهم، وإيمان اضطرار لا إيمان اختيار؛ لذلك لم ينفعهم.

٢٠٢

وقوله: (فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٢٠٢) أي: يأتيهم العذاب فجأة وهم لا يشعرون؛ لأنه - عَزَّ وَجَلَّ - إذا علم منهم أنهم لا يؤمنون أبدًا، أنزل بهم العذاب بغتة، ولو علم منهم أنهم يؤمنون حقيقة عند معاينة العذاب؛ لأنزل عليهم العذاب معاينة مجاهرة؛ ليؤمنوا فيقبل منهم ذلك ويدفع العذاب عنهم، كما قبل إيمان قوم يونس حيث قال: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. . .}، قبل منهم الإيمان عند معاينتهم العذاب؛ لما علم منهم أنهم يحققون الإيمان في ذلك،

وأما من كان همهم المعاندة والمكابرة فهم لا يحققون الإيمان.

٢٠٣

وقوله: (فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣) لا يزالون يطلبون الرجعة إلى الدنيا، وتأخير العذاب عن أنفسهم إذا نزل بهم؛ كقولهم: {رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ}؛ وكقوله: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ}، فيتمنون الرجوع والنظرة، لكن لا يجابون.

٢٠٤

وقوله: (أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤) هو كقولهم: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ}، وقولهم: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً}، ومثله، وإلا ليس هذا في الظاهر جوابًا لقوله: {فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ} وجواب هذا - واللّه أعلم -

٢٠٥

قوله: (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ. مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ. . .): يقول: ما يغني تأخير العذاب عنهم، وإمهالهم عنه وقتا يمتعون فيه - من عذاب اللّه من شيء؛ لا ينفعهم ذلك.

أو أن يكونوا سألوا العذاب في الظاهر واستمهلوه في الحقيقة، فخرج قوله: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ. . .} الآية جوابًا لاستمهالهم.

أو أن يكون بعضهم استعجل العذاب واستمهل غيرهم، فخرج هذا جواب من استمهل.

٢٠٨

ثم خوفهم فقال: (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرَى ... ) يقول: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} إهلاك استئصال وانتقام، إلا بعد الإنذار وإقامة الحجة والبيان.

٢٠٩

(ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (٢٠٩) أي: موعظة وزجرا عما هم فيه.

أو {ذِكْرَى} بذكر ما لهم وما عليهم وما لبعضهم على بعض.

وقوله: {وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ}: في تعذيبهم، أي: لم نعذبهم بلا ذنب ولا جرم، ولكن بعنادهم ومكابرتهم؛ لأن العذاب في الدنيا لا يكون لنفس الكفر ولكن لعناد ومكابرة، وإنَّمَا عذاب الكفر في الآخرة؛ وعلى ذلك يخرج قوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}. أي: ما كنا معذبين في الدنيا تعذيب انتقام حتى نبعث رسولا، فيظهر منهم العناد والمكابرة، فعند ذلك يعذبهم اللّه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} أي: ما كنا نعذبهم إلا من بعد البيان والحجة وقطع العذر، واللّه أعلم.

وفي مصحف أبي: (وما أهلكنا من قرية إلا بذنوب أهلها).

٢١٠

وقوله: (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (٢١٠) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ)

قَالَ بَعْضُهُمْ: ما تنزلت بالقرآن الشياطين، فذلك جواب لقول أهل مكة: إن محمدا كاهن معه رئيٌّ يأتيه بما يقول يعنون بالرئي: الشيطان، وكانت الشياطين من قبل يقعدون من السماء مقاعد يستمعون فيها الوحي من الملائكة، فينزلون به على الكهان فمن بين مصيب ومخطيء، فقالوا: محمد كذلك، فأكذبهم اللّه في مقالتهم تلك، فقال: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ} أي: بالقرآن {الشَّيَاطِينُ.وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ} أن ينزلوا بالقرآن {وَمَا يَسْتَطِيعُونَ}، أي: قد حيل بينهم وبين السمع بالملائكة والشهب، وأخبر أنهم عن السمع لمعزولون.

٢١٢

وفي قوله: (وَمَا يَسْتَطِيعُونَ. إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢) دلالة أن من أراد أن يجعل القرآن حجة لغير الذي جعل هو حجة، لم يقدر على النطق به ولا التلاوة؛ نحو: من يأتي أفقًا من آفاق الأرض لم ينته إليهم هذا القرآن، فادعى لنفسه النبوة وجعل يحتج بهذا القرآن، فإنه لا يقدر على تلاوته ولا النطق به؛ لأنه إنما جعل حجة وبرهانًا للمحق لا للمبطل حيث قال: وما تنزلت الشياطين وما ينبغي لهم أن ينزلوا وما يستطيعون ذلك وإنهم معزولون عن ذلك.

٢١٣

وقد ذكرنا وجه النهي لرسول اللّه في قوله: {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللّه إِلَهًا آخَرَ} وأمثاله، واللّه أعلم.

٢١٤

وقوله: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤) روي عن أبي هريرة قال: لما نزلت هذه الآية: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} جمع رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قريشًا، فخصَّ وعمَّ فقال: " يا معشر قريش، أنقذوا أنفسكم من النار؛ فإني لا أملك لكم من اللّه نفعًا ولا ضرًّا، يا معشر بني قصي، أنقذوا أنفسكم من النار؛ فإنى لا أملك لكم من اللّه ضرًّا ولا نفعًا،

وقال: يا معشر بني عبد مناف، أنقذوا أنفسكم من النار لا أملك لكم من اللّه ضرًّا ولا نفعًا "؛ وكذلك قال لبني عبد المطلب، وقال لفاطمة ابنته: " يا فاطمة بنت مُحَمَّد، أنقذي نفسك من النار؛ فإني لا أملك لك من اللّه ضرا ولا نفعًا، ولكن لك رحم سأبُلُّها ببلالها " أي: بأصلها.

وفي بعض الأخبار: أنه قال عند نزول هذه الآية: " إني أرسلت إلى الناس عامة، وأرسلت إليكم يا بني هاشم وبني عبد المطلب خاصة "، وهم الأقربون وهما أخوان ابنا عبد مناف.

وعن الحسن قال: ذكر لنا أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - جمع أهل بيته قبل موته فقال: " ألا إن لي عملي ولكم عملكم، ألا إني لا أملك لكم من اللّه شيئًا، ألا إن أوليائي منكم المتقون، ألا لا أعرفنكم يوم القيامة تأتونني بالدنيا تحملونها على رقابكم، ويأتيني الناس بالآخرة ".

وعن قتادة ذكر لنا أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بات ليلة على الصفا يفخذ عشيرته فخذا فخذا يدعوهم إلى اللّه، قال في ذلك المشركون. لقد بات هذا الرجل يهوِّت منذ الليلة.

يقول يصيح، فأنزل اللّه في ذلك: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للّه مَثْنَى وَفُرَادَى} الآية.

ومعنى التخصيص في إنذاره عشيرته في هذه الآية يحتمل وجهين - وإن كانوا داخلين في جملة إنذار الناس جميعًا في قوله: {لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} إذ هم من العالمين -:

أحدهما: جائز أن يكونوا هم يطمعون شفاعة رسول اللّه يوم القيامة، وإن لم يطيعوه ولم يجيبوه إلى ما يدعوهم إليه؛ على ما روي عنه أنه قال: " كل نسب وسبب منقطع يومئذ إلا نسبي وسببي "، فيشبه أن يكونوا يطمعون شفاعته يومئذ - وإن خالفوه بحق القرابة والوصلة - ما لا يطمع ذلك غيرهم من الناس إلا بالطاعة والإجابة، فأمره أن ينذرهم؛ لئلا يكلوا إلى شفاعته، ولكن احتالوا حيلتهم بالطاعة والعمل لما يأمر، وهو ما ذكر في الأخبار التي ذكرنا: " إني لا أملك لكم من اللّه نفعًا ولا ضرًّا، ألا إن أوليائي منكم المتقون "، أخبر أن لا ولاية إذا لم يتقوا مخالفته.

والثاني [ .... ].

٢١٥

وقوله: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) قيل: لين جانبك لمن اتبعك من

المؤمنين؛ كأنه أمر رسوله أن يتواضع لهم ويرحم، وقال في الوالدين: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ}، وقال في المؤمنين: بعضهم لبعض فيما بينهم {رُحَمَآءُ بينَهُم}، {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}، ذكر الذل فيما بينهم والرحمة، ولم يذكر في رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - الذل - واللّه أعلم - لأن الذل كأنه يرجع إلى الخضوع واستخدام بعضهم بعضا، وذلك في رسول اللّه بعيد لا يحتمل أن يأمره بالخدمة لهم.

وجائز أن يمتحن بعضهم بخدمة بعض، واللّه أعلم.

٢١٦

وقوله: (فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦) قالوا: إنه راجع إلى قوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} وموصول به؛ كأنه قال: وأنذر عشيرتك الأقربين فإن عصوك فقل {إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}.

٢١٧

قد كان رسول اللّه بريئا مما كان يعمل أُولَئِكَ الكفرة، لكنه يحتمل أن يكون أُولَئِكَ لما أنذرهم رسول اللّه، طلبوا منه أن يطيعهم في بعض أمورهم ويشاركهم في بعض أعمالهم؛ حتى يطيعوا أُولَئِكَ له في بعضًا يأمرهم ويدعوهم إليه، ويشاركونه في بعض أعماله، فقال عند ذلك: إنه بريء مما يدعونه إليه، وطلبوا منه مساعدته إياهم والإغماض عما يعملون فقال: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) كأنه أمنه عن شرهم وكيدهم فقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ}، ولا تخف مخالفتهم إياك فيما تدعوهم إليه.

أو أمره أن يكل نفسه إليه، ويفوض جميع أموره في كل وقت فقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ}، العزيز: المنتقم لأوليائه أو الشديد بأعدائه، الرحيم بأوليائه.

أو ذكر العزيز؛ لأنه به يعز من يعز وهو يرحم من يرحم، من لم يعزه هو لا يكون عزيزًا ومن لم يرحمه هو لا ينفعه ترحم غيره، والعزيز هو الذي لا يعجزه شيء.

٢١٨

وقوله: (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) في ظلمة الليل وحدك قائمًا وجالسًا وعلى حالاتك، ويراك في تقلبك -أيضًا- في الساجدين في الصلاة مع الناس في الجماعة.

٢١٩

وبعضهم يقول في (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) في المصلين؛ يقول: كان يرى من خلفه من الصفوف كما يرى من أمامه.

لكن هذا ليس تأويل الآية، بل كلام قاله من ذات نفسه، ولو كان ما ذكر لكان يقول: يُريك، برفع الياء لا بالنصب.

وروي في بعض الأخبار: " أنا إمامكم؛ فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام، فإني أركم خلفي كما أراكم أمامي، والذي نفسي بيده لو رأيتم ما رأيت لضحكتم

قليلا ولبكيتم كثيرا "، قالوا: يا رسول اللّه وما رأيت؟ قال: " رأيت الجنة والنار ".

وقَالَ بَعْضُهُمْ: يراك حين تقوم إلى الصلاة فتصلي وحدك، ويراك مع المصلين في جماعة؛ وهو مثل الأول.

وفي حرف حفصة: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ}.

٢٢٠

(إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠) السميع لمقالتهم مما يخفون ويسرون وما يعلنون، والعليم: بضمائرهم وخفياتهم.

أو السميع: المجيب لمن دعاه، العليم: بأفعالهم وأعمالهم.

٢٢١

وقوله: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ. تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}: خرج هذا - واللّه أعلم - وما تقدم ذكره من الآيات جوابًا لقول كان من رؤساء الكفرة وقادتهم لا يزالون يلبسون على أتباعهم والسفلة أمر رسول اللّه وما ينزل، فقالوا مرة: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}، ومرة: {مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى}، وأنه شاعر وأنه ساحر، ومرة قالوا: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ}، وأمثال هذا، فجائز أن كان منهم -أيضًا- قول: إن الشياطين هم الذين يتنزلون بهذا القرآن عليه، على ما ذكر أنهم قالوا: يجيء به الرئي - وهو الشيطان - فيلقيه على لسانه، فقال عند ذلك جوابًا لهم: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ. وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ. . .} الآية، ولكن إنما يتنزل به جبريل حيث قال: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ. . .} الآية.

ثم أخبر عن الشياطين أنهم على من ينزلون حيث قال: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ. تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}، ذكر هذا لما عرفوا هم أن الشياطين لا يتنزلون

إلا بكذب وباطل، فمن لا ينزل إلا بكذب وباطل لا ينزل إلا على كذاب أفاك، وكان معلوما عندهم أن محمدا لم يكذب قط ولا أفك أبدًا؛ إذ لم يأخذوه يكذب فيما بينهم قط، فيقول - واللّه أعلم - كيف يتنزل عليه الشياطين وهو معروف عندكم أنه ليس بكذاب ولا أفاك، وقد تعلمون أن الشياطين لا ينزلون إلا بكذب وباطل؟! على هذا يخرج تأويل هذه الآيات، وإلا على الابتداء لا يحتمل أن تكون.

٢٢٣

ثم أخبر عن صنيع الشياطين دنقال: (يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (٢٢٣)

قَالَ بَعْضُهُمْ: يلقي الشياطين بآذانهم إلى السمع في السماء لكلام الملائكة، وذلك أن اللّه إذا أراد أمرًا في الأرض علم به أهل السماء من الملائكة، فيتكلمون به فيسمع الشياطين ذلك، فيخبرون به الكهنة، فيخبر الكهنة أهل الأرض بذلك، فيقولون: إنه يكون في الأرض كذا في وقت كذا، ثم قال: {وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} - على هذا التأويل -: وأكثر الشياطين كاذبون فيما يخبرون الكهنة من أخبار السماء.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن الجن كانوا يصعدون إلى السماء فيسترقون أسماعهم إلى السماء، فيسمعون من أخبار أهلها، ثم ينزلون به على الكهنة، ويسمع الكهنة -أيضًا- من أخبار الرسل، ويخلطون ما سمعوا من الرسل من الحق بما سمعوا من الشياطين.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: كانوا يسمعون من الجن حقًّا، لكنهم يخلطون من عند أنفسهم كذبًا، فيحدثون به الناس، حتى إذا كان الناس يتركون ما يسمعون منهم من الكذب، حدثوهم بذلك الحق الذي نزل به من السماء، ويراجعونهم ويصدقونهم؛ فذلك قول اللّه: {وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} أي: أكثر قولهم كذب، واللّه أعلم بذلك.

٢٢٤

وقوله: (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (٢٢٤)

قَالَ بَعْضُهُمْ: رجلان شاعران كانا على عهد رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أحدهما من الأنصار، والآخر من قوم آخرين، فهجوا رسول اللّه وأصحابه ومع كل واحد منهما غواة من قومه؛ فذلك قوله: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ}.

قال: فاستأذن شعراء المسلمين النبي أن يقتصوا من المشركين، فأذن لهم النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فهجوا المشركين ومدحوا النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وذلك قوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}؛ أخبر في الأول: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ}، فاستثنى شعراء المسلمين بقوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا}.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الشعراء عصاة الجن يتبعهم غواة الإنس؛ كقوله: {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ}.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هم الكفار يتبعون ضلال الجن والإنس؛ وهو مثل الأول.

٢٢٥

وقوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥)

قَالَ بَعْضُهُمْ: في كل فن يأخذون، أي: يمدحون قومًا بباطل، ويذمون قومًا بباطل.

٢٢٦

(وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) وأنهم يصفون ما لا يعلمون؛ وكذلك ذكر في بعض الحروف أنه كذلك.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنهم في كل لغو وباطل يخوضون.

{وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} يقول: في أكثر قولهم يكذبون.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} أي: يقولون: فعلنا كذا، وهم كذبة؛ لم يفعلوا ذلك.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: {يَهِيمُونَ} أي: يذهبون ويمضون ويركبون كل واد، هام يهيم هيمًا فهو هائم، ويقال: الهائم: العطشان، يقول: هام يهيم هيما، وهيمان: عطشان، وقوم هيم، والهائم، الواهن المحب الذي هو عطشان إلى لقاء من يحب، والتهويم: النوم؛ يقال: هوم يهوم تهويما،

وقوله: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} هم العطاش، والواحد: هيمان.

وقَالَ الْقُتَبِيُّ {فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} أي: في كل واد من القول وفي كل مذهب يذهبون؛ كما يذهب الهائم على وجهه.

٢٢٧

وقوله: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللّه كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧) هذا الاستثناء يحتمل أن يكون من قوله: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} وهو ما ذكرنا؛ كأنه قال: أُولَئِكَ الشعراء وهم القادة منهم الذين قالوا: نحن نقول بمثل ما أتى مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وقالوا الشعر وأنشدوه واجتمع إليهم غواة من قومهم يستمعون أشعارهم، ويروون عنهم حين يهجون النبي وأصحابه، قاستثنى شعراء المسلمين الذين قالوا الشعر وأنشدوه في انتصار رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه فقال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فإنهم لا يتبعهم الغاوون.

أو أن يكون الاستثناء من قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ. وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فإنهم لا يهيمون في كل واد، ويقولون ما يفعلون، ولا يقولون ما لا يفعلون، بل يذكرون اللّه كثيرًا وينتصرون لرسوله؛ ولأنفسهم من بعد ما ظلموا؛ فيكون الاستثناء في أحد التأويلين من الاتباع وفي الآخر من الأئمة والقادة؛ فكان منهم قول سبق في ذلك، حتى قال: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ. . .} إلى آخر ما ذكر؛ إذ لا يحتمل على الابتداء دون قول كان منهم على ما ذكرنا في قوله: {وَمَا وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ. . .}،

وقوله: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ. . .} الآية، قد كان من أُولَئِكَ الكفرة قول وطعن بأن الشياطين هم الذين يتنزلون به عليه، حتى خرج جوابًا لهم: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ. وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ}، وإن لم يذكر ذلك، يظهر ذلك في الجواب أن كان منهم قول وطعن، وإن لم يذكر، ثم أوعدهم

وقال: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} يحتمل في الآخرة في منقلب الظلمة وهي النار، أي: يعلمون علم عيان يومئذ، وإن لم يعلموا ذلك في الدنيا علم استدلال لما تركوا النظر فيه.

أو يعلمون ذلك علم عيان في الآخرة، وإن علموا في الدنيا علم استدلال، لكنهم تعاندوا وكابروا فلم يؤمنوا، واللّه أعلم وصلى اللّه على رسولنا مُحَمَّد وآله أجمعين.

* * *

﴿ ٠