سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ

كلها مَكِّيَّة

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الم): قد ذكرناه في غير موضع.

٢

وقوله: (أَحَسِبَ النَّاسُ ... (٢)

قوله: {أَحَسِبَ}: هو وإن كان في الظاهر استفهامًا فهو على الإيجاب لا الاستخبار؛ إذ حقيقة الاستفهام والاستخبار إنما تكون ممن يجهل الأمور فيستخبر ويستفهم ليعرف ذلك، فاللّه سبحانه يتعالى عن أن يخفى عليه شيء، فهو على التقرير والإيجاب منه لذلك.

ثم يخرج قوله: {أَحَسِبَ النَّاسُ} على أحد وجهين؛ أحدهما، أي: قد حسب الناس.

والثاني: أي: لا يحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا: آمنا.

وقوله: {أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا}: ذكر الإيمان ولم يذكره بمن؟ باللّه أو بغيره؟ وليس أحد من الخلائق إلا وهو يؤمن بأحد ويكفر بغيره، وليس في الآية بيان الإيمان به أو بمن؟ إلا أن اللّه تعالى سخر الخلق على الفهم من الإيمان المطلق المرسل: الإيمان باللّه وبرسله، وسخرهم حتى فهموا من الكتاب المطلق: كتاب اللّه، والدار الآخرة: الجنة، وأمثال ذلك ما فهموا من الكتاب المطلق: كتاب اللّه، وفهموا ما ذكرنا من الإيمان المطلق: الإيمان باللّه وبرسله، وفهموا أيضًا من الدِّين المطلق: دين اللّه؛ فيكون قوله: {أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا} باللّه أو برسله.

وقوله: {وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} أي: لا يبتلون، والفتنة: هي الابتلاء الذي فيه الشدة، يمتحن اللّه عباده باختلاف الأحوال: مرة بالضيق والشدة، ومرة بالسعة والرخاء وأنواع العبادات؛ ليكون ذلك علما للخلق في صدق الإيمان به والكذب به والكذب فيه، فيعرفوا صدق كل مخبر عن نفسه الإيمان باللّه تعالى وكذبه؛ إذ قد يجوز أن يكون فيما يخبر

ويقول: آمنت - كاذبًا، فجعل اللّه تعالى للعلم في صدقهم وكذبهم أعمالا يظهر بها عنده صدقهم ما لو كان الابتلاء والامتحان بجهة لعله لا يظهر ذلك، وهو ما أخبر عن المنافقين فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّه عَلَى حَرْفٍ. . .} الآية، هذا يدل أن الفتنة هي المحنة التي فيها الشدة والبلاء، وهو ما قال: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}، فإنما يظهر صدق الرجل في إيمانه بما يصيبه من الشدة، فأما السعة والرخاء فهو ما يوافق طبعه وهوى نفسه، فلا يظهر صدقه بما يوافق طبعه، وإنَّمَا يظهر ذلك بما يخالف طبعه ويثقل عليه تحمل ذلك.

ثم

قَالَ بَعْضُهُمْ: نزلت الآية في قوم أظهروا الإيمان باللسان، وأضمروا الخلاف والكذب.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: نزلت في قوم آمنوا باللّه وبرسوله حقيقة، ثم عذبوا بأنواع العذاب؛ فتركوا الإيمان وكفروا به؛ وفيهم نزل: {فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللّه جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللّه}، فكيفما كان ففيه أن من أقر بالإيمان وقبله، يمتحن بأنواع المحن بموافقة الطبع ومخالفته؛ ليظهر صدقه عند الناس فيعاملونه على ذلك، واللّه أعلم.

٣

وقوله: (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللّه الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (٣) ذكرنا فيما تقدم أنه يعلم ظاهرًا كائنا ما قد علمه غير كائن أنه يكون، وليعلمه موجودًا ما قد علمه غير موجود أنه يوجد، واللّه أعلم.

٤

وقوله: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (٤) هذا أيضًا يخرج على وجهين:

أحدهما: قد حسب الذين. . . ما ذكر. والثاني: لا يحسب؛ على النهي.

وقوله: {أَنْ يَسْبِقُونَا}: لا أحد يقدر أن يسبق اللّه في عذابه ونقمته، لكنهم إذا رأوا الكافر والمسلم في هذه الدنيا على السواء في نعيمها وسعتها، ورأوا أيضًا عند الموت أنه لم ينزل على الكافر عذاب كالمسلم - ظنوا أن لا بعث وما ينبئهم باطلا ذلك ظن الذين كفروا حملهم ذلك على إنكار البعث؛ كقوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا}، حين خلقهما إذا لم يكن بعث باطلا، وهم قد علموا أن خلقه إياهما ليس بباطل، ولكن صير خلقهما إذا لم يكن بعث باطلا، فإذا أنكروا البعث ظنوا أن لا عذاب ولا جزاء، واللّه أعلم.

٥

وقوله: (مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللّه فَإِنَّ أَجَلَ اللّه لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) أضاف اللقاء إلى نفسه، وكذلك ما ذكر من المصير إليه لقوله: {وَإليهِ الْمَصِيرُ}،

وقوله: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ}،

وقوله: {وَبَرَزُوا للّه جمَيعًا}، ونحوه، هذا كله لأن خلق الدنيا وخلق العالم فيها لا لها، ولكن المقصود بخلقها وخلق العالم فيها الآخرة، فإنما صار خلق هذه الأشياء فيها حكمة بالآخرة؛ إذ لو لم يكن آخرة، كان خلق ما ذكر في هذه الدنيا لعبًا باطلا؛ كقوله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}

صير خلقهم لا للرجوع إليه لعبًا باطلا.

وقوله: {فَإِنَّ أَجَلَ اللّه لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}: بما يقولون ويظهرون، والعليم بما يضمرون ويسرون؛ لأن القصة قصة المنافقين.

أو السميع المجيب العليم بحوائجهم وأمورهم، واللّه أعلم.

٦

وقوله: (وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ... (٦) وكذلك قوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا}،

وقوله: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} أي: فعليها.

ففي هذا: أن اللّه إنما امتحن الخلائق لا لحاجة له فيما امتحنهم من دفع مضرة أوْ جر نفع، لكن إنما امتحنهم لحاجة أنفسهم في دفع المضار وجر المنافع؛ وكذلك إنما أنشأ الدنيا وهذا العالم فيها لا لحاجة له في إنشاء ذلك، ولكن لحوائج أنفسهم، وكذلك ما أنشأ من الخلائق سوى البشر إنما أنشأ البشر وله سخر جميع ذلك، وجعل البشر بحيث يقدر على استعمال جميع ذلك لمنافع أنفسهم وحاجتهم، وهو ما ذكر في غير آي من القرآن حيث قال: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ}،

وقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}، ونحو ذلك؛ فعلى ذلك امتحن هذا العالم لحاجة أنفسهم في دفع مضار وجر نفع؛ لذلك قال: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} أي: لحاجة نفسه ومنفعة نفسه، لا لمنفعة أو لحاجة للّه تعالى.

{إِنَّ اللّه لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}: هذا تفسير ما ذكر.

ثم المجاهدة تكون مرة مع الشيطان والجن، ومرة مع أعدائه من الإنس، ومرة مع هوى النفس، ومرة في أمر الدنيا، كل ذلك مجاهدة في اللّه؛ قال اللّه تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}، واللّه أعلم.

٧

وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ}: كأن ما عملوا من الحسنات والصالحات يكفر بها سيئاتهم.

وقوله: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} هذا يحتمل وجوهًا:

أحدها: أن جزاءهم الذي يجزون بتلك الأعمال أحسن من أعمالهم التي عملوا؛ لأن قدر ذلك الجزاء عندهم أعظم وأحسن من قدر أما علموا، من أعمالهم؛ إذ ليس لأعمالهم

عندهم كبير قيمة وقدر؛ إذ منهم من يحيي ليله بدرهم وبما يسد به حاجتهم في يوم أو ليلة.

والثاني: أن الأعمال التي يعملها المرء تكون على وجوه سيئات تكفر بالتوبة أو بما كان يعاقبون عليها، وحسنات يجزون بها الثواب الجزيل، وإباحات يعملون لحوائج أنفسهم مما لا يعاقبون عليه ولا يثابون، فيقول - واللّه أعلم -: لنجزينهم أحسن الذي عملوا وهو الحسنات والخيرات عملوها للّه.

أو أن يكون قوله: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} أن نكفر سيئاتهم بنوع من الحسنات ولثابون على أحسنها، وهو ما قال: {لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ}، واللّه أعلم بذلك.

٨

وقوله: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨)

وقرئ أيضا: (إحسانا) قال الزجاج: قوله:، {حُسنًا} أجمع وأقرب؛ لأنه يرجع إلى حسن الشيء في نفسه، وإلى حسنه عند ذلك الإنسان؛ يقال: حسن كذا إذا كادْ في نفسه حسنا، والإحسان: هو ما يحسن عند ذلك المعمول له، أو كلام نحو هذا.

قال الشيخ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: لكن الإحسان هو اسم ما حسن أيضًا في تفسه، يقال: أحسن، فإذا أحسن، فقد حسن، واللّه أعلم.

وقوله: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}: إن كان هذا الخطاب لأهل الإيمان فيكون تأويل الآية: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أي: بأن له لئمريكًا، أي: تعلم بأن ليس له شريك فلا تشرك به؛ وهو كقوله: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّه بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ}، أي: يعلم بخلاف ما يقولون؛ فعلى ذلك قوله يحتمل {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} بأن له شريكا، أي: لك العلم بخلافه: بأن ليس له شريك.

وإن كان الخطاب لأهل الكفر يقولون على اللّه ما ليس لهم به علم.

وقوله: {فَلَا تُطِعْهُمَا}: أمر بالبرّ للوالدين والإحسان إليهما والطاعة لهما ما لم يكن في طاعتهما معصية الربّ؛ ليعلم أن لشى يجب طاعتهما في كل شيء وفي كل ما كان عندهما إحسانا، ولكن فيما كان في ذلك طاعة الخالق.

وقوله: {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}: وعيد لتكونوا أبدًا على حذر في أعمالكم لا تعملون بما فيه معصية الرب.

٩

وقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩) كأنه قال: والذين آمنوا

وعملوا الصالحات ولهم سيئات، لنكفرن عنهم تلك السيئات بأعمالهم الصالحات، ثم لندخلنهم في الصالحين الذين لا سيئة لهم وهم الأنبياء، إذ أكثر ما ذكر في الكتاب الصالحين إنما أريد بهم الأنبياء - صلوات اللّه عليهم - وهو ما ذكرنا - واللّه أعلم - على تكفير السيئات عنهم على ما ذكر فيما تقدم، وهو ما قال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ}.

أو أن يكون قوله: {لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} أي: لنجعلنهم من الصالحين.

فَإِنْ قِيلَ: ما معنى قوله: {لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} وهم قد عملوا الصالحات؟ قيل: معناه ما ذكرنا بدءًا: أنهم قد عملوا الصالحات إلا أن لهم سيئات يكفرها بالصالحات، ثم ليجعلنهم في الصالحين الذين لا سيئة لهم، واللّه أعلم.

١٠

وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللّه فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللّه جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللّه}: قال بعض أهل التأويل: ناس مؤمنون بألسنتهم، فإذا أصابهم بلاء من الناس أو مصيبة في أنفسهم وأموالهم افتتنوا، فجعلوا ذلك في الدنيا كعذاب اللّه في الآخرة.

ثم قال: {وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ}: وذلك عَلَمُ المنافق.

ومنهم من يقول: نزلت الآية فيمن حقق الإيمان سرًّا وعلانية، إلا أنه عذب لأجل إيمانه باللّه وبرسوله؛ فترك الإيمان وكفر؛ فعلى تأويل هذا يحتمل قوله: {وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ. . .} إلى آخر ما ذكر على القطع من الأول والابتداء منه من صنيع المنافقين وخبرهم، واللّه أعلم.

ويحتمل قوله: {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللّه} أي: جعل فتنة الناس وتعذيبهم إياه في إعطاء ما سألوه - وهو الكفر - كعذاب اللّه في إعطاء ما سأل من أهل الكفر وهو الإيمان؛ لأن أهل الكفر إذا نزل بهم عذاب اللّه أو اشتد بهم خوف نزوله عليهم أعطوا اللّه ما سألهم من الإيمان والتوحيد، وهو ما قال: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}.

ويحتمل وجهًا آخر: وهو أن جعل فتنة الناس في ترك الإيمان كعذاب اللّه في ذلك، أي: جعل العذاب الذي من الناس كأنه من اللّه جاء فترك الإيمان.

وقوله: {أَوَلَيْسَ اللّه بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ}: فإن كانت الآية فيمن حقق الإيمان باللّه سرا وعلانية، فيخرج هذا على التعيير له في ترك الإيمان بما عذب به؛ لأنه كان يقدر أن يظهر الكفر لهم باللسان؛ فيدفع العذاب عن نفسه، ويكون في الحقيقة في السر مؤمنًا على ما ذكر: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}.

وإن كانت الآية في المنافقين، فيقول: كيف أسررتم الكفر والخلاف له في القلب، وأنتم تعلمون أن اللّه عالم بما في صدور العالمين؟! فيخبر رسوله بما أضمروا وأسروا من الخلاف، واللّه أعلم.

١١

وقوله: (وَلَيَعْلَمَنَّ اللّه الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (١١) قد ذكرنا تأويل هذا: أن يعلم كائنًا ما قد علم أنه سيكون، ويعلم موجودًا ظاهرًا ما قد علم أنه يوجد ويظهر.

١٢

وقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (١٢) كأنهم قالوا ذلك لهم بعدما عجزوا عن الطعن في الحجج والآيات ما يوجب شبهة فيما عند الناس، وبعدما انقطعوا عن اللجاج فيها والاحتجاج عليها، فلما عجزوا عن ذلك كله فعند ذلك اشتغلوا بما ذكر وقالوا للمؤمنين ما ذكر.

{اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا} أي: ديننا، {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} يقولون - واللّه أعلم -: اتبعوا سبيلنا فإنه صواب، فإن أصابكم خطأ أو أخطاتم في الاتباع له فإنا نحمل خطاياكم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قالوا لمن آمن منهم: لا نبعث نحن ولا أنتم فاتبعونا، وإن كان عليكم شيء فهو علينا؛ وهو قريب من الأول.

أو أن يقولوا لهم: اتبعوا سبيلنا؛ فإن اللّه أمرنا به، فإن أخطاتم في ذلك فإنا نحمل خطاياكم أو نحوه، فهذا القول منهم متناقض؛ لأنهم ذكروا أنهم كانوا يخطئون في الاتباع لهم دينهم، إلا أن يريدوا بذلك ما ذكرنا.

والثاني: إنما كانوا يضمنون ويحملون خطاياهم لا بإذن من له الطلب في الخطايا، ولكن بإذن من عليه ذلك، وذلك لا يصلح الضمان بإذن من عليه.

ثم أخبر أنهم لا يحملون ذلك حيث قال: {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}.

يحتمل قوله: {إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} فيما يذكرون من حمل خطاياهم، أي: لا يقدرون على

حملها.

أو كاذبون في الدعاء إلى اتباع سبيلهم.

أو كاذبون أن اللّه أمرهم بذلك، واللّه أعلم.

١٣

وقوله: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ (١٣) يحملون أوزارهم بضلال أنفسهم، وأثقالا بإضلال غيرهم ودعائهم إليه، كقوله: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ}، وذكر في خبر أن نبي اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " ما من داع دعا إلى هدى فاتبع عليه إلا كان له مثل أجور من اتبعه، ولا ينقص من أجورهم شيء ".

وقوله: {وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ}:

قَالَ بَعْضُهُمْ: افتراؤهم: اتخاذهم الأصنام آلهة؛ إذ يكون الافتراء في الفعل والقول جميعًا.

وجائز أن يكون افتراؤهم ما ذكروا من حمل خطئهم أو ما قالوا: إن اللّه أمرهم بذلك، أو تسميتهم الأصنام التي عبدوها آلهة، واللّه أعلم.

١٤

وقوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا}: يذكر هذا النبأ لوجهين:

أحدهما: يصبر رسوله على أذى قومه؛ لأنه ذكر أن نوحًا لبث في قومه ألف عام غير خمسين عاما، كان يدعوهم إلى توحيد اللّه، فلم يجبه إلا نفر من أهله؛ فلم يمنعه من الدعاء إلى دين اللّه ما أوعدوه من المواعيد حيث قالوا: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ}، ونحو ذلك من المواعيد، فذلك لم يمنعه عن الدعاء؛ ولذلك قال: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}.

والثاني: ينقض على المتقشفة مذهبهم؛ لأنهم يقولون: إن الموعظة إنما لا تنجع في الموعوظين لتفريط الواعظ وترك استعمال نفسه ذلك، فيقال: إن نوحًا قد دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، فلم يجبه إلا نفر؛ فلا يحتمل أن يكون منه تقصير أو تفريط؛ فدل أنها لا تنجع ربما لشقاوة الموعوظ.

وقوله: {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ}:

قَالَ بَعْضُهُمْ: هو المطر الشديد.

وجائز أن يكون الطوفان كل بلاء فيه الهلاك.

والطوفان هو ما أرسل عليهم من الماء فأغرقهم، واللّه أعلم.

١٥

وقوله: (فَأَنْجَيْنَاهُ ... (١٥) أي: نوحًا، {وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} أي: من دخل السفينة، {وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ}

وقَالَ بَعْضُهُمْ: جعلها آية: هو أن هلكت كل سفينة كانت، وهي ياقية اليوم على ما هي عليه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَجَعَلْنَاهَا آيَةً} لمن بعدهم، فتمنعهم عن تكذيب الرسل والعناد معهم.

قال الزجاج: الاستثناء يخرج على تأكيد ما تقدم من الكلام؛ كذكر الكل على أثر ما تقدم من الكلام، أو كلام نحوه.

وقلنا نحن. إن كان ما تقدم من الذكر كافيًا تاما، فيخرج الثنيا على أثره مخرج التأكيد لما تقدم؛ نحو قوله: (إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلَّا آلَ لُوطٍ قوله: {إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} كافٍ تام مفهوم ألا يدخل فيه آل لوط حيث ذكر المجرم؛ إذ آله غير مجرمين، فهو كاف مفهوم لا يحتاج إلى ذكر آل لوط، لكنه ذكر على التأكيد له.

وكذلك قوله: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} و {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ}؛ إذا قال: محصنين: يفهم أنهن غير مسافحات ولا متخذات أخدان، لكنه ذكر على التأكيد.

وإذا كان ما تقدم من الكلام محتملا مرسلا، فيخرج ذكر الثنيا مخرج تحصيل المراد منه على إضمار حرف " مِن " فيه؛ كقوله: {أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} كأنه قال: فلبث فيهم من ألف سنة تسعمائة وخمسين؛ وكذلك قول الناس لفلان: عليَّ عشرة دراهم إلا كذا، كأنه قال: لفلان علي من عشرة دراهم كذا، فهو على التحصيل يخرج ذكره.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الطوفان كل ماء طافٍ فاشٍ من سبيل أو غيره؛ وكذلك أن موت الجارف يسمى الطوفان وماء الطوفان، وهو ما ذكر في سورة الأعراف.

١٦

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو الغرق، واللّه أعلم.

وقوله: (وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللّه وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) هو نسق على قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ}، وأرسلنا إبراهيم أيضًا إلى قومه.

أو أن يكون نسقًا على قوله: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ}، وأنجينا إبراهيم أيضًا حين ألقي في النار.

أو يقال: اذكر إبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا اللّه.

وقوله: {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللّه وَاتَّقُوهُ}: يحتمل في حق الاعتقاد، أي: وحدوا اللّه.

وقوله: {وَاتَّقُوهُ}: الشرك.

ويحتمل قوله: {اعْبُدُوا اللّه} في حق المعاملة، أي: إليه اصرفوا العبادة، {وَاتَّقُوهُ} أي: اتقوا عبادة من تعبدون من الأوثان؛ يكون قوله: اتقوا في موضع النهي، أي: اعبدوا اللّه ووحدوه ولا تعبدوا غيره؛ يكون فيه نهي عن مخالفة ما تقدم من الأمر: افعلوا كذا، واتقوا ما يضاده ويخالفه، واللّه أعلم.

وقوله: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} أي: عبادة اللّه خير لكم.

وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} يحتمل قوله: (إِن) إذا كنتم تعلمون: أن ذلك خير لكم، وجائز ذكر {إن} مكان {إذ} في اللغة.

أو يكون صلة قوله: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.

١٧

وقوله: (إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللّه الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧) أي: تخلقون كذبا في تسميتكم الأوثان آلهة معبودين، أي: ليسوا بآلهة ولا معبودين.

أو يقال: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا}، أي: كذبًا في صرف عبادتكم إليها واستحقاق العبادة، أي: لا يستحقون العبادة، إنما المستحق للعبادة دون من تعبدون.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: جعلتم كذبًا من الآلهة لا حقًّا؛ وهو قريب مما ذكرنا.

ثم بئيئ سفههم في صرف العبادة إلى الأصنام وعجزها عمن يعبدها حيث قال: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا}: يقول - واللّه أعلم -: إن في الشاهد لا يخدم أحد أحدًا إلا لما يأمل من النفع له بالخدمة، أو لسابقة إحسان كان منه إليه، فالأصنام التي تعبدونها لا يملكون أن يرزقوكم ولا ينفعوكم، ولا كان منها إليكم سابقة صنع، فكيف تعبدونها؟!

وقوله: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللّه الرِّزْقَ} أي: اعبدوا اللّه الذي يرزقكم وينفعكم ويملك ذلك لكم، واتركوا عبادة من لا يملك ذلك.

{وَاعْبُدُوهُ}: يحتمل الوجهين اللذين ذكرناهما فيما تقدم: التوحيد، والعبادة.

وقوله: {وَاشْكُرُوا لَهُ} أي: اشكروا له فيما أنعم عليكم.

{إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.

١٨

وقوله: (وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (١٨) هذا يحتمل وجهين:

أحدهما: وإن يكذبوك فيما تخبر من نبأ إبراهيم، فقد كذب أمم من قبلك رسلهم فيما أخبروا عن إبراهيم بعد انتساب كل فريق منهم إليه، وادعائه نحلته ومذهبه.

والثاني: وإن يكذبوك فيما تبلغ إليهم من الرسالة، فقد كذب أمم من قبلك رسلهم في تبليغ الرسالة، وما على الرسول إلا البلاع المبين، يبين لهم أنها رسالة ربهم بالحجج والبراهين والآيات، واللّه أعلم.

١٩

وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللّه الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ}: إنهم قد رأوا أن كيف أنشأ اللّه الخلق في الابتداء، وإن عجزوا عن الأسباب التي خلقهم، ولا احتمل وسعهم ذلك، فعلى ذلك يعيدهم على ما أبدأهم، وإن عجز وسعهم عن احتمال ذلك وإدراكه؛ إذ الأعجوبة في الإعادة ليست بأكثر من الأعجوبة في البداية، بل الأعجوبة في ابتداء الإنشاء أكثر من الإعادة؛ لما الإعادة عندكم أيسر وأهون من الابتداء، فمن قدر على الابتداء فهو على الإعادة أقدر.

٢٠

{إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللّه يَسِيرٌ}: الابتداء والإعادة جميعًا لا يعجزه شيء؛ إذ هو قادر بذاته.

وقوله: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللّه يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) كان الأمر بالسير في الأرض والنظر ليس هو سيرًا بالأقدام فيها، ولكن أمر بإرسال الفكر فيها من الخلائق، والنظر في بدء ما فيها من الخلق متقنًا محكمًا بالتدبير والعلم والحكمة بلا أسباب؛ ليعلموا أن المدير في ابتداء الإنشاء والإعادة بالخارج عن احتمال وسعهم وقوامهم - خطأ، وأنه الذي قدر على إنشاء الخلق وابتدائه بلا سبب ولا شيء، وإن لم يحتمل وسعهم وبنيتهم وقواهم

ذلك؛ فعلى ذلك الإعادة والنشأة الأخرى، وإن كانت خارجة عن احتمال وسعهم وقواهم - قادر عليها.

أو أن يقال: انظروا واعتبروا أن بدء الخلق والنشأة من الحكم العالم الذاتي بلا إعادة ورجوع ليس بحكمة في العقل والحكمة جميعًا؛ لأن في الحكمة والعقل: التفريق بين الولي والعدو، وبين الشاكر والكافر، وبين المطيع والعاصي؛ إذ قد سوى بينهم في الدنيا وأشركهم فيها، حتى جعل للكافر ما للشاكر، وكذلك الولي والعدو والمطيع والعاصي؛ فلا بد من الإعادة في دار يفرق بينهم ليخرج بدء إنشائهم وخلقه الخلق على الحكمة والتدبير والعلم لا على السفه والعبث، واللّه أعلم.

وقوله: {إِنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: في النشأة الأولى والآخرة جميعًا لا يعجزه شيء؛ إذ هو قادر بذاته.

٢١

وقوله: (يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) يحتمل هذا في الدنيا: يعذب من يشاء في الدنيا، أي: يمتحنه ويبتليه بالشدة والضيق، ويرحم من يشاء، أي: يمتحنه بالسعة والرخاء؛ فيكون التعذيب كناية عن الشدة والضيق، والرحمة: كناية عن السعة والرخاء؛ وهو كقوله: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}؛ فعلى ذلك قوله: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} أي: ترجعون.

ويحتمل التعذيب في الآخرة والرحمة فيها، أي: يعذب من يشاء في الآخرة من كان في الدنيا أهلا له مستوجبًا، ويرحم من يشاء من كان في الدنيا أهلا لها مطيعًا لها.

٢٢

وقوله: (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللّه مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (٢٢) أي: ما أنتم بمعجزين اللّه في السماء، وعلى قول المعتزلة: يكونون معجزين اللّه في الأرض على ظاهر مذهبهم؛ لأنهم يقولون: إن اللّه قد أراد إبقاء الأخيار وأهل الصلاح، ثم يجيء كافر فيقتلهم قبل أجلهم الذي أراد اللّه إبقاءهم إلى وقت.

وكذلك يقولون: أراد اللّه أن يرزفهم الحلال، وأراد أن يكون أولادهم من رشد ونكاح، لكنهم يطلبون الرزق من حرام ويزنون، فيخلق أولادهم من زنى شاء أو أبي، لا يقدر التخلص عما يريدون هم، فأي إعجاز يكون أشد من هذا، فنعوذ باللّه من السرف في القول.

وقوله: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ} هم يعلمون - أعني: الكفرة - أنهم لا يعجزون اللّه ولا يقدرون على إعجازه، لكنه يذكر؛ لأنهم كانوا يعملون عمل من هو معجز فائت عن عذاب اللّه ونقمته؛ وهو كقوله: {وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ}

هم يعلمون أنهم لا يقدرون أن يسعوا في آياته معاجزين، لكنهم يسعون في دفع آياته والإنكار لها سعي معاجز لها لا سعي خاضع قابل؛ فعلى ذلك الأول.

وقوله: {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللّه مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} أي: ما لكم من دون اللّه مما طمعتم من النصر لكم والشفاعة وليس لكم ذلك؛ لأنهم عبدوا تلك الأصنام لما طمعوا شفاعتها عند اللّه لهم والزلفى حيث قال: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّه آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا}. وقولهم: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّه}، ومَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى)، ونحوه فيقول: ما لكم مما طمعتم بعبادتكم تلك الأصنام من ولي ولا نصير.

٢٣

وقوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللّه وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٢٣)

وقوله: {كَفَرُوا بِآيَاتِ اللّه وَلِقَائِهِ}: يحتمل آيات اللّه: الآيات التي جاءت بها الرسل في إثبات الرسالة لهم، ويحتمل آياته: الآيات التي جعلها لوحدانيته وألوهيته ولقائه، أي: كفروا بالبعث، وقد ذكرنا فيما سقدم وجه تسمية البعث: لقاءه.

وقال الحسن: آيات اللّه: دين اللّه، وكذلك يقول: كل آية في القرآن: الدِّين.

وقوله: {أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي}: قال بعض أهل التأويل: {مِنْ رَحْمَتِي} أي: من جنتي وتأويل هذا؛ لأنهم قد كفروا بالبعث، فإذا كفروا به زعموا أن لا ثواب ولا جزاء.

وجائز أن يكون قوله: {مِنْ رَحْمَتِي} أي: من رسلي وكتبي؛ لأن اللّه سمى رسله وكتبه: رحمة في غير آي من القرآن، أيسوا منهم، حيث كذبوهم وكفروا بهم، أيسوا أن يرسل الرسل أو ينزل الكتب.

ويحتمل قوله: {أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي} أُولَئِكَ عليهم الإياس من رحمتي لما كفروا بآياته ورسله، {وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

٢٤

وقوله: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ}.

قوله: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} إلا كذا: ليس في جميع الأوقات وجميع المشاهد، ولكن جائز أن يكون هذا: ما كان جواب قومه في مشهد إلا كذا.

أو أن يكون: فما كان جواب قومه إلا أن قالوا: اقتلوه أو حرقوه.

وإلا لم يحتمل ألا يكون منهم إلا ما ذكر من الجواب قد كان جوابات وأجوبة سواء.

لكن يحتمل ما ذكرنا: أن ما كان جواب قومه في مشهد إلا أن قالوا: اقتلوه أو حرقوه.

أو ما كان آخر جواب قومه إلا قالوا: اقتلوه أو حرقوه، وهو ما ذكرنا في قوله: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللّه}، لا يحتمل أنه لم يكن منهم إلا هذا ولكن ما ذكرنا، واللّه أعلم.

وقوله: {فَأَنْجَاهُ اللّه مِنَ النَّارِ}: حين ألقوه فيها، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}: ذكر الآيات في ذلك، فجائز أن يكون ما ذكر في هذه السورة من أولها إلى آخرها - لآيات لمن ذكر.

وجائز أن يكون فيما ذكر هنا خاصة، لكن ليس من شيء إلا وفيه آيات من وجوه: آية الوحدانية، وآية الألوهية، وآية علمه وحكمته وتدبيره وبعثه؛ فهو آيات.

وقوله: {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ذكر الآيات للمؤمنين يحتمل وجهين:

أحدهما: ذكر الآيات لهم؛ لأنهم هم المنتفعون بها دون من كفر.

والثاني: الآيات لهم على المكذبين بها والكافرين، أي: حجة لهم عليهم؛ كقوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ}، واللّه أعلم.

وقوله: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا} كذا هو صلة قصة إبراهيم وإليه يرجع، وهو ما تقدم من دعائه إياهم حيث قال: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللّه. . .} الآية.

٢٥

وقوله: (وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللّه أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٢٥) يقول - واللّه أعلم -: ما اتخذتم من دون اللّه معبودات سميتموها: آلهة، فهي ليست بآلهة ولا معبود، إنما هي أوثان {مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، يقول - واللّه أعلم: هذه الأصنام معبودات واجتماعكم عليها إنما هي مودة حياة الدنيا، لا مودة لها عاقبة أو تدوم، بل تصير في العاقبة عداوة وبغضًا، وهو ما ذكر. {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا}، قال بعضهم: يتبرأ بعضهم من بعض، ويكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضا؛ كقوله: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: يتبرأ المتبوع من الأتباع؛ كقوله: {رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ}،

وقوله: {سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا}، ونحوه.

ثم أخبر: أن مأوى الكل النار، وما لهم من ناصر ينصرهم من عذاب اللّه، أو يدفع

عنهم العذاب.

ثم اختلف في قوله: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللّه أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا قول إبراهيم لقومه؛ كقوله: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ}؛ وكقوله: {هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ}.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هذا قول الرسول لقومه الذين عبدوا الأصنام، واللّه أعلم.

٢٦

وقوله: (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦)

قوله: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} يحتمل وجهين:

أحدهما: قوله: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} أي: أظهر له لوط الإيمان من بين غيرهم، وقد كان لوط مؤمنا من قبل ليس أنه أحدث له الإيمان في ذلك الوقت، ولم يكن مؤمنًا قبل ذلك، ولكن ما ذكرنا أنه أظهر له الإيمان من بين غيرهم.

والثاني: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} فيما دعاه إليه وهو الهجرة، أي: فيما أخبر أنه أمر بالهجرة فاستصحبه فيها.

وقوله: {مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي}: قال أهل التأويل: هذا قول إبراهيم كقوله: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي}.

وجائز أن يكون قوله: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} قول لوط.

ثم لم يفهم من قوله: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي}،

وقوله: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي}، انتقاله أو المكان أو شيء مما يوجب التشبيه مما يفهم من الخلق، فكيف يفهم من قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللّه فِي ظُلَلٍ}،

وقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ}، و {اسْتَوَى}، وأمثاله - ما يفهم من مجيء الخلق وإتيانهم واستوائهم؛ إذ لا فرق بين مجيء آخر إليه وبين مجيئه إلى آخر؛ هذا في الشاهد سواء، فكيف فهم في الغائب في أحدهما ما لم يفهم من الآخر، وهما سيان في الشاهد؟! فدل أنه لا يجوز أن يفهم منه شيء من ذلك ما يفهم من الخلق؛ إذ أخبر أنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}.

٢٧

وقوله: (وَوَهَبْنَا لَهُ ... (٢٧) يعني: لإبراهيم، {إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ}: ذكر أنه وهب له إسحاق ويعقوب؛ ليعلم أن الولد هبة اللّه، وكذلك ولد الولد؛ لأن يعقوب كان ولد ولده، حيث قال: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ}، فكلهم هبة اللّه إياه، قال:

{يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ}.

وقوله: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ}: لم تزل النبوة في ذرية إبراهيم من لدنه إلى هذا الوقت، كان جميع أنبياء بني إسرائيل من ولد إسحاق، ونبينا مُحَمَّد - صلوات اللّه عليه - كان من ولد إسماعيل، عليه السلام.

وقوله: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا}: اختلف في الأجر الذي أخبر أنه آتاه إبراهيم في الدنيا:

قَالَ بَعْضُهُمْ: هو ما وهب له من الولد في الكبر.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو ما سخر له الألسن بأجمعها على الثناء الحسن عليه؛ حيث نسب جميع أهل الأديان على اختلاف أديانهم ومذاهبهم أنهم على دينه وسنته وسيرته وتولى كل به.

وجائز أن يكون قوله: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا}: ما أخبر أنه آتى جميع المؤمنين وأعطاهم، وهو ما قال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ}، وما ذكر من ثواب الدنيا، فما من مؤمن إلا وقد آتاه اللّه في الدنيا أجرا وثوابا، فذلك الذي أتى إبراهيم.

أو لا نفسر ما ذلك الأجر الذي ذكر أنه آتاه اللّه؟ واللّه أعلم.

وقوله: {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}: هذا يخرج على وجهين:

 أحدهما: أنه لو لم يكرمه اللّه بالنبوة والرسالة لكان هو أيضًا في الآخرة من الصالحين.

والثاني: ذكر الصلاح له لحقيقة صلاحه، أي: يكون هو ممن حقق الصلاح؛ وكذلك ما ذكر في موسى وهارون حيث قال: {إِنَّهُمَا مَن عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}، أي: من عبادنا الذين حققوا الإيمان، وغيرهم من المؤمنين لم يحققوا.

أو أن يكون ما ذكرنا، أي: لو لم يكن الإكرام الذي أكرمه اللّه - وهو النبوة - لكان من المؤمنين أيضًا، وإلا ليس في ذكر الإيمان والصلاح لهم كبير منقبة وفضيلة عند الناس؛ إذ يسمى بهذين كل مؤمن ومصلح، واللّه أعلم.

وعن ابن عياس في قوله: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} قال: عمله ما جزي في الآخرة.

وقتادة يقول: آتاه اللّه عاقبة وعملا صالحًا وثناء حسنًا،

وقال: فلست تلقى أحدًا

من أهل الملل إلا يرضى بإبراهيم، واللّه أعلم بذلك.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: ما ذكرنا: أنه أعطى الولد الطيب في كبر سنه.

٢٨

وقوله: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ}: كأنه يقول - واللّه أعلم -: اذكر لوطًا إذ قال لقومه.

ثم ذكره إياه يخرج على وجهين:

أحدهما: أن اذكر نبأ لوط وخبره؛ ليكون لك آية على رسالتك ونبوتك؛ إذ يعلمون أنك لم تشاهده ولا شهدت زمنه، فأخبرت على ما في كتبهم ليعرفوا أنك إنما عرفت ذلك باللّه.

والثاني: اذكره: أن كيف صبر على أذى قومه، وكيف عامل قومه مع سوء صنيعهم من ارتكاب الفواحش والمناكير وسوء معاملتهم إياه، فاصبر أنت على أذى قومك وسوء معاملتهم إياك.

هذا - واللّه أعلم - يشبه أن يكون معنى ذكر لوط إياه، وعلى هذا يخرج قوله: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللّه وَاتَّقُوهُ}، أي: أذكر إبراهيم ونبأه: أن كيف عامل قومه؛ وماذا قال لهم؛ وكيف صبر على أذاهم؛ فتعامل أنت قومك مثله، واصبر على أذاهم كما صبر أُولَئِكَ، واللّه أعلم.

وقوله: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ}: قال لهم: {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ}، ثم لم يتهيأ لهم أن يعارضوا لقوله: {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ}، بل قد كان سبقنا بذلك أحد، فكان في ذلك وجهان:

 أحدهما: أن يكون ذلك آية لرسالته، وأنه إنما علم باللّه: أنه لم يسبقهم بها أحد كما

ذكر.

والثاني: أنهم يعبدون الأصنام ويرتكبون فواحش، ويقولونا {بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}، وإن اللّه أمرهم بذلك، ليعلم أنهم كذبة في قولهم: إن آباءهم على ذلك، حيث أخبر أنهم لم يسبقهم بها من أحد، ولو كان آباؤهم على ذلك لذكروه وعارضوه، فإذا لم يفعلوا ولم يشتغلوا بشيء من ذلك، علم أنهم كذبة فيما يقولون، واللّه أعلم.

٢٩

وقوله: (أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ ... (٢٩) هو ما ذكرنا: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ}.

وقوله: {وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ}:

قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: تعترضون الطريق لمن مر بكم لعملكم الخبيث؛ لأنه ذكر أنهم إنما كانوا يعملون ذلك بالغرباء.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ} أي: تقطعون السبيل على الناس؛ من قطع الطريق.

{وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} أي: وثعملون في مجلسكم المنكر.

اختلف في هذا:

قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: تعملون في مجلسكم اللواطة أيضًا.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: حذف بالحصى ورمي بالبندق وأمثاله.

لكنه يخبر عن سوء صنيعهم في كل حال وكل وقت، يقول: إنكم تعملون بالفواحش والمناكير في كل حال: في الطريق، وفي المجلس، وفي المنزل، ما سبقكم بذلك كله من أحد من العالمين، واللّه أعلم.

ثم قال: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللّه}، وقال في موضع آخر: {إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ}، وقال في موضع آخر:

{لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ}، هذه الآيات في الظاهر بعضها مخالف لبعض؛ لأنه يقول في بعضها: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللّه}، وفي بعضها: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ}، وفي بعضها: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ} - فهو يخرج على وجوه:

أحدها: أن يكون قوله: {إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ}، و {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ}، إنما ذلك فيما بينهم يقول بعضهم لبعض: أخرجوهم،

وقوله: {ائْتِنَا بِعَذَابِ اللّه} إنما قالوا ذلك للوط، فإذا كان كذلك فليس في الظاهر فيه خلاف.

والثاني: فما كان جواب قومه في مشهد وفي وقت إلا كذا، وقد كان منهم له أجوبة أخر سواها في غير ذلك المشهد وفي غير ذلك الوقت.

أو أن يكون قوله: فما كان آخر جواب قومه إلا أن قالوا: {ائْتِنَا بِعَذَابِ اللّه إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} بنزول العذاب علينا، إنما قالوا ذلك له استهزاء وتكذيبًا.

٣٠

ثم دعا لوط ربه فقال: (رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠) فأجيب.

٣١

وقوله: (وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (٣١)

يحتمل البشرى: بشارة بالولد في كبر سنه وسن زوجته ما لم يطمع من أمثالهما الولد إذا بلغوا ذلك الوقت، وهو ما ذكر: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ}. ويحتمل غيره.

{قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ}.

٣٢

وقال في آية أخرى: {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ}، ولم يذكروا فيه بم أرسلوا؟ وبين في هذا، ثم قال إبراهيم: (إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ ... (٣٢) ففي الآية الدليل من وجهين:

أحدهما: يخرج الخطاب على العموم والمراد منه الخصوص؛ لأن الملائكة قالوا عامًّا: {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ}، ولم يكن الأمر بإهلاك كل أهل القرية، ثم استثنوا لوطًا وأهله بعدما قال إبراهيم: {إِنَّ فِيهَا لُوطًا} حيث قالوا: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ}.

والثاني: فيه جواز تأخير البيان حيث لم يبينوا إلا بعد سؤال إبراهيم إياهم.

وفيه وجه آخر في امتحان الملائكة بمختلف الأشياء؛ لأن هَؤُلَاءِ أمروا بالبشارة، وأمروا بإهلاك قوم لوط؛ ليعلم أنهم يمتحنون بمختلف الأشياء، واللّه أعلم.

وقوله: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ}: روي عن أم هانئ عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال في قوله: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} قال: " كانوا يحذفون أهل الأرض ويسخرون

منهم "، فإن ثبت هذا كان تفسيرًا له لا يحتاج إلى غيره.

والنادي: قال أَبُو عَوْسَجَةَ: المجلس، وأندية جماعة؛ وكذلك قَالَ الْقُتَبِيُّ.

قال أبو معاذ: الندي والنادي لغتان، فجمع النادي: أندية، وجمع الندي: نُدى وندي؛ كقراءة بعض الناس في سورة مريم: {وَأَحْسَنُ نُديا}، أي: مجالس، وقراءة العامة: {نَدِيًّا} مجلسا، واللّه أعلم.

٣٣

وقوله: (وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ ... (٣٣) ظاهر هذا أنه سيء بالواقع من الفعل بهم، لكن ساء ظنه أنهم يفعلون بهم لما يعلم من قومه الخبيث من العمل.

{وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} هذه كلمة تتكلم بها العرب عند انقطاع جميع الحيل، فلوط إنما قال ذلك لما لم ير لنفسه حيلة يدفع بها شرهم، وما قصدوا بهم؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}.

{وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} هذا يدل على أنهم قد قصدوا هم لوطًا بالهلاك؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى {لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ}، دل هذا أنهم قد قصدوه بالهلاك حتى قالوا: {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} أنهم إنما أرادوا بالإخراج بقولهم؛ {لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ}، إخراج قتل؛ إذ لو كان إخراجًا من القرية لا بقتل، لكان لا يكون له النجاة منهم والأمن، واللّه أعلم.

وقوله: {إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} وفي بعض الآيات: {إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ}، والغبور فعلها، ثم أخبر أنه فدر ذلك؛ دل أن أفعال العباد مخلوقة للّه مقدرة له، واللّه أعلم.

٣٤

وقوله: (إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) أي: عذابًا، والرجز:

اسم كل عذاب فيه شدة؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى: {هَذَا يَومٌ عَصِيب}، أي: شديد.

ثم ذكر أنه ينزل من السماء، فإن ثبت ما ذكر أن جبريل أدخل إحدى جناحيه تحت الأرض فرفع بها قريات لوط إلى السماء حتى سمع أهل السماء صياحهم وضجتهم، ثم أرسلها - فهو نزول العذاب من السماء، وأن قوله: {حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ}، أن السجيل لو كان مكانًا منه ينزل فهو في السماء؛ على ما يقول بعض الناس إنه مكان.

٣٥

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو اسم ذلك الحجر، واللّه أعلم.

وقوله: (وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥) آية بينة لمن عقل وعرف السبب الذي أهلك قريات لوط؛ كقوله: (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (١٣٨). لماذا أهلكوا؟ أي: تعقلون هذه الأنباء والقصص التي ذكرها اللّه - تعالى - في القرآن الكريم، وكررها، وأعادها مرة بعد مرة؛ لأن الأنباء والقصص إنما تذكر للحجاج على الكفرة، فتكرر وتعاد؛ ليحتج بها عليهم، وأمّا الأحكام فإنما هي لأهل الإسلام خاصة، فهم يطلبون ما عليهم من الأحكام؛ فلا تقع الحاجة إلى التكرار والإعادة.

ثم الكفرة كانوا على أصناف ثلاثة، منها: أهل العناد والمكابرة، وأهل شك وحيرة، وأهل استرشاد.

ومن كان همته الاسترشاد يؤمن بها بالبداهة، وفي أول ما وقع في مسامعهم؛ فلا تقع الحاجة إلى التكرار والإعادة.

وأمَّا أهل العناد والمكابرة فإنها تكرر عليهم لعلها تنجع فيهم فيؤمنوا بها، وهذه الآيات كانت آيات وحججًا للتوحيد، والبعث، والرسالة، وعلى ذلك جاءت الرسل بالدعاء إلى التوحيد، وإلى الإقرار بالبعث والإيمان به، وإلى الإيمان بالرسل؛ فشعيب - عليه السلام - جمع هذه الخصال الثلاث في قوله: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّه وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}، دعاهم إلى التوحيد بقوله: {اعْبُدُوا اللّه} وفيه نهي عن عبادة من دونه، ودعاهم إلى الإيمان بالبعث بقوله: {وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ} أي: خافوا عذاب ذلك اليوم، ونهى عن جميع المعاصي بقوله: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}.

{فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} قد ذكرنا هذا.

٣٦

وقوله: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا (٣٦) أي: أرسلنا إلى مدين أخاهم شعيبًا، ومدين: قال بعضهم: اسم رجل نسبوا إليه.

٣٨

وقَالَ بَعْضُهُمْ: اسم موضع، وقد ذكرناه فيما تقدم.

وقوله: (وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ ... (٣٨) أن الرسل - صلوات اللّه عليهم - قد خوفوا الكفرة بعذاب ينزل بهم في الآخرة بتكذيبهم إياهم وعنادهم، فلم يمجع ذلك فيهم، ولم يرتدعوا عما هم فيه، حتى أوعدوهم بعذاب ينزل بهم في الدنيا، فلم ينجع ذلك ولم يمتنعوا عن ذلك، حتى أوعدوهم بنزول ما قد شاهدوا وعاينوا من آثار من قد أهلكهم بتكذيبهم الرسل وردهم إجابتهم، وهو ما قال: {وَعَادًا وَثَمُودَ} أي: أهلكنا عاذا وثمود {وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ} أي: قد تبين لكم من مساكنهم ما تعرفون أنهم إنما أهلكوا بالذي أنتم عليه، وهو التكذيب، والرد بأخبار تصدّقونها، وبآثار تشاهدونها، وهو كما قال: (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ). واللّه أعلم.

وقوله: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} أي: زين لهم الشيطان أعمالهم كما زين لكم، وصدهم عن السبيل كما صدكم.

{وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} اختلف فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: وكانوا يحسبون أنهم على هدى وحق.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} أي: كانوا عالمين بأن العذاب ينزل بهم بما شاهدوا وعاينوا من آثار من تقدمهم، وعلمهم بأنهم إنما أهلكوا بالذي هم عليه، لكنهم عاندوا.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} أي: هالكين في الضلالة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} أي: كانوا بصراء علماء في أنفسهم، يعرفون الحق من الباطل، ليس كغيرهم من الأمم؛ ألا ترى أنهم قد طلبوا من رسلهم الحجة، والآية على ما يدعون إليه حيث قالوا: {يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} وقال قوم صالح: {فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} ونحوه.

وقال قتادة: {مُسْتَبْصِرِينَ} أي: معجبين بضلالتهم.

٣٩

وقوله: (وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (٣٩) أي: أهلكنا قارون وفرعون وهامان بتكذيبهم

موسى، فتهلكون أنتم يا أهل مكة بتكذيبكم محمدًا.

وقوله: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ} أي: كذبوا بعدما جاءهم موسى بالبينات على نبوته ورسالته كما جاءكم مُحَمَّد.

وقوله: {فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ} جائز أن يكونوا استكبروا، وأبوا أن يخضعوا لموسى.

أو {فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ} أي: سعوا في الأرض بالفساد تكبرًا واستكبارًا {وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} أي: فائتين من عذاب اللّه.

٤٠

وقوله: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللّه لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٠) أي: الحجارة، وهم قوم لوط، وقوم هود أهلكوا بالريح العاصف؛ حيث قال: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ. مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ}.

قال أبو معاذ: الحاصب عند العرب: الريح التي فيها الزنانير، وهي صغار من الحصى {وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ} وهم قوم صالح وقوم شعيب وهَؤُلَاءِ {وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ} قارون وأصحابه {وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} قوم نوح وفرعون.

يذكر إهلاك هذه الأمم والجبابرة لأهل مكة ولغيرهم من الكفرة، وقد تواترت عليهم بذلك الأخبار، وظهرت الأعلام والآثار ليرتدعوا عما هم عليه، ولئلا يعاملوا رسولهم كما عامل أُولَئِكَ رسلهم فيعذبون كما عذب أُولَئِكَ.

وقوله: {وَمَا كَانَ اللّه لِيَظْلِمَهُمْ} في تعذيبه إياهم {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} حيث كذبوا الرسل، وكابروا آيات اللّه وحججه وبراهينه وعاندوها، واللّه أعلم.

قال أَبُو عَوْسَجَةَ: قوله: {سِيءَ} أي: اغتم من ذلك؛ يقال: سئت بفلان أساء سوءًا؛ فأنا مسوء.

وقوله: {جَاثِمِينَ} أي: لزقوا بالأرض.

{وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} أي: قد علموا، والمستبصر: العالم.

وقوله: {أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ} أي: صيح بهم فماتوا.

٤١

والعنكبوت: هذه التي تغزل، وهي دويبة كثيرة القوائم، وعناكب: جمع.

وقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّه أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} يشبه أن يكون ضرب مثل الذين اتخذوا من دون اللّه أولياء ببيت العنكبوت هم الرؤساء منهم والمتبوعون. يقول - واللّه أعلم -: مثل اتخاذكم أُولَئِكَ أولياء من دون اللّه وما تأملون منهم كمثل بيت العنكبوت، لا ينفع ولا يغني ما يؤمل من البيت من دفع الحرّ والبرد وغيره، فعلى ذلك اتخاذكم واتباعكم هَؤُلَاءِ أولياء من دون اللّه مثل ما ذكر، لا ينفع ولا يغني ولا يدفع عنكم ما ينزل بكم، وهو ما قال: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللّه أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ. .} الآية.

ظاهر ما ذكر من الأولياء أن يكون المتبوعون منهم.

وجائِز أن تكون الأصنام التي اتخذوها آلهة، ضرب مثل عبادتهم الأصنام واتخاذهم إياها آلهة ببيت العنكبوت، وذلك أن العنكبوت اتخذت البيت رجاء أن تنتفع به كما ينتفع بالبيوت في دفع الحر والبرد، والستر والحجاب، فلما أن وقعت الحاجة إليه لم تنتفع ما كان تأمل منه في شيء مما كانت تأمل، فعلى ذلك هَؤُلَاءِ الذين اتخذوا الأصنام آلهة ومعبودًا؛ رجاء أن ينفعهم ذلك يومًا، فلما أن وقعت لهم الحاجة لم يجدوا ما كانوا يأملون من عبادتهم إياها واتخاذهم آلهة؛ بل في بيت العنكبوت للعنكبوت شيء من المنفعة، وليس لأولياء العبدة لتلك الأصنام شيء مما كانوا يأملون، فهي دون بيت العنكبوت في المنفعة، لكنه - واللّه أعلم - ضرب مثلها ببيت العنكبوت؛ لما لا شيء أوهن وأضعف عند الخلق من بيتها، وهو ما شبه أعمال الكفرة برماد اشتدت به الريح، وبسراب بقيعة؛ لما ليس شيء أضيع ولا أبعد في الوجود والقدرة عليه في الوهم مما ذكر؛ فيشبه أعمالهم به، فعلى ذلك تشبيه اتخاذ أُولَئِكَ الأصنام آلهة وأولياء من دون اللّه ببيت العنكبوت، واللّه أعلم.

وقوله: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} أي: أضعف وأبعد من المنفعة بيت العنكبوت، فعلى ذلك عبادتهم الأصنام واتخاذهم إياها معبودًا أوهن وأبعد مما يأملون {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أي: إن كانوا يعلمون ضعفها وعجزها، واللّه أعلم.

٤٢

وقوله: (إِنَّ اللّه يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢) هو - واللّه أعلم -: أن اللّه لم يزل عالمًا بما يكون منهم من اتخاذهم الأصنام معبودًا، وأنه عن علم أنشأ لهم ذلك لا عن

غفلة وسهو، لكن أنشأهم لمنافع أنفسهم ولحاجة لهم لا لحاجة ومنفعة له في إنشائه إياها، وهو ما قال: {إِنَّ اللّه لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}، وقال هاهنا: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} العزيز: قيل: إنه المنيع.

وقيل: إنه الذي يذل كل شيء دونه.

لكن العزيز عندنا: هو الذي لا يعلو سلطانه شيء، ولا يقهر ملكه شيء، ويعلو سلطانه وإرادته على جميع الأشياء ويقهرها.

والحكيم: قيل: الذي له الحكم.

وقيل: هو المصيب.

وقيل: هو الذي يضع كل شيء موضعه.

والحكيم عندنا: هو الذي لا يلحقه الخطأ في التدبير، واللّه أعلم.

٤٣

وقوله: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (٤٣) فَإِنْ قِيلَ: ذكر أنه لا يعقلها إلا العالمون، والعقل يسبق العلم بالشيء؛ إذ بالعقل يعلم ما يعلم، فكيف ذكر أنه لا يعقل إلا العالمون، ولم يقل: وما يعلمها إلا العاقلون؛ فهو - واللّه أعلم - لوجوه:

أحدها: أن الأمثال إنما تضرب لتقريب ما يبعد عن الأوهام، ولكشف ما استتر من الأشياء على الأفهام وتجليها عما خفيت فلا يعقل الأمثال أنها لماذا ضربت؟ - إلا العالم.

والثاني: أن العقول تعرف أسباب الأشياء ودلائلها، فإما أن تعرف حقائق الأشياء وأنفسها فلا، من نحو المسالك والطرق إلى البلد التي تعرف مسالكها وطرقها التي بها يوصل إليها، فأما أعينها فلا، وكذا المراقي التي بها يعلو ويرتفع، فأمّا عين العلو فلا، وأما العلم فإنه يوصل إلى معرفة حقائق الأشياء وأنفسها وصورها؛ لذلك كان ما ذكر.

والثالث: أن يكون قوله: {وَمَا يَعْقِلُهَا} أي: وما ينتفع بما ذكر إلا العالمون، وهو كما قال: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ}، نفى عنهم هذه الحواس وإن كانت لهم أنفس تلك الحواس لما لم يستعملوها فيما جعلمط وأنشئت، ولم ينتفعوا بها، فنفى عنهم تلك؛ فعلى ذلك جائز أن يكون قوله: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} أي: ما ينتفع بما يعقل إلا العالم، فأما من لم ينتفع فلا يعقل، واللّه أعلم.

٤٤

وقوله: (خَلَقَ اللّه السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤) يحتمل قوله: {بِالْحَقِّ} أي: لعاقبة، وهو البعث؛ لأنه لم يخلقهما لأنفسهما، وكذلك لم يخلق الدنيا للدنيا، ولكن إنما خلقها للآخرة؛ إذ بالآخرة يصير خلقها حكمة وحقا؛ لأنه لو لم يكن خلقها لعاقبة كان خلقها

عبثًا باطلا، وهو ما قال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} لا كافر يظن أنه خلقهما باطلا، ولكن تركوا الإيمان بالبعث وأنكروا البعث؛ كأنهم ظنوا أنه خلقهما باطلا؛ إذ لولا البعث كان خلقهما باطلا عبثًا فإنما صار خلقهما حقا وحكمة بالبعث، فإذا أنكروا ما به صار خلقه إياهما حكمة وحقًا - فقد ظنوا الباطل بخلقهما، فنسأل اللّه التوفيق والصواب.

ويحتمل قوله: إنه خلقهما؛ لتدلا على الحق؛ لأنهما تدلان على وحدانية اللّه وربوبيته وتعاليه عن الأشباه والشركاء وجميع الآفات.

أو أن يكون بالحق الذي للّه عليهم.

أو بالحق الذي لبعضهم على بعض، واللّه أعلم.

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} صير آية لمن أقر بها وآمن؛ إذ هو المنتفع بها، فأمَّا من أنكر وجحد وكذبها فهو آية عليه لا له، واللّه أعلم.

٤٥

وقوله: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللّه أَكْبَرُ وَاللّه يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (٤٥) جائز أن يكون قوله: اتل ما أوحي إليك من الكتاب، وأقم به الصلاة أي: بالكتاب الذي أوحي إليك.

ويحتمل: اتل ما أوحي إليك من الكتاب عليهم، وأقم بهم الصلاة؛ فالخطاب وإن كان لرسول اللّه فهو لكل أحد؛ على ما ذكرنا في سائر المخاطبات، واللّه أعلم.

وقوله: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}، هذا يخرج على وجهين:

أحدهما: على الامتنان.

والثاني: على الإلزام.

فأما وجه الامتنان: فهو أن جعل لكم الصلاة لتمنعكم عن الفحشاء والمنكر ما لو لم يجعلها لكم لا شيء يمنعكم عن الفحشاء والمنكر؛ فيمنُّ عليهم بجعل الصلاة لهم؛ لما تمنعهم عما ذكر.

وأما وجه الإلزام: فإنه يخرج على وجهين:

أحدهما: أن الصلاة لو كان موهومًا منها النطق والنهي، لكانت تنهى عن الفحشاء والمنكر؛ على ما أضاف التغرير والتزيين إلى الحياة الدنيا؛ أي: لو كان هذا الذي كان من الدنيا، كان ممن له التغرير - كان ذلك تغريرًا؛ فعلى ذلك الصلاة لو كان منها حقيقة الأمر والنهي لكانت تنهى عن الفحشاء والمنكر.

والثاني: أضيف النهي إلى الصلاة؛ لما بها يعرف ذلك، فقد تضاف الأشياء إلى الأسباب وإن لم يكن منها حقيقة ما أضيف إليها؛ نحو ما يضاف الأمر والنهي إلى الكتاب

والسنة ونحوه؛ يقال: أمرنا الكتاب بكذا، والسنة بكذا، ونهانا عن كذا، وإن لم يكن منهما أمر حقيقة ولا نهي؛ لما بهما يعرف الأمر والنهي، وهما سببا ذلك؛ فعلى ذلك جائز إضافة النهي إلى الصلاة أن يكون على هذا السبيل.

وقوله: {وَلَذِكْرُ اللّه أَكْبَرُ} اختلف فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: ذكر اللّه أَكْبَرُ في العبادات من أنفس تلك العبادات.

ووجه هذا - واللّه أعلم -:

أن العبادات إنما تكون بجوارح تغلب وتقهر وتستعمل؛ فلا تعرف تلك أنها للّه إلا بتأويل.

وأمَّا ذكر اللّه إنما يكون باللسان والقلب، وهما لا يغلبان، ولا يستعملان ولا يقهران، فهو يعرف أن ذلك للّه حقيقة، فهو أكبر.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَلَذِكْرُ اللّه أَكْبَرُ} من سائر الأذكار التي ليست للّه؛ فهذا ليس فيه كبير حكمة؛ لأن ذلك يعرفه كل أحد.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذكر اللّه أَكْبَرُ في النهي عن الفحشاء والمنكر من الصلاة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذكر اللّه إياكم أكبر من ذكركم إياه؛ لأن ذكره إياكم رحمة ومغفرة، وذلك مما لا يعدله ولا يوازيه شيء، وأما العبد فإنه يذكر ربه بأدنى شيء.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَلَذِكْرُ اللّه أَكْبَرُ}: أي: ما وفق اللّه العبد من ذكره إياه وطاعته له أكبر من نفس ذلك الذكر ونفس تلك العبادة.

وذكر في حرف ابن مسعود وأبي وحفصة: (إن الصلاة تأمر بالمعروف وتنهى عن الفحشاء والمنكر).

وعن الحسن يحدث عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد بها من اللّه إلا بُعْدًا، ولم يزدد بها عند اللّه إلا مقتًا ".

وعن سلمان الفارسي قال: ذكر اللّه إياكم أكبر من ذكركم إياه.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: لهذا وجهان:

أحدهما: يقول: ذكر اللّه أَكْبَرُ مما سواه من أعمال البر.

والآخر: يقول: ذكر اللّه إياكم أكبر من ذكركم إياه.

والضحاك يقول: العبد يذكر اللّه عند ما أحل له وحرم عليه، فيأخذ بما أحل ويجتنب ما حرم عليه.

وقتادة يقول: لا شيء أكبر من ذكر اللّه.

وأصله ما ذكرنا من الوجوه التي تقدم ذكرها.

وقوله: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}

قَالَ بَعْضُهُمْ: تنهى وتمنع ما دام فيها لا يعمل بالفحشاء والمنكر.

والثاني: أن الصلاة تأمر بالمعروف وتنهى عن الفحشاء والمنكر؛ أي: لو كانت لها النطق والأمر والنهي لكانت تنهى عما ذكر.

والوجه فيه ما ذكرنا بدءًا، واللّه أعلم.

وقوله: {وَاللّه يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} وعيد؛ ليكونوا أبدًا على حذر ويقظة.

٤٦

وقوله: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} الآية تخرج على وجوه ثلاثة:

أحدها: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} إلا الذين ظلموا منهم فلا تجادلوهم بالتي هي أحسن ولا غيره، وهم الذين لا يقبلون الحجة، ولا يؤمنون إذا لزمتهم الحجة، وهم أهل عناد ومكابرة، والأولون يقبلون الحجة، ويؤمنون بها.

والثاني: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}؛ فقوله: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} ليس على الثنيا من الأوّل، ولكن على الابتداء؛ كأنه قال: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} قولوا: {آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا. . .} إلى آخر ما ذكر؛ أي: قولوا لهم هذا، ولا

تجادلوهم؛ فإنكم وإن جادلتم إياهم فلا يؤمنون، وهو كقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي}، قوله: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ} ليس على الثنيا من الأول، ولكن ابتداء نهي؛ أي: لا تخشوهم واخشوني، فعلى ذلك يحتمل الأول مثله.

والثالث: جائز أن يكون قوله: {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ. . .} إلى آخر ما ذكر: هي المجادلة الحسنة التي أمروا بها؛ لأن تلك مما يقبلها العقل والطبع، وبها جاءت الكتب والرسل؛ فلا سبيل إلى ردّ ذلك.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي: جادلوا الذين يصدقون منهم ولا يكتمون نعت مُحَمَّد وما في كتبهم من الحق، فأمَّا الذين تعلمون أنهم يكتمون ولا يصدقون فلا تجادلوهم، وهو كقوله: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} والأوّل كقوله: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ. . .} الآية.

والمجادلة الحسنة هي التي جاء بها الكتاب ويوجبها العقل.

ثم فيه دلالة جواز المناظرة والمجادلة مع الكفرة في الدِّين، وكذلك - قوله تعالى -: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، ليس كما يقول بعض الناس: إنه لا يجوز معهم المناظرة، وذلك لجهلهم بحجج الإسلام وبراهينه؛ على ما ينهون عن المجادلة والمناظرة معهم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: من لا عهد معهم فجادلهم بالسيوف، ومن كان معه عهد وكتاب فجادلهم بالحجج.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو منسوخ بقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللّه. . .} الآية.

ومنهم من يقول: من أدَّى إليكم الجزية فلا تغلظوا له القول وقولا لهم قولا حسنًا، ومن لم يؤدّ فأغلظوا لهم وجادلوهم بالسيوف، واللّه أعلم.

٤٧

وقوله: (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (٤٧) أي: كما أخبرناك في الكتاب، فقل لهم، أو جادلهم.

وقوله: {فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} يخرج على وجهين:

أحدهما: الذين آتيناهم الكتاب فيتلونه حق تلاوته، فهم يؤمنون به؛ على ما ذكرنا في آية أخرى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ}، فتكون

هذه الآية تعريفًا للأولى، وأمّا من لم يتله حق تلاوته فلا يؤمنون به.

والثاني: فالذين آتيناهم الكتاب وانتفعوا به؛ أي: يؤمنون بالذي أوتوا من الكتاب.

{وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} يحتمل قوله: {وَمِنْ هَؤُلَاءِ} أي: من أهل مكة من يؤمن به، وقد آمن كثير منهم.

وجائز أن يكون ذلك إلى قوم كانوا بحضرته، فقال: {وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ}، واللّه أعلم.

{وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ} قال قتادة: لا يكون الجحد إلا بعد معرفة أن اليهود والنصارى عرقوه كما عرفوا أبناءهم، لكنهم جحدوه، وكل من أنكر شيئًا فقد جحده؛ عرفه أو لم يعرفه.

٤٨

وقوله: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) تأويله - واللّه أعلم -: أي: ما كنت تتلو من قبله - أي: من قبل هذا الكتاب - من كتاب، ولو كنت تتلو لارتاب المبطلون فيقولون: إن ما أنبأتهم من الأنباء المتقدمة أو كلام الحكمة إنما تلقفت وأخذت من تلك الكتب المتقدمة أو كتب الحكماء، ولو كنت تخطه بيمينك يقولون: إن ذلك من تأليفك ووصفك؛ لأن القرآن حجة عليهم من وجهين:

أحدهما: ما ذكر فيه من الأنباء المتقدمة المترجمة بغير لسان المتقدم ما علموا بأجمعهم أن رسول اللّه - صلوات اللّه عليه - كان لا يعرفها بمترجم ولا شهدها هو، ثم أنبأهم على ما كان، فعلموا أنه باللّه عرفها.

والثاني: هو آية معجزة نظمًا ووصفًا ما يعملون أنه ليس من نظم البشر ولا وصفه، فيقول: ما كنت تتلو من قبله كتابًا فيه تلك الأنباء والحكمة ولا تخطه بيمينك؛ فيقولون: هو من تأليفك أو من نظمك، فلو كنت كذلك إذن لارتاب المبطلون بما ذكرنا على عناد منهم ومكابرة، ولا يرتاب المحقون، وإن كان كما ذكر؛ لما عرفوا صدقه بأشياء وبآيات كانت فيه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ} ويقول: قبل القرآن {وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} أي: لا تكتبه بيدك، ولو كنت تقرأ كتابًا من قبله أو كنت تكتب بيدك إذن لارتاب المبطلون؛ يقول: لاتهموك؛ هذا قد ذكرناه، ولكن نقول في قوله: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} بل هو اليقين أنك لا تقرؤه، أو لا تكتبه عند الذين أوتوا العلم، وهم مؤمنو أهل الكتاب من نحو عبد اللّه بن سلام وأصحابه.

٤٩

وقوله: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (٤٩) يحتمل القرآن؛ إذ فيه آيات

وحدانية اللّه وحججه، وآيات البعث وحججه وآياته.

ويحتمل قوله: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان من أول ما نشأ إلى آخر أمره آية؛ لما ذكر من النور في وجه أبيه ما دام في صلبه، ثم في وجه أمه؛ إذا وقع في رحمها، ثم من ضياء الليلة التي ولد فيها، ثم من ظل السحاب الذي أظله وقت ما خرج من وطنه، وأمثال ذلك كثير ما لا يقدر إحصاؤه، واللّه أعلم.

فذلك كله يدل على رسالته ونبوته، لا يرتاب فيه إلا المبطل المعاند المكابر.

وقوله: {فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} جائز أن يكون قوله: {فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} أي: أوتوا منافع العلم، أي: هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا منافع العلم، فأما من لم يؤت منافع العلم فلا.

وقوله: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} يحتمل: الظلم: ظلم الآيات، لم يضعوها في موضعها.

ويحتمل: الظالمون: الكافرون.

٥٠

وقوله: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ} وفي بعض القراءات: (ءاية من ربه) على الوحدان؛ فكأنهم سألوه مرة آية؛ كقوله: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَ}، وإنما ينزل إذا شاء بعد السؤال، ومرة سألوه آيات؛ كقولهم: (لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (٧) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا)، وكقولهم: {أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا. . .} الآية، ونحوها من الآيات التي سألوها، فمرة سألوه آيات، ومرة سألوه آية، فقول من قال: أختار قراءة {آيَاتٌ} على قراءة (ءاية) محال إذا ثبت أنه قراءة، فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - على ما كان منهم، واللّه أعلم.

وقوله: {قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللّه} أي: من عنده تجيء الآيات؛ فكأنهم سألوه آيات

قاهرة تقهرهم وتضطرهم على القبول والإقبال إليه الآيات يكون في ذلك وجه الاختيار، لكن سؤال عناد ومكابرة، لا سؤال استرشاد واستهداء فقال: إن اللّه قد عفا عن هذه الأمة عن إنزال ما به هلاكهم على أثر سؤال العناد والمكابرة، وإن كان في غيرها من الأمم السالفة ينزل عليهم الهلاك والعذاب على إثر سؤال العناد، واللّه أعلم.

وقوله: {وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} هذا يحتمل وجهين:

أحدهما: وإنما أنا نذير من اللّه مبين: أن اللّه أمرني بذلك وأرسلني إليكم.

والثاني: {وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي: ليس عليَّ إلا الإنذار لكم أبين النذارة، فأما غير ذلك فليس عليَّ؛ كقوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ. . .} الآية، ونحوه.

٥١

وقوله: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١) هذا يدل أنهم إنما سألوا سؤال عناد واستهزاء، لا سؤال استرشاد؛ حيث قال: إن فيما أنزل عليهم من الكتاب كفاية لمن كانت همته الاسترشاد والإنصاف، فأما من كانت همته العناد والمكابرة فلا.

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً} أي: فيما أنزل من الكتاب عليك لرحمة، أي: رشد {وَذِكْرَى}: عظة {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.

٥٢

وقوله: (قُلْ كَفَى بِاللّه بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللّه أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٥٢) هذا يقال لوجهين:

أحدهما: عند الإياس من قبول الحجج والآيات يقول: [{كَفَى بِاللّه بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا}] أي: حاكما {بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أينا على الحق؟ وأينا على الضلال نحن أو أنتم؟!.

والثاني: [{كَفَى بِاللّه بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا}]: عالمًا في تبليغ ما أمرت بتبليغه إليكم وإتيان ما آتيتكم به من الآيات والحجج {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللّه أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}.

٥٣

وقوله: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٥٣)

كان استعجالهم وسؤالهم الآيات على علم منهم أنه لا ينزل ولا يأتيهم - يخرج مخرج الاستهزاء بالرسل والتمويه والتلبيس على الأتباع والضعفاء؛ لأنهم يعلمون أن اللّه لا يعذب ولا يهلك هذه الأمة إهلاك استئصال وانتقام كما أهلك الأمم المتقدمة بالعناد والاستهزاء بالرسل؛ إذ قد أمهلهم إلى وقت، فإن علموا ذلك من الإمهال والتأخير سألوا الرسول العذاب الذي أوعدهم والآيات القاهرة، ووعدوا الإيمان لو جاءهم، وأقسموا على ذلك بقوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللّه جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ. . .} الآية؛ تمويهًا وتلبيسًا على أتباعهم وضعفائهم يرونهم أنهم على حق في

الإيمان فيما يدعوهم الرسول، وأنه لو أتى بآية وحجة يؤمنون به ويتبعونه، وهم فيما يسألون من الآيات والعذاب عالمون أنهم معاندون كذبة متمردون ملبسون مموهون على الأتباع والسفلة؛ لما ذكرنا، واللّه أعلم.

وقوله: {وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً. . .} الآية.

فإن قال لنا ملحد: إنه حيث أخر عنهم العذاب وأمهلهم علم منهم أنهم يستعجلون، أو لم يعلم ذلك، فإن قلت: على غير علم منهم فقد أثبت الجهل له، وإن قلت: على علم منهم ذلك فكيف أمهل ذلك وقد علم ما يكون منهم؟

قيل: إمهاله العذاب عنهم وضرب الأجل رحمة منه لهم وفضل؛ كأنه قال: ولولا رحمته التي جعل لهم على نفسه لجاءهم العذاب كما جاء الأمم الخالية عند سؤالهم الرسل العذاب والآيات بالعناد والاستهزاء، وهو كقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} حيث لم يستأصلهم كما استأصل أُولَئِكَ.

٥٤

وقوله: (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (٥٤) يحتمل قوله: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ} أي: عذاب جهنم محيط يومئدٍ بالكافرين، أو النار محيطة بالكافرين.

وجائز أن يكون: أي: يستعجلونك بالعذاب، وإن أعمال أهل جهنم وأسبابها التي توجب لهم جهنم محيطة بهم؛ كقوله: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ}، أي: ما أصبرهم على الأعمال والأسباب التي توجب لهم النار، وإلا لا أحد يصبر على النار؛ فعلى ذلك جائز أن يكون قوله: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} أي: أسباب جهنم وأعمالهم التي توجب لهم جهنم والنار محيطة بهم، واللّه أعلم.

٥٥

وقوله: (يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥)

كقوله: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} - ظاهر.

٥٦

وقوله: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} في الآية بشارة ونذارة:

أما البشارة فقوله: {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} وعد لهم السعة في المكان المنتقل إليه والمتحول كما كان لهم في مقامهم.

والنذارة والتحذير: هو قوله: {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} فلا تقيموا في أرضكم.

ثم الأمر بالخروج والهجرة عن أرضهم إلى أخرى يخرج على وجهين:

أحدهما: لما لا يقدرون على إظهار دين اللّه؛ خوفًا على أنفسهم من أُولَئِكَ الكفرة، فأمروا بالخروج والهجرة عنها إلى أرض يقدرون على إظهاره والقيام به.

والثاني: أن كانوا يقدرون على إظهار دينهم، لكنهم لا يقدرون القيام على تغيير المناكير عليهم والأمر بالمعروف، فأمروا بالخروج منها إلى أرض ليس بها مناكير، أو إن كانت بها فيقدرون على تغييرها والأمر بالمعروف فيها، فبمثل هذا جائز أن يؤمر الناس بالتحول من أرض إلى أخرى إذا لم يقدروا على تغيير المنكر ودفعه وليس كالرسل؛ لأن سائر الناس إذا كثر سماعهم المنكر يَخِفّ ذلك على قلوبهم وتميل إليه القلوب وتسكن وتطمئن، فيؤمرون بالخروج عنها والتحول إلى أخرى؛ لئلا تميل ولا تسكن إليه قلوبهم.

وأما الرسل وإن كثر سماعهم المنكر فإن قلوبهم لا تميل ولا تلين ولا تسكن إليه أبدًا؛ بل يزداد لهم شدة وصلابة في ذلك وبعدًا عن قلوبهم؛ لذلك اختلف أمر الرسل وغيرهم.

أو أن يكون لا يؤمرون بالخروج ولا يؤذن لهم؛ لما هم إنما بعثوا إلى أهل الكفر والمنكر ليدعوهم إلى دين اللّه؛ فلا يحتمل أن يؤذن لهم بالخروج والهجرة إلى أخرى وهم إليهم بعثوا؛ ليدعوهم إلى دين اللّه، فقوله: {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} هو ما ذكرنا: أمروا بالهجرة ليسلم لهم دينهم، ولا يمنعهم عن ذلك خوف ضيق العيش في غيره؛ لما يعتزلون عن أموالهم، وحرفهم، وأهل قرابتهم ومعونتهم؛ لما وعد - عَزَّ وَجَلَّ - التوسيع عليهم لو خرجوا وهربوا؛ إشفاقًا على دينهم، وكذلك روي عن الحسن عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " مَن فَرَّ بدينه من أرض إلى أرض أخرى وإن كانت شبرًا، وجبت له الجنة، ويبعث مع أبيه إبراهيم ونبيه مُحَمَّد " أو نحوه من الكلام.

وعلى مثل ذلك جاءت الآثار عن السلف في تأويل الآية: إذا دعيتم إلى المعاعمي فاهربوا في الأرض، فإن أرض اللّه واسعة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: إذا عمل بالمعاصي في أرض فاهربوا إلى أخرى؛ فإن أرضي واسعة، وهو ما ذكروا: أمروا بالهجرة؛ ليسلم لهم دينهم، ووعد لهم السعة والحسنة في الدنيا، وفي الآخرة أعظم منها، وهي ما قال: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللّه مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}، وقال في هذه الآية: {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} أي: إن أرضي واسعة، فإن منعتم عن عبادتي في

أرض فاخرجوا منها إلى أخرى فاعبدوني ولا تعبدوا غيري؛ فإن أرضي واسعة؛ فلا عذر لكم بالمقام في أرض تمنعون فيها عن عبادتي وإظهار ديني، إلا المستضعفين الذين استثناهم في آية أخرى؛ حيث قال: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا}، عذرهم بما فيهم من الضعف لترك الخروج والمقام بين أظهرهم، وكتمان الإيمان والعبادة له سرًّا، وإن لم يقدروا على إظهاره، فأما من كانت له حيلة الخروج فلم يعذره.

٥٧

وقوله: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (٥٧) ذكر هذا - واللّه أعلم - على إثر ما ذكر؛ لئلا يمنعهم عن الخروج والهجرة خوف ضيق العيش؛ يقول - واللّه أعلم -: كل نفس تذوق الموت إذا استوفت رزقها لا محالة، ولا تذوق قبل استيفائها رزقها؛ فلا يمنعكم خوف ضيق العيش فإنها تذوق ذلك لا محالة، خرجت أو لم تخرج إذا استوفت رزقها، وهو ما قال: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ}، أي: لو كان المكتوب عليه القتل يبرز لا محالة حتى يقتل؛ فعلى ذلك المكتوب عليه الموت يذوقه لا محالة، أخرج، أو أقام، واللّه أعلم {ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}.

٥٨

وقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ ... (٥٨) أي: لنهيئنهم {مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا} يقال: بوا: أنزل وهيأ، و " لَنُثْوِيَنَّهُمْ " من الثواء، وهو الإقامة.

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: هو من ثويت بالمقام: إذا أقمت به، وبالباء {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ}: أي: لننزلنهم.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: أي: لننزلنهم منها منزلا يقيمون فيه، والثواء: الإقامة.

وقال أبو معاذ: بوأها: هيأها، والمثوى: المنزل، والثاوي: المفيف خَالِدِينَ يهَأ نِعْمَ أَتجرُ آلعملِدٍ) أي: ثوابهم وجزاؤهم.

٥٩

وقوله: (الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩) يحتمل قوله: {الَّذِينَ صَبَرُوا} أي: خرجوا، وهاجروا، وصبروا على الهجرة، وعلى ربهم توكلوا في الخروج والرزق، والذين صبروا على الطاعات وأداء الفرائض.

أو أن يكون الصبر كناية وعبارة عن الإيمان؛ أي: الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون وبه يثقون ويفوضون؛ كقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أي: لكل مؤمن.

ومُحَمَّد بن إسحاق يقول: أنزلت الآية بمكة في ضعفاء مسلمي مكة؛ يقول: إن كنتم

في ضيق بمكة من إظهار الإيمان بها فإن أرض المدينة واسعة فإياي فاعبدون بها علانية، ثم خوف بالموت؛ ليهاجروا، فقال: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} في الآخرة، ثم نعتهم فقال: الذين صبروا على الهجرة وباللّه يثقون في هجرتهم، وذلك أن أحدهم كان يقول بمكة: كيف أهاجر إلى المدينة وليس لي بها مال ولا معيشة، فوعظهم بما ذكر.

٦٠

وقوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللّه يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠) من الناس من يجعل الآية صلة قوله: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} أنهم أمروا بالهجرة من بلدتهم والخروج من مقامهم؛ ليسلم لهم دينهم؛ فاشتد ذلك عليهم، وضاق بذلك ذرعهم؛ لضيق العيش هناك لما لم يتهيأ لهم ولا يتأدى لهم حمل أموالهم، والمكاسب التي بها يتعيشون في بلدهم ويتسعون بها، فأخبر أن له خلائق يرزقهم حيثما توجهوا وحيثما كانوا لا يحملون معهم شيئا من الرزق؛ بل يرزقهم حيثما كانوا ابتداء؛ فعلى ذلك هو يرزقكم حيثما كنتم حملتم مع أنفسكم شيئًا من الأموال والمكاسب أو لم تحملوا، فلا يضيقن صدركم بترككم الأموال والمكاسب في بلدكم.

وجائز أن يكون لا على الصلة بما تقدم، ولكن على ابتداء تذكير وتنبيه للبشر وبغير سبب؛ إذ قد يرزق ويبسط من ليس له من الأسباب شيء نحو ما ذكر من رزقه الطير والدوأب، وغير ذلك من البشر الذين يرزقون بلا أسباب ومكاسب؛ ولذلك ذكر - واللّه أعلم - على إثر ذلك {اللّه يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} يبسط لمن يشاء وإن لم يكن له سبب ويقدر على من يشاء، وإن كان معه سبب؛ لئلا يعلقوا قلوبهم في الرزق في الأسباب والمكاسب.

وعلى قول المعتزلة: إن اللّه لا يقدر أن يبسط الرزق لمن يشاء؛ لأنهم لا يجعلون للّه في الأسباب والمكاسب صنعًا، وإنما يجعلون منه خلق أصول الأشياء من الإنبات والإخراج من الأرض، وأما غير ذلك فهو كله للخلق على قولهم، فذلك النبات والخارج منها للكل ليس بعضهم بذلك أولى من بعض، فتذهب فائدة ما ذكر من البسط والتوسيع والتقتير على قولهم.

وقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} على إثر ما ذكر يخرج على وجوه:

أحدها: المجيب لكل ما يدعون ويسألون، العليم بحوائجهم؛ حيث كانوا وأين كانوا.

أو السميع لقولهم: إنا لا نجد ما ننفق ونتعيش، العليم بما أضمروا ونحوه.

٦١

وقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللّه فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١)

إنهم أعطوا جميعًا بألسنتهم: أن الذي خلق السماوات والأرض، وما سخر لهم من الشمس والقمر، وما نزل من السماء من الماء، وما أحيا به الأرض - هو اللّه لا غيره، فيخرج قوله: {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} على أثر ما أعطوا بألسنتهم ونطقوا به على وجهين:

أحدهما: أنى يصرفون عما أعطوا بألسنتهم ونطقوا به إلى صرف الشكر والعبادة إلى الأصنام التي يعلمون أنها لبم تخلق شيئًا مما أعطوا بألسنتهم.

والثاني: {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} أي: في تسميتهم الأصنام: آلهة على علم منهم أنها ليست بآلهة، واللّه أعلم.

٦٣

وقوله: (قُلِ الْحَمْدُ للّه ... (٦٣) على أثر ما ذكر يخرج على وجوه:

أحدها: أمره أن يحمد ربه فيما لم يبل بما بلي به أُولَئِكَ من التكذيب والعناد والكفر بربهم.

والثاني: أمره أن يحمد ربّه؛ لما في ذلك إظهار سفههم؛ حيث أعطوا باللسان أن ذلك كله من اللّه، واللّه خالق ذلك كله، ثم صرفوا ذلك إلى غيره.

والثالث: يقول بعضهم: {قُلِ الْحَمْدُ للّه} على إقرارهم بذلك أنه خلق للّه، وأن ذلك كله منه، واللّه أعلم.

وقوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} يحتمل قوله: {لَا يَعْقِلُونَ} أي: لا ينتفعون بعقولهم؛ نفى عنهم العقول؛ لما لم ينتفعوا بها، كما نفى عنهم السمع والبصر واللسان لما لم ينتفعوا بقلك الحواس؛ فعلى ذلك هذا.

والثاني: لم يعقلوا لما تركوا النظر والتفكر في الأسباب التي بها تعقل الأشياء، واللّه أعلم.

٦٤

وقوله: (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤)

وقوله: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} لو كان الأمر على ظاهر ما نطق به الكتاب دون معان تودع فيه وحكمة تجعل فيه على ما يحمله بعض الناس - لكان لأهل الإلحاد في ذلك مطعن؛ لأنه يقول: ما الحياة إلا لهو ولعب وهو خلقها، فيقولون: لِمَ خلقها لهوًا ولعبًا وهو خلقها؛ ولهم دعوى التناقصْ فيه؛ حيث قال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا} ووقال في آية أخرى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ}، فلو جمع بين هذا وبين الأول فهو في الظاهر متناقض؛ إن يذكر في بعضها: أنه لم يخلقهما وما بينهما باطلا لعبًا، ويذكر في بعضها: أن الحياة الدنيا لهو ولعب، وهو خلقهما.

لكن تأويل قوله: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} على ما تقدرون أنتم وعلى ما عندكم {إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ}، فأما عند أهل التوحيد وما في تقديرهم فهي حكمة وحق.

ثم ما ذكر من اللّهو واللعب عندهم يخرج على وجهين:

أحدهما: أنهم رأوا أنه خلق الإنسان وجعل بدأه من نطفة، ثم حولها إلى علقة، ثم إلى مضغة، ثم إلى الإنسان الذي صور. . . إلى آخر ما حوله؛ فلا يحتمل أن يخلقه ويحوله من حال إلى الأحوال التي ذكر، ثم يفنيه بلا عاقبة تجعل لهم، ولا منفعة؛ فيكون كما ذكر: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا}، صيَّر نقضها الغزل من بعد إحكامها إياه بلا انتفاع به لهوًا ولعبًا؛ فعلى ذلك خَلْقُ الحياة الدنيا، وخلق ما فيها من العالم بعد إحكامه وتحويله حالا بعد حال، وتحويلا بعد تحويل، وإحكامًا بعد إحكام للفناء خاصة على ما يقدر أُولَئِكَ الكفرة بلا عاقبة تجعل لهم أو منفعة - لَهْو ولعب وسفه وباطل؛ على ما ظن أُولَئِكَ وقدروه، فأما في تقدير أهل التوحيد وأهل الإيمان من العاقبة لهم فهو حكمة وحق.

والثاني: معنى اللّهو: اللعب الذي ذكر على ما عندهم هو أن الجمع والتسوية بين العدو والولي وبين العاصي والمطيع وبين المخالف والموافق - سفه باطل، وقد سوى بينهم في هذه الدنيا، وأشركهم جميعًا في نعيمها وسعتها وشدتها، وخيرها وشرها، يتمتع الولي فيها كما يتمتع العدو، ويبتلى فيها المطيع كما يبتلى العاصي، فلو لم يكن دار أخرى فيها يفرق بين الولي والعدو، وبين المطيع والعاصي لكان خلقه إياهم في الحياة الدنيا سفهًا وباطلا؛ إذ سوى بينهم وأشركهم جميعًا في هذه.

أو أن تكون الحياة الدنيا - عدى ما اتخذوها هم وعملوا فيها - لهوًا ولعبًا.

أو أن يقال: الحياة الدنيا بحياة الآخرة لهو ولعب؛ لأنها خلقت فانية منقطعة، وخلقت حياة الآخرة باقية دائمة، فهو كما قال: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ}، أي: متاع الدنيا قليل عند متاع الآخرة، لأن متاع الدنيا فانٍ منقطع، ومتاع الآخرة دائم باقي.

وقوله: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} أي: هي دار الحياة، لا موت فيها، ولا انقطاع، ولا فناء {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أن الدار الآخرة هي الدار التي لا موت فيها، واللّه أعلم.

٦٥-٦٦

وقوله: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} الآية، على المعتزلة في قولهم: إن على اللّه الأصلح لهم في الدِّين؛ لأنه أخبر أنهم أخلصوا الدِّين للّه إذا ركبوا في الفلك، ولا شك أن ذلك أصلح في الدِّين، فلما لم يبقهم على تلك الحال ليكونوا على ذلك الإخلاص؛ بل أخرجهم منها فعادوا إلى ما كانوا فدل ذلك أن ليس عليه حفظ الأصلح لهم في الدِّين.

وقوله: (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦)

وقوله: {لِيَكفُرُوا} أي: أنجاهم ليكونوا على ما علم منهم أنهم يكونون، وقد علم أنه يكون منهم الكفر، فأنجاهم إلى البر؛ ليكون منهم ما قد علم أنه يكون ويختارون، كأن إخلاص الدعاء في الفلك لم يكن إخلاص اختيار، ولكن إخلاص دفع البلاء عن أنفسهم؛ إذ لو كان ذلك إخلاص اختيار، لا دفع البلاء لكانوا لا يتركون ذلك في الأحوال كلها، فهذه الآية وإن كانت في أهل الكفر، ففي ذلك - أيضًا - توبيخ لأهل الإسلام؛ لأنهم لا يقومون بالشكر للّه وإخلاص العبادة له في حال السعة والنعمة كما يكونون في حال الضيق والشدة، فينبههم ليكونوا في الأحوال كلها مخلصين العمل للّه شاكرين له؛ لئلا يكون عملهم على حرف وجهة كعمل أهل النفاق، وكعمل أُولَئِكَ الكفرة، واللّه أعلم.

وقوله: {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} قيل: يكذبون.

وقيل: يعدلون.

وقيل: يؤفكون: يؤفنون ويحمقون، والمافون: الأحمق، وا لأفن: الحمق.

وقوله: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} أي: سوف يعلمون صدقي في قولي، ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه كما عادوا إلى ما كانوا عليه إذ أنجاهم من الأهوال التي ابتلوا بها؛ أي: سوف يعلمون ما أوعدهم الرسل.

وفي قولهم: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} وجه آخر: وهو أن يقال: ما هذه المحاسن والأعمال التي تعملون وتعدون محاسن وصلاحًا في هذه الدنيا إلا لهو ولعب؛ لما لا تبقى ولا تنتفعون بها إلا ما ابتغي بها وجه اللّه والدار الآخرة، وهو ما قال: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} أي: هي الباقية الدائمة {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}.

٦٧

وقوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللّه يَكْفُرُونَ (٦٧) قد ذكرنا في غير موضع: أن الاستفهام من اللّه يخرج مخرج الإلزام والإيجاب، أو يخرج مخرج الخبر، لا على حقيقة الاستفهام؛ لأنه عالم بذاته، يعلم ما في باطنهم وظاهرهم، وما يسرون وما يعلنون، بما كان ويكون، لا يستفهم عباده شيئًا، ولكنه يخرج على ما ذكرنا على الخبر، أو على الإلزام والإيجاب؛ فالخبر كأنه يقول: قد رأوا وعلموا أن اللّه جعل الحرم مأمنًا لهم يأمنون فيه، وكان الناس حولهم يتخطفون ويخافون، والإلزام والإيجاب أن يقول لهم: اعلموا أن اللّه جعل لكم

الحرم مأمنًا تأمنون فيه والناس من حولكم على خوف يسلبون ويُسْبَوْنَ ويقتلون.

ثم يخرج تذكيره إياهم هذا على وجهين:

أحدهما: أن اللّه قد جعل لكم الحرم مأمنًا تأمنون فيه؛ لتعظيمكم حرم اللّه وبيته، والناس حولكم على خوف، وأنتم تشاركون من حولكم في الدِّين، فكيف تخافون الاختطاف والاستلاب إذا دنتم بدينه واتبعتم رسوله، فإذا آمنكم بكونكم في حرم اللّه وتعظيمكم بيته، ودفع عنكم الاستلاب والاختطاف، فكيف تخافون ذلك إذا دنتم بدينه واتبعتم أمره؟! بل الأمن والسعة إذا دنتم بدينه واتبعتم أمره أكثر وأحق؛ فكأنهم إنما تركوا اتباع دينه خوفا من الاختطاف؛ كقولهم: {إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} فقال لهم: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ}.

أو يذكر هذا لهم: أنه قد أمنكم وصرف عنكم مع عبادتكم الأصنام وصرفكم الشكر إليها عند كل مكروه وسوء بكونكم في مجاورة بيته وحرمه، فإذا صرفتم العبادة إليه وشكرتم نعمه - أحق أن يؤمنكم ويوسع عليكم نعمه ويدفع عنكم ما لم يدفع عمن حولكم، وأنتم شركاؤهم في عبادة الأصنام واتخاذهم إياها آلهة.

على هذا يخرج، واللّه أعلم.

وقوله: {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ} يحتمل قوله: {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ} أي: بما أوحى إليكم إبليس من الباطل تؤمنون، وهو ما أوحى إليهم: أن هَؤُلَاءِ شفعاؤكم عند اللّه وعبادتكم إياها تقربكم إلى اللّه زلفى؛ كقوله: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ. . .} الآية.

وقوله: {وَبِنِعْمَةِ اللّه يَكْفُرُونَ} أي: بما أوحى إليكم مُحَمَّد من اللّه تكفرون.

أو أن يكون قوله: {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ} أي: بالشرك يؤمنون {وَبِنِعْمَةِ اللّه يَكْفُرُونَ} أي: بتوحيد اللّه يكفرون.

أو أن تكون النعمة - هاهنا - هي أن قرآن، أو ما ذكرنا، وهو مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

٦٨

وقوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّه كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (٦٨) قد ذكرنا أن حرف الاستفهام من اللّه يخرج على وجهين: على الخبر مرة، وعلى الإيجاب تارة والإلزام: أي: اعلموا أن ليس أحد من المفترين أظلم ممن افترى على اللّه.

وعلى الخبر: أي: قد علمتم أن ليس أحد من المفترين أظلم ممن افترى على اللّه؛ إذ قد عرفتم بعقولكم قبح الافتراء والكذب فيما بينكم، فلا كذب ولا افتراء أوحش أو أقبح من الافتراء على اللّه، فكيف افتريتم عليه وهو أوحش وأقبح؟!.

وقوله: {أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ} يحتمل: {كَذَّبَ بِالْحَقِّ} برسول اللّه، أو بالقرآن الذي عجزوا عن إتيان مثله، أو بالتوحيد، أو كذب بالحق الذي ظهر حقه وصدقه لما جاءه.

وقوله: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} كأنه يقول: اعلم أن جهنم مثوى للكافرين؛ يذكره على التصبر على أذاهم، والتسلي له بما كان يضيق صدره لمكان تركهم الإيمان والإياس منهم.

٦٩

وقوله: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللّه لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩) يشبه أن يكون هذا صلة قوله: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} أي: ليس من أجهد نفسه في طلب الدنيا والعمل لها إلا لهوًا ولعبًا، وأما من أجهد نفسه للّه وطلب مرضاته فهو حق وله دار الحياة التي لا موت فيها ولا انقطاع.

ويشبه أن يكون على الابتداء لا على الصلة بالأول؛ يقول والذين جاهدوا أنفسهم في هواها وشهواتها وأمانيها حقيقة ابتغاء مرضات اللّه وطلب الهداية والدِّين وسبيله {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} ذكر السبل - هاهنا - لما سبق ذكر الجماعة، يقول: الذين جاهدوا فينا لنهدينهم كلا سبيلا فيكون سبلا للكل، وأما قوله: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} أن السبل على الإطلاق على غير تقدم ذكر من الهدى، أو شيء من الإضافة إلى اللّه - هي سبل الشيطان، واللّه أعلم.

وقوله: {وَإِنَّ اللّه لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} يحتمل قوله: {وَإِنَّ اللّه لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} في التوفيق لهم في الإحسان والأعمال الصالحة.

أو مع المحسنين في النصر لهم والمعونة لهم مع أعدائهم.

أو مع المحسنين يحفظهم ويتولاهم.

ثم لم يفهم أحد من الخلق من قوله: {لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} و {مَعَ الْمُتَّقِينَ} ما يفهم من الخلق وذوي الأجسام والجثات، فكيف فهم بعض الناس من قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}، {وَجَاءَ رَبُّكَ}، و {يَأتِيَهُمُ اللّه}، في كذا ما يفهم من استواء الخلق ومجيئهم وإتيانهم؟! ليعلم أن فهم ذلك على ما يفهم من الخلق بعيدٌ محال، واللّه أعلم بالصواب.

* * *

﴿ ٠