٢

وقوله: (أَحَسِبَ النَّاسُ ... (٢)

قوله: {أَحَسِبَ}: هو وإن كان في الظاهر استفهامًا فهو على الإيجاب لا الاستخبار؛ إذ حقيقة الاستفهام والاستخبار إنما تكون ممن يجهل الأمور فيستخبر ويستفهم ليعرف ذلك، فاللّه سبحانه يتعالى عن أن يخفى عليه شيء، فهو على التقرير والإيجاب منه لذلك.

ثم يخرج قوله: {أَحَسِبَ النَّاسُ} على أحد وجهين؛ أحدهما، أي: قد حسب الناس.

والثاني: أي: لا يحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا: آمنا.

وقوله: {أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا}: ذكر الإيمان ولم يذكره بمن؟ باللّه أو بغيره؟ وليس أحد من الخلائق إلا وهو يؤمن بأحد ويكفر بغيره، وليس في الآية بيان الإيمان به أو بمن؟ إلا أن اللّه تعالى سخر الخلق على الفهم من الإيمان المطلق المرسل: الإيمان باللّه وبرسله، وسخرهم حتى فهموا من الكتاب المطلق: كتاب اللّه، والدار الآخرة: الجنة، وأمثال ذلك ما فهموا من الكتاب المطلق: كتاب اللّه، وفهموا ما ذكرنا من الإيمان المطلق: الإيمان باللّه وبرسله، وفهموا أيضًا من الدِّين المطلق: دين اللّه؛ فيكون قوله: {أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا} باللّه أو برسله.

وقوله: {وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} أي: لا يبتلون، والفتنة: هي الابتلاء الذي فيه الشدة، يمتحن اللّه عباده باختلاف الأحوال: مرة بالضيق والشدة، ومرة بالسعة والرخاء وأنواع العبادات؛ ليكون ذلك علما للخلق في صدق الإيمان به والكذب به والكذب فيه، فيعرفوا صدق كل مخبر عن نفسه الإيمان باللّه تعالى وكذبه؛ إذ قد يجوز أن يكون فيما يخبر

ويقول: آمنت - كاذبًا، فجعل اللّه تعالى للعلم في صدقهم وكذبهم أعمالا يظهر بها عنده صدقهم ما لو كان الابتلاء والامتحان بجهة لعله لا يظهر ذلك، وهو ما أخبر عن المنافقين فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّه عَلَى حَرْفٍ. . .} الآية، هذا يدل أن الفتنة هي المحنة التي فيها الشدة والبلاء، وهو ما قال: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}، فإنما يظهر صدق الرجل في إيمانه بما يصيبه من الشدة، فأما السعة والرخاء فهو ما يوافق طبعه وهوى نفسه، فلا يظهر صدقه بما يوافق طبعه، وإنَّمَا يظهر ذلك بما يخالف طبعه ويثقل عليه تحمل ذلك.

ثم

قَالَ بَعْضُهُمْ: نزلت الآية في قوم أظهروا الإيمان باللسان، وأضمروا الخلاف والكذب.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: نزلت في قوم آمنوا باللّه وبرسوله حقيقة، ثم عذبوا بأنواع العذاب؛ فتركوا الإيمان وكفروا به؛ وفيهم نزل: {فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللّه جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللّه}، فكيفما كان ففيه أن من أقر بالإيمان وقبله، يمتحن بأنواع المحن بموافقة الطبع ومخالفته؛ ليظهر صدقه عند الناس فيعاملونه على ذلك، واللّه أعلم.

﴿ ٢