سُورَةُ الرُّومِكلها مَكِّيَّة وهي ستون آية بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ١-٣قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) وفي بعض القراءات: {غَلَبَتِ الرُّومُ} بفتح الغين على المستقبل. يذكر أهل التأويل: أنه إنما يذكر هذا؛ لأن المشركين كانوا يجادلون وهم بمكة، يقولون: إن الروم أهل الكتاب وقد غلبتهم المجوس، وأنتم تزعمون أنكم ستغلبون بالكتاب الذي أنزل على نبيكم فسنغلبكم كما غلبت فارس الروم، فأنزل اللّه - تعالى - هذه الآية: (الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الْأَرْضِ. . .) الآية، لكن يذكر في آخره: (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللّه يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ)؛ فلا يحتمل فرح المؤمنين بغلبة الروم على فارس، ويسمى ذلك: نصر اللّه وهم كفار، وغلبتهم عليهم معصية، اللّهم إلا أن يكون فرحهم بما يظهر الإيمان بكتب اللّه وتصديقها والعمل بها، وهم كانوا أهل كتاب، ورسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان بعث مصدقًا بكتب اللّه وبرسله أجمع، ففرحوا بذلك، فإن كان كذلك فجائز الفرح بذلك وتسميته نصر اللّه. وأما على الوجه الذي يقولون هم فلا. وعندنا: أن في ذلك آية عظيمة في إثبات رسالة نبينا مُحَمَّد - صلوات اللّه عليه - ونبوته وصدقه ما لم يجد الكفار فيه مطعنا، ولا النسبة إلى الكذب والافتراء، على ما قالوا وطعنوا في سائر الآيات والأنباء، كقولهم: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ}، ونحو ذلك من المطاعن التي طعنوا في القرآن والأنباء المتقدمة؛ حيث قالوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}، {مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى}، مثلها لم يجدوا فيما أخبر من غلبة الروم على فارس؛ لأنه أخبر عن غلبة ستكون وستحدث لا عن غلبة قد كانت، ومثل هذا لا يدركه البشر ولا يستفاد منهم؛ إذ لا يبلغه علم البشر ولا يدرك بالقياس بالسابق من الأمور، فإذا كان على ما أخبر دل أنه باللّه علم ذلك، وبوحي منه إليه عرف ذلك. وهم جائز أن يستدلوا بما كان من قبل من غلبة فارس على الروم أن يقولوا: تغلب فارس على الروم بما شاهدوه مرة أو بوجوه أخر يستدلون بذلك؛ من نحو أن يقولوا: إنهم أهل كتاب وعبادة يكونون مشاغيل بالنظر فيها والعمل ببعض ما فيها لا يتفرغون للقتال والحرب. أو أن يقولوا: إنهم نصارى - أعني: أهل الروم - وليس في سنتهم ومذهبهم القتال والحرب، فيستدلون بمثل هذه الوجوه على أن لا غلبة تكون لهم ولا ظفر. وأمَّا أهل الإسلام ليس لهم شيء من تلك الوجوه ولا بغيرها وجه الاستدلال بغلبة أُولَئِكَ، فما قالوا ذلك إلا وحيًا من اللّه إليه وإعلامًا منه إياه، فكان في ذلك أعظم آية لصدق رسوله وأكبرها فيكون فرح المؤمنين وذكر نصر اللّه بإظهار تلك الآية في تصديق رسوله؛ إذ نصر رسوله حيث أظهر صدقه ورسالته. وقوله: {غُلِبَتِ} و {غَلَبَت}: {غُلِبَتِ} على الماضي؛ لما كان من غلبة فارس على الروم، و {غَلَبَت} بالفتح على المستقبل؛ أي: تغلب الروم على فارس، وهو كقوله: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا}، على الأمر في المستقبل، {بَاعَدَ بين أسفارنا} على الخبر، فعلى ذلك الأول. وقوله: {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} قيل: أقرب إلى أرض فارس. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {أَدْنَى الْأَرْضِ} أي: أدنى أرض الشام. وقيل: الأرض التي تلي فارس، واللّه أعلم. وفي قوله: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} وفي قوله: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} وجوه على المعتزلة: أحدها: يقال لهم: وعد أن يغلب الروم على فارس، وقد أراد أن يخرج ما وعد حقًا صدقًا أم لا؟ فإن قالوا: لا، فقد أعظموا القول وأفحشوه؛ حيث زعموا أنه أراد ألا يفي بما وعد أنه يكون. وإن قالوا: نعم، قيل: دل أنه أراد ما فعلوا، وإن كان الفعل منهم فعل معصية وخلاف؛ إذ محاربة كل فريق أصحابهم معصية؛ إذ لم يؤمروا بذلك، وانما أمروا بالإسلام، فدل أن اللّه مريد لما يعلم أنه يكون منهم، وإن كان ما يكون منهم معصية. والثاني: ما أخبر بفرح المؤمنين بغلبة هَؤُلَاءِ على أُولَئِكَ أيّ جهة كان فرحهم لإثبات آية عظيمة على رسالة نبيهم ونبوته؛ على ما ذكرنا أولا أنهم كانوا أهل كتب اللّه ودراستها أحبوا غلبتهم عليهم، وفرحوا بذلك، ولا يحتمل أن يفرحوا بذلك ولم يأمرهم بذلك، ولا أراد منهم ذلك دل أنهم إنما فرحوا بذلك لما أراد ذلك. والثالث: في قوله: {بِنَصْرِ اللّه يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ} دلالة: أن للّه في فعل العباد صنعًا وتدبيرًا حيث ذكر فعل بعضهم على بعض، ثم سمّى: نصر اللّه؛ دل أن له في ذلك تدبيرًا. وقوله: {فِي بِضْعِ سِنِينَ} قيل: البضع: سبع. وقيل: ما دون العشر فهو بضع، وكذلك ذكر في الخبر أن أبا بكر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - لما خاطر المشركين وبايعهم في ذلك بخطر في سنين ذكرها، فمضت تلك المدة ولم تغلب الروم على فارس، فقال رسول اللّه على لأبي بكر: " أما علمت أن ما دون العشر بضع كله، فزد في الأجل، وزد في الخطر "، ففعل ذلك، فلم تمض تلك السنون حتى ظهرت الروم على فارس. وفي بعض الحديث قال: قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لم تكونوا أن تؤجلوا أجلا دون العشر؛ فإن البضع ما بين الثلاث إلى العشر، فزيدوهم ومادوهم في الأجل " ففعلوا حتى ظهرت الروم على فارس. . . فذكر الحديث. ثم المسألة في المخاطرة التي كانت بين أبي بكر وبين أُولَئِكَ الكفرة: أحدها: أن مكة كانت يومئذ دار حرب؛ دليله: قوله: {وَإِذْ يَمكُرُ بكَ الَّذِينَ كَفَرُوا. . .} الآية، وذلك كان قبل الهجرة، وما أمر بالهجرة -أيضًا- إلى المدينة، ونحوه كثير، وذلك كان كله قبل غلبة الروم على فارس، فإذا كانت مكة يومئذ دار حرب جازت المخاطرة في العقول في دار الحرب فيما بينهم وبين أهل الحرب، وإن كان مثلها في دار الإسلام غير جائز، وهذا يدل لأبي حنيفة - رحمه اللّه - في إجازته عقد الربا في دار الحرب فيما بينهم وبين أهل الإسلام، وإن كان مثله في دار الإسلام غير جائز. والثاني: جاز ذلك يومئذ وإن كانت فيه جهالة أسنان الإبل، والجهالة في العقود إنما تبطل العقود، لخوف وقوع التنازع بينهم في الدِّين، فأما في الأموال فقلما يقع؛ لما ذكرنا. ومنهم من يقول: كان جائزا ذلك في الجاهلية، فأمَّا اليوم فقد جاء النهي عن القمار فنسخه، وإنما عرف النهي عن الميسر، والميسر هو القمار؛ فيكون النهي عن الشيء نهيًا عما هو في معناه، واللّه أعلم. وقوله: {للّه الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ}. قَالَ بَعْضُهُمْ: {للّه الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ} غلبة فارس الروم {وَمِنْ بَعْدُ} غلبة الروم فارس. ويقال: {للّه الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ} وحين ظهرت فارس على الروم {وَمِنْ بَعْدُ} ما ظهرت الروم على فارس. وجائز أن يكون قوله: {للّه الْأَمْرُ} في خلقه؛ أي: التدبير فيه، وله الأمر فيهم؛ أي: ليس لأحد في الخلق أمر ولا تدبير، وإنما ذلك له؛ كقوله: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ}: له التدبير فيهم والأمر. وفي قراءة من قرأ {غَلَبَتِ الرُّومُ} بالنصب يكون قوله: (وهم من بعد غلبهم سَيُغْلَبُونَ) حين تظاهر عليهم المسلمون في آخر الزمان حين تفتح قسطنطينية. وفي حرف ابن مسعود وحفصة: (في بعض سنين قريبًا). |
﴿ ١ ﴾