سُورَةُ الْأَحْزَابِ

ذكر أن سورة الأحزاب

نزلت بالمدينة

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١

قوله - عزَّ وجلَّ -: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللّه وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ}.

جائز أن يكون ظاهر الخطاب وإن كان لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: فهو للناس عاما؛ ألا ترى أنه قال على أثره: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللّه كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} خاطب به الجماعة، وقد خاطب رسوله في غير آي من القرآن، والمراد به غيره؛ فعلى ذلك جائز أن يكون هذا كذلك.

ويشبه أن يكون المراد بالخطاب -أيضًا- خاصة، لكن إن كان ما خاطب به مما يشترك فيه غيره - دخل في ذلك الخطاب وفي ذلك النهي، وإن كان مما يتفرد به من نحو: تبليغ الرسالة إليهم، وما تضمنته الرسل، وإن خاف على نفسه القتل والهلاك فإن عليه ذلك لا محالة، كقوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ. . .} الآية.

وأما أهل التأويل فمما اختلفوا فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: نزلت الآية، وذلك أن نفرا من أهل مكة - أبو سفيان بن حرب، وعكرمة ابن أبي جهل، وأبو الأعور السلمي، وهَؤُلَاءِ - قدموا المدينة، فدخلوا على عبد اللّه بن أُبي رئيس المنافقين بعد قتلى أحد، وقد أعطاهم النبي الأمان على أن يكلموه، فقالوا للنبي وعنده عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: ارفض ذكر آلهتنا اللات والعزى ومنات، وندعك وربك؛ فشق ذلك على النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ فأنزل اللّه - تعالى - هذه الآية: {اتَّقِ اللّه وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ}، وفيهم نزل: {وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّه}.

وفي بعض الروايات: قالوا ذلك - وعنده عمر بن الخطاب - فقال: يا رسول اللّه، ائذن لي في قتلهم؛ فقال النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إني قد أعطيتهم الأمان "، فإن كان على هذا فالنهي: عن نقض العهد والأمان.

وإن كان على الأول: فالنهي عن اتباع ما طلبوا منه من رفض آلهتهم والعبادة لها.

وبعضهم يقولون: إن أهل مكة نحو: شيبة بن ربيعة وهَؤُلَاءِ قالوا له: إنا نعطيك يا مُحَمَّد كذا كذا من المال، ونزوجك كذا كذا امرأة كثيرة المال؛ فارفضنا وآلهتنا؛ وإلا قتلك المنافقون: فلان وفلان، عذوا نفرًا؛ فأنزل اللّه - تعالى - الآية في ذلك بالنهي عن اتباع ما طلبوا منه ودعوه إليه، وأمره بالتوكل على اللّه في ترك الاتباع لهم.

وأصله ما ذكرنا: أن النهي - وإن كان له خاصة - فيما ذكر فهو - وإن كان معصومًا - فالعصمة لا تمنع الأمر والنهي؛ بل العصمة إنما تنفع إذا كان ثمة نهي وأمر؛ إذ لولا النهي والأمر لكان لا معنى للعصمة ولا منفعة لها، واللّه أعلم.

وقوله: {اتَّقِ اللّه}: في ترك تبليغ الرسالة إليهم، {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} في اتباع ما دعوك إليه وطلبوا منك، أو في غيره.

{إِنَّ اللّه كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}.

{عَلِيمًا} وبما كان ويكون منهم، أي: على علم بما يكون منهم من التكذيب والرد عليك بعثك، لا على جهل، {حَكِيمًا}: في ذلك، أي: بعثه إياك إليهم، على علم بما يكون منهم من التكذيب والرد، لا يخرجه عن الحكمة، ليس كملوك الأرض: إذا أرسل بعضهم إلى بعض رسالات وهدايا، على علم من المرسل أن المبعوث إليه يرد الرسالة والهدية يكون سفهًا؛ لأنهم يبعثون ويرسلون لحاجة أنفسهم، أعني: أنفس المرسلين، فإذا أرسلوا على علم منهم بالرد والتكذيب كان ذلك سفهًا خارجًا عن الحكمة.

فأما اللّه - سبحانه - إنما يرسل الرسل ويبعثهم لمنفعة أنفسهم وحاجتهم، فعلمه بالرد والتكذيب لا يخرجه عن الحكمة.

٢

وقوله - تعالى -: (وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللّه كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (٢)

هذا يحتمل الخصوص له على ما ذكرنا، ويحتمل العموم على ما ذكرنا في آية أخرى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} يدل على ذلك قوله: {إِنَّ اللّه كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}: خاطب به الكل - واللّه أعلم - وهو ما ذكرنا أنه على علم بما يكون منهم من التكذيب والرد.

٣

وقوله: (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّه وَكَفَى بِاللّه وَكِيلًا (٣)

أي: اعتمد على اللّه في تبليغ الرسالة، ولا تخف أذاهم.

{وَكَفَى بِاللّه وَكِيلًا}.

أي: حافظا يحفظك ويمنعهم عنك، كقوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّه يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}.

٤

وقوله: {مَا جَعَلَ اللّه لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}.

يقول بعض أهل التأويل كذلك: إنها نزلت في رجل يقال له: أبو معمر، وكان من أحفظ الناس وأوعاهم؛ فقالوا: إن له قلبين: قلب يسمع، وقلب يحفظ ويعي؛ فنزل: {مَا جَعَلَ اللّه لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}.

ويقول بعضهم كذلك: إنها نزلت في أبي معمر، وكان يسمى: ذا قلبين؛ لحفظه الحديث، حتى إذا كان يومُ بدر، وهُزم المشركون - وفيهم أبو معمر - يلقاه أبو سفيان بن حرب، وهو معلق إحدى نعليه بيده والأخرى في رجله؛ فقال: يا أبا معمر، ما فعل الناس؟ قال: انهزموا، فقال: ما بال نعلك في يدك والأخرى في رجلك؟ فقال: ما شعرت إلا أنهما جميعًا في رجلي؛ فعرفوا يومئذ أنْ لو كان له قلبان ما نسي نعله في يده. ونحوه قد قيل، ولكن لا ندري ما سبب نزول هذا.

وروي عن ابن عَبَّاسٍ: أنه سئل عن هذه الآية؛ فقال: كان نبي اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يصلي يومًا، فخطر خطرة - أي: وقع في قلبه - فقال المنافقون الذين يصلون معه: ألا ترى أن له قلبين: قلبا معكم، وقلبا معهم؛ فأنزلت هذه الآية.

وهذا يشبه أن يكون سبب نزول الآية، أو أن يكون نزولها في المنافقين، وذلك أنهم كانوا يصلون مع النبي والمؤمنين، ويرون الموافقة لهم من أنفسهم، ويقولون: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّه}، ثم يرجعون إلى أُولَئِكَ فيقولون: {إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}، ونحوه؛ فذكر هذا: {مَا جَعَلَ اللّه لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}، أي: دينين في جوفه: أن إيمان والنفالتي، أو {قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}: قلبا لهذا، وقلبا للآخر.

أو نزلت في المشركين الذين يقرون بالوحدانية للّه، وأنه هو الخالق؛ كقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّه}، ويعبدون الأصنام مع هذا؛ فيقول - واللّه أعلم -: لم يجعل لرجل قلبين في جوفه: قلبًا للشرك، وقلبًا للإيمان والتوحيد؛ ولكن جعل قلبًا واحدًا لأحد هذين، أي: قلبًا لقبول الشرك، وقلبا لقبول الإيمان.

وبعضهم يقول: هو على التمثيل، أي: كما لم يجعل لرجل واحد قلبين؛ فكذلك لا يكون المظاهر من امرأته: لا تكون امرأته أمه في الحرمة، ولا يكون دَعِيُّ الرجل ابنه، يقول: نزلت في النبي وزيد بن حارثة، كان النبي تبناه، وكانوا يسمونه زيد بن مُحَمَّد، فجاء النهي عن ذلك؛ فقال: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ}، إلى هذا يذهب عامة أهل التأويل.

وبعضهم يقول: تأويل قوله: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ}.

أي: لم يجعل للرجل نسبين ينسب إليهما.

وأصله عندنا: أن قوله: {مَا جَعَلَ اللّه لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}: ما ذكرنا، ولم يجعل أزواجكم اللائي تستمتعون بهن بالتشبيه بالأمهات كالأمهات، أي: لم يحل لكم ذلك ولم يبح ولم يشرع. {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ}، أي: لم يجعل سبب ذلك ولم يشرع، وإن كان قد يكون في النسب الفاسد، نحو الجارية بين اثنين إذا ولدت فادعياه جميعًا، ونحو النكاح الفاسد، والملك الفاسد، لم يجعل كذا، أي: لم يحل ولم يشرع؛ كقوله: {مَا جَعَلَ اللّه مِنْ بَحِيرَةٍ}، أي: لم يشرع ولم يحل ذلك، وإن كان يكون لو فعلوا؛ فعلى ذلك قوله: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ}، أي: لم يشرع ذلك السبب، ولم يحل ذلك في الإسلام ما كان في الجاهلية، لا أنه لا يكون ذلك فيما لم يشرع في الفاسد من السبب، على ما ذكرنا: أن النسب ثبت في النكاح الفاسد، وإن لم يشرع.

والحسن يقول في قوله: {مَا جَعَلَ اللّه لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} قال: كان الرجل

يقول: إن نفسا تأمرني بكذا ونفسا تأمرني بكذا؛ فنزل ذلك.

والحكمة فيما لم يجعل لواحد قلبين، وجعل له سمعين وبصرين؛ لأن الإدراك بالسمع والبصر إنما يكون بالمشاهدة، فيخرج ذلك مخرج معاونة بعضهم بعضًا، وما يدرك بالقلب إنما يدرك بالاجتهاد، وقد يختلف القلبان فيما يجتهدان في شيء، فيناقض أحدهما صاحبه؛ إذ يجوز أن يرى أحدهما خلاف ما يراه الآخر، وأما السمعان والبصران لا يكون كذلك.

وقوله: {مَا جَعَلَ اللّه لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}: جائز أن يكون سبب ذلك ما ذكر من ادعاء مسيلمة الكذاب الرسالة لنفسه وتواطؤ أصحابه على ذلك، يقول - واللّه أعلم -: ما جعل اللّه أن يرسل رجلين رسولا إلى خلقه مختلفي الدِّينين متضادي الشرائع، يدعو كل واحد إلى دين غير الآخر، وإلى شريعة يضاد بعضها بعضًا: محمدا رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ومسيلمة الكذاب.

وقوله: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ}: يحتمل هذا وجهين:

 أحدهما: على النهي الذي ذكرنا، أي: لا تشبهوا أزواجكم بظهور الأمهات، ولا تحرموهن على أنفسكم كحرمة الأمهات؛ ولذلك قال: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا}.

والثاني: أن لم يجعل اللّه لكم أزواجكم حرامًا أبدًا كالأمهات، وإن جعلتم أنتم؛ ولكن جعلهن لكم بحيث تصلون إليهن بالاستمتاع على ما تصلون إليهن وتستمتعون بهن، بعد هذا القول؛ يذكر هذا على المنة والنعمة؛ ليتأدى به شكره؛ لما أبقى لهم الاستمتاع بهن بعد هذا، ولم يجعلهن لهم كالأمهات، على ما ذكر، واللّه أعلم.

وقوله: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ}، أي: ما جعل أدعياءكم أبناءكم في الحقوق إلى الآباء، وهو ما ذكر في بعض القصة: أنه إذا ادعى الرجل منهم ورثة منهم مع أولاده - وهو شيء كانوا يفعلونه في الجاهلية - دعي إليه ونسب، يقول - واللّه أعلم -: ما جعل ما كنتم تدعون الأبناء في الجاهلية للعون والنصرة أبناءكم في الإسلام فيما جعلوا.

والثاني: ما جعل أدعياكم أبناءكم في حق النسبة، كما ذكر أنهم كانوا يقولون لزيد بن حارثة: زيد بن مُحَمَّد.

{ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ}:

إنما هو قول تقولونه بألسنتكم فيما بينكم.

{وَاللّه يَقُولُ الْحَقَّ}:

إنهم ليسوا بأبنائكِم.

٥

أو أن قوله: {وَاللّه يَقُولُ الْحَقَّ}، تأويله: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللّه (٥): أعدل عند اللّه، أي: انسبوهم إليهم إن علمتموهم.

{فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ}.

قال بعض أهل التأويل: فانسبوهم إلى أبيهم من أسماء مواليكم أو إخوانكم أو ابن عمكم، مثل عبد اللّه وعبيد اللّه، وعبد الرحمن، وأشباه ذلك الأسماء وأسماء مواليكم.

أو أن يقول: قوله: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ}، أي: سموهم: إخوانا، وذلك أعظم في القلوب وآخَذُ من التسمية بالآباء والنسبة إليهم؛ وذلك أن الحاجة إلى معرفة الآباء والنسبة إليهم إنما تكون عند الكتابة والشهادة وعند الغيبة، فأما عند الحضرة فلا.

وقوله: {وَمَوَالِيكُمْ}،

قَالَ بَعْضُهُمْ: نزل هذا في شأن زيد بن حارثة، وهو كان مولى رسول اللّه، وكانوا يسمونه: زيد بن مُحَمَّد؛ فنهوا عن ذلك، فيقول: فإن لم تعلموا آباءهم فانسبوهم إلى مواليهم.

وجائز أن يكون قوله: {وَمَوَالِيكُمْ} من الولاية، كقوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}،

وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}.

وقوله: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ}.

يقول - واللّه أعلم -: ليس عليكم جناح بالنسبة إلى غير الآباء إذا كنتم مخطئين غير عارفين للآباء؛ إنما الجناح والحرج عليكم إذا كنتم عامدين لذلك عارفين لهم آباء؛ كأنه أباح التبني والتآخي فيما بينهم، ولم يبح النسبة إلى غير الآباء وإيجاب الحقوق فيما بينهم.

وكذلك روي في بعض الخبر أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يؤاخي بين الرجلين، وإذا مات أحدهما ورثه الباقي منهما دون عصبته وأهله، فكان الزبير أخا عبد اللّه بن مسعود، فمكثوا بذلك ما شاء اللّه أن يمكثوا، حتى نزلت الآية.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ}، يقول: إذا دعوت الرجل

لغير أبيه، وأنت ترى أنه كذلك.

{وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}.

يقول: لا تدعوه لغير أبيه متعمدًا، فأما الخطأ فإن اللّه يقول: لا يؤاخذكم به، ولكن ما أردتم به العمد، وهو مثل الأول.

وذكر أن عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - سمع رجلا يقول: اللّهم اغفر لي خَطَايَ؛ فقال له عمر: " استغفر اللّه العمد؛ فأمَّا الخطأ فقد تجوز لك عنه "، وكان يقول: " ما أخاف عليكم الخطأ؛ ولكن أخاف عليكم العمد، وما أخاف عليكم العائلة؛ ولكن أخاف عليكم التكاثر، وما أخاف عليكم أن تزدروا أعمالكم؛ ولكن أخاف عليكم أن تستكثروها ".

وذكر أن ثلاثًا لا يُمْلك عليها ابن آدم: الخطأ والنسيان والاستكراه، وكذلك روي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قال ذلك.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الخطأ - هاهنا - هو ما جرى على اللسان من غير قصد، والعمد ما يجري على قصد، وهو ما ذكرنا، واللّه أعلم.

{وَكَانَ اللّه غَفُورًا رَحِيمًا}.

لما فعلوا.

٦

وقوله: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّه مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (٦)

قَالَ بَعْضُهُمْ: النبي أولى بهم من بعضهم ببعض؛ كقوله: {وَلَا تَقتُلُوا أَنفُسَكُم}، أي: لا يقتل بعضكم بعضا؛ إذ لا أحد يقتل نفسه، {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} أي: يسلم بعضكم على بعض، ليس أنه يسلم الرجل على نفسه؛ ولكن ما ذكرنا؛ فعلى ذلك قوله: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}، أي: بعضهم من بعض.

ثم يحتمل هو أولى بهم من أنفسهم من الطاعة له والاحترام له والتعظيم، أي: هو أولى أن يعظم ويحترم ويطاع من غيره.

أو أن يكون أولى بهم في الرحمة والشفقة لهم، أي: أرحم بهم وأشفق من أنفسهم، وهو على ما وصفه من الرحمة والرأفة؛ حيث قال: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}، وليس أحد من الناس يعز عليه ما يفعله من المآثم.

أو أن يجوز أولى بهم:، أي: أَحبَّ إليهم من أنفسهم وأولادهم، محبة الاختيار والإيثار، ليست محبة الميل: ميل القلب؛ لأن ميل القلب يكون بالطبع.

وذكر في الخبر أن نبي اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " ليس بمؤمن حتى أكون أنا أحب إليه من نفسه وولده وأهله " أو كلام نحو هذا.

أو أن يكون [{أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ}]، في الآخرة بالشفاعة لهم، يشفع فينجون من النار به لا بأعمالهم، واللّه أعلم. وذكر في بعض الحروف: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم): وهو حرف أبي وابن مسعود وابن عَبَّاسٍ، رضي اللّه عنهم.

قوله: (وهو أب لهم) في الرحمة والشفقة، أو فيما يلزم من الطاعة والتعظيم والاحترام ونحوه.

وقوله: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}.

قال أهل التأويل: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}: في الحرمة؛ أي: لا يحل لهم أن يتزوجوهن أبدًا كالأمهات، ولكن يجب أن يكون ذلك بعد وفاته، فأمَّا في حياته إذا طلقهن فيجب أن يحللن لغيره؛ لأنه قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. . .} الآية، ولو لم يحللن لغيره، لم يكن لما ذكر لهن من التمتيع والتسريح معنى، وهذه الحرمة يجب أن تكون بعد الموت، وهو ما قال: {وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا}: إنما شرط هذا بعده؛ ليكن أزواجه في الآخرة.

أو أن يكون قوله: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}، أي: حرمة أزواجه من بعده ومنزلتهن كمنزلة أمهاتهم؛ يستوجبن ذلك لحرمة رسول اللّه ومنزلته قبلهم.

وأما الباطنية فإنهم يقولون: في قوله: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} دلالة أنه ليس يريد به أزواج النبي؛ ألا ترى أنه يحل للناس نكاح أولادهن، ولو كن أمهات لم تحل؛ لأنهم يصيرون إخوة وأخوات؛ فإذا حل ذلك دل أنه ما ذكرنا، هذا قولهم.

لكن الجواب لذلك ما ذكرنا: أنه جائز أنه سمَّاهن: أمهات، أي: منزلتهن وحرمتهن كمنزلة الأمهات؛ لحرمة رسول اللّه ومنزلته؛ وذلك جائز لأنه ذكر الشهداء أحياء عنده، وإن كانوا في الحقيقة موتى؛ لفضل الكرامة لهم والمنزلة عند اللّه، فعلى ذلك ذِكرُ

الأمهات لأزواجه ما ذكرنا، واللّه أعلم.

وقوله: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّه}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: {فِي كِتَابِ اللّه}: في حكم اللّه؛ كقوله: {كِتَابَ اللّه عَلَيْكُمْ}، أي: حكم اللّه عليكم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {فِي كِتَابِ اللّه}: فيما أنزل من الكتاب، وهو الذي ذكر، وكذلك: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ. . .}، إلى آخر ما ذكر: المكتوب عليهم: الذي ذكر على أثره.

ثم اختلف في تأويل قوله: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّه مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ}:

قَالَ بَعْضُهُمْ: إن المواريث في بدء الأمر لم تكن تجري إلا فيما بين المؤمنين المهاجرين من القرابات والأرحام، فإن كان مؤمنًا لم يهاجر لم يرث ابنه ولا أباه ولا أخاه المهاجر ولا سائر قراباته إذا مات أحدهما، إلا أن يكونا مؤمنين مهاجرين؛ فعند ذلك يتوارثون؛ فعلى ذلك التأويل يكون تأويل قوله: {إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا}: الذين لم يهاجروا من المؤمنين أن تُوصوا لهم شيئًا، فيقول قائل هذا التأويل: إن هذا نسخ بالآية التي ذكر في سورة الأنفال، وهو قوله: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ. . .}.

ولم يذكر فيها الهجرة إذا كانوا مسلمين.

وأمَّا الكافر فإنه لا يرث المسلم، وعلى ذلك روي في الخبر أنه قال: " لا يرث، المسلم الكافر ولا الكافر المسلم "،

وقال: " لا يتوارث أهل ملتين ".

وقَالَ بَعْضُهُمْ: تأويل قوله: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّه مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} من الأقربين منهم، أي: أولو الأرحام من المؤمنين والمهاجرين الأقرب فالأقرب منهم، {بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} من الأبعدين في المواريث أي: الأقرب منهم بعضهم أولى ببعض من الأبعدين.

{إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا}.

على هذا التأويل يكون قوله: {إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ}: الأبعدين {مَعْرُوفًا}: وصية أو شيئا، فذلك معروف فصارت المواريث للقرابات الأدنى فالأدنى من المؤمنين دون الأبعدين؛ فيكون الآية التي في الأنفال وهذه سواء على هذا التأويل، بل يكون الأقرب فالأقرب والأدنى فالأدنى أولى بالمواريث من غيرهم.

وبعضهم يقول: إن الآية نزلت ناسخة لما كان منهم من التوارث بالمؤاخاة؛ لأن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يؤاخي بين رجلين، فإذا مات أحدهما ورثه الباقي منهما دون عصبته، حتى نسخ ذلك بالآية التي ذكر؛ فعلى ذلك يكون قوله: {إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} هو أن يصنعوا إلى الذين آخى بينهم النبي معروفًا.

ثم اختلف في أولي الأوحام المذكورين في الآية:

قَالَ بَعْضُهُمْ: هم الذين ذكرهم في قوله: {يُوصِيكُمُ اللّه فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. . .}، إلى آخر ما ذكر.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: ليسوا هم؛ وإنَّمَا الذي ذكر في ذلك هم الذين بيّن لهم حد مواريثهم، فأما غيرهم فإنما هم في قوله: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} فإنما يرث الأقرب فالأقرب منهم، وكذلك يقول أبو حنيفة - وحمه اللّه -: إن أولي الأرحام إنما يرث الأقرب فالأقرب منهم، ليس كالعصبات؛ لأن الابنة لا شك أنها أقرب من ابن العم، ثم يكون النصف للابنة والبقية لابن العم.

وقوله: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: في اللوح المحفوظ بأن المؤمنين بعضهم أولى ببعض في المواريث

من الذين كانوا يتوارثون.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {فِي الْكِتَابِ}، أي: في التوراة مكتوبًا: أن يصنع بنو إسرائيل إلى بني لؤي بن يعقوب معروفًا؛ ليعود الغني على الفقير، واللّه أعلم.

٧

وقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: خصّ هَؤُلَاءِ؛ لأن أهل الشرع من الرسل هم هَؤُلَاءِ؛ كقوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا. . .} الآية، لكنه قد ذكر في آية أخرى ما يدل أن غير هَؤُلَاءِ كان لهم أيضًا شرع؛ كقوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ. .} الآية.

وجائز أن يكون تخصيص هَؤُلَاءِ بأخذ الميثاق؛ لأنهم هم أولو العزم من الرسل؛ حيث قال: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} أو يكون لا على تخصيص لمن ذكر؛ ولكن على إرادة الكل، واللّه أعلم.

ثم اختلف في أخذ الميثاق:

قَالَ بَعْضُهُمْ: أخذ ميثاقهم على أن يبشر بعضهم ببعض: يبشر نوح بإبراهيم، وإبراهيم بموسى، وموسى بعيسى، وعيسى بمُحَمَّد، عليهم الصلاة والسلام.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: أخذ ميثاقهم؛ ليصدق بعضهم بعضا، وأن يدعوا إلى عبادة اللّه، وأن ينصحوا لقومهم.

وجائز أن يكون ما ذكر من أخذ الميثاق منهم لما ذكر على أثره: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ}: أخذ منهم الميثاق في تبليغ الرسالة إلى قومهم؛ ليسألهم عن صدقهم أنهم قد بلغوا.

{وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا}.

لأن تبليغ الرسالة إلى الفراعنة منهم وأعداء اللّه صعب شديد، مخاطرة، فيه هلاك النفس وفوات الروح، وهو ما قال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ. . .} الآية.

٨

وقوله: (لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (٨)

الصدق أكثره إنما ينفع في الإنباء والإخبار، كقوله: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ}: وهو ما أخبرهم وأنبأهم من القرآن وغيره.

وقال في آية أخرى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا}، صدقًا في نبيه، وعدلا في حكمه، ثم صدقه في النبأ، وعدله في الحكم، سميّ القرآن: مرة صدقًا، ومرة عدلا، ومرة حقا، فالحق يجمع الأمرين: النبأ والحكم جميعًا، والصدق يكون في النبأ خاصة، والحكم في العدل.

ثم يحتمل سؤاله الصادقين، وهم الرسل، عن صدقهم وجهين:

أحدهما: يسألهم عن تبليغ ما أمرهم بالتبليغ إلى قومهم، وعن إنباء ما ولاهم الإنباء أن نبئوا أُولَئِكَ: هل بلغتم وهل أنبأتم أُولَئِكَ؟

والثاني: يسألهم عن إجابة أُولَئِكَ لهم: هل أجابوكم إلى ما دعوتم؛ لأن منهم من أجابهم وصدقهم، ومنهم من لم يجب ولم يصدّق؛ فيخرج السؤال عمن أجاب على التقرير، ومن لم يجب على التنبيه والتوبيخ، وهو يسأل الفريقين جميعًا: الرسل عن التبليغ، والمرسل إليهم: عن الإجابة؛ كقوله: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ}، واللّه أعلم.

٩

[{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّه عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا}] اشكروا ما أنعم اللّه عليكم وأحسنوا صحبة نعمه في النصر لكم والدفع عنكم، ثم الأمر في تذكير ما أنعم عليهم وجوه من الحكمة والدلالة:

أحدها: تذكير لنا في مقاساة أُولَئِكَ السلف من أصحابه في الدِّين، وعظيم ما امتحنوا في أمر الدِّين، حتى بلغوا الدِّين إلينا؛ لكيلا نضيعه نحن، بل يلزمنا أن نحفظه ونتمسك به، ونتحمل فيه، كما تحمل أُولَئِكَ.

والثاني: فيه آية لهم وذلك أنهم كانوا جميعًا هم وأعداؤهم، فجاءتهم الريح والملائكة فأهلكتهم دون المؤمنين، وقال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " نصرتُ بالصَّبَا، وأهلِكَ عاد بالدبُور "، وذلك آية عظيمة.

والثالث: يذكرهم ما أتاهم من الغوث عند إياسهم من أنفسهم وشرفهم على الهلاك وخروج أنفسهم من أيديهم؛ لأن العدو قد أحاطوا بهم؛ حيث قال: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ}، وبلغ أمرهم وحالهم ما ذكر، حيث قال: {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ. . .} الآية.

أو أن يذكر لما كان منهم من العهد والميثاق ألا يولوا الأدبار، ولا يهربوا كقوله: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللّه مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ. . .} الآية: يذكرهم عظيم نعمه التي كانت عليهم في النصر لهم على عدوهم والدفع عنهم، وحالهم ما ذكر في الآية، وذلك كان يوم الخندق تحزبوا المؤمنين في ثلاثة أمكنة يقاتلونهم من كل وجه شهرًا، فبعث اللّه عليهم بالليل ريحًا باردة، وبعث الملائكة فغلبتهم، واللّه أعلم.

وقوله: {وَكَانَ اللّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا}.

يذكر أنه لا عن غفلة وسهو ترككم هنالك حتى أحاط بكم العدو؛ ولكن أراد أن يمتحنكم محنة عظيمة.

أو يقول: إنه بصير عليم فيجزيكم جزاء عملكم وصبركم على ذلك، واللّه أعلم.

١٠

وقوله: (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللّه الظُّنُونَا (١٠)

قَالَ بَعْضُهُمْ: من فوق الوادي ومن أسفل منه.

وقيل: أحاطوا بهم من النواحي جميعًا.

وجائز أن يكون ذلك كناية عن الخوف، أي: أحاطوا بهم حتى خافوا على أنفسهم الهلاك؛ وعلى ذلك يخرج قوله: {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ}.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنهما - قال: هذا وصف المنافقين {زَاغَتِ الْأَبْصَارُ}، أي: شخصت، {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ}؛ لشدة خوفهم، كقوله: {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ}، وأمثال هذا قد وصفهم في غير آي من القرآن ما وصف هاهنا، وهذا يشبه أن يكون.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هذا وصف حال المؤمنين: شخصت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر؛ لفا اشتد بهم الخوف؛ لما أحاطوا بهم من فوق ومن أسفل.

ثم جائز أن يكون ذلك على التمثيل، أي: كادت أن تكون هكذا.

وجائز أن يكون على التحقيق، وهي أن تزول عن أمكنتها، وبلغت ما ذكر، واللّه

أعلم.

وقوله: {وَتَظُنُّونَ بِاللّه الظُّنُونَا}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: ظن ناس من المنافقين ظنونا مختلفة، يقولون: هلك محمد وأصحابه، ونحوه من الظنون الفاسدة السوء، وكقوله: {مَا وَعَدَنَا اللّه وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}، ونحوه.

وجائز أن يكون ذلك الظن من المؤمنين: ظنوا باللّه ظنونًا لتقصير أو تفريط كان منهم نحو قوله: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ}، وكقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ. . .} الآية.

١١

ثم قال: (هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ ... (١١) بالقتال وأنواع الشدائد

{وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}:

قيل: جهدوا جهدًا شديدًا، وقيل: حركوا تحريكًا شديدًا.

١٢

وقوله: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}.

يحتمل أن يكون قوله: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}: هما واحد، وهم

المنافقون.

وجائز أن يكون المنافقون هم الذين أضمروا الخلاف له، وأظهروا الوفاق، على إبانة الحق لهم وظهوره، {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}: هم الذين كانوا مرتابين في ذلك، لم يبن لهم ذلك، ولم ينجل قالوا هذا:

{مَا وَعَدَنَا اللّه وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}:

قال عامة أهل التأويل: الذي وعد لهم فتوح البلدان، قالوا لما أحاط بهم - أعني: بالمؤمنين - الكفار قال ذلك المنافقون.

١٣

وقوله: (وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (١٣)

قيل: {يَثْرِبَ}: المدينة، ويقال: {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ}: يا أهل المدينة، وروي عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " من قال للمدينة: يثرب، فليستغفر اللّه ثلاثًا؛ هي طابة هي طابة " ثم

قَالَ بَعْضُهُمْ: إن قوله: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} إنما قاله أهل النقاق لبعضهم: {لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا}.

ثم يحتمل قوله {لَا مُقَامَ لَكُمْ} وجهين:

أحإهما: ما قالوا: {مَا وَعَدَنَا اللّه وَرَسُولُهُ} ومن الفمَح والنصر {إِلَّا غُرُورًا}.

والثاني: {لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا}؛ لما لم يقع عندهم أنهم يصلون إلى ما كانوا يطمعون ويأملون؛ لأنهم كانوا يخرجون رغبة في الأموال وطمعًا فيها، وهو ما وصفهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّه عَلَى حَرْفٍ. . .} الآية.

وجائز أن يكون هذا القول من المؤمنين لأهل النفاق؛ فإن كان من المؤمنين لأُولَئِكَ فالوجه فيه: أنهم أرادوا أن يطردوهم؛ لفشلهم ولجبنهم؛ لئلا يهزموا جنود المؤمنين بانهزامهم؛ لأنهم قوم همتهم الانهزام فإذا انهزموا هم انهزم غيرهم؛ فالمعنى: إذا كان ذلك من المؤمنين لهم غير المعنى إذا كان من أهل النفاق بعضهم لبعض، واللّه أعلم.

وقوله: {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ}.

بالرجوع إلى المدينة، كقوله: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ}.

وقوله: {يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ}.

قال بعض أهل التأويل: {بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ}: خالية من الناس، ليس فيها أحد، فنخاف السرق عليها والأخذ والمكابرة.

ويحتمل أن يكونوا أرادوا بالعورة دخول العدو عليها إذا كانوا هم في الجند، العورة، أي: يدخل علينا مكروه ما يحزننا ويهمُّنا، أو كلام نحو هذا، فأكذبهم اللّه في قولهم،

وقال: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ}، بل اللّه يحفظها على ما وعد، حتى لا يدخل عليهم مكروه لما يخافون ولا يصيبهم.

وقوله: {إِنْ يُرِيدُونَ}، أي: ما يريدون {إِلَّا فِرَارًا} من القتال.

١٤

وقوله: (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (١٤) هذا يحتمل وجهين:

أحدهما، أي: لو دخلوا عليهم من أطراف المدينة ونواحيها، ثم دعوا إلى الشرك لأجابوهم، {وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا}، أي: لم يمتنعوا عن إجابتهم، بل لأجابوهم به كما دعوا.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنهم لو كانوا في بيوتهم، فدخلوا عليهم من نواحيها، ثم سئلوا الأموال وما تحويه أيديهم {لَآتَوْهَا}، أي: لأعطوها.

{وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا}.

يخبر عن نفاقهم وخلافهم له في السر أنهم يعطون لأُولَئِكَ ما يريدون من الأموال أو الدِّين، ويوافقونهم ولا يوافقونكم ألبتَّة، واللّه أعلم.

١٥

وقوله: (وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللّه مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللّه مَسْئُولًا (١٥)

قَالَ بَعْضُهُمْ: كان أناس غابوا وقعة بدر وما أعطى اللّه أصحاب بدر من الفضيلة والكرامة؛ فقالوا: لئن شهدنا قتالا لنقاتلنَّ؛ فساق اللّه ذلك إليهم حتى كان في ناحية المدينة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللّه مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ}، وذلك أنهم كانوا عاهدوا الرسول على عهدهم بمكة على العقبة بمنى، واشترط عليهم لربه ولنفسه: أما لربِّه: أن يعبدوه وألا يشركوا به شيئًا، واشترط لنفسه أن ينصروه ويعزروه ويعينوه ويمنعوه ما يمنعون منه أنفسهم ونساءهم وأولادهم؛ فقالوا: فإذا فعلنا ذلك؛ فما لنا يا نبي اللّه؟ قال: لكم النصر في الدنيا، والجنة في الآخرة؛ قالوا: قد فعلنا؛ فذلك قوله: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللّه مِنْ قَبْلُ} ليلة العقبة حين شرطوا للنبي المنعة: ألا يولوا الأدبار منهزمين.

{وَكَانَ عَهْدُ اللّه مَسْئُولًا}.

أي: يسأل من نقض العهد في الآخرة ومن وفي.

وجائز أن يكون قوله: {وَكَانَ عَهْدُ اللّه مَسْئُولًا} مجزيا نقضًا أو وفاءً، يجزون على وفاء العهد ونقضه.

١٦

وقوله: (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (١٦)

قال أهل التأويل: إن قضي عليكم الموت أو القتل؛ فلن ينفعكم الفرار.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن جعل انقضاء آجالكم الموت أو القتل لن ينفعكم الفرار؛ بل تنقضي.

وأصله: إن كان المكتوب عليكم الموت أو القتل لن ينفعكم الفرار منه؛ بل يأتي لا محالة؛ كقوله: {لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} الآية.

أي: لا محالة المكتوب عليهم القتل - وإن كانوا في بيوتهم - لبرزوا؛ فيقتلون.

{وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: إنما الدنيا قليل إلى آجالكم.

وجائز أن يكون معناه: ولئن نفعكم الفرار عنه {لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا}؛ كقوله: (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ) الآية.

قال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: أدعياءكم: من تبنيتموه واتخذتموه ولدا، ما جعلتم بمنزلة الصلب وكانوا يورثون من ادعوا.

{ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ}.

إن قولكم على التشبيه والمجاز، ليس على التحقيق.

{وَاللّه يَقُولُ الْحَقَّ}.

وقوله: {أَقْسَطُ}: أعدل.

{وَإِذْ زَاغَتِ}: عدلت ومالت {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ}، أي: كادت تبلغ الحلقوم من الخوف، والحناجر جماعة الحنجرة، وهي المذبح.

وقوله: {وَزُلْزِلُوا}، أي: شددوا عليهم وهؤلوا، والزلزال: الشدائد، وأصلها من التحريك و {اللَّائِي تُظَاهِرُونَ} و (اللَّاتي) مآلهما واحد، واللّه أعلم.

١٧

وقوله: (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللّه إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً (١٧) ذكر هذا على أثر قوله: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ} يقول - واللّه أعلم -: إنكم، وإن فررتم من الموت أو القتل، فإن اللّه إن أراد بكم سوءًا أو هلاكًا لا يملك أحد دفعه عنكم، أو إن أراد بكم رحمة ونجاة وخيرًا لا يملك أحد منعه عنكم، وقد تعلمون أنكم لا تجدون من دون اللّه وليا ينفعكم ولا نصيرًا ينصركم ويمنعكم عن حلول ذلك عليكم، واللّه أعلم.

١٨

وقوله: (قَدْ يَعْلَمُ اللّه الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ ... (١٨) هم المانعون منكم، {وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ}:

قَالَ بَعْضُهُمْ: هم اليهود أرسلوا إلى المنافقين، وقالوا: من ذا الذي يحملكم على قتل أنفسكم بايدي أبي سفيان ومن معه من أصحابه؟! فإنهم إن قدروا عليكم هذه المرة ما استبقوا منكم أحدا، فإنا نشفق عليكم؛ فإنما أنتم إخواننا ونحن جيرانكم، {هَلُمَّ إِلَيْنَا}.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هم المنافقون، عوق بعضهم بعضا ومنع عن الخروج مع رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى قتال العدو. وفيه أمران:

أحدهما: دلالة على إثبات الرسالة؛ لأنهم كانوا يسرون هذا ويخفون فيما بينهم، ثم أخبرهم بذلك؛ ليعلموا أنه إنما علم ذلك باللّه تعالى.

والثاني: أن يكونوا أبدا على حذر مما يضمرون من الخلاف له؛ كقوله: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ. . .} الآية.

وقوله: {وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا}.

أي: لا يأتون القتال والحرب إلا مراءاة وسمعة، هذا - واللّه أعلم - يشبه أن يريد بالقليل: أنهم لا يأتون إتيان من يريد القتال والقيام معهم؛ ولكن مراءاة وسمعة وإظهارًا

للوفاق لهم، واللّه أعلم.

١٩

وقوله: (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللّه أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّه يَسِيرًا (١٩)

قال عامة أهل التأويل: أي: بخلاء على الإنفاق عليكم، أي: لا ينفقون عليكم ولا على سبيل الخير، واللّه أعلم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الشح -أيضًا-: هو الحرص، يقول: {أَشِحَّةً}، أي: حراصًا على قسمة الغنيمة، يخبر عن معرضهم في الدنيا وركونهم إليها وميلهم فيها، ثم أخبر عن جبنهم وفشلهم وشدة خوفهم، وهو ما قال: {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ}، يخبر أنهم لجبنهم وفشلهم يصيرون كالمغشي عليه من الموت.

{فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ}.

يخبر عن شدة حرصهم في قسمة الغنيمة ورغبتهم فيها - أنهم أشح قوم وأسوؤهم مقاسمة، يقولون: أعطونا، أعطونا؛ إنا قد شهدنا معكم؛ كقوله: {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ}، ونحوه.

وقوله: {أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا قولهم، أي: إنا أشح منكم على رسول اللّه وعلى دينه، وأضن منكم على الخير، أي: نحن أحرص عليه منكم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ}، أي: حراصًا على الغنيمة والنيل منها.

ثم أخبر عنهم، وعن خلافهم له؛ حيث قال: {أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللّه أَعْمَالَهُمْ}.

التي عملوها في الظاهر، {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّه يَسِيرًا}: أي: صنعهم الذي صنعوا على اللّه، {يَسِيرًا}، أي: لا يضره.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: حبط أعمالهم، وتعذيبه إياهم مع كثرة أتباعهم وأعوانهم على اللّه يسير، أي: لا يشتد عليه ولا يصعب، واللّه أعلم.

٢٠

وقوله: (يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (٢٠)

أي: يحسب هَؤُلَاءِ المنافقين أن الأحزاب لم يذهبوا؛ من الفرق والجبن والفشل الذي فيهم يوم الخندق.

{وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ}، أي: يقبل الأحزاب، {يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ}،

أي: بألسنتهم كانوا بمنزلة البداء؛ وأنهم تركوا أوطانهم وديارهم.

{يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ}:

كانت همتهم التخلف والفرار من القتال وطلب أخبار المؤمنين: أنهم ما فعل بهم؟ نحو ما قال: (وَيَحْلِفُونَ بِاللّه إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ)، هكذا كانت عادتهم، ثم ابتلاهم اللّه بما كانوا يظهرون الموافقة للمؤمنين ويضمرون الخلاف لهم؛ والعداوة بفضل فشل وجبن ما لم يكن ذلك في غيرهم؛ ففي ذلك تحذير للمؤمنين وزجر عن مثل هذا الصنيع ومثل هذه المعاملة؛ لئلا يبتلوا بمثل ما ابتلي أُولَئِكَ.

وفيه أنه يعامل بعضهم بعضا على الظاهر الذي ظهر دون حقيقة ما يكون؛ وعلى ذلك يجري الحكم على ما عامل رسول اللّه وأصحابه أهل النفاق، وحكمه على ما أظهروا دون ما أضمروا في الأنكحة والصهر وغير ذلك من الأحكام، واللّه أعلم.

وقوله: {وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: {مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا}، أي: إلا فيما يدفعون عن أنفسهم لو قصدوا، فأما الدفع عن المؤمنين ودينهم فلا.

وجائز أن يكون المراد بالقليل، أي: لا يقاتلون ألبتَّة حقيقة القتال، وهو ما ذكر عنهم؛ حيث قال: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا}، أي: فسادا في أمركم، واللّه أعلم.

٢١

وقوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّه أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: ذلك حيث كان يباشر القتال بنفسه، فباشروا معه القتال فمن باشر معه القتال أساه بأسوة حسنة، ومن لم يفعل فلم يواسه.

وابن عَبَّاسٍ يقول: {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}، أي: سنة صالحة أو نحوه.

مثل هذا إنما يذكر عن زلات تكون إما من المنافقين أو من المؤمنين، فيقول: لكم في التأسي برسول اللّه الاقتداء والقدوة به، فهو يخرج على وجوه:

أحدها: أي: لقد كان لكم في رسول اللّه قبل أن يبعث رسولا، وقبل أن يوحى إليه فيما عرفتموه من حسن خلقه وكرمه وشرفه وأمانته - أسوة حسنة؛ فكيف تركتم اتباعه إذا بعث رسولا؟!

والثاني: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ}، أي: صار لكم {فِي رَسُولِ اللّه} إذا بعث رسولا {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}: فيما أنزل إليه وأوحي إليه، وفيما شاهدتموه من حسن خلقه وكرمه؛ فالواجب عليكم أن تتاسوا به.

والثالث: لقد كان لكم بالمؤمنين أسوة استوائهم لو اتبعتم ما شرع لكم رسول اللّه وسن.

أو الأسوة: هي الاستواء؛ كقول الناس: " فلان أسوة غرمائه "، أي: يكون المال بينهم على الاستواء، هذا - واللّه أعلم - يشبه أن يكون تأويل الآية.

وقوله: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللّه وَالْيَوْمَ الْآخِرَ}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: يكون في رسول اللّه أسوة لمن خاف اللّه وآمن باليوم الآخر وبجزاء الأعمال، فأما المنافق والذي لا يؤمن بالبعث، فلا يكون فيه أسوة له.

وجائز أن يكون قوله: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللّه}، أي: لقد كان لكم أسوة حسنة، ولمن كان يرجو اللّه واليوم الآخر.

أو أن يكون لكم في رسول اللّه أسوة حسنة، وفيمن كان يرجو اللّه واليوم الآخر، واللّه أعلم.

وقوله: {وَذَكَرَ اللّه كَثِيرًا}.

ذكر اللّه يحتمل في نعمته وإحسانه، يذكر بالشكر له وحسن الثناء، أو يذكر سلطانه وملكه أو جلاله وعظمته وكبرياءه، واللّه أعلم.

٢٢

وقوله: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللّه وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللّه وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (٢٢)

حيث أخبرهم أنكم ستلقون كذا في قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ}: قالوا لما عاينوا ما وعد لهم وأخبرهم:

{هَذَا مَا وَعَدَنَا اللّه وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللّه وَرَسُولُهُ} فيما أخبرنا من الوحي قبل أن يكون وقبل أن نلقاه.

{وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا}.

أي: ما زادهم إلا إيمانًا ما رأوا وعاينوا، فيما وعد وأخبر، إلا إيمانًا وتصديقًا لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في وعده وخبره.

وقال قائلون: إن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قد وعد لهم وأخبر: أن يوم الخندق تكون من الأحزاب كذا والجنود كذا، وإنكم ستلقون يومئذ كذا، فلما رأوا ذلك وعاينوه قالوا عند ذلك: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللّه وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللّه وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا} وتصديقًا لرسول اللّه؛ لأن ذلك آية وحجة لرسالته؛ فهو يزيدهم تصديقًا له.

وقوله: {وَتَسْلِيمًا}، أي: تسليمًا لأمر اللّه وتفويضًا له.

وقيل: وما زادهم بما أصابهم يوم الخندق إلا إيمانًا وتصديقًا إلى تصديقهم الأول، ويقينا إلى يقينهم الأول، وتسليمًا لأمر اللّه؛ لأن ذلك الأمر كان قضي عليهم أن يصيبهم، فسلموا للّه أمره؛ فصبروا عليه، وأصله ما ذكرنا، واللّه أعلم.

٢٣

وقوله: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللّه عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (٢٣)

قوله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} يخرج على وجهين:

أحدهما: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} - الذين هم عندكم مؤمنون - {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللّه عَلَيْهِ}، ورجال لم يصدقوا وهم المنافقون؛ لأن ظاهر هذا الكلام يدل على أن من المؤمنين الذين هم في الظاهر عندهم مؤمنون لم يصدقوا، فأما من كان في الحقيقة مؤمنًا فقد صدق عهده.

والثاني: ذكر {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}؛ خص بعض المؤمنين بصدق ما عاهدوا وهم الذين خرجوا لذلك: لم يكن بهم عذر فوفوا ذلك العهد؛ وتخلف بعض من المؤمنين؛ للعذر؛ فلم يتهيأ لهم وفاء ذلك العهد لهم وصدقه؛ وكذلك يخرج قوله: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ}، أي: وفَّى بعهده. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ}.

بالوفاء أن يرتفع عنه العذر؛ فبقي ذلك، واللّه أعلم.

ثم قوله: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ}: وفاءه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ}، أي: هلك عليه، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} ذلك، أي على شرف الهلاك.

وقوله: {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}.

هذا يقوي التأويل الذي ذكرنا: أخبر في قوله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللّه عَلَيْهِ}: أن الذين خلفهم العذر فلم يوفوا عهده، والذين لا عذر بهم، فخرجوا فوفوا كلهم لم يبدلوا عهد اللّه تبديلا؛ لأنه إنما خلفهم العذر؛ فلم يكن في ذلك تبديل.

٢٤

وقوله: (لِيَجْزِيَ اللّه الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ (٢٤) على ما وفوا، {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ}: هذا يدل أن من المنافقين من قد يتوب؛ حيث قال: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ}، ويعذب الذي مات على نفاقه.

{إِنَّ اللّه كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}، أي: لم يزل غفورًا رحيمًا، حيث رحمهم، ولم يأخذهم وقت ارتكابهم الجرم، ولكن أمهلهم، واللّه أعلم.

٢٥

وقوله: (وَرَدَّ اللّه الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللّه الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللّه قَوِيًّا عَزِيزًا (٢٥)

أي: ردّ كفار مكة يوم الخندق، {لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: غنيمة، أي: ردهم بغيظهم، لم يصيبوا شيئًا من الغنيمة؛ فإن كان المراد من الخير: الغنيمة؛ فجائز أن يستدل على تملك أهل الحرب أموال المسلمين إذا أحرزوها، حيث قال: {لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا}، أي: مالا.

وجائز أن يكون قوله: {لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا}، أي: سرورا بما كانوا يأملون ويطمعون هلاك المؤمنين على أيديهم، لما أحاطوا بهم وضيقوا عليهم الأمر؛ حتى احتاجوا إلى الخندق؛ فكانوا في أيديهم. يقول: إنهم لم ينالوا ذلك السرور الذي كانوا يأملونه ويرجونه، واللّه أعلم.

وقوله: {وَكَفَى اللّه الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ}.

حبث بعث عليهم الريح وسلط عليهم الملائكة؛ حتى هزموهم حتى كفوا القتال والحرب معهم.

{وَكَانَ اللّه قَوِيًّا عَزِيزًا}.

أي: كان اللّه لم يزل قَوِيًّا عَزِيزًا؛ لأنه قوي بذاته عزيز بذاته لا يلحقه ذل، وإن لحق أولياءه الذل والضعف، ليس كملوك الأرض إذا ذهب أصحابهم أو دخل فيهم ذل وضعف؛ ذل ملكهم؛ لأنه عزيز بجنده وحشمه، فأمّا اللّه - سبحانه - فهو، قوي بذاته، عزيز بذاته، لا يلحقه ذل ولا ضعف بذهاب أوليائه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللّه عَلَيْهِ}: كان رجال فاتهم يوم بدر؛ فقالوا: لئن حضرنا قتالا، لنفعلن ولنفعلن، فلما كان يوم الأحزاب قاتلوا؛ فذلك قوله

{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللّه عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ}، أي: مات على ما عاهد اللّه عليه، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ}: يوما آخر يكون فيه قتال؛ فيقاتل على ما عاهد اللّه عليه، {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}.

وفي حرف أبي: (ومنهم من بدل)؛ فيرجع ذلك إلى المنافقين الذين ذكرنا بدءًا.

وقَالَ الْقُتَبِيُّ قوله: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ}، أي: خالية، وأصل العورة: ما ذهب عنه الستر والحفظ؛ فكأن الرجال ستر وحفظ للبيوت؛ فإذا ذهبوا، أعْوَرَتِ البيوت؛ تقول الرب: أعور المنزل، أي: ذهب ستره، أو سقط جداره، وأعور الفارس: إذا بدا فيه موضع خلل للضرب بالسيف.

يقول اللّه - تعالى - {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ}؛ لأن اللّه حافظها، ولكن يريدون الفرار.

وقوله: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا}، أي: من جوانبها، {ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ}، أي: الكفر، {لَآتَوْهَا}، أي: أعطوها من أرادها، {وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا}، أي: بالمدينة.

ومن قرأها: {لَآتَوْهَا} - بغير مدّ - أراد: لصاروا إليها.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: قولهم: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ}: من ناحية العدو، والعورة: الموضع الذي يخاف منه.

وقوله: {أَقْطَارِهَا}، أي: من نواحيها، الواحد: قطر، {ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ}، أي: عرضت عليهم، وهو الكفر.

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ}، يقول: آذوكم بالكلام، يقال: خطيب مِسْلَق وسلاق. وفيه لغة أخرى: (صلقوكم) بالصاد: وهو الضرب.

أَبُو عَوْسَجَةَ يقول قريبًا منه: {سَلَقُوكُمْ}، أي: كلموكم وضربوكم {بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ}، أي: طوال، والسلق: الضرب، والخاطب: السلاق والمسلاق من هذا، وهو طول اللسان والجرأة على الكلام.

وقوله: {لَا مَقَامَ لَكُمْ} بنصب الميم لا يكون إلا من القيام، و {لَا مُقَامَ لَكُمْ} برفع الميم يكون من الإقامة، وهو قول أبي عَوْسَجَةَ.

وأبو عبيدة يقول: {لَا مُقَامَ لَكُمْ}، أي: ليس لكم مقام تقومون فيه، و {لَا مُقَامَ}، أي: لا إقامة لكم.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: المقامة: المجلس، ومقامات - جمع المقام -: موضع القدمين، والمقام: الموضع الذي يقيم فيه الرجل.

وقال: {الْمُعَوِّقِينَ}، قال: المتعوق: المحتبس، والمعوق: الذي يعوق غيره، أي: يحبس.

وقوله: {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ}، أي: حراضا على ما نالكم من الشر، الواحد: شحيح، يقال: شح يشح شحًّا؛ فهو شحيح، أي: حرص يحرص حرصا؛ فهو حريص.

وقال غيره: {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ}، أي: بخلاء، لا ينفقون عليكم أو في سبيل اللّه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا}؛ من شدة الفرق؛ فهم هَؤُلَاءِ المعوقون: اليهود أو المنافقون، {وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ}: والأحزاب: هم الفرق أعداء رسول اللّه وأصحابه، {يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ}، يقول: خارجون في الأعراب من الرهبة، {يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ}: يسألون عن خبر المؤمنين ساعة بعد ساعة؛ جزعًا ورهبة، يقول اللّه للمؤمنين: {وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ} أي: معكم عند القتال هَؤُلَاءِ الذين تقدم ذكرهم {مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا} رميا بالحجارة؛ من ضعفهم وفرقهم، أو ما ذكرنا؛ دفعًا عن أنفسهم، وأمَّا غيره فلا.

٢٦

وقوله: (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (٢٦)

ذكر في القصة: أن اليهود: يهود بني قريظة ظاهروا أبا سفيان وأصحابه على رسول اللّه وعلى المؤمنين، ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبينه، فلما انهزم المشركون تحصن بنو قريظة في حصونهم، ورجع النبي إلى المدينة، فجاءه جبريل، فقال له: " يا مُحَمَّد، واللّه ما وضع أهل السماء أسلحتهم، وقد وضعتم أنتم أسلحتكم، اخرج إلى بني قريظة؛ فقال له النبي: " فكيف أصنع بهم وهم في حصنهم؟ " قال: اخرج إليهم؛ فواللّه لأدقنهم بالخيل والرجال كما تدق البيضة على الصفا، ولأخرجنهم من حصنهم؛ فنادى رسول اللّه، في الناس، وأمر بالخروج إلى بني قريظة؛ فخرجوا فحاصروهم كذا كذا ليلة؛ حتى صالحهم على حكم سعد بن معاذ؛ فنزلوا على حكمه؛ فحكم سعد؛ أن يقتل مقاتلتهم، ويُسبى ذراريهم ونساؤهم، فقيل: إن رسول اللّه قال يومئذ: " يا سعد، لقد حكمت بحكم اللّه "؛ فأخرجت المقاتلة فقتلوا، وسبوا ذراريهم، وقسم أرضهم بين المهاجرين؛ فقال قومه والأنصار: آثرت المهاجرين بالعقار دوننا، فقال: " إنكم ذوو عقار وإن القوم لا عقار لهم "، أو كلام نحو هذا، فذلك قوله: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}، يعني:

الذين ظاهروا أبا سفيان والمشركين جميعًا على رسول اللّه وأصحابه، {مِنْ صَيَاصِيهِمْ}، أي: من حصونهم.

{وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ}، وهم المقاتلة، {وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا}، وهم النساء والذراري.

٢٧

(وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (٢٧) أي: لم تملكوها، اختلف في قوله: {وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا}:

قَالَ بَعْضُهُمْ: هي أرض مكة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هي أرض الشام وقراها.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هي أه ض خيبر، أي: سيورثكم اللّه إياها: فأما أرض مكة فقد فتحها وتركها في أيدي أهلها، وكذلك بلاد الشام وقراها.

وعن الحسن: هي أرض الروم وفارس وما فتح اللّه عليكم.

وأما خيبر فقد فتحها وقسمها بين من ذكرنا وجعلها فيئًا؛ فهو أشبه من غيره؛ ففيه أن من يخلف في ملك غيره وصفا ملكه للآخر وانتقل إليه يسمى: وارثًا بموت أو بغيره؛ حيث قال: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ. . .} الآية، وكذلك ما قال: {وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ. . .} إلى كذا،

وقوله: {يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ}، أي: يبعثون فيها، ونحوه، وكقوله: {وَللّه مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، أي: يبقى له ملك السماوات والأرض، أي: لا ينازع فيه. وكذلك يخرج قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ}، أي: نبقى فيها، والخلائق يفنون.

ثم الفائدة في ذكر هذا وأمثاله لنا، إذ هم قد شاهدوها وعاينوها، يخرج على وجوه: أحدها: تعريف لآخر هذه الأمة أن أوائلهم ما قاسوا وما تحملوا من الشدائد والبلايا في أمر هذا الدِّين، حتى بلغ هذا المبلغ؛ فنجتهد نحن كما اجتهد أُولَئِكَ في حفظ هذا الدِّين وفي أمره.

والثاني: أمرهم بالتأهب مع العدوّ حتى أمروا بالخندق والتحصن بأشياء، ثم جاءهم الغوث من اللّه بغير الذي أمروا؛ ليكونوا أبدًا متأهبين مستعدين لذلك، ولا يرجون النصر

والظفر من ذلك الوجه، وذلك بفضل اللّه ونصره، على ما أخبر عنهم: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا. . .} الآية.

والثالث: ألا يؤيسهم خروج أنفسهم من أيديهم، وإحاطة العدو بهم، وكونهم في أيديهم من روح اللّه ورحمته وغوثه إياهم؛ لأن الخوف قد بلغ بهم المبلغ الذي ذكر؛ حيث قال: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ. . .} إلى قوله: {وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}.

وفيه دلالة إثبات الرسالة لرسول اللّه؛ لأنه وعد لهم النصر، فكان على ما وعد؛ ليعرفوا أصدقه، في كل ما يخبر ويعد.

{وَكَانَ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا}، أراد: من فتح، أو نصر، أو غيره، {قَدِيرًا}.

وقَالَ الْقُتَبِيُّ وأَبُو عَوْسَجَةَ: {قَضَى نَحْبَهُ}، أي: قتل، وقضى أجله، وأصل النحب: النذر؛ كأن قومًا نذروا: إن لقوا العدو أن يقاتلوا حتى يقتلوا أو يفتح اللّه، فقتلوا.

وقوله: {مِن صَيَاصِيهِمْ}: حصونهم، وأصل الصياصي: قرون البقر؛ لأنها تمتنع بها، وتدفع عن أنفسها، فقيل للحصون: صياصي؛ لأنها تمنع، والواحدة: صِيصِيَة، وصيصية الديك: عرفه، والصيصية: خف صغير يحوك به الحائك، ويجمع هذا كله: صياصي.

والأحزاب: الفرق، واحدها: حزب، ويقال: حزبت القوم، أي: جمعتهم، وحزبتهم، أي: فرقتهم، وتحزب القوم: إذا اجتمعوا وصاروا حزبًا حزبًا، وتقول: هَؤُلَاءِ حزبي، أي: أصحابي وشيعتي، وتقول: حازبني محازبة، أي: صاحبني مصاحبة.

وقوله: {بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ}، أي: أن يكونوا في البادية مع الأعراب، رجل باد: قد نزل البادية، {يَوَدُّوا}، أن يكونوا في البادية مع الأعراب.

وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: {وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا}: هو ما يظهر عليه المسلمون إلى يوم القيامة.

٢٨

وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا ... (٢٨)

قال بعض أهل التأويل: إنهن جلسن، فجعلن يخترن الأزواج في حياة رسول اللّه، فنزلت الآية توبيخًا لهن وتعييرًا على ذلك.

لكن هذا بعيد محال: لا يحتمل أن يكون أزواجه يخترن الأزواج، وهن تحته في حياته؛ فذلك سوء الظن بهن.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنهن طلبن النفقة منه؛ فنزل ما ذكر.

وقيل: إنهن تحدثن بشيء من الدنيا وركنَّ إليها؛ فنزل ما ذكر عتابًا لهن وتعييرًا، ونحو ذلك قد قالوا.

وجائز أن يكون اللّه يمتحن رسوله وأزواجه بالتخيير واختيار الفراق منه - ابتداء امتحان من غير أن يكون منهن شيء مما ذكروا ولا سبب؛ وعلى ذلك روي في الخبر عن عائشة - رضي اللّه عنها - قالت: " لما أمر رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بتخيير أزواجه؛ بدأ بي فقال: " يا عائشة، إني ذاكر لك أمرًا، فلا عليك ألا تستعجلي حتى تستأمري أبويك "، قالت: وقد علم اللّه أن أبوي لم يكونا ليأمراني بفراقه، قالت: ثم قال: " إن اللّه يقول: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا. . .} إلى قوله: {أَجْرًا عَظِيمًا}؛ فقلت: أفي هذا أستأمر أبوي؟! فإني أريد اللّه ورسوله والدار الآخرة. وفعل سائر أزواجه مثل ما فعلت ".

وفي بعض الأخبار أنها قالت: بل أختار اللّه ورسوله والدار الآخرة؛ فدل قولها: " لما أمر رسول اللّه بتخيير أزواجه ": أن ذلك من اللّه ابتداء امتحان، من غير أن كان منهن ما ذكروا من الركون إلى الدنيا والتحدث بما ذكر.

وفيه وجوه من الدلالة:

أحدها: إباحة طلب الدنيا وزينتها من وجه يحل ويجمل، حيث قال: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا}؛ لأنه لو لم يكن يحل ذلك لهن، وكن منهيات عن ذلك، لكان رسول اللّه لا يفارقهن؛ حتى لا يخترن المنهي من الأمر، وقد كان يملك حبسهن في ملكه؛ حتى لا يخترن ما ذكره من المنهي؛ دل ذلك - واللّه أعلم - أن ذلك كان على وجه يحل ويجمل.

وفيه أن رسول اللّه لم يكن عنده ما ذكر من الدنيا والزينة وما يستمتع بها؛ إذ لو كان عنده ذلك، لم يحتمل أن يخيرهن بالفراق منه لما ذكر وعنده ذلك، ولا هن يخترن الفراق منه وعنده ذلك؛ دل أنه لم يكن عنده ما ذكر، ويبطل قول من يقول: إنه كان عنده الدنيا ويفضل الغناء على الفقر بذلك.

وفيه دلالة: أن أزواجه كن يحللن لغيره في حياته إذا فارقنه؛ لأنهن إذا لم يحللن لغيره لم يكن لقوله: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} معنى؛ لأنهن إذا لم يحللن لغيره، وعندهن ما ذكر من الدنيا، يحملهن ذلك على الفجور؛ فدل أنهن كن يحللن لغيره في حياته إذا فارقهن، وإنما لم يحللن لغيره إذا مات؛ فيكون له حكم الحياة كأنه حيٌّ في حق أزواجه.

ويخرج قوله: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}: في الآخرة لا تحل لغيره؛ فتكون زوجته في الجنة.

ثم اختلف الصحابة - رضي اللّه عنهم - فيمن خير امرأته فاختارت:

قَالَ بَعْضُهُمْ: إذا خيرها فهو تطليقة رجعية، وإذا اختارت فهي بائنة، وهو قول عليَّ.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: إذا اختارت نفسها فهي ثلاث، وإذا اختارت زوجها فلا شيء.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: إذا اختارت زوجها، فهي تطليقة رجعية، وإن اختارت نفسها فهي تطليقة بائنة.

وعندنا: أن التخيير نفسه لا يكون طلاقًا، فإن اختارت زوجها، لا شيء، وإذا اختارت نفسها؛ فهي بائن.

أما قولنا: إذا اختارت زوجها لا شيء؛ لما روي عن عائشة قالت: " خيرنا رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فاخترناه " فلم يعد ذلك طلاقا.

وأما قوله: إذا اختارت نفسها فيكون بائنا؛ لأنه خيرها بين أن تختار نفسها لنفسها وبين أن تختار نفسها لزوجها؛ فإن اختارت نفسها ألنفسها، فهي بائن؛ لأنا لو جعلناه رجعيّا لم يكن اختيارها نفسها لنفسها، ولكن لزوجها؛ إذ لزوجها أن يراجعها شاءت أو أبت، وكان التخيير بين النفسين، على ما ذكرنا.

وأما قول من يقول بأن نفس التخيير طلاق فهو باطل؛ لما ذكرنا من تخيير رسول اللّه أزواجه؛ فلم يكن ذلك طلاقًا.

وأما من قال بالثلاث إذا اختارت نفسها فهو كذلك عندنا إذا ذكر في التخيير الثلاث.

وأما قول من قال بالرجعي، فهو إذا صرح بالتطليق؛ فهو كذلك، واللّه أعلم.

وقوله: {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا}: الإرادة هاهنا: إرادة الاختيار والإيثار حياة الدنيا وزينتها، لا ميل القلب والرضاء به، وكذلك قوله: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللّه وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ}.

هو إرادة الاختيار والإيثار، وهو ما يراد ويختار فعلا، لا ميل القلب والرضاء به؛ لأن كل ممكن فيه الشهوة مجعول فيه هذه الحاجة يميل قلبه، ويركن إلى ما يتمتع بحياة الدنيا ولذاتها، ويرضاه ويحبه؛ فدل أنه أراد إرادة الفعل والاختيار لا إرادة القلب ورضاه.

ثم فيه ما ذكرنا من حلهن لغير رسول اللّه إذا اخترن الفراق منه؛ لما ذكر أنه يمتعهن ومعلوم أنهن لا يكتسبن بأنفسهن حتى يتمتعن بذلك، ولم يكن عندهن ما يستمتعن؛ فدل أنه إنما يمتعهن بأموال أزواجهن؛ فدل على حلهن لغيره في حياته إذا فارقنه واللّه أعلم.

٢٩

وقوله: (وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللّه وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللّه أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (٢٩)

معلوم أنهن إذا اخترن الحياة الدنيا وزينتها لا يحتمل ألا يردن اللّه، لكن إضافة ذلك إلى اللّه لاختيارهن المقام عند رسوله؛ فيدل ذلك أن كل ما أضيف إلى اللّه ورسوله كان المراد به رسوله؛ نحو ما قال: {فَأَنَّ للّه خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ}،

وقوله: {قُلِ الْأَنْفَالُ للّه وَالرَّسُولِ}، وأمثال ذلك.

ثم الزهد في الدنيا يكون بوجهين:

أحدهما: ترك المكاسب التي توسع الدنيا، ويكون بها السعة في الدنيا، ويؤثرها لغيرها على نفسه، واختيار حال الضيق من غير تحريم ما أحل وطيب له.

والثاني: بذل ما عنده لغيره وإيثاره على نفسه وجعله أولى به منه، لا في تحريم المحللات والطيبات.

وقوله: {فَإِنَّ اللّه أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا}.

يحتمل قوله: {أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا}، أي: إذا اخترن المقام عند رسول اللّه يصرن محسنات بذلك؛ فأعدّ لهن ما ذكر؛ فيكون ذلك الاختيار منهن: الإحسان؛ فاستوجبن ما ذكر: ويحتمل: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللّه وَرَسُولَهُ}، ودمتن على ذلك واكتسبتن الأعمال الصالحات والإحسان حتى ختمتن على ذلك، فأعد لكن ذلك لا بنفس اختيار مقامكن معه، واللّه أعلم.

٣٠

وقوله: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّه يَسِيرًا (٣٠)

قَالَ بَعْضُهُمْ: الفاحشة المبينة هي النشوز البين.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا، بل الفاحشة المبينة هي الزنا الظاهر، ويقال: مبينة بشهادة أربعة عدول، ومبينة بالكسر، أي: مبينة ظاهرة.

{يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ}: الجلد والرجم في الدنيا، ولكن كيف يعرف ضعف الرجم في الدنيا من لا يعرف حد رجم واحد إذا كان ذلك في عذاب الدنيا، وإن كان ذلك في عذاب الآخرة؛ فكيف ذكر فاحشة مينة، وذلك عند اللّه ظاهر بين؟

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} في الدنيا والآخرة: أما في الدنيا فَمِثْلَي حدود النساء، وأما في الآخرة فضعفي ما يعذب سائر النساء، فجائز أن يكون هذا صلة قوله: {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} إذا اخترن الدنيا؛ فمتى أتين بفاحشة ضوعف لهن من العذاب ما ذكر وإذا اخترن المقام عند رسول اللّه والدار الآخرة آتاهن الأجر مرتين.

أو أن يكون إذا اخترن المقام عند رسول اللّه والدار الآخرة، ثم أتين بفاحشة ضوعف لهن ما ذكر من العذاب؛ لئلا يحسبن أنهن إذا اخترن اللّه ورسوله والدار الآخرة، ثم ارتكبن ما ذكر لم يعاقبن، فذكر: أنهن إذا اخترن اللّه ورسوله والدار الآخرة، ثم ارتكبن ما ذكر عوقبن ضعف ما عوقب به غيرهن، وإذا أطعن اللّه ورسوله، ضوعف لهن الأجر مرتين، واللّه أعلم.

والأشبه أن يكون ما ذكر من ضعف العذاب في الآخرة على ما يقول بعض أهل التأويل؛ ألا ترعى أنه ذكر لهن الأجر كفلين، ومعلوم أن ذلك في الآخرة؛ فعلى ذلك العذاب.

وأما قوله: {مُبَيِّنَةٍ}: عند الخلق، وإن كانت عند اللّه مبينة ظاهرة، وذلك جائز في

اللغة.

وقوله: {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّه يَسِيرًا}.

هذا يحتمل وجهين:

أحدهما: أي: عذابهن على اللّه يسيرًا هينا لا يثقل عليه ولا يشتد لمكان رسول اللّه؛ بل على اللّه يسير هين.

والثاني: أن إتيانكن الفاحشة ومعصيتكن على اللّه يسير، أي: لا يلحقه ضرر ولا تبعة، ليس كمعصية خواص الملك له في الدنيا: يلحقه الضرر والذل إذا عصوه وأعرضوا عنه، فأمَّا اللّه - سبحانه - عزيز بذاته غني لا يضره عصيان عبده؛ بل ضروا أنفسهم.

٣١

وقوله: (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ للّه وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (٣١) أي: من يطع منكن للّه ورسوله، {وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ}.

في الآية دلالة بيان فضيلة أزواج رسول اللّه؛ لمكان رسول اللّه وعظيم قدره، حيث خاطبهن من بين غيرهن من النساء كما خاطب مريم بقوله: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ}.

ثم يحتج الشافعي بقوله: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} لتأويله في قوله: الطلاق مرتان بقولة، يقول: قوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ}، أي: تطليقتان في دفعة واحدة من غير إحداث التطليق والفعل فيما بينهما؛ ويستدل على ذلك بقوله: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ}، أي: أجرين من غير إحداث فعل فيما بينهما ولكن بفعل واحد،

وقوله: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ}، أي: أجرين.

لكن عندنا يجوز الإيتاء بمعنى الإيجاب، أي: يوجب لها الأجر مرتين؛ نحو قوله: {فَآتَاهُمُ اللّه ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ}، أي: أوجب لهم ثواب الدنيا وثواب الآخرة؛ فعلى ذلك ما ذكر ونحوه كثير، واللّه أعلم.

٣٢

وقوله: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (٣٢)

قال بعض أهل الأدب: (أحد) أجيع في الكلام من (واحد)؛ لأنه يرجع إلى واحد وإلى جماعة،

وقوله: (واحد) إنما يرجع إلى الفرد خاصة، وإنما يخاطب به الواحد.

وقوله: {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ}.

يحتمل قوله: {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} اختيار الدنيا وزينتها، واتقيتن أيضًا نقض اختيار رسول اللّه والدار الآخرة.

وجائز أن يكون على الابتداء: إن اتقيتن مخالفة اللّه ومخالفة رسوله.

وقوله: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ}؛ فإنكن معشر أزواج رسول اللّه تنظرن إلى الوحي، وتصحبن رسول اللّه بالليل والنهار، وترين أفعاله وصنيعه؛ فإنكن أحق الناس بالتقوى وترك الميل إلى الدنيا والركون إليها ممن لا ينظر إليه ولا يصحبه إلا في الأوقات مرة.

أو أن يكون قوله: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} في الفضيلة على غيرهن من النساء؛ لأنهن يكن أزواج رسول اللّه في الآخرة، ويرتفعن إلى درجات رسول اللّه ويكن معه؛ فإنكن لستن كغيركن من النساء في الفضيلة والدرجة إن اتقيتن ما ذكرنا: من مخالفة رسول اللّه واختيار الحياة الدنيا وزينتها، والميل إليها والركون فيها، واللّه أعلم.

وقوله: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ}، قيل: فلا تلنّ في القول.

{فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ}

قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: فجور وزنًا.

{وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا}، أي: خشنًا شديدًا.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ}، أي: نفاق، وهذا أولى؛ لأن أصحاب رسول اللّه لا يحتمل أن يكون أحد منهم يطمع في أزواج رسول اللّه نكاحًا بحال أو رغبة فيهن، بعد علمنا منهم أنهم إذا علموا من رسول اللّه رغبة في أزواجهم طلقوهن؛ ليتزوجهن رسول اللّه؛ فلا يحتمل بعدما عرف منهم هذا أن يطمع أحد منهم ويرغب في أزواجه نكاحًا، فضلا أن يرغب فجورا، ولكن إن كان ذلك فهو من أهل النفاق.

وجائِز أن يرغبوا - فيهن نكاحًا؛ لأنهن أعظم الناس نسبًا وحسبًا، وأكرمهم جمالا وحسنًا؛ فجائز وقوع الرغبة فيهن من أهل النفاق؛ لما ذكرنا، وأما من أهل الإيمان فلا يحتمل ذلك؛ لما ذكرنا، ويدل على ذلك قوله: {وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا}؛ دل هذا أنهن بحيث يرغب فيهن ويطمع.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ}، يقول: فلا ترمين بقول يقارب الفاحشة، فيطمع الذي في قلبه مرض.

{وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا}.

يعني: قولا حسنًا يعرف، لا يقارب الفاحشة.

لكن هذا بعيد، وأصله: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} أي: لا تقلن قولا يعرف به الرغبة في الرجال، والميل إلى الدنيا، والركون فيها {وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا}: ما يكون فيه تغيير المنكر والأمر بالمعروف، واللّه أعلم.

٣٣

وقوله: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ... (٣٣)

قد قرئ بكسر القاف وفتحها، فمن قرأ بالكسر فهو من الوقار، ومن قرأ بالفتح: {وَقَرْنَ} جعله من القرار والسكون فيها.

وقوله: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: تبرج الجاهلية الأولى قبل أن يبعث رسول اللّه؛ كان يخرج نساؤهم متبرجات بزينة مظهرات، فأمر اللّه أزواج رسوله بالستر والحجاب عليهن، وإدناء الجلباب عليهن، وهو ما قال: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ}.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} قال. الجاهلية التي ولد فيها إبراهيم، أعطوا أموالا كثيرة، وكن يتبرجن في ذلك الزمان تبرجًا شديدًا؛ فأمر أزواجه بالعفة والترك لذلك، فلسنا ندري ما أراد بالجاهلية، ومن أراد بذلك: الذين كانوا بقرب خروج رسول اللّه وبعثه، أو الذين كانوا من قبل في الأمم السالفة؟

والتبرج كأنه هو الخروج بالزينة على إظهار لها؛ أعني: إظهار أن زينة.

قَالَ الْقُتَبِيُّ: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} أي: لا تلنّ به.

وقوله: {وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} أي: صحيحًا.

وقوله: {وَقِرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} بالكسر من الوقار، ويقال: وقر في منزله يقر وقورًا، {وَقَرْنَ} بفتح القاف من القرار، وكأنه من: قر يقر أراد أقررن في بيوتكن، فحذف الراء الأولى وحول فتحها إلى القاف، كما يقال: ظلن في موضع كذا، من اظللن؛ قال اللّه - تعالى -: {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ}، ولم نسمع قَرَّ يَقِزُ إلا في موضع قرة العين، فأما في الاستقرار فإنما هو قَزَ يَقَرُّ.

وقوله: {وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَا} يحتمل أن يكون الأمر لهن بإيتاء الزكاة من حليهن؛ لأنهن لا يملكن شيئًا سوى ذلك ما يجب في مثله الزكاة؛ ألا ترى أنه وعد لهن التمتيع والسراح الجميل إذا أردن الحياة الدنيا وزينتها، فلو كان عندهن شيء من فضول الأموال كن ينفقن ويتمتعن، وإن لم يكن عند رسول اللّه ما يمتعهن ولا يطلبن ذلك من

غيره، فدل ذلك أنهن لا يملكن شيئا من ذلك، فيجوز أن يستدل بظاهر هذه الآية في إيجاب الزكاة فِي الحلي، وكذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللّه عَنْهُ.

وقوله: {وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللّه وَرَسُولَهُ} أمرهن بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والطاعة للّه ورسوله؛ لئلا يغتررن بما اخترن المقام مع رسول اللّه وإيثارهن إياه على أن ذلك كاف لهن في الآخرة، ولا شيء عليهن سوى ذلك من العبادات؛ بل أخبر أنكن وإن اخترتن المقام معه وآثرتن إياه على الدنيا وزينتها لا يغنيكن ذلك عما ذكر، واللّه أعلم.

وقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} قال بعضهم: إن هذه الآية مقطوعة عن الأولى؛ لأن الأولى في أزواج رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وهذه في أهل بيته، وهو قول الروافض، ويستدلون بقطعها عن الأولى بوجوه:

أحدها: ما روي عن أم سلمة زوج النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنها قالت: عنى بذلك عليًّا وفاطمة والحسن والحسين، وقالت: لما نزلت هذه الآية، أخذ النبي ثوبًا، فجعله على هَؤُلَاءِ، ثم تلا الآية: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} فقالت أم سلمة من جانب البيت: يا رسول اللّه، ألست من أهل البيت؟ قال: " بلى إن شاء اللّه ".

وعن الحسن بن علي أنه خطب الناس بالكوفة وهو يقول: يا أهل الكوفة، اتقوا اللّه فينا فإنا أمراؤكم، وإنا ضيفانكم، ونحن أهل البيت الذي قال اللّه - تعالى -: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ}.

ويقولون -أيضًا-: إن الآية الأولى ذكرها بالتأنيث حيث قال: {وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللّه وَرَسُولَهُ} وهذه ذكرها بالتذكير دل أنها مقطوعة عن الأولى.

ويقولون -أيضًا-: إنه وعد أن يذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيرًا وعدًا مطلقًا غير مقيد، وذلك الرجس الذي ذكر مما يحتمل أزواجه ممكن ذلك فيهن غير ممكن في أهل بيته ومن ذكره.

ويقولون -أيضًا- ما روي عنه أنه قال: " تركت فيكم بعدي الثقلين: كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما ليردان بكم الحوض " أو كلام نحو هذا، ففسر

العترة بأهل البيت، ونحو ذلك من الوجوه.

وأما عندنا فهي غير مقطوعة من الأولى: إما أن يكون على الاشتراك بينهن وبين من ذكروا من أولاده؛ إذ اسم أهل البيت مما يجمع ذلك كله في العرف.

أو تكون الآية لهن على الانفراد، فأمَّا أن يخرج أزواجه عن أهل بيته والبيت يجمعهم، فلا يحتمل ذلك.

وأما قولهم: إنه ذكر هذه الآية بالتذكير والأولى بالتأنيث فعند الاختلاط كذلك يذكر باسم التذكير.

وأمَّا قولهم: إن وعده لهم منه خرج مطلقًا غير مقيد، فكذلك كن أزواج رسول اللّه لم يأت منهن ما يجوز أن ينسبن إلى الرجس والقذر إلا فيما غلبن على رأيهن وتدبيرهن بالحيل، فأخرجن فيما أخرجن.

وأما قولهم في الثقلين اللذين تركهما فينا بعده: الكتاب والعترة، فعترته: سنته؛ على ما قيل،

وقوله: " أهل بيتي " كأنه قال: تركت الثقلين كتاب اللّه وسنتي بأهل بيتي، وذلك جائز في اللغة.

وأما ما روي عن أم سلمة فإنه في الخبر بيان على أن أزواجه دخلن حيث قالت له أم سلمة: ألست من أهل البيت؟ قال: " بلى إن شاء اللّه ".

وفي هذه الآية دلالة نقض قول المعتزلة من وجوه:

أحدها: ما يقولون: إن اللّه قد أراد أن يطهر الخلق كلهم: الكافر والمسلم، وأراد أن يذهب الرجس عنهم جميعًا، لكن الكافر حيث أراد ألا يطهر نفسه ولا يذهب عنه الرجس لم يطهر، فلو كان على ما يقولون لم يكن لتخصيص هَؤُلَاءِ بالتطهر ودفع الرجس عنهم فائدة ولا منة - دل أنما يطهر من علم منه اختيار الطهارة وترك الرجس، وأما من علم منه اختيار الرجس فلا يحتمل أن يذهب عنه الرجس، أو يريد منه غير ما يعلم أنه يختار، وأن التطهير لمن يكون إنما يكون باللّه، لا بما تقوله المعتزلة؛ حيث قال: {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}؛ إذ على قولهم لا يملك هو تطهير من أراد تطهيره؛ إذ لم يبق عنده ما يطهرهم، فذلك كله ينقض عليهم أقوالهم ومذهبهم.

٣٤

وقوله: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللّه وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللّه كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (٣٤)

هذا يحتمل وجهين:

أحدهما: قوله: {وَاذْكُرْنَ} أي: اتلون ما يتلى في بيوتكن من آيات اللّه والحكمة، وجعل بيوتكن موضعًا لنزول الوحي.

والثاني: اذكرن على حقيقة الذكر؛ أي: اذكرن ما من اللّه عليكن، وجعلكن من أهل بيت يتلى فيه آيات اللّه والحكمة، وجعل بيوتكن موضعًا لنزول الوحي فيها، وخصكن بذلك، ما لم يجعل في بيت أحد ذلك، يذكرهن عظيم ما أنعم ومن عليهن؛ ليتأذى به شكره؛ ليعرفن منن اللّه ونعمه عليهن.

وقوله: {مِنْ آيَاتِ اللّه} يحتمل آيات القرآن.

ويحتمل حججه وبراهينه.

والحكمة: قالت الفلاسفة: الحكيم: هو الذي يجمع العلم والعمل جميعًا.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحكيم: المصيب، والحكمة: هي الإصابة.

وقيل: هي وضع الشيء موضعه، وهي نقيض السفه.

وأصل الحكمة في الحقيقة كأنه هي الإصابة في كل شيء، والحكيم: هو الذي لا يلحقه الخطأ في الحكم ولا الغلط.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحكمة - هاهنا - هي السنة.

وقوله: {إِنَّ اللّه كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} اللطيف: هو البار؛ يقال: فلان لطيف: إذا كان بارًّا.

والثاني: اللطيف: هو الذي يستخرج الأشياء الخفية الكامنة مما لا يتوهمها العقول استخراجها من مثلها.

٣٥

وقوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ. . .} إلى آخر ما ذكر.

إن أم سلمة زوج النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وامرأة يقال لها: نسيبة بنت كعب، [أتيتا] رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -

فقالتا: يا رسول اللّه، ما بال ربنا يذكر الرجال في القرآن بالخير، ولا يذكر النساء في شيء؛ فنزل: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ. . .}.

ثم قوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} يدل أن الإسلام والإيمان هما في الحقيقة واحد - أعني: في الحقيقة المعنى واحد - وإن كانا مختلفين بجهة؛ لأن الإسلام هو أن يجعل كل شيء للّه سالمًا خالصًا، لا يجعل لغيره فيه شركًا ولا حقا، والإيمان هو التصديق للّه بشهادة كل شيء له بالوحدانية والربوبية والألوهية، فمن جعل الأشياء كلها للّه، خالصة سالمة له، والذي صدق اللّه بشهادة كلية الأشياء له بالوحدانية والربوبية واحد؛ لأن المخلص هو الذي يرى كل شيء للّه خالصًا، والموحد هو الذي يرى الوحدانية له والربوبية في كل شيء؛ فهما في حقيقة المعنى واحد، واللّه أعلم.

وقوله: {وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} القنوت: هو القيام في اللغة؛ روي أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سئل عن أفضل الصلاة؟ فقال: " طول القنوت "، وفي بعضه: " طول القيام "، فسر القنوت بالقيام؛ فثبت أن القنوت هو القيام، فيكون تأويله - واللّه أعلم -: القائمين والقائمات بجميع أوامر اللّه ومناهيه. وكذلك يخرج تأويل أهل التأويل: القائمين: المطيعين والمطيعات للّه؛ لأن كل قائم بأمر آخر فهو مطيع له، هذا كأنه يقول: يكون في الاعتقاد، واللّه أعلم.

وقوله: {وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ. . .} إلى أَخره؛ يكون في المعاملة في تصديق ما اعتقدوا وقبلوا، يصدقون ويوفون بالأعمال فيما اعتقدوا وقبلوا.

وقوله: {وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ} الصبر: هو كف النفس وحبسها عن التعاطي في جميع المحرمات المحظورات، وعلى ذلك يخرج قول أهل التأويل: الصابرين على أمر اللّه وطاعاته، وعلى الأذى والمصائب، يكفون عن جميع ما لا يحل فيه، ويرون ذلك من تقديره.

وقوله: {وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ}

قَالَ بَعْضُهُمْ: الخاشع: المتواضع.

وأصل الخشوع: هو الخوف اللازم في القلب؛ وهو قول الحسن: يخافون اللّه في كل حال، لا يخافون غيره، ويرجون اللّه، ولا يرجون غيره؛ هكذا عمل المؤمن: يكون حقيقة خوفه ورجائه منه.

وأمَّا الكافر فإنه لا يخاف ربه، ولا يرجو منه؛ لأنه لا يعرفه ولا يخضع له، وعلى ذلك المعتزلة إنما خوفهم من أعمالهم السيئة ورجاؤهم منها - أعني: من أعمالهم الحسنة - لا من اللّه حقيقة، وكذلك على قولهم: لا يكون لأحد رجاء في شفاعة رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إنما رجاؤه في أعماله؛ لقولهم: أن ليس للّه في أفعال العباد شيء من تدبيره ولا تقديره.

وقوله: {وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ} أي: المنفقين في طاعة اللّه {وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ} قد ذكر أن هذا راجع إلى حقيقة الفعل في الصيام، والصدقة، والصدق في القول والمعاملة، والخشوع منه.

وجائز أن يكون في القبول والاعتقاد؛ على ما ذكرنا، واللّه أعلم.

وقوله: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} فيما لا يحل؛ كقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ. إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ}.

وقوله: {وَالذَّاكِرِينَ اللّه كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ}

قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: المصلون للّه الصلوات الخمس.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الذاكرين اللّه كثيرًا والذاكرات باللسان على كل حال، لكن غيره كأنه أولى بذلك؛ أي: الذاكرين حق اللّه الذي عليهم كثيرًا والذاكرات {أَعَدَّ اللّه لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}.

٣٦

وقوله: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّه وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ... (٣٦)

قال جعفر بن حرب المعتزلي: دلت هذه الآية على أن الكفر مما لم يقضه اللّه؛ لأنه لو كان مما قضاه اللّه لكان لا يكون لهم الخيرة والتخيير، فإذا قال: إنه إذا قضى اللّه ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة، دل أنه مما لم يقضه اللّه، لكن يقول: إن القضاء - هاهنا - ليس هو قضاء الخلق؛ على ما فهم هو، ولكن القضاء - هاهنا - الأمر أو الحكم؛ كقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}، أي: أمر ربّك وأوجب ألا تعبدوا إلا إياه.

أو أن يكون الحكم؛ كقوله: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ}، أي: مما حكمت؛ فإذا كان القضاء يحتمل الأمر والحكم؛ على ما ذكرنا، فيكون كأنه قال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّه وَرَسُولُهُ أَمْرًا}، أي: إذا أمر اللّه ورسوله أمرًا، وإذا حكم اللّه ورسوله أمرًا أن يكون له الخيرة من أمرهم، وهكذا يكون فيما أمر اللّه ورسوله بأمر أو حكم يحكم ألا يكون لأحد التخيير في ذلك.

ومما يدل -أيضًا- على أن القضاء أيضًا - هاهنا - ليس هو القضاء الذي فهم المعتزلة؛ حيث أضاف ذلك إلى رسوله -أيضًا- حيث قال: {إِذَا قَضَى اللّه وَرَسُولُهُ أَمْرًا}، ولا شك أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان لا يملك القضاء الذي هو قضاء خلق؛ دل أن المعتزلة أخطأت وغلطت في فهم ذلك، وقصرت عقولهم عن درك ذلك، وأن التأويل ما ذكرنا نحن.

ثم أجمع أهل التأويل على أن قوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّه وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} إنما نزل في زينب بنت جحش؛ يذكرون أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان أعتق زيد بن حارثة وتبناه، وكان مولى له، فخطب له زينب بنت جحش، فقالت زينب: إني لا أرضاه لنفسي وأنا من أتم نساء قريش - وكانت ابنة عمة رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أميمة بنت عبد المطلب - فقال لها النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " قد رضيته لك، فزوجي نفسك منه " فأبت ذلك؛ فنزل قوله فيها: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّه وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}، لكن إذا كان على ما يذكرون من الخطبة لها؛ فلا يحتمل أن يجبرها على

النكاح، وقد قال النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " ليس للولي مع الثيب أمر "، وقال النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " البكر تستأمر في نفسها، والثيب تشاور "، ثم تجيء الآية في جبرها على النكاح ممن لا ترضاه إلا أن يكون على الأمر من اللّه - تعالى - ومن رسوله، فعند ذلك لا يكون لها التخير في ذلك؛ لأن اللّه له أن يأمر من شاء على النكاح ممن شاء، وله الحكم بالنكاح لمن شاء على من شاء، وليس لهم الخيرة في ذلك، فأما بالخطبة نفسها دون الأمر والحكم من اللّه لا جبر في ذلك؛ ألا ترى أنه ذكر أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما خطب أم سلمة، فقالت: إن أوليائي غيب، فقال: " ليس أحد من أوليائك لا يرضى بي " أو كلام نحوه خطبها، ولم يجبرها على ذلك؛ فعلى ذلك زينب؛ إلا أن يكون على الأمر أو الحكم؛ على ما ذكرنا.

أو أن يكون سبب نزول الآية - فيما ذكر أهل التأويل - في خطبة رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - زينب

بنت جحش، ويكون الوعيد الذي ذكر فيه في غيره: فيما فيه أمر من اللّه أو حكم؛ نحو ما روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه صلى الفجر، فرأى رجلين جالسين، فقال لهما: " ما بالكما لم تصليا معنا؟ " فقالا: إنا قد صلينا في رحالنا، فقال: " إذا صليتما، ثم أتيتما المسجد، فصليا معهم؛ فتكون لكما سبحة "، وإنما قال: " فصليا معهم " لا في صلاة الفجر، ولكن في الصلوات التي يتطوع بعدها.

وقوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللّه وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا}: إن كان هذا في المؤمنين فيكون الضلال هو الخطأ؛ كأنه قال: فقد أخطأ خطأ بينا، ويجوز هذا في اللغة، نحو قول إخوة يوسف لأبيهم في تفضيله يوسف عليهم؛ حيث قالوا: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} أي: في خطأ بيِّنٍ؛ حيث يفضل من لا منفعة له منه على من له منه منفعة؛ فعلى ذلك هذا.

وإن كان في المنافقين فهم في ضلال بين، فالضلال من المؤمن لا يفهم منه ما يفهم من الكافر والمنافق؛ ألا ترى أن الظلم من المؤمن لا يفهم منه ما يفهم من المنافق أو الكافر؛ ألا ترى أن آدم وحواء لما ارتكبا وقربا تلك الشجرة قالا: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} لم يريدا ظلم كفر، وعلى ذلك قوله: {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}، فعلى ذلك المفهوم من ضلال المؤمن غير المفهوم من ضلال المنافق والكافر، واللّه أعلم.

٣٧

وقوله: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللّه عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللّه وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللّه مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللّه أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللّه مَفْعُولًا (٣٧) قال أهل التأويل: أنعم اللّه عليه بالإسلام، وأنعمت عليه بالإعتاق؛ حيث أعتقه؛ لأنه ذكر أن زيدًا كان عربيّا من أهل الكتاب، أصابه النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من سبي أهل الجاهلية، فأعتقه وتبنَّاه، فأنعم اللّه عليه حيث أعطاه الإسلام، ووفقه الهدى، وأنعم عليه الرسول حيث أعتقه.

ويحتمل إنعام اللّه عليه -أيضًا- في الإعتاق؛ حيث وفق رسوله للعتاق، أو في خلق فعل الإعتاق من رسوله وإجرائه إليه، وعلى قول المعتزلة: ليس للّه على زيد ولا على جميع المسلمين في الإسلام إنعام ولا إفضال؛ لوجوه:

أحدها: أنهم يقولون: قد أعطى كل سبب ما يلزمهم الإسلام وهو القوة؛ فهم إنما

يسلمون لا بصنع من اللّه في ذلك؛ فعلى قولهم: كان من اللّه سبب لزوم الإسلام، فأما في الإسلام نفسه فلا صنع له فيه، فإذا كان كذلك فلا منة تكون منه عليهم ولا إنعام.

والثاني: يقولون: أن ليس للّه أن يفعل بالخلق إلا ما هو أصلح لهم في الدِّين، ولا شك أن الإسلام لهم أصلح؛ فعليه أن يفعل ذلك بهم، فهو فعل ما عليه أن يفعل، ولا يجوز أن يفعل غيره، ومن أدى حقا عليه لا يكون في فعله منعمًا ولا مفضلا؛ إنما هو مؤدي حق عليه.

والثالث: يقولون: أن ليس من اللّه إلى الأنبياء والمؤمنين جميعًا شيء إلا وقد كان ذلك منه إلى إبليس وأتباعه وإلى جميع الفراعنة، فإذا كان قولهم ومذهبهم ما ذكرنا - لم يكن للّه على أحد من أهل الإسلام في إسلامهم إنعام ولا إفضال، واللّه أخبر أن له عليهم في ذلك نعمة ومنة، وكذلك فهم منه ذلك في قوله: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا. . .} إلى {بَلِ اللّه يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ}.

وقوله: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللّه}.

ذكر بعض أهل التأويل: أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قد أبصر امرأة زيد فأعجبته وودَّها، ففهم زيد ذلك منه؛ فقال: يا رسول اللّه، إني أريد أن أطلق فلانة، وإن فيها كبرا تتعاظم عليَّ وتؤذيني بكذا؛ فعند ذلك قال له النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللّه} في طلاقها، ولا تطلقها، لكن لا نقول نحن شيئًا من ذلك إلا بخبر ثبت من رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يخبر أنه كان ذلك.

وجائز أن يكون زيد استأذن رسول اللّه في طلاقها، على ما يطلق الرجل امرأته؛ لما يمل منها بلا سبب يكون؛ فقال له عند ذلك: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللّه}، ولا تطلق زوجك بلا سبب يستوجب به الطلاق؛ لأنه لا يسع للرجل أن يطلق زوجته بلا سبب يحمله على الطلاق من تضييع حدود اللّه، وترك إقامتها، أو معنى نحوه، فأما بلا سبب يكون في ذلك فلا يسع.

أو أن يكون قوله: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ}، أي: تزوجها واتق اللّه في ترك تزوجها؛ فيكون هو مأمورًا بنكاحها، كما كانت هي مأمورة بتزويجها نفسها منه، فيقول: اتق اللّه في ترك الأمر للنبي ذلك في ترك ما ندبت إليه وأمرت به، واللّه أعلم.

وقوله: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللّه مُبْدِيهِ}.

قال عامة أهل التأويل: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ} حُبَّها وإعجابها، {مَا اللّه مُبْدِيهِ}، أي: ما اللّه مظهره في القرآن، أي: حبها وتزوجها.

وقال قائلون: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ} يا مُحَمَّد: ليت أنه طلقها، {مَا اللّه مُبْدِيهِ}، أي: مظهره عليك، حتى ينزل به قرآنا.

لكن هذا بعيد محال؛ لا يحتمل أن يكون النبي يقول لزيد: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللّه}، ثم يخفي هو في نفسه: ليت أنه يطلقها؛ حتى يتزوجها هو.

وجائز أن يكون قوله: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ} هذا القول نفسه، هو الإبداء؛ حيث جعله آية تتلى بعد ما أخفى رسول اللّه شيئًا في نفسه: ما لولا ذكر اللّه إياه ذلك لم يعلم الخلق أنه أخفى شيئًا، ولا ندري ما الذي أخفاه كذا وكذا إلا بخبر يجيء عنه، فيقول: إني أخفيت في نفسي كذا؛ فعند ذلك يسع، فأما على الوهم فلا نقول به.

وقوله: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللّه أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: {وَتَخْشَى النَّاسَ}، أي: تستحي قالة الناس: " إنه تزوج امرأة ابنه "؛ وتترك نكاحها، واللّه أحق أن تستحي منه في ترك أمره إياك بالنكاح.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَتَخْشَى النَّاسَ}، أي: تتقي قالة الناس؛ تستحي منهم في أمر زينب وما أعجبت هي إليك حسنها وحبها، {وَاللّه أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} على الابتداء على غير إلحاف بالأول في كل أمر وكل شيء؛ كقوله: {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي}، واللّه أعلم.

وقوله: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا}.

قال أهل التأويل: {قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا} أي: حاجة، أي: جماعًا؛ فإن كان الجماع - ففائدة ذكر الجماع فيه؛ ليعلم أن حليلة ابن التبني تحل للرجل، وأن الوطر هو عقد النكاح والجماع جميعًا، وإن كان كل واحد منهما سبب الحظر والمنع في نكاح حليلة ابن الصلب.

وجائز أن يكون قوله: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا}، أي: قضى همة نفسه، وبلغ غاية ما همت نفسه منها؛ فعند ذلك زوجناكها.

ذكر أن زينب بنت جحش كانت تفتخر على سائر أزواج النبي، فتقول: " زوجكن

آباؤكن رسول اللّه، واللّه زوجني بنبيه فوق سبع سماوات؛ ففيه دلالة رسالته؛ لأنه أخفى في نفسه ما كان يخشى قالة الناس في ذلك واستحى منهم، وفي العرف أن من أخفى شيئًا يستحي من الناس إن ظهر عندهم أن يكتم ذلك من الناس ولا يظهره، فإذا كان رسول اللّه أظهر ما كان يخشى قالة الناس فيه، ولم يكتمه منهم؛ دل أنه رسول؛ إذ لو كان غير رسول، لكتمه وأخفاه ولم يظهره؛ لما ذكرنا من العرف في الناس من كتمان ما يستحيون منهم إذا ظهر.

وكذلك روي عن عمر وعائشة أنهما قالا: " لو كان رسول اللّه كاتمًا شيئًا من القرآن، لكتم هذه الآية ".

وقوله: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرً}.

في الآية دلالة لزوم الاتباع لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في كل ما يخبر ويأمر به، وفي كل فعل يفعله في نفسه، إلا فيما ظهرت الخصوصية، فأما فيما لم تظهر فعلى الناس اتباعه فيما يخبر ويفعل؛ لأنه قال: تزوج امرأة دعته، ثم قال: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ}، ولو كان يخبرهم بذلك خبرا لحل لهم ذلك؛ فعلى ذلك: هو ذلك أخبر أن ذلك؛ لكيلا يكون على المؤمنين حرج في مثل فعله، واللّه أعلم. وفيه وجه آخر.

وقوله: {إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرً}، ذكر قضاء الوطر منهن؛ لأن من النساء من لا يحرمن على بعض هَؤُلَاءِ بالعقد، ولكن إنما يحرمن بقضاء الوطر، ومنهن من يحرمن بالعقد نفسه دون قضاء الوطر؛ فأخبر أن أزواج الأدعياء - وإن قضوا منهن الوطر - فإنهن لا يحرمن عليهم، واللّه أعلم.

وقوله: {وَكَانَ أَمْرُ اللّه مَفْعُولًا}.

أي: ما كان بأمر اللّه مفعولا، وكذلك ما قيل: الصلاة أمر اللّه؛ أي: بأمر اللّه تكون؛ وإلا الصلاة هي فعل العباد؛ فلا تكون أمر اللّه، ولكن بأمر اللّه، فعلى ذلك قوله: {وَكَانَ أَمْرُ اللّه مَفْعُولًا}، أي: ما يكون بأمر اللّه مفعولا، وكذا قوله: {حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللّه}، أي: جاء ما يكون بأمر اللّه، وهو العذاب الذي أوعدوا؛ لأن أمر اللّه لا يجيء.

ثم يحتمل ذلك وجهين:

أحدهما: التكوين: يكونه؛ فيكون مكونًا؛ كقوله: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.

والثاني: على الإيجاب واللزوم، أي: ما يكون بأمر اللّه يكون واجبًا لازمًا؛ إذا أراد به الإيجاب والإلزام، واللّه أعلم.

٣٨

وقوله: (مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللّه لَهُ سُنَّةَ اللّه فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللّه قَدَرًا مَقْدُورًا (٣٨)

هذا يحتمل وجهين:

أحدهما: {فَرَضَ اللّه}، أي: بين اللّه؛ كقوله: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا}، أي: بيناها.

ويحتمل {فِيمَا فَرَضَ اللّه لَهُ}، أي: أوجب اللّه عليه، ويقال: فرض عليه، أي: حرم، وفرض له، أي: أحل له، وكذلك قوله: {قَدْ فَرَضَ اللّه لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ}، يحتمل هذا وجهين:

أي: بين لكم تحلة أيمانكم.

والثاني: أوجب عليكم تحلة أيمانك، واللّه أعلم.

وقوله: {سُنَّةَ اللّه فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: هكذا كان سنة اللّه فيمن كان قبله من الرسل - مثل داود وسليمان وهَؤُلَاءِ - كثرة النساء، ليس ذلك ببديع في رسول اللّه مُحَمَّد. وفي كثرة نساء الرسل لهم آية عظيمة؛ لأنهم آثروا الفقر والضيق على السعة والغناء، وكفوا أنفسهم عن جميع لذاتها، وحملوا على أنفسهم الشدائد في العبادات والأمور العظام الثقيلة، وهذه الأشياء كلها أسباب قطع قضاء الشهوات في النساء والحاجة فيهن؛ فإذا لم تقطع تلك الأسباب عنهم؛ دل أنهم باللّه قووا عليها.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: سنة اللّه في الذين قبل مُحَمَّد، يعني: داود النبي حين هوى المرأة التي فتن بها، فجمع اللّه - تبارك وتعالى - بين داود وتلك المرأة؛ فكذلك يجمع بين محمد وبين امرأة زيد؛ إذ هويها كما فعل بداود، لكن هذا بعيد.

وقيل: {سُنَّةَ اللّه فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ}: أنه لا يحرج على أحد فيما لم يحرم.

وجائز أن يكون {سُنَّةَ اللّه فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} - في حل نكاح أزواج الأدعياء، كان يحل لهم ذلك؛ فعلى ذلك لرسول اللّه، واللّه أعلم.

وقوله {وَكَانَ أَمْرُ اللّه قَدَرًا مَقْدُورًا}.

هو ما ذكرنا في قوله: {وَكَانَ أَمْرُ اللّه مَفْعُولًا} أي: ما كان بأمر اللّه وتقديره مقدورا.

قال أَبُو عَوْسَجَةَ: الدعي: الذي يدعى بعدما يكبر، والادعاء أن يكون الرجل نفى ولده ولم يقبله، ثم ادعاه من بعد ذلك، هذا هو المعروف عندي.

قال: وفي موضع آخر: {وَلَهُم مَا يَدَّعُونَ}، أي: ما يتمنون ويشتهون، ويقال: " ظللنا اليوم فيما ادعينا " أي: وجدنا كل ما اشتهينا، يقال من هذا: ادعيت أدعي ادعاء.

وقال: الوطر: الحاجة، والأوطار: جميع، والخيرة، أي: صيرت إليهم الخيرة، وهو من قولك أي شيء - تختار؛ {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}، أي: لم يجعل إليكم الاختيار: إن شئتم فعلتم، وإن شئتم لم تفعلوا، والقنوت في الأصل: القيام؛ على ما ذكرنا.

٣٩

وقوله: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللّه وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللّه وَكَفَى بِاللّه حَسِيبًا (٣٩)

يقول أهل التأويل: هو مُحَمَّد عر خاصة؛ فمعناه - واللّه أعلم - إن كان هو المراد به: أنه فيما تزوج حليلة دعيه زيد مبلغ رسالات ربه، حيث قال: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ}، وتبليغ الرسالة يكون مرة بالخبر والقول، ومرة بالفعل، يلزم الناس في اتباعه في فعله كما يلزم في خبره وأمره، إلا فيما ظهرت له الخصوصية في فعل ما.

وجائز أن يكون قوله: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللّه} هم الأنبياء الذين قال: {سُنَّةَ اللّه فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ}، نعتهم،

وقال: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللّه}: فسنة اللّه في مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كسنة أُولَئِكَ الذين كانوا من قبل فيما ذكر، {وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللّه}، يقول - واللّه أعلم -: يخشون اللّه في ترك تبليغ الرسالة، ولا يخشون أحدًا سواه في التبليغِ، ويكون قوله: {إِلَّا اللّه}، بمعنى: سواه؛ على المبالغة في الأمر، وإلا لو قال: {وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا} كافيًا، أي: لا يخشون أحدًا فيما يبلغون، لكن يحتمل ما ذكرنا: ألا يخشوا أحدًا فيما يبلغون سواه.

وجائز أن يكون قوله: {وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللّه} بما يصيبهم من الأذى والبلاء بالتبليغ، يقول: لا يرون ذلك من أُولَئِكَ، ولكن بتقدير من اللّه إياه؛ وإلا كانوا يخافون من أُولَئِكَ؛ ألا ترى أنهم قالوا: {إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى}، وحيث قال موسى: {فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ}، و {أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ}، ونحوه.

أو أن يكون في الابتداء خافوهم، ثم أمنهم اللّه؛ فلم يخافوا؛ حيث قال: {لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}، واللّه أعلم.

وقوله: {وَكَفَى بِاللّه حَسِيبًا}.

قيل: شهيدًا على تبليغ الرسالة.

٤٠

وقوله: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللّه وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللّه بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (٤٠) معناه - واللّه أعلم -: ما كان مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أبا أحد أبوة تحرم بها حلائل الأبناء، وإلا كان هو أبا لجميع المؤمنين؛ حيث قال: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} إذا كانت أزواجه أمهاتنا؛ فهو أب لنا على ما ذكرنا.

لكن التأويل فيه: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} أبوة تحرم بها حلائل الأبناء؛ ولكن أبوة التعظيم له والتبجيل، وأبوة الشفقة والرحمة، وهو ما قال: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ. . .} الآية.

وكذلك قوله: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}، يحتمل وجهين:

أولى أن يعظم ويكرم ويشرف من أغيرهأ، كقوله: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ}.

والثاني: {أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ}، أي: أشفق عليهم وأرحم بهم من أنفسهم، وهو ما وصفه - جل وعلا - من رحمته ورأفته؛ حيث قال: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}.

وقوله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} يخرج على وجهين:

أحدهما: في حق الانتساب إليه، أي: ليس هو أبا أحدكم ينسب إليه ويدعى به؛ لأنه ذكر أنهم يدمحونه ويسمونه: زيد بن مُحَمَّد، أنه يجوز التبني ولا يجوز إليه النسبة ولا التسمية به؛ كقوله: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللّه}.

والثاني: في حق الحرمة؛ كأنه قال: ليس هو أبا أحدكم في حرمة حلائل الأبناء عليه لا بالتبني، ولا في حق النسبة، وإن كان هو أبا لكم في الشفقة والرحمة والرأفة، على ما ذكرنا بدءًا ولكن رسول اللّه ما ذكرنا في التعظيم له والتبجيل في المعاملة والمصاحبة، أو في الدعوة به والتسمية.

وقوله: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللّه}.

أخبر ليس بأبي أحد من رجالكم، على ما ذكرنا، ولكن رسول اللّه؛ لئلا يعاملوا رسوله معاملة آبائهم، ولا يصاحبوه صحبة غيره؛ ولكن يعاملوه معاملة الرسل في التعظيم له والتبجيل والإكرام؛ لأن أبوته وشفقته دينية، وشفقة الآباء شفقة دنياوية، ولأن الرجل قد يتبسط مع والده في أشياء لا يسع مثله مع رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ ولذا قال: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللّه وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}، أي: ختم به الرسالة لا نبي بعده.

وقوله: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}.

جائز أن يكون ذكره وإخباره: أنه خاتم النبيين؛ لما علم - جل وعلا - أنه يسمى غيره بعده نبيا؛ على ما قالته الباطنية: إن قائم الزمان هو نبي؛ فأخبر بهذا أن من ادَّعى ذلك لا يطالب بالحجة والدلالة؛ ولكنه يكذب؛ وكذلك روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " لا نبي بعدي " أخبر أنه ختم به النبوة.

وقوله: {وَكَانَ اللّه بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}، أي: لم يزل اللّه بما كان ويكون وبما به صلاحهم عليما.

٤١

وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللّه ذِكْرًا كَثِيرًا (٤١)

أما أهل التأويل يقولون: اذكروا اللّه في كل حال وفي كل وقت، ذكرًا كثيرًا باللسان.

وجائز أن يكون تأويل أمره بالذكر له كثيرًا، أي: اذكروا نعمه؛ لتشكروا له، واذكروا أوامره؛ لتأتمروا، ونواهيه ومناهيه؛ لننتهي، ومواعيده؛ لنخاف وعداته؛ لنرغب، واذكروا عظمته وجلاله وكبرياءه؛ ليهاب، {ذِكْرًا كَثِيرًا}، أي: دائمًا يذكرون ما ذكرنا؛ ليكون ما ذكرنا؛ إذ إنما يكون ذلك بالذكر؛ واللّه أعلم.

٤٢

وقوله: (وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٤٢)

البكرة: هي ختم الليل وابتداء النهار، والأصيل: هو ختم النهار وابتداء الليل؛ فكأنه أمر بالذكر له، والخير في ابتداء كل ليل وختمه، وابتداء كل نهار وانقضائه؛ ليتجاوز عنهم ويعفو ما يكون منهم من الزلات في خلال ذلك؛ وعلى ذلك ما روي في الخبر " أن من صلى العشاء الأخيرة والفجر بالجماعة فكانما أحيا ليلته ".

وجائز أن يكون ذلك ليس على إرادة البكرة والأصيل؛ ولكن على إرادة كل وقت وكل

حال، ليس من وقت ولا من حال إلا وللّه على عباده شكر أو صبر: الشكر على نعمائه، والصبر على مصائبه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الأمر بالذكر له بالبكرة والأصيل هي الصلوات الخمس: من الظهر إلى آخر الليل أصيل؛ فيدخل فيه صلوات الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وفي البكرة صلاة الفجر.

٤٣

وقوله: (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (٤٣) أما صلاة اللّه: هي الرحمة والمغفرة، وصلاة الملائكة: الاستغفار وطلب العصمة والنجاة؛ كقوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا. . .} الآية.

وقوله: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ. . .} الآية،

وقوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ}، جائز أن يكون المؤمنين خاصة.

وجائز أن يكون الكل: الكافر أو المؤمن؛ فإن كان هذا فيكون استغفارهم طلب الأسباب التي بها يستوجبون المغفرة، وهو الهدى؛ كقول هود: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ}، وقول نوح: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا}، لا يحتمل أن يستغفروا وهم كفار؛ ولكن يطلبون منه التوبة عن الكفر؛ ليستوجبوا المغفرة؛ وكذلك استغفار إبراهيم لأبيه لا يحتمل أن يستغفر له وهو كافر؛ ولكن كان يطلب له من اللّه أن يجعله بحيث يستوجب المغفرة والرحمة، وهو الهدى، واللّه أعلم.

وقوله: {لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: رحمهم؛ حيث أخرجهم من أصلاب آبائهم قرنا فقرنا إلى أن بلغوا ما بلغوا. وجائز إخراجه إياهم من ظلمات الكفر إلى نور الهدى بدعاء الملائكة واستغفارهم لهم.

{وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}.

لم يزل اللّه بالمؤمنين رحيما.

٤٤

وقوله: (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (٤٤)

جائز أن يكون تحية الملائكة عليهم: سلام؛ كقوله: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ}.

أو تحية بعضهم على بعض: سلام لا غير، ليس كتحيتهم في الدنيا: أطال اللّه بقاءك؛ وكيف حالك؛ ونحو ما يقولون في الدنيا، ويسأل بعضهم بعضا عن أحوالهم، يقول: ليس تحية أهل الجنة ذاك؛ ولكن: سلام؛ كقوله: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا. إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا}.

أو أن يكون قوله: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ}، أي: صوابا وسدادا لا غير؛ كقوله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} ليس أن يقولوا: سلام عليكم؛ ولكن يقولون قولا صوابا سدادا، لا يقابلونهم بمثل ما خاطبوهم؛ فعلى ذلك جائز أن يكون قولهم: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ}، أي: صواب من الكلام وسداد.

{وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا}، أي: حسنا.

٤٥

وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (٤٥)

يحتمل قوله: {شَاهِدًا} على تبليغ الرسالة يشهد لهم بالإجابة له إذا أجابوه، ويشهد عليهم إذا ردوه وخالفوه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {شَاهِدًا} على أمتك بالتصديق لهم، وقيل: {شَاهِدًا} عليهم بالبلاغ.

وقوله: {وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}، أي: يبلغ إليهم ما يكون لهم البشارة إن أطاعوه، ويبلغ إليهم أيضا ما يستوجبون به النذارة إذا خالفوه، والبشارة هي: إخبار عن الخيرات التي تكون في عواقب الأمور الصالحة، والنذارة: إخبار عن أحزان تكون في عواقب الأمور السيئة، أو نحوه من الكلام.

٤٦

وقوله: (وَدَاعِيًا إِلَى اللّه بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (٤٦)

يحتمل قوله: {وَدَاعِيًا إلَى اللّه} إلى توحيد اللّه، وإلى طاعة اللّه، أو إلى دار السلام؛ كقوله: {وَاللّه يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ}، أو إلى ما يدعو اللّه إليه.

وقوله: {بِإِذْنِهِ}، قيل: بأمره.

وقوله: {وَسِرَاجًا مُنِيرًا}: اختلف فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: هو صلة قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}، وجعلناك {وَسِرَاجًا مُنِيرًا}؛ فالسراج المنير هو الرسول على هذا التأويل.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: السراج المنير هو القرآن، يقول: أرسلناك داعيًا إلى اللّه وإلى السراج المنير، وهو هذا.

٤٧

وقوله: (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللّه فَضْلًا كَبِيرًا (٤٧)

فيه دلالة أن البشارة إنما تكون بفضل من اللّه، لا أنهم يستوجبون بأعمالهم شيئًا من

ذلك، واللّه أعلم.

٤٨

وقوله: (وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ... (٤٨)

هذا قد ذكرناه في أول السورة.

وقوله: {وَدَعْ أَذَاهُمْ}.

هذا يحتمل: أعرض عنهم، ولا ثكافئهم بما يؤذونك.

أو أن يقول: {وَدَعْ أَذَاهُمْ}، أي: اصبر على أذاهم.

وقوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّه}، أي: اعتمد باللّه.

{وَكَفَى بِاللّه وَكِيلًا}، أي: كفى باللّه معتمدًا.

أو أن يقال: {وَكَفَى بِاللّه وَكِيلًا}: حافظًا أو مانعًا، واللّه أعلم.

٤٩

وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ}.

ذكر أن رجلا جاء إلى ابن عَبَّاسٍ فقال: كان بيني وبين عمتي كلام، فقلت: يوم أتزوج ابنتك فهي طالق ثلاثًا؛ فقال: تزوجها فهي لك حلال؛ أما تقرأ هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ. . .} الآية.

فجعل الطلاق بعد النكاح.

وعندنا: أنه إذا حلف: إن تزوجها فهي طالق؛ يكون طلاقًا بعد النكاح، وليس في الآية منع وقوع الطلاق إذا أضافه إلى ما بعد النكاح.

وقوله: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ}، يحتمل المماسة: الجماع، أي: من قبل أن تجامعوهن.

ويحتمل: من قبل أن تدخلوا بهن المكان الذي تماسونهن؛ وإلا لو دخل بها المكان الذي يماسها، ثم طلقها يجب كمال الصداق، وإذا لم يجامعها، ولم يدخل المكان الذي يماسها حتى طلقها - وجب نصف الصداق؛ ويدل على ذلك قول اللّه حيث قال: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ}، والإفضاء ليس هو الجماع نفسه؛ ولكن الدنو منها والمس باليد أو شبهه، واللّه أعلم.

وقوله: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا}.

هذا يدل على أن العدة من حق الزوج عليها؛ حيث قال: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا}، ولا يجوز له أن يجمع بين أختين فيما له من حق؛ فعلى ذلك ليس له أن يجمع بين الأختين في حق العدة التي له قبلها، واللّه أعلم.

وقوله: {فَمَتِّعُوهُنَّ}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: هذه المتعة منسوخة بالآية التي ذكر في سورة البقرة؛ حيث قال: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هي التي وهبت نفسها بغير صداق، فإن لم يجب الصداق وجب المتعة.

وعندنا: إن كان سمى لها صداقًا، فليس لها إلا نصف الصداق، ولا يجب عليه المتعة وجوب حكم، لكن إن فعل ومتعها فهو أفضل وأحسن، وإن كان لم يفرض لها صداقًا حتى طلقها قبل الدخول بها؛ فهي واجبة على قدر عسره ويسره، واللّه أعلم.

وقوله: {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: السراح الجميل: هو أن يمتعها إذا سرحها.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: السراح الجميل: هو أن يبذل لها الصداق.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: السراح الجميل: هو أن يقول: لا تؤذوهن بألسنتكم إذا سرحتموهن، واللّه أعلم.

٥٠

وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ... (٥٠)

يحتمل هذا وجهين:

أحدهما: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ}، أي: ضمنت أجورهن وقبلت؛ ويكون الإيتاء عبارة عن القبول والضمان؛ وذلك جائز نحو قوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}، هو على القبول، تأويله: فإن تابوا وقبلوا إيتاء الزكاة؛ فخلوا سبيلهم، هو على القبول والضمان ليس على فعل الإيتاء نفسه؛ إذ لا يجب إلا بعد حولان الحول، وكذلك قوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللّه. . .}، إلى قوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ}، ليس على نفس الإعطاء؛ ولكن حتى يقبلوا الجزية؛ إذ الإعطاء إنما يجب إذا حال الحول؛ فعلى ذلك جائز أن يكون قوله: {آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ}، أي: قبلت أجورهن وضمنت.

والثاني: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي} هن لك إذا {آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ}، أي: قبلت؛ معناه: إنا أحللنا لك إبقاءهن إذا آتيت أجورهن.

وفيه دلالة: أن المهر قد يسمى أجرًا؛ فيكون قوله: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}، أي: مهورهن؛ فيكون الاستمتاع بهن استمتاعًا في النكاح؛ فعلى ذلك يجوز أن يكون قوله: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}؛ فيكون الخلوص له بلا أجر لا بلفظة " الهبة "؛ لأنه ذكر على أثر ذكر حل أزواجه بالأجر؛ كأنه قال: إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن، وأحللنا لك -أيضًا- امرأة مؤمنة إن وهبت نفسها بلا أجر خالصة لك من دون المؤمنين بغير أجر؛ لأن خلوص الشيء إنما يكون إذا خلص له بلا بدل ولا مؤنة، فأما أن يكون الخلوص بلفظة دون لفظة فلا.

وبعد فإنه قد ذكر في آخر الآية ما يدل على ما ذكرنا؛ وهو قوله: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ}؛ دل هذا أن خلوص تلك المرأة له بـ " قد. . . "؛ فإن ذكر هذا له خرج مخرج الامتنان عليه؛ فلا منة له عليه في لفظة " الهبة "، ليست تلك في لفظة " التزويج "، يقول مكان قوله: {وَهَبَتْ}: " زوجت "؛ دل أن المنة له عليه فيما صارت له بلا مهر، لا في لفظة " الهبة ".

أو أن يكون قوله: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} في الآخرة، أي: لا تحل لأحد سواك إذا تزوجتها وصارت من أزواجك، فأما أن يفهم من قوله {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} بلفظة " الهبة " فلا؛ إذ لا فرق بين أن تقول: " وهبت "، وببن أن تقول: " زوجت ".

وبعد: فإن كثيرًا من الصحابة وأهل التأويل، من نحو: عبد اللّه بن مسعود، وابن عباس وغيرهما - رضي اللّه عنهم - لم يفهموا من قوله: {خَالِصَةً لَكَ} بلفظة دون لفظة، حتى روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قال في قوله: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ}: " هن الموهوبات "، فما بال الشافعي في فهم ذلك ما ذكر؟!

وبعد فإنه ليس من عقد إلا وهو يحتمل الانعقاد بلفظة " الهبة " من البياعات والإجارات وغيرها؛ فعلى ذلك النكاح، واللّه أعلم.

وقوله: {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ}.

أي: قد أحللنا لك ما ملكت يمينك، وأحللنا لك أيضًا، {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ}.

ثم جائز أن يكون حل بنات من ذكر من الأعمام والأخوال للناس بهذه الآية؛ لأنهن لم يذكرن في المحرمات في سورة النساء؛ فيكون ذكر حلهن لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ذكرًا للناس كافة، كما كان ذكر حل نكاح حليلة زيد بن حارثة له حلا للناس في أزواج حلائل التبني؛ حيث قال: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ}؛ فعلى ذلك الأول.

أو أن يكون معرفة حل نكاح بنات الأعمام والعمات ومن ذكر بقوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}، إذ ذكر المحرمات في الآية على إبلاع: ما كان بنسب، وما كان بسبب، ثم قال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}؛ فيكون ما وراء المذكورات محللات بظاهر الآية، إلا ما كان في معنى المذكورات في الحرمة، واللّه أعلم.

وقوله: {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ}.

لم يفهم أحد من قوله: {هَاجَرْنَ مَعَكَ}: الهجرة معه حتى لا يتقدمن ولا يتأخرن؛ بل دخل في قوله: {مَعَكَ} من هاجر منهن من قبل ومن بعد، واللّه أعلم.

وقوله: {مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: ما فرضنا على الناس، {فِي أَزْوَاجِهِمْ}، وهن أربع نسوة لا تحل الزيادة على الأربع، {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ}، وهي الجواري والخدم يجوز الزيادة على ذلك وإِن كثرن.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: كان مما فرض اللّه ألا يتزوج الرجل إلا بولي ومهر وشهود، إلا النبي خاصة؛ فإنه يجوز له أن تهب المرأة نفسها بغير مهر وبغير ولي، واللّه أعلم.

وقوله: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ}، {فَرَضْنَا}: أي بينا ما يجوز وما لا

يجوز، أي: بين ذلك كله في الأزواج.

أو {فَرَضْنَا}: أوجبنا عليهم في أزواجهم من الأحكام والحقوق ونحوها، واللّه أعلم.

٥١

وقوله: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللّه يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللّه عَلِيمًا حَلِيمًا (٥١) اختلف فيه:

عن الحسن قال: كان النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا خطب امرأة لم يكن لأحد أن يخطبها حتى يدعها النبي أو يتزوجها، وإذا ترك خطبتها كان لغيره أن يخطبها، ثم إذا خطبها رسول اللّه، لم يكن لأحد أن يخطبها بعد ذلك، إلا أن يترك خطبتها، أو كلام نحوه؛ فيصرف تأويل الآية إلى ما ذكرنا. وكذلك يقول قتادة: إن الآية في الخطبة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هذا في قسمة الأيام بينهن كان يسوي بينهن وسممين، فوسع اللّه عليه في ذلك، فأحل له، فقال: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ}، أي: من نسائه، أي: تترك من تشاء منهن، فلا تأتيها، {وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ}، فتأتيها.

{وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ}، يقول: ممن اخترت من نسائك أن تأتيها فعلت، فقال: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ} على ترك القسم إذا علمن أن اللّه قد جعل لك ذلك حلالا، وأنزل فيهن الآية، {وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ}، إذا علمن أن الرخصة جاءت من اللّه - تعالى - له، كان أطيب لأنفسهن، وأقل لحزنهن من ترك ذلك.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن أزواج رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - اللاتي كن تحته خشين أن يطلقهن؛ فقلن: يا رسول اللّه، اقسم لنا من نفسك ومالك ما شئت ولا تطلقنا؛ فنزل: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ}، أي: تعتزل من تشاء منهن أن تعتزل بغير طلاق، {وَتُؤْوِي إِلَيْكَ}، أي: ترد وتضم من تشاء منهن إليك؛ {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ}.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الآية في ترك نكاح ما أباح له من القرابات من يشاء منهن، وفي الإقدام على نكاح من يشاء منهن؛ لأنه على أثر ذلك ذكر، يقول: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ}، يعني: من بنات العم والعمة والخال والخالة، فلا تزوجها، {وَتُؤْوِي إِلَيْكَ}، أي: تضم إليك من تشاء منهن فتزوجها.

فنقول: خير اللّه رسوله في نكاح القرابة؛ فذلك قوله: {وَمَنِ ابْتَغَيْتَ} منهن فتزوجها، {مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ}، أي: لا حرج طيك في ذلك؛ {ذَلِكَ أَدْنَى}، يقول. أجدر وأحرى وأقرب {أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ}، أي: النساء اللاتي عندك واخترتهن، {وَلَا يَحْزَنَّ} إذا علمن ألا تتزوج عليهن، ويرضين بما آتيتهن كلهن من النفقة، وكان في نفقتهن قلة.

وجائز أن يكون قوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ}، ذلك حين خيرهن رسول اللّه بين اختيار الدنيا وزينتها، وبين اختيار رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -

والدار الآخرة؛ فاخترن رسول اللّه، يقول - واللّه أعلم -: إذا اخترن المقام عند رسول اللّه والدار الآخرة، فاخترن رسول اللّه {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ} عن قلة النفقة والجماع، {وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} من النفقة وغيره.

{وَاللّه يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ}، من الحب والرضا، {وَكَانَ اللّه عَلِيمًا حَلِيمًا}.

٥٢

وقوله: (لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (٥٢)

اختلف في قوله: {مِنْ بَعْدُ}.

قال قائلون: من بعد اختيارهن رسول اللّه والدار الآخرة؛ لأن اللّه لما خيرهن بين اختيار الدنيا وزينتها، وبين اختيار رسول اللّه والدار الآخرة، فاخترن رسول اللّه والدار الآخرة قصره اللّه عليهن، فقال: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} أي: من بعد اختيارهن المقام معك.

{وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ}:

فإن كان على هذا فيخرج الحظر والمنع مخرج الجزاء لهنّ والمكافآت؛ لما اخترنه على الدنيا وما فيها؛ لئلا يشرك غيرهن في قَسمِهِنَّ منه. وروي عن عائشة - رضي اللّه عنها - أنها قالت: اشترطنا على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما اخترناه والدار الآخرة: ألا يتزوج علينا، ولا يبدل بنا من أزواج.

ثم استثنى ما ملكت يمينه؛ لأنه لا حظ لهن في القسم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ}، أي: من بعد المسلمات: كتابيات لا يهوديات ولا نصرانيات: ألا يتزوج يهودية ولا نصرانية؛ فتكون من أمهات المؤمنين، {إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} أي: لا بأس أن تشتري اليهودية والنصرانية؛ فإن كان على هذا، ففيه حظر الكتابيات لرسول اللّه لما ذكر خاصّة، وأمَّا المؤمنون: فإنه أباح لهم نكاح الكتابيات؛ بقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}؛ فيكون حل الكتابيات للمؤمنين دون النبي بإزاء الزيادة والفضل الذي كان يحل لرسول اللّه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ}، أي: من بعد المذكورات المحللات له في الآية التي قبل هذه الآية من بنات العم والعمات وبنات الخال والخالات؛ يقول: لا يحل لك من النساء سوى من ذكر أن تتزوجهن عليهن، ولا

تبديلهن، {وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ}، واللّه أعلم.

وقوله: {لَا يَحِلُّ لَكَ} أن تتزوج عليهن بعد اختيارهن لك والدار الآخرة على الدنيا وما فيها من الزينة.

أو أن يكون على التحريم نفسه في الحكم، وليس لنا أن نفسر أي تحريم أراد؟ تحريم الحظر والمنع في الخلق، أو تحريم الحكم؛ لأن ذلك كان لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وقد كان عرفه أنه ما أراد بذلك، والاشتغال به فضل.

والتبديل بهن يحتمل في التطليق: يطلقهن، فيتزوج غيرهن.

ويحتمل بالموت: إذا متن -أيضًا- لم يحل له أن ينكح غيرهن، واللّه أعلم.

قال أَبُو عَوْسَجَةَ: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ}، أي: تحبس من تشاء منهن ولا تقربها.

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: {تُرْجِي}، أي: تؤخر؛ يقال: أرجيت الأمر، وأرجأته، وكذلك قالوا في قوله: {أَرْجِهْ وَأَخَاهُ}،

قَالَ بَعْضُهُمْ: احسبه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: أخِّره.

وقوله: {وَتُؤْوِي إِلَيْكَ}، أي: تضم.

وقوله: {وَكَانَ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا}، أي: حفيظًا، وقيل: شاهدًا.

٥٣

وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ}.

يحتمل النهي عن دخول بيوت النبي وجهين:

أحدهما: لا تدخلوا بيوت النبي بغير إذن كما يدخل الرجل على - أمه - وإن كن هن كالأمهات لكم - بغير إذن، فيكون النهي عن الدخول في بيته نهيًا عن الدخول بغير إذن؛

كقوله: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا}.

ويحتمل: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} ضيفًا {إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ}: إلا أن تدعوا إلى طعام؛ لأن رسول اللّه كان إذا هيئوا له شيئًا من الطعام دعا أصحابه؛ فيأكلونه، وكان لا يمسك ولا يدخر فضل الطعام لوقت آخر، فإذا نزل به ضيف، ولم يكن عنده ما يقدم إليه استحيا وشق عليه ذلك؛ فنهوا عن الدخول عليه والنزول به ضيفا؛ لما ذكرنا، وأمروا بالانتظار إلى أن يُدْعوا إلى الطعام؛ فعند ذلك يدخلون عليه ويضيفونه.

فإن كان الأول: ففيه الأمر بالحجاب والنهي عن الدخول بلا استئذان.

وإن كان الثاني: ففيه النهي عن النزول به ضيفا قبل أن يُدْعَوا؛ لما ذكرنا؛ ويكون الأمر بالحجاب في قوله: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذكر هذا؛ لأن أناسًا من المسلمين كانوا يتحينون طعام رسول اللّه وغداه، فإذا حضر ذلك دخلوا عليه بغير إذن؛ فجلسوا في بيته ينتظرون نضج الطعام وإدراكه " فنهوا عن ذلك، وكانوا إذا أكلوا وفرغوا منه، جلسوا في بيته، ويتحدثون، ويستأنسون؛ فنهوا عن ذلك، وأمروا بالانتشار والخروج من عنده وعند نسائه، ولم يكن يحتجبن قبل ذلك منهم؛ فشق ذلك على النبي، واللّه أعلم.

وجائز أن يكون الأمر بالانتشار والخروج من عنده؛ لما كان لرسول اللّه أمور وعبادات يحتاج إلى القيام بها: إما بينه وبين اللّه، أو بينه وبين غيرهم من الناس، فكانوا يشغلونه عن ذلك؛ فنهوا عن ذلك لذلك.

أو لما ذكر بعض أهل التأويل من الحاجة له في أزواجه والخلوة بهن وقت القيلولة، واللّه أعلم.

وقوله: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ}.

الدخول عليه بغير إذن؛ أو الانتظار لنضج الطعام وإدراكه، أو الجلوس بعد فراغهم من الطعام والحديث، أو ما كان.

وقوله: {فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللّه لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ}.

ورسول اللّه -أيضًا- كان لا يستحيي من الحق، لكنه يستحيي أن يقول لهم: " اخرجوا من منزلي ولا تدخلوا عليَّ "، ونحوه؛ لما يقبح ذلك في الخلق أن يقول الرجل لآخر: " لا تدخل منزلي " أو " اخرج من منزلي "؛ لما يرجع ذلك إلى دناءة الأخلاق والبخل، فلما

أنزل اللّه - تعالى - الآية، وأمر أن يقول لهم ما ذكر قال لهم، وأخبرهم بذلك؛ فلم يستح عند ذلك؛ لما صار ذلك من حق الذين فرضا عليه لازما أن يعلمهم الآداب، ويخبر عما يلزمهم من حق الدِّين، وكان قبل ذلك في حق الملك وحق النفس، فلما أنزل اللّه الآية، وأمر بذلك صار من حق الدِّين؛ لذلك كان ما ذكر، واللّه أعلم.

وقوله: {وَاللّه لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ}، أي: لا يدع ولا يترك أن يعلمهم الحق والأدب، وقد ذكرنا معناه في قوله: {إِنَّ اللّه لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا. . .} الآية.

وقوله: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}.

جائز أن يكون المعنى الذي يكون أطهر لقلوب الرجال غير المعنى الذي يكون أطهر لقلوبهن: ذلك المعنى الذي يكون أطهر لقلوبهم: من الفجور والهم لقضاء الشهوة، وما تدعوه النفس إليه، {أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}: من العداوة والضغينة، لا الفجور وقضاء الشهوة؛ وذلك أنهن قد عرفن أنهن لا يحللن لغيره نكاحًا؛ لما اخترنه والدار الآخرة على الدنيا وزينتها، وقد أوعدن بارتكاب الفاحشة العذاب ضعفين، على ما ذكر، وذلك يمنعهن ويزجرهن عن ارتكاب ذلك فإذا كان كذلك، فإذا عرفن من الداخلين عليهن والناظرين إليهن نظر الشهوة وقع في قلوبهن لهم العداوة والضغينة؛ فيقول: السؤال من وراء الحجاب أطهر لقلوبكم من الفجور والريبة وأطهر لقلوبهن من العداوة والضغينة، واللّه أعلم.

وجائز أن يكون ذلك واحدًا، وهو الريبة والفجور؛ لما مكن فيهن من الشهوات، وركب فيهن من فضل الدواعي إلى ذلك، واللّه أعلم.

وقوله: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللّه وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا}.

قال بعض أهل الْأويل: إن أنساء، الرسول لما احتجبن بعد نزول آية الحجاب، ونهوا عن الدخول عليهن والنظر إليهن - قال رجل: أننهى أن ندخل على بنات عمنا وبنات عماتنا وبنات خالنا وخالاتنا؛ أما - واللّه - لئن مات لأتزوجن فلانة - ذكر امرأة من نسائه - فنزل {وَمَا كَانَ} أي: لا يحل {لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللّه وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا}، لكن هذا قبيح؛ لا يحتمل أن أحدا من الصحابة يقول ذلك، أو واحدًا ممن صفا إيمانه به وحسن إسلامه، أن يخطر بباله ذلك إلا أن يكون منافقًا.

ويحتمل: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللّه} فيما تتدم ذكره، {وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} ابتداء نهي.

وجائز أن يكون: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللّه} في نكاح أزواجه؛ فيكون أذاهم رسول اللّه في نكاح أزواجه من بعده، ولو كان لا يحل أزواجه للناس؛ لما يذكر بعض أهل التأويل: لأنهن أمهات - لم يحتج إلى النهي عن نكاحهن بعده؛ إذ لا أحد يقصد قصد نكاح الأم، ولكن كان يحل لهم ذلك، وكان المعنى في ذلك ما ذكرنا من التعظيم له والاحترام؛ حتى نهاهم عن نكاح أزواجه من بعده، وجعله في حرمة أزواجه على غيره بعد وفاته؛ كأنه حي، وكذلك جعل في حق ماله وملكه في منع الميراث لوارثه؛ كأنه حي لم يرث ماله وارثه، بل جعل باقيًا أبدًا على ملكه، وكذلك أزواجه، وكذلك جعل في حق الرسالة والنبوة؛ كأنه حي، لم تنسخ شريعته بعد وفاته بشريعة أخرى، كما نسخت شريعة الأنبياء الذين كانوا قبله إذا ماتوا بشريعة أخرى؛ بل جعله كأنه حي في إبقاء شريعته إلى يوم القيامة؛ فعلى ذلك جعل في أزواجه كأنه حي في حرمة أزواجه في الآخرة؛ وعلى ذلك يخرج تأويل قوله - عندنا -: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} أي: هي لك خالصة لا تحل لأحد بعدك؛ فتكون زوجته في الجنة، واللّه أعلم.

وقوله: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللّه عَظِيمًا}.

يحتمل كان أذى رسول اللّه ونكاح أزواجه عند اللّه عظيما، أو عظيمًا في العقوبة عند اللّه.

٥٤

وقوله: (إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللّه كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (٥٤) أي: تبدوا شيئًا للعباد، أو تخفوه عنهم.

{فَإِنَّ اللّه كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}.

أي: ما أبديتم وما أخفيتم؛ {عَلِيمًا} لا يخفى عليه شيء؛ يذكر هذا؛ ليكونوا أبدًا على حذر وخوف، واللّه أعلم.

٥٥

وقوله: (لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللّه إِنَّ اللّه كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (٥٥)

أي: لا حرج ولا مأثم على النساء في دخول من ذكر عليهن بلا إذن ولا حجاب من {آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ}.

ذكر هَؤُلَاءِ، ولم يذكر الأعمام ولا الأخوال؛ فقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما لم يذكر هَؤُلَاءِ، ولم يبح لهم في ذلك؛ لأنهن يحللن بالنكاح لأولاد الأعمام والأخوال، فإذا دخلوا عليهن، فرأوهن متجردات متزينات؛ فيصفوهن لأولادهم، وقد يصف الرجل لولده حسن المرأة وقبحها؛ فينزل وصفهم إياهن لأولادهم منزلة رؤيتهم بأنفسهم؛ فيزيد لهم رغبة فيهن أو

رهبة عنهن، واللّه أعلم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما لم يذكر الأعمام والأخوال؛ لما في ذكر المذكور من بني الإخوة وبني الأخوات غنى عن ذكر الأعمام والأخوال؛ لأنهم جميعًا من جنس واحد ومن نوع واحد في معنى واحد، وقد يكتفى بذكر طرف من الجنس؛ إذا كان في معنى المذكور، نحو ما ذكر من أجناس المحرمات على الإبلاع، وترك من كل جنس شيئًا لم يذكره؛ إذ الذي لم يذكره هو في معنى المذكور؛ ففي ذكر من ذكر غنى عن الذي لم يذكر؛ فعلى ذلك في ذكر بني الإخوة وبنى الأخوات غنى عن ذكر الأعمام والأخوال؛ إذ هم في معناهم، واللّه أعلم.

وجائز أن يكون لم يبح الدخول للأعمام والأخوال؛ لأنهم إذا دخلوا عليهن فرأوهن متجردات؛ فلعل بصرهم يقع على فروجهن؛ فينظر إليها بشهوة؛ فيحرمن عيلى أولادهم، وهم إذا تزوجوهن لم يعلموا أنهن محرمات عليهم؛ فمنع دخول الأعمام والأخوال عليهن لذلك، واللّه أعلم.

وقوله: {وَلَا نِسَائِهِنَّ}،

قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: نساء المسلمات، يقول: خص نساء المسلمات، وأباح لهن الدخول عليهن بلا إذن، وأن يرينهن متزينات، ولم يبح ذلك لليهوديات والنصرانيات وأمثالهن؛ مخافة أن يصفن ذلك لأهل دينهن؛ فيكون ذلك سبب افتتانهم بهن والرغبة فيهن، واللّه أعلم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: نساؤهن: قراباتهن، خص هَؤُلَاءِ من بين غيرهن من الأجنبيات، وذلك يحتمل وجهين:

أحدهما: ما ذكرنا من خوف وصف الأجنبيات لأزواجهن والمتصلين بهن؛ من حسنهن وزينتهن إذا رأينهن متجردات متزينات، ولا يخاف ذلك من قراباتهن.

والثاني: خص القرابات؛ لما بهن ابتلاء، وليس بالأجنبيات ذلك، وقد يخفف الحكم ربما فيما فيه الابتلاء، ويغلظ فيما هو أخف منه ودونه؛ إذا لم يكن فيه ابتلاء؛ وعلى ذلك جائز أن يقال: إن الأعمام والأخوال لم يذكروا في الآية والرخصة؛ لأنه ليس بهم ابتلاء، وبمن ذكر ابتلاء، واللّه أعلم.

وقوله: {وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ}.

يحتمل الإماء خاصة؛ كقوله: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (٥) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ): لم يفهموا منه سوى الإماء؛ فعلى ذلك جائز أن يكون الممْهوم في قوله: {وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} الإماء، ويحتمل الإماء والعبيد جميعًا؛ فإن كان على الإماء والعبيد جميعًا، فذلك - واللّه أعلم - إنما أباح الدخول للعبيد على مولياتهم بلا إذن؛ لأنهم إنما يدخلون عليهن عند حاجاتهن إليهم في أوقات معلومة، وهن في تلك الأوقات يكن متأهبات لدخولهم عليهن محجبات عنهم؛ وعلى ذلك يخرج ما روى أن مكاتبًا لعائشة أم المؤمنين - رضي اللّه عنها - كان يدخل عليها، فلما أدى فعتق منعته من الدخول عليها، وهو لما ذكرنا: أنه كان يدخل عليها لوقت حاجتها إليه، وهي كانت متأهبة لدخوله عليها، وإلا لا يحتمل أن يكون يدخل عليها ويراها متجردة أو متزينة، بعدما أمرن بالاحتجاب؛ فعلى ذلك العبيد لا يحل لهم النظر إلى مولياتهم ولا يكونون محرمًا لهن.

أو إن احتمل الآية العبيد؛ فهم بالإذن يدخلون لا بغير إذن؛ فيكون الإذن مضمرا فيه.

ثم قال: {وَاتَّقِينَ اللّه}.

فيما ذكر من إباحة دخول من لم يبح دخوله عليهن والنظر إليهن.

{إِنَّ اللّه كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا}، هذا تحذير وتوعيد لهن، واللّه أعلم.

٥٦

وقوله: (إِنَّ اللّه وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (٥٦)

ذكر في بعض الحديث: أنه لما نزلت هذه الآية، قيل له: يا رسول اللّه، هذا لك فما لنا؛ فنزل قوله: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ. . .} الآية: قد بين ما صلاته وصلاة الملائكة؛ وهو ما ذكر من إخراجهم من الظلمات إلى النور، وهو دعاؤهم إلى الهدى والرشد، وذكر عن كعب بن عجرة قال: لما

نزل: {إِنَّ اللّه وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} قمت إليه، فقلت: يا رسول اللّه، السلام قد عرفناه؛ فكيف الصلاة عليك يا رسول اللّه؟ قال: " قل: اللّهم صل على مُحَمَّد وعلى آل مُحَمَّد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؛ إنك حميد مجيد، وبارك على مُحَمَّد، وعلى آل مُحَمَّد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ".

ففي الآية الأمر للمؤمنين أن يصلوا على النبي، ثم لما سئل هو عن كيفية الصلاة عليه وماهيتها؟ قال لهم: أن تقولوا: " اللّهم صل على مُحَمَّد "، وهو سؤال أن يتولى الرب الصلاة عليه.

وفي ظاهر الآية: هم المأمورون بتولي الصلاة بأنفسهم عليه، لكنه - صلوات اللّه عليه - لما أمروا بالصلاة عليه، وهي الغاية من الثناء، لم ير في وسعهم وطاقتهم القيام بغاية ما أمروا به من الثناء عليه - أمرهم أن يكلوا ذلك إلى اللّه ويفوضوا إليه، وأن يسألوه ليتولى ذلك هو دونهم؛ لما لم ير في وسعهم القيام بغاية الثناء عليه، وإلا ليس في ظاهر الآية سؤال الرب أن يصلي هو عليه؛ ولكن فيها الأمر: أن صلوا أنتم عليه، واللّه أعلم.

وقوله: " كما صليت وباركت على إبراهيم وآله ": تخصيص إبراهيم من بين غيره من الرسل يحتمل ما ذكره أهل التأويل: إنه ليس من أهل دين ومذهب إلا وهو يدعي ويزعم أنه على دينه ومذهبه، وأنه يتأسّى به؛ لذلك خضه بالصلاة عليه من بين غيره من الأنبياء وجائز أن يكون لا لهذا؛ ولكنه لمعنى كان فيه وفي ذريته، لا نعرفه نحن؛ فخصه بذلك من بين غيره، واللّه أعلم.

وقوله: " وبارك على مُحَمَّد " البركة كأنها اسم كل خير يكون أبدًا على النماء والزيادة في كل وقت، وقد ذكرنا فيما تقدم ما قيل في صلاة اللّه عليهم وصلاة الملائكة وصلاة المؤمنين.

٥٧

وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّه وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّه فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (٥٧) اختلف فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: نزلت الآية في اليهود؛ حين قالوا: {يَدُ اللّه مَغْلُولَةٌ}، وهو {فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ}، وفي النصارى؛ حين قالوا: {الْمَسِيحُ ابْنُ اللّه}، وإنه {ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ}؛ وفي مشركي العرب،

حين قالوا: الملائكة بنات اللّه، والأصنام آلهة، ونحو ذلك، وأذاهم رسول اللّه حين شجُّوه وكسروا رباعيته، وقالوا: إنه مجنون، أو ساحر، وأمثال ذلك؛ فأنزل اللّه: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّه وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّه}، يقول: عذبهم اللّه {فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}:

فأما تعذيبه إياهم في الدنيا: قتلهم بالسيف يوم بدر - يعني: مشركي العرب - وأهل الكتاب: بالجزية إلى يوم القيامة.

وفي الآخرة: النار.

وقَالَ بَعْضُهُمْ قريبًا من ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّه وَرَسُولَهُ} هم أصحاب التصاوير والتماثيل؛ فلهم ما ذكر.

٥٨

وقوله: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (٥٨)

أي: يقعون فيهم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّه وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّه فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} هم الذين قذفوا عائشة بصفوان؛ آذوا رسول اللّه في زوجته عائشة حين قذفوها، وهي بريئة مما قذفوا.

وقوله: {الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}: صفوان وعائشة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: نزلت في علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - فعلى هذا: عذابهم في الدنيا الجلد، وفي الآخرة: النار.

وجائز أن يكون هذا الوعيد في قاذف كل مؤمن ومؤمنة بغير ما اكتسب به، واللّه أعلم.

وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّه وَرَسُولَهُ} إضافة الأذى إلى اللّه؛ على إرادة رسوله خاصة؛ لأن اللّه لا يجوز أن يقال: إنه يتأذى بشيء، أو يؤذيه شيء؛ لأن الأذى ضرر يلحق، واللّه يئعالى عن أن يلحقه ضرر أو نفع؛ بل هو القاهر الغالب القادر الغني بذاته، ويكون المراد بإضافة الأذى إليه: رسوله خاصة، على ما ذكرنا في قوله: {يُخَادِعُونَ اللّه}؛ أي: يخادعون رسوله، أو يخادعون أولياءه؛ لأن اللّه - تعالى - لا يخادع، وكقوله: {إِنْ تَنْصُرُوا اللّه يَنْصُرْكُمْ}، أي: إن تنصروا دين اللّه ينصركم، أو إن تنصروا رسوله وأولياءه ينصركم، وأمثال ذلك كثير في القرآن؛ نسب ذلك إلى نفسه على إرادة أوليائه، فعلى ذلك هذا، واللّه أعلم، وباللّه العصمة والتوفيق.

إلا أن يريد بالأذى - أعني: ما ذكر من أذى اللّه -: المعصية؛ فهو جائز، وكذلك ما

روي عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " من آذاني فقد آذى اللّه "، أي: من عصاني فقد عصى اللّه.

وفي الآية بيان وقوع المراد على الاختلاف والتفاوت من لفظ واحد؛ لأنه ذكر - هاهنا - أذى رسول اللّه، وعقب الوعيد الشديد من اللعن والعذاب في الدنيا والآخرة، وذكر في الآية التي قبلها، حيث قال: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ}، و {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللّه}، وما ذكر من الأذى، ثم لا شك أن المفهوم من هذا الأذى المذكور في هذه الآية - غير المفهوم من الأذى المذكور في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّه وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّه فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}، وأن أحدهما من المؤمنين، والآخر من الكفار، وإن كان ظاهر اللفظ في المخرج واحدا، وكذلك المفهوم من الظلم الذي ذكر في قوله: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا}، غير المفهوم من الظلم الذي قال آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا}، والمفهوم من الضلال الذي قال موسى: {فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ}، غير المفهوم من ضلال فرعون وسائر الكفرة، وكذلك الفسق، ومثل هذا كثير، لا يجب أن نفهم من أمثال هذا شيئًا واحدًا أو معنى واحدا، وإن كان اللفظ لفظا واحدًا؛ ولكن على اختلاف الموقع.

وفي الآية دلالة عصمة رسول اللّه، وألا يكون منه ما يستحق الأذى بحال، وقد يكون من المؤمنين والمؤمنات ما يستوجبون الأذى ويستحقونه؛ حيث ذكر الأذى لرسول اللّه مطلقًا مرسلا غير مقيد بشيء؛ حيث قال: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّه وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّه}، وذكر أذى المؤمنين مقيدًا بشرط الكسب؛ حيث قال: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا}؛ فدل شرط الكسب على أنهم قد يكتسبون ما يستحقون الأذى، ويكون منهم ما يستوجبون ذلك، وأما الرسول فلا يكون منه ما يستحق ذلك أو يوجب له، ولا قوة إلا باللّه.

واللعن: هو الطرد في اللعنة، طردهم عن رحمته، وبعدهم عنها، والبهتان: قيل: هو أن يقال فيه ما ليس فيه؛ فبهت: قيل: تحير وانقطع حجاجه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} أُنزل في قوم همتهم الزنا بالإماء، وكانت الحرائر يومئذ يخرجن بالليل على زي الإماء فيتابعونهن، ويطلبون ما يطلبون من الإماء؛ فكان ذلك يؤذيهم ويتأذين بذلك جدًّا؛ فشكوا ذلك إلى

رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في ذلك، فنزل {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا}، ثم أمرن عند ذلك بإدناء الجلباب وإرخائه عليهن؛ ليعرفن أنهن حرائر، ونهين أن يتشبهن بالإماء؛ لئلا يؤذين،

٥٩

وهو قوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللّه غَفُورًا رَحِيمًا (٥٩)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: نزل هذا بالمدينة في نساء المهاجرين؛ وذلك أن المهاجرين قدموا إلى المدينة، وهي مضيقة، ومعهم نساؤهم؛ فنزلوا مع الأنصار في ديارهم؛ فضاق الدور عليهم، فكانت النساء يخرجن بالليل إلى البراز، فيقضين حوائجهن هنالك، فكان المريب يرصد النساء بالليل، فيأتيها فيعرض عليها، وإنَّمَا كانوا يطلبون الولائد والإماء، فلم تعرف الأمة من الحرة بالليل؛ لأن زيهن كان واحدًا يومئذ؛ فذكر نساء المؤمنين ذلك إلى أزواجهن ما يلقين بالليل من أهل الريبة والفجور؛ فذكروا ذلك لرسول اللّهءشَعِ فنزل فيهم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ. . .} إلى آخر ما ذكر: أمر الحرائر بإرخاء الجلباب وإسداله عليهن؛ ليكون علما بين الحرائر والإماء.

ورُويَ عن عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أن جارية مرت به متقنعة؛ فضربها بالدرة،

وقال: " اكشفي قناعك، ولا تتشبهي بالحرائر "، وأمر الإماء بكشف ما ذكر، والحرائر بستر ذلك.

وقد أمر الحرائر في سورة النور بضرب الخمر على الجيوب بقوله: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}؛ لئلا يظهر الزينة التي على الجيوب، ونهين أن يظهرن ويبدين زينتهن للأجنبيين إلا ما ظهر منها، وأمرن في هذه الآية على إرخاء الجلباب وإسداله عليهن؛ ليعرفن أنهن حرائر؛ فلا يؤذين بما ذكرنا.

ثم اختلف في الجلباب:

قَالَ بَعْضُهُمْ: هو الرداء، والجلابيب: الأردية، وهو قول الْقُتَبِيّ: أمرن أن يلبسن الأردية والملاء.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الجلابيب: المقانع، الواحد: جلباب، يقال: [تجلبي]، أي تقنعي، وهو الذي يكون فوق الخمار.

وفي الآية دلالة رخصة خروج الحرأئر للحوائج؛ لأنه لو لم يجز لهن الخروج لم يؤمرن بإرخاء الجلباب على أنفسهن؛ ولكن ينهاهن عن الخروج؛ فدل أنه يجوز لهن الخروج للحاجة، واللّه أعلم.

٦٠

وقوله: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (٦٠)

جائز أن يكون قوله: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ} عما سبق ذكره من التعرض للنساء بالزنا والفجور بهنّ؛ وإنهم هم الفاعلون لذلك بهن. وأما المسلمون فلا يحتمل أن يتعرضوا لشيء من ذلك في ذلك الوقت؛ فقال: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ} ومن ذكر، عن ذلك يفعل بهم ما ذكر.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن أهل النفاق كانوا يرجفون أخبار العدو ويذيعونها، ويقولون: قد أتاكم عدد وعدة من العدو؛ كقوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ}: كانوا يجبنونهم ويضعفونهم؛ لئلا يغتروا أُولَئِكَ الكفرة، يسرون النفاق والخلاف لهم، ويظهرون الوفاق ويسرون فيما بينهم، ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول؛ فنهوا عن ذلك؛ حيث قال: {فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ}؛ فنهوا عن ذلك؛ فقال هاهنا: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} عن صنيعهم ذلك، {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ}، أي: لنسلطنك عليهم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: لنحملنك عليهم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: لنولعنك بهم.

وكأن الإغراء هو التخلية بينه وبينهم؛ حتى يقابلهم بالسيف ويقتلهم، وكان قبلى ذلك يقابلهم باللسان، لم يأمره بالمقابلة بالسيف إلى هذا الوقت، وأخبر أنهم {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا}.

أي: مطرودون أينما وجدوا؛ لأن اللعن هو الطرد، وأنهم يقتلون تقتيلا، وأنهم لا يجاوروند، إلا قليلا فيما لا تعلم بهم.

وقوله: {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ}

قَالَ بَعْضُهُمْ: هبم الزناة، و {الْمُنَافِقُونَ}، هم

المنافقون، {وَالْمُرْجِفُونَ}: ليسوا بمنافقين؛ ولكنهم قوم كانوا يحبون أن يفشوا الأخبار، ويقال: الإرجاف: هو تشييع الخبر.

وجائز أن يكون المنافق هو الذي كان مع الكفرة في السر حقيقة، والذي في قلبه مرض: هو الذي في قلبه ريب واضطراب، لم يكن مع الكفرة لا سرًا ولا ظاهرًا، والذي بين الكافر والمنافق.

٦٢

وقوله: (سُنَّةَ اللّه فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّه تَبْدِيلًا (٦٢)

قَالَ بَعْضُهُمْ: سنة اللّه في الأمم السالفة الإهلاك من الكفار.

وجائز أن يكون قوله: {سُنَّةَ اللّه} في أهل النفاق من الأمم السالفة - ما ذكر في هَؤُلَاءِ.

وقال مقاتل: {فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ}: أهل بدر حين أسروا وقتلوا، واللّه أعلم.

٦٣

وقوله: (يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ (٦٣)

جائز أن يكون السؤال محنها ما ذكر في آية أخرى حيث قال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا}، وعن قيامها فقال: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللّه}.

ففيه دلالة إثبات رسالة رسوله ع؛ لأنه حين سئل عنها، فوض أمرها وعلمها إلى اللّه، على ما أمر به، ولو كان غير رسول اللّه - لكان يجيبهم - علم أو لم يعلم - على ما يفعله طلاب الرياسة، بل قال: {عِلْمُهَا عِنْدَ اللّه}؛ دل أنه رسول اللّه، فبلغ إليهم ما أمر بالتبليغ إليهم.

وقوله: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا}.

هذا يخرج على الوعيد والتحذير، وهو يخرج على وجهين:

أحدهما: كأنه يقول: اعلم أن الساعة تكون قريبًا؛ على الإيجاب؛ لأن {لَعَلَّ} من اللّه واجب؛ فهو وكل ما هو آتٍ فهو كالكائن.

والثاني: على الترجي، أي: اعملوا على رجاء أنه قريب، واللّه أعلم.

٦٤

وقوله: (إِنَّ اللّه لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (٦٤)

لعنهم، أي: طردهم عن رحكمته؛ لما علم أنهم يختارون الكفر على الإيمان ويختمون

عليه.

(وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (٦٤) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا).

٦٥

قوله: (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (٦٥) ينقض على الجهمية قولهم، وعلى أبي الهذيل العلاف.

أما على الجهمية؛ لأنهم يزعمون أن الجنة والنار تفنيان ولهما النهاية، وقالوا: لأنا لو لم نجعل لهما النهاية والغاية، لخرجتا عن علم اللّه؛ لأن الشيء الغير المتناهي خارج عن علمه؛ لكن هذا بعيد، جهل منهم بربهم؛ لأن علمه بالشيء الغير المتناهي: أنه غير متناه، وعلمه بالمتناهي: أنه متناه، ولا يجوز أن يخرج شيء عن علمه متناهيًا كان أو غير متناه، وباللّه العصمة.

وأمَّا العلاف؛ فلأنه يقول: إن أهل الجنة وأهل النار يصيرون بحال في وقت ما حتى إذا أراد اللّه أن يزيد لأحد منهم لذة أو نعمة أو عذابا - لم يملك عليه، أو كلام نحو هذا؛ فنعوذ باللّه من السرف في القول على اللّه.

وقوله: {لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا}.

مما طمعوا في الدنيا ورجوا من كثرة الأسباب والحواشي، أو عبادة الأصنام وغيرها أن ينفعهم ذلك وينصرهم في الآخرة؛ بل ضل عنهم ذلك وحرموا؛ على ما أخبر: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}، واللّه أعلم.

٦٦

وقوله: (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ... (٦٦)

وقال في آية أخرى: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ}، وأصله ما ذكر في قوله: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}: يفعل بهم في الآخرة على ما كانوا في الدنيا.

وقوله: {يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللّه وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا}.

لا يزال الكفرة قائلين لهذا القول مترددين له في الآخرة؛ لما رأوا من العذاب حين حل بهم {يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللّه وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا}: الرسول المطلق: رسول اللّه والسبيل المطلق: هو دين اللّه، هو المعروف في القرآن.

٦٧

وقوله: (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (٦٧) قَالَ بَعْضُهُمْ السادة: الملوك، والكبراء: العلماء.

وجائز أن يكون السادة: القادة، والكبراء: دونهم.

و {الرَّسُولَا} و {السَّبِيلَا}: أثبتوا الألف فيه عند الوقف، وأما عند الوصل فلا؛ وذلك أن من عادة العرب ألا تقف على الحركة؛ ولكن تزيد لها ألفًا إذا كانت فتحة، وإذا

كانت كسرة: ياء.

٦٨

وقوله: (رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (٦٨)

ظنوا أن يكون لهم بعض التسلي والتفرج؛ إذا رأوا أُولَئِكَ الذين أضلوهم في زيادة من العذاب، على ما يكون للرجل بعض التسلي إذا رأى عدوه في بلاء وشدة، فلما لم يكن لهم من ذلك تسل، بل كان لهم من ذلك زيادة عذاب وشدة؛ فقالوا عند ذلك: {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ. . .} الآية.

وقوله: {وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا}.

جائز أن يكون هذا، أي: عذبهم عذابًا كبيرا طويلا.

٦٩

وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللّه مِمَّا قَالُوا}.

يقول عامة أهل التأويل: إن موسى كان لا يغتسل فيما يراه أحد؛ فقال بنو إسرائيل: إن موسى آدر، ويروون على ذلك عن نبي اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " إن بني إسرائيل طعنوا نبي اللّه موسى بذلك، فذهب ذات يوم يغتسل، فوضع ثيابه على حجر، فسعى الحجر بثوبه؛ فجعل موسى يعدو في إثره ويقول: ثوبي حجر - أي: يا حجر ثوبي - حتى مرَّ به على ملأ بني إسرائيل؛ فعلموا أنه ليس به شيء، فذلك قوله: {فَبَرَّأَهُ اللّه مِمَّا قَالُوا} "، وكان موسى يتأذى بما كانوا يطعنون؛ فعلى ذلك رسول اللّه كان يتأذى؛ إذا قالوا: زيد بن مُحَمَّد؛ فأمروا أن يدعوه لأبيه، يقول: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللّه}، زيد بن حارثة، لكن هذا التأويل بعيد؛ لأن موسى كان يدعوهم إلى ستر العورة، لا يحتمل أن يطمعوا هم منه الاغتسال معهم، وأن يكشف عورته لهم، أو ينظر إلى عورة أحد، هذا وخش من القول أو يسلط حجرًا، فيذهب بثيابه حتى يراه الناس

متجردًا، واللّه أعلم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: آذوه؛ لأنه كان خرج بهارون إلى بعض الجبال؛ فمات هارون هناك، فرجع موسى إليهم وحده؛ فقال بنو إسرائيل لموسى: أنت قتلته حسدًا؛ فقال موسى: " ويلكم، أيقتل الرجل أخاه "؛ فآذوه، فذلك قوله: {لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللّه مِمَّا قَالُوا}؛ فجاءت به الملائكة فوضعته بينهم، فقال لهم: لم يقتلني أحد؛ إنما جاء أجلي فمت، فذلك قوله: {فَبَرَّأَهُ اللّه مِمَّا قَالُوا}.

هذا يشبه أن يكون - وغيره - كأنه أقرب وأشبه، وهو ما كان قوم كل رسول نسبوا رسولهم إلى الجنون مرة، وإلى السحر ثانيًا، وأنه كذاب مفتر، ونحوه، على علم منهم أنه رسول اللّه، ولا شك أنهم كانوا يتأذون بذلك جدا؛ ولذلك قال: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللّه إِلَيْكُمْ}: لا يحتمل أن يكون هذا في الأول؛ لأنهم لو كانوا علموا أنه ليس به ما ذكروا - لم يؤذوه؛ فدل أن أذاهم إياه فيما ذكرنا، وفي أمثال ذلك، وكذلك ما نهى قوم رسول اللّه من الأذى له؛ لما نسبوه مرة إلى الجنود، وإلى السحر ثانيًا، وإلى الافتراء والكذب على اللّه ثالثًا، لا فيما ذكر أُولَئِكَ.

{وَكَانَ عِنْدَ اللّه وَجِيهًا}.

أي: مكينًا في القدر والمنزلة، واللّه أعلم.

٧٠

وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّه وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٧٠)

جائز أن يكون قوله: {اتَّقُوا اللّه}، أي: اتقوا الشرك في حادث الوقت، {وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا}، أي: ائتوا بالتوحيد في حادث الوقت؛ لأنه إنما خاطب به المؤمنين:

٧١

(يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ... (٧١)

أي: بالتوحيد؛ لأنه بالتوحيد تصلح الأعمال وتذكر، وبه يغفر ما كان من الذنوب، وبه يكون الفوز العظيم، وباللّه التوفيق.

ويحتمل قوله: {اتَّقُوا اللّه} في الخيانة فيما بينكم وبين الخلق، أي: لا تخونوا الخلق.

{وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا}، أي: صمدقا وصوابا؛ أي: لا تكذبوا، ولا تقولوا فحشًا ونحوه.

ويحتمل {اتَّقُوا اللّه} ولا تعصوه، واعملوا بالمعروف، وانتهوا عن المنكر {وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا}، ومروا الناس، وانهوا عن المنكر {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ. . .} إلى آخر ما ذكر، واللّه أعلم.

٧٢

وقوله: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (٧٢) قد تكلف أهل التأويل تفسير هذه الأمانة المذكورة في الآية:

قَالَ بَعْضُهُمْ: هي كلمة الشهادة والتوحيد.

ومنهم من قال: هي جميع الفرائض التي افترض اللّه على عباده.

ومنهم من قال: هي الصلاة، والصيام، والحج، وأمثاله، وجميع ما أمروا به ونهوا عنه.

لكن التكلف والاشتغال بالتكلم في ماهية هذه الأمانة المذكورة المعروضة على من ذكر - فضل، لا يجب أن يتكلف تفسيرها: أنها كذا؛ لأنها مبهمة، لا تعلم إلا بالخبر الوارد عن اللّه - تعالى - أنها كذا، وأن يجعل ذلك من المكتوم، ولا يشتغل بالتفسير، واللّه أعلم بذلك.

ثم اختلف فيما ذكر من عرض هذه الأمانة على السماوات والأرض والجبال، وما ذكر من إبائها عن احتمالها والإشفاق:

فقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ومن ذكر؛ أي: خلقنا خلقة ما ذكر من السماوات والأرض والجبال خلقة لا تحتمل حمل ما ذكر من الأمانة؛ {فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا} إباء خلقة؛ أي: لم يخلق خلقتها بحيث تحتمل ذلك، {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ} أي: خلقنا خلقة الإنسان خلقة تحتمل ذلك؛ إلى هذا يذهب بعضهم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {عَرَضْنَا} حقيقة العرض، إلا أنه على التخيير بين أن تقبل وتتحمل وتفي بذلك فيكون لها الثواب، أو لا تفي فيكون لها العقاب في الآخرة، وبين ألا تتحمل ولا تقبل؛ فتكون كسائر الموات تفنى بفناء الدنيا: لا ثواب لها في الآخرة ولا عقاب، وإلا لم يحتمل أن يعرض عليهن ما ذكر عرض لزوم وإيجاب، ثم يأبين ذلك ويشفقن منها، وقد وصفهن اللّه بالطاعة له والخضوع في غير آي من القرآن؛ حيث قال: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}،

وقال: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ. . .} الآية، و

قال في آية: {يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ}

وكذا، ونحوه، ولكن إن كان على حقيقة العرض فهو على التخيير الذي ذكرنا، {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ}، فكان له الثواب إن قام بها، وعليه العقاب إن لم يقم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ}، أي: عرض على أهل السماوات وأهل الأرض وأهل الجبال، فلم يحملوها، إلا الإنسان منهم فإنه حملها.

{إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} قال الحسن: ظلومًا لنفسه، جهولا لأمر ربه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا}، أي: أبين أن يعصين اللّه وأشفقن منه! أي: لم يعصوا قط {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ} أي: عصى الإنسان ربه؛ فيجعل الحمل كناية عن العصيان والوزر، يقول: لأنه ما ذكر في القرآن الحمل إلا في الوزر والخطايا؛ كقوله: {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ}،

وقوله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ}،

وقوله: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ}،

وقوله: {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ. الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ}، ونحوه كثير.

وقوله: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} إلى أي تأويل من هذه التأويلات التي ذكرنا صرف هذا إليه - استقام، واللّه أعلم.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنهما - قال: {الْأَمَانَةَ}: العبادة: قال اللّه - تعالى - للسماوات والأرض والجبال: تأخذن العبادة بما فيها، قلن: يا رب، وما فيها؟ قال: إن أحسنتن جزيتن، وإن أسأتن عوقبتن، {فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا}، أي: خفن، وعرضت على الإنسان فقبلها، وهو قول اللّه لبني آدم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللّه وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، أما خيانتهم اللّه ورسوله فمعصيتهما، وأمَّا خيانة الأمانة فتركهم ما افترض اللّه عليهم من العبادة.

وقتادة: يقول: أما واللّه ما بهن معصية، ولكن قيل لهنَّ: أتحملنها وتؤدين حقها؟ قلن: لا نطيق ذلك، فقيل للإنسان - وهو آدم -: أتحملها وتؤدي حقها؟ قال: نعم {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} عن حقها.

وفي حرف أُبي وابن مسعود وحفصة [(فأبين)] أي: فلم يطقنها.

وقال أبو معاذ: الإباء في كلام العرب على وجهين:

أحدهما: هذا، وهو العجز.

والآخر: قوله: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى} أي: عصى وترك الأمر.

والحسن يقول: عرضت الأمانة على السماوات وما ذكر، فقيل لهن: أتأخذن الأمانة بما فيها؟ قلن: يا رب، وما فيها؟ قيل لهن: إن أحسنتن جزيتن، وإن أسأتن عوقبتن، قلن: لا {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا} لنفسه {جَهُولًا} بربه، وهو مثل الأول.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: كان ظلومًا لنفسه في ركوبه المعصية، جهولا بعاقبة ما تحمل.

والوجه فيه ما ذكرنا بدءًا أنه لا تُفسر الأمانة أنها ما هي؟ وكيف كان ذلك العرض على من ذكر من السماوات والأرض والجبال، وإباؤهن، وإشفاقهن؛ واللّه أعلم ما أراد بذلك.

٧٣

وقوله: (لِيُعَذِّبَ اللّه الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللّه ... (٧٣) على من ذكر؛ أي: ليعذب من علم أنه لا يقوم بوفائها ويضيعها - أعني: الأمانة التي احتملها - وإنما ضيعها من ذكر من المنافقين والمشركين، ويثيب من لم يضيعها وقام بوفائها، وهم المؤمنون.

قال أَبُو عَوْسَجَةَ: السداد: الاستقامة؛ تقول: سددك اللّه، وأرشدك.

وقال أبو عبيدة: السديد: القصد.

وكذلك قَالَ الْقُتَبِيُّ، والقصد كأنه العدل، واللّه أعلم.

وصلى اللّه على مُحَمَّد وآله أجمعين.

* * *

﴿ ٠