٢٨وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا ... (٢٨) قال بعض أهل التأويل: إنهن جلسن، فجعلن يخترن الأزواج في حياة رسول اللّه، فنزلت الآية توبيخًا لهن وتعييرًا على ذلك. لكن هذا بعيد محال: لا يحتمل أن يكون أزواجه يخترن الأزواج، وهن تحته في حياته؛ فذلك سوء الظن بهن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنهن طلبن النفقة منه؛ فنزل ما ذكر. وقيل: إنهن تحدثن بشيء من الدنيا وركنَّ إليها؛ فنزل ما ذكر عتابًا لهن وتعييرًا، ونحو ذلك قد قالوا. وجائز أن يكون اللّه يمتحن رسوله وأزواجه بالتخيير واختيار الفراق منه - ابتداء امتحان من غير أن يكون منهن شيء مما ذكروا ولا سبب؛ وعلى ذلك روي في الخبر عن عائشة - رضي اللّه عنها - قالت: " لما أمر رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بتخيير أزواجه؛ بدأ بي فقال: " يا عائشة، إني ذاكر لك أمرًا، فلا عليك ألا تستعجلي حتى تستأمري أبويك "، قالت: وقد علم اللّه أن أبوي لم يكونا ليأمراني بفراقه، قالت: ثم قال: " إن اللّه يقول: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا. . .} إلى قوله: {أَجْرًا عَظِيمًا}؛ فقلت: أفي هذا أستأمر أبوي؟! فإني أريد اللّه ورسوله والدار الآخرة. وفعل سائر أزواجه مثل ما فعلت ". وفي بعض الأخبار أنها قالت: بل أختار اللّه ورسوله والدار الآخرة؛ فدل قولها: " لما أمر رسول اللّه بتخيير أزواجه ": أن ذلك من اللّه ابتداء امتحان، من غير أن كان منهن ما ذكروا من الركون إلى الدنيا والتحدث بما ذكر. وفيه وجوه من الدلالة: أحدها: إباحة طلب الدنيا وزينتها من وجه يحل ويجمل، حيث قال: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا}؛ لأنه لو لم يكن يحل ذلك لهن، وكن منهيات عن ذلك، لكان رسول اللّه لا يفارقهن؛ حتى لا يخترن المنهي من الأمر، وقد كان يملك حبسهن في ملكه؛ حتى لا يخترن ما ذكره من المنهي؛ دل ذلك - واللّه أعلم - أن ذلك كان على وجه يحل ويجمل. وفيه أن رسول اللّه لم يكن عنده ما ذكر من الدنيا والزينة وما يستمتع بها؛ إذ لو كان عنده ذلك، لم يحتمل أن يخيرهن بالفراق منه لما ذكر وعنده ذلك، ولا هن يخترن الفراق منه وعنده ذلك؛ دل أنه لم يكن عنده ما ذكر، ويبطل قول من يقول: إنه كان عنده الدنيا ويفضل الغناء على الفقر بذلك. وفيه دلالة: أن أزواجه كن يحللن لغيره في حياته إذا فارقنه؛ لأنهن إذا لم يحللن لغيره لم يكن لقوله: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} معنى؛ لأنهن إذا لم يحللن لغيره، وعندهن ما ذكر من الدنيا، يحملهن ذلك على الفجور؛ فدل أنهن كن يحللن لغيره في حياته إذا فارقهن، وإنما لم يحللن لغيره إذا مات؛ فيكون له حكم الحياة كأنه حيٌّ في حق أزواجه. ويخرج قوله: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}: في الآخرة لا تحل لغيره؛ فتكون زوجته في الجنة. ثم اختلف الصحابة - رضي اللّه عنهم - فيمن خير امرأته فاختارت: قَالَ بَعْضُهُمْ: إذا خيرها فهو تطليقة رجعية، وإذا اختارت فهي بائنة، وهو قول عليَّ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إذا اختارت نفسها فهي ثلاث، وإذا اختارت زوجها فلا شيء. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إذا اختارت زوجها، فهي تطليقة رجعية، وإن اختارت نفسها فهي تطليقة بائنة. وعندنا: أن التخيير نفسه لا يكون طلاقًا، فإن اختارت زوجها، لا شيء، وإذا اختارت نفسها؛ فهي بائن. أما قولنا: إذا اختارت زوجها لا شيء؛ لما روي عن عائشة قالت: " خيرنا رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فاخترناه " فلم يعد ذلك طلاقا. وأما قوله: إذا اختارت نفسها فيكون بائنا؛ لأنه خيرها بين أن تختار نفسها لنفسها وبين أن تختار نفسها لزوجها؛ فإن اختارت نفسها ألنفسها، فهي بائن؛ لأنا لو جعلناه رجعيّا لم يكن اختيارها نفسها لنفسها، ولكن لزوجها؛ إذ لزوجها أن يراجعها شاءت أو أبت، وكان التخيير بين النفسين، على ما ذكرنا. وأما قول من يقول بأن نفس التخيير طلاق فهو باطل؛ لما ذكرنا من تخيير رسول اللّه أزواجه؛ فلم يكن ذلك طلاقًا. وأما من قال بالثلاث إذا اختارت نفسها فهو كذلك عندنا إذا ذكر في التخيير الثلاث. وأما قول من قال بالرجعي، فهو إذا صرح بالتطليق؛ فهو كذلك، واللّه أعلم. وقوله: {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا}: الإرادة هاهنا: إرادة الاختيار والإيثار حياة الدنيا وزينتها، لا ميل القلب والرضاء به، وكذلك قوله: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللّه وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ}. هو إرادة الاختيار والإيثار، وهو ما يراد ويختار فعلا، لا ميل القلب والرضاء به؛ لأن كل ممكن فيه الشهوة مجعول فيه هذه الحاجة يميل قلبه، ويركن إلى ما يتمتع بحياة الدنيا ولذاتها، ويرضاه ويحبه؛ فدل أنه أراد إرادة الفعل والاختيار لا إرادة القلب ورضاه. ثم فيه ما ذكرنا من حلهن لغير رسول اللّه إذا اخترن الفراق منه؛ لما ذكر أنه يمتعهن ومعلوم أنهن لا يكتسبن بأنفسهن حتى يتمتعن بذلك، ولم يكن عندهن ما يستمتعن؛ فدل أنه إنما يمتعهن بأموال أزواجهن؛ فدل على حلهن لغيره في حياته إذا فارقنه واللّه أعلم. |
﴿ ٢٨ ﴾