سُورَة فَاطِرٍوهي نزلت بمكة بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ١قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {الْحَمْدُ للّه فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. ما ذكر في القرآن الحمد للّه إلا وذكر على أثره التعظيم للّه والإجلال له على ما أنعم به على الخلق؛ ليلزمهم الشكر له والثناء عليه؛ نحو ما ذكر: {الْحَمْدُ للّه فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، ونحو ما قال: {الْحَمْدُ للّه الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ ... } الآية، ونحو قوله: {الْحَمْدُ للّه الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ. . .} الآية، وقوله: {الْحَمْدُ للّه الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ. . .} الآية، وقوله: {الْحَمْدُ للّه الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا. . .} الآية، جميع ما ذكر في القرآن من الحمد له ما ذكر على أثره ما يوجب التعظيم له والتبجيل والثناء عليه والشكر له؛ تعليمًا منه الخلق الثناء على ذلك والشكر له، وباللّه المعونة والقوة على ذلك. وقوله: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. قَالَ بَعْضُهُمْ: الفاطر: هو المبتدئ والبادئ؛ وهو قول الْقُتَبِيّ من أهل الأدب، وكذلك ذكر عن ابن عَبَّاسٍ أنه قال: " ما أدري ما {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، حتى جاء أعرابيان فاختصما في بئرٍ، فقال أحدهما: أنا فطرتها أنا بدأتها، فعند ذلك عرفت "، أو كلام نحوه. ويجيء أن يكون الفاطر هو الشاق، أي: شق السماوات كلها من واحدة وكذلك الأرضين كقوله: {إذَا السَّمَاءُ انفَطَرَت} أي: انشقت؛ كما قال: {إِنَّ اللّه فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} أي: الشاق. لكن جميع ما أضيف إلى اللّه من الشق والفطر والجعل وغيره من نحو قوله: {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا} كله على اختلاف الألفاظ عبارة عن الخلق، أي: خلاق ذلك كله. وأصل الخلق في اللغة هو التقدير، خلقت، أي: قدرت؛ وكذلك قال الكسائي: إن الفطر في كلام العرب هو الشق، معناه: أنه شق من السماء ست سماوات ومن الأرض مثلهن، ومنه الحديث: " حتى تفطرت قدماه دمًا ". وقوله: {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا}. ففي ظاهر الآية: أنه جعل جميع الملائكة رسلا، فإن كان على ذلك فكأنه ولَّى كل واحد منهم أمرًا من أمور الخلق والعباد، وإن كان على البعض فيكون تأويله: جاعل من الملائكة رسلا أو في الملائكة رسلا. ثم أخبر عن الملائكة: أنهم أولو أجنحة مثنى وثلاث ورباع يطيرون بها، ليس كالطيور التي تطير بجناحين لو زيد لها جناح أو جناحان يمنعها عن الطيران، كالأصبع الزائدة لبني آدم تمنعهم عن بعض العمل، ولا تزيد لهم نفعًا بل تنقص، وأمَّا ما ذكر من عدد الأجنحة للملائكة فذلك لا يمنعهم عن الطيران، بل زيد لهم قوة ومقدرة على ذلك. ثم قال: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} قَالَ بَعْضُهُمْ: يزيد في الملائكة على أربعة أجنحة ما يشاء {إِنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} من خلق الأجشة في الزيادة {قَدِيرٌ}. وذكر أن لإسرافيل ستة أجنحة، ولجبريل ستمائة جناح، ذكر عن ابن مسعود - رضي اللّه عنه - يقول: " أري رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - جبريل، وله ستمائة جناح ". وقَالَ بَعْضُهُمْ: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} أي: الصوت الحسن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الشعر الحسن. فهو فيما ذكروا من الزيادة في الأجنحة أشبه وأقرب. {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: من الزيادة والابتداء، ولا يصعب عليه. ٢وقوله: (مَا يَفْتَحِ اللّه لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢) عن ابن عَبَّاسٍ: من عافية. وقال قتادة: أي: من خير. وقال مقاتل وغيره: أي: من رزق؛ كقوله: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ} أي: من رزق، وكله واحد؛ إذ الخير يشتمل على العافية والرزق، وكذلك كل واحد من ذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الرحمة والغيث والمطر، وهو ما ذكرنا كله يرجع إلى واحد من ذلك. ثم قوله: {مَا يَفْتَحِ اللّه لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} يخرج على وجهين: أحدهما: على تسفيه أحلام الكفرة في عبادتهم الأصنام التي كانوا يعبدونها من دون اللّه، يقول - واللّه أعلم -: تعلمون أنتم أنه ليس لكم مما تعبدون من دون اللّه جر نفع أو خير، ولا كشف ضر عنكم أو سوء فكيف تعبدونها؟! كقوله: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه إِنْ أَرَادَنِيَ اللّه بِضُرٍّ. . .} الآية، أي: تعلمون أنهن لا يملكن ذلك، واللّه هو المالك لذلك كله، فكيف صرفتم العبادة إليها عنه؟! أو يقول: إنكم تعلمون أن ما تعبدون من الأصنام من دون اللّه لا يرزقونكم ولا منها تبتغون الرزق، ولا كانت منها إليكم سابقة نعمة، فإنما يعبد لإحدى هذه الوجوه من يعبد: ما لسابقة نعمة، أو نيل خير، أو جر نفع، أو كشف ضر، أو دفع سوء، أو طمع في العاقبة، فإذا لم يكن شيء من ذلك من الأصنام ومن اللّه ذلك كله فكيف صرفتم عبادتكم عنه إليها؟! كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللّه الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، هذا إذا كان قوله: {مَا يَفْتَحِ اللّه لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ} راجعًا إلى الكفرة وإذا كان ذلك راجعًا إلى المؤمنين فهو يخرج على وجهين: أحدهما: فيه قطع الطمع من الخلق والإياس عما في أيديهم، وألا يرجوا من دونه ولا يخافوا غيره، بل فيه الأمر بأن يروا ذلك كله من اللّه، وأنه هو المالك لذلك دون الخلق. والثاني: قطع طمع الرزق من المكاسب والأسباب التي يكتسبونها والأمر فيها - أعني: المكاسب - أن يرونها تعبدًا، وأن يروا أرزاقهم من فضل اللّه. وعلى قول المعتزلة إذا فتح اللّه لأحد رحمة يقدر عبد في أن يمسك ذلك، وإن أمسك هو قدر أن يرسل؛ لأنهم يقولون: إن اللّه إذا جعل لأحد أجلا وضمن له الحياة ووفاء الرزق إلى مضي الأجل، يجيء عدو من أعدائه فيقتله قبل انقضاء أجله واستيفاء رزقه؛ فذلك منع - على قولهم - عن وفاء ما ضمن وما جعل له من المدة والأجل. وفي حرف ابن مسعود: (ما يفتح اللّه على الناس من رحمة). وقوله: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}: قد ذكرناه في غير موضع. ٣وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّه عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللّه يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣) كأنه هو صلة ما تقدم. ثم هو على التقرير والإيجاب وإن خرج مخرج الاستفهام في الظاهر، كأنه يقول - واللّه أعلم -: إنكم تعلمون أنه هو رازقكم دون من تعبدون. {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}. أي: لا إله إلا هو، فما الذي حملكم على إفككم وكذبكم أنها شركاؤه وأنها آلهة، وأنها شفعاؤكم عند اللّه وأن عبادتكم إياها تقربكم إلى اللّه زلفى - كتاب أو رسول، وأنتم لا تؤمنون بكتاب ولا رسول فمن أين تؤفكون وتكذبون؟! واللّه أعلم. ٤وقوله: (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللّه تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤) معلوم أنهم كانوا لا يكذبونه في قوله: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللّه}، ولا في قوله: {مَا يَفْتَحِ اللّه لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ}؛ لأنهم كانوا يعلمون أنه ليس من خالق غير اللّه ولا فاتح رحمة سواه إذا كان هو ممسكها، ولا ممسك لها إذا كان هو مرسلها، ولكن إنما يكون تكذيبهم إياه فيما يخبر أنه رسول اللّه إليهم، كذبوه في الرسالة أو فيما يخبر أنه أوحي إليه من اللّه كذا، أو فيما يخبر عن البعث بعد الموت أنه كائن، وأمثال ذلك، فأما فيما ذكرنا فلا، وهو تعزية منه لرسوله ليصبر على تكذيبهم إياه؛ ليعلم أنه ليس بأول مكذب، بل قد كان إخوانه من قبل قد كذبوا من قبل فيما أخبروا قومهم عند اللّه، فصبروا على ذلك، فاصبر أنت أيضًا؛ كقوله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ. . .} الآية، واللّه أعلم. وقوله: {وَإِلَى اللّه تُرْجَعُ الْأُمُورُ}. وإلى اللّه يرجع تدبير الأمور، أي: لا تدبير للخلق في ذلك. أو يقال: إلى اللّه يرجع الحكم في الأمور هو الحاكم فيها؛ كقوله: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللّه}، واللّه أعلم. ٥وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللّه حَقٌّ ... (٥) قال عامة أهل التأويل: {إِنَّ وَعْدَ اللّه حَقٌّ} أي: البعث أنه كائن لا محالة. وجائز أن يكون قوله: {وَعْدَ اللّه حَقٌّ} فيما وعد من الثواب على الطاعات، ووعده حق فيما أوعد من العقاب على السيئات أنه يكون، واللّه الموفق. وقوله: {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}. معنى قوله: {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} - واللّه أعلم - أي: لا تشغلنكم الحياة الدنيا عن ذكر الحياة الآخرة، ولا تنسينكم الحياة الدنيا عن حياة الآخرة، وإلا الدنيا لا تغر أحدا في الحقيفة، وكذلك هي ليست بلعب ولا لهو، ولا هي غارَّة، ولكن يُغر أهلها بها لما غفلوا عما جعلت هي وأنشئت، وهو ما ذكرنا: أنها جعلت زادا للآخرة وبلغة إليها، فمن لم يجعلها زادًا ألآخرة ولا بلغة إلى الوصول إلى الآخرة، ولكن جعلها في غير ما جعلت هي وأنشئت وهي الحياة فيها والمقام بها - صارت لعبًا ولهوًا، وصارت غرورًا؛ إذ صيروها كالمنشأة لنفسها لا للآخرة، وهذا كما قال: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ)، أخبر أن السورة كانت تزيد لأهل الإيمان إيمانا، ولأهل الكفر والنفاق رجسًا وعمى، والسورة لا تزيد رجسًا ولا عمى في الحقيقة؛ لأنه وصف القرآن بأنه نور وأنه هدى ورحمة وبرهان، ولكن صار عمى ورجسًا لمن أعرض عنه وكذب ورده، وأما من تلقاه بالقبول وأقبل عليه، ونظر إليه بالتعظيم والإجلال له والخضوع - فهو له نور وهدى ورحمة؛ فعلى ذلك الدنيا وما فيها من النعم واللذات، إذا جعلها غير ما جعلت هي وأنشئت صارت لعبًا ولهوا وغرورًا، بل لو حمدت هي على ما أنشئت مكان ما ذمت لكان حقًّا وصدقًا؛ لأنها سمي نعيمها: حسنة وخيرًا وصلاحًا ونحوه؛ فلا جائز أن يذم الحسنة والخير، بل حق الذم على أهلها حيث غروا بها وصيروها في غير ما صيرت وجعلت لغفلتهم عما جعلت هي، وصرفهم إياها إلى غير الذي صرفت، وجهلهم بها؛ وعلى ذلك لا يجوز ذم الغناء والسعة والصحة والسلامة؛ لأن ذلك كله نعم من اللّه أنعمها على الناس؛ فيجب أن ينظروا إلى ما عليهم للّه من الشكر فيب ذلك فيؤدوه؛ وكذلك العز والثناء الحسن ونحوه لا يجب أن يذم شيء من ذلك، بل يذم من لم يعرف أن العز فيم؟ إنما العز في طاعة اللّه والعبادة له لا في معاصيه، فهَؤُلَاءِ سموا معصية اللّه: عزا؛ لجهلهم في العز؛ وكذلك الثناء الحسن يجب أن يحمد ربه ويشكر له فيما يستر على الخلق فضائحه ومساوئه، حتى أثنوا عليه ما لو بدا ذلك منه وأظهر لهربوا منه فضلا أن يثنوا عليه ويحمدوه؛ فيجب أن يشكر ربه ويثني عليه على ستر معاصيه وفضائحه، واللّه الموفق. وقوله: {وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللّه الْغَرُورُ}. الغرور - بفتح الغين - هو الشيطان؛ يقول: لا يغرنكم باللّه الشيطان. ثم يحتمل قوله: {بِاللّه الْغَرُورُ} وجوهًا: أحدها: {وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللّه} أي: بكرمه وجوده، يقول: إنه كريم وجواد غفور يتجاوز عنكم ويعفو عنكم معاصيكم ومساوئكم. والثاني: {وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللّه الْغَرُورُ} أي: بغناه؛ يقول: إنه غني ما به حاجة إلى عبادتكم إياه، فيما أمركم به ونهاكم عنه. والثالث: أن يكون قوله: {وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللّه} أي: لا يغرنكم عن طاعة اللّه وعبادته فتعصوه، وذلك جائز في اللغة " الباء " مكان [" مِن "]؛ كقوله: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللّه} أي: [منها]؛ إذ لا يشرب بالعين وإنما يشرب [منها]، واللّه أعلم. ٦وقوله: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (٦) يذكر هذا - واللّه أعلم - لأن ما يدعو الشيطان الخلق إليه في الظاهر يخرج مخرج الشفقة لهم والنصيحة كما يدعو الأولياء؛ لأنه يدعوهم إلى قضاء شهواتهم ولذاتهم وما تهوى به أنفسهم، وإن كان يضمر ويقصد به هلاكهم؛ ألا ترى أنه كيف أظهر لآدم وحواء من الشفقة لهم والنصيحة حيث قال: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ. . .} إلى قوله: {لَمِنَ النَّاصِحِينَ}، ونحوه، وكان قصده بذلك ما ذكر: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ. . .} الآية، هذا كان يضمر ويقصد في دعائه إياهما إلى التناول من تلك الشجرة التي نهاهما ربهما عنها؛ فعلى ذلك فيما يدعو الناس به إلى قضاء شهواتهم وحاجاتهم في الظاهر، فهو يقصد بذلك هلاكهم لمخالفتهم المولى لا ما يظهر ويبدي لهم؛ لذلك قال: إنه عدو لكم ليس بولي، {فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا}، أي: كونوا من دعائه وأمره على حذر، كما يحذر المرء دعاء عدوه. {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ}. قَالَ بَعْضُهُمْ: أهل طاعته. وقَالَ الْقُتَبِيُّ وأَبُو عَوْسَجَةَ: حزبه: أنصاره، والحزب: الأنصار. وقَالَ بَعْضُهُمْ: جنده. وقَالَ بَعْضُهُمْ: حزبه: ولاته الذين يتولاهم ويتولونه؛ وكله واحد. ثم يقول: {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ} لكنه خص حزبه بالدعاء لهم؛ لما أن حزبه هم المجيبون له والمطيعون، فأما غير حزبه فلا يجيبونه؛ وهو كقوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ}، وكان يندْر من اتبع الذكر ومن لم يتبع الذكر، لكن خص بإنذار من اتبع الذكر؛ لما أن متبع الذكر هو المنتفع به دون من لم يتبع؛ لذلك خص - واللّه أعلم - فعلى ذلك ما خصّ بدعائه حزبه؛ لأن حزبه هم المجيبون له والمطيعون. وقوله: {لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}. قصد بدعائه إلى ما يدعوهم، ليكونوا من أصحاب السعير، وإلا لو كان أظهر لهم الدعاء إلى أصحاب السعير ما أجابوه ولا أطاعوه، ولكن دعاهم إلى أعمال توجب لهم السعير، أو ليكون لهم عذاب السعير. ٧وقوله: (الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ... (٧) وهو ظاهر. {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}. قوله: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} لما عملوا من غير الصالحات بعد إيمانهم، أو مغفرة لذنوبهم في الإيمان، {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} لإيمانهم وأعمالهم الصالحات. ٨وقوله: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللّه يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللّه عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (٨) ليس لهذا الحرف في ذا الموضع جواب، فجائز أن يكون جوابه في قوله: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} على التقديم له، كألْه يقول - واللّه أعلم -: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا}، {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}، فإن اللّه يضل من يشاء ويهدي من يشاء. أو أن يكون قوله: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} فلزمه كمن قبح له؛ فانتهى عنه، ليسا بسواء، كقوله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ}، ذكر أن قوله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} نزل في عمر بن الخطاب، وقوله: {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} في أبي جهل؛ فعلى ذلك الأول، وأن يكون ما ذكر بدءًا على التقديم والتأخير. وقوله: {فَإِنَّ اللّه يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}: من الضلالة إلى الهدى، يضل من علم منه أنه يختار الضلال، ويهدي من علم منه أنه يختار الهدى. وقوله: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}. هذا يحتمل وجوهًا: أحدها: قوله: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} أي: لا تضل ولا تذهب نفسك عليهم حسرات؛ إشفاقًا على ما ينزل بهم بتركهم الإيمان؛ لأن رسول اللّه كاد أن يهلك نفسه إشفاقًا عليهم فنهاه عن ذلك. والثاني: على تخفيف الحزن عليه ودفعه عنه وتسليته إياه؛ لأنه يشتد به الحزن، لمكان كفرهم وتكذيبهم إياه وتركهم الإيمان به ليس على النهي؛ كقوله: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ}، وقد ذكرنا معناه فيما تقدم مقدار ما حفظنا فيه، واللّه أعلم. وقوله: {إِنَّ اللّه عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}. هذا يخرج على وجهين: أحدهما: أن اللّه تعالى على علم بصنيعهم أنشأهم، لا عن جهل بما يكون منهم. والثاني: عليم بما يصنعون؛ فلا تكافئهم ولا تشغلن بشيء مما يكون منهم، ولكن فوض ذلك إلى اللّه وأسلم إليه. ٩وقوله: {وَاللّه الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ}. أي: كذلك يحي الموئى، وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم. ١٠وقوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَللّه الْعِزَّةُ جَمِيعًا ... (١٠) قَالَ بَعْضُهُمْ: من كان يريد القوة والمنعة بعبادة الأصنام ومن عبدوا دونه، فللّه العزة جميعًا، أي: فبعبادة اللّه وطاعته ذلك في الدنيا والآخرة، أي: فمن عنده اطلبوا ذلك عند اللّه من كان يريد ثواب الدنيا والآخرة، أي: من عنده اطلبوا ذلك في الدنيا والآخرة. وقال بعصْهم: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ} أي: العزة والتعزيز {فَللّه الْعِزَّةُ جَمِيعًا}، أي: فباللّه يكون عز الدنيا والآخرة لا بالأصنام التي عبدتموها، وقد كان بعبادتهم الأصنام طلب الأمرين: طلب العز؛ كقوله: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّه آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} وطلب القوة والمنعة؛ كقوله: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّه آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ}، فأخبر أن ذلك إنما يكون باللّه وبطاعته، فمِن عِنده اطلبوا لا من عند من تعبدون دونه، واللّه أعلم. وقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}. اختلف فيه: قال قائلون: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} هو الوعد الحسن، {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} هو إنجاز ما وعد، أي: إذا أنجز ما وعد من الوعد الحسن، ووفى ذلك الإنجاز الوعدَ الحسنَ وعدْ. قَالَ بَعْضُهُمْ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} هو كلمة التوحيد وشهادة الإخلاص، {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} أي؛ إخلاص التوحيد للّه يرفع الكلم الطيب الذي تكلم به؛ فعلى هذا التأويل أي: يصعد الكلم الطيب إليه ما لم يخلص ذلك إلا للّه. وقال قائلون: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} هي كلمة التوحيد على ما ذكرنا، {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} أي: يرفع اللّه العمل الصالح لصاحبه - يعني: لصاحب الكلام الطيب - فعلى هذا التأويل: يصعد الكلم الطيب إليه دون العمل الصالح. وبعض أهل التأويل قال: يرفع الكلام: التوحيد، الطيب: العمل الصالح - إلى اللّه، وبه يتقبل الأعمال الصالحة. وظاهر الآية أن يكون العمل الصالح هو الذي يرفع الكلم الطيب، لكن الوجه فيه - واللّه أعلم - ما ذكرنا من الوجوه. وبعضهم يقول: إن العمل الصالح يرفع الكلام الطيب، والوجه فيه ما ذكرنا. وقوله: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ}. قال عامة أهل التأويل: والذين يعملون السيئات. وجائز أن يكون ما ذكر من مكرهم السيئات هو مكرهم برسول اللّه وأذاهم إياه؛ كقوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ. . .} الآية، ويمكر اللّه بهم في الدنيا بالهلاك والقتل وفي الآخرة بالعذاب الشديد الذي حيث قال: {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ}، أي: هو يهلك؛ من البوار، وهو الهلاك، وهو قتلهم ببدر، واللّه أعلم. ١١وقوله: (وَاللّه خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللّه يَسِيرٌ (١١) {خَلَقَكُمْ}، أي: قدركم مع كثرتكم من أول أمركم إلى آخر ما تنتهون إليه من التراب الذي خلق آدم منه؛ إذ الخلق في اللغة: التقدير. وقوله: {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ}. أي: قدركم أيضًا مع كثرتكم وعظمكم من تلك النطفة، يخبر عن علمه وتدبيره في تقديره إيانا مع كثرتنا في ذلك التراب وفي تلك النطفة، وإن لم نكن نحن على ما نحن عليه في ذلك التراب والنطفة لا يعجزه شيء. أو أن يكون إضافته إيانا إلى ذلك التراب والماء؛ لأنه كان ذلك أصلنا ومبادئ أمورنا، وكان المقصود بخلق ذلك التراب والماء، والأصل هذا الخلق وهو العاقبة، وقد يذكر ويضاف العواقب إلى المبادئ وتنسب إليها إذا كان المقصود من المبادئ العواقب وله نظائر كثيرة، وقد ذكرناه في غير موضع. وقوله: {ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا}، أي: خلقكم من ذلك ذكرًا وأنثى ليسكن بعضه إلى بعض، أو جعلكم أزواجًا أصنافًا. وفي حرف ابن مسعود: (واللّه الذي خلقكم من نفس واحدة ثم جعلكم أزواجًا)، واللّه أعلم. وقوله: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ}. يقول - واللّه أعلم -: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى} من أول ما تحمل إلى آخر ما تنتهون إليه {إِلَّا بِعِلْمِهِ} السابق، وكذلك لا تضع كل حامل من أول ما تضع إلى آخر ما ينتهون إليه إلا بعلمه السابق: أنها تحمل كذا في وقت كذا من كذا، وأنها تضع كذا في وقت كذا، يخبر عن علمه السابق من أول منشئهم إلى آخر ما يكونون وينتهون إليه، أنه كان كله بذلك التقدير الذي كازا منه، واللّه أعلم. وقوله: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ}. قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ} أي: ما يطول من عمره وإن طال، وما ينقص من عمره، أي: ما نقص وقصر من ذلك ولم يطل {إِلَّا فِي كِتَابٍ}، أي: إلا كان ذلك كله في الكتاب مبينًا هكذا مطولا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ} أي: من كثر عمره وطال أو قل عمره، فهو يعمر إلى أجله الذي كمّب له، ثم قال: {وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} كل يوم وكل ساعة حتى ينتهي إلى آخر أجله {إِلَّا فِي كِتَابٍ}: في اللوح المحفوظ المكتوب قبل أن يخلقه. {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللّه يَسِيرٌ} قال صاحب هذا التأويل: إن كتاب الآجال حين كتبه اللّه في اللوح المحفوظ على اللّه هين. وقال آخر قريبًا من هذا في قوله: {وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} في جري الليل والنهار والساعات {إِلَّا فِي كِتَابٍ}، وذلك أن اللّه - تعالى - كتب لكل نسمة عمرا تنتهى إليه، فإذا جرى عليها الليل والنهار نقص ذلك عمرها حتى يبلغ ذلك أجلها، فمن قُضي له أن يعمر حتى يدركه الكبر أو عمر دون ذلك، فهو بالغ ذلك الأجل الذي قضي له، وكان ذلك في كتاب ينتهوذا إليه. {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللّه يَسِيرٌ} يقول قائل هذا: إن حفظ ذلك على اللّه بغير كتاب يسير هين. وجائز أن يكون قوله: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللّه يَسِيرٌ}، أي: أن علم ما ذكر وتقديره من أول ما أنشأهم وتغيير - أحوالهم إلى آخر ما يكونون وينتهون إليه - يسير، أي: لا يخفى عليه. ١٢وقوله: (وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ... (١٢) فيه وجوه من المعتبر: أحدها: يذكر ألا يستوي في الحكمة الخبيث من الرجال والطيب منهم، كما لا يستوي المالح من الماء الأجاج والعذب منه والسائغ، وقد استوى الطيب من الرجال والخبيث في منافع الدنيا ومأكلاتها، وفي الحكمة التفريق بينهما والتمييز؛ دل أن هنالك دارًا يميز بينهما ويفرق؛ إذ قد يستوي في منافع الدنيا، وحطامها، وفي الحكمة التفريق والتمييز لا الجمع والاستواء، وذلك يدل على البعث. والثاني: فيه أن المنشأ من الأشياء في هذه الدنيا والمخلوق فيها لم ينشئها لحاجة نفسه، ولكن لحوائج الخلق ومنافعهم وما يكون لهم العبرة في ذلك؛ إذ من أنشأ شيئًا لحاجة نفسه أنشأ ألذ الأشياء وأحلاها وأنفعها له لا مرا مالحًا أجاجًا ما لا ينتفع به، يخبر عن غناه عما أنشاه من الأشياء، ليعلم أنه لم ينشئها لحوائج نفسه، ولكن لما ذكرنا، وهو على المعتزلة في قولهم: إنه لم يخلق شيئًا لا ينتفع به، وأنه لا يفعل بهم إلا ما هو أصلح لهم في الدِّين؛ لأنه أنشأ ماء أجاجا مالحًا لا ينتفع به؛ ليكون لهم العبرة في ذلك. والثالث: فيه ترغيب في إيمان الخبيث الكافر، ودفع الإياس عن توحيدهم، وقطع الرجاء عن عودهم إليه؛ حيث أخبر عما يأكلون من الماء المالح والأجاج والعذب السائغ جميعًا اللحم الطري مما حق مثله إذا ألقي فيه أو في مثله اللحم الطري أن يفسد من ساعته. ويذكرهم أيضًا عن قدرته أن من قدر على حفظ ما ذكر من اللحم الطري في الماء الذي لا يقدر على الدنو منه والقرب؛ فضلا أن يكون فيه حفظ ما ذكر من الإفساد، فمن قدر على هذا لا يعجزه شيء ولا يخفى عليه شيء. والرابع: يذكر نعمه التي أنعمها عليهم حيث قال: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} يذكر عظم نعمه وقدرته حيث جعل البحار مسخرة مذللة يقدرون على استخراج ما فيها من الحلي والجواهر، والوصول إلى المنافع التي هي وراء البحار، وقطعها بسفن أنشاها لهم، وأجراها في الماء الراكد الساكن برياح تعمل عمل جريان الماء، بل الأعجوبة في إجراء السفن بالرياح في المياه الراكدة الساكنة أعظم وأكثر من جريانها على جرية الماء؛ لأنها في الماء الجاري لا تجري إلا على الوجه الذي يجري الماء، وفي البحار تجري بريح واحدة من الأسفل إلى الأعلى ومن الأعلى إلى الأسفل حيث شاءوا؛ دل أن الأعجوبة في هذا أكثر وأعظم، ومن ملك هذا لا يعجزه شيء. أو أن يكون المثل الذي ذكر في البحرين: أحدهما عذب ماؤه، والآخر أجاج ماؤه يكون للعمل الصالح وهو التوحيد، وللعمل السيئ وهو الكفر يقول: كما لا يستوي في الفضل الماء العذب والماء المالح؛ فعلى ذلك لا يستوي العمل الصالح والعمل السييء. وقوله: {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ}. قَالَ بَعْضُهُمْ: {مَوَاخِرَ} تجريان إحداهما مقبلة، والأخرى مدبرة بريح واحدة، وتستقبل إحداهما الأخرى. وقَالَ بَعْضُهُمْ: المواخر: هي التي تشق الماء، وتقطعه؛ من مخر يمخر، وقد ذكرناه فيما تقدم. وقوله: {لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ}. هذا يدل أن ما يصاب بالأسباب والمكاسب إنما هو فضل اللّه؛ إذ قد تكتسب ولا يكون منه شيء، واللّه أعلم. ١٣وقوله: (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ... (١٣) يذكر هذا لأهل مكة؛ لإنكارهم الصانع، وإنكارهم البعث، وإنكارهم الرسل؛ لأنهم كانوا فرقًا ثلاثة: منهم من ينكر الصانع والتوحيد، ومنهم من ينكر البعث، ومنهم من ينكر الرسل، ففي الآية دلالة إثبات الصانع وتوحيده، وفيها دلالة البعث والإنشاء بعد الموت، وفيها دلالة إثبات الرسالة: أما دلالة إثبات الصانع والوحدانية له: فاتساق الليل والنهار والشمس والقمر وما ذكر، وجريانهما وجريان الأمور كلها على سنن واحد وميزان واحد وقدر واحد، من أول ما كان إلى آخر ما يكون من غير زيادة أو نقصان يدخل فيه، أو تقديم أو تأخير يكون فيه، يدل على أن لذلك كله صانعًا مدبرًا أنشأ ودبر كل شيء على ما كان وحفظه كله على ميزان واحد؛ إذ لو كان ذلك بنفسه لكان لا يجري على حد واحد، بل يتفاوت ويتفاضل، وكذلك لو كان فعل عدد، لكان يتقدم ويتأخر ويتغير ويمتنع ويذهب رأسًا على ما يكون فعل العدد من الملوك: أن ما أراد هذا إثباته أراد الآخر نفيه ومنعه، وما أراد هذا نفيه وإبطاله أراد الآخر إثباته، وذلك معروف فيهم من مخالفة بعض بعضًا؛ فدل اتساق ما ذكرنا وجريانه، على تدبير واحد: أنه فعل واحد وتدبير واحد لا عدد، وباللّه القوة. ودل ذهاب الليل وتلفه بكليته حتى لا يبقى له أثر، وكذلك ذهاب ضوء النهار ونوره، وكذلك الشمس والقمر وإتيان الآخر بعد تلفه أنه بعث؛ إذ لو لم يكن بعث كان تدبير ذلك كله وتقديره لعبًا باطلا، وإن من قدر على هذا يقدر على الإحياء بعد الموت، وأنه لا يعجزه شيء. فإن ثبت ما ذكرنا لا يحتمل أن يتركهم سدى لا يأمرهم ولا ينهاهم ولا يمتحنهم بأنواع المحن، فلابد من رسول يأمر وينهى ويخبر عما لهم وعليهم. وفيه أن مدبر ذلك كله عليم حكيم، ثم يخبر أن الذي فعل ذلك كله هو ربكم الذي له الملك؛ يقول: الذي فعل هذا كله اللّه، لا الأصنام التي عبدتم دونه، وسميتموها: آلهة، فكيف صرفتم العبادة إليها والألوهية، وما تعبدون من دونه لا يملكون ما ذكر؟! حيث قال: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} يسفه أحلامهم في عبادة من عبدوا دونه على علم منهم أنهم لا يملكون ما ذكر، وصرفهم العبادة عن اللّه على علم منهم: أن ذلك كله من اللّه، وهو المالك لذلك. ثم يخبر عن عجز من عبدوه حيث إن تدعوهم على حقيقة الدعاء لا يسمعون دعاءكم حقيقة، ولو سمعوا ما استجابوا لكم، أي. لو سمعوا دعاءكم ما يملكون إجابتكم في دفع ضر وسوء ولا في جر نفع. ١٤أو أن يكون قوله: (إِنْ تَدْعُوهُمْ ... (١٤) أي: تعبدوهم {لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ}، أي: لا يجيبوكم إلى ما تقصدون بعبادتكم إياهم. أو أن يقول: ما قبلوا ذلك عنكم ولا نفعوكم فيه، واللّه أعلم. وقوله: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} ينكرون يوم القيامة أن يكونوا شركاءهم أو أمروهم بذلك؛ كقوله: {سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ. . .} الآية، وقوله: {ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ. قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ}، ونحوه، واللّه أعلم. وقوله: {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}، أي: لا ينبئك أحد مثل الذي أنبأك الخبير في الصدق والحق. أو أن يكون قوله: {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} أي: لا يكون نبأ أحد مثل نبأ الخبير، فاعمل به وأقبل عليه، ولا تقبل على نبأ غيره، واللّه أعلم. وفي قوله: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} وجهان من اللطف: أحدهما: يتلف حتى يذهب أثره ويأتي بالآخر. أو يزيد في هذا وينقص من الآخر، ويدخل من ساعات هذا في ساعات الآخر. وفيه نقض قول الثنوية في قولهم: إن منشئ الخير غير منشئ الشر، ويقولون: إن النور من منشئ الخير والظلمة من منشئ الشر، فلو كان ما ذكروا لكان إذا ذهب النور وجاءت الظلمة كانت الظلمة هي الغالبة والنور هو المغلوب في يدها؛ وكذلك النور إذا جاء وذهبت الظلمة صارت هي مقهورة مغلوبة في يد النور، والنور هو الغالب عليها، فإذا صار مغلوبًا مقهورًا في يد صاحبه يجيء ألا يقدر على استنقاذ نفسه من يده أبدًا، على ما يكون من عادة الأعداء إذا غلب بعضهم بعضًا وقهر بعضهم بعضًا أن يهلك ولا يتخلص منه، فإذ لم يكن، ولكن جاء كل منهما في وقته بعد ذهاب أثره على التقدير الذي ذكرنا؛ دل أنه فعل واحد وتدبير واحد لا تدبير عدد، وباللّه الحول والقوة. والْقُتَبِيّ يقول: القطمير: هو الفوفة التي يكون فيها النواة. وأَبُو عَوْسَجَةَ يقول: هو القشرة الرقيقة التي تكون بين لحم التمرة وبين نواتها، واحده وجمعه سواء. ١٥وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللّه وَاللّه هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}. فيه وجوه مر، الدلالة: أحدها: أنه إنما أمركم ونهاكم وامتحنكم بأنواع المحن لحاجتكم وفقركم إليه، لا لحاجة وفقر له في ذلك، فإن ائتمرتموه وأطعتموه، فإلى أنفسكم ترجع منفعة ذلك، وإن عصيتم فعلى أنفسكم يلحق ضرر ذلك؛ كقوله: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}. والثاني: يقول: تعلمون أن فقركم وحاجتكم إلى اللّه، لا إلى الأصنام التي تعبدونها واتخذتموها آلهة، فكيف صرفتم العبادة والشكر إلى من تعلمون أنكم لا تحتاجون إليه ولا تفتقرون؟! والثالث: يأمرهم بقطع أطماعهم من الخلق؛ لأنه خاطب الكل وأخبر أنكم جميعًا فقراء إلى اللّه الطامع والمطموع فيه، فاقطعوا طمعكم ورجاءكم عن الخلق، واطمعوا ذلك من اللّه؛ فإنه الغني الحميد والخلق جميعًا فقراء إليه، يؤيسهم عن الطمع والرجاء من الخلق، واللّه أعلم. ١٦وقوله: (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) يخبر عن غناه وقدرته، لو شاء أذهبكم لتعلمون أنه لم ينشئكم، ولا أمركم، ولا نهاكم؛ لحاجة نفسه ولا لمنفعة له، ولكن لحاجة أنفسكم. ١٧وقوله: (وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللّه بِعَزِيزٍ (١٧) يحتمل هذا وجهين: أحدهما: لا يعز ولا يثقل عليه ذهابكم وفناؤكم؛ لأنه لم ينشئكم لحاجة نفسه فذهابكم وفناؤكم وبقاؤكم عليه واحد. والثاني: لا يصعب عليه ولا يعز إذهابكم وإحداثكم، ولا يعجزه شيء، يخبر عن قدرته، واللّه أعلم. ١٨وقوله: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللّه الْمَصِيرُ (١٨) كأن هذا صلة قوله: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ. . .} الآية، يؤيسهم ليقطعوا أطماعهم يومئذ عن تناصر بعضهم بعضًا، وتحمل بعضهم مؤن بعض وشفاعة بعضهم بعضا، على ما كانوا يفعلون في الدنيا كان ينصر بعضهم بعضًا في الدنيا إذا أصابهم شيء؛ ويفدي بعضهم عن بعض، ويشفع بعضهم بعضًا، كانوا يحتالون مثل هذا الحيل في الدنيا؛ ليدفعوا عن المتصلين بهم الضرر، فأخبر أن ليس لهم ذلك في الآخرة؛ كقوله: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ}، وقوله: {وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا}، ومثله كثير، يؤيسهم عن أن يكون لهم في الآخرة ذلك، واللّه أعلم. وقوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} هذا يخرج على وجهين: أحدهما: إنما ينتفع بالإنذار الذين يخشون ربهم بالغيب، فأما من لا يخشى ربه فإنه لا ينتفع به، وإلا كان منذر من اتبع الذكر؛ ومن لم يتبع، ومن خشي ربه ومن لم يخش. والثاني: كأنه يقول: إنك تنذر غير الذي اتبع الذكر وغير الذي خشي، فإنما يتبع إنذارك ويقبله الذي خشي ربه واتغ ذكره، واللّه أعلم. وقوله: {وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ}، أي: من عمل خيرًا، فإنما يعمل لنفسه. أو من جاء بالتوحيد والأعمال الصالحة فإنما يصلح أمره وعمله يثاب عليه. {وَإِلَى اللّه الْمَصِيرُ}. قد ذكرنا في غير موضع فائدة تخصيص ذكر المصير إليه والمرجع إليه في ذلك اليوم، وإن كانوا صائرين إليه في كل وقت. ١٩-٢٢وقوله: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (٢٠) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (٢١) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ ... (٢٢) ضرب هذا المثل يخرج على وجوه: أحدها: شبه الأصنام التي كانوا يعبدونها بالأعمى والظلمة والميتة والحرور حقيقة؛ لأنها كذلك عميان موتى لا نور فيها؛ يقول: واللّه إنكم تعلمون أن الذين تعبدون من دون اللّه عميان لا بصر لهم ولا نور ولا حياة ولا شيء من ذلك، وأن اللّه هو البصير، ومنه يكون كل خير ونفع، فكيف اخترتم عبادة من هذا سبيله على عبادة اللّه تعالى؟! وباللّه الهداية والعصمة. والثاني: شبه أُولَئِكَ الكفرة بالعميان والظلمة والموت وما ذكر، والمؤمن بالبصير والنور والظل والحياة، ليس على إرادة حقيقة البصر والحياة وما ذكر؛ لأن لهم بصرا يبصرون وهم أحياء فيقولون: نحن البصراء والأحياء، وأنتم العميان والأموات، وما ذكر، لكن شبههم بالعميان والموتى؛ لأنه لا حجة لهم ولا برهان على عبادتهم الأصنام، وهم يعلمون أنه لا حجة لهم ولا برهان على ذلك من كتاب أو رسول أو نحوه، إنما هو هوى يهوون ذلك، وللمؤمنين في عبادتهم اللّه حجة وبرهان، فمن كان له حجة في عبادته فهو بصير حي نور، ومن ليس له ذلك فهو أعمى ميت. والثالث: يذكر هذا دلالة على البعث؛ لأنهم يعلمون أن الخلق ليس كلهم على حدّ واحد وحالة واحدة، بل فيهم العميان والبصراء وفيهم الأحياء والأموات وفيهم ما ذكر، وقد استوو جميعًا في منافع هذه الدنيا، وفي الحكمة التفريق بينهم لا الجمع، فلا بد من دار أخرى سوى هذه يفرق بينهم؛ إذ في الحكمة والعقل التفريق لا الجمع، واللّه أعلم. وقوله: {إِنَّ اللّه يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ}. دل قوله: {إِنَّ اللّه يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ} على أن قوله: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} إنما أراد به الكافر، ثم أخبر أن رسوله لا يسمع لما لا يقدر على ذلك، وليس عنده ذلك؛ إذ لو كان بيانا مبينا أو دعاء على ما يقوله المعتزلة، لكان يسمع ويبين ويقدر على ذلك، فإذ لم يقدر رسول اللّه على ذلك دل أن عند اللّه لطفًا وشيئًا لم يعطهم، فإذا أعطاهم ذلك اهتدوا وآمنوا؛ وكذلك هذا في قوله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}، ولو كان بيانًا على ما تقوله المعتزلة لهدى من أَحبَّ وقد أحب فلم يهتد؛ دل أن عند اللّه شيئًا لو أعطى ذلك لاهتدى، ولم يكن ذلك عند رسوله وهو التوفيق والعصمة، وهذا ينقض على المعتزلة قولهم: إن اللّه قد أعطى كل كافر ما به يهتدي لكنه لم يهتد. ثم لا يحتمل قوله: {إِنَّ اللّه يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ} على القسر والقهر دل أنه لا يحتمل. ٢٣وقوله: (إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (٢٣) هذا يحتمل وجهين: أحدهما: ليس عليك إلا الإنذار باللسان؛ كقوله: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ}، وقوله: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ}، وأنت لا تؤاخذ بتركهم قبول الإنذار؛ كقوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ. . .} الآية، وقوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ. . .} الآية. ويحتمل الإنذار بالسيف بأمره إياه بالقتال معهم حتى يؤمنوا، وإن كان على هذا فهو يحتمل النسخ؛ يؤمر بالقتال في وقت، ولا يؤمر في وقت، وأمّا النذارة باللسان فهو لا يحتمل النسخ أبدًا. واللّه أعلم. ٢٤وقوله: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (٢٤) يحتمل قوله: {بِالْحَقِّ} أي: بالتوحيد، أي: أرسلناك لتدعو الناس إلى توحيد اللّه، أو أرسلناك بالحق، أي: بالحق الذي للّه عليهم وما لبعض على بعض. أو {أَزسَلْتَكَ بِالْحَقِّ} أي: للحق وهو البعث الذي هو كائن لا محالة. وقوله: {بَشِيرًا وَنَذِيرًا}. أي: بَشِيرًا بالجنة لمن آمن باللّه وأجابك، ونذيرًا بالنار لمن عصاه وخالف أمره وترك إجابته، هذا يدل على أنه لم يرد في قوله: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} خاصة ليس ببشير. وقوله: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ}. قَالَ بَعْضُهُمْ: ليس من أصناف الخلق وجواهرهم على اختلاف جواهرهم وأصنافهم إلا وقد خلا لهم نذير؛ ليأمر وينهى ويمنع ويبيح؛ كلقوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ. . .} الآية، أخبر أن الخلق على اختلاف أصنافهم وجواهرهم أمم أمثالهم البشر، فيتحملون ما يتحمل البشر من الأمر والنهي والنذارة والبشارة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذلك راجع إلى الجن والإنس خاصة ليس إلى الكل؛ لأنهما هما المخصوصان بالخطاب والنطق والعقل وغير ذلك، وفيهما ظهر بعث الرسل والنذر، ولم يظهر ذلك في غيرهما، فكأنه قال: وإن من أمة من هذين من القرون إلا خلا فيها نذير، واللّه أعلم. ٢٥وقوله: (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (٢٥) يعزي رسوله ويصبره على تكذيب قومه إياه، يقول: لست أنت بأول مكذب من الرسل، قد كذب إخوانك الذين من قبل بعد ما جاءوا بالبينات والزبر، أي: بالكتب المنيرة إليهم مع ما جاءهم بذلك فكذبوهم، فصبروا على تكذيبهم، فاصبر أنت أيضًا على تكذيب قومك، واللّه أعلم. ٢٦وقوله: (ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (٢٦) أي: ثم أخذت الذين كذبوا رسلهم بالتكذيب فآخذ قومك على تكذيبهم إليك أيضًا، يذكر هذا له ليصبره على ذلك وينفي حزنه على تكذيبهم إياه. أو يذكره زجرًا لقومه على تكذيبهم إياه؛ فينزل بهم من العذاب ما نزل بأُولَئِكَ بالتكذيب. وقوله: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ}. قَالَ بَعْضُهُمْ: فكيف كان إنكاري، وقَالَ بَعْضُهُمْ: عذابي. ودل قوله: {وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} على قوله: {اللّه نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. أي: منير السماوات بما سمى الكتاب في غير آي من القرآن: نورًا، هو نورٌ بما ينير القلوب والصدور. ٢٧وقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّه أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا} إلى آخر ما ذكر - فيه فوائد من الحكمة: أحدها: أنه جعل - عَزَّ وَجَلَّ - طبع الماء مما يلائم ويوافق طبع هذه الثمرات على اختلاف جواهرها وألوانها؛ حتى يكون حياة كل شيء منها وقوامه بهذا الماء، وكذلك جعل طبع هذا الماء ملائفا موافقًا طباع جميع الخلائق من البشر والدواب والطير والوحش وجميع الحيوان، على اختلاف جواهرهم وأصنافهم وغذائهم، حتى صار هو غذاء وحياة لهم وقياما به؛ ليعلم أن من ملك هذا وقدر توفيق هذا - على اختلاف ما ذكرنا من الجواهر والأغذية - وتدبيرَهُ، لا يعجزه إنشاء شيء لا من شيء، ولا يخفى عليه شيء، وفي ذلك دلالة البعث: أن من بلغت قدرته وتدبيره وعلمه هذا المبلغ لا يعجزه شيء ولا يخفى عليه شيء. والثاني: أنه أنشأ ما ذكر من مختلف الأشياء والجواهر بهذا الماء، وجعله سببا لحياة ما ذكر من البشر والدواب وغيره، من غير أن يكون في ذلك الماء الذي أنشأ ذلك منه، وجعله سببا لحياتهم من أثر ذلك فيه أو من جنسه؛ ليعلم أنه لم يكن أنشأ هذه الأشياء بهذا الماء، ولا جعله سببًا لها على الاستعانة به والتقوية، بل إعلامًا للخلق أسباب مطالب الغذاء والفضل لهم؛ إذ لو كان على الاستعانة وجعله سببًا له في إنشاء ذلك، لكان يكون تلك الأشياء المنشأة مشاكلة للماء مشابهة له؛ دل أنه جعل ذلك سببا للخلق في الوصول إلى ما ذكرنا من الأغذية لهم من غير أن يروا أرزاقهم من تلك الأسباب والمكاسب ولكن من فضل اللّه. والثالث: أنشأ هذه الفواكه والثمرات مختلفة ألوانها وطعمها؛ لما علم من البشر من الملالة والسآمة من نوع واحد ولون واحد؛ ليتم نعمه عليهم ليتأدى بذلك الشكر عليها، واللّه أعلم. وقوله: {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ}. قَالَ بَعْضُهُمْ: أنشأ الجبال أيضا مختلفة من بيض وحمر وغرابيب، كما أنشأ الثمرات والدواب والحيوان كلها مختلفة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذلك وصف، وصفها بالسواد للطرق التي أنشأها في الجبال ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كاختلاف الجبال والثمار، وكذلك: {وَغَرَابِيبُ} جمع غربيب، وهو الشديد السواد، يقال: أسود غربيب؛ وهو قول الْقُتَبِيّ وأبي عَوْسَجَةَ، ورجل غربيب الشعر، أي: أسود الشعر، ومأخذه من الغراب لأنه أسود، والجدد: الخطوط والطرائق في الجبال. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الجدة: الخطة، والجدد: جميع الخطوط، يقال: جددت، أي: خططت، ويقال: ثوب جديد وثياب جدد، {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ} أي: طرائق مختلفة ألوانها بعضها بيض وبعضها غرابيب وهي سود. يذكر قدرته وتذكيره أن الجبال مع غلظها وشدتها وارتفاعها جعلها بحيث يتطرق منها في صعودها وهبوطها، فمن قدر على هذا لا يعجزه ولا يخفى عليه شيء. أو يذكر نعمه عليهم حيث سخرها لهم؛ ليقضوا فيها حوائجهم فيما بعد عنهم وصعب عليهم، واللّه أعلم. ٢٨وقوله: (إِنَّمَا يَخْشَى اللّه مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ (٢٨) هذا يحتمل وجوهًا: أحدها: أن الذي يحقّ على العالم باللّه أن يكون هو يخشاه؛ لما يعلم من سلطانه وهيبته وقدرته وجلاله. والثاني: أن العالم بالبعث والمؤمن به هو يخشى مخالفة اللّه في أوامره ونواهيه؛ لما يعلم من نقمته وعذابه من خالفه وعصى أمره، فأمّا من لم يعلم بالبعث ولم يؤمن به فلا يخافه؛ كقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا}، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ}، ونحوه. أو أن يكون قوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللّه مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} عباده من جملة المؤمنين؛ يقول - واللّه أعلم -: إنما يخشى اللّه من عباده المؤمنون به، المصدقون عذابه ونقمته، فأمَّا من لم يؤمم ن به فلا يخافه كما ذكرنا في قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}، إن في ذلك لآيات لكل مؤمن، ويكون الصبار والشكور كناية عن المؤمن؛ فعلى ذلك هذا محتمل. وقال أهل التأويل: على التقديم والتأخير، أي: أشد الناس للّه خشية أعلمهم باللّه، والخشية: قال الحسن: هي الخوف الدائم اللازم في القلب غير مفارق له، واللّه أعلم. وقوله: {إِنَّ اللّه عَزِيزٌ غَفُورٌ}. قَالَ بَعْضُهُمْ: العزيز: المنتقم من أعدائه، والغفور لذنوب المؤمنين. وقَالَ بَعْضُهُمْ: عزيز في ملكه ومن دونه ذليل، غفور، أي: ستور على ذنوب المؤمنين. ٢٩وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللّه وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) يحتمل ما ذكر من تلاوة الكتاب هاهنا، ما ذكر في آية أخرى قال: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} وأقاموا فيها من الأمر بالصلاة والأمر بالزكاة. أو أن يكون قوله: {يَتْلُونَ كِتَابَ اللّه} أي: يتبعون كتاب اللّه فيما فيه مما لهم ومما عليهم، يتبعون كله من الإقدام على الحلال والاجتناب على الحرام، والمشفقون بكتاب اللّه هم الذين اتبعوا ما فيه من إقامة الصلاة وإنفاق ما رزقوا، فأما من تلا ولم يتبع ما فيه فكأنه لم يتل، وهو كما نفى عنهم هذه الحواس من البصر والسمع واللسان وغيره؛ لتركهم الانتفاع بها وإن كانت لهم تلك الحواس حقيقة، وأثبتها للمؤمن لما انتفع بها وإن لم تكن له تلك حقيقة؛ فعلى ذلك يحتمل الأول، واللّه أعلم. وقوله: {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً}. يحتمل قوله: {سِرًّا وَعَلَانِيَةً} في كل حال وكل وقت لا يتركون الإنفاق على كل حال؛ كقوله: (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ)، أي: ينفقون على كل حال. ويحتمل: فلينفقوا مما رزقناهم {سِرًّا وَعَلَانِيَةً}، أي: يتصدقون الصدقة ظاهرًا وباطنًا، أي: ما ظهر للناس وعلموا به، وما خفي عنهم واستتر؛ لما قصدوا بها وجه اللّه لا مراءاة الخلق، فمن كان قصده بالخيرات وجه اللّه لا مراءاة الخلق، فعلمهم به وجهلهم سواء، لا يمتنع عن ذلك أبدًا، واللّه أعلم. ٣٠وقوله: {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ}. سمى ما يبذل العبد للّه: تجارة، وإن كان ذلك له في الحقيقة لطفا منه وإحسانًا، وكذلك ما ذكر من إيفاء الأجر لهم على أعمالهم حيث قال: (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠) وذلك ليس في الحقيقة أجرًا لما يستوجبون الأجر قبله بتلك الأعمال؛ لما عليهم من الشكر فيما أنعم عليهم من أنواع النعم، ومتى يفرغون عن شكر ما أنعم عليهم حتى يكون ذلك أجرًا لهم، لكنه - عَزَّ وَجَلَّ - بفضله وإنعامه وعد لهم الثواب والأجر على حسناتهم وأعمالهم الصالحات؛ إفضالا منه وإنعامًا منه، وسمى ذلك: تجارة كأن ليس ذلك له في الحقيقة؛ ترغيبًا منه الخلق في ذلك وتحريضًا لهم على ذلك، واللّه أعلم. {وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} على ذلك أيضًا. وقوله: {إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ}. يحتمل قوله: {غَفُورٌ} أي: ستور لمساويهم، {شَكُورٌ} أي: مظهر لحسناتهم بإدخاله إياهم الجنة؛ ليعلم أحد أنه كان محسنا لا مسيئًا. أو {غَفُورٌ}: يتجاوز عن مساوئهم، {شَكُورٌ}: يقبل اليسير من العمل القليل منهم ويجزيهم على ذلك الجزيل من الثواب، واللّه أعلم. وقوله: {لَنْ تَبُورَ}. قال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: {لَنْ تَبُورَ} أي: لن تفنى أو لن تكسد، يقال: بارت التجارة تبور فهب بائرة: إذا كسدت. {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ}: من الإيفاء، يقال: أوفيته حقه، أي: أعطيته حقه كله. ٣١وقوله: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}: يا مُحَمَّد، {مِنَ الْكِتَابِ}: وهو القرآن، {هُوَ الْحَقُّ}: أنه من عند اللّه، {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي: موافقًا للكتب التي قبله. ثم يكون وفاقه إياها بأحد شيئين: إما في الأخبار والأنباء: أن توافق الأنباء والأخبار التي في القرآن أنباء الكتب المثقدمة وأخبارها ويصدق بعضها بعضا، فكذلك كانت الكتب كلها داعية إلى توحيد اللّه والعبادة له والطاعة. أو توافق الأحكام، فإن كانت الموافقة في الأحكام ففيها الناسخ والمنسوخ مختلفة؛ ألا ترى أن في القرآن ناسخًا ومنسوخًا، ثم أخبر أنه لو كان من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا، ولو كان الناسخ والمنسوخ خلافًا في الحقيقة لكان من عند غير اللّه على ما أخبر، فدل أن بينهما وفاقًا ليس باختلاف. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن محمدًا يصدق ما قبله من الكتب والرسل، وهو ما ذكرنا: أن جميع الكتب والرسل إنما دعوا الخلق إلى توحيد اللّه وعبادته. وقوله: {إِنَّ اللّه بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ}. أي: {لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} بما به مصالحهم، أو {لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ}، أي: على علم وبصيرة منه بتكذيب القوم رسلهم بعث الرسل إليهم لا عن جهل منه بذلك، وذلك لا يخرجه عن الحكمة كما قال بعض الملاحدة: إن ليس بحكيم من بعث الرسل إلى من يعلم أنه يكذبه ويرد رسالته، فهذا لو كان بعث الرسل لحاجة المرسل ولمنفعته يكون إرساله وبعثه إلى من يعلم أنه يكذبه ويرد رسالته عبثًا، فأمَّا اللّه - سبحانه وتعالى - يتعالى عن أن يرسل الرسل لحاجة له أو لمنفعة بل لحاجة المبعوث إليه والمرسل إليه؛ فلم يخرج علمه برده وتكذيبه عن الحكمة، والتوفيق باللّه. أو أن يكون قوله: {لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} يخرج عن الوعيد، أي: عالم بأحوالهم وأفعالهم؛ ليكونوا أبدًا على حذر ومراقبة، واللّه أعلم. ٣٢وقوله: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللّه ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} هو ممن أخبر أنه اصطفاه للّهدى من متبعي مُحَمَّد، وهم أصحاب الكبائر في قول بعض. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هم أصحاب الصغائر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هم أصحاب الصغائر والكبائر جميعًا. ومنهم من يقول: هو في الناس جميعًا المتبع له وغير المتبع. ثم اختلف في قوله: {ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ}: قَالَ بَعْضُهُمْ: هو المنافق الذي أظهر الموافقة لرسوله وأضمر الخلاف له. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هم اليهود والنصارى، فقد آمنوا قبل أن يبعث فلما بعث كفروا به. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هم المشركون وقد أقسموا أنه لو جاءهم نذير: {لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ}. فهَؤُلَاءِ كلهم في النار، وما ذكر من الاصطفاء والاختيار على قول هَؤُلَاءِ يكون لرسول اللّه؛ حيث بعث إليهم؛ ليدعوهم إلى توحيد اللّه. والأشبه أن يكون قوله: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} من أمته من متبعي الرسول ما روي في الخبر عن أبي الدرداء رَضِيَ اللّه عَنْهُ - إن ثبت - قال: " تلا رسول اللّه هذه الآية فقال: أما السابق بالخيرات فيدخل الجنة بغير حساب، وأما المقتصد فيحاسب حسابًا يسيرًا ثم يدخل الجنة؛ أما الظالم لنفسه فيحبس حتى يظن أنه لن ينجو ثم تناله الرحمة فيدخل الجنة "، ثم قال رسول اللّه: وهم الذين قالوا: {الْحَمْدُ للّه الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ. . .} الآية. وكذلك روي عن أنس وعائشة عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فإن ثبت عنه فهو تأويل الآية، وتفسير الظالم من أهل التوحيد والملة. والمقتصد: قَالَ بَعْضُهُمْ: هو الذي يخلط عملا صالحًا بعمل سيئ؛ كقوله: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا}. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو الذي يقوم بأداء الفرائض والأركان وأما غيره فلا. والسابق يخرج على وجهين: أحدهما: سابق بالخيرات كلها لا تقصير فيه ولا نقصان. أو سابق بالخيرات فيه تقصير ونقصان، وقد ذكرنا هَؤُلَاءِ الفرق الثلاثة في غير موضع: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. . .} الآية، ثم قال: (وَ {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ}، {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّه}، فالذين اعترفوا بذنوبهم هم المقتصد، والآخرون هم الظالم لنفسه. وقال في موضع آخر: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ). وقال: (وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ)، إلى آخر ما ذكر، وقال: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ} - ففي ظاهر هذا أن أصحاب الشمال المكذبون؛ حيث ذكر في آخر هذه السورة الفرق الثلاثة حيث قال: (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (٨٩) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (٩١) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ). ففي ظاهر هذا أن الظالم لنفسه هو المكذب والكافر في قوله: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ}، في ظاهر ما ذكر في سورة التوبة أنه من أهل التوحيد حيث قال: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّه. . .} الآية، واللّه أعلم لذلك. وقوله: {بِإِذْنِ اللّه}. يحتمل: بعلم اللّه، ويحتمل: بمشيئة اللّه، وقيل: بأمره. وقوله: {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}. يقول - واللّه أعلم -: هذا الذي أورثناهم من الكتاب هو الفضل الكبير؛ كقوله: {وَكَانَ فَضْلُ اللّه عَلَيْكَ عَظِيمًا}. أو يقول: إدخالهم الجنة فضل منه كبير. وروي عن عمر - - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: " {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} وقال: ألا إن سابقنا سابقٌ، وإن مقتصدنا ناجٍ، وإن ظالمنا مغفورٌ له ". وقال عثمان بن عفان - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: " ألا إن سابقنا أهل الجهاد منا، وإن مقتصدنا أهل حضرنا، وإن ظالمنا أهل بدونا ". وابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - يقول: " الظالم لنفسه كافر ". وعن الحسن قال: " الظالم لنفسه المنافق وهو هالك، وأما السابق والمقتصد فقد نجيا ". ٣٣وقوله: (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (٣٣) ذكر التحلي فيها بالذهب واللؤلؤ ولبس الحرير، وليس للرجال رغبة في هذه الدنيا في التحلي بذلك ولا لبس الحرير، اللّهم إلا أن يكون للعرب رغبة فيما ذكر، فخرج الوعد لهم بذلك والترغيب في ذلك، وهو ما ذكر من الخيام فيها والقباب والغرفات، وذلك أشياء تستعمل في حال الضرورة في الأسفار، وعند عدم غيره من المنازل والغرف عند ضيق المكان، فأما في حال الاختيار ووجود غيره فلا، لكنه خرج ذلك لهم؛ لما لهم في ذلك من فضل رغبة؛ ألا ترى أنهم قالوا: {فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ} ذكروا ذلك لما لذلك عندهم فضل قدر ومنزلة ورغبة في ذلك. أو يذكر هذا لهم في الجنة - أعني: الذهب والفضة والحرير وما ذكر - ليس على أن هذا مما يشابهه لحال أو يماثله في الجوهر على التحقيق سوى موافقة الاسم؛ لما روي في الخبر: " أن فيها - يعني في الجنة - ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر أو بال بشر " على ما ذكر، وما ذكر -أيضًا- أن ما في الجنة لا يشبه ما في الدنيا أو لا يوافقه إلا في الاسم أو كلام نحو هذا، واللّه أعلم. ٣٤وقوله: (وَقَالُوا الْحَمْدُ للّه الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) قَالَ بَعْضُهُمْ. إنما يقول هذا الظالم لنفسه الذي ذكر في قوله: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} وأنهم يحبسون على الصراط حبسًا طويلا، أو يحاسبون حسابًا شديدًا؛ فيطول حزنهم بذلك، ثم يؤذن لهم بالدخول في الجنة، فعند ذلك يقولون ذلك ويحمدون ربهم على إذهاب ذلك الحزن عنهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا، ولكن يقول هذا كل مسلم إذا دخل الجنة؛ لما يخاف كل مسلم في الدنيا على مساويه؛ لما لا يدري إلى ماذا يكون مصيره ومرجعه؟ وأين مقامه في الآخرة؟ فلما أدخل الجنة أمن ما كان يخافه في الدنيا ويحزن عليه، وسلم من تلك الأخطار، حمد ربه عند ذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذلك الحمد إنما يكون منهم؛ لما ذهب عنهم غمّ العيش والخبر الذي كان لهم في الدنيا؛ إذ كل أحد يهتم لعيشه في الدنيا، فلما دخل الجنة ذهب ذلك عنه، فعند ذلك يحمد ربه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يحمدون ربهم؛ لما يأمنون الموت عند ذلك؛ إذ ذكر في الخبر " أنه يؤتى بالموت يوم القيامة على صورة كبش، فيذبح بين أيديهم "، فعند ذلك يأمنون الموت، واللّه أعلم. وقوله: {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ}. لمساوئهم من غير أن كان منهم ما يستوجبون المغفرة، شكور لحسناتهم حيث قبلها منهم وأعطاهم الثواب. وقال أهل التأويل: غفور لذنوبهم، شكور يعطيهم الجزاء الجزيل بالعمل القليل. ٣٥وقوله: (الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ ... (٣٥) لما لا يتمنى التحول منها ولا الانتقال، لا يبغون حولا. وقوله: {لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ}. ليس من صاحب نعمة في هذه الدنيا وإن عظمت إلا وهو يمل منها ويسأم، ويتمنى التحول منها والانتقال، وكذلك ليس من لذة وإن حلت في هذه الدنيا إلا وهي تعقب آفة وتعبًا، فأخبر أن نعيم الآخرة، ولذاتها مما لا يتمنى ولا يبتغى التحول منها، ولا لذتها تعقب آفة ولا تعبًا ولا إعياء. وجائز أن يكون قوله: {لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} وذلك أن من حل بقرابته وبالمتصلين به شيء في هذه الدنيا من آفاتها يهتم لذلك ويتكلف دفع ذلك عنهم، فأخبر أنهم إذا حلوا في دار المقامة لا يهمهم شيء من ذلك، واللّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ}: شكر لهم ما كان منه إليهم، وغفر لهم ما كان منهم من ذنب، وفي حديث رفع إلى رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في قوله: {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} قال: " شكر اللّه للمؤمن اليسير من الحسنات، وغفر لهم الذنوب العظام ". والنصب: الأذى، ويقال: الفناء، واللغوب: التعب. ٣٦وقوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا ... (٣٦) فيستريحوا من عذابها، {وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا}. وفي قوله: {وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} نقض قول الجهم وأبي هذيل المعتزلي: أما قول الجهم؛ لأنه يقول: بانقطاع العذاب عن أهل النار، فأخبر أنه لا يخفف عنهم العذاب، فلو كان يحتمل الانقطاع يحتمل التخفيف، فإذا أخبر أنه لا يخفف عنهم دل أنه لا ينقطع، وكذلك قول مالك لهم: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ}، لما طلبوا منه التخفيف: {ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ}. وأما على قول أبي الهذيل فإنه يقول: إن العذاب قد يفتر عن أهل النار، ويصير بحال لو أراد اللّه أن يزيد في عذابهم شيئًا ما قدر عليه، وكذلك يقول في لذات أهل الجنة: إنها تصير بحال وتبلغ مبلغًا لو أراد اللّه أن يزيد لهم شيئًا منها ما قدر عليه، فظاهر الآية يكذبهم ويرد قولهم حيث قال: {وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا}. وقوله: {كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ}: لنعمه وجاحد وحدانيته. ٣٧وقوله: (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧) قَالَ بَعْضُهُمْ: يصيحون فيها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الاصطراخ: الاستغاثة، أي: يستغيثون، واصطراخهم قولهم: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} يفزعون أولا إلى كبرائهم الذين اتبعوهم في الدنيا، يطلبون منهم دفع ما هم فيه من العذاب والتخفيف عنهم؛ حيث قالوا: {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّه مِنْ شَيْءٍ}، فأجابوا لهم: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ}، وقال في آية أخرى: قوله تعالى: {إِنَّا كُلٌّ فِيهَا. . .} الآية، فلما أيسوا وانقطع رجاؤهم بالفرج من عندهم فزعوا عند ذلك إلى خزنة جهنم حيث قالوا: {ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ.قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ}، فلما أيسوا منهم وانقطع رجاؤهم، فزعوا إلى مالك يطلبون منه أن يسأل ربه؛ ليقضي عليهم بالموت حيث قال: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ}، فلما أيسوا، سألوا ربهم الإخراج عنها؛ ليعملوا غير الذي عملوا حيث قالوا: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}، فاحتج عليهم: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} أي: أولم نعمركم فيها من العمر مثل العمر الذي يتعظ به من يتعط، فهلا اتعظتم فيه ما اتعظ من اتعظ فيه، وقد أعمرناكم مثل الذي أعمرنا أُولَئِكَ، أو كلام نحو هذا. {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ}. قَالَ بَعْضُهُمْ: جاءكم الرسول وأنذركم هذا فقد كذبتموه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} أي: الشيب، ومعناه - واللّه أعلم - أي: قد رأيتم وعاينتم تغير الأحوال في أنفسكم من حال إلى حال: من حال الصغر إلى الكبر من الشباب إلى الشيب، ثم الرد إلى أرذل العمر، فهلا اتعظتم به كما اتعظ أُولَئِكَ، {فَذُوقُوا} ما أنذركم به الرسل {فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ}. ٣٨وقوله: (إِنَّ اللّه عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٣٨) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: على الوعيد والتخويف، أي: هو عالم بالأشياء التي لم يمتحنها بمحن، ولا أمرها بأمور، ولا نهاها بمناه، فالذين امتحنهم بأنواع المحن، وأمرهم بأوامر، ونهى بمناه - أحق أن يكون عالمًا بهم. والثاني: أنه على علم بما يكون من خلق السماوات وأهل الأرض، خلقهم وبعث إليهم الرسل من التكذيب لهم والرد عليهم، لا عن سهو وجهل بما يكون منهم؛ ليعلم أنه إنما بعث إليهم الرسل لحاجة أنفس المبعوث إليهم ولمنفعة لهم في ذلك، لا لحاجة المرسل والباعث ولمنفعة له؛ لذلك خرج البعث إليهم على علم بما يكون منهم من التكذيب والرد للرسالة على الحكمة وفي الشاهد على السفه؛ لأن في الشاهد إنما يبعث الرسل إلى من يبعث لحاجة نفسه ولمنفعة له في ذلك، فخرج البعث إليه على علم منه بالتكذيب والرد عليه سفها وباطلا، ومن اللّه حكمة وحقًّا، واللّه أعلم. وقوله: [{إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}]. وكأن ذات الصدور هم البشر، خصهم بعلم ما يكون منهم؛ لأنهم أهل تمييز وبصر وامتحان، فيخرج ذلك مخرج الوعيد لهم والتحذير، وأما غيرهم من الدواب ونحوها فلا محنة عليهم ولا تمييز لهم؛ لذلك خص هَؤُلَاءِ بذلك، وإن كان عالمًا بالكل بذات الصدور وغير ذات الصدور، واللّه أعلم. ٣٩وقوله: (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ ... (٣٩) فإن كان المخاطبون به أصحاب رسول اللّه وأمته، فيخبر أنه جعلهم خلائف من تقدم منهم من القرون والأمم الماضية بعد ما أهلكوا أو استؤصلوا، وإن كان المخاطبون به بني آدم كلهم فيخبر أنكم خلف من تقدمكم من الجن والملائكة، لأنه ذكر أن الجن كانوا سكان الأرض قبل بني آدم، فجعلوا خلائف الجن. ثم وجه الحكمة في جعل بعض خلائف بعض وإنشاء قرن بعد فناء آخر، وإفناء آخر بعد إنشاء آخر وجوه: أحدها: أن يعرفوا أنه إنما أنشأهم لعاقبة تقصد وتتأمل؛ حيث أنشأ قرنًا ثم أفناهم، ثم أنشأ غيرهم، ولو لم يكن في إنشائهم إلا هذا، كان إنشاؤه إياهم للفناء خاصة؛ إذ من بني في الشاهد بناء للنقض والفناء لا لعاقبة تقصد به، كان في بنائه عابثًا سفيها؛ فعلى ذلك إنشاء هَؤُلَاءِ في هذه الدنيا، لو لم يكن لعاقبة كان الإنشاء للفناء، وذلك عبث غير حكمة. والثاني: أن يعرفوا أن الدنيا ليست هي دار القرار والمقام، إنما هي مجعولة زادًا للآخرة، وبلغة إليها، ومسلكًا لها، ومنزلا ينزل فيها؛ ثم يرتحل كالمنازل المجعولة للنزول فيها في الأسفار والتزود منها ثم الارتحال، لا للمقام فيها؛ فعلى ذلك الدنيا جعلت لما ذكرنا؛ لئلا يطمئنوا إليها ولا يركنوا ويعملون عمل من يريد الارتحال عنها لا عمل المقيم فيها. والثالث: أن يعرفوا أن الآلام التي جعلت فيها واللذات ليست بدائمة أبدًا، بل على شرف الزوال والتحول؛ لأن في الحياة لذة وفي الموت ألمًا، فلا دامت اللذة ولا الألم؛ لأنه أحيا قرنًا ثم أفناهم ثم أحيا قرنًا آخر وأفناهم، فلا دامت اللذة ولا الآلام، ولكن انقضيا؛ ليعلموا أنهما لا يدومان أبدًا، ولكن يزولان. والرابع: أن يعتبروا بمن تقدم منهم من القرون: أنه على ماذا يكون الثناء الحسن، ويبقى الأثر والذكر الجميل؟ وبأي عمل ينقطع ويفنى ذلك؛ فمن كان من متبعي الرسل وقادة الخير والتوحيد والطاعة، فبقي له أثر الخير والثناء الحسن والذكر الجميل، ومن كان من أتباع أهل الكفر والشر لم يبق لهم شيء من ذلك؛ ليعملوا بالذي يُبقي لهم الثناء الحسن ويعقب لهم الذكر لا الذي يقطع ذلك، واللّه أعلم. وقوله: {فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ}. أي: عليه ضرر كفره. {وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا. . .} الآية. أي: لا يزيد كفرهم باللّه وبرسوله وعبادتهم الأصنام إلا مقتًا وخسارًا؛ لأنهم كانوا يعبدونها رجاء أن تشفع لهم يوم القيامة، ورجاء أن تقرب عبادتهم إلى اللّه زلفى؛ يقول - واللّه أعلم -: لا يزيد ذلك لهم إلا مقتًا من ربهم وخسارًا. أو يكون أعمالهم التي عملوا في هذه الدنيا من صلة الأرحام والقرب التي رجوا منها الربح والنفع في الآخرة لا يزيد ذلك لهم إلا مقتًا وخسارًا، واللّه أعلم. ٤٠وقوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (٤٠) ظاهر قوله: {أَرُونِي} أمر، لكنه يخرج على وجهين: أحدهما: على الإعجاز، أي: يعجز ولا يقدر ما تعبدون من دونه خلق السماوات والأرض، ولا إشراكه في خلق السماوات، ولا إنزال كتاب من السماء؛ ليأمرهم بذلك، بل اللّه هو الخالق لذلك كله وهو القادر عليه، فكيف صرفتم العبادة عنه والألوهية إلى من هو عاجز عن ذلك كله؟! والثاني: على التنبيه والتعيير لهم والتسفيه لأحلامهم؛ يقول - واللّه أعلم -: إنكم تعلمون أن الأصنام التي تعبدونها دون اللّه وتسمونها: آلهة لم يخلقوا شيئًا مما ذكر، ولا لهم شرك في ذلك ولا لكم كتاب يبيح لكم ذلك ويأذن لكم، وتعلمون أن اللّه هو الفاعل لذلك كله حيث قال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّه}، ولا لهم كتاب في ذلك؛ لأن الكتاب جهة وصوله إليه الرسول، وأنتم لا تؤمنون بالرسول، فكيف عبدتموها وتركتم عبادة من تعلمون أنه الفاعل لذلك والقادر عليه؟! وقوله: {مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ}. يحتمل جواهر الأرض نفسها، ويحتمل الخارج منها مما به معاشهم وقوامهم؛ وكذلك قوله: {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} يحتمل في جواهرها، ويحتمل ما ينزل عنها مما به معاشهم وأرزاقهم. وقوله: {فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ} أي: على حجة وبيان منه. وقوله: {بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا}. يحتمل وعدهم الذي ذكر لبعضهم بعضًا ما قالت القادة منهم والرؤساء للأتباع: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّه}، و {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى} وما لبسوا هم على الأتباع من أمر الكتاب والرسول: هو ساحر كذاب، وأنه مفتر، وأمثال ذلك مما يكثر عدده، فذلك كله منهم تغرير للأتباع. ٤١وقوله: (إِنَّ اللّه يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (٤١) يحتمل أن يكون هذا صلة ما تقدم من قوله: {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ}، فإن كان على هذا فيقول: تعلمون أن اللّه هو رافع السماوات والأرض والممسك لهما والمانع عن أن تزولا عن أمكانهما، لا يقدر أحد على إعادتهما، ولا أمسكهما سواه، فكيف تعبدون من لا يملك ذلك؟! أو أن يكون ذلك قوله: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ. . .} الآية، كادتا أن يتفطرن ويتشققن حين قالوا: للّه ولد، وله شريك، فإذا قالوا: اتخذ اللّه ولدا كادتا أن تزولا من مكانهما، وتسقطا عليهم تعظيمًا؛ لما قالوا في اللّه سبحانه. وجائز أن يكون لا على الصلة بشيء مما ذكرنا ولكن على الابتداء، فإن كان على الابتداء فهو يخبر عن قدرته وسلطانه؛ حيث رفع السماء وأمسكها في الهواء مع غلظها وشدتها بلا عمد من تحت ولا شيء من فوق، يمنعها عن الانحدار والزوال عن مكانها والإقرار على ذلك والتقرير، وفي الشاهد أن ليس في وسع أحد من الخلائق إمساك الشيء في الهواء ولا إقامته إلا بأحد هذين السببين: إما من تحت، وإما من فوق، وكذلك الأرض حيث دحاها وبسطها على الماء، ومن طبعها التسرب والتسفل في الماء لا القرار عليه؛ حيث لا يحفر مكان منها إلا ويخرج منه الماء؛ فدل تقرير الأرض على الماء وإمساك السماء في الهواء بلا شيء يقرهما ويمنعهما عن التسفل والانحدار - أنه الواحد القادر بذاته لا يعجزه شيء. وقوله: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}. قوله تعالى: {حَلِيمًا}: حين لم يرسل السماوات عليهم؛ لعظيم فريتهم على اللّه والقول فيه بما لا يليق به - سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرًا - وحيث لم يعجل بعقوبتهم في الدنيا، {غَفُورًا}: رحيمًا حيث ستر عليهم ذلك، ولم يفضحهم في الدنيا، واللّه أعلم. ٤٢وقوله: (وَأَقْسَمُوا بِاللّه جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (٤٢) هو قسمهم باللّه، ومعناه - واللّه أعلم -: أن العرب كانت من عادتهم أنهم كانوا يحلفون بالآباء والطواغيت، لا يحلفون باللّه إلا فيما عظم أمره، وجل قدره؛ تأكيدا لذلك الأمر؛ لذلك كان قسمهم باللّه جهد أيمانهم، وقد ذكرنا معنى جهد الأيمان فيما تقدم. وقوله: {لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ} قيل: رسول {لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ}. قيه دلالة: أنهم قد وقعت لهم الحاجة، ومستهم الضرورة إلى رسول يبين لهم أمر الدِّين ومصالحهم، وما لهم، وما عليهم، حيث أقسموا وعهدوا أنه لو جاءهم نذير لاتبعوه واقتدوا به، ثم تركهم لذلك العهد؛ لما لم يروه أهلا لذلك؛ لما كان هو دونهم في أمر الدنيا؛ استكبارًا منهم عليه؛ ولذلك قالوا: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} وإن تركوا أتباعهم نقضوا عهدهم لما رأوا مذاهب الناس مختلفة، فظنوا أن الاختلاف يرفع من بينهم به، فإن لم يرتفع تركوا اتباعه، أو لمعنى آخر لا نعلمه، واللّه أعلم. وقوله: {لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ}. قَالَ بَعْضُهُمْ: يعنون: اليهود والنصارى. وجائز أن يكونوا أرادوا بذلك الأمم جميعًا، لكنهم لم يروا الحق إلا لواحدة منها، فقالوا: {لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ}، واللّه أعلم. ٤٣وقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا}: استكبارًا في الأرض لما ذكرنا. وقوله: (وَمَكْرَ السَّيِّئِ ... (٤٣) يحتمل مكرهم: ما مكروا هم برسول اللّه من أنواع المكر حين هموا بقتله وإخراجه؛ كقوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ. . .} الآية. ويحتمل أيضًا أنه لما خرج ودعا الناس إلى توحيد اللّه، أقعدوا على الطرق والمراصد ناسًا يقولون لمن قصد رسول اللّه: إنه ساحر، وإنه كذاب، وإنه مجنون؛ يصدون الناس بذلك عنه، فذلك كيدهم ومكرهم به، وقد كان منهم برسول اللّه من أنواع المكر سوى ذلك مما لا يحصى. وقوله: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}. هو في الدنيا من أنواع العذاب والقتل الذي نزل بهم، ويحتمل أن يكون ذلك في الآخرة، واللّه أعلم. وقوله: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ}. قَالَ بَعْضُهُمْ: ما ينظرون إلا سنته في الأولين، وسنته في الأولين الاستئصال والإهلاك عند العناد والمكابرة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ما ينظرون بإيمانهم إلا سنة الأولين: الإيمان عند معاينتهم العذاب، وإن كان لا يقبل ولا ينفعهم ذلك؛ كقوله: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللّه وَحْدَهُ. . .} الآية. وقوله: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّه تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّه تَحْوِيلًا}. هذا يحتمل وجوهًا: أحدها: {لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّه}: وهي الاستئصال عند العناد والمكابرة {تَحْوِيلًا} وإن اختلفت جهة الهلاك والاستئصال؛ كقوله: {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ}، وقوله: {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ}، لا شك أن نفس القول منهم مختلف في الكفر وسببه متفرق، ثم أخبر أن قول هَؤُلَاءِ ضاهى قول أُولَئِكَ، وشابهت قلوب بعض بعضا، وإن كان سبب ذلك وجهة الكفر مختلفًا؛ فعلى ذلك سنته لا تحول ولا تبدل وهي الاستئصال، وإن كان جهة ذلك وسببه مختلفًا. والثاني: {فَلَن تَجدَ لِسُنَّتِ اللّه} التي سن فيهم وحكم مدفعًا ولا رادّا، أي: لن يجدوا إلى دفع ما سن فيهم وحكم من العذاب والهلاك دافعًا، ولا رادًّا؛ كقوله: {وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا}. والثالث: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّه} وهي إيمانهم الذي يؤمنون عند معاينتهم العذاب وعند نزوله بهم {تَحْوِيلًا} و {تَبْدِيلًا}، أي: يؤمنون لا محالة ولكن لا ينفعهم ذلك في ذلك الوقت. والرابع: أن كل سنة سنها في كل قوم وكل أمة وإن اختلفت، لن تجد لذلك تحويلا ولا تبديلا، واللّه أعلم. ٤٤وقوله: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللّه لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (٤٤) هذا يخرج على وجوه: أحدها: قد. ساروا في الأرض، ونظروا إلى ما حل بأُولَئِكَ بالتكذيب والعناد، لكن لم يتعظوا بهم، ولم ينفعهم ذلك. والثاني: على الأمر: أن سيروا في الأرض، وانظروا ما الذي نزل بأُولَئِكَ؟ ومم نزل؟ واتعظوا بهم، وامتنعوا عن مثل صنيعهم. والثالث: أنهم وإن ساروا في الأرض ونظروا في آثارهم لم ينفعهم ذلك، واللّه أعلم. وقوله: {وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً}. أي: أنهم كانوا أكثر عددًا وأشد قوة وبطشا منكم، ثم لم يكن لهم دفع ما نزل بهم وحل، فأنتم يا أهل مكة مع قلة عددكم وضعفكم لا تقدرون على دفع ذلك عن أنفسكم. وقوله: {وَمَا كَانَ اللّه لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ}. الإعجاز في الشاهد يكون بوجهين: أحدهما: الامتناع؛ يقول: لا يقدر أحد أن يمتنع عنه ومن عذابه. والثاني: القهر والغلبة؛ يقول: لا يسبق منه بالقهر والغلبة، بل هو القاهر والغالب على خلقه {إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا}. ٤٥وقوله: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّه النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا ... (٤٥) من المعاصي والمساوي، {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ}، أي: على ظهر الأرض، ووجهه: اكتفاء بما سبق من ذكر الأرض، وهو قوله: {إِنَّ اللّه يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}. أو علم الناس وفهموا من ذكر الظهر: ظهر الأرض؛ لما على ظهر الأرض يكتسب ما يكتسب. ثم قوله: {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} قَالَ بَعْضُهُمْ: المراد بالدابة: الممتحنون المميزون وهم بنو آدم خاصة؛ لأنهم أهل اكتساب واجتراح؛ إذ قد ذكر الإهلاك بما يكتسبون، وهم أهل الاكتساب دون غيرهم من الدواب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كل دابة من البشر وغيره؛ لأن غيره من الدواب إنما أنشئت للبشر ولحوائجهم لا لحاجة أنفسها أو لمنفعة لها حيث قال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}، وقوله: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ}، فإذا كان غيرهم من الأشباء منشأة لهم، فإذا أهلكوا هم أهلك ما كان منشأ لحوائجهم ولمنافعهم، ولا يكون إهلاك ما ذكرنا من الدواب خروجًا عن الحكمة على ما يقول الثنوية؛ إذ ليس من فعل الحكيم الأمر بذبح أسلم الدواب والانتفاع بلحمها. قيل: هكذا إذا كانت تلك منشأة لأنفسها ولمنافعها، فأما إذا كان ما ذكرنا أنها منشأة لنا ولمنافعنا فجائز الانتفاع بها مرة بعينها ومرة بلحمها، ولا يكون فعل ذلك ولا الأمر به غير حكمة. ثم الفرق بين إباحة الانتفاع بلحم أسلم الدواب وحظر لحم الضارة منها والمضرة؛ لأنه جعل حفظ ما ليس بضار ولا مضر إلينا، وعلينا جعل مؤنتها والذب عنها ودفع المضر، فأما الضارة منها والمضرة فهي ممتنعة بنفسها متحملة مؤنتها؛ كذلك كان ما ذكرنا، واللّه أعلم. وقوله: {وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}. أي: لم يؤاخذهم بما كسبوا على ظهرها لما جعل لهم من المدة؛ أحب أن ينقضي ذلك، ويفي به؛ جعل لهم من المدة وما ضرب لهم من الوقت. {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللّه كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا}. أي: عن بصيرة وعلم بكسبهم وصنيعهم، وما يكون منهم ضرب لهم المدة والوقت الذي ينتهون إليه، ويبلغون آجالهم، لا عن جهل، بل لم يزل عالمًا بما يكون منهم، لكن لما كان ضرر ذلك الذي علم أنه يكون منهم راجعًا إليهم أنشأهم وجعل لهم المدة، وقد ذكرنا هذا في غير موضع، واللّه أعلم. قَالَ الْقُتَبِيُّ: أساور: جمع سوار، وهو الذي تجعله المرأة في معصمها، والنصب: الشدة والتعب، واللغوب: الإعياء، لغبت بنفسي ألغب لغوبا، فأنا لاغب، وألغبت غيري، أي: كلفته حتى أعياه؛ وهو قول أبي عَوْسَجَةَ، والاصطراخ، صياح الضجر، والمقت: البغض. * * * |
﴿ ٠ ﴾