مَكِّيَّة

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١-٣

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (٢)

اختلف فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: الصافات هي الطير إذا صفت أجنحتها بين السماء والأرض.

وذكر عن ابن مسعود قال: الصافات والزاجرات والتاليات كلهم الملائكة، قال: الملائكة الصافات اصطفت الملائكة صفًّا لعبادة اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - وتسبيحه، وكذلك ذكر عن ابن عَبَّاسٍ وغيره إلا أن غيره يفسر الزاجرات والتاليات أي ملائكة هم؟ ولسنا نذكر عن ابن مسعود وابن عَبَّاسٍ التفسير.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: (الزاجرات): هم الملائكة الذين يزجرون السحاب والأمطار، {فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} هم الملائكة يتلون القرآن والوحي على الرسل والأنبياء، عليهم السلام.

وقال قتادة: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} أقسم اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - بخلق ممن خلق، قال: {وَالصَّافَّاتِ}: الملائكة صفوف في السماء، {فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا} ما ذكر اللّه في القرآن من زواجر عن المعاصي والمساوي، {فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} قال: ما يتلى عليكم في القرآن من أخبار الرسل - عليهم السلام - وأنباء الأمم التي كانت قبلكم.

وجائز أن يكون {وَالصَّافَّاتِ}: هم الملائكة الذي يصلون للّه - عَزَّ وَجَلَّ - صفوفًا على ما ذكروا، {فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا}: هم الملائكة الموكلون بأرزاق الخلق وسوقها إليهم يسوقون إليهم سوقًا، {فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا}: هم الملائكة الموكلون بالتسبيح والتحميد وجميع الأذكار.

ثم وجه القسم بالملائكة الذين ذكر - واللّه أعلم -: أنه عَزَّ وَجَلَّ قد عظم شأن الملائكة وأمرهم في قلوب أُولَئِكَ الكفرة حتى قالوا: {لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا}، وقولهم: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ}، وقول فرعون: {أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ}، وقولهم: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا}، وما وصفهم اللّه - عَزَّ وَجَلَّ -: أنهم (لا يعصُونَ اللّه مَآ أَمَرَهُمْ. . .) الآية، {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} الآية، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. . .} الآية، عظم اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - أمر الملائكة عليهم وأعظم، شأنهم في قلوب أُولَئِكَ الكفرة وصدقهم عندهم؛ لذلك أقسم بهم على وحدانيته بقوله –

٤

 عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (٤) على هذا وقع القسم.

ثم أخبر عن صنع ذلك الواحد الذي هو إلهكم وإله الخلق جميعًا، وذكر نعته، فقال

٥

- عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (٥)

يخبر عن وحدانيته وتفرده حيث أنشأ السماوات وأنشأ الأرض وما ذكر، وجعل منافع السماء متصلة بمنافع الأرض على بعد ما بينهما، ومنافع المشارق متصلة بمنافع المغارب على بعد ما بينهما، ولو كان فعل عدد لمنع اتصال منافع بعض ببعض على ما يكون من فعل ذوي عدد وغلبة بعض على بعض، فإذا لم يمتنع ذلك، بل اتصل بعض ببعض؛ دل أنه فعل واحد لا شريك له.

ثم تخصيص ذكر السماوات والأرض وما ذكر دون غيره من الخلائق؛ لما عظم قدر السماء في قلوبهم؛ لنزول ما ينزل منها من الأمطار والبركات وغيرها، والأرض بخروج ما يخرج منها من الأنزال والأرزاق؛ ولذلك يخرج ذكرهما - واللّه أعلم - فيما ذكر حيث قال فيهما: {مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ}، فلعظم قدرهما في قلوبهم ودوامهما عندهم خرج ذكرهما، وإن كانتا تفنيان ولا تدومان أبدًا، واللّه أعلم.

ثم قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} قال بعض المعتزلة - وهو جعفر بن حرب -: فإن قال لنا قائل من قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا}: إنه رب أعمالنا وأفعالنا، فنقول له: إن أردت أنه رب أعمالنا وأفعالنا فبلى، ثم قال: فيقال لهم: أتقولون: إنه خالق الكفر وخالق الشر ونحوه، وفي أفعال الخلق الكفر والشر ونحوه؟!

قيل له: لا يقال ذلك على الإطلاق: إنه خالق الكفر وخالق شر، وإن كان يقال في الجملة: خالق أفعال الخلق، ورب كل شيء، وخالق كل شيء؛ لأن ذكره على الجملة يخرج على تعظيم ذلك الشيء؛ نحو ما يقال: رب مُحَمَّد، ورب البيت، إنما هو لتعظيم مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وتعظيم ذلك البيت خاصة؛ فعلى ذلك وصفنا إياه بالجملة أنه خالق أفعال

العباد وخالق كل شيء يخرج على وصف البيت بالعظمة والجلال، وعلى الإشارة التي تبنى منها، والتخصيص على تعظيم ذلك الشيء خاصة؛ لذلك جاز أن يوصف أنه خالق أفعال العباد جملة؛ لما ذكرنا أنه يخرج على المدح والتعظيم وعلى الإشارة على المنة له في تعظيم ذلك الشيء؛ لذلك افترقا، واللّه الموفق.

ثم يقال لهم: قولكم: إنه مالك لها وليس بخالق هل يقال لأحد: إنه مالك كذا إلا لما ينشئ ذلك أو لتمليك من يملكه، فإذا ثبت أنه مالك الأعمال والأفعال ثبت أنه خالقها؛ إذ لا يقال: مالك كذا إلا للقدرة على ذلك أو لما ذكرنا، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَرَبُّ الْمَشَارِقِ}.

قال بعض أهل التأويل: إن للشمس ثلاثمائة وستين مشرقا تطلع كل يوم من كوة، وكذلك يقولون في المغارب: إنها تغرب كل يوم من كوة، لكن يشبه أن يكون أراد بالمشارق والمغارب كل شيء يشرق وكل شيء غارب من الشمس والقمر والنجوم والكواكب وغيرها؛ وعلى ذلك يخرج قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ}.

وأما أهل التأويل فإنهم يقولون: مشرق الشتاء والصيف وكذلك مغربهما.

٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ}.

ليس أن هذه السماء التي نراها ونعاينها هي سماء الدنيا وغيرها سماء الآخرة، ولكن سماها سماء الدنيا لدنوها من أهل الأرض وقربها منهم، وأهل الأرض هم الجن والإنس، ولهما جرى الخطاب في ذلك وفي غيره؛ وعلى ذلك قول أهل التأويل: إنها إنما سميت: سماء الدنيا؛ لدنوها من أهلها، ولقربها منهم، واللّه أعلم.

وفي قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} أخبر أنه - عَزَّ وَجَلَّ - زينها بزينة الكواكب، وزينة الكواكب نفسها أضافها إلى نفسها وهي الزينة لها لا غير، فهو - واللّه أعلم - كأنه قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ} وهي الكواكب، أو قال: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ} فسئل ما هي؟ فقال: الكواكب.

٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (٧)

قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ}، وحفظه إياها ما ذكر في قوله

٨

- عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (٨) دُحُورًا)، قال ابن عَبَّاسٍ وغيره: قوله: {لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى} كانوا يَشَفَعُون ولَا يَسَّمَّعُونَ.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: كانوا لا يسمعون أخبار الملائكة وحديثهم فيما يتراجعون بينهم من أمر اللّه وهم الملأ الأعلى.

ومن يقول: إنهم كانوا لا يسمعون يذهب إلى ما ذكر في سورة الجن حيث قالوا: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا. وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا}، أخبروا أن من يستمع الآن يجد له ما ذكر؛ دل أنهم كانوا يستمعون.

فَإِنْ قِيلَ: كيف يوفق بين هذه الآية وبين قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. دُحُورًا. . . إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} استئنى الخطفة، وقال هاهنا: {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا. . .}، كذا ثم الخطفة إلا أن يكون على التمثيل، أي: موضع يخطف، أو على حقيقة الخطفة وهي الاستلاب والأخذ على السرعة، واللّه أعلم.

لكن يشبه أن يكون الآية التي قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا. وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا}. في المؤمنين منهم؛ ألا ترى أنهم قالوا: {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ}، وأما ما ذكر في سورة الصافات فهو في الكفار منهم والمردة {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} من الشياطين الذين يستمعون، واللّه أعلم.

ثم في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ}، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ. . .} الآية، دلالة إثبات الرسالة لمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه كان يخبرهم أن الجن يصعدون إلى السماء الدنيا ويستمعون من أخبار الملائكة وحديثهم فيما يتراجعون فيما بينهم من أمر اللّه في الأرض، ثم يخبرون الكهنة بذلك، فيخبر الكهنة أهل الأرض عن ذلك أنه يكون غدًا كذا وفي يوم كذا وكذا وأنه انقطع ذلك بالوحي ويمنعون، فقالت الجن ذلك وأخبرت عن أنفسهم أنهم كذلك كانوا يفعلون، فصدقوه على ما أخبر من صنيعهم.

فَإِنْ قِيلَ: كيف صار ذلك آية له، وإنما أخبر عن قول الجن هم، وبه ظهر ذلك

ومنه عرف؟!

قيل: هكذا لكن انقطاع الكهنة من بعد وحديثهم يدل على أن ذلك قد كان، ثم انقطع ذلك بالرسالة والوحي، واللّه أعلم.

فَإِنْ قِيلَ: فإذا ولوا الملائكة حفظ السماء وحرسها كيف أغفلوا عما ولوا من حفظها وحرسها وامتحنوا حتى أمكن أُولَئِكَ من الاستماع والاختطاف وما ذكر؟

قيل: جائز أن يشتغلوا هم بأعمال ويمتحنون بأمور أخر سوى ذلك، فيمكن ذلك لهم ما ذكر، واللّه أعلم.

فَإِنْ قِيلَ: كيف كانت صنعة الشياطين من الاستماع منهم والخطف، وقد رأت وعاينت ما أصاب من فعل ذلك من القذف والرمي والاحتراق؟

قيل: إن الشياطين عادتهم طلب الغفلة في كل وقت، فجائز أن يكونوا فعلوا ذلك لما كانوا يظنون ويقع عندهم أنهم في غفلة وسهو من أمورهم، وإن كانوا يعلمون ما يصيب من فعل ذلك، واللّه أعلم.

ثم جائز أن يستدل بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ. . .} الآية، يقول علماؤنا فيمن حلف ألا يكلم فلانًا، فناداه من حيث لا يستمع: لا يحنث، وإذا ناداه من حيث يسمع حنث وإن لم يسمع؛ لما ذكر {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ}، ومعلوم أنهم كانوا يقصدون من الأرض إلى الملأ الأعلى، لكن لا يسمعون، ثم لم يذكر ذلك منهم إلا في المكان الذي يسمع؛ دل أنه على ما ذكرنا من الدلالة، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى}.

الأشراف منهم وأهل المنزلة والكرامة، ويحتمل الجماعة؛ لأن الملأ هو اسم للشيئين: للجماعة منهم، واسم لأهل الشرف والمنزلة.

ثم لا ندري كيف سماع الجن من الملائكة؛ وما سبب ذلك؛ أن تكون تلك الأخبار وما يريد اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - إحداثه في الأرض مكتوبًا في كتاب ينظرون فيه فيعلمونه، أو ليتحدث الملائكة فيما بينهم بذلك فيستمع هَؤُلَاءِ منهم ذلك، أو كيف جهة سماعهم ذلك منهم؛ وما يشبه ذلك، واللّه أعلم.

وفيه أن الجن تفهم كلام الملائكة وإن اختلفت جواهرهم، واللّه أعلم.

١١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا ... (١١)

قيل: هي السماوات والأرض والجبال، وقيل: الملائكة، وأكثرهم قالوا: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا}، أي: السماوات والأرض؛ كقوله - عز وجل -: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ. . .} الآية، يقول - واللّه أعلم -: سلهم أن خلقهم وإعادتهم أشد وأكبر وأعظم من خلق السماوات والأرض؛ وإذا أقررتم أنتم بقدرته على خلق السماوات والأرض كيف أنكرتم قدرته على إعادتكم بعد ما متم، وكنتم ترابًا ورفاتًا؟! واللّه أعلم.

وقوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ} و {سَلْهُم} ونحو ذلك مما أمر اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - رسوله أن يسألهم ويستفتيهم يخرج من اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - على وجوه:

أحدها: على التقرير عندهم والتنبيه لهم.

أو على التعيير لهم والتوبيخ.

أو على التعليم حجة الحجاج والمناظرة فيما بينهم وبين خصومهم، وهكذا كل سؤال واستفتاء كان من خبير عليم لمن دونه يخرج على هذه الوجوه، وكل سؤال واستفتاء كان من الجهّال لخبير عليم يخرج على استرشاد وطلب الصواب.

وقوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ} و {سَلْهُم} {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ. . .} الآية، و {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ}، و {قُلْ هُوَ اللّه أَحَدٌ} و {قُلْ. . .} كذا - هذا كله يخرج على التقرير والتنبيه، وعلى تعليم الكل حجة الحجاج والمناظرة لا على الأمر؛ لأنه لو كان على الأمر، لكان لا يقول ذلك المأمور بالتبليغ: سل، ولا قل، ولا لمميء من ذلك، ولكن يبلغ إليه رسالته وأمره أنه يقول لكم: أن افعلوا كذا ولا تفعلوا؛ فدل أن ذلك الأمر للكل في أمر أنفسهم: أن قولوا لهم، وأن افعلوا بهم كذا، واللّه أعلم.

وقوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا. . .} الآية.

أمره أن يستفتيهم، ولم يذكر أنهم ما أفتوه؛ ولا أجابوه أو لا؟ ولا قال لهم: إنهم لو أجابوك وأفتوك بكذا فقل لهم كذا أو أجبهم بكذا؛ فجائز أن يكون الجواب ما ذكرنا: أنكم لو لم تشاهدوا خلق ما ذكر من السماوات والأرض وغيرها سوى خلق أنفسكم ثم شاهدتم خلقنا أعني ما ذكرنا من السماوات والأرض والجبال وغيرها - هل تنكرون قدرته على خلق ما شهدتم وعاينتم: أنه لم يخلقها إلا هو، كيف أنكرتم قدرته على إعادتكم وبعثكم؟!

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ}.

فذكر - واللّه أعلم - ضعفهم وشدة ما خلق من سواهم أنكم تعلمون ضعف أنفسكم وعجزها، وشدة من سواكم وقوتها وصلابتها، ثم إنها مع شدتها وقوتها وصلابتها أخضع للّه وأطوع منكم نحو ما ذكر من طاعتها له وخضوعها؛ حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللّه} ونحو ذلك مما يكثر، واللّه أعلم.

أو أن يذكر لقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ} بدء خلقهم وأصله الذي خلقوا هم منه، إنكم إنما عرفتم ابتداء خلقكم وأصلكم الذي منه خلقتم أنه تراب أو طين بإخبار الرسل، ويقول لهم: وأنتم يا أهل مكة ممن لا يؤمنون بالرسل، فكيف صدقتم الرسل بما أخبروا من أصلهم وبدء خلقكم، ولم تصدقوهم بما يخبرونكم من إعادتكم وبعثكم بعد موتكم؟! فإذا صدقتموهم في ذلك لزمكم التصديق لهم في كل ما يخبرون ويقولون، واللّه أعلم.

أو يقول: إنه أنشأ من تلك النفس الواحدة التي خلقها من تراب من الخلق ما لو تركهم جميعًا لم يفنهم ولم يمتهم، لامتلأت الدنيا منها، فمن قدر على إنشاء ما تمتلئ الدنيا منه من نفس واحدة لا يحتمل أن يعجزه شيء من البعث والإعادة وغير ذلك، واللّه أعلم.

أو أن يقول في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ}، أي: قد أنشأ من تلك النفس ومن ذلك الأصل قرنا وقرنا بعد قرن بعد إفناء كل قرن أنشأ قرنًا آخر؛ فلا يحتمل أن يكون المقصود من إنشائهم الإنشاء ثم الإفناء والنقض، خاصة لا عاقبة تقصد بالإنشاء والإفناء؛ إذ في الشاهد من كان مقصوده في البناء الفناء والنقض خاصة كان غير حكيم، فإذا عرفتم اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - أنه حكيم؛ فلا يحتمل أن يكون مراده من إنشائكم وإفنائكم ذلك خاصة لا غير وذلك مزيل الحكمة، ويوجب السفه، تعالى اللّه عن ذلك وجميع ما يصفه الملاحدة علوًّا كبيرًا.

أو أن يقول: إنكم عرفتم أنه إنما أنشاكم من تلك النفس التي أنشأها من تراب أو طين على اتفاق منكم، فإذا متم وفنيتم صرتم ترابًا أو طينًا، فكيف أنكرتم إعادته إياكم من تراب أو طين، وقد أقررتم أن أصلكم تراب أو طين - واللّه أعلم - على الوجوه التي ذكرنا يجوز أن يخرج.

١٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢)

بالنصب يحتمل وجوهًا:

أحدها: عجبتَ منهم إنكارهم ما أنكروا بعد كثرة قيام الآيات والحجج عليهم في ذلك وهم ينكرون ويسخرون.

أو يقول: عجبت ويسخرون؛ لما أنك بزعمهم لعظيم ما ينزل بهم من العذاب والشدائد وما يستقبلهم من الأمور المهمة وهم يسخرون، واللّه أعلم.

أو يقول: بل عجبت لما تدعوهم أنت إلى ما به نجاتهم وفلاحهم وهم يسخرون، ونخو ذلك يحتمل، واللّه أعلم بما كان يعببه.

وفي بعض الحروف: (بل عجبتُ) بالرفع، وكذلك ذكر عن ابن مسعود - رضي اللّه عنه - أنه كان يقرؤه بالرفع: (بل عجبتُ) فإن ثبت ذلك وصح إضافة العجب إلى اللّه فهو في الشاهد وإن كان لظهور عظيم مما قالوا خفيا عليهم مستترًا، عند ذلك يقع لهم العجبُ فهو في اللّه عَزَّ وَجَلَّ، وإن كان لا يحتمل أن يخفى عليه شيء، فذلك لعظيم ما كان منهم من الإنكار من قدرته على الإنشاء والجحود في ذلك؛ فيكون ما ذكر من حرف العجب منه كناية عن الإنكار والدفع لقولهم، وذلك كما أضاف الامتحان إلى نفسه وإن كان في الشاهد لا يستعمل إلا في استظهار ما خفي عليهم واستتر منهم، فهو من اللّه يخرج على الأمر والنهي - أعني الامتحان - وإن كان في الشاهد بين الخلق لا يكون إلا لما ذكرنا، فعدى ذلك جائز إضافة العجب إلى اللّه على إرادة الإنكار منه عليهم والدفع لقولهم، واللّه أعلم.

ومن الناس من أنكر هذه القراءة

وقال: لا يجوز إضافة التعجب إلى اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - لما هو لم يزل عالمًا بما كان ويكون، وهو في الشاهد إنما يكون لظهور عظيم من الأمر قد جهلوه، لكن هذا وإن كان في الخلق ما ذكر فهو من اللّه على غير ذلك، على ما ذكرنا من إضافة الامتحان إليه والابتلاء وإن كان بين الخلق لما ذكرنا، وقد ظهرت إضافته إليه بقوله: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} وهو يخرج على الإنكار عليهم والرد على تعظيم إنكار ما قالوا وأنكروا، واللّه أعلم.

ومن أن ناس من قال في قوله عَزَّ وَجَلَّ: {بَلْ عَجِبْتَ} فيما أضافه إلى رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -:

أي عجبت من هذا القرآن حين أعطاك إياه ويسخر منه أُولَئِكَ الكفرة.

ويحتمل معنى آخر، وهو أن يقال: إن قوله عَزَّ وَجَلَّ: {بَلْ عَجِبْتَ} أي: جعلت ما أنزلت عليك من القرآن والوحي أمرًا عجبًا، أو أن يقال: كان إنكارهم رسالتك وتكذيبهم الآيات أمرًا عجبًا وهم يسخرون، ونحوه، واللّه أعلم.

١٣

وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (١٣)

ابن عَبَّاسٍ يقول: وإذا وُعِظوا لا يتعظون، والموعظة والتذكير واحد.

وقتادة يقول: {وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ} أي: لا ينتفعون بالموعظة على ما ذكرنا في قوله: قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ}، أي: لا ينتفعون بتلك الحواس، وإن كانت لهم تلك، كمن لا حاسة له. فعلى ذلك قول قتادة.

وجائز أن يكون على مرادفة التذكير ما نسوا من الآيات والحجج، يقول: إنهم وإن ذكروا ما نسوا وتركوا وغفلوا عنه لا يتذكرون، واللّه أعلم.

وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) هذه الآيات وأمثالها ذكرها - واللّه أعلم - لقوم علم اللّه أنهم لا يؤمنون أبدًا، (لَا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ. . .) إلى آخر ما ذكر؛ يخبر عن عنادهم ومكابرتهم. . . الآيات، ويذكر سفههم.

ثم في ذكر ما ذكر من عنادهم وسفههم، وجعله آيات من القرآن تتلى أبدًا وجهان من الحكمة:

أحدهما: صير ذلك آية لرسالته - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لأنه معلوم أنهم كانوا على ما أخبر عنهم من العناد والسفه وعلى أن ختموا وقبضوا، دل أنه باللّه عرف ذلك وبوحيه علم، واللّه أعلم.

والثاني: يخبر - واللّه أعلم - على ما رأى سلفنا من سفه أُولَئِكَ وعنادهم وما قاسوا منهم وما لحق بهم من الأذى والضرر والسوء؛ لئلا يضيق صدرنا في سفه من تسفه علينا من أهل الفساد والفسق، وألا نترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لسفه السفيه، ولا لأذى المؤذي ولا سوء يقال، بل يجب علينا أن نتأسى بسلفنا ونقتدي بهم، وإذا أصابنا منهم ما أصاب أُولَئِكَ من الأذى والسفه، وإن عاندوا أو كابروا وظهر منهم كل فسق وسوء على ما فعل أُولَئِكَ، واحتملوا منهم ما كرهوا، فنحمل عن سفهائنا مثله - واللّه أعلم - وإلا لو لم يكن في ذكر سفههم وعنادهم ما ذكرنا من الحكمة كان لا معنى لذكر سفه أُولَئِكَ وعنادهم.

وجائز أن يكون الشيء سفهًا باطلًا في نفسه ويكون حكمة ودليلًا لغيره - واللّه أعلم - على ما قال بعض الناس: إن الكذب نفسه يجوز أن يكون دليل الصدق، وكلام السفه

والباطل دليل الصدق والحكمة، واللّه أعلم.

وقوله: {وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ} أي: وإذا أنزل عليهم آية على سؤال منهم يستسخرون ويستهزئون، يخبر عن سفههم أنهم وإن سألوا الآيات فإنهم لا يسألون سؤال استرشاد ولكن سؤال عناد وهزء؛ كقوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا}، وكقوله: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللّه}.

١٥

وقالوا: (إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) كان هذا تلقينًا لأُولَئِكَ الكفرة الرؤساء من الشيطان اللعين حتى يموهوا على أتباعهم عندما ظهر، وكثير من الآيات؛ لما كانوا يعلمون أن لا كل أحد يعرف السحر ويتهيأ إتيانه وفعله؛ يلبسون بذلك على أتباعهم ليقع عندهم أنها السحر لا الآية، واللّه أعلم. ولو كان ذلك سحرًا حقيقة لكان من آيات الرسالة، فكيف إذا كان آية لما كانوا يعلمون أنه لم يختلف إلى أحد ممن له صرفة بالسحر قط؟! فدل أنه باللّه عرف ذلك، على ما ذكرنا: أن ما أنبأ وأخبر عن أنباء الأمم الخالية وأخبارهم يدل على رسالته؛ لما علموا أنه لم يختلف إلى أحد ممن له الصرفة بتلك الأنباء والأخبار ولا ينظر في كتبهم ليعرف ذلك، ثم أخبر على ما كان في كتبهم، دل أنه باللّه عرف ذلك وبوحى منه إليه علم، فعلى ذلك لو كان سحرًا فكيف إذا كانت آية عظيمة معجزة؟!

وقال الزجاج: حرف العجب إنما يكون عند ظهور العجب من الأمر وعبرة عظيمة، فأما ما أضيف إلى اللّه فهو على الإنكار منه والرد على من أنكر عظيمًا من الأمر ظاهرًا، أو كلام نحوه، واللّه أعلم.

وقوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} قيل: دائم؛ كقوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا}، أي دائمًا، وقيل: {عَذَابٌ وَاصِبٌ} أي: شديد.

وقوله عَزَّ وَجَلَّ: {مِنْ طِينٍ لَازِبٍ} قيل: ملتزق، وقيل ملتصق الذي يلتصق باليد إذا لمس.

وقوله: {دُحُورًا} قيل: طردًا، وهو مطرود.

وقوله: {شِهَابٌ ثَاقِبٌ} قيل: مضيء، وقيل: هوى بضوئه.

ثم قوله: {وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ}

قَالَ بَعْضُهُمْ: يسخرون،

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {يَسْتَسْخِرُونَ}: يطلبون من أتباعهم السخرية - يعني: القادة - على الآية. واللّه أعلم.

١٦

وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ)

قد ذكرنا: أنهم يقولون ذلك وما تقدم على العناد والتعنت وعلم منهم أنهم لا يؤمنون أبدًا وإن بين لهم جهة الإحياء والقدرة عليهم؛ لذلك اكتفى بقوله: (قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (١٨) قد ذكرنا أنهم كانوا يقولون ذلك، ولم يذكر شيئًا من الحجاج سوى قوله: {نَعَمْ}.

وقوله: {وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ}.

أي: صاغرون ذليلون؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ}، واللّه أعلم.

١٩

وقوله: (فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ ... (١٩)

يحتمل قدر زجرة واحدة، يخبر عن سرعة قيامها ومرورها.

ويحتمل على حقيقة الزجرة، لكن يخبر عن خفة ذلك وهوانه عليه؛ كقوله: {كُن فَيَكُونُ}، من غير أن كان منه كاف ونون أو شيء من ذلك، لكنه أخف كلام على الألسن يؤدي به المعنى، ويفهم به المراد من ذلك؛ فعلى ذلك جائز أن يكون قوله: {زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} إخبارًا عن خفة ذلك عليه وهوانه، من غير أن جعل الزجرة سبب الإحياء أو سببًا من ذلك، واللّه أعلم.

وقوله: {فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ}.

يحتمل قوله: {يَنْظُرُونَ} إلى ماذا يؤمرون؟ وعن ماذا ينهون؟ لأن الذي أصابهم في

الآخرة إنما كان لتركهم الأمر في الدنيا، فإذا عاينوا ما كانوا يوعدون في الدنيا بتركهم الأمر عنه ينظرون إلى ماذا يؤمرون وينهون عنه؟ واللّه أعلم.

أو ينظرون كالمتحيرين؛ لأنهم كانوا ينكرون البعث ويكذبونه، فإذا عاينوا تحيروا وتاهوا وضجروا، وهكذا الأمر المتعارف في الخلق أن من أنكر شيئًا أو كذبه، ثم أخبر به وأعلم حتى تيقن عنده ما أنكر تحير وضجر؛ فعلى ذلك هَؤُلَاءِ لما أنكروا في الدنيا وكذبوه ثم عاينوا ذلك وتيقنوا به - تحيروا وضجروا به، ينظرون نظر المتحير الضجر، واللّه أعلم.

٢٠

وقوله: (وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠)

هذا كلام يقال عند الوقوع في الهلاك.

وقوله: {هَذَا يَوْمُ الدِّينِ} أي: يوم الحساب ويوم الجزاء، وكذلك قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}.

ويحتمل: هذا يوم الذي ينفع كل من معه الدِّين دينه، والدِّين المطلق هو دين اللّه، وكذلك السبيل المطلق هو سبيل اللّه، أي: هذا يوم الدِّين الذي ينفع من كان معه دين اللّه، وكذا السبيل المطلق هو سبيل اللّه.

٢١

وقوله: (هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١)

قوله: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ} أي: يوم القضاء والحكم؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، أي: يقضي بينهم {فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}، واللّه أعلم.

ويحتمل قوله؛ {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ} أي؛ يفصل ويفرق بينهم، أي: بين الكفار وأهل الإيمان، وبين الخبيث والطيب؛ كقوله - تعالى -: {لِيَمِيزَ اللّه الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا. . .} الآية،

وقوله: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ}،

وقوله: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ}، واللّه أعلم.

٢٢

وقوله: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢)

فالزوج: هو اسم لشكله واسم لضده اسم لهما جميعًا. يحتمل قوله: {وَأَزْوَاجَهُمْ} أي: أشكالهم وقرناؤهم من الجن والإنس والشياطين، يأمر الملائكة أن تجمع بين من كانوا يجتمعون في هذه الدنيا ويستحبون الاجتماع معهم أن يجمعوا في عذاب الآخرة، على ما كانوا يستحبون الاجتماع في الملاهي والطرب في هذه الدنيا ويجتمعون على ذلك؛ فعلى ذلك يجمع بين أُولَئِكَ وبين قرنائهم جهنم، ويقرن بعضهم إلى بعض في العذاب؛ كقوله: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}؛ وكقوله: (وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ)، ونحوه.

٢٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (٢٣) كقوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا}، ونحوه، واللّه أعلم.

وقال قتادة وغيره: {هَذَا يَوْمُ الدِّينِ}، أي: يدان لبعض الناس من بعض في المظالم والحقوق.

٢٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (٢٤)

يحتمل الوقف للحساب.

ويحتمل {مَسْئُولُونَ} أي: محاسبون.

وعن ابن عَبَّاسٍ قال: " إن دون الحساب يوم القيامة كذا كذا موقفًا، في كل موقف يوقفون مقدار كذا عامًا، ثم تلا هذه الآية ".

ويحتمل ليس السؤال عما فعلوا، ولكن يسألون لماذا فعلوا؟

ويحتمل الوقوف فتنوا إلى بعضهم بعضًا، والمخاصمة فيما بينهم والمراجعة؛ كقوله: {وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ. . .} كذا، {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ. . .}

كذا؛ على ما أخبر أنه يجري فيما بينهم من الخصومة ومراجعة القول واللائمة.

٢٥

وقوله: (مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (٢٥)

أي: ما لكم لا تنصرون؛ أي: ما لكم لا ينصركم الأصنام التي عبدتموها في الدنيا رجاء النصر والشفاعة؛ كقوله: {هَؤُلَاءِ شُفَعاؤنَا عَندَ اللّه}،

وقوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى}.

٢٦

فيخبر عن إياسهم من نصر ما عبدوا على رجاء النصر لهم والشفاعة؛ كقوله: (بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦) أي: خاضعون ذليلون للّه، لما علموا ألا يكون النصر والعون إلا منه، فعند ذلك يستسلمون له.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: يستسلمون في عذابه.

٢٧

وقوله: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: أقبلت الإنس على الجن.

٢٨

وقَالَ بَعْضُهُمْ: أقبلت الإنس على الشياطين، فقالوا لهم: (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨)

قَالَ بَعْضُهُمْ: من قبل الخير والطاعة؛ فتسهوننا وتشغلوننا.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: من قبل الدِّين والتوحيد من حيث يحترس، وهو الأول.

٢٩

وقَالَ بَعْضُهُمْ: من قبل الحق ونحوه.

فرد عليهم أُولَئِكَ: (بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩)

يقولون: إنكم تركتم الإيمان بأنفسكم وباختياركم لا إنا منعناكم منعا عنه.

٣٠

وقالوا: (وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (٣٠)

أي: ما كان لنا عنيكم من حجة أو برهان ألزمناكم به، بل أطعتمونا طوعًا واستجبتم لنا فيما دعوناكم، فهذه المناظرة والمجادلة فيما ينهم كمناظرة إبليس في موضع آخر حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللّه وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ}، أي: دعوتكم بلا حجة ولا برهان فاستجبتم لي؛ فعلى ذلك يقول هَؤُلَاءِ: {بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} باختياركم ترك الإيمان بلا سلطان ولا حجة كان عليكم، وكمناظرة القادة مع الأتباع حيث قال: {وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ}، ونحوه، واللّه أعلم.

ويحتمل قوله: {قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} أي: من جهة القوة، أي: إنكم على الحق وإنكم مؤمنون ونحو ذلك.

ويحتمل لا على حقيقة اليمين، ولكن تأتوننا من كل جهة؛ كقوله: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ. . .} الآية، أي: من كل جهة لا على حقيقة ما ذكرنا، واللّه أعلم.

وقد ذكرنا أن قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} أن قوله: {سُلْطَانٍ} أي: لم يكن لاتباعكم إيانا وطاعتكم لنا حجة أو برهان أقمناه عليكم فيما دعوناكم إليه، وإنما كان اتباعًا من غير أن ألزمناكم؛ فلا تلومونا ولكن لوموا أنفسكم.

{بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ}.

أي: بطغيانكم اتبعتمونا لا بما ذكرتم، واللّه أعلم.

٣١

ثم قالوا: (فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (٣١)

يشبه أن يكون هذا قول الأكابر منهم والمتبوعين للأصاغر والأتباع منهم: أن حق علينا قول ربنا؛

قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: وجب علينا وعليكم عذاب ربنا.

ويشبه أن يكون القول الذي أخبروا أنه حق عليهم هو قوله: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}.

٣٢

وقوله: (فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (٣٢)

يحتمل أن تكون هذه المعاتبة التي ذكرت كانت بين الأتباع والمتبوعين من الإنس؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} كذا، {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا. . .} كذا؛ وكقوله: {رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ. . .} كذا.

ويشبه أن يكون بين الإنس والشياطين.

ثم قوله: {فَأَغْوَيْنَاكُمْ}.

حين اخترتم الغواية والضلال، أو عرفتم أنا لسنا على الهدى ولم نقم عليكم الحجة، فاتبعتمونا على علم منكم أنا على الغواية فأغويناكم حينئذ، والإغواء: الإضلال، والغواية: الضلال.

٣٣

وقوله: (فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣)

أخبر أنهم جميعًا: الأتباع، والمتبوعون يشتركون في العذاب، ليس أن يشتركوا في نوع من العذاب، ولكن يجمعون جميعًا، ثم لهم العذاب على قدر عصيانهم وجرمهم.

٣٤

وقوله: (إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤)

قال أبو بكر الأصم: المجرم: هو الوثاب في المعصية، القادح فيها، واللّه أعلم.

٣٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥)

أي: كانوا إذا قيل لهم: قولوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه يستكبرون.

ثم يحتمل قوله: {يَسْتَكْبِرُونَ} لا على هذه الكلمة، ولكن يستكبرون على اتباع القائلين لهم: لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه؛ كقولهم: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}؛ وكقولهم: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا}، كانوا يأنفون ويستكبرون على اتباع رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، لذلك قالوا ما قالوا.

وجائز أن يكون ما ذكر من استكبارهم استكبارًا على هذه الكلمة حقيقة، فيخرج استكبارهم عليها؛ إنكارًا لهذه الكلمة وجحوذا لها بقولهم: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا}، واللّه أعلم.

٣٦

(وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦)

يشبه أن يكون على الإنكار لها؛ لما ذكر من قولهم على أثر ذلك وهو ما قال: {أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ}.

ثم جمعوا في هذا متضادين؛ لأن الشاعر هو الذي يبلغ في العلم غايته، والمجنون هو الذي يبلغ في الجهل غايته، ثم جمعوا بينهما في رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وكذلك قولهم:

{سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} والساحر هو الذي يبلغ في علم الأشياء غايته، والجنون في الجهل؛ دل أنهم إنما يقولون عن عناد وتعنت.

٣٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧)

الحق:

قَالَ بَعْضُهُمْ: بالحق الذي للّه عليهم وما لبعضهم على بإض، وأصل الحق: أنه كل ما يحمد على فعله، وكل ما يذم عليه فهو باطل.

{وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ}: أخبر أنه صدق إخوانه من المرسلين، واللّه أعلم.

قال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: {وَالصَّافَّاتِ}: هي الطيور التي صفت بين السماء والأرض، {فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا} من الزجر يقال: زجرت الإبل زجرا إن صحت بها؛ فهو اسم الصياح، {فَالتَّالِيَاتِ} كما تقول: تلوت القرآن، أي: قرأت، وتلوت: تبعت، والتالي: التابع، والقذف والرمي {وَيُقْذَفُونَ} أي: يرمون، و {دُحُورًا}: أي مباعدة؛ دحرته، أي: باعدته وطردته، {وَاصِبٌ}، أي: [دائب]، {خَطِفَ الْخَطْفَةَ} أي: استلب الشيء، والخطفة: الاستلاب السريع، {فَأَتْبَعَهُ}، أي: اتبعه، {شِهَابٌ ثَاقِبٌ}: الشهاب: الكوكب، والثاقب: الشديد الضوء والحر؛ يقال: ثقبت النار، أي: التهبت واشتد حرها، وأثقبتها، أي: أوقدتها، سخرت واستسخرت كقولهم: قر واستقر؛ واحد، وسخر به وسخر به بالتشديد وسَخَّرتُ فلانا، أي: استعملته بغير أجر، {مُسْتَسْلِمُونَ}، أي: قد ذلوا وأعطوا بأيديهم؛ يقال: استسلم الرجل إذا أعطى بيده، وأسلمته: تركته لم أعنه ولم أنصره، {وَأَزْوَاجَهُمْ}: أشكالهم، تقول العرب: زوجت، أي: إذا قرنت واحدا بآخر، وهم قرناؤهم من الشياطين، {كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ}، أي: تخدعوننا وتمنعوننا عن طاعة اللّه، واللّه أعلم. وزوج الشيء: شكله، ويقال لضده؛ فهو اسم لهما جميعًا.

وقوله. {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه يَسْتَكْبِرُونَ}.

يحتمل ما ذكرنا: أنه على الإضمار: أنه إذا قيل لهم: قولوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه يستكبرون.

ويحتمل وجهًا آخر: أنهم إذا قيل لهم: اتركوا عبادة الأصنام، واصرفوا عبادتكم إلى الإله الذي هو في الحقيقة إله، وهو المالك لجر النفع ولدفع الضر، وهو اللّه جل وعلا؛ ويدل لهذا قولهم: {أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} أي: نترك عبادة آلهتنا لقول شاعر مجنون، واللّه أعلم.

ذكر أن نفرًا من رؤساء قريش أتوا إلى أبي طالب فقالوا: ما يريد منا ابن أخيك مُحَمَّد؟ فدعا به فقال: ما تريد منهم يا ابن أخي؟ فقال له: " يا عم، إنما أريد منهم كلمة يملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم "، وفي بعض القصة أنه قال لهم: " أريد منكم كلمة يدين لكم بها العرب ويؤدي إليكم بها العجم الجزية "، فقالوا: وما هي؟ فقال: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه،

وأني رسول اللّه "، فقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا}، وذكر أنهم قالوا: {أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ}.

ويحتمل ما ذكرنا فيما تقدم، واللّه أعلم.

والآية فيمن يقر بالصانع ليس فيمن ينكر الصانع رأسًا من نحو الدهرية وغيرها؛ حيث نفى الألوهية لمن دونه وأثبتها للّه - عَزَّ وَجَلَّ - بقوله: {لَآ إِلَهَ إِلَّا اللّه} ولو كان ذلك مع أهل الدهر، لكان لا معنى لنفي الألوهية لغيره، بل يحتاج إلى تثبيتها فحسب؛ فدل أن الآية فيمن يقر بالصانع، لكنه يشرك غيره فيها وهم مشركو العرب وغيرهم، واللّه أعلم.

ثم أخبر عن رسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصدقه حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ} وهو كل آياته: من التوحيد، والإسلام، والرسالة، وكل فعل يحمد فاعله عليه ولا يذم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ}.

الذين كانوا قبله في جميع ما جاءوا به من الحق.

٣٨

(إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (٣٨)

بالتكذيب والرد لذلك كله.

٣٩

(وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩).

٤٠

ثم استثنى المؤمنين حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِلَّا عِبَادَ اللّه الْمُخْلَصِينَ}؛ فإنهم لا يذوقون العذاب الأليم، وإلا لو كانوا مستثنين من قوله: {وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، أو لا؛ يكون لهذا حق الاستثناء من الأول، ولكن الابتداء ذلك جائز في اللغة سائغ في اللسان، واللّه أعلم.

٤١

ثم بين ما أعد للمخلصين فقال: (أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١)

فَإِنْ قِيلَ: كيف يجمع بين قوله: {يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ}، وبين قوله: {لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ}؟! قَالَ بَعْضُهُمْ من أهل التأويل: يعني المعلوم حين يشتهونه يؤتون به.

ويحتمل أن يكون للكثير الذي لا يحسب ولا يعد؛ لكثرته هو في نفسه معلوم محدود.

أو أن يريد بالمعلوم: أنه صار ما وعدوا في الدنيا لهم في الآخرة معلومًا معروفًا عند الوصول إليه كان ذلك لهم موعودًا، فإذا وصلوا إليه، صار معلومًا محدودًا.

٤٢

وقوله: (فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢)

أي: معظمون مشرفون.

٤٣-٤٦

وقوله: (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (٤٤) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦)

يخبر أن لهم في الجنة ما يستحبون ويختارون في الدنيا من الجلوس على السرر على المواجهة والمقابلة والشرب على ذلك، والكأس: قيل: كل إناء أو قدح فيه شراب فهو كأس.

وقوله: {بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ}.

المعين

قَالَ بَعْضُهُمْ: هو الجاري، وكأنه يخبر أن خمور أهل الجنة تجري في الأنهار؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ}.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: المعين: هو الظاهر الذي يقع البصر عليه؛ كقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ}، أي: [ظاهر].

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ}.

ذكر أن خمورهم في الآخرة بيضاء؛ لأن البياض يظهر كل ما فيه من الأذى والآفة ويرى، فأما في غيره من الألوان فإنه قلما يظهر وقلما يرى إلا بجهد، أو ذكر أنها بيضاء لأن البيضاء من الألوان المستحسن الطباع كلها؛ وهو المختار عندنا.

قال الزجاج: إن الخمر لذة للنفس الروحانية لا للجسدانية؛ ألا ترى أن الخمر يشربها الناس وتظهر كراهة ذلك في وجوههم من العبوسة وغيرها، ثم مع هذا يعودون ويشربون دل أنها لذة لا لهذه النفس الجسدانية، ولكن للنفس الروحانية أو كلام نحوه، واللّه أعلم.

٤٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (٤٧)

و {يُنزَفُونَ} بنصب الياء وكسر الزاء، ورفعها ونصب الزاء.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَا فِيهَا غَوْلٌ} أي: لا آفة ولا صد ولا أذى، {وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} من قرأها {يُنْزَفُونَ} برفع الياء ونصب الزاء يقول: لا تنزف الخمر

عقولهم، أي: لا تذهب بها، أي: لا يسكرون كما يسكر بشرب خمور الدنيا. ومن قرأها {يَنْزِفُونَ} أي يعني شرابهم.

وتأويل هذا الكلام: أن أهل الدنيا إذا أخذوا في الشراب لا يتركون شربهم إلا لإحدى الخلتين: إما لذهاب عقولهم وذلك عند شدة سكرهم، وإما لفناء الشراب، لإحدى هاتين الخلتين يتركون شربهم، فيخبر أن أهل الجنة لا يذهب عقولهم الخمر ولا يُفْنون شرابهم، ولا كان فيها آفة ولا ضرر، واللّه أعلم.

قال أَبُو عَوْسَجَةَ: طاهر لا تحرك، ويقال: الجاري، {لَا فِيهَا غَولٌ} أي: سكر ولا ضرر، ولا يكون الاغتيال إلا من الخديعة والقتل في الأولاد، وهي أن ترضع المرأة ولدها وفي بطنها آخر، والغلول: التلوُّن، وكذلك سميت الغول غولا؛ لأنها تتلوَّن، والغيلان: جميع، {يُنْزَفُونَ} قال: النزيف: السكران.

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: {لَا فِيهَا غَوْلٌ} أي: لا تغتال عقولهم فيذهب بها، يقال: الخمر غول للحلم، والحرب غول للنفوس، والغول: العدو، {وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} أي: لا يذهب خمرهم وينقطع ولا يذهب عقولهم، والخمر التي جعلها اللّه لأهل الجنة في الآخرة هي للذي لم يشربها في الدنيا ولم يتناول منها ولا تلذذ بها، واللّه أعلم.

وقيل: {لَا فِيهَا غَوْلٌ}، أي: غائلة لها، أي: الصداع، أي: لا يتجع منها الرأس، {وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} أي: لا يسكرون بنزف عقولهم فتذهب.

وفي قوله: (إلا عِبَادَ اللّه الْمُخلَصِينَ) بنصب اللام دلالة: أنه قد كان من اللّه - جل وعلا - لطف به استوجبوا الإخلاص والخصوصية، وهو ينقض على المعتزلة قولهم، واللّه أعلم.

٤٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -؛ (قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨)

أي: لا ينظرن إلى غير أزواجهن، جبل اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - البشر على الغيرة، ولا يستحب الرجال أن ينظر أزواجهم إلى غيرهم، ولا النساء أن ينظر أزواجهن إلى غيرهن، فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - عن أزواجهم في الجنة: أنهن لا ينظرن إلى غير أزواجهن؛ حبًّا لأزواجهن وطلبًا لمرضاتهم، واللّه أعلم.

وقوله: {عِينٌ}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: واسعات العيون في الجمال؛ لأن السعة في العين إذا جاوز الحد

فحش ولا يكون فيه جمال، ولكن يكون فيه قبح، واللّه أعلم.

٤٩

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {عِينٌ}، أي: حسان العيون، والعين جماعة: العيناء، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩)

أي: مستور، لا يصيبه مطر ولا ريح ولا غبار ولا شمس ولا شيء مما يصيب في الدنيا؛ كقوله: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ}، واللّه أعلم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ}.

أي: قد [خبئ] وكن من الحر والبرد والمطر فلم يتغير؛ وهو مثل الأول.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {بَيْضٌ مَكْنُونٌ}: هو كبيض النعام الذي يكنه الريش من الريح وغيره، فهو أبيض إلى الصفرة فكأنه ينزف؛ فذاك المكنون.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: شبهن بالبياض الذي يكون بين القشر وبين اللحا وهو أبيض شيء يكون، واللّه أعلم بذلك، لكن فيه وصفهن بالجمال والبهاء والحب لأزواجهن.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: البيض المكنون: هو المصون، هو وصفهن بالصون والصيانة؛ كقوله: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ}، واللّه أعلم.

٥٠-٥٢

وقوله: (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (٥٠) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢). . .) إلى آخر ما ذكر: في بعض القصة: أن رجلين شريكين كان لهما ثمانون ألف دينار، وذكر أنهما كانا أخوين ورثا ثمانين ألف دينار فاقتسما - وذكر أربعون ألف درهم - فعمد أحدهما إلى ماله فاشترى به قصورًا وبستانًا وفرشًا وجواري ونساء، فأنفقه في أمر الدنيا، وعمد الآخر إلى ماله فأنفقه في طاعة اللّه، وطلب مرضاته، وطلب [بعمده] الحياة الدائمة في الآخرة، وهذا مؤمن والآخر كافر طاغ، ثم أصاب الذي أنفقه في طاعة اللّه وطلب مرضاته حاجة شديدة، فقال: لو أتيت صاحبي هذا لعله أن ينال منه بمعروف، فأتاه فسأله، فأبى أن يعطيه شيئًا، وقال له: ما شأنك وما فعلت بمالك؟ فأخبره بما فعله به، فقال له:

٥٣

أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) أي: محاسبون، فرجع فقضى لهما أن توفيا فنزلت فيهما: (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (٥٠) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ) وهو المؤمن حين أدخله اللّه الجنة {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ. يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} بالبعث بعد الموت {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ}، أي: لمحاسبون

٥٤

(قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) كأنه قال لأصحابه: هل أنتم مطلعون في النار لننظر ما حاله؟ ثم أخبر أنه اطلع

٥٥

(فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (٥٥) ذكر اطلاعه، ولم يذكر اطلاع أصحابه؛ فجائز أن يكون أخبر عن اطلاع كل واحد منهم في نفسه: أنه اطلع {فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ}، أي: وسط الجحيم، وإن كانوا جميعًا مطلعين إليه فيها؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ}، و {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}، وإن كان خاطب إنسانًا فإنما خاطب به كل إنسان في نفسه؛ فعلى ذلك جائز أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} إنما أخبر عن اطلاع كل منهم - واللّه أعلم - وكانوا جميعًا مطلعين.

ثم في الآية شيئان عجيبان:

أحدهما: ما ذكر من اطلاع أهل الجنة على أهل النار أنها تكون قريبة من الجنة حتى ينظر بعضهم إلى بعضٍ فيرون.

أو تكون بعيدة منها، إلا أن إبصار أهل الجنة يكون أبعد وأبصر مما يكون في الدنيا، فجائز أن يجعل اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - أبصار أهل الآخرة أبصر وأحدّ؛ حتى لا يحجبه ولا يمنعه بعد المسافة والمكان عن النظر والرؤية، واللّه أعلم.

والثاني: أن كيف يعرفه في النار مما يحرقه ويفني وجهه ولونه وجميع أعلامه وسيماه، لكن جائز أن يكون اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - يعرفه بأعلام تجعل له؛ فيعرفه بتلك الأعلام، وذلك على اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - يسيرٌ هَيِّنٌ.

وأهل التأويل يقولون: يجعل اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - لأهل الجنة كوى منها إذا أرادوا أن ينظر أحدهم إلى مَن في النار، فتح اللّه له كوة ينظر إلى من شاء من مقعده إلى النار، فيزداد بذلك شكرا، وهو قوله: {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ}، أي: في وسط الجحيم؛ كقوله: - عَزَّ وَجَلَّ -: {سَوَاءَ السَّبِيلِ}، أي: وسطه.

٥٦

فقال: (تَاللّه إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) أي: هممت لتغوين، وكذلك في حرف ابن مسعود: مكان {لَتُرْدِينِ}: {لتُغْوِيَن}.

وقال الكسائي: تاللّه، وباللّه، وواللّه، واللّه - بغير واو - لغات.

يخبر أن باللّه يكون على الأسف مرجعهما إلى سفاهٍ يقول: لولا أن اللّه أنعم على الهدى، ولولا أن اللّه رحمني فهداني؛ المعنى واحد. يقول له: اترك دينك واتبعني،

وقال: {لَتُرْدِينِ} أي: لتهلكني، يقال: رديت فلانًا، أي: أهلكته، والردى: الموت

والهلاك؛ وهو قول أبي عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ.

وقوله: {لَمَدِينُونَ}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: لمحاسبون.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: لمجزيون، والدِّين: الجزاء.

وقال: {بَيْضٌ مَكْنُونٌ}: مستور، لا يصيبه غبار ولا وسخ.

وقوله: {إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} أي: هممت، وأردت أن تهلكني وتغويني لو أجبتك واتبعتك فيما أدعوتني، إليه وسألتني.

٥٧

ثم أخبر أنه (وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) معه، وهذا على المعتزلة لقولهم: إن عليه هداية كل أحد ما لو منعه عنه كان جائرا في منع ذلك، وهذا الرجل أخبر أنه بنعمته ورحمته اهتدى ما اهتدى، وأنه لو لم يكن منه إليه نعمة، لكان من المحضرين فيها، فهو أعرف بربه من المعتزلة، وكذلك الشيطان وجميع الكفرة أعرف بنعمة ربهم من المعتزلة؛ لأنهم قالوا: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّه مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللّه لَهَدَيْنَاكُمْ}، {لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ}، ومثله كثير في القرآن: أنهم جميعًا رأوا الهداية لهم من اللّه نعمة ورحمة ولم يعط الكفرة ذلك، والمعتزلة يقولون: بل هدى كل كافر ومشرك لكنه لم يهتد، وأهل الجنة قالوا أيضًا: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللّه}، وقالوا: {الْحَمْدُ للّه الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا}، ومثله كثير في القرآن، واللّه أعلم.

٥٨-٥٩

وقوله: (أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩)

يحتمل قوله: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ} على الإيجاب والإلزام، ليس على الاستفهام، وسؤال بعضهم بعضًا: ألا نموت فيها ولا نعذب، وإذ لم نمت ولم نعذب فيها، فإذن كان ذلك فوزا عظيمًا؛ ولذلك ذكر أبو معاذ عن الكسائي: أن هذا استفهام تعيين وفي القرآن كثير مثله،

وقال: قد يكون الاستفهام على التعجيب، ويكون على التعيين، ويكون على الجهالة، ويكون قوله: {إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى} أي: بعد موتتنا الأولى؛ لأنه بعد إذاقتهم الموتة الأولى؛ فإنهم لا يذوقون ثانيًا.

٦١

وقوله: (لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (٦١)

أي: لمثل هذه العاقبة التي أعطينا نحن وظفرنا بها، فليعمل العاملون، لا لمثل ما فيه صاحبه الذي في النار.

٦٢

ثم قال: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ}.

يحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا} من النزل والمقام، أي: المقام الذي نزلنا فيه نحن خير أم شجرة الزقوم.

ويحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا} أن يكون من الأنزال، أي: ما لنا من النعم العظام والمأكل والمشرب خير أم شجرة الزقوم؟

قَالَ بَعْضُهُمْ - أعني: بعض الكفار - عندما خوفوا بها: هل تدرون ما الزقوم؟ هو التمر والزبد، فقالوا: هذا الذي يخوفنا به مُحَمَّد.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن محمدًا يدعي أن تكون الشجرة في النار، والنار من طبعها أن تحرق الشجر وتأكله، فكيف يكون في النار الشجرة؟! تكذيبًا منهم وإنكارًا لذلك، فأخبرهم اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - عن تلك الشجرة وعن حالها فقال:

٦٤

(إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤)

أخبر أن تلك الشجرة خرجت من أصل الجحيم وأنشئت منها، والشجرة التي أنشئت من النار لا تأكلها النار ولا تحرقها وإنما تأكل غيرها من الأشجار التي لم تنشأ منها، ومثل هذا جائز أن يكون الشيء الذي يكون نشوءه وبدؤه من كل شيء ألا يهلكه كونه في ذلك؛ كالسمك الذي يكون أصل نشوئه في الماء، لا يهلكه الماء وكذلك جميع دواب البحر وإن كان غيرها من الدواب في البرية يهلك فيه ويتلف؛ فعلى ذلك الشجرة المنشأة منها لا تهلكها النار ولا تحرقها، وإن كان غيرها من الأشجار تأكلها وتحرقها، واللّه أعلم.

والجحيم: قيل: هو معظم النار وغلظها، يقال: أجحمت النار، أي: أعظمتها، يقال: نار جحيمة، أي: عظيمة.

٦٥

وقوله: (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (٦٥)

اختلف فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: إن نوعًا من الحيَّات يسمين: شياطين، لها رءوس سود قباح، لها عرف كعرف الفرس، وأشبه، طلع تلك الشجرة وثمرتها لقبحها وسوادها برءوس من تلك الحيات، واللّه أعلم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو نوع من النبات بالبادية يستقبحه الناس أشد الاستقباح، شبه طلع تلك الشجرة وثمرتها بذلك النبات.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن جبالا بمكة سود قباح يستقبحها أهل مكة سموها: شياطين، شبه ثمار تلك الشجرة وطلعها برءوس تلك الجبال، واللّه أعلم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا ولكن حقيقة رءوس الشياطين؛ لأن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - جعل للشياطين في قلوب أُولَئِكَ الكفرة فضل بغض وقبح والنفار منها وإن لم يروها ولم يعاينوها، فشبه طلع تلك الشجرة برءوس الشياطين؛ لفضل إنكارهم وبغضهم إياها حقيقة، وفي ذلك آية عظيمة لرسالته - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنهم لم يروا الشياطين ببصرهم ولا عرفوهم معاينة، وإنَّمَا عرفوهم بأخبار الرسل - عليهم الصلاة والسلام - وبها استنكروها واستقبحوها وهم قوم لا يؤمنون بالرسل - عليهم السلام - فإذا قبلوا أخبار رسل اللّه فيهم، لزمهم أن يقبلوا قولهم في الرسالة وفي جميع ما أخبروا، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ}:

يحتمل قوله: {فِتْنَةً}، يعني به: الشجرة التي أنشئت من أصل الجحيم، وهي شجرة الزقوم أجعلها، عذابًا للظالمين، يعني به: الشجرة؛ كقوله: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ}، أي: يعذبون، {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} أي: عذابكم، {هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ}.

ويحتمل قوله: {جَعَلْنَاهَا}، أي: تلك الشجرة: الزقوم، {فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} في الدنيا وجهة القصة بها لهم: هو إنكارهم إياها من الجهة التي ذكروا: أن النار تحرق وتأكل

الشجر، فكيف يكون فيها شجر؟! إنكارًا لها وتكذيبًا بها.

والثاني: ما ذكر بعضهم: أن الزقوم هو الزبد والتمر، صار ذلك فتنة لهم؛ لما ذكرنا وسببًا لعذابهم، واللّه أعلم.

٦٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا ... (٦٦)

أي: من الشجرة الزقوم، ذكر أنها تخرج من أصل الجحيم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ}.

جائز أن يشدد اللّه عليهم الجوع حتى يأكلوا منها فيملئون بطونهم منها؛ كقوله - عز وجل -: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ}، وهي الإبل التي تملأ بطونها من المسايم، لا يغني ذلك الشرب وهو الحميم، ولا يدفع عنهم العطش الذي يكون بهم؛ فعلى ذلك ما جعل طعامهم من تلك الشجرة؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ. طَعَامُ الْأَثِيمِ. . .} الآية، إنهم وإن ملئوا بطونهم فإن ذلك لا يدفع عنهم الجوع؛ كقوله: {لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ}، واللّه أعلم.

٦٧

(ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا ... (٦٧)

وفي حرف عبد اللّه بن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: (ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم).

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ}.

أي: ثم إن لهم على تلك الشجرة التي جعل طعامهم منها خلطًا من حميم.

٦٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨)

أي: ثم إن مردهم، أي: ثم إنهم يردون إلى الجحيم لا أنهم يرجعون بأنفسهم، ولكن يردون فيها؛ كقوله: {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ}، هم لا يدخلون فيها ولكن يدفعون فيها؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا}، والجحيم: هو معظم النار على ما ذكرنا، يقال: نار جاحمة، أي: عظيمة.

٦٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (٦٩)

أي: وجدوا آباءهم ضالين.

٧٠

(فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠)

فيه أن ما ذكر من العذاب للأتباع منهم لا للمتبوعين، ولم يذكر عذاب المتبوعين في الآية حيث قال: (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ).

قَالَ بَعْضُهُمْ: يسرعون وهو شبه الهرولة، والإهراع: هو الإسراع؛ وهو قول الْقُتَبِيّ وأبي عَوْسَجَةَ.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {يُهْرَعُونَ} أي: يسعون؛ وهما واحد.

٧١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١)

يقول - واللّه أعلم -: ولقد ضل قبل قومك يا مُحَمَّد من الأولين أكثرهم من الأمم الخالية من لدن آدم فهلم جزا إلى مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعلى آدم ومن بينهما من النبيين.

٧٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢)

أي: لقد أرسلنا في الذين ضلوا قبل قومك منذرين ينذرونهم، ما من قوم إلا بعث إليهم نذير كما أرسلناك إلى قومك.

٧٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣)

يقول - واللّه أعلم -: انظر كيف صنعنا بمن أنذرنا بالعاقبة فلم يؤمن ولم يقبل ولم ينفعه النذارة.

٧٤

(إِلَّا عِبَادَ اللّه الْمُخْلَصِينَ (٧٤)

استثنى المخلصين منهم، وهم الذين نفعتهم النذارة وقبلوها؛ فنجوا مما ذكر من عذابهم، واللّه أعلم.

ويحتمل: أنه سماهم المخلصين؛ لما اصطفاهم اللّه وأخلصهم لعبادته.

٧٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ. . .} الآية.

قَالَ بَعْضُهُمْ: حين دعا ربه فقال - عليه السلام -: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ}، فكأنه إنما دعا ربه بالهلاك على قومه، فأجاب اللّه دعاءه، وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ. . .}، إلى آخر ما ذكر.

ثمة أمران الرسل - عليهم السلام - هم مخصوصون بهما من بين غيرهم من الناس:

 أحدهما: أن ليس لهم الدعاء على قومهم بالهلاك وسؤال العذاب عليهم إلا بعد مجيء الإذن لهم من اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - بالدعاء عليهم، فنوح - عليه السلام - إنما دعا ربه بإنزال الهلاك عليهم بالإذن من ربه.

والثاني: لم يكن لهم الخروج من بين أظهرهم عند نزول العذاب بهم إلا بإذن من اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - على ذلك؛ ولذلك جاء العتاب ليونس - عليه السلام - والتعيير لما خرج من بينهم عند نزول العذاب بلا إذن كان من ربه حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ. . .} الآية، هما خصلتان لهم خاصة صلوات اللّه عليهم، وأما لغيرهم من أهل الدِّين فلهم أن يدعوا على الفجرة والفسقة منهم باللعن والهلاك، فلهم أن يفروا منهم، وأن يخرجوا من بين أظهرهم؛ لفسقهم وفجورهم، وكان هذا يعد من صالح الأعمال لهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ}.

وهو الرب - تبارك وتعالى - ذكر المجيب على الجماعة: إنا نفعل كذا، وفعلنا كذا، وهو كلام الملوك فيما بينهم، ثم كل فعل يضاف إلى اللّه - تعالى - يشاركه فيه غيره أو ينسب يزاد فيه شيء يكون فاصلا، وذلك يينه وبين فعل غيره؛ نحو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ - في موضع آخر: {وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ}، ونحو قوله: {عَالِم}، لا كالعلماء ونحوه مما يكثر ذلك؛ لأنه قادر على وفاء ما وعد وأخبر وإنجاز ذلك لا يعجزه شيء، وغيره من الخلائق لعلهم لا يقدرون على وفاء ذلك والقيام بإنجاز ما وعدوا؛ لذلك كان ما ذكر، واللّه أعلم.

٧٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦)

يحتمل نجاته من الكرب العظيم هو دعاؤه قومه إلى توحيد اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - تسعمائة وخمسين سنة، وما قاساه منهم من أنواع الأذى من التكذيب وغيره، فأنجاه اللّه من كرب ذلك حين أهلكهم.

ويحتمل: {مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} هو القول الشديد وهو الغرق، أغرق قومه وأنجاه منه، سماه: عظيمًا؛ لشدة ما أصابهم.

٧٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (٧٧)

أي: جعلنا ذرية نوح - عليه السلام - من بين سائر ولد آدم وذريتهم هم الباقين، وأهلكنا غيرهم؛ ولذلك كان بقاء نسله إلى يومنا هذا وهلك نسل غيره، واللّه أعلم.

٧٨

وقوله: (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨)

يشبه أن يكون ما ذكر أنه ترك في الآخرين ما ذكر على أثره من السلام حيث قال - عز وجل -:

٧٩

(سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (٧٩) أي: أبقينا عليه الثناء الحسن في الآخرين حتى يثنوا عليه جميعًا ويصدقوه ويقولوا فيه خيرًا وحسنًا، واللّه أعلم.

ويحتمل ما

قَالَ بَعْضُهُمْ: سلام اللّه على نوح في العالمين، وسلم إليه جميع العالمين في جميع الأوقات، كما سلم عيسى على نفسه حيث قال: {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا}، وما سلم على يحيى - عليه السلام - حيث قال: {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا}، ذكر السلام عليهما في أوقات ثلاثة وفي نوح في الأوقات كلها، واللّه أعلم.

٨٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠)

أي: إنا هكذا نجزي كل محسن، فجزاه اللّه بإحسانه إلينا الحسن في العالمين، رغب الناس في الإحسان: إما إلى الخلق، وإما إلى أنفسهم، واللّه أعلم.

٨١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١)

وليس في ذكره أنه من المؤمنين كثير منفعة له وهو من أولي العزم من الرسل، لكن يحتمل ذكره إياه أنه من المؤمنين وجوهًا:

أحدها: أنه من عبادنا المؤمنين قبل الرسالة وقبل أن يبعث رسولا، أي: لم يصر مؤمنًا وقت الرسالة، ولكن كان لم يزل مؤمنًا قبل الرسالة.

والثاني: أنه من عبادنا المؤمنين بك يا مُحَمَّد؛ يذكر هذا ليسر به - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويفرح عليه، والرسل - عليهم السلام - جميعًا يؤمن بعضهم ببعض.

والثالث: أنه كان من عبادنا المؤمنين المحققين الموفين، أي: وفاء ما اعتقد بلسانه، وهكذا كان الرسل كلهم موفين ما اعتقدوا وأعطوا بلسانهم، وهكذا يعتقد كل مؤمن في أصل إيمانه واعتقاده ألا يعصي ربه، وألا يخالفه في شيء من أموره ونواهيه، لكنه لا يفي ما اعتقده فعلا بل يقع - ربما - في معاصيه وفي مخالفة أمره ونهيه، واللّه أعلم.

٨٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (٨٣)

أي: إبراهيم - عليه السلام - من شيعة نبينا مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول على دينه ومنهاجه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: من شيعة نوح، أي: إبراهيم من شيعة نوح - عليهما السلام - على ما تقدم ذكر نوح - عليه الصلاة والسلام - حيث قال: {نَادَانَا نُوحٌ. . .} إلى آخر ذلك أن إبراهيم من شيعته على دينه ومنهاجه.

٨٤

وقيل: لذكرها (إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) عن جميع ما يمنعه من الإجابة لربه فيما دعاه، والصبر على ما امتحنه وابتلاه، واللّه أعلم.

وعلى ذلك سماه اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - في كتابه الكريم: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى}، جميع ما أمر به وامتحن به، واللّه أعلم.

وجائز أن يكون ذلك في الآخرة يقول: {جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}، أخبر أنه في الآخرة يكون من الصالحين وذلك سلامة قلبه، واللّه أعلم.

٨٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللّه) قد اختلف سؤال إبراهيم - صلوات اللّه عليه - بقوله مرة: قال لهم {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}، ومرة قال: {مَاذَا تَعْبُدُونَ}، ثم ذكر في غير هذا الموضع إجابتهم إياه حيث قالوا: {نَعْبُدُ أَصْنَامًا}، وما قالوا: {وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ}، ولم يذكر هاهنا شيئًا قالوه له، ثم معلوم أنه لا بهذا اللسان أجابوه بما أجابوه، ثم ذكره على اختلاف الألفاظ والحروف ليعلم أن تغيير الحروف والألفاظ لا يغير المعنى، وكذلك جميع القصص التي ذكرت في الفرآن يذكرها مكررة معادة مختلفة الألفاظ والحروف والقصة واحدة؛ ليدل أن المأخوذ والمقصود من الكلام معناه لا لفظه وحروفه، واللّه أعلم.

٨٦

ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللّه تُرِيدُونَ (٨٦)

يقول - واللّه أعلم -: إفكا أي: كذبًا تمسككم بالأصنام التي تعبدونها من دونه، يقول: كذبًا ذلك، ليست بآلهة دون اللّه وعبادته.

أو يقول: إفكا، أي: كذبًا الآلهة التي اتخذتموها آلهة دون اللّه، يريدون أن

يتخذوا آلهة وهو قريب من الأول، واللّه أعلم.

٨٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٨٧)

يقول - واللّه أعلم -: فما ظنكم برب العالمين أن يفعل بكم إذا اتخذتم دونه آلهة، وصرفتم العبادة والشكر عنه إلى من دونه، وقد تعلمون أنه هو المنعم عليكم هذه النعم، وهو أسدى إليكم هذا الإحسان وهو تعالى أداها إليكم.

أو يقول: فما ظنكم برب العالمين أنه يرحمكم ويفعل بكم خيرًا في الآخرة بعد تسميتكم الأصنام: آلهة، وعبادتكم إياها دون اللّه، بعد علمكم: أنه هو خالقكم، وهو سخر لكم جميع ما في الدنيا وهو أنشأها لكم، فما تظنون به أن يفعل بكم: أن يرحمكم ويسوق إليكم خيرًا؟! أي: لا تظنوا به ذلك، ولكن ظنوا جزاء صنيعكم.

٨٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨)

أي: سأسقم، وذلك جائز في اللغة؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} للحال؛

٨٩

فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩)

فعلى ذلك قول إبراهيم - عليه السلام -: {إِنِّي سَقِيمٌ} أي: سأسقم.

أو يقول: {إِنِّي سَقِيمٌ} وهو صادق؛ إذ ليس من الخلق أحد إلا وبه سقم ومرض وإن قل، فعلى ذلك قول إبراهيم، عليه السلام.

وقول من قال: إن إبراهيم - عليه السلام - كذب ثلاثًا: أحدها: هذا {إِنِّي سَقِيمٌ} فذلك [وخش من القول سمج]، لا جائز أن ينسب الكذب إلى رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وهو من أنبيائه لا يقع قط في وجه من الوجوه، ويذكر أهل التأويل أن قومه أرادوا أن يخرجوا بإبراهيم إلى عيدهم، فنظر إبراهيم نظرة في النجوم فقال: {إِنِّي سَقِيمٌ} ليخلفوه ويتركوه؛ ليكسر أصنامهم التي يعبدونها على ما فعل من الكسر والنحت، ويذكرون أنه إنما نظر في النجوم؛ لأن قومه كانوا يعملون بالنجوم ويستعملونها وعلم النجوم، فإن كان ذلك، فهو - واللّه أعلم - أراد أن يرى من نفسه الموافقة لهم ليلزمهم الحجة عند ذلك وهو ما ذكر في قوله: {هَذَا رَبِّي}، و {هَذَا أَكْبَرُ}، ونحوه، قال ذلك على إظهار الموافقة لهم من نفسه؛ ليكون إلزام الحجة عليهم والصرف عما هم عليه أهون وأيسر؛ إذ هكذا الأمر بالمعروف في الخلق أن من أراد أن يصرف آخر عن مذهب أو دين أنه إذا أظهر من نفسه الموافقة له كان ذلك أهون عليه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَرَاغَ}، عليهم ضربًا باليمين أي: ضربهم ضربًا باليمين.

٩١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (٩١)

أي: فراغ إلى ما اتخذوا هم، وسموها آلهة، ذكرها على ما عندهم وعلى ما اتخذوها هم وإلا لم يكونوا آلهة، وكذلك قول موسى: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} أي: انظر إلى إلهك الذي هو عندك، وإلا لم يكن هو إلهًا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ}.

كأن طعامًا كان موضوعًا بين يديها؛ لذلك قال: ألا تأكلون؟!

٩٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (٩٢)

بحوائجكم، أو يشبه أن يكون قوله: {مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ}: أنه من فعل بها ما فعل؛ كقوله: (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (٦٢) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ)، عمن فعل بهم هذا، سفه قومه في عبادتهم الأصنام، وهي لا تأكل ولا تنطق ولا تملك دفع من قصد بها ضررا، فكيف تطمعون شفاعتها لكم في الآخرة وهي لا تملك ما ذكر؟! واللّه أعلم؛ وهو كقوله: (قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ).

٩٣

وقوله: (فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (٩٣) أي: مال ورجع عليهم.

وقوله: {ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} اختلف فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: ضربًا مألوفًا ليمينه التي كانت منه حيث قال: {وَتَاللّه لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ}، واللّه أعلم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} بالقوة، وقد يعبر باليمين عن القوة كما يعبر باليد عن القوة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {ضَرْبًا بِالْيَمِينِ}، أي: بيده اليمنى نفسها، على ما يعمل المرء أكثر أعماله باليمين.

٩٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤)

ظاهر هذا أنهم أقبلوا إليه وقت ما كسرها وفعل بها ما فعل، لكن في آية أخرى ما يدل أن إقبالهم إليه كان بعد ما خرج من عندها وغاب وكان بعد ذلك بزمان؛ ألا ترى أنهم قالوا: (مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ) الآية، ولو كانوا أقبلوا إليه مزفين وهو عندها حاضر لم

يحتاجوا إلى أن يقولوا: {مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا}، بل يقولون: إن إبراهيم فعل ذلك بها، ولا كان لقول إبراهيم: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ}، معنى، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَزِفُّونَ}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: يمشون إليه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: يسرعون؛ وهو قول أبي عَوْسَجَةَ. وأصل التزفيف: كأنه المشي فيه سرعة، على ما يسرع المرء في المشي إذا أصابه شيء أو فعل به أمر، واللّه أعلم.

٩٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (٩٥)

يسفههم بعبادتهم ما ينحتون بأيديهم ويتخذونها بأنفسهم، على علم منهم أنها لا تملك نفعًا ولا ضرًّا، والذي نحتها أولى بالعبادة له أي: أولى بأن يعبد - إن كان يجوز العبادة لمن دونه - من ذلك المنحوت؛ إذ هو يملك شيئًا من النفع والضر والمنحوت لا، فإذا لم تعبدوا الناحت لها والمتخذ وهو أقرب وأنفع، فكيف تعبدون ذلك المنحوت الذي لا يملك شيئا وتركتم عبادة الذي خلقكم وخلق أعمالكم؟!

ثم من أصحابنا من احتج على المعتزلة بهذه الآية في خلق أفعال العباد؛ يقولون: أخبر - عليه السلام - عن خلق أنفسهم وعن خلق أعمالهم حيث

٩٦

قال: (وَاللّه خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (٩٦) لكنهم يقولون: ليس فيه دلالة خلق أفعالهم؛ ألا ترى أنه قال عليه السلام: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} وهم لا يعبدون النحت إنما يعبدون ذلك المنحوت؛ فعلى ذلك لم يخلق أفعالهم وأعمالهم، ولكن خلق ذلك المعمول نفسه، وانله أعلم.

لكن الاحتجاج عليهم من وجه آخر في ذلك كأنه أقرب وأولى وهو أن صير ذلك المعمول خلقا للّه تعالى بقوله: {خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}؛ لأنهم إنما يعبدون ذلك المعمول وهو، مخلوق للّه دل أن عملهم الذي عملوا به مخلوق؛ لذلك قلنا: إن فيه دلالة خلق أعمالهم، واللّه أعلم ووهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ اللّه يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} إنما صار التواب والمتطهر محبوبًا لحبه التوبة والتطهر، وصار المعتدي غير محبوب لبغضه الاعتداء، فعلى ذلك المعمول صار مخلوقًا بخلقه عمله، واللّه أعلم.

٩٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧)

كأنه قَالَ بَعْضُهُمْ لبعض: ابنوا له بنيانا ليجمع فيه الحطب فتعظم فيه النار فيصير جحيمًا، ثم ألقوا إبراهيم في الجحيم، والجحيم قد ذكرنا أنه معظم النار.

٩٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨)

أي: هالكين، يقولون: ما تأخر اللّه بعد ذلك حتى أهلكهم.

ويشبه أن يكون ما ذكرنا واللّه أعلم، فإذا أرادوا إهلاك إبراهيم - عليه السلام - فصاروا من الهالكين، واللّه أعلم.

٩٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: ذاهب إلى ربي بقلبي وعملي ونيتي وذلك في الآخرة.

ويحتمل: ذاهب إلى ما أمرني ربي، أو إلى ما أذن لي، أي: وقد أمر بالهجرة إلى الأم من مكة.

أو ذاهب إلى ما فيه رضاء ربي، أو طاعة ربي ونحو ذلك، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {سَيَهْدِينِ}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: سينجيني مما رأيت من قومي.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: سيهديني الطريق، وذلك جائز نحو قول موسى - عليه السلام -: {قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ}، لما توجه إلى مدين؛ فعلى ذلك جائز قول إبراهيم: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} أي: ذاهب إلى أمر ربي، أي: متوجه إلى ما أمر ني ربي أن أتوجه سيهديني ذلك الطريق، واللّه أعلم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: سيهديني لدينه وذلك أول ما هاجر من الخلق، أي: ليعلم دينه، وقد ذكر في حرف حفصة: (إني مهاجر إلى ربي سيهدين)، واللّه أعلم.

١٠٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠)

كأنه قال: رب هب لي غلامًا واجعله من الصالحين، دليل ذلك ما ذكر له من البشارة بالغلام، فدلت البشارة له بالغلام على أثر ذلك على أن سؤاله كان سؤال الغلام.

ثم فيه دليل جواز سؤال الولد الذكر ربَّه، لكنه يسأله بشرط الصلاح والطيب كما سأل الأنبياء وسأله إبراهيم - عليه السلام: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ}، وقال زكريا - عليه السلام -: {هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً}، وما ذكر وحكي عنهمِ مدحًا لهم وثناء عليهم حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}، يجب على من يسأل ربه الولد أن يسأله على هذه الشرائط التي سالته الأنبياء - عليهم السلام - فيكون سؤالهم الولد على ذلك سؤالا للّه - عَزَّ وَجَلَّ - وما يصلح لقيامه لأمره وعبادته، فأما أن يسأله إياه لذة لنفسه وسرورًا له في الدنيا فلا.

ثم يحتمل قوله: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ. . .}، إلى آخر ما ذكر وجهين:

أحدهما: أي: هب لنا من أزواجنا وذريتنا ما تقر به أعيننا.

أو هب لنا من أزواجنا من الولد والذرية ما تقر به أعيننا على ما سأل زكريا - عليه السلام - حيث قال: {ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً}.

ثم فيه دلالة أن الولد هبة اللّه لهم وعطاء لهم؛ ولذلك قال: {ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً}، {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ}، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم - واللّه أعلم - نعني: ما صار الولد هبة من اللّه.

١٠١

وقوله: (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (١٠١)

يصير حليمًا إذا بلغ مبلغ الامتحان بالأعمال والأمر والنهي، أي: بشرناه بغلام حليم يحلم فيما امتحن إذا بلغ مبلغًا يمتحن فيه، قال قتادة: " إن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - لم يذكر أحدا ولا وصفه بالحلم سوى إبراهيم وولده الذي بشر به "، واللّه أعلم.

١٠٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ... (١٠٢)

أي: بلغ بحيث يقدر أن يسعى معه إلى حيث أمر هو أن يسعى ويمشي معه وهي

الهجرة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ}، أي: بلغ بحيث يعمل ويمتحن عندنا.

قال له: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى}.

وترى بالنصب والرفع جميعًا - فيه دلالة أن رؤيا الأنبياء والرسل - عليهم السلام - على حق تخرج كالأمر المصرح؛ ألا ترى أنه لما قال له: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}، وقد عرف حرمة ذبع بني آدم وقتلهم قال له ولده: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} ولو لم يكن أمرًا لم يقل: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ}، ولا قال له إبراهيم: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}، وقد عرف حرمة ذبح بني آدم وقتلهم الذي لا يسع الإقدام عليه، واللّه أعلم.

ثم في قوله لأبيه: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللّه مِنَ الصَّابِرِينَ} دلالة أن لا كل مأمور بأمر من اللّه شاء اللّه أن يفعل ما أمره؛ حيث أخبر أنه سيجده من الصابرين إن شاء اللّه، وقد ذكرنا أن إبراهيم - عليه السلام - كان مأمورًا بالذبح، فإذا أمر هو بالذبح أمر هذا أن يصبر على الذبح ولا يجزع، ثم أخبر أنه يصبر إن شاء اللّه دل أن لا كل مأمور للّه بأمر شاء منه أن يفعل ذلك، ولكن شاء أن يفعل ذلك ممن علم منه أنه يختار ذلك الفعل ويفعله، ومن علم منه أنه لا يفعل ذلك لا يجوز أن يشاء منه ذلك الفعل؛ وكذلك قول موسى - عليه السلام -: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللّه صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}، وهذا على المعتزلة لقولهم: إن اللّه تعالى إذا أمر أحدا بأمر شاء أن يفعل ما أمره به، لكنه تركه لما لم يشأ هو، واللّه أعلم. وقد بينا فساد قولهم في غير موضع، واللّه أعلم.

١٠٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣)

يحتمل قوله: {أَسْلَمَا} أي: استسلما لأمر اللّه فيما أمرهما: هذا بالذبح، وهذا بالبذل والطاعة في ذلك.

أو أسلم هذا ابنه وهذا نفسه للّه - عَزَّ وَجَلَّ - وأصله: أسلما أنفسهما لأمر اللّه وإطاعته في ذلك.

وقوله: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ}، أي: صرعه، وكبه على وجهه، فيه أنه لم يضجعه كما يضجع المرء ما يريد أن يذبحه من الشياه وغيرها، ولكنه أضجعه على وجهه، فهو - واللّه أعلم - لما أراد أن ينفذ أمر اللّه ويقدر على أداء ما أمر به، فلعله لو أضجعه على ما يضجع غيره من الذبح نظر كل واحد منهما إلى وجه الآخر، فيرحمه هذا بترك ذبحه وهذا ينظر في

وجهه في جزع ويترك طاعته.

أو على ما قال أهل التأويل: إن ولده قال لإبراهيم - عليه السلام -: كذا، ففعل ما ذكر، واللّه أعلم.

١٠٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ... (١٠٥) يجوز أن يحتج بهذه الآية على المعتزلة لقولهم: إن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - إذا أمر أحدًا بأمر يجوز ذلك الفعل منه وأراد أن يفعل ما أمره به، ونحن نقول: يجوز أن يريد غير الذي أمره به، يريد أن يكون ما علم أنه يكون منه ويختاره حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَا إِبْرَاهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا}، ولم يكن منه حقيقة ذبح الولد وقد أمره بذبحه، فلو كان في الأمر إرادة كون ما أمره به، لكان لا يصدقه في الوفاء بالرؤيا، ولم يكن ذلك منه حقيقة.

لكنهم يقولون: إن الأمر بالذبح لم يكن إلا ما كان منه من ذبح الكبش من ذلك أراد فكان ما أراد، ومذاهبهم الاحتيال لدفع ما ذكرنا.

لكن نقول: إن الأمر بالذبح إنما كان بذبح الولد حقيقة لا بذبح الكبش؛ دليله وجوه: أحدها: قول إبراهيم حيث قال: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}، وقول ولده - عليهما السلام -: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ}، لو لم يجعل الأمر من اللّه له بالذبح أمرًا بالذبح على ذبح الولد حقيقة لكان يجهلهما في قولهما: أمر اللّه، وفي تسميتهما ما سميا، ولم يجهلهما في ذلك، فدل أن الأمر كان على حقيقة ذبح الولد لا على ذبح الكبش على ما يقولون، واللّه أعلم.

والثاني: أن إبراهيم وولده - عليهما السلام - قد مدحا وأثنى عليهما بالصنيع الذي صنعا: هذا بإضجاعه إياه للذبح، وهذا لبذله نفسه له والطاعة له في ذلك، فلو كان الأمر منه لهما لا غير الإضجاع والبذل لذلك لم يكن لهما في ذلك الصنيع فضل مدح ولا فضل ثناء ومنقبة؛ إذ لكل أحد إضجاع الولد لذلك وللآخر البذل له، فإذا مُدحا وأثني عليهما في صنيعهما الذي صنعا وصار لهما منقبة عظيمة إلى يوم القيامة، حتى سمي هذا: ذبيح اللّه، وهذا: فداء اللّه؛ حيث قال اللّه - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}، فلو كان الأمر بالذبح ذبح الكبش لا ذبح الولد لم يكن الكبش فداء منه؛ إذ لا يسمى الفداء إلا بعد إبدال غير عنه وإقامة غير مقامه، دل على ما ذكرنا، واللّه أعلم.

لكنه إذا أضجعه وتله للجبين على ما ذكر صارا ممنوعين عن ذلك الفعل غير تاركين

أمر اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - على ما ذكر في القصة: أن الشفرة قد انقلبت عن وجهها فلم تقطع، فمن أمر بأمر ثم منع عما أمره به وحيل بينه وبين ما أمر به، لم يصر تاركًا للأمر، ولا كان موصوفًا بالترك له، لذلك كان ما ذكر، واللّه أعلم.

ثم يجوز أن يستدل بهذه الآية لمسائل لأصحابنا:

إحداها: في المرأة إذا أسلمت نفسها للزوج وهناك ما يمنع الزوج عن الاستمتاع بها والجماع صارت موفية مسلمة ما على نفسها إلى زوجها، فاستوجبت بذلك كمال الصداق ولزمتها العدة؛ إذ لا تملك سوى ما فعلت وإن لم يجامعها زوجها.

وفيمن عنده أمانة إذا سلمها إلى صاحبها وصيرها بحال يقدر على أخذها وقبضها يصير مسلمًا إليه مؤديًا خارجًا منها موفيا، وإن لم يقبض الآخر ولم تقع في يده.

وفي البائع إذا سلم المبيع إلى المشتري وخلى بينه وبين ذلك يصير مسلمًا إليه خارجًا من ضمان ذلك وعهدته وإن لم يقبضه المشتري، ونحوه من المسائل مما يكثر إحصاؤها؛ إذ ليس في وسعهم إلا ذلك المقدار من الفعل.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا}.

لو كان هذا القول بعد ذبح الكبش، ففيه حجة لقول أصحابنا حيث قال أبو حنيفة - رحمه اللّه -: إن من أوجب على نفسه ذبح ولده يخرج منه بذبح الكبش؛ لما أخبر أنه قد صدق الرؤيا بذبح الكبش؛ فعلى ذلك يصير هذا موجبًا على نفسه ذبح كبش لا غير، واللّه أعلم، وإن كان قوله: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} قبل ذبح الكبش بإضجاعه إياه وإسلامه لذلك، ففيه ما ذكرنا أنه بذل تسليمهما نفسه منزلة إتيان عين ذلك؛ إذ منع عن ذلك لا أنه ترك ذلك.

١٠٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) إن الأمر بذبح الولد الذي أمر به إبراهيم محنة عظيمة.

ويقول بعض أهل التأويل: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ}، أي: النعمة العظيمة، أي: في الفداء الذي فدى لإبراهيم - عليه السلام - نعمة عظيمة.

١٠٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧)

وهو الكبش، قال بعض أهل التأويل: سماه: عظيمًا؛ لأنه كان يرعى في الجنة

أربعين خريفًا.

ويقول بعضهم: كان ذلك الكبش في نفسه عظيمًا، واللّه أعلم.

١٠٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨)

قال أهل التأويل: أي: تركنا عليه في الآخرين الثناء الحسن.

ويجوز أن يكون قوله: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} ذلك السلام الذي ذكر على أثره حيث

١٠٩

 قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (١٠٩) ترك ذلك فينا؛ لنسلم عليه وعلى جميع المرسلين؛ كقوله: (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ)، قد أمرنا أن نثني ونسلم على جميع الأنبياء والمرسلين؛ وكقوله: " اللّهم صلى على مُحَمَّد وعلى آل مُحَمَّد " ويكون سلام الأنبياء - عليهم السلام - بعضهم إلى بعض كما كان بعضهم من شيعة البعض.

أو أن يكون ذلك السلام من اللّه لهم أمنًا من كل خوف وسلامة عن كل خبث.

١١٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠)

أي: كذلك نجزي كل محسن أن يترك له السلام والثناء الحسن في الآخرين، واللّه أعلم.

١١١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) يحتمل هذا وجوهًا:

أحدها: أنه كان من عبادنا المؤمنين قبل أن يُوحى إليه وقبل أن يبعث رسولا.

ويحتمل أنه من عبادنا المؤمنين الذين حققوا الإيمان في قوله وفعله ووفاء ما عليه.

أو أنه كان من عبادنا المؤمنين بمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والأنبياء جميعًا بعضهم يصدق بعضا ويؤمن به، واللّه أعلم.

١١٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢)

كان سال ربه الولد يقول: {هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} فاستجاب اللّه دعاءه وبشره بما ذكر،

ثم أخبر أنه نبي من الصالحين.

يحتمل قوله - تعالى -: {نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ}: نبيا من السلف؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}، أي: نبيا نصيره ونجعله من الأنبياء؛ كقوله - عز وجل -: {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى}.

ويحتمل أن تكون البشارة في الولادة أي: في الولد الذي سأل ربه.

ويحتمل أن بشر له بنبوته، أو بشر لهما بهما بالولادة وبالنبوة جميعًا، واللّه أعلم.

١١٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ ... (١١٣)

البركة هي اسم كل خير لا يزال على الزيادة والنماء.

أو يقول: إن البركة شيء من أعطى كان لا تبعة عليه، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ}.

{مُحْسِنٌ} أي: مؤمن مصدق {وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ}، أي: كافر، وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا}، فقال إبراهيم - عليه السلام -: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}، أخبر أن في ذريته من لا ينال عهده كما ذكر هاهنا: أن في ذريته محسنًا وهو مؤمن وظالم لنفسه مبين، أي: كافر ظاهر مبين.

أو أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مُحْسِنٌ} إلى نفسه، أو محسن إلى الناس، وهو إسحاق، وإن ثبت ما روي أن رجلا سأل فقال: يا رسول اللّه، أي الناس أكرمهم حسبًا؟ قال: " يوسف صديق اللّه ابن يعقوب إسرائيل اللّه ابن إسحاق ذبيح اللّه ابن إبراهيم خليل اللّه " فهو ذاك، وإلا فلا حاجة لنا إلى معرفة ذلك أنه فلان أو فلان؛ إذ لو كان لنا إلى بيان ذلك حاجة لبين وأزال الإشكال واختلاف الناس في ذلك والتكلم فيه فضل وتكلف؛ إذ لا يحتمل أن يكون بالناس حاجة إلى معرفة ذلك وبيانه، ثم لا يبين لهم ولا يعرف ذلك، فدل ترك التنازع لذلك على أن لا حاجة لهم إلى ذلك، واللّه أعلم.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: الذبح: الكبش واسم ما يذبح، والذبح بنصب الذال مصدر ذبحت؛ هذا قول الْقُتَبِيّ.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الذَّبح بالنصب هو الفعل وهما واحد.

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: البلاء المبين: الإحسان المبين العظيم.

١١٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ}.

يحتمل ما ذكر من المنة عليهما الرسالة والنبوة التي أعطاهما، والآيات والحجج التي أعطاهما وخصهما بهما والذي أبقى لهما الذكر والثناء الحسن عليهم في الآخرين؛ لقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ. سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ}، وإنما أوجب عليهم ذكر المنن والنعم التي خصهم بها وفضلهم من بين غيرهم، وأما أن يوجب عليهم ذكر كل ما من عليهم وأنعم عليهم، فذلك ليس في وسع أحد القيام بذكر جميع ما من عليهم وأنعم والشكر لها، وإنَّمَا يجب القيام بذكر ما خصوا بها ظاهرًا وإن كان في الجملة أخذ عليهم أن يروا جعل النعم والمنن من اللّه جل وعز فضلا منه وإنعامًا لا حقا عليه بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} ما خصوا به من الرسالة والنبوة والآيات والحجج التي وقعت لهم الخصوص، فأما في كل ما من عليهم وأنعم فلا على ما ذكرنا: أن ليس في وسع أحد القيام بشكر أحد نعمه في عمره وإن طال، واللّه أعلم.

١١٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥)

قال عامة أهل التأويل: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ}، أي: من الغرق، ولكن جائز أن يكون {مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} والذي نجاهم منه ما ذكر من قتل الرجال واستحياء النساء، حيث قال: {يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ. . .} الآية، وما استعبدوهم واستخدموهم، أنجاهم اللّه من ذلك الذل وأنواع البلايا والشدائد التي كانت عليهم؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ. . .}، أخبر أنهم كانوا مستضعفين، فأنجاهم اللّه من ذلك كله، وهو الكرب العظيم.

١١٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (١١٦)

يحتمل قوله: {وَنَصَرْنَاهُمْ} بالحجج والآيات التي أعطاهم.

أو {وَنَصَرْنَاهُمْ} حيث أنجاهم وأهلك فرعون والقبط، واللّه أعلم.

١١٧

وقوله: (وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) التوراة.

ثم يحتمل قوله: {الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ} وجهين:

أحدهما: استبان لكل من عقل ونظر أنه من عند اللّه نزل؛ لأن التوراة نزلت ظاهرًا في الألواح ليست كالقرآن لا يعرف أنه من عند اللّه نزل إلا بعد التأمل والنظر؛ لأنه نزل في الأوقات الخالية التي لم يطلع عليه أحد سرا عن ظهر القلب.

والثاني: أنه استبان لكل من نظر فيها ما لهم وما عليهم وما يؤتى وما يتقى.

١١٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨)

يحتمل الصراط الذي من سلكه أفضاه إلى مقصوده، وبلغه إلى الصراط المستقيم؛ لما بالحجج والبراهين قام لا بهوى الأنفس.

١١٩-١٢٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (١٢٠)

هو ما ذكرنا فيما تقدم: أنه أبقى لهما الثناء الحسن في الآخرين، وهو السلام الذي ذكر، واللّه أعلم.

١٢١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١)

أي: إنا كذلك نبقي ونترك لكل محسن الثناء الحسن في الآخرين كما تركنا لهَؤُلَاءِ، وهو المعروف في الناس: أن كل محسن صالح وإن مات فإنه يذكر بالخير بعده ويثنون عليه بالثناء الحسن، واللّه أعلم.

١٢٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢)

يحتمل الوجوه التي ذكرنا فيما تقدم:

من عبادنا المؤمنين قبل الرسالة.

أو من عبادنا المؤمنين بمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

أو من عبادنا المؤمنين الذين حققوا الإيمان قولا وفعلا، والقيام بوفاء ما وجب بعقد الإيمان وعهدته، واللّه أعلم.

١٢٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣)

هذا ينقض على الباطنية مذهبهم؛ لأنهم يقولون: إن الرسل - عليهم السلام - ستة: آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومُحَمَّد - صلوات اللّه عليهم - وما سواهم أئمة، وفي الآية إخبار أن إلياس كان من المرسلين، هذا كله ينقض قولهم ويرد مذهبهم.

١٢٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (١٢٤) عبادة غير اللّه.

أو يقول: {أَلَا تَتَّقُونَ}: ألا تخشون ولا تخافونه في ترككم عبادته واشتغالكم بعبادة غيره.

أو {أَلَا تَتَّقُونَ} نقمة اللّه في مخالفتكم أمره ونهيه، واللّه أعلم.

١٢٥

وقوله - عزَّ وجلَّ -: (أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (١٢٥)

قال بعض أهل التأويل: البعل هاهنا الرب بلسان قومه، وذكر عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنهما -: " أنه سئل عن قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَتَدْعُونَ بَعْلًا} قال: فقال رجل: من يعرف الآثار، فقال أعرابي: بعلها، أي: ربها، فقال ابن عَبَّاسٍ: كفاني الأعرابي جوابها ".

لكن لا يحتمل أن يكون المراد من قوله: {أَتَدْعُونَ بَعْلًا} أي: رَبًّا، إلا أن يكون ذكر أنه بلسان قومه، في قول: {أَتَدْعُونَ بَعْلًا}: رَبًّا تعلمون أنه لا يضر ولا ينفع، وتذرون عبادة من تعلمون أنه يضر وينفع، أو تختارون عبادة من تعلمون أنه لا يملك الضر ولا النفع على عبادة من تعلمون أنه يملك ذلك.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: البعل: السيد هاهنا، وكذلك يقول في قوله: {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا}، أي: سيدي.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: البعل: هو اسم الصنم هاهنا، يقول: أتعبدون صنمًا وتذرون أحسن الخالقين، وأصل البعل: الزوج، كأنه يقول لهم: أتدعون من له أزواج وأشكال، وتذرون عبادة من لا زوج له ولا أشكال، واللّه الموفق.

وقال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: أول هذه يماني وآخرها مضري وهو قوله:

{وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} يسمون كل صانع: خالقًا، والخلق: هو التقدير في اللغة يضاف إلى الخلق على المجاز وإن كان حقيقة التقدير للّه - عَزَّ وَجَلَّ - ذكر على ما عندهم لا على حقيقة الخلق، واللّه أعلم.

ثم يحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ}، أي: أحكم وأتقن؛ على ما ذكر: وهو {أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ}، أي: جعل في كل شيء أثر شهادة وحدانية اللّه وربوبيته.

أو {أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} لما ذكر أنه خلفهم وخلق آباءهم الأولين، وأنه ربهم ورب الخلائق، فقالوا: من أحسن الخالقين؛ فعند ذلك أذكر، ما ذكر ونعته:

١٢٦

(اللّه رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) ثم أخبر عنهم أنهم كذبوه مع ما ذكر لهم، وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -:

١٢٧

(فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) ولم يذكر في ماذا؟ لكن فيه بيان أنهم لمحضرون النار والعذاب؛ لأن أهل اللذات هم المحضرون أنفسهم وأهل العذاب يحضرون كرهًا لا بأنفسهم؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا}، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ}،

وقوله: {وَيَصْلَى سَعِيرًا}، ونحوه، ثم استثنى العباد المخلصين منهما أنهم لا يحضرون النار.

١٢٩-١٣٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (١٣٠)

هو ما ذكرنا أنه أبقى لهم الثناء الحسن ومن أهلك إنما أهلك بتكذيب الرسل وعنادهم، ومن نجا منهم إنما نجا بتصديقهم والإجابة لهم وإياكم وتكذيب مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فينزل بكم كما نزل بأُولَئِكَ.

١٣٣

قوله تعالى: (وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤)

١٣٧

وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧)

أي: على من هلك من مكذبي الرسل بالليل والنهار، فتعلمون أنهم إنما أهلكوا بالتكذيب للرسل.

١٣٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ (١٣٨)

وتعتبرون وتمتنعون عن تكذيبه، واللّه أعلم.

١٣٩

وقوله: (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩)

هذا ينقض على الباطنية قولهم حين قالوا: إن الرسل ليس إلا ستة لا يعدون يونس ولوطا - عليهم السلام - منهم فيخالفون ظاهر الآية، وهو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}، وهم يقولون: ليس من المرسلين، وباللّه العصمة.

١٤٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠)

ذكر هاهنا الإباق، وفي سورة الأنبياء الذهاب، وهو قوله: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا}. فمن الناس من يجعل هذا غير الأول - يعني: إباقه الذي ذكر وذهابه - لكن جائز أن يكون ذكر الإباق وذكر الذهاب وإن كان في رأى العين في ظاهر اللفظ مختلفًا فهما في المعنى واحد، فيكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِذْ أَبَقَ} من قومه بدينه؛ ليسلم له، أو أبق لخوف على نفسه من قومه، أو أبق على ما أوعد قومه من نزول العذاب بهم إذا لم يؤمنوا به، وكان الرسل - صلوات اللّه عليهم - يخرجون من بين أظهر قومهم إذا خافوا نزول العذاب بهم، إلا أن يونس خرج من بينهم قبل أن يأتيه الإذن من اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - بالخروج من بينهم؛ لذلك جاء العتاب له والتعيير، لا لما يقوله عامة أهل التأويل من الخرافات التي يذكرونها وينسبون إليه ما لا يجوز نسبة ذلك إلى أجهل الناس بربه وأخسهم، فضلا أن يجوز نسبة ذلك إلى نبي من أنبيائه ورسول من رسله.

١٤١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١)

ذكر في القصة أنه - عليه السلام - لما أبق إلى سفينة فركبها أراد أن يعبر البحر، فجعلت تكفو وتقف وكادت أن تغرق، فقال القوم بعضهم لبعض: إن فيكم لرجلاً مذنبًا ذنبًا عظيمًا، وكانوا يعرفون ذلك من عادتها من قبل كانت إذا ركبها مذنب تغرق وتتسرب في الماء، فلم يعرفوا من هو ذلك؟ فاستهموا مرارا فساهم يونس في كل مرة، فلما رأى ذلك يونس - عليه السلام - قال لهم: يا قوم ألقوني في البحر حتى لا تغرقوا جميعًا، فأبوا وقالوا: لا نلقي نبيا من أنبياء اللّه في البحر، فألقى هو نفسه فيه، فالتقمه الحوت على ما أخبر اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - حيث قال: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ}.

ثم قوله: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} قال: فكان من المغلوبين في القرعة والاستهام، أي: خرجت القرعة عليه، و {الْمُدْحَضِينَ}: هو الذي لا حجة له فيما يريد، واللّه أعلم.

١٤٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢)

قَالَ بَعْضُهُمْ: {وَهُوَ مُلِيمٌ} أي: [مُذْنِبٌ]. (١) في المطبوع هكذا [عجيب] والتصويب من تفاسير عدة. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

وقَالَ بَعْضُهُمْ: مليم من الملامة، أي: كان يلوم نفسه فيما صنع من الخروج من بينهم بلا إذن من اللّه، واللّه أعلم.

١٤٣-١٤٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤)

يحتمل قوله: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} لربه قبل ذلك ومن المصلين له، وإلا للبث في بطنه إلى ما ذكر؛ ولذلك قيل: من عمل للّه - تعالى - في حال الرخاء، نفعه اللّه بذلك في حال الشدة ويرفعه إذا عثر، واللّه أعلم.

قيل في الحكمة: إن العمل الصالح رفع صاحبه إذا عثر وإذا صرع وجد متكئًا، واللّه أعلم.

ويحتمل {كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ}، أي: صار من المسبحين في بطن الحوت، وهو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ)، واللّه أعلم.

١٤٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥)

العراء: قيل: هي الأرض الصحراء التي لا شجر فيها ولا نبت ولا ركز.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: العراء: الأرض التي لا ظل فيها، والمدحض: المغلوب، ومليم: أي: أتى أمرًا يلام عليه.

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: العراء: هي الأرض التي لا يواري فيها شجر ولا غيره، كأنه من عري الشيء، واللّه أعلم. البعل: الزوج.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَهُوَ سَقِيمٌ}.

ذكر أن الحوت لما نبذه بالعراء لم يكن به شعر ولا جلد ولا ظفر ولا سن سقيم من السقم وهو المرض، أي: مريض لما مسه بطن الحوت، واللّه أعلم.

١٤٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦)

قَالَ بَعْضُهُمْ: هي شجرة الفرع، أنبت عليه ليأكل منها، ويستظل بها.

ْ

وقَالَ بَعْضُهُمْ: كل شجرة تنبسط على وجه الأرض مما يتسع أطرافه إذا مد وأصله واحد، فهو يقطين، من نحو البطيخ والعرجون وغيرهما.

والأشبه أن تكون شجرة القرع؛ لأنها أسرع الأشجار نبتًا وامتدادًا وارتفاعًا في السماء في مدة لطيفة ووقت قريب، والوصول إلى الانتفاع بها أكلا واستظلالا لها ما لا يكون مثل ذلك في مثل تلك المدة من الأشجار، واللّه أعلم. وعلى ذلك روي أنه قيل: يا رسول، إنك لتحب القرع؟ قال: " أجل هي شجرة أخي يونس، وهو تزيد في العقل " فهذا يدل إن ثبت: أنها كانت شجرة القرع، واللّه أعلم.

ثم فيه لطف من اللّه - عَزَّ وَجَلَّ -: حيث أنبت عليه شجرة في وقت لطيف، لا ينبت مثلها إلا بعد مدة غير لطيفة ووقت مديد، وأبقى عليه الضعف وقتا طويلا مما يرتفع ذلك ويزول في وقت يسير في العرف؛ ليذكره ما أنعم عليه ويقوم بشكره، وهو كما ذكر في قصة: صاحب الحمار حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ}، أبقى طعامه وشرابه وحفظه وقتا طويلا غير متغير مما طبعه التغير في وقت يسير وغير ما طبعه البقاء لطفا منه، فعلى ذلك أنبت على يونس شجرة في وقت لطيف مما لا ينبت مثلها إلا في وقت طويل، وأبقى ذلك الضعف الذي كان به والسقم مما سبيله الزوال والارتفاع في وقت يسير لطفًا منه؛ لتذكير ما ذكرنا، واللّه أعلم.

١٤٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧)

هذا يحتمل وجوهًا:

أحدها: ما ذكرنا أن حرف الاستفهام إذا أضيف إلى اللّه فهو على التقدير والإيجاب ليس على حقيقة الاستفهام، فعلى ذلك حرف الشك: أي: مائة ألف بل يزيدون، أو يقول: ويزيدون؛ لما يتعالى عن الشك.

والثاني: قوله: {أَوْ يَزِيدُونَ} حتى يزيدوا؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ}، أي: حتى يسلموا.

أو كأنه وقت ما بعثه إليهم كانوا مائة ألف، ثم ازدادوا بعد ذلك، واللّه أعلم.

والثالث: يزيدون مائة ألف أو يزيدون عند الناس، فمعناه: أن من نظر إليهم لا يظن دون مائة ألف، ولكن يظن مائة ألف وزيادة، واللّه أعلم.

١٤٨

قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (١٤٨)

قيل: آمنوا به فلم يهلكوا، ولكن أخر عنهم إلى وقت موت حتفهم.

وقال - عَزَّ وَجَلَّ - في آية أخرى: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ}، أخبر هاهنا أنه لم ينفع قومًا إيمانهم عند معاينتهم العذاب إلا قوم يونس، وكذلك ذكر - عَزَّ وَجَلَّ - في آية أخرى: أنه لم ينفع الإيمان عند معاينة العذاب حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ - في آية أخرى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا}، ثم [لا يُدرَى] أنه إنما يقبل إيمان قوم يونس؛ لأنهم آمنوا عند خروج يونس - عليه السلام - من بين أظهرهم قبل أن يقبل العذاب عليهم، لما كانوا يعلمون أن الرسول متى ما خرج من بينهم بعد ما أوعدهم بالعذاب أن العذاب ينزل بهم لا محالة، فآمنوا به، وإن لم يعاينوا.

أو أن يكون العذاب قد أقبل عليهم فعاينوه عند معاينتهم فعند ذلك آمنوا.

فإن كان الأول فهو بأنهم إنما آمنوا به عند خروجه منهم فهو مستقيم قبل إيمانهم؛ لأنهم لم يؤمنوا عند معاينتهم العذاب، ولكن إنما آمنوا قبل ذلك.

وإن كان الثاني، فجائز أن يكون قبل إيمانهم ونفعهم إيمانهم وإن عاينوا العذاب؛ لما عرف - جل وعلا - أن إيمانهم كان حقا وهم صادقون في ذلك محققون، لم يكونوا دافعين العذاب عن أنفسهم إلا بإيمان حقيقة، واللّه أعلم.

١٤٩

وقوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ}.

الاستفتاء والسؤال يخرج على أربعة أوجه:

إن كان الاستفتاء والسؤال من عليم خبير لأهل الجهل يكون تقريرًا وتنبيهًا إذا لم يكونوا أهل عناد، وإذا كانوا أهل عناد فهو تسفيه وتوبيخ لهم.

وإذا كان الاستفتاء من جاهل مصدق طالب رشد لعليم خبير، يكون استرشادًا وطلب الصواب.

وإذا كان من معاند مكابر، فهو يخرج على الاستهزاء به والسخرية؛ كقولهم: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ}، إنما قالوا ذلك استهزاء به.

ثم ما ذكر من الاستفتاء لهَؤُلَاءِ إنما يكون تسفيها منه لهم في قولهم: للّه - عَزَّ وَجَلَّ - ولد، والملائكة بنات اللّه سبحانه ونحوه من الفرية العظيمة التي لا فرية أعظم منها ولا

كذب أكبر منه؛ لأن درك الأشياء ومعرفتها إنما يكون في الشاهد بأحد وجوه ثلاثة:

أحدها: المشاهدة.

والثاني: الخبر.

والثالث: الاستدلال بما شاهدوا وعاينوا على ما غاب عنهم.

ثم معلوم عندهم - أي: عند هَؤُلَاءِ - أنهم لم يشاهدوا اللّه حتى عرفوا له الولد، ولا كانوا يؤمنون بالرسل حتى يكون عندهم الخبر بما قالوا ونسبوا إليه من الولد وغيره؛ إذ الخبر إنما يوصل إليه بالرسل، وهم لا يؤمنون بهم، ولا كانوا شاهدوا ما يستدلون على ما قالوا فيه ونسبوا إليه حتى دلهم ذلك على ذلك، فسفههم في قولهم الذي قالوا فيه وما نسبوا إليه، وإنهم كَذَبة في ذلك؛ إذ أسباب العلم بالأشياء ما ذكرنا، ولم يكن لهم شيء من ذلك؛

١٥١-١٥٣

ولذلك قال: (أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللّه وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (١٥٢) وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣)

يقول: أأختار لنفسي ما تأنفون أنتم عنه؟ وتنسبون إليه ما تستنكفون أنتم عنه؟ يسفههم في قولهم ونسبتهم إلى اللّه ما قالوا فيه ونسبوا إليه إلى آخر ما ذكر، واللّه أعلم.

وفيه تصبير رسول اللّه على أذاهم وتركهم الإيمان به والاتباع؛ لأنه علمهم أنه خالقهم ورازقهم وقديم الإحسان إليهم وقالوا فيه ما قالوا.

١٥٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤)

يحتمل قوله: {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}، أي: ما لكم تحكمون بلا حجة ولا علم؟

١٥٥

وقوله: (أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (١٥٥)

أن هذا الحكم جور وظلم عظيم؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى}.

١٥٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (١٥٦)

أي: لكم حجة وبيان على ما تزعمون وتقولون في اللّه سبحانه.

١٥٧

وقوله: (فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٥٧)

أي: ائتوا بكتاب من عند اللّه فيه ما تذكرون من الولد وغيره.

١٥٨

وقوله: (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا ... (١٥٨) قال عامة أهل التأويل: إن الجنة هم الملائكة؛ لقول أُولَئِكَ الكفرة: إن الملائكة بنات اللّه، وما قالوا في قوله: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ}، أي: علمت الجن الذي

وصفوا له بنين إنهم لمحضرون النار وعذاب اللّه، ويحاسبون، على قول مجاهد وغيره، والذين أُولَئِكَ -أعني الأتباع- أنهم ملائكة اللّه، واللّه أعلم.

١٥٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سُبْحَانَ اللّه عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلَّا عِبَادَ اللّه الْمُخْلَصِينَ).

قوله: {سُبْحَانَ اللّه} نزه نفسه عما وصفه الذين تقدم ذكرهم، وتبرأ عن جميع ما قالوا فيه، ثم استثنى عَزَّ وَجَلَّ:

١٦٠

(إِلَّا عِبَادَ اللّه الْمُخْلَصِينَ (١٦٠) فلسنا ندري ما موضع الثنيا هاهنا على أثر ما ذكر من التنزيه لنفسه، يحتمل الاستثناء وجهين:

أحدهما: {سُبْحَانَ اللّه عَمَّا يَصِفُونَ} أُولَئِكَ الكفرة من الولد وغيره إلا عبادنا المخلصين.

والثاني: {سُبْحَانَ اللّه عَمَّا يَصِفُونَ}، أي: من أخلص منهم وآمن فإنه غير بريء مما يصفه؛ لما يجوز أن يسلم منهم نفر فيصفونه بما يليق به؛ لأن المؤمن والمخلص لا يصف ربه إلا بما يليق به، واللّه أعلم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: " إلا عبادنا المخلصين " استثنى من قوله: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} للنار {سُبْحَانَ اللّه عَمَّا يَصِفُونَ. إِلَّا عِبَادَ اللّه الْمُخْلَصِينَ} فإنهم لا يحضرون النار والعذاب على سبق استثناء هَؤُلَاءِ الذين أخلصوا ممن يحضر فيما تقدم - واللّه أعلم - وهو على التقديم والتأخير.

١٦١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (١٦١) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (١٦٢) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (١٦٣)

يقول - واللّه أعلم -: إنكم وما تعبدون لا تملكون أن تفتنوهم وأن تضلوهم، إلا من هو في علم اللّه أنه يختار الضلالة؛ مما يصليه النار، على حق المعونة لهم لا حقيقة الإضلال، وهو ما ذكر - عَزَّ وَجَلَّ - في آية أخرى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}، وما أخبر أنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، إنما سلطانه على الذين يتولونه، واللّه أعلم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ}: إلا من كتب عليه في اللوح: أنه يصلى الجحيم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: إلا من قضي اللّه عليه أنه يصلى النار.

وأصله ما ذكرنا، واللّه أعلم.

وما يعبدون: الجنّ الذين عبدوا الجن، أو الملائكة، ويحتمل الأصنام التي عبدت؛ إذ

قد ينسب إليهن الإضلال؛ لقوله: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ}، واللّه أعلم.

١٦٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (١٦٢) أي ما أنتم بمضلين أحدًا من عبادي بإلهكم هذا الذي تعبدون إلا من تولاكم بعمل أهل النار، وذكر عن عمر بن عبد العزيز وعن الحسن أيضًا أنهما قالا في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (١٦٢)

١٦٣

 إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (١٦٣) يقول: ما أنتم بمضلين بآلهتكم أحدًا إلا من قدر أنه يصلي الجحيم، وهو قريب مما ذكرنا، واللّه أعلم.

١٦٤

(وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤)

يحتمل مكان معلوم محدود لا يبرح عنه ولا يفارق.

ويحتمل {مَقَامٌ مَعْلُومٌ} أي: عبادة معلومة نحو ما ذكر حكيم بن حزام قال: بينما رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولا بما نحن فيه ولكن أمر آخر، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤)

يحتمل هذا منهم -أعني: الملائكة- وجهين:

أحدهما: قالوا ذلك لتبرئة أنفسهم عن أن يأمروا بالعبادة لهم، أي: لم نتفرغ نحن بعبادة هَؤُلَاءِ طرفة عين فكيف نأمر هَؤُلَاءِ بعبادتنا؛ كقولهم: {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ}، أي: نحن في طلب ولايتك فكيف نتفرغ لذلك، أو أن يقولوا: إن ولايتك التي واليتنا شغلتنا عن جميع ما ذكر، واللّه أعلم.

١٦٧

قوله تعالى: (وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) ثم قوله: {لَكُنَّا عِبَادَ اللّه الْمُخْلَصِينَ} بنصب اللام على ظاهر ما قالوا، يخبر أن يكون من المخلصين بكسر اللام، أي: لو كان كذا، فنحن نخلص له التوحيد والعبادة، لكن المخلص أن يخلصنا اللّه لو كان كذا، واللّه أعلم.

ثم أخبر أنهم كفروا ما آتاهم البيان وأن أُولَئِكَ المتقدمين إنما أهلكوا لما ذكر مُحَمَّد عليه الصلاة والسلام - لكنهم عاندوه وكابروه وكفروا به.

١٧٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠)

علم عيان ومشاهدة؛ إذ عرفوا علم خبر بالحجة والآيات، واللّه أعلم.

١٧١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ. فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ)، اختلف فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: إن الرسل - عليهم السلام - كانوا منصورين لم يغلب رسول قط فإنما قتل: الأنبياء ورسل المرسلين الذين يبلغون رسالة الرسل إلى قومهم ويخبرون عنهم، فأما الرسل أنفسهم فهم لم يقتلوا ولا قتل أحد منهم؛ عصمهم اللّه تعالى عن الناس وعما هموا بهم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنهم منصورون لما نصر العاقبة لهم؛ إذ لم يكن رسول إلا وقد كانت العاقبة له وإن غلب في الابتداء.

١٧٢

وقَالَ بَعْضُهُمْ: (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) بالحجج والآيات والبراهين أنهم يغلبون بحججهم وآياتهم ويرفعون بها الشبه والتمويهات، واللّه أعلم.

ويستدل صاحب التأويل الأول بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ}، وفي بعض القراءات: {قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّه وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا}، أخبر أنهم وإن قتلوا فإنهم لم يهنوا ولم يضعفوا، ثم قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}، ثم أخبر أنه آتاهم اللّه ذلك حيث قال: {فَآتَاهُمُ. . .}، كذا، واللّه أعلم؛ دل أنه وإن غلبوا وقتلوا فهم المنصورون.

ثم قوله: {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ} ذكر {إِنَّهُمْ لَهُمُ} بحرفين ومعناهما واحد على التأكيد؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ}،

١٧٣

وقوله: {إِنِّي أَنَا اللّه}، وإن كان الواحد كافيًا، كما في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (١٧٣) أي: رسلنا أو أتباعنا وأولياؤنا هم الغالبون على ما ذكرنا، واللّه أعلم.

١٧٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤)

يحتمل أي: لا تكافئهم بأذاهم إياك إلى حين أو لا تقاتلهم، فكيفما كان ففيه وجهان من الدليل:

 أحدهما: دليل على رسالته حيث أخبر أنهم يكونون على الكفر إلى الحين الذي ذكر ويهلكون على ذلك حيث قال: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ}.

والثاني: فيه دليل حفظه إياه وعصمته عما كانوا يهمون به من القتل والإهلاك؛ حيث منعه من مقاتلتهم ونهاه عن التعرض لهم إلى وقت، على المعلوم ما كان منهم من الهم بقتله وإهلاكه لو وجدوا السبيل إليه؛ فدل أن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - قد عصمه وحفظه عنهم حين قال لهم ما قال حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ}؛ كقوله: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ}.

١٧٥

قوله تعالى: [(وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥)]

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ}.

عيانًا ومشاهدة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: وأبصرهم العذاب إذا نزل بهم خير فسوف يبصرون وقوعًا.

ويحتمل قوله: {وَأَبْصِرْهُمْ} أي: عرفهم أن العذاب ينزل بهم فسوف يعرفون إذا نزل بهم.

١٧٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦)

دل هذا أنهم كانوا يستعجلون نزول العذاب بهم - واللّه أعلم - إنما يستعجلون العذاب استهزاء بالرسول - عليه السلام - وتكذيبًا له فيما يوعدهم أن العذاب ينزل بهم.

ثم قوله: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} هو حرف التعجب أن كيف يستعجلون عذابي؟! ألم يعرفوا قدري وسلطاني في إنزال العذاب والإهلاك إذا أردت تعذيب قوم وإهلاكهم؟! أي: قدرت ذلك وملكت عليه.

١٧٧

ثم أخبر أنه إذا نزل العذاب بساحتهم يساء صباحهم، حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧)

ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ} يحتمل النزول بالساحة، أي: بقربهم.

ويحتمل النزول بالساحة: النزول بهم والوقوع عليهم؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ}، حتى يأتي وعد اللّه في نزوله بهم - واللّه أعلم - يحتمل نزوله بساحتهم ما ذكرنا من نزوله بقربهم ووقوعه عليهم.

ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ} ساء صباحهم؛ لأن ذلك العذاب إذا حل بهم صيرهم معذبين في النار أبد الآبدين، واللّه أعلم.

١٧٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: [(وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨)]

قد ذكرنا هذا فيما تقدم.

١٧٩

وكذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩) ويقول بعضهم: أي: انظر فسوف ينظرون، لكن الوجه فيه ما ذكرنا.

١٨٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ للّه رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وهذه الأحرف الثلاثة جميع ما بينه من الحق على الخلق من التوحيد، وجميع ما عليهم من التفويض إليه في الأمور كلها، وجميع ما عليهم من الثناء الحسن، والحمد له فيما أنعم عليهم وما ألزمهم من الثناء الحسن على جميع المرسلين: أما حرف التوحيد فهو قوله: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} نزه نفسه وبرأه عن جميع ما قالت الملاحدة فيه مما لا يليق به من الولد والشريك والصاحبة وغير ذلك، فيرجى أن يثاب قائل هذا ثواب كل واصف للّه - عَزَّ وَجَلَّ - بالبراءة له والتنزيه عن ذلك كله.

وفي قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {رَبِّ الْعِزَّةِ} وصف بالعزة والقوة وتفويض الأمر إليه، فيرجى أن يثاب قائل هذا ثواب كل واصف للّه بالعز له والقوة.

وأما الثناء الحسن على المرسلين فهو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) أمر اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - عباده أن يثنوا على المرسلين جملة؛ وعلى ذلك روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " إذا سلمتم فسلموا على إخواني المرسلين، فإنما أنا رسول من المرسلين ".

أما الثناء الحسن على اللّه بكل ما أنعم عليهم وأحسن إليهم فهو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْحَمْدُ للّه رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٨٢) فيرجى أن يثاب قائل هذا وتاليه على المعرفة به مما فيه ثواب جميع القائلين به والتالين، واللّه أعلم.

وذكر عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: " من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة، فليكن آخر كلامه من مجلسه: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ للّه رَبِّ الْعَالَمِينَ "، واللّه أعلم.

ورب العزة:

قَالَ بَعْضُهُمْ: هو رب النعمة والقوة.

ويحتمل: رب العزة، أي: به يتعزز كل من يتعزز، وإليه يرجع كل عزيز؛ وكذلك كل من حمد أو أثنى على شيء فحقيقة ذلك الحمد والثناء راجع إليه تعالى، واللّه أعلم بحقيقة مراده.

﴿ ٠