سُورَةُ الزُّمَرِ

وهي مَكِّيَّة

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللّه الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١)

يقول - واللّه أعلم -: إن الكتاب الذي يتلوه رسولنا مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويدعوكم إليه هو تنزيل من عند اللّه؛ كقوله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ. . .} الآية.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} على أثر قوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللّه} يخرج - واللّه أعلم - أنه يدعوكم مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى اتباع الكتاب والطاعة، ليس لذل به يطلب بكم العز أو الضعف في التدبير فيطلب بكم الاستعانة فيه؛ لأنه عزيز بذاته حكيم لا يلحقه الخطأ أو الضعف في التدبير، ولكن إنما أمركم بما أمر ونهاكم عما نهى لتكتسبوا لأنفسكم ولتنتفعوا به، فأمَّا اللّه - سبحانه - عزيز بذاته غني حكيم بنفسه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: العزيز هو الذي لا يعجزه شيء، والحكيم هو الذي لا يلحقه الخطأ في التدبير.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو العزيز؛ لأن كل عزيز دونه إنما يصير ذليلا عنده وعز من دونه عند عزه ذلا، والحكيم هو المصيب في فعله وتدبيره، وقيل: هو الذي وضع كل شيء موضعه.

وقال بعض أهل التأويل: العزيز هو المنيع، وتأويل المنيع: الممتنع عن جميع مكائد الخلق وجميع حيلهم بالضرر له، وقد ذكرنا هذا في غير موضع، واللّه أعلم.

٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللّه مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (٢)

يحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {بِالْحَقِّ} أي: بالحق الذي للّه عليكم، وبالحق الذي لبعضكم على بعض، أو كما قال أهل التأويل {بِالْحَقِِّ}، أي: للحق، أي: أنزلناه للحق، لم ننزله عبثًا باطلا لغير شيء، ولكن أنزلناه للحق لحقوق ولأحكام ومحن وأمور، واللّه أعلم.

وقوله: {فَاعْبُدِ اللّه مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ}.

جائز أن يكون ما ذكر من إنزاله الكتاب بالحق ذلك هو ما أمره من العبادة له، أمره بوفاء ذلك الحق له.

ثم يحتمل قوله: {فَاعْبُدِ اللّه مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} وجهين:

أحدهما: أصل في الاعتقاد، أي: اعتقد جعل كل عبادة وطاعة للّه خالصًا لا تعتقد لأحد شركًا.

والثاني: في المعاملة: أن كل عمل عبادة وطاعة اجعله للّه خالصًا لا تجعل لغيره فيه شركاء. واللّه أعلم.

وأما أهل التأويل قالوا: {فَاعْبُدِ اللّه}: وحد اللّه {مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ}، وتأويل هذا أن اجعل الوحدانية والألوهية للّه في كل شيء.

٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَا للّه الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى إِنَّ اللّه يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللّه لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (٣)

أي: وللّه شهادة الوحدانية والألوهية في كل شيء.

ويحتمل أيضًا قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَلَا للّه الدِّينُ الْخَالِصُ}، أي: دين اللّه هو الدِّين الخالص؛ لأنه دين قام بالحجج والبراهين، وأما غيره من الأديان فهو دين بهوى النفس وأمانيها لا بالحجج والآيات، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى}.

كأن فيه إضمارًا يقول: والذين اتخذوا من دونه أولياء وعبدوها قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى}، وقالوا في موضع آخر: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّه}، عرفوا أن ما كانوا يعبدون من الأوثان وغيرها ليسوا بآلهة في الحقيقة ولا لهم الألوهية حقيقة، وأن حقيقة الألوهية للّه، لكنهم سموها: آلهة؛ لأنهم كانوا يعبدونها، وكل معبود عند العرب إله؛ لأن الإله هو المعبود، وقدروا تسمية كل معبود: إلها؛ لذلك سموها: آلهة وإن عرفوا أن ليست لهذه الأشياء ألوهية حقيقة، وأن ذلك للّه عَزَّ وَجَلَّ.

ثم إن الذي حملهم على عبادة ما عبدوا من دون اللّه وجهان:

أحدهما: لما لم يروا أنفسهم تصلح لعبادة الإله العظيم أو تقدر على القيام بخدمته، فعبدوا هذه الأشياء رجاء أن تقربهم عبادة هَؤُلَاءِ إلى اللّه زلفى، وأن هَؤُلَاءِ شفعاؤهم عنده، وذلك لما رأوا في ملوك الدنيا أن كل أحد لا يجد السبيل إلى خدمة ملوكها، أو لا يقدر على القيام بين يديه والخدمة له، فيخدم من اتصل بالملك ومن عظم قدره ومنزلته عند الملك؛ ليقربه ذلك المخدوم له إلى الملك إذا بدت له الحاجة أو الشفاعة، وعلى ذلك ما ذكر في قصة فرعون أنه كان اتخذ لقومه أصنامًا يعبدونها من دونه، لما لم يروا كل أحد منهم يصلح لخدمته، وهو ما أغرى قومه على موسى حيث قالوا: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ}، ونحو هذا أوجه.

والثاني: عبدوهم؛ لما رأوا آباءهم قد عبدوها، وتركوا على ذلك حتى ماتوا، فاستدلوا بتركهم على ذلك على أن اللّه قد كان رضي بعبادتهم الأصنام وأمرهم بذلك لقولهم إذا فعلوا فاحشة: {قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللّه أَمَرَنَا بِهَا}؛ ولذلك قالوا: {لَوْ شَاءَ اللّه مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا}، وقولهم: {لَوْ شَاءَ اللّه مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ}، استدلوا بتركه آباءهم على ما عبدوا من الأصنام على ذلك ولم يعاقبهم في الدنيا، وكانوا لا يؤمنون بالآخرة حتى يزجرهم إليها على أن اللّه قد رضي بذلك، وأنهم عن أمر منه فعلوا ذلك، فرد اللّه ذلك عليهم فقال: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}.

يحتمل قوله: {فِي مَا هُم فِيهِ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}، في مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنهم اختلفوا فيه؛ فمنهم من قال: إنه ساحر، ومنهم من قال: إنه شاعر، وإنه مجنون، وإنه مفتر ونحوه، فيخبر أنه يحكم بينهم؛ ليبين لهم أن ما ذكروا ابتغوا فيه أهواءهم.

أو يحكم بينهم أن الأصنام التي عبدوها لا تشفع لهم، وأن عبادتهم لا تقربهم إلى اللّه زلفى، وقد بين لهم في الدنيا أن محمدا - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ليس بشاعر ولا ساحر ولا كذاب على ما قالوا؛ لما أنبأهم وأخبرهم بأخبار عرفوا أن الساحر والشاعر لا يعرف مثلها، نحو ما أخبرهم بنصر اللّه إياه والظفر له عليهم -أعني: على الأعداء- فكان على ما أنبأهم بأنباء وأخبار عرفوا أنه صادق في ذلك ما لا يستفاد مثلها بالسحر وبالكهانة إلا بالوحي من اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - لكنهم عاندوا وكابروا؛ وكذلك بين لهم أيضًا ما عرفوا أن الأصنام التي عبدوها في الدنيا لا تملك لهم الشفاعة يوم القيامة، حيث ابتلاهم بأهوال وأفزاع بركوب البحار والتضييق عليهم حتى فزعوا إلى اللّه في كشف ذلك عنهم ودفعه عنهم، لم يفزعوا إلى

الأصنام التي عبدوها، وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ}، ونحو ذلك ما ابتلاهم بالشدائد والبلايا عرفوا أن معبودهم الذي عبدوه لا يملك دفع ذلك عنهم ولا كشفه، وإنما المالك لذلك هو اللّه المعبود الحق.

ثم تناقض قولهم؛ لأنهم كانوا ينكرون رسالة النبيين بقولهم: {أَبَعَثَ اللّه بَشَرًا رَسُولًا}، فيرون للخشب والأشجار الألوهية والعبادة، فذلك تناقضٌ ظاهر.

قَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى} أي: مقربة فيشفعون لنا إلى اللّه تعالى.

وقوله: {إِنَّ اللّه يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ اللّه لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}.

قال أبو بكر: لا يهدي أحدا بالضلال والكفر، ولكن إنما يهدي بضد الضلال والكفر، أو كلام نحوه.

وقال الجبائي: لا يهدي طريق الجنة في الآخرة، أي: لا يهدي من كان في الدنيا كاذبًا كفارًا في الآخرة طريق الجنة.

وجائز أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ اللّه لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} من صِلَة قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى} و {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّه}، كفار لنعمه بصرفهم العبادة إلى غير المنعم.

وقال جعفر بن حرب: إن اللّه لا يهدي إلى الزيادات التي يهدي ويعطي من اختار الهدى؛ لأنه يقول: إن من اختار الهدى واهتدى كان عند اللّه لطفًا ورحمة يعطي ذلك زيادات وفضل زيادة على ما كان اختاره؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}.

هذه التأويلات كلها للمعتزلة، وأما عندنا فإن قوله: {إِنَّ اللّه لَا يَهْدِي} من هو في علمه أنه يختار الكفر وقت اختياره الكفر والضلال، أي: لا يوفقه للّهدى ولا يعينه وقت اختياره الكفر، ولكنه يخذله؛ وكذلك يقول في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاللّه لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} و {الْكَافِرِينَ} ونحوه أي: لا يهديهم وقت اختيارهم الكفر والظلم، واللّه الموفق.

والثاني: {لَا يَهْدِي}، أي: لا يخلق فعل من هو فعل كفر فعل هدى، ولكن يخلقه

فعل كفر وكذلك لا يخلق فعل من هو فعل هدى فعل كفر، ولكن يخلق كل فعل على ما يفعله الفاعل ويختاره: يخلق فعل الكافر كفرًا وفعل المهتدي فعل هدى، يخلق كل فعل على ما يختاره الفاعل ويفعله: إن كان هدى يخلقه هدى، وإن كان كفرا يخلقه كفرا.

وقال بعض أهل التأويل: إن اللّه لا يهدي من كان في علمه أن يختم بالكفر ويخرج به من الدنيا، واللّه أعلم.

ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} يحتمل وجهين:

أحدهما: من هو كاذب كفار على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

والثاني: كفار أنعم اللّه، وكاذب في القول، كفار في الفعل، واللّه أعلم.

٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَوْ أَرَادَ اللّه أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللّه الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (٤)

ظاهر هذا أن إيجاد الولد له من المحتمل والممكن ليس من الممتنع، وكذلك ظاهر قوله: {لَوْ أَرَادَ اللّه أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا}، ظاهر هذا الذي ذكر هو من المحتمل والممكن وكان من الممتنع أيضًا؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا)، دلت هذه الآيات على أن إيجاد الولد من الممتنع والعظيم في العقول والقلوب جميعًا.

ثم قوله: {لَوْ أَرَادَ اللّه أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ}.

أي: لو جاز أو احتمل إيجاد الولد على ما تقولون أنتم وتتوهمون، لاصطفى واختار مما يشاء، هو ما شاء، ليس على ما تختارون أنتم له وتشاءون: أن الملائكة بنات اللّه على ما تزعمون؛ لأن العرف في الخلق أن من اتخذ لنفسه شيئًا إنما يتخذ من أعز الأشياء وأرفعها وأعظمها قدرًا عندهم، لا من أخس الأشياء وأذلها؛ وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ}، أي: إلى آلهتهم التي اتخذ أُولَئِكَ آلهة في الحقيقة، ولكن سماها بالذي عندهم، وكذلك قول موسى - عليه السلام -: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا}، أي: انظر إلى الذي اتخذته إلها سماه على ما هو عنده؛ فعلى ذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَوْ أَرَادَ اللّه} على ما في ظنونكم وتوهمكم أنه اتخذ الولد لاختار مما ذكر لا مما تقولون أنتم، لو احتمل ذلك على ما في ظنكم وحسبانكم لكان مما ذكر.

والثاني: مبنى الاتخاذ راجع إلى البنين إذ كانت الكفرة ينسبون الملائكة إلى أنهم بناته؛ لما عرفوا من كرامتهم على اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - وقربتهم عنده، وينسبونه إلى أنهم بناته، وإِلَى أن عيسى ابنه، وإنما يتخذ الأولاد ويتبنى ليستنصروا بهم، فبرأ اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - نفسه على احتمال الشكل وخوف الغلبة، فقال: {سُبْحَانَهُ هُوَ اللّه الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}.

وفي قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} دفع ما قالوا فيه وإحالة ذلك؛ لما أخبر أنه واحد في الذات، ولو كان كما ذكر هَؤُلَاءِ من الولد، لم يكن واحدًا في الذات؛ إذ كل محتمل الولد منه هو من شكل الولد، فإذا عرفهم أنه واحد في الذات لم يحتمل الولد وما ذكروا.

وفي قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {الْقَهَّارُ} دلالة إحالة ذلك؛ لأنه أخبر أنه قهار، والولد في الشاهد إنما يتخذ لأحد وجوه:

إما لوحشة أصابته فيستأنس به.

وإمَّا لحاجة تمسه فيدفع بالولد ذلك.

وإمَّا لغلبة شهوة فيقضيها فيتولد من ذلك الولد.

وإمَّا لوراثة ملكه بعد موته، وهو دائم باق لا يزول ملكه أبدًا.

وإمَّا للاستعانة والنصرة على أعدائه.

لأحد هذه الوجوه التي ذكرنا يحتاج المرء إلى اتخاذ الولد، واللّه قادر بذاته قاهر غني لا يحتمل ما ذكروا، واللّه أعلم.

٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥)

يحتمل قوله: {بِالْحَقِّ}، أي: بالحق الذي للّه عليهم، ولما لبعض على بعض من الحق.

أو أن يكون قوله: {بِالْحَقِّ} أي: للحق، وهو البعث ما لو لم يكن البعث، لكان خلقهما عبثًا باطلا على ما ذكر في آية أخرى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا}، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}.

وجائز أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ}، أي: بالحكمة، وهو أن جعل في خلقة كل شيء أثر وحدانيته وألوهيته ما يعرف كل أنه فعله وإن لم يشاهد خلقه، وهو على ما يكون ذلك في فعل أحد من الخلائق أثر معرفة فاعله، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ}، كما ذكر في آية أخرى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ}، يذكر دلالة وحدانيته؛ حيث جعل منافع الليل متصلة بمنافع النهار، ومنافع النهار متصلة بمنافع الليل، على اختلافهما وتناقضهما وتضادهما؛ ليعلم أنهما فعل واحد، وكذلك ما جعل من منافع السماء متصلة بمنافع الأرض على بعد ما بينهما؛ ليعلم أن منشئهما واحد، إذ لو كان عددًا لامتنع ذلك؛ إذ العدد المعروف من عادة الملوك انفراد كل بملكه وسلطانه، والاستيلاء

على ما استوى وقبض بَزَّ الآخر ومنع نفاذ أمره في سلطانه، فإذا لم يمتنع ذلك دل أنه فعل واحد، وكذلك ما ذكر من تسخير الشمس والقمر لهم ولمنافعهم وجريهما في يوم واحد مسيرة ألف عام، أو ما ذكر من غير أن يعرف أحد سيرهما أنهما يسيران وقت سيرهما إلا بعد قطعهما ذلك، دل أن لهما منشئًا وأنه واحد، ودل اتساقهما وجريانهما على سير واحد منذ كانا إلى آخر ما يكونان ويدوران على أن منشئهما واحد عالم مدبر عرف حاجة الخلق، إليهما أبد الآبدين ومنافعهما بذلك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى}.

أي: كل مما ذكر يجري إلى الوقت الذي جعل له لا يتقدم ولا يتأخر ولا ينقطع ما كان بالخلق حاجة إليه، واللّه اعلم.

أو إلى منازل معلومة لا يجاوزانها.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ}.

هو العزيز بذاته لا يتعزز بما ذكروا له من الأولاد ولا بطاعة من أطاعه، الغفار لمن كان له أهلا للمغفرة ما لا يخرج مغفرته إياه عن الحكمة، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: يدخل أحدهما على الآخر؛ كقوله: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ. . .} الآية.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ} أي: يُغشي أحدهما بالآخر؛ كقوله: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا}.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {يُكَوِّرُ}، أي: يلف هذا بهذا، وهو من يكور العمامة، ومنه قوله: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}، أي: جمعت ولفت، وأصل التكوير: اللف والجمع؛ وهو قول أبي عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ.

٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللّه رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦)

ظاهر هذا أنه خلقنا من تلك النفس قبل خلق زوجه منها؛ لأن حرف {ثُمَّ} إنما هو حرف إتباع وإرداف وحرف ترتيب لا حرف جمع، فإذا كان كذلك فظاهره يوجب ما ذكرنا، لكن أهل التأويل اختلفوا في معنى ذلك وتفسيره:

ذكر عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - في بعض الروايات أنه تأول في ذلك،

وقال: -

خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللّه رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦)

عَزَّ وَجَلَّ - {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} أو كلام نحو هذا.

وعندنا أن قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} يخرج على ظاهر ما ذكر؛ لأن الخلق: هو التقدير في اللغة كأنه قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} أي: قدركم جميعًا على كثرتكم من أول ما أنشأكم إلى آخر ما ينشئكم من تلك النفس الواحدة منها قدرنا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا}.

ثم أخرجنا منها -من تلك النفس- زوجها، وإلا كان تقديره إيانا منها كان قبل جعل زوجها منها وهو الظاهر على ظاهر ما خرج الكلام، واللّه أعلم. ثم كان منه خلق ما ذكر، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ}.

ظاهر الإنزال هو أن ينزل من علو مرتفع إلى تسفل ومنحدر، لكن اللغة لا تمتنع عن استعمال لفظ الإنزال لا على حقيقة الإنزال من علو إلى سفل، يقال: نزل فلان بأرض أو بمكان كذا وإن لم يكن هناك منه نزول من علو إلى منحدر وسفل، فعلى ذلك هذا، وأصله أن كل حرف من حروف الإنزال وغيره مما أضيف إلى اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - مما يستقيم صرفه إلى خلقه أن المراد منه خلقه؛ نحو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ}، {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ}، وغير ذلك مما يكثر ذكره فهو خلقه إياه؛ فعلى ذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ}، أي: خلق لكم من الأنعام ما ذكر على ما ذكر: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ}، أي: خلق لكم ما ذكر، فعلى ذلك حرف الإنزال، واللّه أعلم.

ثم ظاهر قوله: {مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} يجيء أن يكون على أحد وجوه ثلاثة:

إما ألا يسمي الأنعام ولا يكون إلا الثمانية الأزواج التي ذكر أنه خلقها لنا، فإن كان على هذا فيكون حرف (مِن) هاهنا صلة، كأنه قال - عَزَّ وَجَلَّ -: " وأنزل لكم أنعامًا وهي ثمانية أزواج ".

أو أن يسمي كل ما خلق من الدواب: أنعامًا، إلا أنه لم يحل لنا منها إلا الثمانية الأزواج التي ذكر، فإن كان هذا فيكون حرف (مِن) حرف تبعيض وتجزئة.

أو أن يسمي كل الدواب: أنعامًا إلا أنه لم يحل لنا كل شيء منها من جميع أنواع الانتفاع بها من الأزواج التي ذكر، فإنه قد أحل لنا كل شيء من هذه الأصناف الثمانية من لحومها وألبانها وأصوافها وكل شيء منها، وأما ما سوى ذلك من الأنعام، فإنه لم يحل لنا

كل شيء منها من اللحوم وغيرها، ولكن أحل لنا الانتفاع بظهورها من نحو الحمير والبغال وغير ذلك مما يشتهى، واللّه أعلم.

ثم الثمانية الأزواج التي ذكر أنها خلقها لنا في هذه الآية هي التي ذكرها في سورة الأنعام وهو قوله: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ. . .}، إلى قوله: {وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ. . .}، إلى آخر ما ذكر، فيشبه أن يكون ما ذكر من ثمانية الأزواج أنه أنزل لنا في سورة الزمر التي هي أحل لنا كل شيء منها، وأما ما سوى ذلك فإنه إنما أحل لنا الانتفاع بها لم يحل لنا أكلها؛ لأنه ذكر في سورة الأنعام الأكل، ثم ذكر على أثر هذه الثمانية الأزواج الإبل والبقر والضأن والمعز، حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّه}، ثم قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ. . .}، إلى آخر ما ذكر، وهذا يدل على أن قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} إنما هو مما ذكر، أي: لا أجد محرمًا من هذه الأصناف الثمانية إلا ما ذكر من الدم والميتة ولحم الخنزير.

ثم يخرج استثناء لحم الخنزير مخرج استثناء غير جنس المذكور على إضمار كون ذلك الغير فيه، وذلك غير جائز في الكلام؛ كقوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}، كأنه قال: أحلت لكم بهيمة الأنعام والاصطياد {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ}؛ فعلى ذلك الأول كأنه أضمر فيه استثناء لحم الخنزير منه، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ}.

قال أهل التأويل: تحويله من حال إلى حال من نطفة إلى علقة ثم إلى مضغة حتى يتم خلقًا مستويًا.

{فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ}.

قيل: الرحم والبطن والمشيمة، وقيل: الظهر، يخبر عن قدرته وعلمه وتدبيره: أنه حيث قدر على خلق الإنسان وكل خلق في تلك الظلمات الثلاث والتسوية بين كل شيء منه من اليدين والرجلين والعينين والأذنين والسمعين والبصرين وقسمة الأعضاء على السواء حتى لا يزداد إحدى اليدين على الأخرى، وكذلك إحدى الرجلين وإحدى العينين

وإحدى الشفتين، وكذلك كل شيء منه في تلك النطفة من العينين واليدين والرجلين والبصر وكل الجوارح ما لو اجتمع الحكماء جميعًا حكماء البشر لم يعرفوا كون شيء من الجوارح والنفس وتقديرها من تلك النطفة وتصويرها منها؛ ليعلم أنه قادر على خلق الأشياء من شيء ومن لا شيء وبسبب وبغير سبب وما جعل من الأسباب لبعض الأشياء لم يجعلها استعانة منه بها على إنشاء ذلك، وأن من قدر على تقدير ما ذكر وتصويره في الظلمات التي ذكر على السبيل التي ذكر، فإنه لا يخفى عليه شيء ولا يعجزه شيء، يحتج عليهم لإنكارهم البعث وإنكارهم بعث الرسل والحجج، يخبر أن من فعل ما ذكر من تغييرهم من حال إلى حال وتحويلهم من صورة إلى صورة أخرى أنه لا يفعل ذلك ليتركهم سدى لا يأمرهم ولا ينهاهم ولا يمتحنهم، ثم إذا امتحنهم لا يحتمل ألا يبعثهم؛ ليجزي المسيء منهم والعاصي جزاء الإساءة والعصيان والمحسن منهم والمطيع جزاء الإحسان والطاعة؛ لأنه قد سوى بينهم في هذه الدار وفي الحكمة، والعقل يقتضي التفريق بينهما فلابد من دار أخرى يفرق بينهما فيها، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذَلِكُمُ اللّه رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ}.

يحتمل {ذَلِكُمُ اللّه رَبُّكُمْ} أي: ذلكم اللّه الذي ذكر من تقديركم وتصويركم في ظلمات تلك النطفة هو ربكم الذي فعل ذلك.

أو أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذَلِكُمُ اللّه رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ} أي: جميع ما ذكر من قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ}، وما ذكر من تسخير الشمس والقمر وجريانهما على سنن واحد وعلى قدر واحد، وما ذكر من خلقنا جميعا من تلك النفس أن واحدة إلى آخر ما ذكر، يقول: ذلكم اللّه الذي فعل ذلك كله هو ربكم {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} أي: فأنى تصرفون عبادتكم إلى غيره، أو فأنى تصرفون ألوهيته وربوبيته إلى غيره وتجعلون له شركاء وأعدالا، وقد تعلمون أن الذي فعل ذلك كله هو اللّه الواحد الذي لا شريك له ولا مثل.

أو يذكر أن ما ذكر من النعم التي أعطاكم وأسدى إليكم هو ربكم الذي خلقكم، فكيف تصرفون شكرها إلى غيره، واللّه أعلم.

٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللّه غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٧)

روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قال: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللّه غَنِيٌّ عَنْكُمْ} أي: تكفرون دين اللّه الإسلام ولم تسلموا فإنه لا يقبل منكم، {وَإِنْ تَشْكُرُوا} أي: وإن تسلموا

{يَرْضَهُ لَكُمْ} أي: يقبل منكم؛ كقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}.

وقال غيره: أي: إن تكفروا دينه فإن اللّه غني عن عبادتكم، {وَإِنْ تَشْكُرُوا}، أي: توحدوه {يَرْضَهُ لَكُمْ} من الأول.

وجائز أن يكون قوله: {إِنْ تَكْفُرُوا} النعم التي عدها عليكم فيما تقدم ذكرها من قوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ}،

وقوله: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ. . .} إلى آخر ما ذكر من النعم يقول: إن تكفروا هذه النعم التي عدها عليكم فإنه غني عنكم، وإن تشكروا ما عد عليكم من النعم يقبل ذلك منكم، واللّه أعلم.

وأصله أن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - بين سبيل الهدى ورغبهم إليه، وبين سبيل الضلال وحذرهم عنه، ثم بين أن من سلك سبيل الهدى فله كذا ومن سلك سبيل الضلال فله كذا، وأفضى إلى كذا.

أو أن يقول: إن من سلك سبيل الهدى يرضى لنفسه عاقبة السبيل الذي سلك فيه؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ. لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ}، ومن سلك سبيل الضلال والكفر يمقت ذلك السبيل في العاقبة؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللّه أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ}، أخبر أنهم يمقتون أنفسهم إذا نودوا وعرفوا أنهم أخطأوا الطريق، وباللّه العصمة.

وذكر في حرف عبد اللّه بن مسعود: (واللّه يكره لعباده الكفر)،

وقوله: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ}، وكذلك ذكر هذا في حرف أبي وحفصة خاصة.

وأصل قوله: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللّه غَنِيٌّ} إخبار أنه لم يأمركم بما أمركم به ولا نهاكم عما نهاكم عنه لحاجة نفسه أو لمنفعة له في ذلك، ولكن إنما امتحنكم بما امتحنكم لحاجة أنفسكم ولمنفعتكم ولدفع الضرر عنكم؛ وكذلك ما أنشأ من الأشياء لم ينشئها لحاجة نفسه ولا لمنفعة له، ولكن إنما أنشأها لكم ولمنافعكم.

وكذلك نقول: لم ينشئها لأنفسها حتى إذا أتلف شيئًا منها عوضها بدلها على ما تقول المعتزلة أن ليس للّه أن يتلفها إلا أن يعوضها عوضًا بإزاء ذلك، ولكن إنما أنشأها لكم لليسر ولهم يعزر من أتلف شيئًا منها، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}.

ذكر هذا - واللّه أعلم - جوابًا لقولهم حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ. . .} الآية، أخبر أن لا أحد يحمل وزر آخر، ولكن يحمل وزر نفسه.

والثاني: يخبر أن أمر الآخرة على خلاف أمر الدنيا؛ لأن في الدنيا قد يحمل بعض آثام بعض وأوزار بعض، فأما في الآخرة فإنه لا يحمل أحد وزر آخر ولا آثامه، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ. . .} الآية.

خص البعث بالرجوع إليه مرة وبالمصير ثانيًا والبروز له، ونحو ذلك، وإن كانوا في جميع الأحوال راجعين إليه صائرين؛ لأن المقصود من إنشائهم في هذه الدنيا ذلك البعث، فخص لذلك رجوعًا إليه، واللّه أعلم.

وقوله: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}.

قال أهل التأويل: إنه عليم بما في الصدور، وعندنا عليم بكل ما يصدر من الخير والشر، وذكر {بِذَاتِ الصُّدُورِ}؛ لأن أصحاب الصدور هم يصدرون ويظنون في صدورهم.

٨

وقوله: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ}.

أخبر اللّه الخلق ما كان من عادة الكفرة في غير آي من القرآن أنهم كانوا يخلصون الدِّين للّه ويتضرعون إليه إذا مسهم بلاء أو شدة، إذا ركبوا البحر، وكان لهم خوف الهلاك في ذلك وفزع؛ كقوله - تعالى -: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ. . .} والآية، وغير ذلك من الآيات، وكذلك كل بلاء وشدة أصابتهم، فزعوا إلى اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - وتضرعوا إليه، ثم إذا كشف الضر عادوا إلى ما كانوا من قبل.

وقوله: {نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ} يحتمل قوله: {نَسِيَ} ألا تملك الأصنام التي عبدوها دفع ذلك عنهم ولا كشفه.

أو نسي ألا ينفع لثمفاعتهم إياهم ونحوه؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ}، أي: نسوا ما علموا من عجز الأصنام ونحوه.

وقوله: {وَجَعَلَ للّه أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ}.

كأن الآية في الرؤساء منهم جعلوا أندادًا ليضل الناس عن سبيله، يدل على ذلك: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا} في الدنيا {إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ}، لما علم أنه يختم على الكفر، واللّه

أعلم.

ثم الحكمة في ذكر هذا وأمثاله لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يحتمل وجوهًا:

أحدها: يصبر رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على سوء معاملتهم إياه، كما حكى عن سوء معاملتهم ولم يستأصلهم على أثر ذلك وذلك أعظم في العقل.

أو يخبر الأواخر عن سوء معاملتهم ربهم ليحذروا عن مثل معاملتهم ربهم.

أو يخبر عن حلمه أن كيف عاملهم فاحلم أنت، واللّه أعلم.

وقرئ: {لِيُضِلَّ} و {لِيَضِلَّ} فيه ثلاث لغات.

٩

وقوله: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (٩)

قَالَ بَعْضُهُمْ: هذه الآية صلة ما تقدم من قوله: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ للّه أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} يقول: الذي تضرع إلى اللّه، وأخلص دينه له، نسي ذلك وتركه إذا خول ذلك نعمة، وجعل للّه أندادًا ليضل عن سبيله - كالذي هو قانت - أي: مطيع للّه - آناء الليل والنهار يحذر عذابه ويرجو رحمته، ليسا بسواء عندكم: الذي أطاع اللّه في جميع أوقاته حاذر تقصيره في ذلك راجٍ رحمته لطاعته، والذي عصى ربه ولم يطعه، فإذا عرفتم أنهما ليسا بسواء ثم رأيتم أنهما قد استويا في نعم هذه الدار وسعتها وشدائدها وفي الحكمة التفريق بينهما، فلابد من دار أخرى يفرق بينهما فيها يثاب المحسن المطيع جزاء إحسانه وطاعته، ويعاقب الكافر الظالم جزاء كفره وظلمه، واللّه أعلم.

ومنهم من يجعل لهذه الآية مقابل لكنه يقول: مقابلها ليس الأول، ولكن لم يذكر لها مقابل ويقول على ما عرفتم أنه لا يستوي الذي يعلم والذي لا يعلم، فعلى ذلك لا يستوي الذي أطاع ربه آناء الليل وأجهد نفسه في عبادة اللّه والذي عصى ربه وكفر فعمه، وقد ظهر الاستواء بينهما في هذه الدنيا فلابد من التفريق بينهما في دار أخرى، ولو لم يكن دار أخرى فيها يفرق ويميز، لكان خلق هذا العالم على ما كان باطلا سفها غير حكمة، واللّه أعلم.

وقوله: {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ}.

أي: يحذر عذاب الآخرة، وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود أنه قرأه: (يحذر عذاب الآخرة).

وقوله: {وَيَرْجُو رَحْمَةَ} دلت الآية على أن المؤمن يجب أن يكون بين الرجاء والحذر يرجو رحمته لا عمله ويحذر عذابه لتفصيره في عمله.

ثم الرجاء إذا جاوز حده يكون أمنا، وقد قال اللّه - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللّه إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}، والخوف إذا جاوز حده يكون إياسا، وقد قال اللّه - تعالى -: {لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللّه إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}، ويجب أن يكون المؤمن كما ذكر - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا}، و {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا}، لا يجاوز أحدهما.

وجائز أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ}، أي: جنته على ما سمى الجنة: رحمة في غير موضع؛ لما برحمته تنال هي، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ}.

في معرفة نعم اللّه والقيام بشكره، والحذر عن عصيانه وعذابه.

وقوله: {وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}.

في كل ذلك، جوابه أن يقال: لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّمَا يَخْشَى اللّه مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}.

وقوله: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}.

إنما يتذكر بمواعظ اللّه أولو العقول والبصر والمعرفة، واللّه أعلم.

وقوله: {آنَاءَ اللَّيْلِ} أي: ساعات الليل، و {قَانِتٌ} أي: مطيع، وأصل القنوت هو الطاعة، وقيل: القنوت: القيام، وهو القيام في الطاعة، واللّه أعلم.

وفي قوله: {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} دلالة جواز الإرجاء؛ لأنه لم يقطع على أحدهما دون الآخر؛ وكذلك في قوله تعالى: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا}، وفي قوله: {رَغَبًا وَرَهَبًا}، وفي القطع على أحدهما كفر على ما ذكرنا من قوله: {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللّه}، و {لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللّه إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}؛ إذ المجاوزة في الخوف إياس، والمجاوزة في حد الرجاء أمن وقد ذكرنا أنه كفر.

١٠

وقوله: (قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللّه وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (١٠)

يحتمل قوله: {اتَّقُوا رَبَّكُمْ} وجوهًا:

اتقوا سخط ربكم.

أو اتقوا نقمة ربكم.

أو اتقوا مخالفة ربكم ونحوه.

وأصل التقى: ما تهلكون، أي: اتقوا مهالككم، واللّه أعلم.

وقوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ}.

قال عامة أهل التأويل: للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة لهم في الآخرة.

وجائز أن يكون لهم الحسنة في الدنيا وفي الآخرة حسنة؛ كقوله: {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ. . .} الآية؛ وكقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللّه مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ}.

ثم يحتمل الحسنة وجهًا آخر: استغفار الملائكة لهم والأنبياء - عليهم السلام - لأن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - امتحن ملائكته على استغفار المؤمنين والمؤمنات؛ كقوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ}، وكذلك امتحن رسله بالاستغفار للمؤمنين، وكذلك المؤمنون يستغفر بعضهم لبعض ونحوه.

وقوله: {وَأَرْضُ اللّه وَاسِعَةٌ}.

ذكر هذا - واللّه أعلم - لأن من آمن منهم بمكة كانوا يظهرون الموافقة لأعدائهم ويقيمون فيما بينهم، وكانت لهم أسباب التعيش في بلدهم ولم يكن لهم تلك في بلد غيرهم، فخافوا الضياع إذا هم خرجوا من بلدهم فيهاجروا منها إلى غير بلدهم فيمتنعون عن ذلك، فجاءت الآية على الترجي والإطماع لهم بمثل ذلك التعيش وأسبابه في غير ذلك البلد، وهو ما ذكر في آية أخرى، وهو قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّه وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}، لم يقدروا في تركهم الهجرة وإظهارهم الموافقة للأعداء، ولهم طاقة ووسع التحول من بلدهم إلى بلد غيرهم، إلا من لم يكن به طاقة الخروج من بينهم وهم الذين استثناهم وهو قوله: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. . .} الآية، واللّه أعلم.

ويحتمل قوله: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}، وجوهًا:

أحدها: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي: بغير تبعة ولا مئونة؛ كقوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " من نوقش الحساب عذب ".

أو {بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي: لا يحاسبون؛ لما ليس وراء تلك الدار الآخرة دار أخرى يحاسبون فيها ما أعطوا في الآخرة ليس كدار الدنيا يحاسب من أوتوا فيها في الآخرة، وأما ما أعطوا في الآخرة فلا يحاسبون في غيرها.

وحمل {بِغَيْرِ حِسَابٍ}، أي: غير مقدر بالحساب، ولكن أضعافًا مضاعفة.

ويحتمل {بِغَيْرِ حِسَابٍ}، أي: بلا نهاية ولا غاية، واللّه أعلم.

ثم الصبر: هو حبس النفس إما على أداء ما أمر اللّه به والانتهاء عما نهى اللّه عنه، أو

حبسها وكفها في احتمال ما حملت من الشدائد والمصائب والمؤن العظام، احتملوا ذلك ولم يجزعوا، وهو ما ذكر في غير آي من القرآن: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ. . .} الآية.

وقوله: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}، ونحوه.

١١

وقوله: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّه مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢).

يحتمل أن يكون قال هذا؛ لما أن أهل مكة كانوا يدعون رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى دينهم ودين آبائهم، وكانوا يطمعون عوده إليهم، فقال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّه مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ. وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} ذكر هاهنا أنه أمر أن يعبد اللّه مخلصًا له الدِّين، وقال في آية أخرى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه. . .} الآية، وقال في آية أخرى: {قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا. . .} الآية، أخبر أنه لو اتبع أهواءهم فيما هم فيه يضل وما كان من المهتدين، ذكر في هذه الآيات النهي وترك اتباعه أهواءهم، ولم يذكر الأمر فيها بعبادة اللّه تعالى مخلصًا له الدِّين.

أو أن يقول: إني إذا أمرتكم بعبادة اللّه أمرت أنا أيضًا في نفسي أن أعبده مخلصًا، لست أنا كمن يأمر غيره شيئًا ولا يأتمر بنفسه، أو هو غير مأمور بذلك وهو ما قال: {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ}.

أو يقول: لست أنا كالملوك يأمرون أتباعهم بأشياء ويستعملونهم في أمورهم ولا يستعملون في ذلك أنفسهم، واللّه أعلم.

١٣

وقوله: (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣)

الخوف هاهنا ليس هو حقيقة الخوف، ولكن العلم كأنه قال: إني أعلم إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم، فآيسهم باللّه بالمدينة عن عوده إلى دينهم، وقطع طمعهم عنه، وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ}، فأما ما داموا بمكة فإنهم كانوا طامعين في ذلك راجين فيه، واللّه أعلم.

١٤

وقوله: (قُلِ اللّه أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ).

إنه يخرج هذا الحرف منه مخرج التهدد لهم والتوعد، يقول: أما أنا فإنما أعبد اللّه الحق وله أخلص ديني، فاعبدوا أنتم ما شئتم فإنه يجزيكم جزاء عبادتكم، كقوله تعالى:

{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ. . .} الآية، وذلك معروف في كلام الناس، يقول الرجل: اعمل ما شئت أو قل ما شئت فإن لك الجزاء كما تعمل؛ على الوعيد، فعلى ذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -:

١٥

(فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ ... (١٥) واللّه أعلم.

ويحتمل وجهًا آخر لا على الوعيد، ولكن يقول: قد بينت لكم وأوضحت السبيلين جميعًا بالآيات والحجج: سبيل النجاة الذي إذا سلكتموه نجوتم، وهو سبيل اللّه، وسبيل الهلاك الذي إذا سلكتموه هلكتم، وهو سبيل الشيطان، فإن أردتم النجاة فاسلكوا سبيل كذا، وإن أردتم سبيل الهلاك فاسلكوا سبيل كذا، واللّه أعلم.

ثم قوله: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}.

كناية لما أمرهم أن يقوا أنفسهم وأهليهم النار حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}؛ ليكون لهم أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، ويسلم لهم ذلك، وقد مكن لهم ذلك وهلكوا فتركوا ذلك ولم يقوها ولا أهليهم النار، قال عند ذلك: {خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} ألا عند ذلك يتبين لهم أنهم خسروا أنفسهم وأهليهم.

أو أنهم قد أمروا بالسعي للآخرة والعمل لها، ووعدوا إذا سعوا لها وعملوا النجاة في الآخرة والحياة الدائمة والأهل في الجنة، وإذا لم يسعوا لها ولم يعملوا خسروا أنفسهم والأهل الذين وعدوا فيها إذا سعوا وهلكت أنفسهم، {أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} ألا هنالك يتبين لهم أنهم خسروا خسرانًا بينًا، واللّه أعلم.

١٦

وقوله: (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ... (١٦)

أن يكون ما كان تحتهم من النار أن يوصف بالمهاد لهم لا بالظلل؛ كقوله تعالى: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ}، وكذلك في حرف ابن مسعود أنه قال: (ولهم من تحتهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش ذلك يخوف اللّه به عباده)، واللّه أعلم.

لكن جائز أن يكون الظلل التي تحتهم هي ظلل لمن تحتهم، وهي لأُولَئِكَ الذين فوقهم مهاد وللذين ليس تحتهم أحد مهاد أيضًا - واللّه أعلم - لأن النار دركات وأطباق؛ ليكون كل طبقة لمن تحتها ظلل ولمن فوقها مهاد على ما ذكرنا.

وقوله: {ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللّه بِهِ عِبَادَهُ}.

أي: ذلك الذي ذكر في القرآن من المواعيد يخوف اللّه به عباده.

{يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ}.

اتقوا سخط اللّه ونقمته، أو اتقوا مخالفة اللّه، أو اتقوا المهالك.

١٧

وقوله: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا}.

اختلف في الطاغوت:

قَالَ بَعْضُهُمْ: هو الشيطان، أي: اجتنبوا من أن يأتمروه وأطاعوه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الطاغوت هم الكهنة، كانوا يأتون الكهنة فيخبرونهم بأمور فيعملون بقولهم ويصدقونهم، يقول: أي: اجتنبوا من أن تطيعوا الكهنة في أمورهم ونهيهم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: كل معبود دون اللّه فهو طاغوت، وهو من الطغيان وهو المجاوزة عن الحد. واللّه أعلم.

وقوله: {وَأَنَابُوا إِلَى اللّه} وأقبلوا ورجعوا إلى ما أمرهم اللّه به، أو رجعوا إلى ما به طاعته وتركوا ما به مخالفته، وانتهوا عن مناهيه، والإنابة إلى اللّه هي الرجوع إلى أمر اللّه وإلى ما به طاعته، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَهُمُ الْبُشْرَى}.

وهو ما ذكر في قوله: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللّه لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ)، فعلى ما ذكر لهَؤُلَاءِ من البشرى لهم في الدنيا وفي الآخرة؛ لأنهم أولياء اللّه.

١٨

وقوله: (فَبَشِّرْ عِبَادِ. الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ... (١٨) اختلف فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: الذين يستمعون كلام الناس من الخير والشر والحسن والقبيح فيتبعون أحسنه، أي: يرون ويحكمون منه ما هو خير وحسن، ويتركون ما هو شر وقبيح. وقال بعضهم: يستمعون القرآن وكلام الناس وأحاديثهم، فيأخذون بالقرآن ويتبعونه ويتركون كلام الناس وأحاديثهم، فهو اتباع الأحسن منه وهو القرآن.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: يستمعون القرآن وفيه الناسخ والمنسوخ، فيتبعون أحسنه، أي: ناسخه، ويعملون به ويتركون منسوخه لا يعملون به.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: يستمعون إلى القرآن وفيه الأمر والنهي فيتبعون أمره وينتهون عما نهى عنه، واللّه أعلم.

وجائز أن يكون قوله: {فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}، أي: يتبعون الحسن منه الأحسن، بمعنى: الحسن، واللّه أعلم.

وقال قائلون: فيتبعون أحسن ما في القرآن من الطاعة منه؛ كقوله: {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا. . .} الآية، وتأويله ما ذكرنا: أن خذوا ما فيه من الأمر وأتمروا به وانتهوا عما فيه من المناهي، واللّه أعلم.

وقوله: {وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ}.

أي: أُولَئِكَ هم المنتفعون بلبهم وعقولهم؛ حيث اختاروا وآثروا هداية اللّه ونظروا إليها بالتعظيم والإجلال واهتدوا.

١٩

وقوله: (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩)

ذكر اللّه - تعالى - في هذه السورة أشياء لا يعرف لها أجوبة في الظاهر إلا بالتأمل والاستدلال على غيره، من ذلك ما ذكر: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} كأنه يقول - واللّه أعلم -: أفمن حق عليه العذاب كمن له البشرى في الآخرة؛ لأنه ذكر فيما تقدم للمؤمنين البشرى حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللّه لَهُمُ الْبُشْرَى. . .} الآية، على هذا يخرج جوابه: أفمن وجب عليه العذاب كمن وجب له البشرى، لا سواء.

أو أن يقول: أفمن حق ووجب عليه العذاب كمن شرح صدره للإسلام، أي: ليس الذي وجب عليه العذاب كالذي شرح صدره للإسلام.

أو أن يقول: هذا لنازلة كانت لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، لحرصه على إسلام قوم أحب أن يسلموا، فقال هذا له على الإياس من إسلامهم؛ يقول: أفمن وجب عليه العذاب، أفأنت تنقذه وتخلص من النار من قد وجب عليه العذاب، وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}؛ وكقوله: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} كان لا يقدر أن يكرههم على الإسلام، لكنه كان يحب ويحرص على إسلامهم ويحزن لتركهم الإسلام؛ كقوله: {وَلَا تَحزَن عَلَيهِمْ}،

وقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نفسَكَ}، {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}، ونحو ذلك، كان يحزن وكادت نفسه تتلف إشفاقًا عليهم، فيقول: أفمن وجب وحق عليه

العذاب، أتقدر أن تنقذه من النار؟ أي: لا تقدر على ذلك، واللّه أعلم.

٢٠

ثم بين الذين أنقذوا من النار، وهم الذين اتقوا ربهم، حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللّه لَا يُخْلِفُ اللّه الْمِيعَادَ (٢٠).

يحتمل اتقوا مخالفة ربهم، واتقوا سخط ربهم ونقمته.

ثم بين ما أُعد لهم في الآخرة، فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} ذكر أن لهم غرفًا في الجنة، والغرف على الغرف في الشاهد إنما تتخذ لضيق المكان، لكن ذلك في الجنة ليس لذلك ولكن لما كان عرف من رغبة الناس في الدنيا في الارتفاع والعلو والكراهية للتسفل والانحدار في الأرض رغبهم في الآخرة على ما رغبوا وأحبوا في الدنيا، ولكن لأهل الجنة الدرجات ولأهل النار الدركات.

ثم قوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}.

يخبر أن أمر الجنة على خلاف أهل الدنيا؛ إذ في الدنيا كلما ارتفع وعلا من البنيان كان الماء منها أبعد والوصول إليه أصعب، فأخبر أنهم وإن كانوا في الغرف والدرجات فأبصارهم مما تقع على الماء والماء لا يبعد عنهم ولا يصعب، واللّه أعلم.

ثم ذكر في الغرف البناء وذكر في السماء أنه بناها، فلم يفهم من بنائه ما ذكر ما فهم من بناء الخلق، فكيف فهم من مجيئه وغير ذلك ما فهم من مجيء الخلق وإتيانهم لولا ما كان فيهم من فساد اعتقادهم، واللّه أعلم.

ثم قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَعْدَ اللّه لَا يُخْلِفُ اللّه الْمِيعَادَ}؛ لأن من وعد في الشاهد وعدًا ثم أخلفه إنما يخلفه لحاجته، أو لما يبدو له من البدوات فيرجع عما وعد، واللّه - سبحانه وتعالى - منزه عن ذلك كله، لا يحتمل خلف الوعد منه.

٢١

وقوله: {أَلَمْ تَرَ} ونحوه يخرج على وجهين:

أحدهما: على الخبر {أَلَمْ تَرَ} أي: قد رأيت.

والثاني: على الأمر: أن رَهْ.

ثم الخطاب، وإن كان في الظاهر لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فهو لكل أحد يحتمل النظر والتأمل، ثم جهة الحكمة المودعة فيها ما ذكر من إنزال الماء من السماء، وجعله ينابيع في الأرض، والينابيع هي العيون التي تخرج من الأرض، والآبار التي جعلت فيها؛ ليعلم أنّ المياه الخارجة من الأرض والجارية فيها أصلها من السماء، منزلة منها، وهي طهور؛ على ما أخبر أنه أنزله طهورًا، وإن اختلف طبعه لاختلاف جواهر الأرض ما لم يخالطه شيء من جواهر الأرض من القذر والنجاسة وغيرها من الألوان التي تخرجه عن أن يكون طهورًا وتغيره عن جوهره الذي أنزل من السماء، ثم جعل اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - في سِرية ذلك الماء معنى ولطفًا ما يوافق جميع الأشجار والنبات، وكل خارج من الأرض وإن اختلفت جواهرها وألوانها وطعمها؛ ليعلم أن من قدر على جعل ما جعل في الماء من اللطف، والمعنى الذي يوافق كل شيء من النبات والشجر وإن اختلفت جواهرها وألوانها وطعمها، لا يعجزه شيء، ولا يخفى عليه شيء، ولا قوة إلا باللّه.

أو أن يقول: إن من تكلف زرع الزراعة في الأرض، ويتحمل المؤن العظام إلى أن بلغ المبلغ الذي ينتفع به وينال منه النفع فتركه لم ينتفع به؛ أليس يوصف بالسفه وبغير الحكمة، فكذلك اللّه - سبحانه - لما أنشأكم صغارًا طفلا وغذاكم بألوان الأغذية والأطعمة حتى كبرتم وبلغتم مبلغ الانتفاع بكم، ثم أتلفكم بلا عاقبة تقصد في ذلك كان غير حكيم، وقد عرفتموه حكيمًا؛ فدل أن المقصود في ذلك كله حتى يكون إنشاؤه إياكم صغارًا وتربيته إياكم بالوان الأغذية التي جعل لكم حكمة - هو البعث ما لولا ذلك كان سفهًا غير حكمة؛ على ما ذكر من إخراج الزرع من الأرض بالماء الذي أخرج، ثم تركه فيها حتى صار يابسًا لا ينتفع به كان سفيهًا غير حكيم، فعلى ذلك ما كان عند أُولَئِكَ الكفرة أن لا بعث كان ما ذكر، واللّه أعلم.

وقوله - تعالى -: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي: فيما يذكر من إنزال الماء من السماء وإدخاله في الأرض وإخراج ما ذكر منها به وما ذكر - موعظة لأولي الألباب؛ أي: لمن انتفع بلبه وعقله؛ لما ذكرنا، وما ذكر لأهل الجنة من الغرف وغير ذلك.

وقوله: {فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ} أي: أدخله فيها وجعله ينابيع؛ أي: عيونًا.

وقوله: {ثُمَّ يُخْرِجُ} أي: ييبس.

وقوله: {ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا} متكسرًا مثل الرفات والفتات، وهو قول أبي عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ، ويقال: هاجت الأرض: إذا ابتدأت في اليبس، حطاما، أي: متكسرا.

٢٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللّه صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللّه أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٢٢). قيل: {شَرَحَ اللّه}: وسع اللّه.

وقيل: رحب اللّه.

وقيل: لبى اللّه، ونحوه؛ وكله واحد.

ثم يحتمل قوله: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللّه صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} فيسلم {فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ}، أي: يجعل اللّه في صدره النور؛ أي: يجعل إذا أسلم حتى يبصر الحق وُحججه وبراهينه بصورة الحق أنه حق، والباطل أنه باطل، وأنه تمويه، يبصر كل شيء بذلك النور على ما هو حقيقة أنه حق وباطل، فيأخذ الحق ويعمل به، ويترك الباطل ويجتنبه، واللّه أعلم.

أو أن يكون قوله: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللّه صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ}، يكون نوره هو إسلامه الذي هداه شرح صدره لنوره حتى أسلم، وهو ما روي في الخبر أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سئل أنه: هل ينشرح الصدر للإسلام؟ وكيف ينشرح؟ فقال نبي اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إذا دخله النور انشرح لذلك الصدر، وانفسح له "؛ أخبر أن النور إذا دخل الصدر انشرح لذلك الصدر، وانفسح له بذلك النور، واللّه أعلم.

وجائز - أيضًا - أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللّه صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} في

الدنيا {فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} في الآخرة؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ. .} الآية، والذين كفروا طبع اللّه على قلوبهم فتظلم وتفسق لما تبقى في الظلمة أبدًا، واللّه أعلم.

ومنهم من قال: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللّه صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ}: الإسلام نفسه إذا أسلم {فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} كتاب اللّه، قال: هذا المؤمن به يأخذ، وإليه ينتهي، وما سئل النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: هل لذلك - أي: لانشراح الصدر للإسلام - علامة؟ فقال: " نعم؛ التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل حلول الموت "، فهذا في التحقيق ليس في المعاملة في العمل، ولكن في الاعتقاد؛ أي: يتجافى عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود: يتزود من الدنيا للآخرة.

ثم قوله: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللّه صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} يحتمل أن يكون على الاستفهام؛ على ما ذكر.

ويحتمل ألا يكون على الاستفهام، ولكن على الإيجاب، فإن كان على هذا فهو على إسقاط الألف: فمن شرح اللّه صدره للإسلام فهو على نور من ربه. . . الآية؛ كقوله في آية أخرى: {فَمَنْ يُرِدِ اللّه أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا}، فعلى ذلك يحتمل أن تكون هذه الآية على هذا، واللّه أعلم.

وإن كان على الاستفهام فلابد أن يكون له مقابل يعرف ذلك بدليل أنه جواب.

ثم

قَالَ بَعْضُهُمْ: جوابه في قوله: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللّه} كأنه يقول: ليس المنشرح صدره للإسلام كالقاسي قلبه بالكفر؛ وهو قول الكسائي.

وجائز أن يكون جوابه ومقابله ما تقدم ذكره، وهو قوله: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ. . .} الآية؛ كأنه يقول: أفمن حق عليه العذاب كمن شرح صدره للإسلام؛ أي: ليس من وجب عليه العذاب كمن شرح صدره للإسلام فهو على نور من ربه، واللّه أعلم.

٢٣

وقوله: (اللّه نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللّه ذَلِكَ هُدَى اللّه يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللّه فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (٢٣)

يحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ}: أصدقه خبرًا، وأعدله حكمًا، وهو ما ذكر في آية أخرى، ووصفه بالصدق والعدل؛ حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا}، أي: صدقًا فيخبره، وعدلا في حكمه، فعلى ذلك يحتمل قوله: {أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} خبرًا، وأعدله حكمًا، واللّه أعلم.

وجائز أن يكون قوله: {أَحْسَنَ الْحَدِيثِ}، أي: أتقنه وأحكمه، وهو متقن ومحكم، وهو على ما وصفه بالصدق والعدل في آية أخرى قال: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}، أخبر أنه لا يأتي القرآن باطل من بين يديه ولا من خلفه، وذلك لإتقانه وإحكامه، واللّه أعلم.

وهو أحسن الحديث؛ لأن من تأمله ونظر فيه وتفكرّ أنار قلبه، وأضاء صدره، وهداه سبيل الخير والحق، ودفع عنه الوساوس والشبهات وكل شر، وأفضاه إلى كل خير وبرّ فهو أحسن الحديث؛ إذ لا حديث يعمل ما يعمل هو؛ لما ذكرنا، وغير ذلك، واللّه أعلم.

وقوله: {كِتَابًا مُتَشَابِهًا} قوله: {مُتَشَابِهًا} أي: ليس بمختلف ولا متناقض، ليس كحديث الناس وكتبهم مما يختلف ويتناقض حديثهم وكتابهم، وخاصة فيما امتد من الأوقات وطال وبعدت مدته، وهو ما ذكر: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّه لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا. . .}، دل كونه متفقًا، متشابهًا، غير مختلف في طول نزوله، وتفرق أوقاته، وتباعد أيامه في الإنزال - أنه من عند اللّه نزل، ومنه جاء؛ إذ

لو لم يكن من عنده لخرج مختلفًا متناقضًا على ما يخرج حديث الناس وخبرهم مختلفًا ومتناقضًا، واللّه أعلم.

وقوله: {مَثَانِيَ} قال أهل التأويل: سماه: مَثَانِيَ؛ لما ثنّى فيه أنباؤه وقصصه مرة بعد مرة، وأصله: أنه سماه: مَثَانِيَ؛ لأنه ذكر فيه المواعظ والذكرى وكررها في غير موضع، لما لو لم يكررها غفلوا عنها، وسهوا عنها؛ لأن الحكيم إذا وعظ أحدًا عظة وزجره وسها عنه كررها عليه، وكرر - عَزَّ وَجَلَّ - عليهم المواعظ والزواجر؛ ليكونوا أبدًا متعظين متذكرين لذلك - واللّه أعلم - لكيلا يغفلوا عنها ولا يسهوا.

وقوله: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللّه} قال أهل التأويل: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} عند تلاوة آية الرهبة والخوف، وتلين قلوبهم عند تلاوة آية الرحمة.

وجائز أن يكون ذلك لهم بجميع القرآن بما فيه من الرحمة والرهبة جميعًا يكون فيهما الموعظة: تلين قلوبهم وتقشعر جلودهم وتخاف أنفسهم؛ لأن آية الرحمة ليست بأحق بتليين القلوب من آية الرهبة، بل آية الرهبة أحق بذلك.

وقتادة يقول: كانت جلودهم تقشعر، وعيونهم تبكي، وقلوبهم تطمئن إليه، ولا تذهب عقولهم، ولا يغشى عليهم، كما رأينا أهل البدع يفعلونه، وإنما ذلك من الشيطان.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذَلِكَ هُدَى اللّه يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} قد بين سبيل الهدى والحق، وحججه وبراهينه، وبين سبيل الضلالة والباطل، فمن سلك سبيل الهدى فبتوفيقه سلك، وبمعونته اهتدى، ومن سلك طريق الكفر والباطل فبخذلانه ضل وزاغ.

وقوله: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللّه فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} أخبر أن من أضله اللّه فلا هادي له، وعلى ما قال في المعيشة والرزق؛ قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {مَا يَفْتَحِ اللّه لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ}، وقال - عَزَّ وَجَلَّ - في الضراء والخير؛ حيث قال: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللّه بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ}، ذكر في الضلال والهدى ما ذكر في الرزق والضر والخير، ذلك أن للّه في فعلهم وصنعهم تدبيرًا، ليس على ما تقوله المعتزلة أن لا تدبير للّه في ذلك، وأن من اهتدى إنما يهتدي بنفسه، ومن ضل وزاغ إنما ذلك بنفسه، لا تدبير للّه في ذلك، فالآية

تنقض قولهم ومذهبهم.

وقتادة يقول في قوله: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللّه} وإنما يذكر اللّه أهل الإيمان، فكانت تقشعر بذلك جلودهم، وتبكي أعينهم، وتطمئن قلوبهم، ولا تذهب عقولهم منه، وأما أن يصرع أحدهم فلم يكن، وإنما كان هذا في أصحاب البدع، وربما هو من الشيطان، ولعمري ما كان في هذه الأمة أحد أعلم من نبيه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ومن بعده أصحابه الذين انتخبهم اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - لصحبة النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وإقامة دينه، ولقد سألنا من لقينا من أصحاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحاب أصحابه، فحدثوا أن هذا إنما كان في أهل البدع.

٢٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} كأنه لم يذكر مقابل هذا في هذا الموضع، فجائز أن يكون مقابله ما تقدم، وهو قوله: أفمن جعل له الغرف على الغرف تجري من تحتها الأنهار كمن يتقي بوجهه سوء العذاب، ليس هذا كذاك، ولا أحد يتقي بوجهه سوء العذاب، لكن يخرج ذكر ذلك على وجوه:

أحدها: كناية عن الشفعاء وأهل النصر، كأنه يقول: لا يكون لهم من يشفع أو يملك دفع العذاب عنهم.

أو تكون أيديهم مغلولة إلى أعناقهم بلا يد له يتقي بها سوء العذاب عن وجهه؛ لأن في الشاهد من أصاب شيئًا من العذاب يتقي ذلك العذاب عن وجهه بيده، فيخبر أن لا يد له في الآخرة يتقي العذاب بها عن وجهه؛ بل يصيب العذاب وجهه، فكأنما يتقي به.

أو أن يكون ذكر الوجه كناية عن نفسه، وهو ما ذكرنا ألا يكون له من يملك دفع العذاب عنه.

أو أن يكون ذكر الوجه كناية عن قلبه أي: يصل وجع ذلك العذاب إلى قلبه، ولا يملك دفعه، واللّه أعلم.

وقوله: (وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ).

يحتمل أي: ذوقوا جزاء ما كنتم تكسبون.

أو يقول: ذوقوا ما اخترتم من الكسب، وهذا بما اخترتم؛ لأنه قد بين لهم الكسبين جميعًا، وما يكون لكل كسب في العاقبة، فاختاروا هم الكسب الذي كان عاقبته الذي أصابهم، فكأنهم اختاروا ذلك الذي حل بهم باختيارهم ذلك الكسب، واللّه أعلم.

٢٥

وقوله: (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٢٥) ليخوفهم ويحذرهم ما نزل بالمتقدمين بتكذيب الرسل والعناد بعد ما حذرهم رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالبعث، وما حل بهم يوم القيامة بذلك؛ فإذ لم يصدقوه فيما يحذرهم يوم القيامة حذرهم بالذي انتهى إليهم الخبر، يعني: رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ ليحذروا.

٢٦

وقوله: {مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} أي: من حيث لا يأمنون العذاب أنى: ينزل بهم.

وقوله: (فَأَذَاقَهُمُ اللّه الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦) العذاب الذي نزل بهم في الدنيا ليس هو عذاب الكفر، إنما هو عذاب العناد، والتعنت، وأفعال فعلوها في حال الكفر، فهو في الآخرة أبد الآبدين فيه، خالدين مخلدين فيه؛ ولذلك قال: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}.

٢٧

وقوله: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ}، أي: بينا للناس في هذا القرآن من كل ما يحتاجون إليه من أمر دينهم ودنياهم؛ أخبر لهم ما لهم وما عليهم، أو لبعضهم على بعض، وأمثاله، واللّه أعلم.

وقوله: {لَعَلَّهُم يَتَذَكَّرُونَ}.

هذا يحتمل وجهين:

أحدهما: لكي يلزمهم التذكر والاتعاظ.

والثاني: لكي يبلغهم ما يتذكرون ويتعظون.

٢٨

وقوله: (قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨) أي: جعلناه قرآنًا عربيًّا؛ كقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا}، لكي يفقهوه ويعرفوه؛ كقوله - تعالى -: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ. . .} الآية.

وقوله: {غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} يحتمل وجهين:

أحدهما: أنه لا يخالف الكتب السالفة؛ بل يوافقها؛ لأن كتب اللّه جاءت كلها على الدعاء إلى توحيد اللّه وربوبيته، فكذلك القرآن، فهو لا يخالف سائر الكتب؛ بل يوافقها.

والثاني: لا عوج فيه؛ لما لا يخالف بعضه بعضًا، ولا يناقض؛ بل خرج كله موافقًا بعضه بعضًا مستقيمًا على تباعد نزوله في الأوقات، وباللّه التوفيق.

وأصله: {غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} أي: ليس بمائل ولا زائغ عن الحق.

وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي: يتقون المهالك، أو سخط اللّه ونقمته.

٢٩

وقوله: (ضَرَبَ اللّه مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ للّه بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٢٩) أي: لا يستويان.

يشبه أن يكون ما ذكر من المثل لرجلين من البشر كله: المسلمون والكافرون، ثم يحتمل الرجل الذي فيه شركاء متشاكسون؛ أي: يتشاكسون في نسبه، يدعي كل نسبه.

أو يتشاكسون في الملك فيه، يقول كل: هو لي أو في الملك في قوم يدعي كل أن الملك له فيه. أو يدعي كل أن الملك فيهم، ولا يثبت لواحد منهم النسب فيه لينتسب هو إلى واحد منهم، فيبقى متحيرًا تائهًا؛ ولذلك لا يثبت لواحد منهم الملك الذي يدعي؛ ليطلب هذا منه النفقة، وما يجب على ذي الملك من حقوق الملك، فسعى ضائعًا متحيرًا، وإذا كان الملك لرجل واحد، أو النسب أو الملك سالم له يصل إلى كل حق له، ويكون محفوظًا في نفسه معروفًا، فيكون مثل الذي فيه شركاء متشاكسون، هو الذي يعبد الشيطان أو الأصنام، أو هوى النفس، يدعو كل شيطان إلى غير الذي دعا الآخر، وكذلك الهوى يدعو صاحبه مرة إلى كذا، ومرة إلى غير ذلك، فهو كالذي فيه شركاء متشاكسون يدعي هذا وهذا، والذي يعبد إله الحق الذي يثبت ألوهيته بالحجج والآيات كالرجل السالم الواحد يكون أبدًا على حالة واحدة، مطيعًا للّه، خالصًا له.

وقوله: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} أي: هل يستوي الرجل الذي يدعي فيه شركاء متشاكسون والرجل الذي يكون لرجل واحد، فيما ذكرنا؟! أي: لا يستويان.

وقال أهل التأويل: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ} من يعبد آلهة شتى مختلفة، والذي يعبد ربًّا واحدًا، وهو المؤمن، وقد رأوا أنهم قد استووا في هذه الدنيا، وفي الحكمة التفريق بينهما، وفيه دلالة البعث، وكذلك في قوله: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا}، وقد استووا في هذه الدنيا دل أن هنالك دارًا أخرى يفرق بينهما فيها؛ إذ في الحكمة والعقل التفريق بينهما، واللّه أعلم.

وقوله: {الْحَمْدُ للّه بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} ذكر الحمد على أثر ذلك يخرج على وجهين:

أحدهما: أن يحمد ربه على ما خصه بالتوحيد من بين الكفار {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} توحيد ربهم.

والثاني: أمره أن يحمد ربه على ما جعله سالمًا خالصًا؛ لم يجعل فيه شركاء متشاكسين.

قال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: {شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} أي: مختلفون، يتنازعون، ويتشاحُّون {وَرَجُلًا سَلَمًا} أي: خالصًا.

ومن قرأ {سَلَمًا لِرَجُلٍ} أراد: سلم إليه، فهو سلم.

ثم قوله: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} يحتمل الأنبياء منهم والخواص؛ كقوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللّه مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}.

وجائز أن يكون أراد جميع المؤمنين، وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود: (تقشعر منه جلود الذين يؤمنون بربهم ثم تطمئن جلودهم وقلوبهم إلى ذكر اللّه) وفي حرف حفصة: (ثم يثبت جلودهم وقلوبهم إلى ذكر اللّه).

وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ}: يقول - واللّه أعلم -: ليس الضال الذي يتقي النار بوجهه كالمهتدي الذي لا تصل النار إلى وجهه؛ ليسا بسواء؛ على ما ذكرنا.

٣٠

(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) وجه ذكر هذا على أثر ما تقدم من قوله: {ضَرَبَ اللّه مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} وقد استووا في هذه الدنيا من أخلص نفسه ودينه للّه وللرسول، ومن جعل فيه شركاء ولم يسلم نفسه له، وهو الكافر، ثم تموت أنت ويموتون هم، فلو لم تكن دارٌ أخرى يميز فيها ويفرق بين الذي جعل نفسه

سلمًا للّه، خالصًا له، وبين من لم يفعل ذلك - لكان في ذلك استواء بين من ذكر، وفي

الحكمة أن لا استواء بينهما، وقد يموت السالم نفسه للّه، ويموت الآخر دل أن في ذلك بعثًا، يثاب هذا، ويعاقب الآخر، واللّه أعلم.

أو أن يذكر هذا؛ لما كانوا يتشاءمون برسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويتطيرون فيما يصيبهم من المصائب والشدائد، حتى قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}، أي: لا يخلدون، فعلى ذلك يقول - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} أيضًا، أي: لا

يبقون بعد موتك أبدًا، ولكنهم يموتون، ولو كان ما يصيبهم بك أنت على ما يزعمون، [فيجيء ألا يصيبهم بعد موتك؛ نحو هذا يحتمل، واللّه أعلم.

أو أن يقول: إنك ميت فتصل إلى ما وعد لك من الكرامات والثواب، ويموتون هم فيصلون إلى ما أوعدوا من المواعيد والعقوبات، واللّه أعلم.

٣١

ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١) روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: كنا لا لعلم ما يفسر هذه الآية، وكنا نقول: من يخاصم؟ فلما وقعت الفتنة بين أصحاب رسول اللّه، حتى كفح بعضنا وجوه بعض بالسيوف، فعرفت أنها نزلت فينا.

وذكر عن الزبير: لما نزلت هذه الآية، فقال: يا رسول اللّه، أتكرر علينا الخصومة بعد الذي كان بيننا في الدنيا، فقال: (نعم)، فقال: إن الأمر إذن لشديد.

وروي عن بعض الصحابة - رضوان اللّه عليهم أجمعين - لما نزلت هذه الآية أنهم قالوا: كيف نختصم ونحن إخوان؟! فلما قتل عثمان ظلمًا وعدوانا، علموا أنها لهم وفيهم، واللّه أعلم.

ثم خصومتهم هذه يوم القيامة تحتمل وجهين:

أحدهما: في المظالم أو في الحقوق التي كانت لبعض على بعض، أو في الدِّين، أو في أمر الدنيا.

أو أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} لما بلغت المحاجة غايتها في الدِّين والدنيا، ولم تنجع فيهم ولا قبلوها أخبر أنهم يختصمون في ذلك يوم القيامة في الوقت الذي يعاينون العذاب، ويظهر لهم الحق، فينقادون لها في ذلك الوقت، فلا ينفعهم ذلك، واللّه أعلم.

وفي حرف ابن مسعود: (إنك مائت وإنهم مائتون) والعرب تقول: مات يمات فهو مائت.

٣٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللّه وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (٣٢) يقول: لا ظلم أعظم ولا أفحش مما يكذب على من يتقلب في إحسانه، ويتصرف في نعمائه، وأنتم تتقلبون في نعم اللّه وأنواع إحسانه، فلا ظلم أعظم ولا أفحش من الكذب عليه.

{وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ} ولا ظلم أعظم وأفحش من تكذيب خبره ورده؛ إذ لا خبر أصدق من خبره، ولا حديث أحق من حديثه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} كأنه يقول: أليس جهنم كافٍ للكافرين مثوى؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا}، أي: حسبهم جهنم عقوبة لهم بكفرهم وتكذيبهم، واللّه أعلم.

٣٣

وقوله: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) اختلف أهل التأويل فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ}: جبريل، عليه السلام، {وَصَدَّقَ بِهِ}: مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ}: مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - {وَصَدَّقَ بِهِ} أبو بكر.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - {وَصَدَّقَ بِهِ} أصحابه جميعًا.

قلنا: أهل التأويل على اختلافهم اتفقوا أن الذي جاء به جبريل أو مُحَمَّد هو التوحيد، فإن كان التأويل ما ذكر أهل التأويل، فعلى ذلك قوله: {ذَلِكَ جَزَآءُ الْمُحَسِنِينَ} أي: الموحدين، ففيه نقض قول الخوارج والمعتزلة أنَّ صاحب الكبيرة ليس بمؤمن، وأنه يخلد

في النار؛ لأنه قال: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} وكل مرتكب الكبيرة مصدق بالذي جاء به جبريل ومُحَمَّد، ثم أخبر أنهم هم المتقون؛ أي: اتقوا الشرك، وقال لأُولَئِكَ - أيضًا -: إنه يكفر عنهم ما ارتكبوا من المساوي، وهو قوله: {لِيُكَفِّرَ اللّه عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا} دل أن لهم مساوي، ثم إن شاء عذب على تلك المساوئ وقتا ثم أعطاهم ما وعد، وإن شاء عفا عنهم وتجاوز وأعطاهم ما ذكر، فكيفما كان، فلهم ما ذكر؛ إذ هم على تصديق بما جاء به مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، واللّه أعلم.

وجائز أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} يحتمل وجهين:

أحدهما: صدق بقلبه؛ أي: جاء بالقول وتصديق القلب.

والثاني: صدق به في المعاملة في اختيار كل ما يصلح ويوافق الذي جاء به، وعلى ذلك ذكر عن الحسن قال: يا ابن آدم، قلت: لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه، فصدقها.

فإن كان التأويل هذا فهو أشد، لكنه وإن لم يعمل الذي يوافق الذي جاء به وهو التوحيد لم يجتنب ما ذكرنا، فإن له ما ذكر إما بعد التوحيد، وإما بعد العفو، واللّه أعلم.

٣٤

وقوله: (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) دل هذا أن ذلك الوعد للجماعة، ليس لواحد ولا اثنين، وهو لجميع المؤمنين.

٣٥

وقوله: (لِيُكَفِّرَ اللّه عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥) ذكر نوعين من العمل السيئ والحسن، ثم أخبر أنه يكفر عنهم أسوا الذي عملوا ويجزيهم بأحسن الذي كانوا يعملون، فيحتمل: الأحسن: الحسنات نفسها يجزيها، ويكفر السيئات.

ويحتمل أنه يكفر أسوأ السيئات وأعظمها، ويجزي على أحسن الحسنات وأعظمها، فعلى هذا أحسن وأسوأ من نوعها، أحسن الحسنات وأسوأ السيئات، وعلى الأول من غير نوعها أي يكفر السيئات، ويجزي بالحسنات، واللّه أعلم.

٣٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَيْسَ اللّه بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللّه فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (٣٦) و [{عِبَادَهُ}] أيضًا.

الآية يحتج بها على إثبات الرسالة، وكذلك قوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللّه لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}، وكذلك قوله: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللّه فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ}، ونحو ذلك، وأمثاله كثير؛ لأنه بعثه وحده، لا عون معه، ولا نصر له من البشر رسولا إلى الأعداء، وكان يقرع أسماعهم بهذه الآيات التي ذكرنا، وغير ذلك من قوله: {ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ}، ثم لم يقدروا على إهلاكه؛ بل عصمه من كيدهم ومكرهم؛ على ما قال: {وَاللّه يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، فبلغ إليهم ما أمر بتبليغه من غير أن قدروا على ما قصدوا به، وفي ذلك لطف من اللّه عظيم، ودلالة على إثبات الرسالة.

ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَلَيْسَ اللّه بِكَافٍ عَبْدَهُ} وإن خرج مخرج الاستفهام في الظاهر فهو -في الحقيقة- على الإيجاب والتقرير؛ لأنهم كانوا يعلمون أن اللّه - عز وجل - هو الكافي لخلقه، من ذلك أنهم إذا سئلوا: من خلق السماوات والأرض؟ قالوا: اللّه - تعالى - وإذا سئلوا من يرزقكم؟ قالوا: اللّه - تعالى - ومن أنزل من السماء ماء؟ ومن أخرج من الأرض النبات؟ ونحو ذلك - قالوا: اللّه، فعلى ذلك قوله: {أَلَيْسَ اللّه بِكَافٍ عَبْدَهُ} أي: تعلمون أن اللّه هو الكافي لجميع خلقه في الدفع والذبّ عنهم، والنصر لهم، فإذا عرفتم ذلك فكيف تخوفون رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالذي تخوفونه؟ واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ}، اختلف فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: بأهل الأرض جميعًا، يقولون له: إن العرب تفعل بك كذا، ويعملون بك كذا، كانوا يخوفونه بهم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: كانوا يخوفونه بالأصنام التي كانوا يعبدونها أن يصيبه سوء وأذى من ناحيتها؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ}، وكأن هذا أشبه بالآية؛ لأنه ذكر على إثر ذلك وعقبه الأصنام؛ حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه إِنْ أَرَادَنِيَ اللّه بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} هو هذا يدل أن ما ذكر من تخويفهم إياه إنما كان بالأصنام التي كانوا يعبدونها.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللّه فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللّه فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ ... (٣٧) أخبر أنه إذا أراد هداية أحدكم لم يملك أحد إضلاله، وإذا أراد إضلال أحد لم يقدر أحد على هدايته، ذكر في الدِّين أن لا أحد يملك دفع ما أراد من هدى أو ضلال، ولا منعه على ذلك؛ على ما ذكر في الرزق وأسباب العيش، وعلى ما ذكر في الأنفس وحفظها؛ حيث قال: {مَا يَفْتَحِ اللّه لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ}، وقال في الأنفس: {إِنْ أَرَادَنِيَ اللّه بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ}، وقد اجتمعوا في ذلك في الرزق والعيش وضرر الأنفس وحفظها أن لا أحد يملك دفع ما أراد هو، فعلى ذلك في الدِّين؛ لأن الذكر خرج في الكل على مخرج واحد، وذلك على المعتزلة لقولهم: إن اللّه - تعالى - قد أراد هداية كل أحد، ونصر كل ولي، لكن غيره منعه عن ذلك؛ فهو [وخش] من القول سمج، وباللّه العصمة والنجاة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَلَيْسَ اللّه بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ} هو على الإيجاب والتقرير؛ أي: يعلمون أنه عزيز ذو انتقام؛ أي: عزيز لا يعجزه شيء، ذو انتقام لأوليائه من أعدائه.

٣٨

وقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّه قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه إِنْ أَرَادَنِيَ اللّه بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللّه عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨) قد علموا أن لا خالق سواه، وعرفوا أنه لا يملك أحد سواه كشف ما أراد هو من الضرر بأحد، ولا إمساك ما أراد من الرحمة بأحد؛ ولذلك فزعوا إليه عند نزول البلاء بهم، ولم يفزعوا إلى من عبدوهم من دونه من الأصنام، ولا إلى أحد من الخالقين؛ دل ذلك على أنهم قد عرفوا أن ذلك به ينال من خير أو غيره؛ ولذلك فزعوا إليه عند نزول البلاء بهم، ولم يفزعوا إلى من عبدوهم من دونه من الأصنام، احتج عليهم بما احتج، ولو لم يكونوا علموا بذلك لم يكن ليحتج عليهم بذلك، وهم لذلك منكرون، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قُلْ حَسْبِيَ اللّه عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} في قوله: {حَسْبِيَ اللّه} ما ذكرنا من اللطف والدلالة على إثبات الرسالة، واللّه أعلم.

٣٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) هذا يحتمل وجهين:

أحدهما: على الإياس منهم أنهم لا يؤمنون ولا يجيبون إلى ما دعوا إليه بعد ما أقيم عليهم الحجج والبراهين؛ كأنه يقول: اثبتوا أنتم على دينكم واعملوا له، ونثبت نحن على ديننا ونعمل له، فسوف تعلمون أينا على الحق نحن أو أنتم؟ وهو كقوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}، أي: لا أدين أنا بدينكم، ولا أنتم تدينون بديننا، ولكن يلزم كل منا

دينه الذي عليه، فعلى ذلك الأول.

والثاني: على التوبيخ لهم والتعيير؛ يقول: اعملوا على مكانتكم أنتم مما تقدرون من الكيد لي والمكر، وأنا عامل ذلك بمكانتكم؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ}، وغير ذلك من الآيات التي فيها ذكر توبيخهم وتعييرهم، واللّه أعلم.

وفي هذه الآية وفيما تقدم من قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَلَيْسَ اللّه بِكَافٍ عَبْدَهُ} إلى هذا الموضع تقرير وتوبيخ ومنابذة وإياس، فأما الإياس فهو في قوله: {يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} والتقرير في قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّه} والمنابذة في قوله: {حَسْبِيَ اللّه عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}، والتوبيخ في قوله: {أَلَيْسَ اللّه بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ}.

ثم جائز أن يكون قوله: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللّه فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ. وَمَنْ يَهْدِ اللّه فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} يخرج على الصلة بقوله: {أَلَيْسَ اللّه بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} كأنه يقول: من أضله اللّه حتى لا يعلم أن اللّه هو كاف عبده، وأن ما يخوفونه به لا يقع به خوف ولا يلحق به ضرر - فلا هادي له، ومن هداه فعرف ذلك، فلا مضل له عن ذلك، واللّه أعلم بذلك.

٤٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (٤٠) جائز أن يكون ذلك العذاب الذي يأتيه هو عذاب في الدنيا من نحو القتل والتعذيب بالذي أهلك الأولون المعاندون للرسول {يُخْزِيهِ} أي: يفضحه {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} في الآخرة، وهو عذاب الكفر، وإلى ذلك ذهب بعض أهل التأويل.

وجائز أن يكون ذلك كله في الآخرة، واللّه أعلم.

٤١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١) هذا كأنه - واللّه أعلم -: إنا أنزلنا عليك الكتاب لتحكم بين الناس بالعدل؛ على ما ذكر في آية أخرى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ}، فعلى ذلك هذا، ويكون قوله: {فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} أنشأ اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - البشر دراكًا مميزًا بين الخبيث والطيب، وبين الحسن والقبيح، وبين ما لهم وما عليهم، وبين السبيلين جميعًا غاية البيان، وأوضح كل سبيل نهاية الإيضاح، من سلكه أنه إلى ماذا يفضيه وينهيه، ثم امتحنهم في ذلك، ومكن لهم من السلوك في كل واحد من السبيلين بعد البيان منه أنه من سلك سبيل كذا أفضاه إلى كذا، ومن يسلك سبيل كذا أفضاه إلى كذا؛ امتحانًا منه، ثم أخبر أنه

فيما امتحنهم لم يمتحنهم لمنفعة ترجع إليه، أو لمضرة يدفع عن نفسه، ولكن إنما امتحنهم لمنفعة ترجع إليهم إذا اختاروا ترك سلوك سبيل الباطل، وهو ما ذكر في غير آي من القرآن، إحداها هذه؛ حيث قال: {فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا}.

والثانية: بما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} أي: فعليها، وغير ذلك من الآيات التي تبين أنه إنما امتحنهم لمنفعة أنفسهم واكتساب الخير الدائم لهم، ولا قوة إلا باللّه.

ثم قوله: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} يخبر أن ليس عليك إلا تبليغ ما أرسلت وأمرت بتبليغه إليهم؛ كقوله: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ}، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ}، وقوله - تعالى -: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ}،

وقوله: {وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا}، والوكيل: الحفيظ، واللّه أعلم.

٤٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اللّه يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢) إلى آخر ما ذكر.

قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: كل نفس لها سبب تجري فيه؛ فالتي قضي عليها الموت فتجري في الجسد كله.

لكن لم يفهم مما ذكر ابن عَبَّاسٍ تأويل الآية.

وعن سعيد بن جبير قال: يجمع بين أرواح الأحياء وبين أرواح الأموات فيتعارف ما شاء اللّه أن يتعارف، فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجسادها، وبهذا - أيضًا - لم يفهم شيء من تأويل الآية.

وقال الكلبي: النائم متوفى حتى يرد اللّه إليه روحه، فأما التي يتوفاها حين موتها فإنه يقبض الروح والنفس جميعًا ويرسل التي يتوفاها في منامها حتى تبلغ أجلها المسمى، وهو الموت.

ويقال: إنما يقبض اللّه من النائم النفس، والروح في الجسد لم تفارقه، فإذا قبض اللّه الروح ذهبت النفس مع الروح.

وهذا الذي ذكره الكلبي أقرب إلى تأويل الآية من الذي ذكره أُولَئِكَ، وأصله: أن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - جعل في الأجساد أشياء وأرواحًا يحيي الأجساد في حال نومها على الهيئة التي كانت من قبل، ليس بها أثر الموت، لكنها لا تدرك شيئًا، ولا تسمع، ولا تبصر، ولا تعقل شيئًا، وبها آثار الحياة؛ يدلنا هذا على أنها في حال النوم قد ذهب منها،

وخرج ما به تدرك الأشياء، وبقي منها ما به تحيا، وهو الروح، فإذا خرجت الروح منها، وإن كانت لا تدرك شيئًا على الهيئة التي كانت من قبل، دل ذلك على أن الذي به تدرك الأشياء غير الذي به تحيا؛ واللّه أعلم؛ ألا ترى أنها في حال النوم تلك الأنفس الدراكة حيث كانت تتألم وتتلذذ، وتقضي الشهوات وهي في أقصى الدنيا، هذا كله يدل على ما ذكرنا، واللّه أعلم.

ثم على هذا جائز أن يكون ما ذكر من عذاب القبر أنه إنما يكون على تلذذ الأنفس الدراكة، لا على الروح؛ على ما ذكرنا من تألمها وتلذذها بعد خروجها من الأجساد ومفارقتها عنها، واللّه أعلم.

ثم أضاف في هذه الآية التوفي إلى اللّه، وفي آية أخرى أضافه إلى الرسل؛ حيث قال اللّه - عَزَّ وَجَلَّ -: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا. . .} الآية، وأضافه مرة إلى ملك الموت حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ. . .} الآية، ثم يحتمل إضافة التوفي إلى الرسل وإلى ملك الموت وجهين:

أحدهما: وإن كان حقيقة التوفي والموت باللّه؛ لما يخلق فعل قبضهم الروح منها، ويشاء ذلك منهم، وهو كما ذكر من البشرى لهم وطمأنينة القلوب عند بعثه إليهم الملائكة بالإعانة لهم والنصر؛ حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا جَعَلَهُ اللّه إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ}، وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللّه}، أخبر أنه جعل لهم بعث الملائكة بشارة النصر، وأن حقيقة النصر ليس إلا من عند اللّه، فعلى ذلك ما ذكر من إضافة التوفي إلى الرسل؛ لما يخلق فعل قبضهم الروح، وكان حقيقة ذلك للّه - عَزَّ وَجَلَّ - واللّه أعلم.

والثاني: أن يكون من اللّه لطف في ذلك، ومعنى لا يكون ذلك منهم، لكنه لم يبين ما ذلك اللطف وذلك المعنى الذي يكون منه، واللّه أعلم بذلك.

ثم قوله: {يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} أي: حين خلق موتها يقبض الروح منها.

وقوله: {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} لم يقبض منها الروح ترسل إليها النفس الدراكة إلى الأجل الذي جعل لها، واللّه أعلم.

وقوله: {يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} جائز أن يكون من القبض؛ أي: يقبض الأنفس.

وجائز أن يكون من العد؛ كقوله: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا}.

وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} يحتمل قوله: {لَآيَاتٍ}: العبر، أو الأعلام، أو الحجج.

وقوله: {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} يعلمون أن من قدر على استخراج تلك الأنفس الدراكة من الأجساد، وإبقائها على الهيئة التي كانت إلى الوقت لا تدرك شيئًا، ثم ردها إليها، وإعادتها على ما كانت - قادر بذاته، لا يعجزه شيء.

أو من قدر على إنشاء النفس الدراكة في الأجساد حتى تدرك بها، لا يحتمل أن يعجز عن إعادة الأجساد بعد ما بليت وفنيت، وذاك ألطف من هذا وأكبر؛ لأن الناس قد يتكلفون تصوير صور الأنفس الظاهرة ولا أحد يتكلف تصوير نفس دراكة من غيرها، واللّه أعلم.

٤٣

وقوله: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّه شُفَعَاءَ}.

على ما ذكرنا فيما تقدم في غير موضع: أن حرف الاستفهام والشك إذا أضيف إلى اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - فهو على الإيجاب والإلزام، ثم قال بعض أهل التأريل: إن قوله - عز وجل -: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّه شُفَعَاءَ} هم الملائكة الذين عبدوها لكنه بعيد؛ لأنه قال - عَزَّ وَجَلَّ - بعد ذلك: {قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ}، والملائكة أهل العقل والعلم، وإنهم يملكون ذلك إذا جعل لهم وملكوا، لكن الآية في الأصنام التي كانوا يعبدونها من دون اللّه؛ على رجاء أن تشفع لهم وتقربهم عبادتهم إياها إلى اللّه زلفى؛ لقولهم: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عَندَ اللّه}، وقولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى}؛ فهو أشبه بالأصنام التي كانوا يعبدونها من الملائكة، واللّه أعلم.

ثم قوله: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّه شُفَعَاءَ} يخرج على وجهين:

أحدهما: بل اتخذوا بعبادة من عبدوه من دون اللّه شفعاء لأنفسهم، ولا يكونون شفعاء لهم، ولا يملكون ذلك ولا يفعلون.

والثاني: بل اتخذوا لأنفسهم من دون اللّه شفعاء، ولا يملك أحد جعل الشفاعة لأحد

دون اللّه، إلا من جعل اللّه له الشفاعة، ولا يجعل اللّه لأحد الشفاعة إلا من كان له عند اللّه عهد، أو من ارتضى له الشفاعة؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا}،

وقوله: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى}، يدل على هذا قوله؛ حيث قال: {أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ}.

٤٤

وقوله: (قُلْ للّه الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤)

هو ما ذكرنا: هو المالك الشفاعة جميعًا، لا يملك أحد سواه إلا من جعل اللّه له الشفاعة وارتضى له، فأمَّا أن يملك أحد سواه اتخاذ الشفاعة لنفسه، أو جعل الشفاعة لنفسه فلا، واللّه الموفق.

وقوله: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.

في البعث، أو يرجعون إلى ما أعد اللّه لهم، واللّه أعلم.

٤٥

وقوله: (وَإِذَا ذُكِرَ اللّه وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥)

قال بعض أهل التأويل: إذا ذكر النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - توحيد اللّه في القرآن {اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ}، أي: نفرت؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ - في بني إسرائيل: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا}، وإذا ذكر النبي - عَزَّ وَجَلَّ - الذين عبدوا من دونه الآلهة؛ كقوله في سورة النجم؛ حيث قال: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى. وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى}، وألقى الشيطان في فمه: " تلك الغرانيق العلا، منها الشفاعة لترتجى "؛ ففرح الكفار حين سمعوا أن لها شفاعة: إلى هذا يذهب مقاتل وغيره، لكنه ليس كذا، وغير هذا كأنه أولى به وأقرب، وهو أن قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِذَا ذُكِرَ اللّه وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ}، أي: إذا ذكر النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - توحيد اللّه وألوهيته، أو ذكر هذا أهل التوحيد وهذا الألوهية ممن عبدوا دونه {اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ}، أي: نفرت وأنكرت؛ كقولهم: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}.

وقوله - عزَّ وجلَّ -: {وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ}: وإذا ذكر أهل الكفر الذين عبدوا من دونه عبادتهم إياها وخلوتهم بها إذا هم يفرحون ويستبشرون، واللّه أعلم.

وقوله: {اشْمَأَزَّتْ}،

قَالَ بَعْضُهُمْ: أبغضت ونفرت.

وقَالَ الْقُتَبِيُّ وأَبُو عَوْسَجَةَ: {اشْمَأَزَّتْ}: أنكرت وذعرت، ويقال في الكلام: ما لي أراك مشمئزا؟ أي: مذعورًا، ويقال: اشمأز المكان، أي: بعد.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {اشْمَأَزَّتْ}: استكبرت وكفرت، واللّه أعلم.

٤٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلِ اللّهمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦)

أمر رسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يقول لهم، وهو كلام التوحيد.

وقوله: {فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يحتمل: مبدئ، ويحتمل: مبدع، أو خالق السموات والأرض، واللّه أعلم.

وقوله: {عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}.

يحتمل قوله: {عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} ما أشهد الخلق بعضهم على بعض، هو عالم ذلك كله.

أو الغيب: ما غاب عن الخلق كلهم، والشهادة ما شهده الخلق.

أو أن يكون قوله: {عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}، أي: عالم ما يكون أنه يكون، والشهادة: ما قد كان، يعلم ذلك كله: يعلم ما يكون أنه يكون، وما كان يعلمه كائنًا، واللّه أعلم.

وقوله: {أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}.

يوم القيامة؛ كقوله: {فَاللّه يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. . .} الآية.

أو أن يكون قوله: {أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}: في هذه الدنيا، فهو يخرج على وجوه:

أحدها: ما جعل اللّه في خلقتهم إثبات الصانع وشهادة الوحدانية للّه - عَزَّ وَجَلَّ - وألوهيته.

والثاني: بما أنزل اللّه من الكتب والرسل، وبين لهم فيها ما لهم وما عليهم.

ثم إن كان في الآخرة فجائز ألا يكون يحكم بيننا فيما وسع علينا الحكم في الأمر في الدنيا، ويرتفع المحنة به في الآخرة من نحو الأحكام التي سبيل معرفتها بالاجتهاد، ولا يحكم بيننا بشيء من ذلك، وأما ما كان غير موسع علينا في الدنيا ترك ذلك، وهو مما لا يرتفع المحنة به في الدارين جميعًا: من نحو التوحيد والدِّين فذلك يحكم بيننا في الآخرة، واللّه أعلم.

٤٧

وقوله: (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللّه مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧)

كأنه - واللّه أعلم - يذكر لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ليصبره على أذاهم إياه، وأن يشفق عليهم بما ينزل بهم في الآخرة؛ لأنه أخبر عن عظيم ما ينزل بهم: أنهم مع بخلهم وضنهم بهذه الدنيا لو كان ما في الأرض من الأموال، وضعف ذلك أيضًا لهم، لافتدوا بذلك كله من سوء ما ينزل بهم من العذاب، وكذلك ما ذكر من قوله: {وَإِذَا ذُكِرَ اللّه وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} ويخبر عن سوء معاملتهم ربهم، على علم منه أنهم يؤذون رسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأن ذلك يشتد عليه ويشق؛ لينظر أنهم كيف عاملوا ربهم من سوء المعاملة؛ ليصبر هو على سوء معاملتهم إياه ولا يترك الرحمة والشفقة عليهم بما ينزل بهم في الآخرة من سوء العذاب، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللّه مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ}.

قال بعض أهل التأويل: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللّه}: من شهادة الجوارح عليهم والنطق مالم يكونوا يحتسبون ذلك، ولكن غير هذا كأنه أقرب: بدا لهم من الهوان والعذاب لهم في الآخرة ما لم يكونوا يحتسبون.

ثم هو يخرج على وجهين:

أحدهما: أنهم كانوا يقولون: حيث فضلنا اللّه في هذه الدنيا بفضول الأموال والكرامة؛ فعلى ذلك نكون في الآخرة مفضلين عليهم كما كنا في الدنيا؛ ولذلك قالوا: {وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ}، وقولهم: {إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ}، ونحوه؛ فبدا لهم وظهر في الآخرة ما لم يكونوا يحتسبون ما ذكرنا من الهوان لهم والعذاب.

والثاني: كانوا ينكرون رسالة نبينا - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويقولون: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}، وقالوا: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا. . .} الآية، ونحو ذلك من الكلام؛ كقولهم - أيضًا -: {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ}: لا يرون الرسالة توضع إلا في العظيم من أمر الدنيا؛ فأخبر أنه يبدو لهم ما لم يكونوا يحتسبون؛ لما ذكرنا، واللّه أعلم.

٤٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (٤٨)

يحتمل قوله: {بَدَا}، أي: ظهر لهم جميع ما صنعوا في الدنيا في الآخرة؛ حتى حفظوا وذكروا ذلك كله.

والثاني: بدا لهم ما حسبوا حسنات سيئات، واللّه أعلم.

أو أن يكون ذلك في الجزاء، أي: بدا لهم وظهر جزاء ما كسبوا؛ يدل على ذلك

قوله: {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ}، واللّه أعلم.

٤٩

وقوله: {فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا}.

لا يحتمل أن يكون أراد: كل إنسان يكون على ما وصف وذكر، ولكنه إنسان دون إنسان، ولا يجب أن يشار إلى واحد أنه فلان، وكذلك ما ذكر من مس الضر به لا يشار إلى ضر دون ضر؛ ولكن ما أعلم اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - رسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه ماذا؟ لأن ذلك يخرج مخرج الشهادة على اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - والامتناع عن الإشارة إليه، والتسمية له أسلم.

ثم كانت عادة أُولَئِكَ الكفرة - لعنهم اللّه - عند نزول البلاء بهم والشدة الفزع إلى اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - وإخلاص الدعاء له؛ فبعد الكشف عنهم ذلك يقع العود إلى ما كانوا من قبل، على ما ذكرهم في آي من القرآن.

ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا}، أي: أعطيناه نعمة، أو ملكناه نعمة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ}.

أي: على حيلة مني أعطيت ذلك.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما أوتيته على شرف ومنزلة، علمه اللّه مني.

وقال قتادة: على خير علمه اللّه عندي.

وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: (إنما آتانيه اللّه على علم).

وقَالَ بَعْضُهُمْ: ما ذكرنا قال: إنما أوتيته على علم وشرف أعطيت ذلك.

قال اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - ردَّا لقوله: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ}.

والفتنة هي المحنة التي فيها شدة، أي: بل هي محنة فيها شدة وبلاء، والمحنة من اللّه

بأمر وبنهي، أي: فيها أمر ونهي.

{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}.

أنه لم يعط لفضل وشرف له أو حيلة منه؛ ولكنه لأمر ونهي، واللّه أعلم.

٥٠

وقوله: (قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ... (٥٠) عين ما قال هذا الرجل؛ حيث قال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ}؛ كان من قارون حين قال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}، ولم يزل العادة من الكفرة والرؤساء منهم وأهل الثروة قائلين بمثل هذا الكلام والقول، وهو ما أخبر عن قوم فرعون - حين قالوا -: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ}، وما قال أهل مكة: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}، وغير ذلك من أمثال هذا، لم يزالوا قائلين هذا.

ثم أخبر أن ذلك لم يغنهم حيث قال: {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}.

هذا يحتمل وجهين:

أحدهما: ما قالوا: إنما أوتينا هذا بحيل من عندنا واكتساب، أخبر أن ذلك لم يغنهم عن دفع عذاب اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - عنهم إذا نزل بهم، واللّه أعلم.

٥١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا ... (٥١)

يوعد أهل مكة ويخوفهم أنه ينزل بهم ويصيبهم بكسبهم الذي يكتسبون كما نزل بأُولَئِكَ الأوائل بمثل كسبهم وصنيعهم.

وقوله: {وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ}.

أي: ما هم بمعجزين عما يريد بهم من الانتقام منهم والتعذيب، واللّه أعلم.

٥٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللّه يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ... (٥٢)

يذكر هذا أن اللّه يبسط الرزق لمن يشاء لا لكرامة وفضل عند اللّه ولا لحق قبله، ويضيق على من يشاء لا لهوان له عنده ولا لجناية؛ ولكن امتحانا لهم بمختلف الأحوال: يمتحن هذا بالسعة؛ ليستأدي به منه الشكر، ويضيق على هذا؛ يطلب منه الصبر على ذلك.

أو يمتحن بعضهم بالسعة، وبعضهم بالشدة والضيق؛ ليعلموا أن ذلك كله في يد غيرهم، لا في أيديهم؛ إذ يمتحنهم بمختلف الأحوال ليكونوا -أبدا- فزعين إلى اللّه في كل وقت وكل ساعة، ولو كان السعة والنعمة لكرامة عند اللّه وفضل - على ما ظن

أُولَئِكَ - لكان لا يحتمل ذلك مختلفي المذهب الذي يناقض بعضه بعضا ويضاد بعضه بعضًا: نحو المسلم والكافر، وقد وسع على المسلم ووسع على الكافر، وقد ضيق عليهما جميعًا؛ يدل أن التوسيع ليس للكرامة والمنزلة عند اللّه أو لحق عليه، ولا التضييق والتقتير لهوان؛ إذ لو كان لذلك لكان لا يجمع بين متضاد المذهب ومختلفهما؛ فإذا جمع دل أنه لمعنى الامتحان، لا لما ظن أُولَئِكَ، واللّه أعلم.

وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ}، فيما ذكر من التوسيع والبسط والتضييق والتقتير، {لَآيَاتٍ}، أي: لعبرة وعظة، {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}:

يؤمنون أنه لم يوسع على ما وسع لكرامته عند اللّه ومنزلته وفضله، ولا ضيق على من ضيق لهوان له عنده ولا جناية، واللّه أعلم.

٥٣

وقوله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّه}.

قال بعض أهل التأويل: إن الآية نزلت في شأن الوحشي قاتل حمزة بن عبد المطلب في الجاهلية أنه أراد أن يسلم الوحشي؛ فذكر ما كان منه من قتله حمزة - رضي اللّه عنه - فظن أنه لا يقبل منه؛ لعظم جنايته؛ فنزلت الآية على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لينبئه، وأخبر أنه لا يقبل منه بعد ذلك، واللّه أعلم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا؛ ولكن ناسًا قد أصابوا ذنوبًا عظامًا في الجاهلية من نحو القتل والزنا وكبائر؛ فأشفقوا ألا يتاب عليهم؛ فأنزل اللّه هذه الآية يدعوهم إلى التوبة والإسلام، وأطمع لهم القبول منهم والتجاوز عما كان منهم، وهو كأنه أولى؛ لأن الوحشي من كان

حتى ينزل اللّه الآية بشأنه خاصة؟!

ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّه} يحتمل وجهين:

أحدهما: يقول - واللّه أعلم -: {يَا عِبَادِيَ} الذين جنوا على أنفسهم، وأوردوها المهالك بارتكاب ما ارتكبوا من الإسراف والكبائر {لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّه}؛ فإن قنوطكم من رحمة اللّه وإياسكم منه لا يغفر ولا يجاوز وذلك أعظم وأفظع؛ إذ رجع أحدهما إلى أنفسهم والآخر إلى رحمة اللّه وفضله.

والثاني: يقول: إنكم وإن أسرفتم فيما ارتكبتم من الكبائر والفواحش، وأعرضتم عن أمر اللّه فلا تقنطوا من رحمة اللّه بعد إذ تبتم عما كنتم فيه، ورجعتم عما كان منكم وأما في الوقت الذي خرجت أنفسكم من أيديكم؛ فلا يقبل ذلك منكم، وهو وقت نزول العذاب بهم وإشرافه عليهم؛ لأن التوبة في ذلك الوقت توبة اضطرار وتوبة دفع العذاب عن أنفسكم؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللّه وَحْدَهُ}، ثم أخبر أنه لا ينفعهم الإيمان في ذلك الوقت الذي خرجت أنفسهم من أيديهم؛ حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا}، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ اللّه يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}.

لمن يشاء.

{إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.

وذكر عن علي بن أبي طالب - كرم اللّه وجهه - أنه قال: أرجى آية في القرآن هذه الآية، وذكر أن سورة الزمر كلها نزلت بمكة إلا هذه الآية؛ فإنها نزلت بالمدينة، واللّه أعلم.

٥٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (٥٤)

كأنها صلة ما تقدم من قوله: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّه} بعد إذ أقبلتم إلى قبول ما دعيتم إليه ورجعتم عما كان منكم، ثم قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ}:

قَالَ بَعْضُهُمْ: أنيبوا بقلوبكم إلى طاعة ربكم، وأخلصوا له تلك الطاعة، ولا تشركوا فيها غيره.

قيل: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ}، أي: ارجعوا إلى ما أمركم ربكم، {وَأَسْلِمُوا لَهُ}، أي: أخلصوا له التوحيد، أو أن يقول: اجعلوا كل شيء منكم له.

وأصل الإنابة: هو الرجوع إلى طاعة اللّه والنزوع عما كان عليه لأمر اللّه، يقول - عز وجل -: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ. . .} الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} يقول - واللّه أعلم - على الصلة بالأول: أن أنيبوا له وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب؛ فلا يقبل منكم الإنابة والتوبة؛ إذ أقبل عليكم العذاب.

{ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ}.

هذا يحتمل وجهين:

أحدهما: ثم لا تنصرون بإنابتكم إلى اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - في ذلك الوقت الذي أقبل عليكم العذاب فيه، على ما ذكرنا، أي: لا تخافون من ذلك الوقت.

والثاني: لا تنصرون بعبادة من عبدتموه من الأصنام والأوثان؛ على رجاء أن يشفع لكم ويدفع عنكم العذاب.

أي: أنيبوا إلى عبادة اللّه الحق قبل نزول العذاب بكم؛ فإنكم إن كنتم على عبادة من تعبدون دونه لا تنصرون، واللّه أعلم.

٥٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ... (٥٥)

يحتمل وجوهًا:

أحدها: كأنه يقول: اتبعوا ما أمركم ربكم، وانتهوا عما نهاكم ربكم عنه.

والثاني: اتبعوا ما في القرآن وأحلوا حلاله، وحرموا حرامه واجتنبوه، يقول: اعملوا به وبادروا في العمل به من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة.

والثالث: أن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - قد بين السبيلين جميعًا: سبيل الخير والشر على الإبلاغ؛ فيقول: اتبعوا سبيل الخير منه، ولا تتبعوا سبيل الشر؛ فيكون تأويل هذا كأنه يقول: اتبعوا الحسن منه، ولا تتبعوا غيره، ونحو ذلك، وقد ذكرناه فيما تقدم، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}.

كأنه موصول بالأول، يقول: لا يؤخرون الإنابة إليه والتوبة، فإن العذاب لعله سينزل

بكم في وقت لا تشعرون أنتم به، ولا تقدرون أن ترجعوا إليه وتنيبوا، واللّه أعلم.

٥٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللّه وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦)

هذا وما بعده من الآيات كأنه موصول بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} من قبل {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللّه. . .} الآية.

وقبل أن تقول: {لَوْ أَنَّ اللّه هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}، وقبل أن تقول {حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}، كأن كل ذلك صلة ما تقدم من قوله: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ}، {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} من قبل أن يقول ما ذكر، في وقت لا ينفعه ذلك القول ولا يغنيه من عذاب اللّه، ولا يدفعه.

ثم قوله: {عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللّه}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: في ذات اللّه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: ما فرطت وضيعت من أمر اللّه، وأمثال ذلك، ولسنا نحتاج إلى تفسير قول ذلك الرجل الذي كان منه حتى قال ذلك، وهو تضييع توحيد اللّه أو تضييع حد اللّه، أو ما كان فيه من تكذيب البعث؛ يتأسف على ما كان منه من تضييع ما ذكرنا: من توحيد اللّه وحدوده، أو كفران نعمه، أو إنكاره ما ذكرنا من البعث، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ}:

قَالَ بَعْضُهُمْ: {وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ}: من القرآن.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: من أهل توحيد اللّه.

قال قتادة: لم يكتف أن ضيع طاعة اللّه حتى جعل يسخر من أهل طاعته،

وقال: هذا قول صنف منهم.

٥٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللّه هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧)

قول صنف منهم جائز ما قال: إن كل قول من ذلك قول صنف، على ما قال قتادة. وجائز أن يكون كل ذلك من كل كافر، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَوْ أَنَّ اللّه هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}.

ذلك الكافر الذي قال هذا القول أعرف بهداية اللّه من المعتزلة، وكذلك ما قال أُولَئِكَ الكفرة لأتباعهم؛ حيث قالوا: {لَوْ هَدَانَا اللّه لَهَدَيْنَاكُمْ}، يقولون: لو وفقنا

اللّه للّهداية وأعطانا الهدى لدعوناكم إليه، ولكن حيث علم منّا: اختيار الضلال والغواية، وترك الرغبة إلى الهدى والاستخفاف به - أضلنا وخذلنا ولم يوفقنا.

والمعتزلة يقولون: بل هداهم اللّه وأعطاهم التوفيق، لكنهم لم يهتدوا.

فَإِنْ قِيلَ: هذا قول أهل الكفر؛ فلا دلالة فيه لما تذكرون.

قيل: وإن كان ذلك قول الكفرة، فذلك القول منهم عند معاينة العذاب؛ فلو كان على خلاف ما ذكروا لكان اللّه يكذبهم في ذلك؛ كما كذبهم في أشياء قالوها؛ حيث قالوا: {فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا}؛ فقال اللّه - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ}، ونحوه، واللّه أعلم.

والأصل في الهداية: أن عند اللّه لطفًا: من أعطى ذلك اهتدى، وهو التوفيق والعصمة، ومن حرم ذلك ولم يعطه، ضل وغوى، ويكون استيجاب العذاب وما ذكر؛ لتركه الرغبة في ذلك، والاستخفاف به، وتضييعه واشتغاله بضده؛ لذلك كان ما ذكرنا، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}: الشرك أو المهالك، واللّه أعلم.

٥٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً ... (٥٨)

أي: رجوعًا.

{فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}.

قيل: من الموحدين.

ويحتمل كل إحسان وطاعة، واللّه أعلم.

٥٩

وقد كذبه - عَزَّ وَجَلَّ - في قوله هذا؛ حيث قال: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ}، ثم كذبهم في قولهم: {لَوْ أَنَّ اللّه هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}، وفي قولهم: {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}؛ حيث قال اللّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (٥٩).

يقول - واللّه أعلم -: بلى قد جاءتك آياتي، وبينت لك الهداية من الغواية، وسبيل الحق من الباطل، والخير من الشر، والكذب من الصدق، ومكنت من اختيار الهداية على الغواية، ومكن لهم اختيار الحق على الباطل والصدق على الكذب، لكن تركتم ذلك، وضيعتم واستخففتم به، واشتغلتم بضد ذلك؛ فإنما جاء ذلك التضييع من قبلكم لا من قبل اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - قد أتى بالحجج والآيات والبيان في ذلك غاية ما يجب أن يؤتى ما لم يكن لأحد عذر في الجهل في ذلك والترك، واللّه أعلم.

وأكثر القراءات على التذكير في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي. . .} إلى آخره: على إرادة المخاطبة، وقد يقرأ بالتأنيث؛ على إرادة النفس التي تقدم ذكرها والخبر عنها، ويروى في ذلك خبر عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قرأ بالتأنيث: (بلى قد جاءتْكِ)، واللّه أعلم.

٦٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللّه وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠)

كذبهم على اللّه يحتمل وجوهًا:

أحدها: في التوحيد؛ حيث قالوا بالولد والشركاء.

ويحتمل ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللّه أَمَرَنَا بِهَا}، وكان اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - لم يأمرهم بذلك، فكذبوا على اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - أنه أمرهم بذلك.

أو ما قالوا: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّه}، و {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى}.

أو أن يكون كذبهم على اللّه هو إنكارهم البعث، وقولهم: إن اللّه لا يقدر على البعث والإحياء بعد الموت، ونحو ذلك، واللّه أعلم.

والمعتزلة يقولون في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللّه وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ}: هم المجبرة. فيجيء أن يكونوا هم أقرب في كونهم في وعيد هذه الآية من المجبرة؛ لأنهم يقولون: إن اللّه لا يأمر أحدًا بشيء إلا بعد أن أعطى جميع ما يعمل ويقتضي به؛ حتى لا يبقى عنده شيء من ذلك، ثم قال ذلك، ثم يسأل ربه المعونة والعصمة؛ فهو بالسؤال كاتم لما أعطاه، وهو كفران النعمة؛ لأنه يسأل ما قد أعطاه ربه، أو أن يكون هازئًا به؛ لأنه يسأل وليس عنده ما يسأل على قولهم على ما ذكرنا من مذهبهم، وكل من يسأل من يعلم أنه ليس عنده ذلك ولا يملك ذلك - فهو يهزأ به، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ}.

على توحيد اللّه، أو متكبرين على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، والمتكبر هو الذي لا يرى لنفسه نظيرًا ولا شكلا؛ ولذلك يوصف اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - بالكبرياء؛ لأنه لا نظير له ولا شكل، ولا يجوز لغيره؛ لأن غيره ذا أشكال وأمثال، ولا قوة إلا باللّه.

وفي حرف ابن مسعود وحفصة - رضي اللّه عنهما -: (على ما فرطت من ذكر).

وفي حرف ابن مسعود أيضًا في قوله: (بلى قد جاءته آياتنا من قبل فكذب واستكبر وكان من الكافرين)، واللّه أعلم.

والمثوى: المقام، {وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا} من ذلك، أي: مقيمًا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللّه وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} كأنه يقول - عَزَّ وَجَلَّ -: لو رأيتهم يا مُحَمَّد يوم القيامة لرحمتهم، وأشفقت عليهم مما هزئوا به، وما نزل بهم، واللّه أعلم.

٦١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُنَجِّي اللّه الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ ... (٦١) و {بِمَفَازَاتِهِمْ} يخرج على وجهين:

أحدهما: قوله: {بِمَفَازَتِهِمْ} أي: بالأعمال والأسباب التي فازوا بها على أشكالهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}.

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ} بعد المفازة والنجاة، وإلا قبل ذلك قد يمسهم السوء {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} وهو على الجهمية وعلى أبي الهذيل العلاف إمام المعتزلة:

أما على الجهمية: لقولهم: إن الجنة تفنى وينقطع أهلها ولذَّاتها، فإذا كان ما ذكروا مسهم السوء والحزن.

وعلى قول أبي الهذيل أيضًا كذلك؛ لأنه يقول: إن أهل الجنة يصيرون بحال حتى إذا أراد اللّه أن يزيد لهم شيئًا أو لذة لم يملك ذلك، فإن كان ما ذكر هو مسهم السوء والحزن - أيضًا - فالبلاء على قوله: إن السوء والحزن، إنما مس رب العالمين، فنعوذ باللّه من مقال يعقب كفرًا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} على إبطال قول أُولَئِكَ، واللّه أعلم.

٦٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {اللّه خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}.

هذه الآية تنقض على المعتزلة قولهم على وجوه:

أحدها: أن قولهم: إن شيئية الأشياء لم تزل كائنة؛ إذ من قولهم: إن المعدوم شيء،

فإذا كان المعدوم شيئًا -على قولهم- كما شيئية الأشياء لم تزل كائنة.

ويقولون: إنه لم يكن من اللّه إلا إيجادها، فإذا كان ما ذكروا لم يكن هو خالق شيء به؛ فضلا عن أن يكون خالق كل شيء -على ما ذكر- ووصف نفسه بخلق كل شيء، فيكون كل شيء قولهم في التحقيق والتحصيل قول الدهرية والثنوية؛ لأن الدهرية يقولون بقدم الطينة، والهيولى، ونحوه، وينكرون كون الشيء من لا شيء. وكذلك الثنوية يقولون بقدم النور والظلمة، ثم كون كل جنس من جنسه، وكون كل شيء من أصله.

فعلى ذلك قول المعتزلة: إن المعدوم شيء يرجع في التحقيق إلى ما ذكرنا من أقاويلهما.

ثم قوله: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} يخرج على ذكر الربوبية، والألوهية، والوصف له بالمدح؛ لما ذكرنا أن إضافة كلية الأشياء إلى اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - تخرج مخرج الوصف له بالتعظيم والإجلال له، وإضافة الأشياء المخصوصة إليه تخرج مخرج التعظيم للمضافة إليه.

وإذا كان ما ذكر ما كان قوله - عَزَّ وَجَلَّ - {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} مخصصًا شيئًا دون شيء -على ما يقوله المعتزلة- لم يخرج مخرج الوصف له بالربوبية والألوهية، ولا خرج مخرج المدح له والتعظيم، ثم إنه لا شك أنه لو لم يكن خالقًا لأفعال الخلق لم يكن خالقًا من عشرةٍ ألفَ شيء، فدل أنه خالق الأشياء كلها للأفعال والأجسام والجواهر جميعًا.

فَإِنْ قِيلَ: إنكم لا تقولون: خالق الأنجاس والأقذار والخنازير ونحوه، فإنما يرجع قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} إلى خصوص.

قيل: إنه لا يقال ولا يوصف بخلق هذه الأشياء على التقييد والتخصيص: يا خالق الأنجاس والأقذار وما ذكر؛ لأنه يخرج الوصف له بذلك مخرج الهجاء والذم، وكان في الجملة يوصف بذلك، ويدخل الأشياء كلها في ذلك؛ لما ذكرنا أن قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} يخرج مخرج الامتداح والتعظيم له، والوصف بالربوبية له والألوهية؛ ألا ترى أنه لا يقال -على التخصيص-: إنه وكيل؛ وإن كان في الجملة يقال -كما ذكرنا-: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}؛ لأنه في الجملة يخرج مخرج الربوبية له والألوهية، والوصف له بالمدح، وعلى التخصيص والإفراد، يخرج على الهجاء والذم؛ لذلك افترقا، واللّه أعلم.

٦٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... (٦٣)

كأنه يقول: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}.

قيل: هي المفاتيح، وهي فارسية عربت.

وجائز أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَهُ مَقَالِيدُ} أي: له مفاتيح: جميع البركات والخيرات على أهل السماوات والأرض، يخبر أن ذلك كله بيده، ليس بيد أحد سواه، منه يطلب ذلك، ومنه يستفاد، واللّه أعلم.

ثم لم يفهم مما أضيف إليه من المقاليد ما يفهم من مقاليد الخلق لو أضيف إليهم؛ فكيف فهم مما أضيف إليه: من مجيء، أو استواء، وغير ذلك ما فهم مما أضيف إلى الخلق، واللّه الموفق؟

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللّه أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}.

كأن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - جعل هذه الدنيا وما فيها لأهلها، وبين أحوالهم، يتخيرون بها ويشترون بها الآخرة، ويتزودون لها؛ ولذلك قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّه}، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ}، فمن لم يتزود لم يجعلها بلغة إلى الآخرة سمي: خاسرًا مغبونًا، واللّه أعلم.

٦٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَغَيْرَ اللّه تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (٦٤)

دلت هذه الآية على أن سفه أُولَئِكَ الكفرة قد بلغ غايته، وجاوز حده؛ حتى دعوا رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى عبادة من دونه؛ بعد ما عرفوا فضيلة الرسالة والرسول وخصوصيته؛ حتى أنكروا الرسالة في البشر، وبعث البشر رسولا، فلولا ما وقع عندهم من الفضيلة للرسول، والخصوصية له؛ وإلا لم يحتمل أن ينكروا وضعها في البشر وبعث البشر رسولا، ثم قد أتاهم رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من البيان والحجج ما قد قرر عندهم أنه الرسول إليهم، فمع ما تقرر عندهم ذلك دعوه إلى أن يعبد غير اللّه دونه، فيكون لهم، فهذا منهم تناقض في القول وسفه؛ حين صيروا المفضل والمخصوص بالرسالة في العبادة من دونه كغير المفضل والمخصوص بها - واللّه أعلم - ليعلم أنهم لسفههم وتعنتهم كانوا يدعونه إلى عبادة من دون اللّه، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ}.

سماهم: جهلة بما أمروه ودعوه إلى عبادة غير اللّه، وكذلك قال موسى - عليه السلام - لقومه حين سألوا موسى أن يجعل لهم إلها كما لهم آلهة؛ فقال: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}.

ثم يحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} وجوهًا:

أحدها: أيها الجاهلون في التسوية بين المفضل والمخصوص وبين من لم يخص؛ فذلك في عبادة غير اللّه.

أو جاهلون عن هداية اللّه وخصوصيته.

أو جاهلون عن جميع نعمه وإحسانه، حيث لم يذكروه فيها، واللّه أعلم.

٦٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ... (٦٥)

يحتمل هذا وجهين:

أحدهما: كأنه يقول: ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك -وقيل: لكل رسول- {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}، ذكر هذا؛ ليعلم أن الشرك يحبط العمل، وإن أتى به من قد جل قدره، وعظمت منزلته عنده.

والثاني: ولقد أوحي إليك وإلى من كان قبلك: لئن أشركت أنت ليحبطن عملك.

٦٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلِ اللّه فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦) يحتمل وجوهًا:

يحتمل: كن من الشاكرين لنعم اللّه جميعًا.

أو الشاكرين للخصوصية التي خصصت بها أو الهداية التي هديت، واللّه أعلم.

وفي حرف ابن مسعود وأبي - رضي اللّه عنهما -: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: له ملك السماوات والأرض.

قال الكسائي: {مَقَالِيدُ}: فارسية معربة، وواحد المقاليد: إقليد.

وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَلَيْسَ اللّه بِكَافٍ عَبْدَهُ} قال: بلى، واللّه ليكفينه اللّه، وبعزه وبنصره كاف عبده، وأصله ما ذكرنا، واللّه أعلم.

٦٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا قَدَرُوا اللّه حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧) ذكر أهل التأويل: أن اليهود أتوا رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقالوا له: إن ربك كذا وكذا، وإن السماوات على كذا منه، والأرض على كذا؛ ذكروه له ووصفوه كما يوصف الخلق؛ فنزل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا قَدَرُوا اللّه حَقَّ قَدْرِهِ} قيل: ما عرفوا اللّه حق معرفته، ولا عظموه حق عظمته.

ويذكر أهل الكلام: أن اليهود مشبهة، وكذلك قالوا بالولد؛ حيث قالوا: عزير ابن

اللّه، وقالت النصارى: المسيح ابن اللّه؛ فلو لم يكونوا عرفوه بما يعرف به الخلق، لم يكونوا يقولون له بالولد كما يقولون للخلق من الولد؛ فدل ما وصفوا له وذكروا له أنهم عرفوه بمعنى الخلق، فتعالى اللّه عما تقوله الملاحدة علوًّا كبيرًا.

ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا قَدَرُوا اللّه حَقَّ قَدْرِهِ} أي: ما عرفوا اللّه حق معرفته.

أو ما عظموه حق عظمته ما يحتمل وسع الخلق، وكذلك لم يعرفوه حق معرفته التي يحتمله وسع البشر بينهم، فأما معرفة اللّه حق معرفته أو تعظيم اللّه حق عظمته ما لا يحتمله وسع الخلق، وهو لم يكلفهم أن يعرفوه حق معرفته أو يعظموه؛ لأنه لا يحتمل وسع الخلق ذلك وإنما كلفهم ما احتمله وسعهم؛ فالمشبهة -حيث وصفوه كما وصف الخلقُ من يعاينوه- لم يعرفوه المعرفة التي يحتمل وسع الخلق وبنيتهم، ولا عظموه العظمة التي يحتمل وسع الخلق وبنيتهم.

ثم إن اللّه - سبحانه - جعل سبب معرفته الاستدلال بآثار الأفعال، لا بأفعال المحسوسات، فلا تفهم معرفته، ولا تقدر بمعرفة الخلق وتقديرهم مع ما جعل اللّه - سبحانه وتعالى - الخلق على قسمين:

قسم منها مما يحاط به وتدرك حقيقته، وهو المحسوس منه والمدرك.

وقسم مما يعرف بآثار الأفعال والاستدلال بها، وهو غير محسوس من العقل، والبصر، والسمع، والروح، وغير ذلك، فإذ لم يدرك من خلقه ولم يحط به مما سبيل الاستدلال عليه بآثار الأفعال بالحس، فالذي أنشأ ذلك وأبدعه أحق ألا يدرك ولا يحاط بمعرفته كما يحاط ويدرك المحسوس معرفته؛ إذ الموصل إلى معرفته الاستدلال بآثار الأفعال لا بالمحسوس، واللّه أعلم.

وكذلك ما أضاف إلى نفسه من الأحرف لا يفهم منه ما لو أضيف ذلك إلى الخلق؛ من نحو الاستواء، والمجيء، والإتيان، ونحو ذلك، ولا يقدر منه ما يقدر من الخلق على ما لم يفهم من مجيء الحق وإتيانه ما فهم من مجيء الخلق ولا إتيانهم؛ فعلى ذلك لا يفهم قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه ما يفهم من قبضة الخلق وطيهم ويمينهم؛ بل يفهم من ذلك كله ما يفهم من قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، كل ما ذكر من القبضة والطي واليمين في ذلك (كن) دون أن كان منه كاف أو نون أو شيء من ذلك، لكنه ذكر (كن)؛ لأنه أخف كلام على الألسن، وأوجز حرف يفهم منه المعنى ويعرف فيما بين الخلق، واللّه أعلم.

وأصله أن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - خاطبهم بما تعارفوا فيما بينهم حقيقة، وإن كان ما تعارفوا فيما بينهم منفي عن اللّه - تعالى - نحو ما ذكر {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّه وَرَسُولِهِ}، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ}،

وقوله: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ}، لما باليد يقدم ويؤخر في الشاهد، وإن لم يكن ما ذكر عمل اليد، وذكر بين يدي ما ذكر، وإن لم يكن بين يديه؛ لما

في الشاهد كذلك يتقدم؛ فعلى ذلك ما أضاف إلى نفسه من أحرف كانت تلك منفية عنه؛ لما في الشاهد بذلك يكون، واللّه أعلم.

وأصل ذلك أن قد بينت بالتنزيل على ما ذكر من إضافة تلك الأحرف إلى اللّه، وثبت بدليل السمع أن ليس كمثله شيء وفي العقل تعاليه عن الأشباه والشركاء، لزم القول بوقوع تلك الآيات على ما لا تشابه به يقع بينه وبين الخلق في الفعل ولا جهة من جهات الخلق؛ إذ هو متعال عن جميع جهات الخلق في حد الإحداث والخلق، فيلزم الإيمان بها على ما نطق به الكتاب وانتهى به عن المتشابه، وتفويض المراد إلى من جاء عنه ذلك مع ما توجد الإضافة إلى اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - من نحو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {حُدُودُ اللّه}، ونحوه لا يحتمل فهم المضاف منه إلى غيره، فكذلك ما ذكرنا يحتمل على إمكان وجوه فيما ينفى معنى التشابه من ذلك ما يضمن فيها معاني، نحو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنْ تَنْصُرُوا اللّه يَنْصُرْكُمْ. . .} الآية، {وَإِلَى اللّه الْمَصِيرُ}، والمرجع، و {يَرْجُو لِقَآءَ اللّه}، و {فَرُدُّوهُ إِلَى اللّه وَالرَّسُولِ}، في غير ذلك مما أضيف إلى اللّه، ولا معنى لتحقيقه في ذلك، فيضمن في ذلك منُّه ووعده ووعيده وغير ذلك من الوجوه مما يطول ذكره ويكثر، فمثله أمر هذه الآيات.

والثاني: أن إضافة الأمور في الشاهد إلى الملوك وذكر التولي لهم ليس يخرج مخرج تحقيق كما هو جرى به الذكر، ولكن على الكناية والعبارة عن غيره؛ نحو ما قال: بلدة كذا في يد فلان وقبضته، وأمر كذا في يد فلان؛ إنما يراد بذلك قوته وقدرته؛ فعلى ذلك ما ذكر من قبضته ويده ويمينه إنما هو الوصف له بالقوة، والسلطان، والقدرة على ذلك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) يحتمل تنزيه نفسه عما وصفه المشبهة وشبهوه بالخلق، أو عما أشرك عبدة الأصنام باللّه في العبادة، وتسميتهم إياها: آلهة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ} هو على التقديم والتأخير؛ كأنه يقول - عَزَّ وَجَلَّ -: الأرض والسماوات جميعًا في قبضته مطويات بيمينه، واللّه أعلم.

٦٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ... (٦٨) اختلف في قوله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} أهو على حقيقة النفخ أم لا؟

قَالَ بَعْضُهُمْ: ليس هنالك نفخ ولا شيء، وإنما ذكر النفخ عبارة عن خفة الأمر على اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - كقوله: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ}، {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: ليس نفخًا، إنما هو عبارة عن قدر نفخة: أنه يحيي ويميت على قدر النفخة؛ لأن أسرع شيء في الدنيا هي النفخة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو على حقيقة النفخة من غير أن كانت النفخة سببًا للإحياء والإماتة، ولكن على جعل النفخة علمًا وآية للإحياء أو الإماتة، امتحن بذلك الملك الذي كان موكلا به، على ما امتحن ملك الموت بقبض الأرواح في أوقات جعلت له؛ فعلى ذلك ما ذكر من النفخة، واللّه أعلم.

ثم اختلف في الصور أيضًا:

قَالَ بَعْضُهُمْ: هو صور الخلق فيها ينفخ، وإلى ذلك ذهب جميع أهل الكلام.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: ليس هو صور الخلق، ولكن إنما هو قرن؛ لأنه قال: الصور، ولم يقل: صُور بالتثقيل، وإنما ذكره بالتخفيف، وهو القرن، وذكر صور الخلق بالتثقيل صُوَر؛ حيث قال: {فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ}، فلسنا ندري أيهما يقال جميعًا أم لا الصُّور والصُّوَر، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} قال عامة أهل التفسير والتأويل: الصعق: هو الموت.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الصعق: هو الغشيان؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا}

أي: مغشيًّا عليه؛ ألا ترى أنه قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَلَمَّآ أَفَاقَ}، وإنما يفاق من الغشيان، ولا يفاق من الموت، واللّه أعلم بذلك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللّه} اختلف فيه؛

قَالَ بَعْضُهُمْ: إنما استثنى الشهادة الذين استشهدوا في الدنيا، واللّه أعلم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللّه} هو جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى}:

قَالَ بَعْضُهُمْ: تكون ثلاث نفخات: نفخة تحملهم على الفزع: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ. . .} الآية، ثم الأخرى يموتون بها، والثالثة يحيون بها، وعلى هذا يروى حديث عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " ينفخ ثلاث. . . " ذكر كما ذكرنا، واللّه أعلم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: نفختان؛ على ما ذكر في هذه الآية: إحداهما: يموتون، والثانية: يحيون بها، واللّه أعلم.

٦٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٦٩) يحتمل {بِنُورِ}: الذي أنشأه اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - لها وجعله فيها، ليس أن يكون لذاته نور أو شيء يضيء، ويكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {بِنُورِ رَبِّهَا} كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {بِنِعْمَتِ رَبِّكَ}: بإحسان ربك، وآلاء ربك، لا يفهم منه سوى النعمة والنشأة والآلاء المجعولة؛ فعلى ذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {بِنُورِ رَبِّهَا} لا يفهم منه نور الذات ولا شيء من ذلك.

ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ} أي: أضاءت، جائز أن يكون اللّه - عز وجل - ينشئ أرض الآخرة أرضًا مضيئة مشرقة؛ لما أخبر أنه يبدل أرضًا غير هذه؛ حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ. . .} الآية، كانت هذه مظلمة، وتلك مضيئة، على ما ذكرنا، واللّه أعلم.

أو أن يكون إشراقها: ارتفاع سواترها، وظهور الحق لهم، وزوال الاشتباه والالتباس، وكانت أمورهم في الدنيا مشبهة ملتبسة، ويقرون يومئذ جميعًا بالتوحيد له والألوهية

والربوبية، وهو على ما ذكر من قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَبَرَزُوا للّه جَمِيعًا}، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}،

وقوله: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للّه}، ونحو ذلك، ذكر البروز له والرجوع إليه والمصير، وإن كانوا في الأحوال كلها بارزون له، راجعون إليه، صائرون، والملك له في الدارين جميعًا، خص البروز والرجوع إليه والملك له؛ لما يومئذ يظهر المحق لهم من المبطل، ويومئذ أقروا جميعًا بالتوحيد له والملك؛ فعلى ذلك يحتمل إشراق الأرض وإضاءتها لما ترتفع السواتر يومئذ وتزول الشبه، وتظهر الحقائق، واللّه أعلم.

أو أن يكون إشراقها بإظهار لكل ما عمل في الدنيا من خير أو شر، وعرفه يومئذ، وإن كان في الدنيا لم يظهر ولم يعرف مما عمل من خير وشر؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا. . .} الآية، واللّه أعلم.

أو أن تكون أرض الآخرة مضيئة مشرقة لما لا يُعْصى عليها الرب - تعالى عَزَّ وَجَلَّ - وأرض الدنيا مظلمة بعصيان أهلها عليها الربَّ - عَزَّ وَجَلَّ - وذلك كما روي في الخبر أن الحجر الأسود أُنزل من الجنة ككذا، صار أسود لما مسته أيدي الخاطئين العاصين، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {بِنُورِ رَبِّهَا}

قَالَ بَعْضُهُمْ: بعدل ربها؛ أي: رضًى بعدل ربها، وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} أي: بالعدل، واللّه أعلم.

وجائز ما ذكر بنور أنشأه وجعله فيها، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ}، وقال - عَزَّ وَجَلَّ - في آية أخرى: {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ}، فجائز أن يكون الكتاب الذي ذكر أنه وصفه هو ذلك الميزان، فيكونان واحدًا.

وجائز أن يكون الكتاب غير الميزان.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الكتاب هو الحساب بما قد حفظ عليهم ولهم من خير أو شر محذور فيه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو الكتاب الذي يوضع في أيديهم يومئذ، فيه ما عملوا يقرءونه،

وهو مثل الأول، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ} اختلف في الشهداء:

قَالَ بَعْضُهُمْ: الشهداء هم المرسلون، يؤتى بالنبيين والمرسلين يشهدون عليهم؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا}، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ. . .} الآية.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الشهداء - هاهنا - هم الملائكة والحفظة الذين يشهدون عليهم؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ. . .} الآية.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} أي: بالعدل.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} أي: لا يحمل على أحد ما لم يعمل، ولكن يحمل عليه ما عمل، واللّه أعلم.

٧٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ... (٧٠) كافرة {مَا عَمِلَتْ} من سوء، فأما ما عملت من خير فلا، وتوفى كل نفس مسلمة ما عملت من خير لا ينقص منها شيء، وما عملت من سوء جائز أن يتجاوز اللّه عنها ويبدله حسنات؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللّه سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ}. واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ}، أي: عالم بما يفعلون من خير أو شر.

٧١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا ... (٧١) قيل: أمة أمة، وجماعة جماعة؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا. . .} الآية، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ}، ونحوه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} جائز أن يكون لها أبواب يدخلون فيها.

وجائز أن تكون الأبواب المذكورة لا على حقيقة الأبواب، ولكن على الجهات والسبل التي كانوا فيها؛ أي: في الدنيا، وعملوا بها يدخلون النار بتلك الجهات والسبل التي كانوا في الدنيا وعملوا بها، كما يقال: فتح على فلان باب كذا، ليس يراد حقيقة الباب، ولكن سبل بابه، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ} يحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {آيَاتِ رَبِّكُمْ} أي: التوحيد وحججه.

ويحتمل آيات البعث الذي أنكروه.

وقال بعض أهل التأويل: آيات القرآن.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيُنْذِرُونَكُمْ} بالآيات {لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قَالُوا بَلَى} قد فعلوا ذلك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} قال أهل التأويل: {وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} أي: عدة العذاب، وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ - ووعد أنه يملأ جهنم منهم، وهو قوله: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} أي: حق وعد ذلك عليهم، واللّه أعلم.

وجائز أن يكون ما ذكر من {كَلِمَةُ الْعَذَابِ}: هو كلمة الشرك والكفر؛ أي: حقت كلمة الكفر والشرك الذي علمنا سموا {كَلِمَةُ الْعَذَابِ}، لما كذبوا وعوقبوا، واللّه أعلم.

٧٢

وقوله: (قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢) تأويله ظاهر.

" والمتكبرين " يحتمل المتكبرين على آياته وحججه، ويحتمل المتكبرين على رسله وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام، واللّه أعلم.

وقَالَ الْقُتَبِيُّ وأَبُو عَوْسَجَةَ: {وَأَشْرَقَتِ}، أي: أضاءت وأنارت، و {زُمَرًا} أي: جماعات، والواحد: زمرة، ويقال: تزمر القوم إذا اجتمعوا، زمرتهم، أي: جمعتهم، وأصله: أن يساق كل فريق على ما أحبوا، وكانوا في الدنيا جماعة جماعة وأمة أمة، وعلى ما يجتمعون في هذه الدنيا: أهل الخير على أهل الخير، وأهل الشر على أهل الشر، وسروا بالاجتماع في ذلك، لكن أهل الخير يساقون إلى الجنة على ما كانوا يجتمعون في هذه الدنيا مسرورين، وأهل الكفر يساقون إلى النار على ما كانوا يجتمعون في هذه الدنيا على الشر حزنين مغتمين، واللّه أعلم.

٧٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (٧٣)

يحتمل: اتقوا الشرك بربهم، أو اتقوا سخط ربهم ونقمته، أو اتقوا المهالك، وقد ذكرناه فيما تقدم واللّه أعلم.

{وَسِيقَ}، وإن كان في الظاهر خبرا عما مضى لكنه يخرج على وجهين:

أحدهما: على الاستقبال، وذلك جائز في اللغة استعمال حرف الماضي على إرادة الاستقبال، كأنه قال: يساقون.

والثاني: كأنه خبر أمر قد كان مضى، فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَسِيقَ}؛ ولذلك ذكره بحرف {سِيقَ}، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {زُمَرًا} وقد ذكرناه، أي: جماعة جماعة، وأمة: أمة، على ما كانوا في هذه الدنيا، ويجتمعون على ذلك؛ فعلى ذلك يساقون في الآخرة، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا}.

فتح الأبواب لهم يحتمل حقيقة الأبواب، ويحتمل كناية عن الوجوه والسبل التي يأتونها في الدنيا لا على حقيقة الأبواب، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ}.

بدأ الخزنة بالسلام عليهم، فجائز أن يكون اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - امتحن الخزنة بالسلام على المؤمنين كما امتحن رسوله ببدئه السلام على من آمن، وهو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ. . .} الآية.

ثم يحتمل سلام الخزنة عليهم: السلام والبراءة عن جميع العيوب والآفات التي في الدنيا، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ}.

فقوله: {طِبْتُمْ} أي: صرتم طيبين لا تخبثون أبدًا، وقد برئتم من الآفات والعيوب كلها، واللّه أعلم.

أو يقول: طاب العيش أبدًا من حيثما يأتيكم بلا عناء.

٧٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالُوا الْحَمْدُ للّه الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (٧٤)

ولا شك أن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - إذا وعد صدق وعده، لكن معنى قولهم: {الْحَمْدُ للّه الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ}، أي: الحمد للّه الذي جعلنا مستحقين وعده؛ إذ وعده لا شك أنه يصدق، ولا قوة إلا باللّه.

وقوله: {وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ} أي: الجنة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ}.

يحتمل قوله: {حَيْثُ نَشَاءُ} نرغب فيها، وهم لا يرغبون النزول من منازلهم.

أو أن يكون قوله: {نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ}، أي: جميع مكان الجنة مختار ليس مما يتخير في الدنيا مكانًا دون مكان؛ لأن جميع أمكنتها ليست بمختارة فيقع فيها الاختيار، فأما الجنة فجميع أمكنتها مختارة فلا يقع هنالك اختيار مكان على مكان، واللّه أعلم. وإلا ظاهر قوله: {نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} ما لهم وما لغيرهم، والوجه فيه ما ذكرناه، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} ظاهر.

٧٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ للّه رَبِّ الْعَالَمِينَ (٧٥)

قيل: محدقين حول العرش.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ}.

قال بعض أهل التأويل: بأمر ربهم، لكن التسبيح بحمد ربهم هو أن يسبحوا بثناء ربهم وحمده ويبرئونه وينزهونه عن جميع معاني الخلق بحمد وثناء يحمدونه ويثنون عليه على ما ذكرنا في غير موضع، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ}.

قيل: بين الأمم والرسل، وقيل: بين الخلائق كعلهم.

وجائز أن يكون قوله: (وَقِيلَ الْحَمْدُ للّه رَبِّ الْعَالَمِينَ) قال الحسن: فتح اللّه نعمه في الدنيا بالحمد له، وهو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {الْحَمْدُ للّه الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ. . .} الآية، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {الْحَمْدُ للّه الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ. . .} الآية، وغير ذلك من الآيات، وختم نعمه في الآخرة بالحمد له حيث قال: {الْحَمْدُ للّه رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للّه رَبِّ الْعَالَمِينَ}: الحمد للّه رب العالمين والصلاة والصلام على سيدنا مُحَمَّد وآله وصحبه الطاهرين أجمعين.

* * *

﴿ ٠