سُورَةُ الْجَاثِيَةِوهي مَكِّيَّة بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ١-٢قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حم. تَنْزِيلُ الْكِتَابِ) قد ذكرناه في غير موضع. وقوله: {الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} قد ذكرنا - أيضًا - تأويل " العزيز الحكيم " في غير موضع أيضًا. ثم إنما ذكر قوله: {الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} على إثر ذلك؛ ليعلم أنه ما أنزل الكتاب، وما أمرهم، وما نهاهم، وامتحنهم بأنواع المحن؛ ليتعزز هو بذلك، أو يزيد له عزَّا وسطانًا أو قوة إذا ائتمروه وأطاعوه، وإذا خالفوه ولم يطيعوه فيما أمرهم، وارتكبوا ما نهاهم يلحقه ذل أو نقصان في ملكه وسطانه؛ بل إنما فعل ذلك من الأمر والنهي وأنواع المحن لمنفعة أنفس الممتحنين، ليتعززوا إذا اتبعوا أمره وأطاعوه، ويلحقهم ذل ونقصان إذا تركوا اتباعه، بخلاف ملوك الأرض، فإنه يزيد لهم اتباع من اتبعهم عزًّا وسطانًا وقوة في ملكهم، وترك اتباعهم إياهم وارتكاب ما نهوهم عنه يوجب لهم ذلا ونقصانًا في ملكهم؛ لأن المخلوق كان عزيزًا بغيره، فإذا زال ذلك زال عزه وصار ذليلا؛ فأما اللّه - سبحانه وتعالى - عزيز بذاته فلا يلحقه النقصان بمخالفة من خالفه، ولا يزداد عزه بائتمار من ائتمره. وقوله: {الْحَكِيمِ} والحكيم هو الذي لا يلحقه الخطأ في التدبير؛ يذكر هذا؛ ليعلم أنّ من أنشأه من الخلائق على علم منه أنهم يكفرون به ويعصونه لم يزل عنه الحكمة، ولا أخرجه منها؛ لما ذكرنا أنه لم ينشئهم لحاجة له فيهم، أو لمنفعة ترجع إليه، ولكن لحاجة لهم، ولمنفعة ترجع إلى أنفسهم، ومثله في الشاهد يزيل الحكمة ويدخل في حد السفه؛ لما ذكرنا أنهم إنما يفعلون لحوائجهم، فكان الفعل مع العلم بأنه لا منفعة له فيه، بل مضرة لا يكون حكمة منهم؛ لذلك افترق الشاهد والغائب، واللّه أعلم. ٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) و {آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} و {آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ونحو ذلك، يخرج ذكر الآيات لهَؤُلَاءِ على وجوه: أحدها: أن يكون ما ذكر من الآيات لهَؤُلَاءِ آيات على أعدائهم يحتجون بها عليهم؛ فتكون هي آيات لهم على أعدائهم. والثاني: أن منفعة هذه الآيات تجعل لهَؤُلَاءِ، وهم المنتفعون بها؛ أعني: متبعها دون من ترك أتباعها. والثالث: هنَّ آيات لمن اعتقد اتباع الآيات والإيقان بها، وهم المؤمنون، فأما من اعتقد ردّها وترك الاتباع لها فليست هي آيات لهم، واللّه أعلم. وقد ذكرنا في غير موضع، جهة الآيات فيما ذكر من السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، وإنزال الماء من السماء، وإحياء الأرض به، وإخراج ما أخرج منها، في ذلك آيات هيبته، وآيات وحدانيته، وآيات قدرته وسلطانه، وآيات علمه وتدبيره، وآيات حكمته، وغير ذلك مما يطول بذكرها، واللّه الموفق. ٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تِلْكَ آيَاتُ اللّه نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللّه وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {تِلْكَ} إشارة إلى الآيات التي تقدم ذكرها {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} أنها من اللّه - تعالى - لما عجزوا عن إدراك ذلك من الحكمة البشرية به فيعلموا أنها من اللّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللّه وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} هذا يخرج على وجهين: أحدهما: يقول - واللّه أعلم -: لو كانوا بالذين يقبلون حديثًا قط، فلا حديث أظهر صدقًا من حديث اللّه تعالى ولا أبين حقًّا فيه من كلامه؛ لأنها آيات معجزات، عجزوا عن إتيان مثلها. وإن كانوا بالذين لا يقبلون حديثًا فيلحقهم السفه في ذلك، فيكفي مؤنتهم، واللّه الهادي. ٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} الأفاك: هو المصروف عن اتباع ما توجب الحكمة اتباعه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الأفاك: الكذاب، والأثيم: هو الذي اعتاد الإثم، وهو أكثر من الآثم. ٨ثم نعت ذلك الأفاك فقال: (يَسْمَعُ آيَاتِ اللّه تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٨). يحتمل قوله: {آيَاتِ اللّه تُتْلَى عَلَيْهِ} القرآن. ويحتمل: {آيَاتِ اللّه تُتْلَى عَلَيْهِ} آيات وحدانية اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - أو آيات رسالة رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. ثم أخبر عن تعنته وعناده في آيات اللّه حيث قال: {ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا} أي: يصر مستكبرًا بعد تلاوة الآيات عليه، وبعد معرفته وفهمه أنها آيات اللّه، كما كان يصر قبل ذلك؛ لأنها آيات خارجات عن وسعهم؛ إذ عجزوا عن إتيان مثلها، فإذا كانت خارجة عن احتمال وسعهم فكذلك هي خارجات عن وسع مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ إذ هو واحد من البشر مثلهم، فيعرفون أنه إنما قدر على إتيان مثلها باللّه - تعالى - بما أوحى إليه وأعلمه بذلك {كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا}؛ عنادًا منه واستكبارًا. ثم أوعده العذاب الأليم، وهو قوله: {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي: مؤلم موجع. ٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (٩) أي: عذاب يهينهم باستهزائهم بالآيات. ١٠ثم قال: (مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّه أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٠) أضاف جهنم إلى ورائهم يحتمل أن يكون المراد من ذكر {مِنْ وَرَائِهِمْ} وراء الدنيا؛ كأنه قال: من وراء هذه الدنيا لهم جهنّم، لكنه أضاف ذلك إليهم؛ لأنهم فيها، وهم أهلها. ويحتمل أن يكون قوله: {مِنْ وَرَائِهِمْ} أي: من وراء أحوالهم التي هم عليها جهنم. وقوله: {وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّه أَوْلِيَاءَ}. يحتمل: {وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا} أي: ما عملوا من القرب التي عملوها؛ رجاء أن ينفعهم ذلك في الآخرة، أو يقربهم ذلك ألى اللّه زلفى؛ يخبر أن ذلك مما لا يغنيهم ولا ينفعهم في الآخرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وعد لهم في كل حال وكل أمر كان منهم عذابًا غير العذاب في حال أخرى؛ ذكر في الحال التي عبدوا الأصنام دونه، واتخذوها أربابًا العذاب العظيم، وذكر لهم باستهزائهم بآيات اللّه العذاب المهين، عذابًا يهينهم، ويهانون في ذلك، وذكر لهم بإصرارهم بما هم عليه واستكبارهم على آيات اللّه وعلى رسوله العذاب الأليم، حتى يكون مقابل كل فعل كان منهم نوعًا من العذاب غير النوع الآخر، وبصفة غير الصفة الأخرى، واللّه أعلم. ١١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَذَا هُدًى ... (١١) أي: بيان لهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} أي: عذاب من عذاب أليم؛ إذ الرجز هو العذاب، كأنه فسر ذلك العذاب ووصفه بالألم، واللّه أعلم. ١٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {اللّه الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ} يذكرهم عظيم نعمه في تسخير البحار لهم مع أهوالها وكثرة أمواجها، وامتناعها عن منافع الخلق، صيرها بلطفه ورحمته لهم كسائر البقاع في الوصول إلى ما فيها من الجواهر واللآلئ بالغوص فيها، والخوض والاصطياد؛ لما فيها من أنواع الصيد، وغير ذلك من الأشياء، بحيل علمهم، وأسباب جعل لهم، حتى يصلوا إلى ما فيها من أنواع الجواهر والأموال النفيسة، واللّه أعلم. وسخرها لهم - أيضًا - حتى عبروا البحر ومروا هم عليه بسفن أعطاهم، وحيل علمهم، حتى قدروا على عبوره والمرور عليه؛ ليصلوا إلى قضاء حوائجهم التي تكون في البلدان النائية، وهو ما قال: {لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ}. ثم قوله - تعالى -: {بِأَمْرِهِ} يحتمل أن يكون عبارة عن تكوينه؛ أي: بما كونه وأنشأه كذلك، كقوله - تعالى -: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}. والثاني: يحتمل {بِأَمْرِهِ} أي: بالأمر الذي له على العباد وسائر خلائقه. ويحتمل: {بِأَمْرِهِ} أي: بإذنه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -:: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: لكي يلزمكم الشكر بذلك، أو ما ذكر فيه من الوجوه، واللّه أعلم. ١٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣) أي: سخر لهم ما في السماوات من الملائكة، والشمس، والقمر، والنجوم، وغيرها، وما في الأرض من الأشجار، والنبات، والبهائم، والدواب، حتى استعملوها كلها في منافعهم وحوائجهم، كما استعملوا أملاكهم التي تحويها أيديهم بتسخير اللّه - تعالى - إياهم ذلك كله، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {جَمِيعًا} أي: جميع ذلك من اللّه - تعالى - أخبر أنه سخر جميع ما في هذين في السماوات والأرض، ثم أخبر {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} وقد ذكرنا جهة الآية في ذلك في غير موضع، واللّه أعلم. ١٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللّه لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) أمر اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - للمؤمنين بالعفو والصفح عمن أساء إليهم وظلمهم حتى أمرهم بالعفو والمغفرة عمن ظلمهم وأساء إليهم من الكفرة؛ ليعلم عظيم موقع العفو والصفح عن المظلمة والإساءة عند اللّه، وما يكون لذلك من الثواب الجزيل، واللّه أعلم. فَإِنْ قِيلَ: إن هذه الآيات إنما نزلت بمكة، ومن أسلم من أهل مكة بمكة كانوا مستخفين مقهورين في أيدي الكفرة، ثم لا يتهيأ لهم الانتصار منهم والانتقام عن مساويهم، وإنما يؤمر المرء بالعفو عن مظلمة من ظلمه وأساء إليه عند مقدرة الانتقام والانتصار، فأما من لا يكون على مقدرة من ذلك فلا معنى للأمر له بذلك؛ إذ هو عاجز عن ذلك، فيكون الأمر بالعفو والصفح عنهم -وإن كان أهل الإسلام منهم مقهورين مغلوبين في أيدي أُولَئِكَ الكفرة على ما ذكرتم- لوجهين: أحدهما: أنه أمرهم بذلك ليتقربوا بذلك؛ إلى اللّه - تعالى - ويجعلوا ذلك وسيلة وقربة فيما بينهم وبين ربهم، وإن لم يكن لهم مقدرة الانتقام والانتصار منهم؛ ليكون العفو عنهم بحق القربة، لا بحق التذلل والخشوع؛ إذ يعفو كل عن اختيار وطوع، ويصير على ذلك ابتغاء لوجه اللّه - تعالى - ويترك الجزع في نفسه والمخاصمة لو قدر على الانتقام، وهو ما أمر رسوله - عليه السلام - بالهجرة إلى المدينة بعدما أخبره أنهم يريدون أن يقتلوه أو يخرجوه؛ حيث قال: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ. . .} الآية؛ لتكون الهجرة له إلى اللّه - تعالى - بحق القربة، لا بحق التذلل بإخراجهم إياه، واللّه أعلم. والثاني: أن يرجع الأمر بالعفو إلى كل واحد منهم في خاصة نفسه، وقد كان من المسلمين فيهم من يقدر على الانتقام والانتصار من الأفراد والآحاد منهم، وإن لم تكن له القدرة على الانتقام من جملتهم، واللّه أعلم. ثم قولهَ عَزَّ وَجَلَّ -: {لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللّه} هذا يخرج على وجوه: أحدها: {أَيَّامَ اللّه} أي: نعم اللّه الدائمة التي لا زوال لها ولا انقطاع، التي وعدها في الآخرة لأهل الإيمان، وهو ما قال في آية أخرى في قصة موسى - عليه السلام - حيث قال: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّه}، أي: بنعم اللّه - تعالى - ألا ترى أن موسى - عليه السلام - فسر أيام اللّه بالنعمة؛ حيث قال على إثره: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّه عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ. . .} الآية. والثاني: {لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللّه} على حقيقة الأيام؛ لأنهم كانوا يرون هذه النعم والسعة في الدنيا بجهد أنفسهم وكدهم، لا بما أجرى اللّه - تعالى - النعم إليهم في الأيام، واللّه أعلم. والثالث: {لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللّه} أي: لا يحذرون نقمة اللّه وعقوبته. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي: ليجزي كل قوم بما كسبوا من خير أو شر، يجزي من عفا منهم جزاء العفو، ويجزي المحسن جزاء الإحسان، والمسيء جزاء الإساءة، واللّه أعلم. ١٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥) يخبر أن من عمل من خير فإنما يعمل لنفسه، ومن عمل من سوء فإنما يعمل على نفسه، يخبر أن من عمل من خير أو صالح فلنفسه سعى في الآخرة، ومن عمل من شر فعلى نفسه سعى في الآخرة، كمن عمل في الدنيا من الأكل والشرب فلنفسه يعمل، ومن جنى من جنايات، فعلى نفسه جنى في الدنيا والآخرة؛ حيث تهلك به نفسه، ويرجع إليه وبال ذلك في الدنيا والآخرة، فعلى ذلك ما قلنا، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} أي: ثم إلى ما وعد ربكم من الثواب والعقاب ترجعون. ١٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ} قال أهل التأويل: أي: التوراة. والإشكال: أنه آتى بني إسرائيل جملة كتبًا كثيرة، أما التوراة والإنجيل والزبور هي كتب معروفة قد نعرفها، وقد يجوز أن يكون لهم كتب غيرها، فما معنى ذكر الكتاب؟ وما معنى حملهم على أن التوراة هي المرادة، إلا أن نقول: يجوز أن يريد بذكر الكتاب: الكتب؛ فإنه أدخل الألف واللام، فيكون لاستغراق الجنس. ويحتمل أنه أراد به التوراة، كما قال أهل التأويل؛ إذ يجوز أن يذكر اسم العام ويراد به الخاص، وهو الواحد منهم. ويحتمل أن تكون التوراة هي الكتاب الذي فيه عامة الأحكام، فإنه قيل: إن الزبور ليس فيه الحكم، إنما فيه التسبيح والتحميد، وكذا الإنجيل ليس فيه إلا أحكام قليلة، فيجوز أن يكون المراد: التوراة لهذا، واللّه أعلم. وقوله: {وَالْحُكْمَ} قَالَ بَعْضُهُمْ: {وَالْحُكْمَ} أي: فهم ما فيه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَالْحُكْمَ}: فقه ما في الكتاب؛ إذ الحكم الظاهر داخل تحت قوله: {الْكِتَابَ} وبين بقوله: {وَالْحُكْمَ} أنه أعطى الحكم الظاهر فيه، والحكم المستخرج منه بالاستنباط والاجتهاد، واللّه أعلم. ويحتمل أن يراد بالكتاب: هو ما يتلى فيما بينهم وبين ربهم، والحكم هو ما أمرهم فيه أن يحكموا فيما بين العباد واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالنُّبُوَّةَ} إنما ذكر النبوة؛ لأن النبوة كانت ظاهرة في بني إسرائيل، فإنه ذكر أن في بني إسرائيل كذا كذا رسولا ونبيًّا، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} قد كان رزقهم من الطيبات ما ذكر من المن والسلوى، وغير ذلك من الطيبات، ما لا يحصى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} قد ذكرنا تفضيلهم على العالمين في موضعه. ١٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧) قَالَ بَعْضُهُمْ: {بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ} أي: آيات من الأمر. وقيل: {بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ} أي: ما بين لهم من الحلال والحرام والشبه، ونبأ ما كان قبلهم، واللّه أعلم. ويحتمل {بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ} أي: بيان ما تقع الحاجة إليه من الأمر. وعندنا {بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ} يخرج على وجهين: أحدهما: {وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ} أي: بينات التكوين ودلالات لما جعل اللّه لهم في نفس كل أحد من دلالات وحدانيته وألوهيته. أو ما أقام من الآيات في العالم على التكوين يدل على جعل الألوهية والربوبية له. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} على ما ذكرنا من أمر التكوين؛ أي: ما اختلفوا في صرف الألوهية والوحدانية عن اللّه - تعالى - إلى غيره {إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} أي: إلا من بعد ما بين لهم أن الألوهية والربوبية له بالدلالة الواضحة والحجة النيرة، وأن له الخلق والأمر؛ إلا أنه ذكر العلم وأراد به أسباب العلم ودلائله، واللّه أعلم. والثاني: يحتمل قوله - تعالى -: {وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ}: أمر المجيء من الأمر والنهي، والتحليل والتحريم، وبيان ما يؤتى وما يتقى، وما لهم وما عليهم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} واختلافهم فيما امتحنوا يتوجه إلى وجوه: أحدها: ما اختلفوا فيما امتحنوا من الدِّين، أو فيما امتحنوا في اتباع رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والإجابة له إلى ما يدعوهم إليه والطاعة له. ويحتمل: اختلافهم الذي ذكر الاختلاف في القرآن، أو فيما امتحنوا من التحليل والتحريم. ثم يخبر اللّه - تعالى جل وعلا - أنهم ما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بالحق في ذلك والبيان أنه من اللّه، وأن ما هم عليه باطل مضمحل. ثم أخبر أن اختلافهم إنما هو لبغي بينهم وحسد، حملهم ذلك على الاختلاف فيما بينهم. ثم أخبر أنه {يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}. ثم قوله - تعالى -: {يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يحتمل وجهين: أحدهما: أي: يجزيهم في الآخرة جزاء اختلافهم في الدنيا. أو {يَقْضِي}: أي: يفصل ويبين لهم يوم القيامة الحق من الباطل، والمحق والمبطل، واللّه أعلم. ١٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (١٨) يحتمل أن يكون هذا صلة قوله - تعالى -: {وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ} كأنه يقول: وآتيناهم بينات من الأمر، وجعلنا ذلك شريعة لك، فاتبعها أنت وإن لم يتبعوها هم. والشريعة: هي الملة والمذهب، وهي ما شرع فيه ويذهب إليه؛ كذلك قاله الْقُتَبِيّ؛ قال: يقال: شرع فلان في كذا إذا أخذ فيه، ومنه: مشارع الماء: الفُرَض التي يشرع فيها الناس والواردة. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الشريعة: السنة، واللّه أعلم. ثم أخبر أن الذي هم عليه إنما هو هوى النفس، فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}. يحتمل قوله - تعالى -: {لَا يَعْلَمُونَ} لما لم يتأملوا فيه ولم يتفكروا ما لو تأملوا وتقكروا فيه لعلموا؛ لأنه قد ذكر في أوّل الآية أنهم إنما اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم؛ أي: جاءهم من دلائل العلم ما لو تأملوا ونظروا فيها لعلموا. والثاني: نفى عنهم العلم؛ لما لم ينتفعوا بما علموا وما جعل لهم من العلم، واللّه أعلم. ١٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللّه شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللّه وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩) أي: لو اتبعت أهواءهم {لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللّه}؛ أي: لم يغنوا أُولَئِكَ عن دفع ما ينزل بك من عذاب اللّه شيئًا، وهو ما قال في آية أخرى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ. . .} إلى قوله: {إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ. . .} الآية. ثم أخبر أن الظالمين بعضهم أولياء بعض بقوله: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} يحتمل ولاية الدِّين والمذهب؛ أي: بعضهم يوالي بعضًا في الدِّين. ويحتمل في غيره؛ أي: يلي بعضهم أمر بعض في الإعانة والنصرة، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاللّه وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} يحتمل: أي: يلي أمور المتقين. ويحتمل: {وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} أي: ناصرهم ومعينهم. ٢٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠) سمى اللّه - تعالى - هذا القرآن: بصائر، وهو ما يبصر به، ومرة: هدى، وبيانًا، ورحمة، ونورًا، ونحوه، وهو هكذا، هو هدى، وبيان، ونور، وبصيرة لمن اتبعه ونظر إليه بعين التعظيم والتبجيل وقبله. ويحتمل: {بَصَائِرُ}: بيان يبين لهم أنه من اللّه، فيبين لهم الحق من الباطل، ويبين ما لهم وما عليهم لمن ذكر {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}. ٢١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (٢١). وقال بعض أهل التأويل: نفر من الكفرة قالوا: واللّه إن كان ما يقوله مُحَمَّد من الثواب والنعيم في الجنة حقًّا فنحن أولى بذلك منهم، كما كنا في نعيم الدنيا ولذاتها أولى منهم، ولنعطين أفضل مما يعطون، ولنفضلن عليهم كما فضلنا في الدنيا؛ فأنزل اللّه - سبحانه وتعالى - في ذلك: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ. . .} الآية. لكن هذا التأويل ضعيف؛ لأن هذا لا يصلح أن يكون جوابًا للنازلة التي ذكرها أهل التأويل؛ لأن أُولَئِكَ قالوا: نحن أولى بما يكون في الآخرة من النعيم واللذات منهم كما كنا في الدنيا أولى، وكما فضلنا في الدنيا نفضل في الآخرة؛ فلا يكون قوله - تعالى -: {أَنْ نَجْعَلَهُمْ. . . سَوَاءً} جوابًا لما قالوا، وهم إنما قالوا: نحن أولى بذلك، ونحن نفضل فيها كما فضلنا في الدنيا؛ فإذا كانوا حسبوا هم أنهم يفضلون على المؤمنين في الآخرة دون المساواة كيف يخبر عنهم أنهم حسبوا التساوي، ولا خلف في خبر اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - واللّه أعلم. لكن الآية عندنا إنما كانت في منكري البعث وجاحديه، يقول - واللّه أعلم -: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً. . .} الآية أي: لو كان الأمر على ما ظن أُولَئِكَ بأن لا بعث ولا نشور كان في ذلك جعل {الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} -أي: الشرك- {كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ}؛ لأنهم جميعًا قد استووا في هذه الدنيا، في لذاتها، ونعيمها، وشدتها، وآلامها، وفي الحكمة والعقل التفريق بينهما والتمييز، وإنزال كل واحد منهما منزلته، وما يستحقه المسيء العقوبة، وجزاء الإساءة، والمحسن الإحسان والإفضال وجزاء إحسانه، فإذا جمع بينهما في هذه الدنيا على ما ذكرنا دل أن هنالك دارًا أخرى فيها يفرق ويميز بينهما في حق الثواب والعقاب - واللّه أعلم - وهو كقوله - تعالى -: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا}، لو كان كما ظن أُولَئِكَ الكفرة أن لا بعث ولا نشور كان خلق ما ذكر من السماوات والأرض وما بينهما باطلا على ظنهم، فكذلك قوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}، صير خلق السماوات والأرض إذا لم يكن هنالك رجوع إليه عبثًا باطلا، فهذا أولى وأحق أن يصرف إليه الآية، وعلى ذلك ما ذكر في قوله - تعالى -: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ. . .} الآية، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا}، أي: لا يستويان، ولو كان الأمر على ما ظن أُولَئِكَ أن لا بعث ولا نشور ولا حياة، كان في ذلك استواء بين من ذكر، وقد سوى بينهما في الدنيا، وفي الحكمة والعقل التفريق بينهما والتمييز؛ إذ لا يجوز التسوية بين الولي والعدوّ، وقد سوى بينهما في الدنيا؛ فعلم أن المراد به نفي الاستواء بينهما في دار أخرى، واللّه الموفق. ثم اختلف أهل الكلام فيما يعطى الولي والعدو في هذه الدنيا من الصحة والسلامة؛ على قول أكثر المعتزلة أن اللّه - تعالى - لا يعطي أحدًا في الدنيا من كافر أو مؤمن شيئًا إلا وهو أصلح له في الدِّين، ثم على قولهم لا يظهر عفو اللّه تعالى في الآخرة؛ لأنهم يقولون: إنما يستوجبون الثواب والجنة بأعمالهم، لا برحمة اللّه - تعالى - فإذا عفَا عن المسيء فلا يعلم أنه كان مستحقًّا لذلك أو يعفو عنه فضلا. وعندنا أن ما أعطاهم إنما يعطيهم إفضالا منه ورحمة، فيعرفون فضله وإحسانه وعفوه، وأكثر أصحابنا يقولون: إن جميع ما أعطى الكافر في الدنيا فهو شر له؛ كقوله - تعالى -: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا}، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ)، ونحو ذلك ما يخبر أن ما يعطي إياهم يكون شرًّا لهم، وما أعطى المؤمنين يكون خيرًا لهم. ولكن عندنا ليس هذا على الإطلاق والإرسال، ولكن ما كان توفيقًا منه على الخيرات في نفسها فهو خير له، وما كان خذلانًا فهو شر له، وليس على اللّه حفظ الأصلح لهم؛ على ما يقوله المعتزلة، ولكنه يفعل بهم ما هو حكمة وعدل كما يفعل ما هو إحسان وفضل، واللّه الموفق. ٢٢قَالَ الْقُتَبِيُّ: {اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} أي: اكتسبوها، ومنه قيل لكلاب الصيد: جوارح. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَخَلَقَ اللّه السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٢٢) كأنه يقول - واللّه أعلم -: {وَخَلَقَ اللّه السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} أي: إنما خلق ما ذكر بالحق لتجزى كل نفس بما كسبت، فلو لم يكن جزاء لما كسبوا في الدنيا في الآخرة على ما قال أُولَئِكَ الكفرة أن لا جزاء من الثواب والعقاب؛ لإنكارهم البعث - لم يكن خلقهما بالحق؛ على ما ذكرنا، فتبين أنه إنما صار خلقهما بالحق إذا كان هنالك جزاء؛ وهذا يدل على أن الآية الأولى هي في منكري البعث، ليست فيما ذكر أهل التأويل، واللّه أعلم. ٢٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللّه عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللّه أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٢٣) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: على التحقيق؛ على ما قاله عامة أهل التأويل: أنهم عبدوا كل شيء استحسنوه، فإذا استحسنوا شيئًا آخر أحسن منه تركوا عبادة الأول وعبدوا الثاني، فتلك كانت عادتهم، وذلك اتخاذ الآلهة بهواهم؛ إذ الإله هو المعبود عندهم، وهو التحقيق الذي ذكرنا. والثاني: على التمثيل، وهو ما قال قتادة أنهم ما هووا شيئًا إلا ركبوه، لا تمنعهم مخافة اللّه عما هووه، ولا تردعهم خشيته عما اشتهوا، فصيروا هواهم متبعًا، فهو كالإله لهم، لا يتبعون أمر اللّه، فلا يكترثون له، أو كلام نحوه، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَضَلَّهُ اللّه عَلَى عِلْمٍ} هذا يخرج على وجوه: أحدها: أي: أضله اللّه على علم من ذلك الإنسان بطريق الهدى والحق، لا أنه أضله على خفاء من ذلك الإنسان بالطريق الحق وسبيله؛ أي: قد بين له السبيل وطريق الحق، لكنه باختياره الضلال أضله؛ لما علم منه أنه يختار الضلال والكفر؛ ليكون ما علم أنه يكون ويختار، واللّه أعلم. والثالث: أضله اللّه - تعالى - على علم؛ أي: أنشأ منه فعل الضلال على علم منه بذلك، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً}؛ هذا يخرج على وجهين: أحدهما: أي: غطى قلبه بما هواه، وجعل فيه ظلمة، فتلك الظلمة وذلك الغطاء أوجب غطاء السمع والبصر، وحال بينه وبين سماع الحجج والبراهين، وصارت ظلمة البصر وغطاؤه مانعًا لهم عن اكتساب التدبّر والتفكر. ويحتمل أن يكون ما هووه مانعًا لهم عن اكتساب الحياة الدائمة لما لو اتبعوا أمر اللّه - تعالى - وما دعاهم إليه كانت لهم تلك الحياة؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {اسْتَجِيبُوا للّه وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}، وكقوله - تعالى -: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ}، فما هووه واتبعوه منعهم عن اكتساب الحياة الدائمة المدعو إليها، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللّه} هذا - أيضًا - يحتمل وجهين: أحدهما: حقيقة الهداية، وهو التوفيق والعصمة، فكأنه يقول - واللّه أعلم -: فمن يقدر دون اللّه على هدايته وتوفيقه بعد اختياره الضلال. والثاني: الهدى: البيان؛ فكأنه يقول: فمن يقدر أن يأتي ببيان أكثر وأبين من بعد بيان اللّه - تعالى - الذي بين له؟ أي: لا أحد يقدر على ذلك {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} أي: أفلا تتعظون، أو {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} بيان اللّه أو ما بين لكم، واللّه أعلم. ثم الآية في قوم علم اللّه أنهم لا يؤمنون أبدًا؛ لئلا يشتغل بهم، ولا يهمّ لهم، ولكن يشتغل بغيرهم، ويقطع طمعه عن إيمانهم، واللّه أعلم. ٢٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (٢٤) أي: ما قالوا: ما الحياة إلا حياة الدنيا. ويحتمل أنهم يقولون: {مَا هِيَ} أي: لا حياة إلا الحياة التي دنت منا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {نَمُوتُ وَنَحْيَا} يخرج على وجهين: أحدهما: أي: نموت نحن وتحيا أبناؤنا وأولادنا. والثاني: {نَمُوتُ} أي: كنا ميتين فحيينا {نَمُوتُ} بمعنى: كنا أمواتًا {وَنَحْيَا} أي: فصرنا أحياء، ثم لا حياة بعد تلك الحياة، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} هذا يخرج على وجهين: أحدهما: أي: ما يهلكنا إلا مرور الأزمنة والأوقات؛ أي: بسبب مرور الأوقات ينتهي آجالنا، ونبلغ إلى الهلاك، وكذلك قَالَ الْقُتَبِيُّ: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} أي: إلا مرور السنين والأيام. والثاني: أن يكون الدهر عندهم عبارة عن الأبد؛ فكأنهم يقولون في قوله: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ}: وما يهلك أنفسنا إلا الدهر؛ لأن أنفسنا لم تجعل للأبد، ولا للبقاء للأبد، بل جعلت للانقضاء والفناء، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} أي: ما هم إلا على ظن يظنون. والثاني: {وَمَا لَهُم بِذَلِكَ} أي: وما لهم بما قالوا: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} - {مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} أي: ما هم إلا على ظن يظنون؛ أي: على ظن يقولون ذلك، لا عن علم، واللّه أعلم. ٢٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٥) أي: وإذا تتلى عليهم آياتنا في البعث والحياة بعد الموت {بَيِّنَاتٍ} أي: ما يوضح ويبين لهم البعث والحياة بعد الموت. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}، والإشكال: أنه لماذا ذكر {مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ} وإذ لم يعذروا. فنقول: الحجة هي التي إذا أقامها الإنسان وأتى بها عذر في ذلك، وما قالوا لم يكن حجة؛ إذ لم يعذروا، فيكون معنى قوله: {مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ} أي: ما كان احتجاجهم إلا أن قالوا كذا. أو نقول: ما كانوا يحتجون إلا أن قالوا كذا. ثم قوله: {ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فيه دلالة ألا يلزم المسئول أن يأتي بحجة وآية يختارها السائل ويشتهيها، لكن يلزمه أن يأتي بما هو حجة في نفسه، ويلزمه الاتباع بها، فأما أن يلزم على ما يختاره السائل أو يتمناه فلا، وقد أتاهم اللّه - تعالى - من الآيات والحجج ما ألزمهم القول بالبعث والإقرار به. ثم أخبر أن اللّه - تعالى - هو يحييكم ثم يميتكم، لا الدهر الذي قالوا، وهو قوله: ٢٦(قُلِ اللّه يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٢٦) يحتمل قوله: {قُلِ اللّه يُحْيِيكُمْ} أي: يحييكم في قبوركم، {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} وفيها، {ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}. أو يقول: {اللّه يُحْيِيكُمْ} في ابتداء الأمر، {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} في الدنيا عند انقضاء آجالكم، {ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} أي: ولكن أكثر الناس لا ينتفعون بما يعلمون. أو يقول: ولكن أكثر الناس لا يعلمون؛ لما تركوا النظر بالتأمل في أسباب العلم. ٢٧وقوله - عَزَّ وجل -: (وَللّه مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧) هذا يخرج على وجوه: أحدها: وللّه ملك كل ملك في السماوات والأرض. أو {وَللّه مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: خزائن السماوات والأرض، وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود، رَضِيَ اللّه عَنْهُ. أو يقول: وللّه حقيقة ملك السماوات والأرض. فإن كان التأويل هو الأول فإن له ملك كل ملك في السماوات والأرض، ففيه إخبار وإعلام بليغ أتباعَ أُولَئِكَ الملوك، وذوي التعظيم لهم، والإجلال، والخدمة لهم بما في أيديهم من الملك والسلطان وفضل الأموال ألا يصرفوا ذلك إليهم؛ بل فيه الأمر بصرف ذلك كله إلى اللّه - تعالى - والقيام له بالشكر، لا لأُولَئِكَ؛ لأن الذي في أيديهم للّه - تعالى - وهو الجاعل في أيديهم، والواضع عندهم، فإليه يلزم صرف الشكر والعبادة، واللّه أعلم. وإن كان تأويل الملك: الخزائن، ففيه قطع الأطماع عما في أيدي الناس، والأمر بصرف ذلك إلى اللّه - تعالى - والرجاء منه دون من سواه، واللّه أعلم. وإن كان الثالث، وهو أن حقيقة الملك للّه - تعالى - ففيه أنه فيما امتحنهم في الدنيا بأنواع المحن لم يمتحنهم لمنفعة ترجع إلى نفسه، أو لمضرة يدفع عنها، وكذلك ما يثيبهم في الآخرة ويعاقبهم، ليس يفعل ذلك لمنفعة كانت له في الدنيا أو دفع مضرة عنه، ولكن لحكمة أوجبت ذلك لهم وعليهم، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وجل -: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} سمى القيامة: ساعة، فجائز أن يكون سماها بذلك؛ لسرعة قيامها، أو نفاذها؛ كقوله - تعالى -: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ}. أو أن يكون سماها بذلك؛ لما يكون حسابهم وأمرهم يوم القيامة إنما يكون في ساعة، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وجل -: {يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ} يحتمل: أي: يومئذ يبين خسران المبطلين في الدنيا، وعلى ذلك يبين خسران كل مشتركين في تجارة الدنيا؛ إذا اشتركوا في عمل عند القسمة يتبين خسران عملهم وتجارتهم. وأصله أن اللّه - تعالى - جعل الدنيا وما أنشأ فيها من الأموال والأملاك رءوس أموال لأهلها يتجرون ويكتسبون بها الربح في الآخرة، وأنه إنما أنشأ الدنيا للآخرة، لا أنه أنشأها لنفسها؛ ولذلك قال: {إِنَّ اللّه اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} الآية، وقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّه}، ونحوه، واللّه أعلم. ٢٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) يحتمل أن يكون ما ذكر من الجثو للركب في الآخرة تعريف لهم وإنباء أنهم يختصمون يوم القيامة جاثين للركب، كما يختصم في الدنيا عند الحكام والأمراء جاثين للركب، واللّه أعلم. ويحتمل أن يذكر جثوهم؛ لما لا تقوم بهم الأقدام، أو لا تحملهم؛ لهول ذلك اليوم والخوف فيها؛ فيكونون جاثين للركب ويقومون بها، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} يحتمل: {كِتَابِهَا}: كتاب كل في نفسه، وهو كقوله - تعالى -: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ}، وقوله - تعالى -: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ}، و {أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} ونحوه. ويحتمل أن يكون قوله: {كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} الذي دعيت كل أمة إليه في الدنيا؛ من نحو القرآن، ونحوه؛ فيقال: يا أهل الإنجيل، يا أهل التوراة، ونحو ذلك، واللّه أعلم. ويحتمل أن يكون {كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} أي: إلى حسابها الذي عملت في الدنيا؛ تفسير ذلك ما ذكر: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ}. ٢٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ ... (٢٩) يحتمل الكتاب الذي أضاف إلى نفسه هو القرآن الذي كان ينطق لهم بالحق؛ أي: بالحق الذي للّه عليهم، وما لبعضهم على بعض. أو {بِالْحَقِّ} أي: بالصدق بأنه من اللّه - تعالى - واللّه أعلم. ويحتمل أن يكون ذلك الكتاب هو الكتاب الذي يكون لكلٍّ بالانفراد للذي كتبته له الملائكة مما عملوا من خير أو شر، وهو كقوله - تعالى -: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} اختلف في تأويله: قَالَ بَعْضُهُمْ: إن الحفظة تكتب أعمال بني آدم ثم يعارضون ذلك بما في اللوح المحفوظ المكتوب فيه: أن فلانًا يعمل كذا وكذا، فلا يؤيد شيء ولا ينقص. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - يقول قريبًا من هذا: إن في السماء كتابًا عليه ملائكة، والملائكة الذين مع بني آدم يستنسخون من ذلك الكتاب ما يعملون، ثم قال: وهل تكون النسخة إلا من كتاب أو شيء، واللّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ملكان موكلان بالكتابة، يكتب كل واحد منهما ما يعمله، فإذا أرادا أن يصعدا إلى السماء فيعارض كل واحد منهما كتابه الذي كتبه مع كتاب الآخر فلا يخطئ حرفًا مما كتب هذا ما كتب الآخر، واللّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: عرض كتاب الناس الذي عملوا كل يوم أو كل خميس، فينسخ منه الخير والشر، وما يثاب عليه وما يعاقب، ويلقى ما سوى ذلك مما لا ثواب له ولا عقاب، واللّه أعلم. ويحتمل أن يراد من الانتساخ: ابتداء الكتابة من غير أخذ من كتاب أو نحوه، فإنه يجوز أن يستعمل الانتساخ في ابتداء الكتابة على غير أخذ من الكتاب أو غيره، نحو أن يقول الرجل: انتسخته، أي: كتبته، فيكون كأنه قال: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ} أي: نكتب ما كنتم تعملون ونثبته عليكم من خير أو شر، فيخرج لهم كتبهم التي فيها أعمالهم، فكانت عليهم حجة، وهي التي كتبت عليهم الحفظة. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الجاثية هي التي جثت واجتمعت، ويقال: تجاثينا: أي: بركنا على ركبنا للخصومة. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: جاثية على الركب، يراد: أنها غير مطمئنة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} أي: إلى حسابها. وقوله: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} يريد: أنهم يقرءونه فيدلهم ويذكرهم؛ فكأنه ينطق عليهم. وقوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ} أي: نكتب على ما ذكرنا، واللّه أعلم. ٣٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠) أي: آمنوا بجميع ما كان عليهم الإيمان به والتصديق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي: عملوا بما فيه صلاحهم، وما يوجبه الحكمة من العمل {فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ} أي: في جنته، سمى الجنة: رحمة؛ لأنها تنال برحمته، ويدخل فيها. أو سماها: رحمة؛ لأنها هي النهاية والغاية التي تطلب بالرحمة وتراد بها. وقوله: {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} الآية. الفوز: هو الظفر بما يؤمل ويرجو من العمل، أو يقال: الفوز: هو الفلاح الذي لا خوف بعده، واللّه أعلم. ٣١وقوله: (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ ... (٣١) كأن فيه إضمارًا؛ لأن قوله - تعالى -: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} إنما هو إخبار عن المعاينة. وقوله - تعالى -: {أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} خطاب ومشافهة، فليس هو من جواب الأول، ولا من نوعه؛ فكأنه قال - واللّه أعلم -: وأما الذين كفروا في الدنيا فيقال لهم في الآخرة إذا طلبوا الرجوع والإقالة أو التخفيف ونحو ذلك: {أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} في الدنيا. ثم يحتمل: آياته: آيات وحدانيته وألوهيته، أو آيات قدرته وسلطانه على التعذيب، أو آيات قدرته على البعث أو آيات رسالته، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ} لا أحد يقصد قصد الاستكبار على آيات اللّه، لكنهم لما كذبوها وردوا آياته ولم يعملوا بها، فكأنهم استكبروا عليها، وهو كما قال: {لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} ولا أحد يقصد قصد عبادة الشيطان، لكنهم لما عبدوا الأصنام بأمر الشيطان فكأنهم عبدوه. ويحتمل أن يكونوا استكبروا على رسله؛ فيكون استكبارهم على رسله كأنهم استكبروا على آياته، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ} قيل: المجرم هو الوثَّاب في المعصية، واللّه أعلم. ٣٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللّه حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢) كان عندهم فيها ريب، لكنهم لو تأملوا ونظروا فيما أقام من آياته، زال عنهم الريب الذي كان لهم فيها. ويحتمل أن يقال هذا على الإيقان إذا كان القائل به موقنًا، وإن كان الذي يقال له شاكًّا في ذلك. والأول أقرب وأشبه. ثم الناس رجلان في الساعة: موقن بها ومتحقق، ولكن في العمل لها والاستعداد لها كالظان. والثاني: ظان بها، شاك فيها جاحد لها ومكذب كالموقن ألا تكون. ثم الإيقان بالشيء هو العلم بالأسباب الظاهرة، وقد يدخل في تلك الأسباب أدنى شبهة وشك؛ لذلك ذكر فيه الظن، واللّه أعلم. وأما العلم بالشيء قد يكون بالسبب، وقد يكون بالتجلي له بلا سبب؛ ولذلك وصف اللّه - تعالى - بالعلم، ولم يوصف بالإيقان، ولا يقال: إنه موقن؛ لما ذكرنا: أن أحدهما يكون بأسباب والآخر لا - واللّه أعلم - فيتمكن في الإيقان أدنى شبهة وشك، وقد يعمل غالبًا لأسباب على حقيقة الأعمال؛ نحو المكره على الشرّ يعلم بما أوعد به بغالب أسبابه ليس على الحقيقة، واللّه أعلم. ٣٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (٣٣) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: بدا لهم أن الأعمال في الدنيا أنها أسباب في الآخرة؛ لأنهم عملوها في الدنيا وعندهم أنها حسنات، فيظهر لهم في الآخرة أنها سيئات. والثاني: {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} أي: ظهر لهم في الآخرة وتذكروا سيئات ما عملوا في الدنيا والآخرة، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} أي: نزل بهم، ووجب ما كانوا يستعجلون من الرسل، وهو العذاب الذي كانوا يوعدونهم؛ لأنهم كانوا يستعجلون ذلك استهزاء منهم بهم بأنه غير كائن، ولا نازل بهم ما كانوا يوعدونهم، واللّه أعلم. ٣٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٣٤) والإشكال: أنهم كيف ينسون يومئذ؟ لأنهم لو كانوا ينسون، لسلموا من العذاب، لكن ما ذكر من النسيان يخرج على وجهين: أحدهما: كنى بالنسيان عن الترك؛ يقول: اليوم نترككم في النار وفي العذاب كما تركتم أنتم العمل لذلك اليوم والنظر فيه. والثاني: على التمثيل؛ أي: اليوم نصيركم في النار كالشيء المنسي لا يكترث إليكم، ولا يلتفت، ولا يعبأ بكم كما صيرتم أنتم ذلك اليوم كالشيء المنسي، لم تكترثوا إليه، ولم تعملوا له، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} جعل اللّه - تعالى - النار لهم مأوى بإزاء كل ما افتخروا في الدنيا على رسل اللّه - عليهم السلام - وأتباعهم من المنازل، والمراكب، والملابس، وغير ذلك، وأخبر أنه لا ناصر لهم يملك إخراجهم من تلك النار والمأوى الذي جعل لهم، ولا يقدر دفع ذلك عنهم، واللّه أعلم. ثم أخبر أن بعض ذلك الذي أصابهم ونزل بهم إنما كان بما ذكر من اتخاذهم آيات اللّه هزوا في الدنيا، هزوا بها وسُخرًا بالرسل، عليهم السلام. ثم آيات اللّه يحتمل ما ذكرنا من آيات وحدانيته وألوهيته، أو آيات قدرته وسلطانه على البعث، أو آيات رسالة الرسول، عليه السلام. ٣٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ... (٣٥) قد ذكرنا فيما تقدم معنى نسبة التغرير إلى الحياة الدنيا، وإضافته إليها وإن لم يكن منها على التحقيق تغرير وخداع، وهو أنهم إنما اغتروا بها، فنسب فعل التغرير إليها، هي غرتهم، وقد ينسب الفعل إلى السبب الذي به صار ذلك، وإن لم يكن منه حقيقة ذلك؛ نحو قوله - تعالى -: {وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا}، أي: يبصر به، وذلك كثير في اللغة. أو يقال: إن ما كان منها، لو كان ذلك ممن يحتمل التغرير ويملك ذلك كان تغريرًا، واللّه أعلم. وقوله: {فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} اختلف في قوله: {وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}: قَالَ بَعْضُهُمْ: إنهم يعاتبون إلى أن يدخلو! النار: إنكم فعلتم كذا، وتركتم كذا، ولم فعلتم كذا؟ فإذا دخلوا النار يترك العتاب ويجعل كالشيء المنسي فيها، واللّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} أي: لا يسترجعون إلى ما يطلبون من العود والرجوع إلى العمل الصالح؛ لقولهم: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ. . .} الآية. ثم في قوله: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا}، وقوله: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا. . .} الآية، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} - دلالة ألا يجب أن يفهم على ظاهر ما خرج الخطاب؛ لأنه ذكر الظن في المؤمنين، والمراد به: الإيقان، لا ظاهر الظن، وذكر في الكافرين الظن وأريد به الحقيقة، ولا يجوز أن يفهم من الظن في الفريقين معنى واحد، بل يفهم من هذا غير الذي فهم من الآخر، واللّه أعلم. ٣٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَللّه الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٣٦) إن جميع ما ذكر في القرآن من الحمد له فإنما ذكر لأحد شيئين: أحدهما: بما يستحق من الثناء بتعاليه عن جميع معاني الخلق وأوصافهم. والثاني: بما يستحق مِن الثناء بتفضله عليهم بالنعم والإحسان الذي منه إليهم، وهو ما قال: {الْحَمْدُ للّه رَبِّ الْعَالَمِينَ}، و {الْحَمْدُ للّه الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}، ونحو ذلك، واللّه أعلم. وأصل آخر: أنه إذا أضيفت كلية الأشياء إلى اللّه - تعالى - ففيه وصف له بالعظمة والجلال وإذا أضيفت جزئية الأشياء إليه وخاصيتها، فإنما فيه تعظيم تلك الخاصية المضافة إليه، وفي قوله - تعالى -: {فَللّه الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} إضافة كلية الأشياء إليه والخاصية والجزئية، ففيه الأمران جميعًا، فإن قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَللّه الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ} إضافة جزئية الأشياء إليه وخاصيته، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} إضافة كلية الأشياء إليه، واللّه أعلم. وقد تقدم ذكر الرب في غير موضع. ٣٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣٧) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: أي: وله الوصف بالكبرياء والعظمة على أهل السماوات وأهل الأرض أن يصفوه بالكبرياء والعظمة. أو: من حقه على أهل السماوات وأهل الأرض أن يصفوه بالكبرياء والعظمة والجلال، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي: هو العزيز الذي لا يلحقه الذل بخلاف الخلق له ولا بعصيانهم. أو {وَهُوَ الْعَزِيزُ} بما به يتعزز من أعز دونه، ومن وصف بعز دونه، فذلك راجع في الحقيقة إليه، {الْحَكِيمُ} الذي وضع كل شيء موضعه، أو الحكيم الذي لا يلحقه الخطأ في التدبير، واللّه الموفق، والحمد للّه رب العالمين. * * * |
﴿ ٠ ﴾