سُورَةُ الْأَحْقَافِ

وهي مَكِّيَّة

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١-٢

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللّه الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) قد ذكرنا تأويله فيما تقدم.

٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ... (٣).

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِلَّا بِالْحَقِّ} أي: ما أخلق السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق الذي صار به إنشاء ذلك وخلقه حكمة؛ لأنه لو كان الأمر على ما ظن أُولَئِكَ الكفرة وتوهموا بأن لا بعث ولا جزاء من ثواب وعقاب كان إنشاء ما ذكر من السماوات والأرض وخلق ذلك كله - عبثًا باطلا على ما تقدم ذكره في غير موضع، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} يحتمل {عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} وجوها:

أحدها: أي: بما ألزمهم من النظر والتفكر فيما ذكر من خلق السماوات والأرض، وما أنشأ فيهما من المنافع، وجعل ذلك لهم آية، لم يفعل ذلك كله عبثًا باطلا، ولكن لعاقبة تقصد، ولأمر يراد؛ إذ عرفوا بعقولهم: أنه لا يجوز خلق الخلق على أن يهملوا ويتركوا سدى لا يؤمرون، ولا ينهون، ولا يمتحنون، فأعرضوا عما ألزمهم من النظر والتفكر في ذلك فهم معرضون إعراض ترك النظر والتفكر، واللّه أعلم.

والثاني: ما أنذروا بما نزل بمن تقدمهم من مكذبي الرسل، عليهم السلام.

والثالث: بما أنذر وأوعد لهم من العذاب في الآخرة، فهم معرضون عن ذلك كله، واللّه أعلم.

٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٤) يحتمل أن يكون ما ذكر كله موصولا بعضه ببعض.

ويحتمل أن يكون بعضه مفصولا عن بعض.

فإن كان على الوصل، فكأنه يقول: أرأيتم ما تعبدون من دون اللّه من الأصنام وتدعونها آلهة: هل خلقوا مما لكم من المنافع، ومما به حياتكم وقوامكم ومعاشكم مما يخرج من الأرض، أو هل ينزلون لكم من المنافع التي جعلت لكم في السماء من الأمطار وغيرها.

أو هل أتاكم كتاب من عند اللّه فيه أنه أمركم بعبادة من تعبدونه {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} هو يخرج على وجهين:

أحدهما: أو جاءكم من الحكماء الأولين المتقدمين كتاب أو قول فيه الأمر بذلك، واستخرجتم من العلوم ذلك؛ ففعلتم به؟ يقول - واللّه أعلم -: إن الأسباب التي تحمل الناس على العبادة والخدمة لهم هذه الوجوه: إما منافع تتصل بهم منهم مما به قوامهم ومعاشهم وحياتهم وإما كتاب من اللّه - تعالى - فيه حجة لهم، وأمر لهم في ذلك، أو كتاب من الحكماء والرسل يأمرون لهم، وهم قوم لا يؤمنون بالرسل، ولا بالكتاب، وليست لهم علوم مستخرجة من العلوم، يقول: ليس لكم شيء مما ذكر من الأسباب والعلوم فبم عبدتموها؟ وكيف اخترتم عبادتها على عبادة من عرفتم أن ما به قوامكم وحياتكم منه؟! واللّه أعلم.

وإن كان مفصولا من بعض فيكون كأنه يقول: {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} من المنافع وغيرها، {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ} فيما ذكر؟ فإن قالوا: قد خلقوا ما ذكر، ولهم شرك فيما ذكر، فقل لهم {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا} من كتاب الحكماء أو العلوم المستخرجة من العلوم {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أنهم خلقوا ما ذكرتم، أو لهم شرك فيما ذكر - واللّه أعلم - وقد علموا أنهم لا يقدرون أن يرونه ما ذكر؛ لما لم يكن لهم من هذه الأسباب شيء؛ إذ هي أسباب العلم، وقد عجزوا عن ذلك كله.

ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ}

قَالَ بَعْضُهُمْ: أو خاصة من علم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: أو بقية من علم أوائلهم؛ وهو قول الْقُتَبِيّ؛ أي: بقية من علم يؤثر عن الأولين، ويقرأ (أثرة) و [(إثارة)]، وأصله ما ذكرنا من الوجهين:

أحدهما: كتاب الحكماء والرسل.

والثاني: العلوم المستخرجة من سائر العلوم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} هو الخط؛ وهو قول ابن عَبَّاسٍ، رضي اللّه عنه.

وذكر عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " كان نبي من الأنبياء - عليهم السلام - يخط، فمن صادف مثل خطه علم ".

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} أي: قديم من علم، قال: ذا الأثارة: الشحم القديم.

وقيل: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} أي: رواية عن الأنبياء عليهم السلام.

٥

ثم ذكر سفههم وبين نهاية تعنتهم، وهو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللّه مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ... (٥) لأنه لا يملك إجابته ولا يحتمل ذلك.

والثاني: لا يستجيب له إلى يوم القيامة، ثم إذا جاء به يوم القيامة أجابه باللعن والتبري، كقوله - تعالى -: {يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا}، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا}، وقوله - تعالى -: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ}، وغير ذلك من الآيات التي فيها ذكر تبرى بعضهم من بعضٍ، ولعن بعضهم بعضًا، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} لم يكن منهم لهم أمر بذلك ولا دعاء ولا شيء من ذلك، كقوله - تعالى -: {إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ}.

٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (٦) هو ما ذكرنا أنه يصير بعضهم لبعض أعداء يتبرءون منهم، ويلعنونهم، ويكفرون بعبادتهم.

٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ... (٧) أي: بينات أنها من اللّه تعالى.

أو بينات: واضحات، ما يبين لهم ما عليهم مما لهم، وما لبعض على بعض وما للّه عليهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} يحتمل أن يكون الحق الذي قالوا: إنه سحر، هو تلك الآيات البينات التي ذكر أنها بينت عليهم قالوا لها: إنها سحر، ودل قولهم: إنها سحر، على أنها كانت معجزات خارجات عن وسعهم، حيث نسبوها إلى السحر.

٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللّه شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨) هذا حرف المنابذة، يقول: إن افتريته فلا تملكون أنتم دفع عقوبة ذلك الافتراء عن نفسي، وهو كقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي}، يقول: عليَّ إثم ذلك وجرمه، وإنَّمَا يقال هذا عند انتهاء الحجج والبراهين غايتها، حتى لا يطمع منهم القبول والنجع فيهم، ويؤيس منهم، فعند ذلك يقال وينابذ، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ} أي: بما تخوضون فيه، يقول هذا ويذكر؛ لئلا يقولوا ولا يدعوا غفلته عن ذلك؛ بل يذكرهم أنه كان عالمًا بما يسرون ويعلنون.

وقيل: {تُفِيضُونَ} من قولهم: أفاضوا، إذا علموا وتحدثوا؛ وهو قول الْقُتَبِيّ.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} يخرج على وجهين:

أحدهما: أي؛ يشهدون في الآخرة: أنّه قد بلغ رسالته.

والثاني: أي: كفى به شهيدًا بيني وبينكم في الدنيا بما علم ما كان منهم من الشرك والتكذيب، ومني من التبليغ، فهو شاهد بما كان مني ومنكم في الدنيا من سرّ وعلانية، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} ذكر هذا في هذا الموضع على إثر ما ذكر من غاية سفههم وتعنتهم - واللّه أعلم - كأنه يقول: إنكم وإن بلغتم في السفه ما بلغتم فإنكم إذا رجعتم عن ذلك وتبتم يغفر لكم ما كان منكم، واللّه أعلم.

ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللّه}، إن كان على

حقيقة العبادة فهو صلة قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ. . .} الآية؛ يقول - واللّه أعلم -: ومن أضل ممن يعبد من لا يملك ما ذكر من خلق الأرض، ولا له شرك في السماوات وما ذكر، وترك عبادة من خلق السماوات، وخلق الأرض، وشهد كل شيء له بذلك، وأتى بالحجج والبراهين على ذلك؛ أي: لا أحد أضل ممن ترك عبادة من هذا وصفه، وصرف العبادة إلى الذي لا يملك شيئًا من ذلك، واللّه أعلم.

وإن كان على الدعاء نفسه فهو صلة ما ذكر من قوله: {لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ}، أي: ومن أضل ممن يدعو من دون اللّه من لا يملك إجابته، ولا يسمع دعاءه، وترك دعاء من يملك إجابته ويسمع دعاءه، ويقدر قضاء ما يدعون ويسألون؛ أي: لا أحد أضل ممن اختار دعاء من لا يملك شيئًا من ذلك على دعاء من يملك ذلك كله؛ يسفههم في صنيعهم واختيارهم على ما اختاروا، واللّه أعلم.

٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩) كأن هذا إنما ذكر - واللّه أعلم - لإنكار أهل مكة الرسل من البشر، واستعظامهم وضع الرسالة فيهم، فقال عند ذلك: {مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} أي: لست أنا بأول رسول من البشر؛ بل لم يزل الرسل من قبل كانوا من البشر في آفاق الأرض وأطرافها، فما بالكم تنكرون رسالتي؛ لأني كنت من البشر وتستعظمونها وسائر الرسل الذين من قبلي كانوا من البشر؟! واللّه أعلم.

قال أَبُو عَوْسَجَةَ: {مَا كُنْتُ بِدْعًا} أي: ما أنا بأولهم، قد أرسل قبلي.

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: وما كنت بدءًا منهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} هذا يخرج على وجوه:

أحدها: أي: ما كنت أدري قبل ذلك ما يفعل بي ولا بكم: أُرسَل، وأُختَص للرسالة، وأُختار لها، وأبعث إليكم، وتلزمون أنتم اتباعي والإجابة إلى ما أدعوكم إليه، واللّه أعلم.

والثاني: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} من إخراجي من بين أظهركم وإهلاككم كما فعل بالرسل الذين كانوا من قبل وأقوامهم، أمروا بالخروج من بين أظهرهم، ثم تعقب ذلك استئصال قومهم؛ أي: ما أدري أيفعل بي وبكم ما ذكرنا كما فعل بمن تقدمنا من الرسل وقومهم، واللّه أعلم.

والثالث: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} مخافة التغيير عليه والتبديل؛ ولم يزل الرسل - عليهم السلام - يخافون تغيير الأحوال عليهم، وتبديل ما أنعم عليهم، وذهاب

ما اختصوا هم به؛ كقول إبراهيم - عليه السلام -: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ}، وقال شعيب - عليه السلام -: {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللّه رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} الآية، وما ذكر في سورة يوسف - عليه السلام -: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللّه. . .} الآية، وقول يوسف - عليه السلام -: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}، وقول يعقوب - عليه السلام -: {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، وقول رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " يا مقلب القلوب ثبت

قلوبنا على طاعتك " لم تزل كانت الرسل - عليهم الصلاة والسلام - على خوف من تغيير الأحوال التي كانوا عليها، فعلى ذلك جائز أن يكون قوله: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} أتغير عليَّ وعليكم الأحوال التي نحن عليها اليوم أم نترك على ذلك؟ وحقيقة هذا الكلام على الاستقصاء قد مرت، واللّه أعلم.

وذكر بعض أهل التأويل: أن أهل مكة كانوا يؤذون رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه - رضوان اللّه عليهم أجمعين - بأنواع الأذية، فشكوا إلى رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ما كانوا يلقون منهم، فقال: " إني لم أومر بشيء فيهم من القتال وغيره فاصبروا على ذلك، ولكني رأيت في المنام أن أهاجر إلى أرض أخرى ذات. . . " كذا؛ فاستبشروا بذلك، ومكثوا بعد ذلك زمانًا لا يرون شيئًا مما ذكر، فشكوا إليه ثانيًا بما يلقون منهم، وقالوا: ما نرى ما قلت لنا من الخروج عنهم، فقال: " إنما رأيت ذلك في المنام ولم يأت به وحي من السماء أيكون ذلك أم لا يكون؟ " أو نحو هذا من الكلام، وهذا لا يحتمل أن يكون؛ فإنه لا يُظن بأصحابه - رضي اللّه عنهم - أن يقولوا له: ما نرى الذي قلت لنا من الخروج عنهم، وفي ذلك اتهامه بذلك، وترك تعظيمه، ولا نظن بالنبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يقول لهم: " أنا رأيت ذلك في المنام، ولم يأت به وحي من السماء "؛ جوابًا لقولهم، ورؤيا الأنبياء - عليهم السلام - كالوحي من السماء، دل أن هذا لا يحتمل أن يصح ويثبت، واللّه أعلم.

وإنما جائز بعض ما ذكر في القصة من الشكاية منهم من الأذى، والوعد لهم بالخروج من بينهم، واللّه أعلم.

والوجوه التي ذكرنا أشبه وأقرب إلى العقل، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} ظاهر.

١٠

وقوله - عزَّ وجلَّ -: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللّه وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ ... (١٠) الآية.

قَالَ بَعْضُهُمْ: إن عبد اللّه بن سلام آمن برسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وشهد أنه رسول اللّه، ثم شهد بمثل ذلك ابن يامين.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: شهد ابن يامين أولا: أنه رسول، وآمن وصدقه، ثم شهد بمثله ابن سلام، واللّه أعلم.

والأشبه في هذا أن يكون قوله - تعالى -: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} التوراة أو موسى - عليه السلام - على ذلك، كقوله - تعالى -: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا}، شهد كتاب وسول اللّه ورسوله - عليه السلام - واللّه أعلم.

ولأن عبد اللّه بن سلام إنما أسلم بالمدينة، وكذلك ابن يامين، وهذه السورة مكية، لكنهم يقولون: هذه السورة مكية إلا هذه الآيات الثلاث، واللّه أعلم.

١١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١) يحتمل أن يكون هذا القول من الأجلة والرؤساء منهم الذين كان منهم صلة الأرحام وأنواع الخيرات والأعمال الصالحة، قالوا: إنا قد سبقناهم في الخيرات سوى ذلك، فلو كان ذلك الذي تدعونا إليه خيرًا ما سبقونا كما لم يسبقونا إلى سائر الخيرات.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} أي: وإذ لم يهتدوا به هم من بيننا فيقولون: هذا القرآن إفك قديم، أي: كذب قديم، فكأن قولهم: {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} بحق الاحتجاج، وقولهم: {فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} تكذيب منهم ورد لذلك.

ثم قوله: {إِفْكٌ قَدِيمٌ} يقولون - واللّه أعلم -: لم يزل من ادعى الرسالة يدعي على اللّه ما يدعي مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من إنزال الكتب عليهم، وبعثه إياهم ابن سلام إلى الناس يطلب الرسالة له عليهم.

١٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢) أي: إمامًا يقتدى به، ورحمة لمن اتبعه في دفع العذاب عنه.

وقوله - تعالى -: {وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ} ذكر - هاهنا - مصدق، ولم يذكر أنه مصدق لماذا؟ لكن قد ذكر في غير آي من القرآن {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}، ثم

قوله: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}، يحتمل: أي: موافقًا لما لم يحرف ولم يغير من تلك الكتب؛ لأن تلك الكتب قد حرفوها وغيروها، ولم يحرف هذا الكتاب، وقد حفظه اللّه - تعالى - عن التبديل والتغيير، فهو مصدق موافق لما لم يغير ولم يحرف من تلك الكتب، واللّه أعلم.

وقوله: {لِسَانًا عَرَبِيًّا} أي: أنزله بلسان عربي؛ ليعلم أنه لم يأخذه مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من تلك الكتب؛ لأن تلك الكتب كانت على غير لسان العرب، ولسانه عربي، ولكن جاءه من اللّه - تعالى - بلسانه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} فمن قرأ: {لِتُنذِرَ} بالتاء فتأويله: لتنذر يا مُحَمَّد الذين ظلموا، ومن قرأ بالياء {ليُنذِرَ} أي: لينذرهم القرآن، وقد ذكرنا فيما تقدم تفسير النذارة والبشارة، واللّه أعلم.

١٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللّه ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) الاستقامة تحتمل وجهين:

أحدهما: أي: {قَالُوا رَبُّنَا اللّه ثُمَّ اسْتَقَامُوا} على ذلك القول الذي قالوا، وثبتوا على ذلك، ولم تتغير، ولم تتبدل حالتهم تلك، واللّه أعلم.

والثاني: {قَالُوا رَبُّنَا اللّه ثُمَّ اسْتَقَامُوا} بحق الوفاء بالعمل بما أعطوا بلسانهم وقلوبهم {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} وقد ذكرناه في غير موضع.

١٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٤) جعل ذلك لهم جزاء أعمالهم بفضله ورحمته، لا أنهم يستوجبون ذلك بنفس عملهم، ولكن بالتفضل والرحمة، وذكر جزاءه الأعمال فضلا منه.

١٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ... (١٥) و {حُسْنًا}؛ كأنه قال: أمرنا الإنسان أن يحسن إلى والديه، فالحسن: هو اسم ما يقع بهم من البر، وهو المفعول، والإحسان هو اسم فعله الذي يفعل بهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا}، وقال في آية أخرى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ}، وقال في آية أخرى: {حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا}، أي: إنها في أول ما حملت أحملت، حملا خفيفًا، فلما كبر أثقلت، وهو وصف الولد.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ}، وذلك في الأم؛ لأنها لا تزال تضعف وتوهن من أول ما حملت إلى آخر ما وضعت.

وقوله - تعالى -: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} في أول ما تحمل تجد كراهة في نفسها إلى وقت وضعها.

والثاني: يشبه أن يكون على الجمع في الأم دون الولد على اختلاف الأحوال، وهو في الابتداء يخف عليها الحمل، ويثقل ذلك عليها إذا دنا وقت وضعها، وما ذكر من الوهن فهو ما ذكرنا أنها لا تزال تزداد ضعفًا فيها ووهنًا من أوّل حملها إلى وقت وضعها، وما ذكر من الكراهة فهو إذا تم حملها شق ذلك عليها، وكذلك الوضع، لا شك أن ذلك يشق عليها.

والتأويل الأوّل على التفريق في حال يرجع الوصف إلى الولد، وفي حال إلى الوالدة، والثاني يرجع ذلك كله إلى وصف الأم، وعلى التأويلين حصل التوفيق بين الآيات؛ لرجوعها إلى اختلاف الأحوال، فأمكن الجمع بين الكل في أحوال، والاختلاف إنما يكون في حال واحد، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} اختلف فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: إن الآية نزلت في أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - حملته أمه كرهًا؛ أي: بمشقة، ووضعته بمشقة، ثم وضعته على تمام ستة أشهر.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الآية نزلت في الحسن أو الحسين - رضي اللّه عنهما - وضعته أمه على ما ذكر في المدة.

ثم منهم من يقول: الآية وإن نزلت في نازلة بعينها، لكن ما ذكر من الحكم فذلك في كل إنسان، وهو أن يكون الولد ثابت النسب من الأب بهذه المدة، فإنه روي عن عمر -

رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه أُتي بامرأة وضعت في ستة أشهر، فأراد أن يرجمها، فقال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - يا أمير المؤمنين، إن اللّه - تعالى - قد جعل في كتابه مخرجًا؛ قال اللّه - تعالى -: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ}،

وقال: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} ستة أشهر لحملها، ورضاعه سنتين، فأخذ بقول ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - ودرأ عنها الرجم.

وكذلك روي عن عثمان - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه أُتي بامرأة وضعت لستة أشهر، فهمّ أن يرجمها، فقال له ابن عَبَّاسٍ: أما إنها لو خاصمتكم بكتاب اللّه خصمتكم، ثم تلا هذه الآية.

وكذلك ذكر عن علي - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أن عثمان - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - لما أمر برجم المرأة التي وضعت لستة أشهر، فسمع علي - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - فأتى عثمان - رضي اللّه عنه - فقال له: ما صنعت؟ فقال له عثمان - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: وهل تلد المرأة الولد التام لستة أشهر؟ قال: نعم، ثم تلا عليه هذه الآية.

فهَؤُلَاءِ الصحابة - رضي اللّه عنهم - قد رأوا الآية في كل امرأة وضعت لتلك المدة في حق ذلك الحكم الذي ذكر، واللّه أعلم.

ثم روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: إذا وضعت المرأة لستة أشهر أرضعته حولين كاملين؛ لأن اللّه - تعالى - يقول: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} وإذا وضعت لسبعة أشهر أرضعته ثلاثة وعشرين شهرًا، وإذا وضعته لتسعة أشهر، أرضعته أحدًا وعشرين شهرًا، فعلى قياس هذا جائز أنها إن وضعته لسنتين أن يكفي رضاع ستة أشهر، يزاد وينقص على ذلك القدر؛ ألا ترى أنه روي أن المرأة التي حملت سنتين ولدت وقد ثبتت له سنتان؛ فمثل هذا الولد لا يحتاج من الرضاع ما يحتاج الذي ولد لستة أشهر؛ لذلك كان ما ذكرنا.

ثم إذا احتمل النقصان عن الحولين؛ لما ذكرنا جازت الزيادة على الحولين؛ على ما قال أبو حنيفة - رحمه اللّه - لأن ما ذكر من الحولين إنما هو رضاع أقل الحمل، وهو ستة أشهر؛ لأن الذي ولد لستة أشهر كان إلى الاغتذاء بالطعام أبعد من الذي ولد لتسعة أشهر؛

لضعفه في نفسه، والذي ولد لتسعة أشهر فهو إلى الاغتذاء بالطعام أقرب منه، والذي ولد لسنتين هو أقرب إلى الاغتذاء بالطعام من المولود لتسعة أشهر؛ لقوته وقلة حاجته إلى الغذاء باللبن، فإذا كان قوله - تعالى -: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ}، هو أقل رضاع يكون؛ لأنه ذكر للمولود لأقل الحمل؛ حيث قال: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} قال: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ}، فإذا كان أقل احتمل الزيادة التي ذكر أبو حنيفة - رحمه اللّه - وهو ستة أشهر على السنتين، كما يصير رضاع أكثر الحمل ستة أشهر، واعتبر في الباب إلى قوة الولد، واحتمال الغذاء بالطعام، وعدم الاحتمال، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً. . .} إلى آخر ما ذكر.

دلت هذه الآية على أن الآية التي ذكرنا نزلت في نازلة؛ حيث أخبر أنه إذا بلغ ذلك المبلغ قال: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ. .} الآية.

ثم قوله - تعالى -: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} ذكر أوّل ما يشتد عقله، ويدخل في القوة إلى الوقت الذي يكون على الزيادة، فإذا جاوز ذلك الوقت يأخذ في الانتقاص، وهو أربعون سنة.

وقال أهل النأويل: بلوغ الأشد هو ثماني عشرة سنة إلى أربعين، وهو ما ذكرنا: أنه أول وقت دخوله في الزيادة والقوة إلى الوقت الذي إذا بلغ ذلك يأخذ في النقصان، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} دل قوله: {وَعَلَى وَالِدَيَّ} على أن على الرجل شكر ما أنعم على والديه وأحسن إليهما كما يلزمه شكر ما أنعم عليه؛ لما يكون بدء إسلام الأولاد الصغار بالوالدين وما لهما من النعم يصل نفعها إليهم - أيضًا - فيلزمهم شكر ما أنعم عليهم بالإيمان والنعم في وقته.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} هذا على كل مسلم أن يدعو بمثل هذا الدعاء، يسأل ربه التوفيق على عمل صالح يرضاه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} هذا يحتمل وجهين:

أحدهما: أي: أصلح لي ذريتي؛ على طرح حرف (فِي) منه؛ كقوله: {هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً}، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ)، واللّه أعلم.

ثم قوله - تعالى -: {أَوْزِعْنِيَ}: ألهمني.

وفيه دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأنه سأل ربه أن يوزعه شكر ما أنعم عليه، ومن قولهم

أن ليس على المرء الشكر إلا بعد إعطاء جميع ما به يشكر حتى لا يبقى عنده مزيد؛ فيكون مثل هذا الدعاء من العباد ردًّا على قولهم؛ لأنهم يسألون ما يعلمون أن ليس عنده ذلك، وأنّه لا يملكه، وكذلك قوله: {وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللّه}، ومن قولهم أنه ليس عنده ما يغيثه، فيخرج دعاؤهم على ما ذكرنا على مذهبهم، وباللّه العصمة.

١٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (١٦) كأنْ لهم عملان: حسنات وسيئات، فأخبر أنه يتقبل عنهم حسناتهم، ويجزيهم جزاءها، ويتجاوز عن سيئاتهم ويكفرها، ولا يجزيهم جزاءها؛ فضلا منه ورحمة، والمراد من الأحسن: الحسن، ويجوز ذلك في اللغة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} أي: ذلك الذي أخبر وذكر أنه يفعل لهم هو وعد الصدق يفي ذلك لهم، وهو قادر على وفاء الوعد، ومن يكون منه الخلف في الوعد في الشاهد إنما يكون لأحد وجوه ثلاثة:

إما لعجز يمنعه عن وفاء ما وعد.

أو جهل وبدو شيء رآه فرجع عن ذلك.

أو حاجة.

واللّه - سبحانه وتعالى - يتعالى عن ذلك كله؛ للقدرة الذاتية، والغنى الذاتي، والعلم الأزلي، واللّه الموفق.

١٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللّه وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللّه حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧) إلى آخر ما ذكر.

خرج أهل التأويل هذه الآية في عبد الرحمن بن أبي بكر - رضي اللّه عنهما - ووالدته فلانة، والآية الأولى في أبي بكر الصديق ووالديه، وهي قوله: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} فيقولون: إن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أطاع والديه وأمر بالإحسان إليهما، والشكر لهما، وسأل التوفيق في الشكر له به على ما أنعم عليه وأنعم على والديه، وعبد الرحمن ابنه قد عصى والديه وخالفهما فيما يدعوانه إليه، وقال لهما قولا [رديًّا]؛ حيث قال: {أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ} من القبر وأحيا {وَقَدْ خَلَتِ} من قبلي من القرون فلا أراهم بعثوا، ونحو ذلك من الكلام.

إلا أن هذا لا يصح؛ لأن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق في أجلة الصحابة - رضي

اللّه عنهم - فالظاهر أنه لم يكن منه مثل هذه المجادلة؛ ولأن أهل التأويل قالوا: إنه كان قال لوالديه: إن كان ما تقولون حقًّا أخرجوا فلانًا وفلانًا؛ ذكر نفرًا من أجداده، فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ. . .} الآية، ولا يحتمل أن يكون هذا جواب ما تقدم من القول؛ لأنه في وجوب ما ذكر -وهو استحقاق العذاب عليهم- منع العود والإحياء في الدنيا، ولأنهم لو كانوا يعادون لا يسقط ذلك الذي حق عليهم؛ إذ هم لا يؤمنون؛ ألا ترى أن اللّه - تعالى - قال: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ}.

لكن جائز أن تكون الآيتان في رجلين من ولد بني آدم مع والديهما: أطاع أحدهما والديه وأجابهما إلى ما دعواه إليه، وأبى الآخر إجابة والديه إلى ما دعواه إليه، وخالفهما في أمرهما فاستغاث والداه ممن عصاهما وخالفهما في أمرهما وقالا ما ذكر في الآية، وقال من أجابهما ما ذكر، وهو كما ذكرنا في قوله - تعالى -: {حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا}، صرف أهل التأويل بأجمعهم هذه الآية إلى آدم وزوجته حوّاء - عليهما السلام - وقلنا نحن: جائز أن يكون هذا في كل والد ووالدة يقولان ما ذكر ويدعوان إلى ما ذكر، فلما آتاهما ما ذكر من الصلاح كانا ما ذكر، فعلى ذلك جائز أن تكون الآيتان اللتان ذكرناهما تكونان في كل ولد مع والديه: من أجاب والديه ومن عصاهما - واللّه أعلم - فلا تصرف الآية إلى من ذكروا إلا ببيان من اللّه - تعالى - على لسان رسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أنها في كذا وكذا، وفي فلان وفلان، على طريق التواتر، فعند ذلك يقال ما قالوا، فأما إذا لم تثبت النصوص والإشارة إلى قوم بالتواتر فالكف عن ذلك أسلم، واللّه أعلم.

ودل قوله: {وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللّه وَيْلَكَ آمِنْ} أن عند اللّه لطفا لو أعطى ذلك لآمن.

وقوله: {وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللّه وَيْلَكَ آمِنْ} أي:، فيقولان: {وَيْلَكَ آمِنْ}، واللّه أعلم.

١٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (١٩) من خير أو شر {وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} أي: ليوفينهم أجر أعمالهم، وجزاء أعمالهم من خير أو شر {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} أي: لا ينقصون من خيراتهم، ولا يزداد لهم في سيئاتهم.

٢٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا}، وقال في آية أخرى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ} وقال في آية أخرى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا}، ونحوها؛ يذكرهم بهذه الآيات وأمثالها؛ ليعرفوا ما كان منهم، وما استوجبوا من العقوبات إنما استوجبوا بما كان منهم في الدنيا من التكذيب والاستهزاء بآياته؛ لينزجروا عن ذلك.

ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} يخرج على

وجهين: أحدهما أذهبتم طيباتكم التي أعطيتموها في منافعكم وأتلفتموها ولم تؤدوا شكرها، ولم تقوموا بوفائها، واللّه أعلم.

والثاني: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} أي: أتلفتموها، ولم تكتسبوا بها الطيبات الموعودة في الآخرة والنعم الدائمة، فكل ما أعطى في هذه الدنيا من الأموال إنما أعطى ليستعينوا بها على عمل الآخرة، وليتزودوا بها، ويجعلوها زادًا للآخرة، فأما إذا جعلوها في غير ذلك فهو إتلاف، وجعل في غير ما جعل، وذلك وبال عليهم وحسرة، وهو ما قال اللّه - تعالى -: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ}، وكذا ذكر: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ}، فكل نفقة كانت في غير ما ذكر من الاستعانة على زاد الآخرة والتزود لها فهي لحياة الدنيا، وهي لعب ولهو، وهو ما ذكر من الريح فيها صرّ، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وجل -: {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} أي: عذاب تهانون فيه، يهينكم ذلك العذاب.

وقوله - عزَّ وجلَّ -: {بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} يحتمل استكبارهم الذي ذكر على الرسل، استكبروا على الرسل فتركوا اتباعهم، فاستكبروا على آياته.

وقوله - عزَّ وجلَّ -: {وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} والفسق هو الخروج عن أمر اللّه تعالى.

٢١

وقوله - عزَّ وجلَّ -: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ}.

هذا يحتمل وجهين:

أحدهما: أي: اذكر نبأ أخي عاد، وهو هود - عليه السلام - بما عامله قومه من سوء

المعاملة، وما قاسى هو منهم؛ لتتسلى بذلك عن بعض ما عامل به قومك معك، واللّه أعلم.

والثاني: واذكر نبأ عاد بما نزل بهم من العذاب والاستئصال بتكذيبهم الرسل، والاستكبار عليهم، والاستهزاء بهم؛ لتحذر به قومك في تكذيبك والاستهزاء بك، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ} أي: خوف قومه بالأحقاف.

وقد اختلف في تأويل الأحقاف:

قَالَ بَعْضُهُمْ: هو اسم أرض خوفهم بنزول العذاب هنالك.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هي جبال من رمل مستطيلة مرتفعة.

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الأحقاف: واحده: حقف، وهو الرمل ما أشرف من كثبانه واستطال وانحنى.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الأحقاف: رمل بشحر عمان، وهي منازل عاد فيما زعموا وشحر تلاوة.

وقيل: الحقف: تل معوج.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الأحقاف: الجبل حين نضب الماء زمان الغرف كان ينضب عن المكان من الجبل ويبقى أثره، وينضب من مكان أسفل من ذلك ويبقى أثره دون ذلك؛ فذلك الأحقاف.

وقيل - أيضًا -: الأحقاف: جبل بالشام.

وقيل: هو المكان الذي كان منازل عاد ومقامهم، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللّه} أي: خلت الرسل من قبل هود ومن بعده، عليه الصلاة والسلام.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللّه} كأن الخطاب بهذا وقع للكل؛ يقول: ثم الرسل - عليهم السلام - ينذرون قومهم بأنواع العذاب عند تكذيبهم إياهم، ولم يزل الرسل - عليهم السلام - من قبل ومن بعد، دعوا الناس إلى عبادة اللّه - تعالى - ونهوهم عن عبادة غيره.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} يحتمل قوله: {أَخَافُ عَلَيْكُمْ} حقيقة الخوف؛ لما لم ييئس من إيمانهم واتباعهم إياه؛ لذلك لم يقطع فيهم القول بنزول العذاب بهم، واللّه أعلم.

ويحتمل أن يكون الخوف هو العلم حقيقة؛ أي: أعلم أن ينزل بكم عذاب يوم عظيم إن ختمتم على ما أنتم عليه، وقد يذكر الخوف في موضع العلم.

٢٢

وقوله: (قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا ... (٢٢) أي: قالوا لهود - عليه السلام -: أجئتنا لتصرفنا عن عبادة آلهتنا.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: لتردنا عن عبادة آلهتنا.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: لتكذبنا في آلهتنا، والإفك: الكذب؛ وكله واحد.

وأصل الإفك: الصرف؛ كأنهم قالوا: أجئتنا لتصرفنا عن عبادة آلهتنا، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} كانوا يقولون ذلك استهزاء به منهم، ولم يزل الكفرة يسألون ويستعجلون العذاب الذي كانوا يوعدون استهزاء منهم وتكذيبًا بما يوعدون، واللّه أعلم.

٢٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللّه وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (٢٣).

أجابهم هود - عليه السلام - أن العلم بنزول العذاب ووقته عند اللّه، وأبلغكم ما أرسلت به من الدعاء إلى توحيد اللّه - تعالى - والنهي عن عبادة غيره.

أو يقول: أبلغكم ما أمرت من التبليغ بنزول العذاب بكم، ولست أبلغكم أنه متى ينزل بكم؟ لما لم أومر به.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} دين اللّه، أو تجهلون آيات اللّه وقبولها، أو تجهلون نعم اللّه وإحسانه، أو تجهلون أمر اللّه تعالى.

٢٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (٢٤).

قَالَ بَعْضُهُمْ: العارض: السحاب، فقالوا: هذا سحاب ممطرنا، وكان حقيقة العارض الريح التي فيها عذاب أليم ظنوا أنها سحاب، ولم تكن سحابًا، ولكن كانت ريحًا، لكن من ذلك الجانب كان يأتيهم السحاب الممطر؛ لذلك، {قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ} كأن هودًا - عليه السلام - قال لهم: ليس هو بعارض ممطر، ولكن هو ما استعجلتم به من العذاب حيث: قلتم: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} هو ريح فيها عذاب أليم.

٢٥

ثم وصف تلك الريح فقال كما أخبر اللّه - تعالى - بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا ... (٢٥) يخرج قوله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} على وجهين:

أحدهما: تدمر كل شيء أرسلت وأمرت بتدميره، لا تجاوز أمر ربها، ولا تدمر ما لم ترسل ولم تؤمر بتدميره؛ كقوله - تعالى -: (وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) هذه الآية تفسر قوله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} أتت عليه وأمرت بتدميره، فأما ما لم تؤمر بتدميره فلا؛ على ما ذكر في تلك الآية، واللّه أعلم.

والثاني: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} أي: عند من عاينها وتأملها عنده أنها تدمر كل شيء، لا تبقي شيئًا على وجه الأرض؛ لشدتها وقوتها، لكنها لا تجاوز أمر ربها؛ ألا ترى أنها لا تدمر هودًا وأتباعه، وهم فيهم وبقرب منهم، وهو كقوله - تعالى -: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} أي: يأتيه أسباب الموت وما به يموت لو كان فيه أمر الموت، فعلى ذلك قوله - تعالى -: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} أي: تدمر كل شيء عند من عاينها ونظر في أحوالها وأهوالها أن لو كان لها أمر بذلك، لكنها لم تجاوز أمر ربها؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى: {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} في ظاهر هذه الآية أنها قد أبقت مساكنهم ولم تدمرها، وكذلك قال في آية أخرى: {تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ}

قَالَ بَعْضُهُمْ: إنهم لما التجئوا إلى مساكنهم وهربوا منها كانت تدخل الريح مساكنهم وتخرجهم منها فتلقيهم في صحاريهم وأفنيتهم موتى.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: تنزع مفاصلهم، وتقطعها، ثم تلقيهم في أفنيتهم؛ على ما وصف، وشبههم بأعجاز نخل منقعر، فالريح التي تعمل في إخراج أهلها من مساكنهم وإبقائهم في الفيافي، لأن تعمل في هدم المساكن والمنازل أولى، وكذلك إذا عملت في نزع المفاصل وقطعها ففي نقض البنيان والمساكن أولى، ومع ذلك لم تعمل في هدم مساكنهم؛ فدل ما ذكرنا أنها لم تجاوز أمر ربها في الإهلاك، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ. . .} الآية.

يحتمل: {لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} وجهين:

أحدهما: أي: لم تترك الريح من عاد ومما لهم إلا مساكنهم التي ذكر.

والثاني: {لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} إلا آثار مساكنهم.

فعلى أحد التأويلين تركت لهم المساكن، لم تهلكها، وعلى التأويل الآخر: تركت آثار مساكنهم، فأما نفس مساكنهم فقد أهلكتها.

وهذان التأويلان خرجا على ما ذكرنا من التأويلين في قوله - تعالى -: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا}، فالأول على التأويل الأول في قوله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} أرسلت وأمرت

بتدميره، ولم تؤمر بتدمير مساكنهم، فبقيت، والتأويل الثاني على التأويل الثاني في قوله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} عند من عاينها ونظر إليها؛ لشدتها وقوتها، فتدمر مساكنهم - أيضًا - فلا ترى إلا آثارها، لكن سماها: مساكن باسم ما قد كان، وأنه أمر مستعمل في عرف لسان اللغة، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} كأن المجرم هو الذي يديم اكتساب الجرم والإثم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو الوثاب في الجرم، واللّه أعلم.

٢٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللّه وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (٢٦) يَرْجِعُونَ (٢٧) اختلف فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: (إِن) هاهنا في موضع " لم " كأنه يقول: ولقد مكناهم فيما لم نمكن لكم من القوة، والشدة، والعقل، والبصيرة، وغير ذلك، وذلك قوله - تعالى -: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ} أي: قد مكنا عادًا فيما ذكرنا ما لم نمكن لكم يا أهل مكة في ذلك؛ ثم إذا أتاهم عذاب اللّه بتكذيبهم الرسل لم يملكوا دفع عذابه، فأنتم حيث لم نمكن لكم ذلك أحرى ألا تملكوا دفع عذابه إذا نزل بكم بتكذيبكم الرسول، عليه الصلاة والسلام.

قَالَ بَعْضُهُمْ: إن حرف (إِن) صلة زائدة؛ فيكون تقدير الآية كأنه يقول: ولقد مكناهم فيما مكناكم فيه مما ذكر من السمع، والبصر، والفؤاد، ثم لم يملكوا دفع العذاب عن أنفسهم، فأنتم لا تملكون - أيضًا - دفعه عن أنفسكم، وكان لهم ما لكم مما ذكر من السمع، والبصر، والفؤاد.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ} على التأويل الأول؛ حيث ذكرنا أنهم مكنوا ما لم يمكن هَؤُلَاءِ، يكون ما ذكر من السمع والبصر والفؤاد لا يراد به أعيانها حقيقة، لكن السمع يكون كناية عن العقل؛ كقوله - تعالى -: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ}، ذكر السمع، ثم فسر به العقل، ويكون قوله: {وَأَبْصَارًا} أريد به: البصائر، فالبصر يذكر ويراد به البصيرة؛ إذ قد وصفهم اللّه - تعالى - بذلك بقوله: {وَعَادًا وَثَمُودَ. . .} إلى قوله: {وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ}، ويكون قوله: {وَأَفْئِدَةً} كناية عن القوى؛ فالفؤاد يكنى به عن القوة؛ يخبر - تعالى - أنهم مكنوا من العقل والبصيرة والقوة ما لم تمكنوا

أنتم يا أهل مكة، ثم لم يقدروا على دفع عذاب اللّه إذا نزل بهم، فأنتم كيف تملكون دفعه، وليس لكم تلك الأسباب؟!

وعلى التأويل الثاني، كأن المراد هو حقيقة ما ذكر من السمع، والبصر، والفؤاد؛ فيكون معناه ما ذكرنا: أن لكم هذه الأسباب مثل ما لهم، ثم هم لم يقدروا على دفع ما حل بهم من العذاب، فأنتم لم تقدروا أيضًا بها، واللّه أعلم.

ثم بين اللّه - سبحانه وتعالى - الذي بهم نزل ما نزل من العذاب؛ حيث قال: {إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللّه وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} وكان استهزاؤهم مرة بما يوعد لهم الرسل - عليهم السلام - بالعذاب، ومرة كانوا يستهزئون بالرسل - عليهم السلام - لما يدعوهم إلى ما دعوا، واللّه أعلم.

ثم عذب عادًا بالريح التي وصفها اللّه - تعالى - في سورة الحاقة، وذكر فيها؛ حيث قال: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ}، أي: شديدة عادية {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا. . .} الآية، وقال في آية أخرى: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ}، واللّه أعلم.

٢٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) خلق اللّه - تعالى - البشر على طبعٍ وبنية وحال يحذرون ما ينزل بأشكالهم وأمثالهم بذنوب ارتكبوها، ويتعظون بغيرهم؛ فكأنه يقول: احذروا صنع الذين أهلكوا من حولكم وبقربكم؛ لئلا ينزل بكم ما نزل بأُولَئِكَ الذين أهلكوا حولكم؛ ليرتدعوا عن ذلك، وألا يعاملوا رسوله كما عامل أُولَئِكَ حتى لا ينزل بهم مثل ما نزل بأُولَئِكَ بتكذيبهم الرسل وعنادهم واستهزائهم بهم؛ يحذرهم ما نزل بأُولَئِكَ الذين أهلكوا حولهم؛ ليرتدعوا عن ذلك، وألا يعاملوا رسوله كما عامل أُولَئِكَ حتى لا ينزل بهم مثل ما نزل بأُولَئِكَ؛ واللّه أعلم.

وقوله - عز جل -: {وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، قوله: {وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ} يخرج على وجهين:

أحدهما: أي: جعلنا للرسل - عليهم السلام - آيات أقاموها على قومهم ما يعلمهم ذلك، ويخبرهم على صدقهم، فردّوها وكذبوهم بها، فعند ذلك أهلكناهم، فعلى ذلك جعلنا لمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من الآيات ما تعلمكم يا أهل مكة وتخبركم عن صدقه، وتدلكم على رسالته، فلا تردوها حتى لا ينزل بكم ما نزل بهم، واللّه أعلم.

والثاني: {وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ} أي: نشرنا في الآفاق والأطراف النائية ما حل بأُولَئِكَ ونزل بهم بتكذيب الرسل، وما كان منهم من العناد والرد ما يلزم من بلغه ذلك الخبر، واتصل به

ما نزل بأُولَئِكَ الرجوع عن مثل صنيعهم، ومثل معاملتهم.

فأحد التأويلين يرجع إلى انتشار ما نزل بأُولَئِكَ في الآفاق؛ ليرجعوا عن ذلك؛ فيصير ذلك آية لهم؛ فيحملهم على الرجوع عن صنيع أُولَئِكَ؛ ليرجعوا عن ذلك.

والثاني: إخبار أنه جعل لكل رسول ونبي آية على صدقه، ودلالة على رسالته؛ أي: لم يهلكهم إلا بعد لزومهم التصديق لهم، واللّه أعلم.

٢٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّه قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨) هذا يخرج على وجهين،

 أحدهما: يرجع إلى اللّه - تعالى - والآخر: يرجع إلى الأصنام التي عبدوها واتخذوها آلهة:

فأما الذي يرجع إلى اللّه تعالى يقول: لولا نصرهم اللّه؛ أي: هلا نصرهم اللّه عند نزول العذاب بهم ولا يهلكهم لو كان عبادتهم الأصنام مما تقربهم إلى اللّه زلفى، ويكونون شفعاء عنده، يقول - واللّه أعلم -: لو كان ظنكم حقًّا أن ذلك مما يقربكم إلى اللّه هلا نصركم اللّه عند نزول ذلك بكم، فإذا لم ينصر اللّه - تعالى - أُولَئِكَ بل أهلكهم فاعلموا أنه ليس الأمر كما توهمتم وظننتم، واللّه أعلم.

والثاني: يقول - واللّه أعلم -: لو كان للأصنام التي تعبدونها شفاعة عند اللّه - تعالى - على ما زعمتم هلا نصروا أُولَئِكَ ودفعوا الهلاك عنهم بشفاعتهم، وإذ لم يفعلوا ذلك، ولم ينصروهم، ولم يدفعوا عنهم، فعلى ذلك لا يملكون دفع ذلك عنكم إذا نزل بكم ما نزل بأُولَئِكَ، واللّه أعلم.

وتفسير {فَلَولَا} هاهنا: هلا، وهلا تستعمل في الماضي؛ فيكون معناه: لم تفعل؛ أي: لم تنصرهم، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ} أي: ضل هَؤُلَاءِ عنها.

أو ضل الأصنام عنهم، فلم يكن لهم منهم ما طمعوا ورجوا بسبب عبادتهم إياها، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} يحتمل أن يكون إفكهم وافتراؤهم هو قولهم: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّه}، ونحوه، واللّه أعلم.

٢٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ ... (٢٩) أي: فرغ من قراءته {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: إن النفر من الجن والإنس، والنذر من الإنس، فإن كان ما ذكر فجائز على هذا أن يكون النفر الذي ذكر أنه صرفهم إلى رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ليستمعوا القرآن منه هم النذر، يدل على ذلك قوله: {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ}.

وفي ظاهر قوله - تعالى -: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا}، أن قد يكون من الجن الرسل كما يكون من البشر، إلا أن يقال بأنه قد يذكر الاثنان والمراد به أحدهما، وذلك جائز في اللغة؛ كقوله - تعالى -: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ}، وإنما يخرج من أحدهما وهو الملح، فعلى ذلك هذا، واللّه أعلم.

ثم يحتمل {صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} أي: ألهمنا وقذفنا في قلوبهم حتى صاروا إلى رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وتوجهوا إليه؛ ليستمعوا القرآن منه.

ويحتمل أنه أمرهم في الكتب التي أعطوا معرفتها بالتوجه إلى رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ليستمعوا منه القرآن؛ لأنه

٣٠

قال - عَزَّ وَجَلَّ - على إثره خبرًا عنهم: (قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ... (٣٠) هذا يدل على أنهم قد عرفوا الكتب قبل هذا الكتاب؛ حيث قالوا: {سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} فجائز أن يكونوا أمروا بتلك الكتب استماع هذا الكتاب والعمل به.

ويحتمل أن يكونوا عرفوا بذلك لما كانوا يسترقون السمع إلى السماء فيستمعون أخبار السماء، ثم ينزلون فيخبرون أهل الأرض بذلك؛ ليكون العلم لهم بذلك من الوجوه الثلاثة التي ذكرنا، واللّه أعلم.

٣١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللّه وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (٣١).

فيه دلالة لزوم العمل بخبر الواحد؛ لأن النفر الذين حضروا رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من الجن سمعوا القرآن منه وصدقوه كانوا قليلي العدد لما رجعوا إلى قومهم فإنما يرجع كل إلى قومه، وقد يحتمل الاجتماع والتواصل على ذلك، ودعا كل قومه إلى إجابة داعي اللّه - تعالى - وحذرهم مخالفته، وأنه يحتمل ما ذكرنا من الأفراد والآحاد، دل أن خبر الواحد حجة في حق العمل، وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ}، فكان العمل بخبر الآحاد والأفراد ظاهرًا مشهورًا في

الإنس والجن؛ حيث ذكر ما ذكرنا وألزمهم الإجابة والحذر، واللّه أعلم.

ثم قوله - تعالى -: {أَجِيبُوا دَاعِيَ اللّه} يحتمل الإجابة له في الاعتقاد والإيمان به.

٣٢

ويحتمل في المعاملة في كل أمر، وفي كل شيء، فكذلك قوله: (وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللّه ... (٣٢) فيما دعاه {فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ} أي: ليس بسابق ولا هارب من عذابه؛ يقول - واللّه أعلم -: أن ليس يقدر أحد التخلص من عذابه بهربه منه والفرار عنه كما يقدر الفرار والهرب بعض من عذاب بعض في الدنيا ربما؛ ولذلك ما قال: {وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ} أي: ليس لهم من دونه أولياء ينفعونه ويدفعون العذاب عنهم كما يقوم بعض في دفع ما يلحقهم من البلايا والشدائد في الدنيا؛ إذ ليس قوله: {وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ} وأن لا ولاية لهم؛ إذ قال في موضع آخر: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، ولكن لا تنفع ولايتهم يومئذ كما لا تنفع في الدنيا، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} أي: من لم يجب داعي اللّه فهم في ضلال مبين.

* * *

قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللّه الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (٣٥)

٣٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللّه الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ. . .} الآية.

والإشكال: ما معنى قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا}، وهم لم يشاهدوا خلقهما، ولم يروا، لكن

قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: أولم يخبروا؟

وقَالَ بَعْضُهُمْ: أولم يعلموا؟ أي: قد أخبروا وعلموا؛ ذكر هذا لأنهم كانوا مقرين جميعًا أن اللّه هو الذي خلق السماوات والأرض.

ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} ويقول - واللّه أعلم - أي: لما علموا أن اللّه - سبحانه وتعالى - هو خلق السماوات والأرض، ولم يضعفه خلق ما ذكر، ولم يعجزه ذلك عن تدبير ما يحتاج ذلك إليه من الإمساك والقيام بما به قوام ما خلق فيهن من الخلائق وإصلاحهم، فإذ لم يعجز عما ذكره لا يحتمل أن يكون عاجزًا عن إحياء الموتى، أو عن شيء ألبتَّة.

أو يقول: حيث لم يعي؛ ولم يظهر فيه الضعف في خلق ما ذكر، ثم لا أحد يملك أن

يعمل عملا إلا ويظهر فيه الضعف، فإذا لم يعجز ولم يضعف في خلق ما ذكر؛ دل ذلك على أنه إنما لم يضعفه؛ لأن قدرته ذاتية، ومن كانت قدرته ذاتية لا يعجزه شيء، فأما غيره إنما يعمل بأسباب فيقدر على العمل على قدر الأسباب ويعجز ربما عنه، واللّه أعلم.

أو يقول: إذ قد عرفتم أن اللّه - تعالى - هو خلق السماوات والأرض، ثم لا يحتمل أن يخلقهما عبثًا باطلا؛ إذ لو لم يكن بعث كان خلقهما باطلا عبثًا، وأصله ما ذكرنا بدءًا: أن من قدر على إنشاء ما ذكر من السماوات والأرض وما فيهما بلا احتذاء تقدم ولا استعانة بغير، ثم الإمساك والقوام على التدبير الذي دبر إلى آخر الدهر، لا يحتمل أن يعجزه شيء.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}؛ لأنه قادر بذاته، لا بقدرة مستفادة.

قال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: قوله: {وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ} يقال: عييت بهذا: أي: لم أحسنه، ولم أقو عليه.

٣٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤) مرة قيل لهم: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى}، ومرة قيل لهم: {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا} يقص هذا عليهم يومئذ ليعترفوا بالذي كانوا ينكرون في الدنيا؛ لأنهم كانوا ينكرون في الدنيا الرسل والآيات، وكانوا ينكرون كون البعث وعذابه، فيعرضون على النار، فيقال لهم: هذا الذي وعدتم في الدنيا، أليس هو حقا؟ فيعترفون ويقولون: {بَلَى وَرَبِّنَا} فيقال لهم: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} في الدنيا، واللّه أعلم.

٣٥

وقوله: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (٣٥) يلزم الرسل الصبر من وجوه ستة: ثلاثة مما خصوا هم بها، لا يشركهم غيرهم فيها، وثلاثة مما يشترك غيرهم فيها؛ فأما الثلاثة التي خصوا بها:

أحدها: هم بعثوا لتبليغ الرسالة إلى الفراعنة والأكابر والجبابرة الذين كانت عادتهم وهمتهم القتل، وإهلاك من خالفهم وعصى أمرهم ومذهبهم، فلم يعذروا في ترك تبليغ الرسالة إليهم مع ما ذكرنا من خوف الهلاك والقتل، فأمّا غيرهم من الناس قد أبيح لهم كتمان الدِّين الحق منهم حتى لا يهلكوا.

والثاني: ألزمهم الصبر بالمقام بين أظهر قومهم واحتمال ما كان يلحقهم منهم من

الاستهزاء بهم، والافتراء عليهم، والتكذيب لهم، وأنواع الأذى الذي كان منهم إلى الرسل، لم يؤذن لهم بمفارقتهم لذلك؛ ولذلك قال: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ}، لم يكن منه سوى الخروج من بين قومه لسلامة دينه لو لم يسلموا، ثم أصابه ما أصاب بذلك الخروج لما لم يؤذن له بالخروج، واللّه أعلم.

والثالث: لم يجعل لهم الدعاء على قومهم بالهلاك والعذاب وإن كان منهم من التمرد والتعنت ما كان.

فهذه الثلاثة من المعاملة مما خص الرسل - عليهم السلام - بها من بين سائر الناس.

وأما الثلاثة التي يشترك فيها غيرهم:

أحدها: أمروا بالصبر على ما يصيبهم وينزل من البلايا والشدائد.

والثاني: أمروا بالمحافظة على العبادات التي جعلت عليهم، ومحافظة حدودها، والصبر على القيام بها.

والثالث: أمروا بالصبر على ترك قضاء الشهوة، وترك إعطاء النفس هواها ومناها.

فهذه الثلاثة لهم فيما بينهم وبين ربهم، وهي مما يشترك فيها غيرهم، والثلاثة الأولى لهم فيما بينهم وبين الخلق، وهم قد خصّوا بتلك الثلاثة دون غيرهم، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: أولو العزم من الرسل هم: نوح، وإبراهيم، ويعقوب، ويوسف، وموسى - عليهم الصلاة والسلام - وهَؤُلَاءِ عدوا نفرًا منهم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هم الرسل جميعًا.

وجائز أن يكون أولو العزم من الرسل هم الذين كان منهم الصبر على ما ذكرنا من المعاملة مع قومهم.

وقيل: أولو العزم هم الذين كانوا أبدًا المتيقظين، القائمين بأمر اللّه، الحافظين لحدوده، وقال في آدم - عليه السلام -: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} أي: لا تستعجل عليهم بالهلاك والنقمة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} هذا يخرج على وجهين:

أحدهما: يقول - واللّه أعلم -: كأنك لا توعدهم بالعذاب إلا ساعة من النهار،

وعذاب ساعة من النهار مما لا يحملهم على ترك قضاء شهواتهم، ومنع ما هم فيه من الأحوال.

والثاني: كأنهم إذا عاينوا عذاب الآخرة وشاهدوه استقصروا المقام في الدنيا، كأنهم لم يلبثوا إلا ساعة من نهار، وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ}، استقصروا المقام في الدنيا إذا عاينوا يوم القبامة وأهوالها، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {بَلَاغٌ}

قَالَ بَعْضُهُمْ: الإبلاغ.

وقيل: البلاع من البلغة؛ أي: زاد يبلغ به السفر حيث يريد، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} كأنه يقول: لا يهلك الهلاك الدائم المؤبد إلا القوم الفاسقون، وإلا الهلاك الذي ليس هو بالهلاك الدائم المؤبد مما يهلك الفاسق وغير الفاسق إذ يكون حقًّا على الكل.

أو يقول: لا يهلك هلاك العذاب إلا الفاسق، فأما الهلاك الذي هو هلاك النجاة والفوز عن شدائد الدنيا فمما يهلك به الصالح، واللّه أعلم.

* * *

﴿ ٠