سُورَةُ مُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام

مدنية

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللّه} قال عامة أهل التأويل: هم أهل مكة.

والأشبه أن تكون الآية في كفار المدينة وهم أهل الكتاب؛ لأن السورة مدنية؛ على ما قال بعض أهل التأويل، لكن جائز أن يكون كما قال أهل التأويل بأنها نزلت في كفار مكة؛ لأن هذه السورة ذكرت على أثر خبرهم وعقيب نبئهم في سورة الأحقاف.

ثم إن كانت الآية في كفار المدينة وأهل الكتاب فيكون يحتمل: الذين كفروا بمحمد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وما أنزل عليه {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} أي: أبطل إيمانهم الذي كان لهم بسائر الأنبياء وبمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنهم كانوا مؤمنين به قبل أن يبعث، فلما بعث كفروا به؛ يقوله - واللّه أعلم -: قد أبطل إيمانهم الذي كان منهم قبل ذلك بما كفروا بعدما بعث.

وإن كانت الآية في كفار مكة على ما قال أكثرهم؛ فيكون قوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا} بوحدانية اللّه - تعالى - أو كفروا بمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبما أنزل عليه، أو كفروا بالبعث، ونحو ذلك {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} أي: أبطل حسناتهم التي كانت لهم في حال كفرهم؛ من نحو الصدقات، وصلة الأرحام، وفك الرقاب، وغير ذلك من الأعمال التي كانوا يتقربون بها - واللّه أعلم - قد أبطل أعمالهم التي كانوا يتقربون بها ويرونها قربة عند اللّه.

أو يقول: قد أبطل عبادتهم التي كانوا يعبدون من الأصنام وغيرها لتقربهم عبادتهم إلى اللّه زلفى؛ لقولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى}، وقولهم: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّه}، يقول: قد أبطل ذلك ولم يكن على ما رجوا وطمعوا، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللّه} يحتمل أن صدوا بأنفسهم؛ أي: أعرضوا عن سبيل اللّه؛ على ما ذكر عنهم.

ويحتمل: {وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللّه} أي: صدوا الناس عن سبيل اللّه، وقد كان منهم الأمران جميعًا {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} أي: أبطل؛ يقال: ضل الماء في اللبن: إذا غلب فلم يتبين.

٢

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (٢) يقول: والذين آمنوا باللّه وبمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وآمنوا بما نزل عليه، وثبتوا على ذلك - لم يضل أعمالهم، ولم يبطل إيمانهم الذي كان منهم؛ بل يكفر سيئاتهم التي كانت منهم من الكفر وغيره من السيئات.

أو يقول: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ}

وهو الكفر والمساوي التي كانت لهم من الكفر؛ كقوله - تعالى -: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}، إن كانت الآية في مؤمني ومشركي العرب وأهل مكة فيكون قوله: {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ}: الشرك والمساوي التي كانت لهم في حال الكفر، وإن كان في مؤمني أهل الكتاب، فيكون قوله: {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} في حال إيمانهم، واللّه أعلم.

وقوله: {وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} هذا يخرج على وجهين:

أحدهما: آمنوا بما نزل على مُحَمَّد وهو الحق من ربهم نزل، وكل شيء من اللّه فهو الحق.

والثاني: {وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} أي: وهو الصدق من ربهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} أي: حالهم وشأنهم فيما كان من قبل وفيما بعده.

٣

ثم أخبر أن الذي أبطل أعمالهم لأُولَئِكَ الكفرة وما ذكر، وثبت الذين آمنوا ولم يبطل أعمالهم وما ذكر من إصلاح حالهم هو ما قال (ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ ... (٣) يحتمل: الباطل: الشيطان، أو هوى النفس، أو كل باطل، وهو الذي يذم عليه فاعله ومتبعه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ} يقول: لهَؤُلَاءِ ما ذكر لاتباعهم الباطل، ولهَؤُلَاءِ ما ذكر لاتباعهم الحق.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّه لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} أي: مثل الذي بين ما لهَؤُلَاءِ وما لهَؤُلَاءِ، يبين ما لكل متبع الباطل ومتبع الحق، وضرب المثل هو أن يبين لهم ما خفي وأثبته عليهم بالذي ظهر عندهم وتقرر وتجلى لهم؛ ليصير الذي خفي عليهم وأثبته ظاهرًا متجليًا.

٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ}، وقال في آية أخرى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}، جائز أن يكون قوله - تعالى -: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} في القتال والحرب، وكذلك قوله - تعالى: {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}، في الحرب والقتال - أيضًا - يضربون ويقتلون على ما يظفرون ويقدرون بهم من المفاصل، ولكن إبانة من المفصل - واللّه أعلم - لما روي في الخبر: " إذا قتلتم فأحسنوا القتل " وحسن القتل هو أن يضرب ويبان من المفصل، واللّه أعلم.

فعلى هذا جائز أن يخرج تأويل قوله تعالى: {فَاضْربُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}، وتأويل قوله: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ}.

وجائز أن يكون لا على التقديم والتأخير والإضمار، ولكن كل آية على نظم ما ذكر، واللّه أعلم.

ثم إن كان على ما ذكرنا من التقديم والتأخير والإضمار فيكون كأنه قال - تعالى -: فإذا لقيتم الذين كفروا فاضربوا الرقاب حتى إذا أثخنتموهم وأسرتموهم، فاضربوا فوق الأعناق؛ لأن الإمام بالخيار عندنا إذا أخذهم وظفر بهم إن شاء قتلهم، وإن شاء منَّ عليهم وتركهم بالجزية، لقوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ}، ويكون قوله: {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} على هذا في المنِّ يستوثقهم بالمواثيق، وإن شاء فاداهم، لكنهم اختلفوا في المفاداة:

قَالَ بَعْضُهُمْ: يفدون بالأموال وأسراء المسلمين منهم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: يفادون بالأسراء منهم، ولكن لا يجوز أن يفادوا بالأموال، وهو قولنا.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا يفادون بأسراء المسلمين ولا بالأموال؛ وهو قول أبي حنيفة، رحمه اللّه.

واختلفوا في قتل الأسراء منهم:

قَالَ بَعْضُهُمْ: لا يقتلون، ولكن يمن عليهم أو يفادون.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الإمام بالخيار: إن شاء قتلهم، وإن شاء منَّ عليهم، وإن شاء فاداهم بالأسارى من المسلمين؛ أما القتل فلما ذكرنا من الاستدلال بقوله: {فَاضْربُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ}، ولما روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه استشار أبا بكر، وعمر، وسائر الصحابة - رضي اللّه عنهم - في أسارى بدر، فأشاروا إلى المنِّ عليهم والترك، وأشار عمر إلى القتل فيهم، وقال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عند ذلك: " لو جاءت من السماء نار ما

نجا منكم إلا عمر " أو كلام نحوه - دل أن الحكم فيهم القتل؛ أعني: في هَؤُلَاءِ الذين حكم فيهم عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - بالقتل؛ لذلك قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " ما نجا إلا عمر " فدل هذا الخبر أن للإمام أن يقتل أسارى أهل الشرك، وله أن يمنَّ عليهم بالترك بالجزية في حق أهل الكتاب والعجم، فإنه لما جاز لنا في الابتداء أن نأخذ منهم الجزية إذا أبوا الإسلام وتركهم على ما هم عليه، فعلى ذلك بعد الظفر بهم والقدوة عليهم.

ثم قالا بعضهم: الآية -وهو قوله: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} - تخالف من حيث الظاهر لقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ}، ونحو ذلك، ولكن أمكن التوفيق بين الآيتين: هذه في قوم، والأخرى في قوم آخرين، أو هذه في وقت والأخرى في وقت آخر، واللّه أعلم.

وقوله - عز وجل -: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا}.

قال بعضهم: حتى يخرج عيسى ابن مريم - عليهما السلام - فعند ذلك تذهب الحروب والقتال، أي: اقتلوهم، وافعلوا بهم ما ذكر إلى وقت خروج عيسى - عليه السلام -

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} أي: حتى يضعوا أسلحتهم ويتركوا القتال.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: حتى يذهب الكفر والشرك، ولا يكون الدِّين إلا دين الإسلام، وهو كقوله - تعالى {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ}، أي: شرك وكفر، واللّه أعلم.

قيل: الإثخان: هو الغلبة والقهر بالقتل والجراح.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: {أَثْخَنْتُمُوهُمْ}، أي: أكثرتم فيهم القتل والجراحة، ويقال في الكلام: ضربته حتى أثخنته: حتى لا يقدر أن يتحرك، والوثاق: ما أوثقت به كل يدي الرجل أو رجليه؛ يقال: أوثقته واستوثقت منه.

وقوله: {أَوْزَارَهَا} أيٍ: أثقالها، واحدها: وزر، وهو الثقل.

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} أي: يضع أهل الحرب السلاح. وأصل الوزر ما حملته، فسمي السلاح: وزرًا؛ لأنه يحمل، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللّه لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ} قوله: {ذَلِكَ} أي: ذلك الذي أمرتهم به من أول ما ذكر من قوله - تعالى -: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ. . .} إلى قوله: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَوْ يَشَاءُ اللّه لَانْتَصَرَ} لأوليائه من أعدائه بلا قتال، ولا نصب الحروب فيما بينهم، ثم انتصاره منهم يكون مرة بأن يهلكهم إهلاكًا، ويقهرهم قهرًا، ومرة ينتصر منهم بأن يسلط عليهم أضعف خلقه وأخسهم، فيقهرهم بأضعف خلقه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} أي: يمتحن بعضكم بقتال بعض، وبأنواع المحن: أنشأ اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - هذا البشر في ظاهر الأحوال بعضهم مشابهًا لبعض غير مخالف بعضهم بعضًا فإنما يظهر الاختلاف بالامتحان بأنواع المحن على اختلاف الأحوال، فعند ذلك يظهر المصدق من المكذب، والمحق من المبطل، والموافق من المخالف، والمتحقق من المضطرب، والموقن من الشاك؛ على ما ذكر - تعالى -: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ}، {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}، {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}، وغير ذلك من الآيات التي ذكر الاختلاف والامتحان فيها باختلاف الأحوال التي عند ذلك يظهر ما ذكر من التصديق والتكذيب والتحقيق وغيره.

ثم لو كان - جل وعلا - انتصر لأوليائه من أعدائه بما ذكرنا بأن ينصرهم على أعدائهم نصرًا بلا امتحان وكلفة منه لأوليائه - لكان التوحيد له والتصديق لرسله بحق الاضطرار، لا بحق الاختيار؛ لأنهم إذا رأوا أنهم يستأصلون ويهلكون إهلاكًا بخلافهم إياهم لكانوا لا يخالفونهم؛ بل يوافقونهم مخافة الهلاك والاستئصال، فيرتفع الابتلاء والامتحان عنهم، فلا يظهر المختار من غيره؛ لذلك كان ما ذكرنا، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّه فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ} هذا يخرج على وجهين:

٥

أحدهما: يقول: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّه} فهزموا وغلبوا وهربوا في وقت أو في قتال، {فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} التي كانت منهم من الجهاد مع الأعداء وغير ذلك من الأعمال التي كانت لهم، (سَيَهْدِيهِمْ ... (٥) أي: يوفقهم ثانيًا -مرة أخرى- للقتال والنصر لهم على أعدائهم في الدنيا، ويدخلهم في الآخرة الجنة.

والثاني: أي: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّه فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} في الآخرة، {سَيَهْدِيهِمْ} في الآخرة الجنة.

٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (٦)

قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: يدخلهم أن جنة التي بينها لهم في الدنيا ووصفها.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: عرفها لهم في الآخرة حتى يعرف كل منزله وأهله من غير أعلام وأدلة جعلت لهم، كما يعرف كل أحد في الدنيا منزله وأهله وخدمه، واللّه أعلم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {عَرَّفَهَا لَهُمْ} أي: طيبها لهم؛ يقال: فلان معرف، أي: مطيب، وطعام معرف، أي: مطيب؛ وهو قول الْقُتَبِيّ.

٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللّه يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (٧) أي: إن تنصروا دين اللّه ينصركم.

أو إن تنصروا أولياء اللّه ينصركم على أعدائكم.

ثم نصرنا دين اللّه وأولياءه يكون مرة بالأنفس والأموال ببذلها في سبيله لابتغاء وجهه.

والثاني: يكون نصرًا بالحجج والبراهين بإقامتها عليهم بما أمرنا من إقامة الحجج والآيات.

ثم يكون نصر اللّه إيانا من وجهين:

أحدهما: ينصرنا على أعدائه بما يغلبهم ويقهرهم، لكن إن كان هذا، فيكون في حال دون حال، وفي وقت دون وقت، لا في كل الأحوال.

والثاني: يكون نصره إيانا بما يجعل العاقبة لنا، وإن كنا غلبنا وقهرنا في بعض الحروب والقتال، وكانوا هم الغالبين علينا، قاهرين لنا، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}.

يحتمل في الحروب والقتال، أو يثبت أقدامهم في الآخرة؛ كي لا تزول، واللّه أعلم.

٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (٨) أي: هلاكًا لهم.

وقيل: أي: محنة عند الهزيمة والقتل.

وجائز أن يكون أريد به الهلاك، وأصل التعس هو العثور والسقوط، وهو الهلاك، فيرجع إلى ما ذكرنا، واللّه أعلم.

٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللّه فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (٩) أي: ذلك الذي ذكر لهم من التعس والهلاك وإبطال الأعمال بأنهم تركوا اتباع ما أنزل اللّه على رسوله؛ إذ كل من ترك اتباع شيء اعتقادًا، فقد كرهه، واللّه أعلم.

ويحتمل أن يكون قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللّه} أي: كرهوا ما أنزل اللّه على غير بني إسرائيل، فإن كان هذا فالآية في أهل الكتاب؛ لأنهم لم يروا الرسل من غير بني إسرائيل ولا إنزال الكتب على أحد من غير بني إسرائيل، واللّه أعلم.

وقوله: {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} أي: بتركهم اتباع ما أنزل اللّه وقبوله، واللّه أعلم.

١٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ... (١٠) قد ذكرنا فيما تقدم: أنه يخرج على وجوه ثلاثة:

أحدها: أي: لو ساروا في الأرض، لعرفوا ما نزل بأُولَئِكَ بماذا نزل بهم؟ وهو تكذيبهم للرسل وكفرهم بهم، ولعرفوا أن من نجا منهم بماذا نجا؟ وهو التصديق لهم، والإيمان بهم.

والثاني: على الأمر؛ أي: سيروا في الأرض، فانظروا ما الذي نزل بمكذبي الرسل ومستهزئيهم؛ ليكون ذلك مؤجرًا لهم عن مثل معاملتهم الرسول؛ عليه السلام.

والثالث: أي: قد ساروا في الأرض، لكن لم ينظروا ولم يعتبروا فيما نزل بأُولَئِكَ أنه بماذا نزل بهم، ولو تأملوا فيهم، لكان ذلك زجرًا لهم عن المعاودة إلى مثل ذلك، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {دَمَّرَ اللّه عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} هذا خرج على وجوه:

أحدها: أي: {دَمَّرَ اللّه عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ} سوى هَؤُلَاءِ الكفار الذين دمر اللّه عليهم أمثال ما لهم من الهلاك بتكذيبهم الرسل.

والثاني: أي: {دَمَّرَ اللّه عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} أي: للكافرين من قومك أمثالها، وهذا وعيد لقومه.

والثالث: أن يقول: لقومه ولكل كافر أمثال ذلك، واللّه أعلم.

١١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللّه مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (١١) تأويله: أي: ذلك الذي ذكر لهم؛ لأجل أن اللّه ناصر الذبن اتبعوا أمره، وآمنوا به، وصدقوه، فدفع العذاب عنهم باتباعهم أمره، وإن للكافرين ذلك؛ لما ليس هو بناصر لهم؛ لتركهم اتباع أمره وتصديقهم إياه، فلم يدفع العذاب عنهم.

أو يقول: {ذَلِكَ}، أي: دفع العذاب عن الذين آمنوا؛ لما أن اللّه يتولى أمورهم، ويعصمهم، وأنه لم يتول أمور الكفرة؛ أي: لم يعصمهم، وخذلهم، وتركهم على ما اختاروا؛ لعلمه باختيارهم ما اختاروا من التكذيب، وتولى المؤمنين وعصمهم؛ لعلمه بما يختارون من التصديق والاتباع له، واللّه أعلم.

قوله تعالى: (إِنَّ اللّه يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (١٢) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (١٣) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (١٤) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (١٥).

١٢

ثم ذكر عاقبة المؤمنين من الاتباع لأمره والتصديق لرسله وهو قوله - تعالى -: {إِنَّ اللّه يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}، وبين ما لأُولَئِكَ الذين اختاروا من الكفر به والتكذيب لرسله في العاقبة، حيث قال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} أي: مأوى لهم بما اختاروا، واللّه أعلم.

وذلك أن أهل الإيمان والتوحيد نظروا في جميع أحوالهم وأمورهم إلى ما فيه أمر اللّه - تعالى - وما يعقب لهم نفعًا في العاقبة، لم ينظروا إلى ما فيه قضاء شهواتهم ومناهم؛ بل اختاروا أمر اللّه على جميع ما ذكرنا، وأُولَئِكَ الكفرة، لم ينظروا إلى ما فيه أمر اللّه، ولا يوجب لهم في العاقبة من النفع؛ بل اختاروا لشهواتهم ومناهم، وما فيه هواهم على ما فيه أمر اللّه ونهيه، فجعل للمؤمنين في الآخرة قضاء شهواتهم التي تركوا قضاءها في الدنيا، وكفوا أنفسهم عن مناها مكان ذلك في الجنة والبساتين التي وعد لهم في الآخرة، وجعل لأُولَئِكَ الكفرة في الآخرة مكان ما قضوا في الدنيا من شهواتهم، وإعطاء أنفسهم مناها النار، وما ينقصهم ما أعطوا أنفسهم في الدنيا.

ثم قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ} يحتمل تشبيه أُولَئِكَ الكفرة بالأنعام في الأكل وجهين:

أحدهما: يخبر أنهم يأكلون، وهمتهم في الأكل ليست إلا الشبع، وامتلاء البطن، وقضاء الشهوة، لا ينظرون إلى ما أمر اللّه به ونهاهم عنه، كالأنعام التي ذكر همتها ليست في الأكل إلا الشبع، وامتلاء البطن، واقتضاء الشهوة، واللّه أعلم.

والثاني: يخبر عنهم أنهم لا ينظرون في أكلهم وشربهم إلى عاقبة، ولا إلى وقت ثانٍ؛ بل نظرهم إلى الحال التي هم فيها، كالأنعام التي ذكر أنها تأكل ولا تنظر، ولا تدّخر شيثًا لوقت ثانٍ، ولا تترك شيئًا ما دامت تشتهي، فعلى ذلك أُولَئِكَ الكفرة، واللّه أعلم.

١٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (١٣) كانت سنة اللّه - تعالى - في الذين كانوا من قبل أنه إذا أخرج الرسل - عليهم

السلام - من بين أظهرهم أهلكهم، فيخبر أن أهل مكة قد استوجبوا العذاب؛ إذ أخرجت من بين أظهرهم كما يستوجب أُولَئِكَ الكفرة، لكن اللّه بفضله ورحمته أخر ذلك عنهم؛ لأنه بعثك إليهم رحمة؛ كقوله - تعالى -: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}، أو أخر ذلك عنهم؛ لما وعد أنه خاتم الأنبياء - عليهم السلام - ليبقي شريعته إلى يوم القيامة، ولو أهلكهم واستأصلهم؛ على ما فعل بأُولَئِكَ لانقطعت رسالته وشريعته، وقد وعد أنها تبقى، وأنه رحمة لهم، وأنه لا يخلف الميعاد.

ثم أخبر أن أُولَئِكَ الكفرة أكثر أهلا وأشد قوة وبطشًا من هَؤُلَاءِ، ثم لم يتهيأ لهم دفع ما نزل بهم بقوتهم في أنفسهم وبطشهم، ولا كان لهم ناصر ينصرهم من عذاب اللّه، ولا مانع يمنعهم عنه، فأنتم يا أهل مكة أولى ألا تدفعوا عن أنفسكم العذاب إذا نزل بكم، واللّه أعلم.

ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَخْرَجَتْكَ} أضاف الإخراج إلى قومه، وهم لم يتولوا إخراجه بأنفسهم؛ بل اضطروه حتى خرج هو بنفسه، لكنه أضاف الإخراج إليهم؛ لأن سبب خروجه من بينهم كان منهم، فكأنهم قد أخرجوه، وهو كما ذكر من إخراج الشيطان آدم وحواء - عليهما السلام - من الجنة بقوله: {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ}، والشيطان لم يتول إخراجهما حقيقة، لكن لما كان منه من أشياء حملهم ذلك على الخروج، فكأنه وجد الإخراج منه، وأصله: أن الأشياء والأفعال ربما تنسب إلى أسبابها، وإن لم يكن لتلك الأسباب حقيقة الأفعال، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ} هو خبر من اللّه - تعالى - أي: لا يكون لهم ناصر، وهو يحتمل وجهين:

أحدهما: لا يكون ناصر في الآخرة.

والثاني: على إضمار؛ أي: لم يكن لهم ناصر وقت ما عذبوا في الدنيا، واللّه أعلم.

١٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (١٤) يخرج لهذا الحرف جواب؛ لما هم عرفوا بالبديهة أن ليس من كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله، واتبع هواه، يعرف ذلك بالبديهة كمن يقول: ليس المحسن كالمسيء، وليس من يحسن كمن يسيء، ونحو ذلك مما يعرفه كل أحد لا يحتاج إلى بيان وجواب، فعلى ذلك هذا.

ثم في ذلك وجهان:

أحدهما: يذكر سفههم باختيارهم اتباع هواهم وما زين لهم من سوء عملهم على اتباع

من كان على بينة منه، وبيان، على علم بذلك، ويقين، واللّه أعلم.

والثاني: فيه ذكر دلالة البعث، يقول - واللّه أعلم -: لما عرفتم أن من كان على بينة من ربه ليس كمن يتبع هوى نفسه، وقد استويا في هذه الدنيا: انتفع هذا كما انتفع الآخر، وفي العقول لا استواء بينهما؛ فدل استواؤهما في هذه الدار على أن هناك دارًا أخرى، ثم يفرق بينهما ويميز، واللّه الموفق.

١٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (١٥) هذا يخرج على وجوه:

أحدها: أن قوله - تعالى -: {وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} على حقيقة المثل، كأنه يقول: مثل الجنة التي وعد المتقون من جناتكم هذه لو كانت جناتكم في الدنيا على المثل الذي وصف في الآية، أليس كانت نفس كل أحد ترغب فيها، وتحرص في طلبها؛ لتكون تلك الجنة لها، فما بالكم لا ترغبون في تلك الجنة التي وعد المتقون في الآخرة لا ترغبون فيها، ولا تحرصون في طلبها؟ واللّه أعلم.

ويخرج على هذا التأويل قوله - تعالى -. {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ} أي: ليس من كان خالدًا في جنة من جناتكم التي ذكر وصفها كمن هو خالد في نار من نيرانكم.

والثاني: يحتمل قوله - تعالى -: {الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} ما ذكر، فيخرج على الصلة؛ لما تقدم من قوله - تعالى -: {إِنَّ اللّه يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} ثم وصف ونعت الجنة التي أخبر أنه يدخلهم فيها فقال: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} أي: صفتها {فِيهَآ أَنهَارٌ مِنْ. . .} كذا وكذا الآية، وعلى هذا ما ذكر في آخره من قوله: {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ} يحتمل أن يكون صلة قوله: {وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ}، ثم وصف تلك النار التي أخبر أنها مثوى لهم ومأوى لهم فقال: {وَسُقُوا مَآءً حمَيمًا. . .} الآية.

والثالث: يذكر على أن من وعد له ما وعد للمتقين من الجنة وما فيها من النعم، ليس كمن وعد له النار؛ ألا ترى أنه - جل وعلا - ذكر في آخر ما ذكر من وصف الجنة: {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} أي: ليس هذا كهذا، ولا سواء بينهما، أي: لا مساواة، وهو كقوله - تعالى - فيما تقدم من حيث قال: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}، أي: ليس هذا كهذا؛ فعلى هذا يحتمل ما ذكر من وصف الجنة ووصف النار؛ أي: ليس من وعد له الجنة التي وصفها ونعتها كمن وعد له النار التي وصفها ما ذكر، واللّه أعلم.

ثم قال: {أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ. . .} الآية، يخبر أن ما يكون في الجنة من المياه،

والخمور، والألبان، وما ذكر ليس كالتي في الدنيا؛ لأن المياه في الدنيا تتغير بأحد وجهين: إما النجاسة وآفة تصيبها، أو لطول الزمان والمكث، فيخبر أن ليس في الجنة شيء يغير مياهها، وكذلك اللبن في الدنيا يتغير ويفسد عن قريب إذا ترك لما ذكر، فيخبر أن ألبان الجنة لا تفسد للترك، ولا يصيبها شيء فيفسدها ويخرجها عن طعم اللبن، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} يخبر أن الخمر في الجنة مما يتلذذ بها أهلها عند الشرب ليس كخمور الدنيا يتكره أهلها عند شربها ويعبسون بوجوههم عند التناول منها، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} أي: أنهار من عسل خلق، وأنشئ مصفى لا كدورة فيه، لا أنه كان كدرًا ثم صفي، أو كان خلق بعضه كدرًا وبعضه مصفى، ولكن خلق كله مصفى من الابتداء، وهو كقوله - تعالى -: {رَفَعَ السَّمَاوَاتِ}، أي: خلقها في الابتداء مرفوعة، لا أنها كانت موضوعة ثم رفعها، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} يحتمل: أي: من كل الثمرات التي عرفوها في الدنيا ورأوها.

أو يقول: {وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} التي يريدون فيها، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} أي: ليس من وعد له ما ذكر من الجنة وهو خالد فيها متنعم بما ذكر من ألوان الثمار والتنعم بما ذكر من المياه والخمور والألبان، كمن هو خالد في النار وما ذكر، واللّه أعلم.

١٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا} جعل اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - آيات رسالة رسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وحججه على المنافقين - صنيعهم وما أسروا في أنفسهم من الخلاف له والعداوة، فأطلع اللّه رسوله على ما أسروا في أنفسهم وأضمروه؛ ليكون ذلك آية لرسالته، وحجة لنبوته؛ إذ علموا أن لا أحد يطلع على ما في القلوب إلا اللّه - تعالى - فإذا أخبر رسول اللّه لهم بما أسروا وأضمروا، وعلموا أنه إنما عرف ذلك باللّه - تعالى - كقوله: {قَدْ يَعْلَمُ اللّه الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا}،

وقوله: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ}، ونحو ذلك.

ثم الناس في الاستماع إلى رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يفرقون إلى فرق ثلاث:

فالمؤمنون كانوا يستمعون إليه للاسترشاد واستزادة الهدى، وهو كقوله - تعالى -: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا. . .} الآية، {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ. . .} الآية.

١٧

وقوله - تعالى -: (وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (١٧).

يحتمل قوله: {وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} أي: أعطاهم ما اتقوا مخالفة أمره.

ويحتمل: {وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} أي: يوفقهم ما يتقون مخالفة أمره من بعد في المستأنف.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: أعطاهم اللّه ثواب أعمالهم في الآخرة؛ يقول: كلما جاء من اللّه أمر أخذوا به، فزادهم اللّه - تعالى - هدى {وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}؛ أي: أجرهم.

وفي حرف ابن مسعود - رضي أن له عنه -: (وأنطاهم تقواهم) أي: أعطاهم، وهي لغة معروفة، أنطى: أي: أعطى، وكذلك قرأ: (إنا أعطيناك الكوثر).

١٨

وقوله - تعالى -: (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (١٨) كأن هذه الآية نزلت في قوم علم اللّه أنهم لا يؤمنون إلا عند قيام الساعة؛ كأنه يقول: ما ينظرون لإيمانهم إلا الساعة أن تأتيهم بغتة، لكن لا ينفعهم الإيمان في ذلك الوقت؛ كقوله: {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ}،

وقوله: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا}، كأنه - واللّه أعلم - يؤيس رسوله- صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن الطمع في إيمانهم قبل ذلك الوقت.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا} هذا يخرج على وجهين:

أحدهما: يحتمل ما ذكر من مجيء أشراطها هو رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه خاتم الأنبياء، وبه ختمت النبوة، وروي عنه أنه قال: " بعثت أنا والساعة كهاتين "، وأشار إلى

أصبعين جمع بينهما، فإن كان التأويل هذا فهو على تحقيق مجيء أشراط الساعة؛ أي: قد جاءت أشراط الساعة حقيقة وتحققت.

والثاني: يحتمل أن يكون ما ذكر من مجيء أشراطها هي الأعلام والشرائط التي جعلت علمًا لقيامها؛ من نحو نزول عيسى، وخروج دابة الأرض، وخروج الدجال، وغير ذلك، فقد مضى بعض تلك الأعلام؛ فيكون قوله: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} أي: كأن قد جاء أشراطها؛ إذ كل ما هو آت جاءٍ؛ فكأنه قد جاء؛ كقوله - تعالى -: {أَتَى أَمْرُ اللّه}.

وقوله - عَزَّ وجل -: {فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} يحتمل وجهين:

أحدهما: من أنى ينتفعون بإيمانهم في ذلك الوقت؟ وكيف لهم منفعة الذكرى إذا جاءت، والتوبة لا تقبل حينئذ؟

والثاني: من أين لهم الإيمان والتوبة إذا جاءتهم الذكرى؛ أي: ما يذكرهم في الدنيا قبل ذلك فلم يؤمنوا، ولم يتذكروا، واللّه أعلم.

١٩

وقوله - عَزَّ وجل -: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه ... (١٩).

هذا يخرج على وجهين:

أحدهما: اعلم في حادث الوقت أنه لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه؛ كقوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}، وقوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّه}، ونحو ذلك.

والثاني: يقول: فاعلم أن الإله المستحق للعبادة والمعبود الحق هو الإله الذي لا إله غيره؛ إذ الإله عند العرب هو المعبود؛ يقول: إن المعبود الذي يستحق العبادة هو اللّه - تعالى - لا الأصنام التي تعبدونها دونه وتزعمون أن عبادتكم إياها تقربكم إليه زلفى.

والثالث: أمره أن يشعر قلبه في كل وقت وحال كلمة الإخلاص، والتوحيد له، والقول به، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} جائز أن يكون قوله: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} إنما هو لافتتاح الكلام وابتدائه، على ما يؤمر المرء أن يبتدئ بالدعاء لنفسه عند أمره بالدعاء لغيره، وكان حقيقة الأمر بالدعاء للمؤمنين والمؤمنات دون نفسه، ولكن أمر بالدعاء لنفسه استحبابًا، واللّه أعلم.

وجائز أن يكون له ذنب فيأمره بالاستغفار له، لكن نحن لا نعلم، وليس علينا أن نتكلف حفظ ذنوب الأنبياء - عليهم السلام - وذكرها، وكل موهوم منه الذنب يجوز أن

يؤمر بالاستغقار، كقول إبراهيم - عليه السلام - حيث قال: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}، لكن ليس ذنب الأنبياء وخطاياهم كذنب غيرهم؛ فذنب غيرهم ارتكاب القبائح من الصغائر والكبائر، وذنبهم ترك الأفضل دون مباشرة القبيح في نفسه، واللّه الموفق.

ثم أرجى آية للمؤمنين هذه الآية؛ لأنه - عَزَّ وَجَلَّ - أمر رسوله - عليه السلام - أن يستغفر لهم، فلا يحتمل ألا يستغفر وقد أمره مولاه بالاستغفار، ثم لا يحتمل - أيضًا - أنه إذا استغفر لهم على ما أمره به فلا يجيب له، وكذلك دعاء سائر الأنبياء - عليهم السلام - نحو دعاء نوح - عليه السلام -: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}، وقول إبراهيم - عليه السلام -: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ}، ونحو ذلك، وكذا استغفار الملائكة لهم - أيضًا - لقوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ}،

وقوله: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ. . .} الآية، هذه الآيات أرجى آيات للمؤمنين ودعوات الأنبياء - عليهم السلام - أفضل وسائل تكون إلى اللّه - تعالى - وأعظم قربة عنده، واللّه الموفق.

ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} فيه دلالة نقض قول المعتزلة، لأنهم يقولون: إن الصغائر مغفورة، لا يجوز للّه - تعالى - أن يعذب عباده عليها، والكبائر مما لا يحل له أن يغفرها لهم إلا بالاستغفار منهم والتوبة؛ فهذه الآية تنقض قولهم ومذهبهم؛ لأنه أمر رسوله أن يستغفر لهم، فلا يخلو إما أن تكون صغائر، وهي مغفورة عندهم؛ فكأنه يقول: اللّهم لا تجر؛ لأنها مغفورة لا يسع له أن يعذب عليها، أو كبائر ولا يحل له المغفرة عنها، فيكون قوله: اللّهم اغفر لهم، كأنه قال: اللّهم جر؛ لأن مغفرته إياهم الكبائر يكون جورًا ووضع الشيء في غير موضعه.

فكيفما كان ففيها نقض قولهم وحجة لقولنا: إن له أن يعذبهم عليها وإن كانت صغائر، وله أن يعفو عنها وإن كانت كبائر؛ إذ المغفرة عن الذنب تكون، واللّه الموفق للصواب.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاللّه يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ}

قَالَ بَعْضُهُمْ: {وَاللّه يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ} في النهار {وَمَثْوَاكُمْ} من الليل.

وقيل: يعلم ما ينقلبون بالنهار ويسكنون بالليل؛ وهما واحد.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَاللّه يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ} في الدنيا {وَمَثْوَاكُمْ} في الآخرة؛ أي: مقامكم

فيها.

وهو يخرج عندنا على وجوه:

أحمدها: يحتمل هذا لظن قوم وتوهمهم أن اللّه - تعالى - يجهل عواقب الأمور؛ حيث أنشأ هذا العالم، فجحدوه وجحدوا نعمه، فلا يحتمل أن ينشئهم، ويجعل لهم النعم وهو يعلم أنهم يجحدون وينكرون نعمه؛ لأن من فعل هذا في الشاهد فهو عابث غير حكيم، فعلى ذلك هذا، على زعمهم، فقال - تعالى - جوابًا لهم: {وَاللّه يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} أي: على علم بما يكون منهم أنشأهم وخلقهم، لا عن جهل على ما ظنوا هم، لكن ما ينبغي لهم أن ينسبوا الجهل إلى اللّه - تعالى - لجهلهم بحق الحكمة في فعله؛ لأن اللّه - جل وعلا - لم ينشئ هذا العالم لحاجة له، أو لمنافع نفسه؛ بل إنما أنشأه لمنافع أنفسهم، ولحاجتهم، فإليهم ترجع منفعة الإجابة والطاعة، وعليهم تكون مضرة الجحود والرد، فأما في الشاهد فمن يأمر أحدًا أو ينهاه عن أمر أو أرسل إليه رسولا على علم منه بالرد والجحود فهو سفيه غير حكيم؛ لأنه إنما يفعل ما يفعل لحاجة نفسه ولمنفعة له، فإذا علم منه الرد والإنكار فهو غير حكيم، فافترق الشاهد والغائب؛ لافتراق وجه الحكمة، واللّه الموفق.

والثاني: قوله - تعالى -: {وَاللّه يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} أي: يعلم جميع أحوالكم من حركاتكم، وسكونكم، وجميع تقلبكم؛ لتكونوا أبدًا على حذر ويقظة، واللّه أعلم.

والثالث: {وَاللّه يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} أي: يعلم متقلبكم في الدنيا، ويعلم إلى ماذا يكون مرجعكم في الآخرة؛ أي: أنشأ كلا على ما علم أنه يكون منهم؛ كقوله - تعالى -: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ}، وقال في آية أخرى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، أي: أنشأ من علم أنه يختار الكفر وعداوته لجهنم، وأنشأ من علم أنه يختار التوحيد وولايته للجنة، واللّه الموفق.

٢٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (٢٠) إن الذين آمنوا كانوا يتمنون إنزال السورة، ويقولون: هلا نزلت سورة؛ لوجوه:

أحدها: لتكون السورة حجة لهم، وآية على أعدائهم في الرسالة والبعث والتوحيد.

والثاني: كانوا يستفيدون بإنزال السورة أشياء ويزداد لهم يقين وتحقق في الدِّين؛ كقوله - تعالى -: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ. . .} إلى قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}، وأما المنافقون {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ}

على ما ذكر.

والثالث: يتمنون نزول السورة؛ ليتبين لهم المصدق من المكذب، والمتحقق من المرتاب.

هذه الوجوه التي ذكرنا تكون لأهل الإيمان؛ لذلك يتمنون، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ} أي: محدثة، والمحدثة ليست بتفسير للمحكمة، إلا أن يعنوا بالمحدث، الناسخ، والناسخ هو المحدث والمتأخر نزولا، وهو محكم؛ لأنه يلزم العمل به، واللّه أعلم.

وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: (لولا نزلت سورة محدثة)، والوجه ما ذكرنا.

والمحكمة عندنا على وجهين:

أحدهما: أي: محكمة بالحجج والبراهين.

والثاني: لما أنزلت على أيدي قوم وتداولت فيما بينهم فلم يغيروه ولم يبدلوه؛ بل حفظوه؛ ليعلم أنه من عند اللّه حقًّا ومنه نزل، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ} جعل اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - في القتال خصالا:

أحدها: كثرة أهل الإسلام، وكثرة الأموال، وإن كان في ظاهر القتال إفناء الأنفس والأموال؛ لأنه قبل أن يفرض القتال كان يدخل من الإسلام واحد، فلما فرض القتال دخل فيه فوج فوج؛ على ما أخبر: {يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّه أَفْوَاجًا}.

والثاني: ليتبين المصدق منهم من المكذب لهم، والمتحقق من المرتاب؛ لأنه لم يكن ليظهر ويتبين لهم المنافق من غيره إلى ذلك الوقت، فلما فرض القتال عند ذلك ظهر وتبين لهم أهل النفاق والارتياب من أهل الإيمان والتصديق.

والثالث: فيه آية الرسالة والبعث، وأما آية الرسالة فلأن أصحاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كانوا عددًا قليلا لا عدة لهم ولا قوة، أمروا بالقتال مع عدد لا يحصون، ولهم عدة وقوة؛ ليعلم أنهم لا بأنفسهم يقاتلون، ولكن باللّه - تعالى - إذ لا يحتمل قيام أمثالهم لأمثال أُولَئِكَ مع كثرتهم وقوتهم، واللّه أعلم.

وأما آية البعث فلأنهم أمروا بقتال أقاربهم، وأرحامهم، والمتعلق بهم، وفي ذلك قطع أرحامهم، وقطع صلة قراباتهم؛ ليعلم أنهم إنما يفعلون هذا بالأمر لعاقبة تؤمل وتقصد؛ إذ لا يحتمل فعل ذلك بلا عاقبة تقصد، وبلا شيء يعتقد، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} كان أهل النفاق يكرهون نزول ما ينبئهم عما في ضميرهم من النفاق والارتياب، كقوله - تعالى -: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ}، وإذا أنزلت السورة يزداد لهم ما ذكر؛ حيث قال: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَأَوْلَى لَهُمْ} قال أهل التأويل: هذا وعيد لهم؛ كقوله: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى. . .} الآية، لكن ظاهره ليس بتوعد ولا تهدد، إنما ظاهره، أي: أحرى لكم وأولى أن تطيعوه، وأن تقولوا معروفًا، فإذا تركوا ذلك يكون وعيدًا، واللّه أعلم.

٢١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ ... (٢١) اختلف في تأويله:

قَالَ بَعْضُهُمْ: هو صلة قوله: {فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ}، وعزم الأمر؛ فعند ذلك كان ما ذكر من المنافقين حيث قال: {رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}، وليس في نفس ذكر القتال ما ذكر من نظر المغشي عليه من الموت إنما ذلك الوصف وتلك أن حال عند وجوب القتال، ولزومه، وتأكيده عليهم، وذلك في قوله - تعالى -: {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ} أي: وجب وفرض، فعند ذلك يكون حالهم ما ذكر، فأما بذكر نفس القتال فلا، واللّه أعلم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ} هو في الآخرة، أي: فإذا تحقق وظهر ما كان أوعدهم الرسول - عليه السلام - من نزول العذاب بهم في الآخرة {فَلَوْ صَدَقُوا اللّه} في الدنيا لكان خيرًا لهم في الآخرة؛ حيث كان لا ينزل العذاب بهم في الآخرة؛ أي: لو صدقوا رسول اللّه فيما يوعدهم من العذاب أنه ينزل بهم في الآخرة وتركوا مخالفته في الدنيا - لكان خيرًا لهم في الآخرة، واللّه أعلم.

٢٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}

اختلف في تأويل هذه الآية:

قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله - تعالى -: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ} أي: فلعلكم {إِنْ تَوَلَّيْتُمْ} أي: وليتم أمر هذه الأمة {أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -:

قد كان هذا، وهم بنو أمية، ولوا أمر هذه الأمة ففعلوا ما ذكر من الفساد في الأرض وقطع الأرحام، وكان لهم اتصال برسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وكان منهم ما ذكر، واللّه أعلم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن الآية في المنافقين؛ كانوا يأتون رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويسمعون منه ما قال، ثم إذا تولوا عنه كانوا يسعون في الأرض بالفساد وما ذكر؛ كقوله - تعالى -: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. . .} إلى قوله: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ. . .} إلى قوله: {وَاللّه لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ}.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: ما أراه إلا نزلت الآية في الحرورية، وهم الخوارج.

وجائز أن يكون هذا ما ذكر في آية أخرى؛ حيث قال: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}، وقد انقلبوا، على ما أخبر، وهو في أهل الردة، واللّه أعلم.

وقال قتادة: {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللّه لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ}، أي: طواعية اللّه ورسوله، وقول المعروف عند حقائق الأمور خير لهم، {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ} يقول: إن توليتم عن كتابي وطاعتي {أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} يقول: كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب اللّه، ألم يسفكوا الدماء الحرام، وقطعوا الأرحام، وعصوا الرحمن، وأكلوا المال الحرام؟!

ويحتمل أن تكون الآية في الذين آمنوا برسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قبل أن يبعث، فلما بعث كفروا به، واللّه أعلم.

٢٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّه فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (٢٣)

اللعن: هو الطرد عن الرحمة، وهو كقوله لإبليس: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ}، أي: أنت مطرود عن رحمتي، وقوله - تعالى -: {لَعَنَهُمُ اللّه} أي: طردهم عن رحمته.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} أي: أصمهم حتى لم يسمعوا سماع الاعتبار والتفكر، وأعمى أبصارهم حتى لم ينظروا فيما عاينوا نظر اعتبار وتفكر ما لو تفكروا وتأملوا ونظروا نظر معتبر، لأدركوا، واللّه أعلم.

٢٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (٢٤).

فيه أنهم لو تدبروا وتأملوا فيه، لأدركوا ما فيه.

وفيه - أيضًا - أنهم لو تدبروا العذاب لفتح تلك الأقفال التي ذكر أنها عليها، وذهب بها، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} أي: على قلوب أقفالها.

ثم يحتمل أقفالها: الظلمة التي فيها، وهي ظلمة الكفر، تلك الظلمة تغطى نور البصر ونور السمع.

وجائز أن يكون ما ذكر من الأقفال هي كناية عن الطبع، واللّه أعلم.

٢٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (٢٥) أي: زين، أضاف التزيين مرة إلى الشيطان، ومرة إلى نفسه، فما يفهم من تزيين الشيطان غير الذي يفهم من تزيين اللّه - تعالى - كالإضلال المضاف إلى اللّه - تعالى - والمضاف إلى الشيطان، فالمفهوم من إضلال اللّه غير المفهوم من إضلال الشيطان؛ فعلى ذلك التزيين.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَمْلَى لَهُمْ} أي: أخرهم وأمهلهم إلى أجل ووقت؛ كقوله - تعالى -: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ. . .} الآية، أي: يؤخرهم؛ ليكون ما ذكر، واللّه أعلم.

ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى. . .} الآية، جائز أن تكون الآية في اليهود؛ لما ذكرنا أنهم كانوا آمنوا به قبل أن يبعث؛ كقوله: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ. . .} الآية، ارتدوا على أدبارهم من بعد ما آمنوا به واتبعوه.

وجائز أن تكون في المنافقين، ارتدوا على أدبارهم، وأظهروا الخلاف بعد وفاة رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبعدما أظهروا الموافقة في حياته، واللّه أعلم.

٢٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللّه سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللّه يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (٢٦) قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ} إن كان راجعًا إلى قوله: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ} كان المراد بذلك اليهود - فالمعنى فيه غير المعنى لو كان في المنافقين.

وإن كان قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ} راجعا إلى قوله: {الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ} فإذا احتمل ذلك

الوجهين، فلا نفسره أنه إلى ماذا يرجع.

ثم

قَالَ بَعْضُهُمْ: الذين كرهوا ما نزل اللّه هم المنافقون، قالوا لليهود: سنطيعكم في تكذيب مُحَمَّد والمظاهرة عليه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هم اليهود، ظاهروا سائر الكفرة على مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه رضي اللّه عنهم.

ثم كراهة نزول ما أنزل اللّه على رسوله - عليه الصلاة والسلام - كان من اليهود وجميع الكفرة؛ لقوله - تعالى -: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ}، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاللّه يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} هذا يدل على أنه لا يفسر قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا} ولا يشار على أنه أراد كذا، ورجع إلى كذا؛ لما أخبر اللّه - تعالى - أنه هو العالم بما أسروا، ولم يبين ذلك، واللّه أعلم.

٢٧-٢٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (٢٧) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللّه وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ ... (٢٨) لا أحد يقصد قصد اتباع سخط اللّه، ولا كراهة رضوانه، لكنهم لما اتبعوا الفعل الذي كان اللّه يسخط ذلك الفعل، فكأنهم اتبعوا سخطه، وكذلك إذا تركوا اتباع ما كان اللّه يرضاه وكرهوه فكأنهم كرهوا رضوانه، وهو كقوله - تعالى -: {لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ}، ولا أحد يقصد قصد عبادة الشيطان، لكنهم لما اتبعوه فيما يأمرهم ويدعوهم إليه فكأنهم عبدوه، وهو تسمية الشيء باسم سببه، واللغة غير ممتنعة عن تسمية الشيء باسم سببه، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} التي كانت قبل ارتهدادهم في حال اتباعهم إياه، واللّه أعلم.

٢٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللّه أَضْغَانَهُمْ} أي: حسب المنافقون أن لن يظهر اللّه عداوتهم، وأن لن يبدي اللّه ما في قلوبهم من العداوة؛

جعل اللّه - جل وعلا - في إظهار ما أسر أهل النفاق وإبداء ما أخفوه فيما بينهم - آية عظيمة، ودلالة ظاهرة على رسالة رسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

٣٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللّه يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (٣٠) كأنه على التقديم والتأخير؛ كأنه قال: ولو نشاء لأريناكهم بسيماهم بالنظر إليهم بالبديهة، ولتعرفنهم - أيضًا - في لحن القول؛ أي: لو نشاء لجعلنا لهم أعلامًا في الوجه والقول لتعرفنهم، ولكن لم نجعل لهم، ولكن جعل معرفتهم بأعمال يعملون فيظهر نفاقهم بذلك - واللّه أعلم - كقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، وقال في آية أخرى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ}،

وقوله: {رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ. . .} الآية، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ}،

وقوله: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ}، ونحو ذلك من الآيات مما كان يظهر نفاقهم وخلافهم بالأعمال التي كانوا يعملون؛ فدلت هذه الآيات على أنه كان لا يعرفهم بالسيماء والنطق والقول والأجسام، وإنَّمَا يعرفهم بأفعال كانوا يفعلونها، واللّه أعلم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} أي: فحوى الكلام، فكان يعرفهم رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وإذا تكلموا؛ فيخرج على هذا التأويل.

وقوله: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ} على الوعد؛ أي: تعرفهم في حادث الوقت، واللّه أعلم.

قال أَبُو عَوْسَجَةَ: يقال: رجل ألحن بحججه، ويقال: لحن يلحن -إذا أخطأ- لحنًا، فهو لاحن؛ كأنه من العدول والميل عن الحق.

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: {فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} أي: في فحوى كلامهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاللّه يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} يحتمل هذا وجهين:

أحدهما: واللّه يعلم ما تسرون من الأعمال وتخفونها.

والثاني: على الجملة؛ أي: يعلم جميع أعمالهم: ما أسروا وأعلنوا؛ يخرج على الوعيد، كقوله: {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، واللّه أعلم.

٣١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (٣١) هذا يخرج على وجوه:

أحدها: أي: حتى يعلم أولياؤه المجاهدين منكم والصابرين من غير المجاهدين وغير الصابرين، فيكون المراد من إضافة العلم إلى نفسه علم أوليائه؛ كقوله - تعالى -: {إِنْ تَنْصُرُوا اللّه يَنْصُرْكُمْ}، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يُخَادِعُونَ اللّه وَهُوَ خَادِعُهُمْ}، ونحوه، فالمراد منه أولياؤه على أحد التأويلات، واللّه أعلم.

والثاني: يكون المراد بالعلم: المعلوم، وذلك جائز في اللسان واللغة؛ كقول الناس: الصلاة أمر اللّه: أي: مأمور اللّه، وكقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}، أي: الموقن به،

وقوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ}، أي: بالمؤمن به، ونحو ذلك كثير.

والثالث: أي: يعلم كائنًا ما قد علمه أنه سيكون؛ إذ لا يجوز أن يوصف هو بعلم ما سيكون بعلمه كائنًا، أو بعلم ما قد كان بعلمه أنه يكون كائنًا، ولكن يوصف بما قد علمه كائنًا أنه علمه كائنًا، أو يعلم ما علم أنه سيكون أنه يكون؛ لأنه يوجب الجهل، ويكون التغير في ذلك المعلوم لا في علمه، واللّه الموفق.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} أي: ونبلو في أخباركم التي أخبرتم عن أنفسكم؛ كقوله: {يَحْلِفُونَ بِاللّه مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ}، وقوله - عز وجل -: {مَن عَاهَدَ اللّه. . .}، إلى آخر ما ذكر، ابتلوا في تلك الأخبار التي أخبروا عن أنفسهم، واللّه أعلم.

ويحتمل أن يكونوا ابتلوا في قولهم الذي قالوا لو أعطوا بلسانهم؛ حيث قالوا: آمنا؛ كقوله - تعالى -: (الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ)، فتنوا فيما قالوا وأخبروا؛ أي: ابتلوا، فالفتنة والمحنة والابتلاء والبلاء واحد، واللّه أعلم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} أي: نظهر نفاقكم للمسلمين؛ إذ كان اللّه - تعالى - عالمًا قبل أن يبلوهم، واللّه أعلم.

٣٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللّه وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللّه شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (٣٢) قوله: {كَفَرُوا} أي: كفروا بنعم اللّه؛ من الكفران.

أو كفروا بتوحيد اللّه.

وقوله: {وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللّه} يحتمل قوله: {وَصَدُّوا} أي: أعرضوا بأنفسهم عن دين اللّه.

ويحتمل: {وَصَدُّوا} أي: صرفوا الناس عن دين اللّه، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَشَاقُّوا الرَّسُولَ} أي: عادوه وعاندوه {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى}.

وقوله - عزَّ وجلَّ -: {لَنْ يَضُرُّوا اللّه شَيْئًا} يحتمل: لن يضروا اللّه بكفرانهم نعمه أو كفرهم بوحدانية اللّه - تعالى - ومعناه - واللّه أعلم -: أنه ليس يأمر بما يأمر أو ينهى عما ينهى لدفع مضرة عن نفسه، أو لجر منفعة إلى نفسه، ولكن يأمر وينهى لحاجة أنفس أُولَئِكَ ولمنافعهم، فهم بتركهم اتباع أمره والانتهاء من نهيه، ضروا أنفسهم، واللّه أعلم.

وجائر أن يكون المراد من قوله {لَنْ يَضُرُّوا اللّه شَيْئًا} أي: لن يضروا أولياء اللّه بما كفروا وصدوهم عن سبيله؛ بل ضروا أنفسهم؛ كقوله - تعالى -: {إِنْ تَنْصُرُوا اللّه يَنْصُرْكُمْ}، أي: إن تنصروا أولياء اللّه ينصركم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ}.

يحتمل حبط الأعمال بالارتداد بعد الإيمان، وإحداث الكفر بعد الإسلام.

ويحتمل أعمالهم التي كانت لهم بالإيمان قبل بعثه عليه السلام.

٣٣

وقوله - عز وجهل -: {أَطِيعُوا اللّه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: أطيعوا اللّه في الجهاد، ولا تبطلوا حسناتكم بالرياء والسمعة.

وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: {يَا أَيُّهَا الذين آمنوا اتقوا اللّه وأطيعوا الرسول}.

ويحتمل: ولا تبطلوا أعمالكم بالارتداد والكفر بعد الإيمان.

ويحتمل: أي: لا تبطلوا أعمالكم بالمنِّ على اللّه، أو على الرسول في الإسلام؛ أي: تسلمون ممتنون على اللّه أو على رسوله؛ كقوله - تعالى -: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ. .} الآية.

وقال قتادة: ولا تبطلوا أعمالكم بالرياء،

وقال: فمن استطاع منكم ألا يبطل عملا صالِحًا بعمل شر فليفعل؛ إن الشر ينسخ الخير، وإنما ملاك العمل بخواتيمه، فمن استطاع أن يختم بخير فليفعل، ولا قوة إلا باللّه.

وعن عبد اللّه بن عمر - رضي اللّه عنهما - قال: ما كنا معشر أصحاب مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - نرى شيئًا يبطل أعمالنا حتى نزلت هذه الآية، فعلمنا ما الذي يبطل أعمالنا؟! الكبائر الموجبات والفواحش، فكنا على ذلك حتى أنزل اللّه تعالى -: {إِنَّ اللّه لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ. .} الآية، فلما نزلت هذه الآية كففنا عن هذا القول.

وجائز أن يكون قوله - تعالى -: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} قال: هذا ليكونوا أبدًا على اليقظة والحذر؛ لئلا تبطل أعمالهم من حيث لا يشعرون؛ كقوله: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}.

وفي حرف أبي - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: (ولا تبطلوا إيمانكم).

٣٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللّه ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللّه لَهُمْ (٣٤) تأويلها ظاهر.

٣٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللّه مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (٣٥) أي: لا تضعفوا وتدعوا إلى الصلح، كذلك قَالَ الْقُتَبِيُّ.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: السِّلم -بكسر السين-: الصلح، ولا أعرف بفتح السين هاهنا له معنى.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} أي: وأنتم الغالبون.

فيه النهي عن الدعاء إلى الصلح إذا كانوا هم الأعلون؛ أعني: أهل الإسلام.

ثم قوله - تعالى -: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} يحتمل وجوهًا:

يحتمل: الأعلون بالحجج والبراهين في كل وقت.

ويحتمل: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} بالقهر والغلبة في العاقبة؛ أي: آخر الأمر لكم.

ويحتمل {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} في الدنيا والآخرة؛ لأنهم وإن غلبوا في الدنيا وقتلوا كانت لهم الآخرة، وإن ظفروا بهم كانت لهم الدنيا والأموال.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} أي: وأنتم أولى باللّه منهم، وهو ما ذكرنا في الآخرة، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاللّه مَعَكُمْ} في النصر والغلبة.

ويحتمل معكم في الوعد الذي وعد؛ أي: ينجز ما وعد لكم في الدنيا ويفي بذلك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} اختلف فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ أي: لن يجعل اللّه للكافرين عليكم مظلمة ولا تبعة، وهو يحتمل في الدنيا والآخرة؛ كقوله - تعالى -: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللّه لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} أي: لن ينقصكم أعمالكم، وكذا قال أبو عَوْسَجَةَ؛ يقال: وتره: أي: نقصه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: لن يظلمكم أعمالكم؛ يقال: وترني حقي، أي: بخسنيه، كذلك قال الْقُتَبِيّ، ولكن كلاهما واحد في المعنى، أي: لا ينقص من أعمالهم شيئا، ولا يظلمون فيها، ولا يبخسون، واللّه أعلم.

٣٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (٣٦) أي: حياة الدنيا على ما عندهم وعلى ما يقدرون لعب ولهو؛ لأنهم كانوا يقولون أن لا بعث ولا حياة فعلى ما عندهم تكون حياة الدنيا على ما ذكر من اللّهو.

ويحتمل أنه سماها: لهوًا ولعبا؛ لأنهم على ما يزعمون أنشأها للانقطاع والفناء، لا لتكتسب بها الحياة الدائمة في الآخرة؛ وإنشاء الشيء للانقطاع والفناء خاصة بلا عاقبة تقصد يكون لعبًا ولهوًا، ثم اللعب واللّهو يجوز أن يكونا شيئا واحدًا، ويجوز أن يكون أحدهما ما يستمتع بظاهر الأشياء، والآخر ما يستمتع بباطن الأشياء: اللعب هو ما يستمتع بظواهر الأشياء، واللّهو هو ما يتلهى ببواطنها، واللّه أعلم.

وقوله - تعالى -: {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ} أي: وإن تؤمنوا بما أمرتم الإيمان به وتتقوا عما نهيتم عن مخالفة أمره - {يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ}: جعل اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - بفضله ورحمته لأعمالهم التي يعملون لأنفسهم أجرًا؛ إذ لا أحد يعمل لنفسه ويأخذ الأجر من غيره؛ لأنهم بالأعمال يسقطون عن أنفسهم التكليف بالشكر لنعم اللّه - تعالى - حيث أسدى عليهم النعم ابتداء، لكنه جعل لأعمالهم أجرًا كأنهم يعملون له ابتداء، وإن كانوا عاملين لأنفسهم في الحقيقة، وإليه ترجع منافع أعمالهم، ولأن أنفسهم وأموالهم - في الحقيقة - للّه - تعالى - فكيف يستحقون الأجر على مولاهم بأعمالهم؟ وهذا كما ذكرنا من الإقراض له والاستدانة منه كأنه لا ملك له في ذلك، وأن ليس له ذلك، وإن كانت حقيقة أملاكهم وأنفسهم للّه - تعالى - فضلا منه وكرمًا، فعلى ذلك هذا، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} هذا يخرج على وجهين:

أحدهما: أي: ليس يسألكم الإنفاق من أموالكم، وإنما يسألكم من ماله يستمتعوا بمال غيره لأنفسكم وتجعلون ذخرًا لأنفسكم غير {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا}، أي: لو كان يسألكم من أموالكم لبخلتم وتركتم الإنفاق منها.

٣٧

والثاني: {وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} أي: ولا يسألكم الإنفاق من جميع أموالكم، ولكن إنما يسألكم الإنفاق من طائفة من أموالكم (إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ ... (٣٧) أي: لو يسألكم جميع أموالكم، لحملكم ذلك على البخل وترك الإنفاق، فإن يسألكم الإنفاق من جزء من أموالكم فلماذا بخلتم وتركتم الإنفاق؟!

وقوله: {فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا} يخرج من وجوه:

أحدها: أي: يحملكم على البخل لو سألكم جميع الأموال.

ويحتمل {فَيُحْفِكُمْ} أي: يجعلكم حفاة لا شيء يبقى عندكم: الإحفاء: أن يأخذ كل شيء عنده، وهو من الاستئصال، ومنه إحفاء الشوارب.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الإحفاء: شدة المسألة؛ أي: إن يلح عليكم فيما يوجبه في أموالكم تبخلوا؛ يقال: أحفى في المسألة وألحف وألح واحد، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} أي: لو أمر بالإنفاق من جميع أموالكم ومن أموالكم حقيقة يظهر ذلك من أضغانكم التي في قلوبكم؛ لأن ذلك الأمر إنما يجري على ألسن الرسل؛ يوجب ذلك إظهار ما في قلوبهم من الضغائن للرسل، عليهم السلام.

فإن كان التأويل هذا فهو في المنافقين؛ فيكون الأمر بالإنفاق سبب إظهار نفاقهم

وضغائنهم وعداوتهم، فكان كالأمر بالقتال؛ كان سببًا لإظهار نفاقهم.

وإن كان في المسلمين فيحتمل أنه قال ذلك؛ تحريضًا لهم على الإنفاق والتصدق، أي: إنه سبب إخراج الضغائن والعداوة؛ لما فيه من التحبب والتودد بإيصال ما هو محبوب إليه، واللّه أعلم.

٣٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّه فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللّه الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (٣٨) أي: هأنتم يا هَؤُلَاءِ تدعون لتنفقوا في سبيل اللّه، أي: في إظهار دين اللّه، أو في طاعة اللّه، أو في الجهاد؛ لأن الإنفاق في ذلك كله في سبيل اللّه، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} جعل اللّه - عَزَّ وَجَلَّ -: الإنفاق لهم حقيقة إذا أنفقوا فيما أمرهم اللّه - تعالى - بإلإنفاق في طاعته عند ذلك تصير تلك الأموال لهم؛ لأنهم إذا أنفقوا فيما أمر اللّه - تعالى - انتفعوا

بها في الدنيا، واستمتعت أنفسهم وتلذذت، وانتفعوا بها - أيضًا - في الآخرة وقت حاجتهم وفقرهم بذلك تتحقق وتحصل لهم تلك الأموال، فأما عند تركهم الإنفاق فيما أمروا بالإنفاق والبذل فلا تتحقق لهم تلك الأموال المجعولة في أيديهم؛ لأنه إما أن تجعل لوارثهم أو يأخذها منهم بلا سبب من غير أن يجعل لهم بذلك نفع يحصل لهم، فيكون ما ذكرنا، فذلك تأويل قوله - تعالى -: {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} - واللّه أعلم - لما يهلك نفسه بترك الإنفاق منه ولم يتمتع ولم ينتفع به وقت حاجته إليه في الآخرة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ} عن الصدقة والإنفاق في طاعة اللّه، {وَمَنْ يَبْخَلْ} بالصدقة في طاعة اللّه {فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} بالجزاء، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاللّه الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} أي: {وَاللّه الْغَنِيُّ} عن إنفاقكم وعما يأمركم بالإنفاق، {وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} إلى ما تنفقون؛ أي: أنتم المنتفعون بذلك الإنفاق الذي يأمركم به، لا أنه ترجع منفعة ذلك إليه، أو يأمر لحاجة نفسه، ولكن إنما يأمركم بذلك لحاجتكم إليه يومًا، واللّه أعلم.

ويحتمل أن يكون يقول: {وَاللّه الْغَنِيُّ} عنكم وعما في أيديكم {وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} إليه في كل وقت، وكل ساعة، في جميع أحوالكم وأوقاتكم؛ كقوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللّه وَاللّه هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}.

ويحتمل: {وَاللّه الْغَنِيُّ} عن أموالكم، {وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} إلى مغفرته ورزقه وجنته ورحمته.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: قد تولوا، وهم أهل مكة، واستبدل قومًا غيرهم وهم أهل المدينة، لكن هذا بعيد؛ لأن السورة مدنية؛ فلا يحتمل الخطاب بها لأهل مكة بقوله: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا}.

ومنهم من يقول: اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - أخبر ووعد أهل المدينة أنهم إن يتولوا استبدل غيرهم أطوع منهم للّه - تعالى - فلا تولوا هَؤُلَاءِ ولا استبدل غيرهم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو على وجهين:

أحدهما: قوله: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ}، أي: لم تتولوا ولم يستبدل قومًا غيركم.

والوجه الآخر: قد تولوا واستبدل بهم النخع، وأحمس، وناس من كندة، والذين تولوا حنظلة وأسد، وغطفان، وبنو فلان.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} أي: لا يكونوا أمثالكم في الطاعة للّه -

تعالى - بل أطوع له وأخضع، واللّه أعلم.

وذكر أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سئل عن قوله: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} فضرب بيده على فخذ سلمان الفارسي،

وقال: " والذي نفسي بيده، لو كان الدِّين منوطا بالثريا، لتناوله رجال من فارس ".

وقال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " رأيت غيما سوداء، ردفها غيم بيض، فاختلطت بها فتعقب بهن جميعًا " قالوا: يا رسول اللّه، فما أولت؟ قال: " العجم يشركونكم في دينكم وأنسابكم "، قالوا: العجم يا رسول اللّه؟! قال: " نعم، لو كان الإيمان معلقًا بالثريا، لناله رجال من العجم، وأسعدهم به أهل فارس " فإن ثبت هذا الخبر، فجائز أن يستدل به على جعل العجم أكفاء العرب؛ لأنه قال: " يشركونكم في أنسابكم " فإذا أشركوهم في أنسابهم صاروا أكفاء لهم.

ويحتمل أن يكون قوله: " يشركونكم في أنسابكم "؛ لأنهم يسبونهم، فيلدون منهم أولادًا فيشتركون فيما ذكر، واللّه أعلم.

وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قال: تلا رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - هذه الآية: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}، قالوا: ومن يستبدل قومًا؟ قال: فضرب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على منكب سلمان، ثم قال: " هذا وقومه هذا "، وقال في حديث آخر: " والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطًا بالثريا، لناله رجال من فارس "، واللّه أعلم بالصواب، وصلى اللّه على سيدنا مُحَمَّد وآله أجمعين.

* * *

﴿ ٠