٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ}، وقال في آية أخرى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}، جائز أن يكون قوله - تعالى -: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} في القتال والحرب، وكذلك قوله - تعالى: {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}، في الحرب والقتال - أيضًا - يضربون ويقتلون على ما يظفرون ويقدرون بهم من المفاصل، ولكن إبانة من المفصل - واللّه أعلم - لما روي في الخبر: " إذا قتلتم فأحسنوا القتل " وحسن القتل هو أن يضرب ويبان من المفصل، واللّه أعلم. فعلى هذا جائز أن يخرج تأويل قوله تعالى: {فَاضْربُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}، وتأويل قوله: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ}. وجائز أن يكون لا على التقديم والتأخير والإضمار، ولكن كل آية على نظم ما ذكر، واللّه أعلم. ثم إن كان على ما ذكرنا من التقديم والتأخير والإضمار فيكون كأنه قال - تعالى -: فإذا لقيتم الذين كفروا فاضربوا الرقاب حتى إذا أثخنتموهم وأسرتموهم، فاضربوا فوق الأعناق؛ لأن الإمام بالخيار عندنا إذا أخذهم وظفر بهم إن شاء قتلهم، وإن شاء منَّ عليهم وتركهم بالجزية، لقوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ}، ويكون قوله: {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} على هذا في المنِّ يستوثقهم بالمواثيق، وإن شاء فاداهم، لكنهم اختلفوا في المفاداة: قَالَ بَعْضُهُمْ: يفدون بالأموال وأسراء المسلمين منهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يفادون بالأسراء منهم، ولكن لا يجوز أن يفادوا بالأموال، وهو قولنا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا يفادون بأسراء المسلمين ولا بالأموال؛ وهو قول أبي حنيفة، رحمه اللّه. واختلفوا في قتل الأسراء منهم: قَالَ بَعْضُهُمْ: لا يقتلون، ولكن يمن عليهم أو يفادون. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الإمام بالخيار: إن شاء قتلهم، وإن شاء منَّ عليهم، وإن شاء فاداهم بالأسارى من المسلمين؛ أما القتل فلما ذكرنا من الاستدلال بقوله: {فَاضْربُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ}، ولما روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه استشار أبا بكر، وعمر، وسائر الصحابة - رضي اللّه عنهم - في أسارى بدر، فأشاروا إلى المنِّ عليهم والترك، وأشار عمر إلى القتل فيهم، وقال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عند ذلك: " لو جاءت من السماء نار ما نجا منكم إلا عمر " أو كلام نحوه - دل أن الحكم فيهم القتل؛ أعني: في هَؤُلَاءِ الذين حكم فيهم عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - بالقتل؛ لذلك قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " ما نجا إلا عمر " فدل هذا الخبر أن للإمام أن يقتل أسارى أهل الشرك، وله أن يمنَّ عليهم بالترك بالجزية في حق أهل الكتاب والعجم، فإنه لما جاز لنا في الابتداء أن نأخذ منهم الجزية إذا أبوا الإسلام وتركهم على ما هم عليه، فعلى ذلك بعد الظفر بهم والقدوة عليهم. ثم قالا بعضهم: الآية -وهو قوله: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} - تخالف من حيث الظاهر لقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ}، ونحو ذلك، ولكن أمكن التوفيق بين الآيتين: هذه في قوم، والأخرى في قوم آخرين، أو هذه في وقت والأخرى في وقت آخر، واللّه أعلم. وقوله - عز وجل -: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا}. قال بعضهم: حتى يخرج عيسى ابن مريم - عليهما السلام - فعند ذلك تذهب الحروب والقتال، أي: اقتلوهم، وافعلوا بهم ما ذكر إلى وقت خروج عيسى - عليه السلام - وقَالَ بَعْضُهُمْ: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} أي: حتى يضعوا أسلحتهم ويتركوا القتال. وقَالَ بَعْضُهُمْ: حتى يذهب الكفر والشرك، ولا يكون الدِّين إلا دين الإسلام، وهو كقوله - تعالى -؛ {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ}، أي: شرك وكفر، واللّه أعلم. قيل: الإثخان: هو الغلبة والقهر بالقتل والجراح. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: {أَثْخَنْتُمُوهُمْ}، أي: أكثرتم فيهم القتل والجراحة، ويقال في الكلام: ضربته حتى أثخنته: حتى لا يقدر أن يتحرك، والوثاق: ما أوثقت به كل يدي الرجل أو رجليه؛ يقال: أوثقته واستوثقت منه. وقوله: {أَوْزَارَهَا} أيٍ: أثقالها، واحدها: وزر، وهو الثقل. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} أي: يضع أهل الحرب السلاح. وأصل الوزر ما حملته، فسمي السلاح: وزرًا؛ لأنه يحمل، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللّه لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ} قوله: {ذَلِكَ} أي: ذلك الذي أمرتهم به من أول ما ذكر من قوله - تعالى -: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ. . .} إلى قوله: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَوْ يَشَاءُ اللّه لَانْتَصَرَ} لأوليائه من أعدائه بلا قتال، ولا نصب الحروب فيما بينهم، ثم انتصاره منهم يكون مرة بأن يهلكهم إهلاكًا، ويقهرهم قهرًا، ومرة ينتصر منهم بأن يسلط عليهم أضعف خلقه وأخسهم، فيقهرهم بأضعف خلقه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} أي: يمتحن بعضكم بقتال بعض، وبأنواع المحن: أنشأ اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - هذا البشر في ظاهر الأحوال بعضهم مشابهًا لبعض غير مخالف بعضهم بعضًا فإنما يظهر الاختلاف بالامتحان بأنواع المحن على اختلاف الأحوال، فعند ذلك يظهر المصدق من المكذب، والمحق من المبطل، والموافق من المخالف، والمتحقق من المضطرب، والموقن من الشاك؛ على ما ذكر - تعالى -: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ}، {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}، {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}، وغير ذلك من الآيات التي ذكر الاختلاف والامتحان فيها باختلاف الأحوال التي عند ذلك يظهر ما ذكر من التصديق والتكذيب والتحقيق وغيره. ثم لو كان - جل وعلا - انتصر لأوليائه من أعدائه بما ذكرنا بأن ينصرهم على أعدائهم نصرًا بلا امتحان وكلفة منه لأوليائه - لكان التوحيد له والتصديق لرسله بحق الاضطرار، لا بحق الاختيار؛ لأنهم إذا رأوا أنهم يستأصلون ويهلكون إهلاكًا بخلافهم إياهم لكانوا لا يخالفونهم؛ بل يوافقونهم مخافة الهلاك والاستئصال، فيرتفع الابتلاء والامتحان عنهم، فلا يظهر المختار من غيره؛ لذلك كان ما ذكرنا، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّه فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ} هذا يخرج على وجهين: |
﴿ ٤ ﴾