سُورَةُ الْفَتْحِ

ذكر أن سورة الفتح مدنية

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}

قَالَ بَعْضُهُمْ: هو فتح مكة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو صلح الحديبية الذي بين رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبين أهل مكة حين صدوهم عن دخولهم مكة، وحالوا بينه وبين زيارة البيت، وكان له فيها -أعني: في قصة الحديبية- أمران وآيتان ظاهرتان عظيمتان:

أحدهما: أنه أصابه ومن معه من أصحابه عطش، فأتى بإناء ماء، فنبع من ذلك الإناء من الماء مقدار ما شرب منه زهاء ألف وخمسمائة، حتى رووا جميعًا؛ فذلك آية عظيمة حسية على رسالته.

والثاني: أخبر بغلبة الروم فارس، وذلك علم غيب، وكان كما ذكر وأخبر؛ فدل أنه إنما علم ذلك باللّه تعالى.

وقصة الحديبية: روي عن رجل يقال له: مجمع بن حارثة قال: شهدت الحديبية مع رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فلما انصرفنا عنها إذ الناس يوجفون الأباعر، فقال بعض الناس لبعض: ما للناس؟ قال: أوحي إلى رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: فخرجنا نوجف مع الناس حتى وجدنا رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - واقفًا عند كراع الغميم -اسم موضع- فلما اجتمع إليه بعض ما يريد من الناس قرأ عليهم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} قال: قال رجل من أصحاب رسول اللّه: أو فتح هو يا رسول اللّه؟ قال: " إي والذي نفسي بيده إنه بفتح " قال: ثم قسمت الحديبية على ثمانية

عشر سهمًا، وكان الجيش ألفًا وخمسمائة.

وفي بعض الأخبار؛ أنه الصلح الذي كان بين رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبين المشركين، ولم نر قتالا، ولو نرى لقاتلنا، قال: فنزلت سورة الفتح، فأرسل رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -إلى عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - فأقرأها إياه، فقال: يا رسول اللّه، فتح هو؟ قال: " نعم ".

وعن عامر أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان بالحديبية، فأنزل اللّه - تعالى -: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} فقال رجل: إنه فتح هو؟ قال: " نعم ".

وعن جابر أنه قال: ما كنا نعد الفتح إلا يوم الحديبية.

وكذلك روي عن عبد اللّه بن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قال: نزلت هذه الآية: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} بالحديبية.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قال: لم يكن في الإسلام فتح أعظم من صلح الحديبية، وضعت الحرب أوزارها، وأمن الناس كلهم، ودخل في الإسلام في السنتين أكثر مما كان دخل قبيل ذلك، فلما رجع رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى المدينة من الحديبية. . . وفي الحديث طول تركنا ذكره، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} يخرج على وجوه ثلاثة:

أحدها: أي: إنا قضينا ذلك قضاء بينًا بالحجج والبراهين على رسالتك ونبوتك؛ ليعلم أنك محق على ما تدعي، صادق في قولك؛ {لِيَغْفِرَ لَكَ اللّه} بما أكرمك، وعظم أمرك بالرسالة والنبوة؛ أي: أعطاك ذلك وأكرمك به؛ ليغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر.

والثاني: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} ما لم يطمع أحد من الخلائق أنه يفتح عليك أمثال ذلك الفتح {لِيَغْفِرَ لَكَ اللّه مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}.

والثالث: إنا فتحنا لك جميع أبواب الحكمة والعلوم وجميع أبواب الخيرات والحسنات {لِيَغْفِرَ لَكَ اللّه} بما أكرمك من أبواب الحكمة والخيرات.

يخرج على هذه الوجوه الثلاثة، واللّه أعلم.

﴿ ١