سُورَةُ {ق}

ذكر أن سورة (ق) كلها مَكِّيَّة

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) يحتمل أن يكون قوله: (ق) اسم هذه السورة، وللّه - تعالى - أن يسمي السور بما شاء: (ق) كناية؛ كما سمى كتابه: قرآنًا، وزبورًا، وتوراة، وإنجيلا؛ أقسم بهذه السورة والقرآن جملة.

ويحتمل أن يذكر (ق) كناية عن جميع الحروف المقطعة، والقرآن هو اسم الحروف المجموعة المقطعة؛ أقسم بالحروف المقطعة والمجموعة جميعًا.

ومن الناس من يقول: إن (ق) اسم للجبل المحيط بالأرض، وهو ياقوتة خضراء أو ياقوتة حمراء، فخضرة السماء من ذلك؛ أقسم اللّه - تعالى - به وبالقرآن.

والأول أشبه وأقرب؛ لأن العرب لم تعرف جبل قاف، ولم تعرف عظمته، والقسم في الأصل لتأكيد الخبر، فإنما يتحقق بما يعرفه من أريد القسم في حقه، فأما إذا لم يعرف ولم يعظم ذلك في عينه يخرج القسم مخرج العبث تعالى اللّه عن ذلك، إلا أن يقال: أن يكون هذا القسم في حق أهل الكتاب، فإنه قد كان لهم كتاب يعرفون ذلك، وكانت لهم رسل قد بلغتهم ذلك، وكذا الظاهر أن القسم في حق العرب فدل أن الأول أشبه.

ثم هذه الحروف المقطعة لم يظهر في الأخبار تفسيرها عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بطريق التواتر والاشتهار، ولم يثبت عن الصحابة - رضوان اللّه عليهم أجمعين - أنهم سألوا رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، فسبيله الوقف فيها؛ لأنه معلوم ألا يقف أحد على المراد بالحروف المقطعة إلا من جهة السمع، فلما لم يظهر ذلك من أصحاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - دل أنهم تركوا ذلك، وإنَّمَا تركوه لوجوه:

إما لأن هذه الحروف المقطعة كانت بيان أحكام في نوازل عرفوها وتركوا سؤالها؛ لما عرفوا تلك الأحكام والنوازل.

وإما أن تركوا ذلك لما كان ذلك من السرائر التي لم يطلع اللّه - تعالى - الخلق على ذلك، وهو المتشابه الذي يجب الإيمان به، ولا يطلب له تفسير، وكأن ذلك مما اختص الرسول - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بمعرفته؛ لقوله - تعالى -: {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}، فلم يسألوا منه بيان ذلك.

وإما أن كان ذلك عندهم أسماء السور لتعريف السور، وأسماء الأعلام لا يطلب فيها المعاني؛ لذلك لم يسألوا معانيها، ولم يرد التعليم من النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كما أن أصحاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - تركوا سؤال التفسير للآيات إما لأن في وسعهم الوصول إلى معرفة ما تضمنته الآيات، وعرفوا المراد منها باللسان، وعرفوا مواقع النوازل، ففهموا المواد، فلم يحتاجوا إلى السؤال.

وإما أن تركوا لما أنها تضمنت أحكامًا عرفوها، فتركوا السؤال؛ فعلى ذلك هذا، واللّه أعلم.

ثم ذكر القسم ولم يبين موضع القسم، واختلف فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: موضع القسم في آخر السورة: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ. . .} الآية.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ. . .} الآية.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: موضع القسم قوله - تعالى - {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} أقسم بقوله: وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) بأن الكفرة في أمر مريج.

ويحتمل أن يكون موضع القسم هو ما عجبوا؛ كما قال: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ. أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} ذكر - هاهنا - عجبهم من شيئين:

أحدهما: ما ذكر {أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} أي: من البشر {فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} وهو كقولهم: {أَبَعَثَ اللّه بَشَرًا رَسُولًا}، وقولهم: {مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا}، لا يزالون ينكرون الرسالة في البشر.

والثاني: من الإحياء بعد الموت؛ لقولهم {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} وقد ذكرنا في غير آي من القرآن عجبهم وإنكارهم البعث بعد الموت، فجائز أن يكون موضع القسم ما عجبوا أو أنكروا أن يكون من البشر رسول أو يحيون بعد الموت، أقسم بما ذكر من قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) أنه يكون ذلك ردًّا لإنكارهم وتعجبهم، واللّه أعلم.

ثم إنكار الكفرة وعجبهم أن كيف بُعِثَ من البشر رسول؟ أو كيف لا اختار بعث الرسل ممن عنده -وهم الملائكة- وأبدًا إنما يبعث الرسل ممن كان عند المرسل، لا ممن كان هذا مبعوثا إليهم في الشاهد إلا لمعنى، ولا ينبغي لهم أن ينكروا بعث الرسول ممن هو عند المبعوث إليهم، وإن تعجبوا منه؛ لأن بعث الرسول من جنس المرسَل إليهم والمبعوث إليهم في معرفة صدقه وحقيقة دعواه أقرب من أن يكون من خلاف جنسهم؛ لأنهم إنما يعرفون رسالته بآيات ودلالات يقيمها على رسالته بحيث يخرج عن وسعهم إقامتها، ولا يعرفون صدق تلك الآيات وحقيقتها إذا كانت تلك من غير جنسهم بما لعل أن ما آتاهم به وزعم أنها آيات ليست بآيات؛ لما في وسعه إتيان مثلها، وليس في وسعهم ذلك؛ لما أن القوى تختلف عند اختلاف الجنس؛ فدل أن بعث الرسول من جنس المرسَل إليهم أحق وأقرب إلى معرفة صدق الآيات والمعجزات، واللّه الموفق.

ولأن كل ذي نوع من نوعه، وكل ذي شكل من شكله أميل، وبه آنس من خلاف جنسه ونوعه، فكان الغرض وهو التأليف والاجتماع في هذا أقرب إلى الحصول، واللّه أعلم.

ثم قولهم: هلا بعث إلينا الرسل ممن هو عنده فاسد؛ لأن الخلائق جميعًا من حيث العند للّه - تعالى - واحد، لا يوصف أحد من الخلائق أنه عنده إلا من حيث القرب به بالطاعة له، والائتمار بأمره، وترك الخلاف له، فأما على ما يوصف المخلوق عند مخلوق فلا؛ إذ ذاك وصف المتمكن في المكان، تعالى اللّه عن ذلك علوًّا كبيرا.

فإذا كان المراد من عنده من حيث القرب به بالطاعة والقيام بأمره مما يثبت أهلية الرسالة وصلاحها فذلك مما لا يوجب الفضل بين البشر والملائكة؛ بل من جهة البشر أحق؛ لما هم يفعلون عن غيب الدلائل أجمع دون العيان - واللّه أعلم - بحجتهم أنه لو أراد إحياءنا كيف أماتنا؟ ولا أحد في الشاهد يبني بناء فيهدمه ويبني مثله فليس بشيء؛ لأنه لو لم يكن إماتة ثم إحياء لكان الجزاء بالأعمال يكون حضرة الأفعال، وذلك يوجب أن يكون إيمانهم إيمان اضطرار، لا إيمان اختيار وإيثار؛ لأن من عاين أنه يدخل النار يعذب فيها أبد الآبدين لا يعمل ذلك العمل الذي أوعد به؛ بل يتركه، وكذا أن من عاين أن من آمن باللّه - تعالى - وعمل طاعة وعبادة يدخل الجنة ويكرم أبد الآبدين لا يعمل غير ذلك العمل، فترتفع المحنة، ويكون الإيمان بحق الاضطرار، فأخر ذلك؛ ليكون الإيمان بحق الاختيار حتى يكون له قيمة.

ثم قوله: {وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} وصف القرآن مرة بأنه كريم، ومرة بأنه حكيم، ومرة بأنه مجيد، يحتمل أنما سماه بهذه الأسماء على معنى أن من تمسك به يصير مجيدًا، كريمًا،

حكيمًا؛ أي: منزلة مجيد، كريم، حكيم.

ويحتمل أن تكون هذه صفات القرآن راجعة إلى عينه كما يقال: كلام حكمة، وكلام سفه، وإنما يراد به عينه؛ فعلى هذا يحتمل، واللّه أعلم.

قال أَبُو عَوْسَجَةَ: المجيد: الماجد، والتمجيد: التعظيم، وأمجدت الدابة من العلف: إذا أكثرت من ذلك، وأمجد القوم: إذا أكثروا من الطعام والشراب.

﴿ ١