سُورَةُ الذَّارِيَاتِذكر أن سُورَةَ الذَّارِيَاتِ مَكِّيَّة بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ١-٤قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} سئل علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - عن هذه الآية فقال: {وَالذَّارِيَاتِ} هي الرياح، {فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا} هي السحاب، {فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا} هن السفن، {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} هي الملائكة. وعلى هذا خرج تأويل عامة أهل التأويل، إلا ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - فإنه قال: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} هي الملائكة. ثم يحتمل أن تصرف هذه الأحرف كلها من {وَالذَّارِيَاتِ} وغيرها إلى الرياح خاصة؛ فالذاريات من تذرى الأشياء ذروا {فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا} هن يحملن السحاب وغيره في الآفاق. وجائز أن يصرف كل حرف من ذلك إلى نوع وجنس، على ما حمله أهل التأويل، وصرفوه إليه. قَالَ الْقُتَبِيُّ: ذرت الريح تذرو ذروا، ومنه قوله تعالى: {فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ}، ومنه ذريت البر؛ لأن التذرية لا تكون إلا بالريح، وتذريت أي: أشرفت من الذروة، وذرى الرجل يذرى ذرى، فهو أذرى أي: أشمط، وشاة ذرا: إذا كان في ذنبها بياض. {فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا} أي: سهلا، أي: تجري السفن في الماء جريا سهلا. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ، أي: هينا. ثم المقسمات أمرا هم الملائكة، واختلفوا في التقسيم: قَالَ بَعْضُهُمْ: أربعة أملاك يقسمون الأمور؛ فجبريل - عليه السلام - ينزل في إنزال العذاب والشدائد، وميكائيل ينزل في إنزال النعمة والرخاء والرحمة، وإسرافيل في نفخ الصور، وملك الموت في قبض الأرواح؛ فكل واحد من هَؤُلَاءِ موكل في أمر على حدة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هم الملائكة الذين ينزلون بالوحي، يأخذ هذا من هذا؛ إذ للّه تعالى أن يرسل الوحي على يدي من يشاء من ملائكته، واللّه أعلم. ثم اختلف في ذكر هذه الأشياء من الرياح والسفن، والسحاب والملائكة، لماذا؟ قال عامة أهل التأويل: إنما ذكرها على القسم بها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما ذكرها على سبيل تعداد النعم والمنافع التي جعلها اللّه لهم. واحتج هَؤُلَاءِ وقالوا: إن اللّه تعالى نهانا عن القسم بغيره، فكيف يقسم بغيره فيكون ذكر هذه الأشياء على الامتنان، لا على القسم. والقائلون بالقسم اختلفوا: فمنهم من يقول: القسم بأعيان هذه الأشياء؛ لعظم منافع هذه الأشياء عند الخلق. ومنهم من يقول: إن القسم باللّه تعالى لا بعين هذه الأشياء؛ على الإضمار؛ كأنه قال: والذي ذرا الذاريات ذروا، والذي خلق الحاملات وقرا، فالجاريات يسرا، والمقسمات أمرا، وهو كقوله تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}؛ فيكون القسم بخالق هذه الأشياء لا بأنفسها، وكل واحد من الوجهين محتمل؛ لأن القسم خرج لرفع شبهة الكفرة في البعث وارتيابهم فيه بعدما أقام عليهم حجج البعث وبراهينه على أنه كائن لا محالة، ونظروا فيها لزوال ذلك الارتياب والشبهة عنهم، والقسم؛ لتأكيد ما وقع عليه بما يكون عندهم له حرمة وقدر وعظمة، قيد لهم ذلك على تأكيد الخبر المقرون بالقسم، فالقسم من اللّه تعالى بأنه خالق هذه الأشياء المذكورة مما يجل ويعظم عند الكفرة؛ لما كانوا يقسمون باللّه تعالى عند عظم الأمور، كما أخبر تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللّه جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}، فيصلح لتأكيد ما وقع عليه القسم، وكذلك القسم بهذه الأشياء يصلح مؤكدا لعظم خطر هذه الأشياء عندهم؛ لما تجل منافع هذه الأشياء، والعرف في الناس أنهم إنما يقسمون بالذي عظم خطره، وجل قدره عندهم؛ فأقسم اللّه تعالى بهذه الأشياء؛ لما عرف عظم خطرها وجليل قدرها عندهم، فمنافع الرياح مما يكثر عدها: قد أهلك بها أقواما، وبها استأصلهم، وبها تلقح الأشجار المثمرة وغيرها، وبها يساق السحاب في الآفاق للإمطار، وبها تجري السفن في البحار، وغيرها من المنافع، وبها سبب حياة الحيوانات بالتنفس، ودخول الريح فيهم، ونحوها في تذرية الطعام بحيث لولاها لتحرج الناس في التذرية. وفيها آيات؛ فإن الريح جسم لطيف يرى ولا يدرك؛ ليعلم أن الرؤية لا توجب الإحاطة والإدراك، وغير ذلك من جهة الآيات؛ على ما تقدم. وكذلك أقسم بالحاملات وقرا، وهي السحاب الذي فيه منافع الخلق من حمل الأمطار، والتظليل في الحر، ونحو ذلك مع ما فيه من الآيات؛ إذ هو يمسكه في الهواء حيث لا يقع بسوق الرياح مع ما فيه من الحمل والوقر، ثم يرسل المطر حيث أمر؛ إذ قد يوجد السحاب ولا مطر؛ دل أنه لم يرسل بنفسه، بل بالأمر يرفع ويمسك ويرسل، وهو في نفسه مُسَخَّر لا بد له من مُسَخِّر؛ إذ لو كان عمله بالطبع لم يختلف باختلاف الأحوال. وفيه آيات البعث؛ إذ خلق مثله لا يكون إلا لعاقبة، وكذلك أقسم بالجاريات يسرا، وهي السفن؛ لما فيها من منافع الخلق؛ إذ لولاها لانقطع بعض المنافع عن الخلق؛ إذ ما يحتاج المرء من المنافع لا يوجد في مكان واحد؛ بل خلقها متفرقة في أماكن، فطريق تحصيل هذه المنافع والحوائج شيئان: الحمل على ظهور الدواب في البر، وفي السفن في البحار، مع ما فيها من الآية العظيمة بما جعلها بحيث لا تتسفل في الماء مع ثقل الأحمال بل تجري بها الريح حيثما شاءوا بأمر اللّه تعالى. والملائكة منافعهم عظيمة ظاهرة، وعظم قدرهم وجلالة خطرهم واضح. وإذا كان كذلك، فكان القسم بهذه الأشياء؛ لتأكيد الخبر المقسم عليه مما يعقل، وهو متعارف، ولا معنى لقول أُولَئِكَ: إنه نهى عباده عن القسم بغيره، فكيف يقسم بنفسه؛ إذ يجوز أن يقسم هو بشيء ينهانا عن القسم به؛ إذ القسم بالشيء تبجيل لتلك الأشياء وتعظيمها، وأنها لا تستحق التعظيم بأنفسها، بل باللّه تعالى، فأمرنا بالقسم باللّه تعالى؛ إذ هو المستحق للتعظيم بنفسه في الحقيقة؛ إذ هو خالق الأشياء كلها، فأما القسم من اللّه تعالى بشيء ليس لتعظيم ذلك في نفسه، بل بيان منه قدر منافعه التي للخلق فيه، والتي عظمت، وجلت عندهم؛ فيكون لذكرها خطر عندهم، واللّه أعلم. ثم ذكر أفعال هذه الأشياء التي أقسم بها، ولم يذكر أنفسها، والقسم إنما يكون بالأنفس، لا بالأفعال، فأما إن عرف أُولَئِكَ الكفرة أنفس هذه الأشياء بذكر أفعالها وقت قرع ذكر هذه الأفعال سمعهم، وإذا لم يعرفوا يسألون عنها، وما أريد بها، واللّه أعلم. ٥-٦وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (٦) هذا موضع القسم، والصدق إنما يستعمل في الخبر، فكأنه قال: إن ما أخبركم الرسول بالبعث، أو وعدكم به، لصادق في خبره ووعده؛ إذ الوعد في الجملة مما قد يكون صدقا أو كذبا، فأكد هذا الوعد من الرسول بالقسم: إنه لصادق فيما وعد من البعث وغيره، وكذلك قوله تعالى: {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} موضع القسم: أن الجزاء لواقع كائن. وقيل: إن المراد من الدِّين الحساب، أي: إن الحساب لكائن لا محالة، واللّه أعلم. ٧-٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) أقسم - أيضا - بالسماء ذات الحبك، وموضع القسم: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ}. ثم اختلف في تأويل قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ}: روي عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنهما -: {ذَاتِ الْحُبُكِ} قال: حسنها واستواؤها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذات حبك، أي: ذات بنيان متقن محكم. وكلا التأويلين يرجعان إلى واحد؛ فإن حسن خلق السماء بالإتقان والإحكام؛ يقال للحائك إذا أحسن النسج وأحكمه: حبك الثوب. وقال الحسن: حبكت بالنجوم، وحبكت بحسن الخلق. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذات الشدة والاستواء، يقال: حبكت الحبل؛ إذا شددت قتله، كذلك قاله أبو عبيدة. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: {ذَاتِ الْحُبُكِ}: ذات الطرائق، وكذلك قال أَبُو عَوْسَجَةَ. ثم هو على ما ذكرنا من الوجهين: أن القسم بعين السماء، أو رب السماء، واللّه أعلم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} يخرج على وجوه: أحدها: إنكم لفي قول مختلف في رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وفي القرآن، ما لو كان ذلك القول منكم عن علم ومعرفة؛ لم يخرج مختلفا متناقضا؛ لأنهم قالوا في رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: إنه مجنون، وإنه ساحر، وإنه شاعر، وإنه مفترٍ؛ وهذا مختلف متناقض؛ لأن الساحر هو الذي يبلغ في معرفة الأشياء غايتها، وكذا الشاعر، ولا يحتمل أن يبلغ المجنون ذلك المبلغ بحال؛ فيكون نسبتهم إياه إلى هذه الجملة في حال واحدة يخرج على التناقض، وكذلك قولهم في القرآن: إنه أحاديث الأولين، وإنه مفترى، والافتراء خلاف الأساطير، مع أنهم عجزوا عن إتيان مثله؛ فيكون هذا تناقضًا في القول؛ فدل اختلافهم في القول فيهما على أنهم قالوا ذلك عن جهل، لا عن علم؛ إذ لو كان عن علم بذلك، لكان لا يختلف ولا يتناقض، وهذا الخطاب على هذا التأويل يكون للكفرة. والثاني: إنما قال ذلك في الدلالة على البعث: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} أي: في عقولكم الاختلاف والافتراق بين المصلح والمفسد، والمحسن والمسيء، وقد عرفتم الاستواء بينهما في هذه الدنيا، دل أن هنالك دارا أخرى فيها يفرق بينهما ويميز. وهذا التأويل لا يختص به الكافر؛ بل يعم الكل، واللّه أعلم. والثالث: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ}، أي: قول متفرق، ومذهب متناقض؛ فإنهم كانوا يعبدون أشياء على هواهم، فإذا هووا شيئا آخر تركوا ذلك وعبدوا غيره، وكذلك يقولون قولا بلا حجة، ثم يرجعون إلى قول آخر، لا ثبات لهم على شيء، وهو كقوله تعالى؛ {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ}. والرابع: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ}، أي: في أمر الآخرة؛ لأن منهم من يدعي أن الآخرة لهم لو كانت، ومنهم من يدعي الشركة مع المسلمين، فرد اللّه تعالى عليهم بقوله: {يُؤفَكُ عَنهُ مَنْ أُفِكَ}، وهو كقوله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ. مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}، وقال: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}. والخامس: يحتمل أن مواعيدهم ومنازلهم مختلفة في الآخرة، واللّه أعلم. وذكر بعض أهل التأويل: أن الناس يأتون مكة من البلدان المختلفة؛ ليتفحصوا عن أخبار رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ويسمعوا كلامه، فكان كفار مكة يصدونهم عنه، ويقول بعضهم: إنه مجنون، وبعضهم: إنه كذاب، وبعضهم: شاعر، وذلك قوله تعالى: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ}. ٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩) يحتمل وجوها: أحدها: أي: يصرف عن الحق من صرف عن النظر والتفكر في العاقبة. والثاني: صرفوا عما رجوا في الآخرة، صرفوا عن الحق في الدنيا؛ لأنهم كانوا يعبدون الأصنام رجاء أن تقربهم عبادتها إلى اللّه تعالى وأنها شفعاؤهم عند اللّه تعالى، يقول تعالى: صرف عما رجا في الآخرة؛ لما صرف عن الحق في الدنيا، واللّه أعلم. والثالث: يصرف من طمع في الآخرة الشركة مع المسلمين، أو ادعى الخلوص بما صرف في الدنيا عن الإيمان الذي به ينال الآخرة. والرابع: {يُؤفَكُ عَنهُ} أي: عن الحق {مَنْ أُفِكَ}، أي: صرف عن الحق من صرف؛ كقوله تعالى: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللّه قُلُوبَهُمْ. . .} الآية، وقوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللّه قُلُوبَهُم}. ١٠وقوله تعالى: (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) قال أبو بكر الأصم: الخراص: الذي يكذب على العَمْدِ. ولكن عندنا: الخراص: الذي يكذب، ويقطع على الظن، ومنه يقال للذي يقدم الشيء ويفرقه بالظن: خراص؛ فعلى ذلك يحتمل قوله: {الْخَرَّاصُونَ}. ثم قوله: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} يحتمل حقيقة القتل، وذلك يرجع إلى قوم خاص قتلوا. والثاني: {قُتِلَ}، أي: لعن، واللعن: هو الطرد؛ أي: طردوا عن رحمة اللّه، وإنما سمي اللعن: قتلا؛ لأن القتل سبب التبعيد عن منافع الحياة، وبالقتل خرج من أن يكون منتفعا به، واللعن هو الطرد عن رحمة اللّه التي بها تقع وتتحقق المنافع في الآخرة، واللّه أعلم. وقال أهل التأويل: الخراصون: الكاذبون، وكذا قال أهل الأدب. ١١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (١١) اختلف في تأويله: قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: في غفلة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: في غطاء وغشاء، كقوله: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً}. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا}، أي: في غطاء وغلف. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: في عماية عن أمر الآخرة. ولكن الكل يرجع إلى معنى واحد. وقوله: {سَاهُونَ}، أي: ساهون عن الحق وعما دعوا إليه. وقيل: {سَاهُونَ}، أي: غافلون. وقيل: أي: لاهون عن التوحيد والإيمان. وقيل: {سَاهُونَ}، أي: تاركون الإيمان. وأصل السهو هو الترك، وهو كقوله: {نَسُوا اللّه فَنَسِيَهُمْ}، أي: تركوا، واللّه أعلم. ١٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢). كانوا يسألون عن يوم القيامة سؤال استهزاء وعناد، لا سؤال استرشاد؛ لذلك قال اللّه تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} ولو كان سؤالهم سؤال استرشاد، لكان لا يأتيهم ذلك الوعيد؛ ألا ترى أن جبريل - عليه السلام - أتى رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وسأله عن الإيمان والإسلام في حديث طويل، وسأله عن الساعة فلم يأته الوعيد؛ فلا ذم في سؤاله ذلك؛ لأن سؤاله سؤال استرشاد، وقوم موسى - عليه السلام - لما سألوا رؤية الرب تعالى بقولهم: {أَرِنَا اللّه جَهْرَةً} فأهلكوا؛ لأنهم سألوا سؤال استهزاء وتعنت، لا سؤال استرشاد، وأصحاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سألوا - أيضا - الرؤية، فبشروا ووعدوا في الآخرة؛ لما أنهم سألوا سؤال استرشاد، لا سؤال استهزاء، فعلى ذلك أُولَئِكَ الكفرة سألوا عن القيامة سؤال استهزاء متى تكون الساعة التي تعدنا بها؟ وأين وقت العذاب الذي تعدنا به؟ لذلك قال جوابا لهم: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ}، واللّه أعلم. وفي الآية دلالة على أن الحكم لا يبنى على ظاهر المخرج؛ فإنه لا فرق بين سؤال الكفرة رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن السماعة وبين سؤال جبريل - عليه السلام - عن الساعة، ثم أجاب لجبريل - عليه السلام -: " ما المسئول عنها بأعلم من السائل " ثم الجواب للكفرة: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ}، ثم من شهد النوازل علم المراد من النازلتين: أن أحد السؤالين خرج على الاستهزاء، والآخر على الاسترشاد؛ فحملوا أحد الجوابين على إحدى الحالتين، والآخر على الحال الأخرى؛ دل أن الحكم لا يبنى على ظاهر المخرج، ولكن يجب النظر؛ ليعرف المرادة إما بسؤال من شهد النازلة، أو من حيث المعنى المودع فيه، واللّه أعلم. ١٣ثم قوله: (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) يخبرهم عن اليوم الذي يفتنون فيه، وقيل فيه بوجهين: أحدهما: {يُفْتَنُونَ}، أي: يبتلون، ويمتحنون بالشدة والعذاب، والفتنة: هي المحنة التي فيها الشدة والبلاء، فسمي العذاب: فتنة؛ لما فيه من الشدة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يفتنون، أي: يحرقون. ١٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ ... (١٤) أي: ذوقوا العذاب الذي فيه الشدة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ}، أي: تستعجلون في الدنيا، وتزعمون أنه لا يكون في الآخرة. ١٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}، والإشكال: كيف ذكر أن المتقين في جنات وعيون، وهم يكونون في جنات، ويكونون في العيون بحيث يرونها، وتقع عليها أبصارهم، وينتفعون بها؟ وهو كقوله تعالى: {يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ}، وإنما هم يلبسون السندس، فأما الإستبرق فهو البسط، وغير ذلك من الانتفاع به؛ فعلى ذلك ما ذكر من كون المتقين في جنات وعيون، يكونون في الجنة، وينتفعون بالعيون، واللّه أعلم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ}، أي: الذين اتقوا الشرك والكفر. ويحتمل: الذين اتقوا مخالفة اللّه على الإطلاق: عملا، وقولا، وفعلا، واعتقادا. ويحتمل: أي: الذين اتقوا المهالك. ١٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) يحتمل وجهين: أحدهما: أي: قابلين ما آتاهم ربهم في الدنيا من القدرة والقوة والمال بحق اللّه تعالى، والقيام بشكره، والعبادة له، والاستعمال في طاعته؛ لذلك قال: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} أي: قبلوا ذلك بحق الإحسان، فاستعملوها في حق اللّه تعالى والقيام بطاعته. وعلى هذا التأويل كأنه على التقديم والتأخير: إن المتقين في جنات وعيون؛ إنهم كانوا قبل ذلك محسنين، آخذين ما آتاهم ربهم، أي: إنما نالوا الجنة؛ لما أنهم كانوا في الدنيا كذلك. والثاني: ما قاله أهل التأويل: آخذين ما آتاهم ربهم في الآخرة، أي: راضين بما أعطاهم اللّه من النعيم في الجنة، وهو كقوله تعالى: {رَضِيَ اللّه عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}، وعلى هذا يخرج تأويلهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} في الدنيا. ١٧ثم نعت إحسانهم فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨). قال أهل التأويل جميعا: أي: يصلون. وإنَّمَا حملوه عليها؛ لأن الاستغفار طلب المغفرة، وذلك مرة بالصلاة، ومرة باللسان، ومرة بدفع المال. ويحتمل حقيقة الاستغفار أيضا، وإنما مدحهم بذلك؛ لأن أرجى وقت الاستغفار وقت السحر؛ لما روي عن ابن عمر - رضي اللّه عنهما - أنه قال لنافع: " إذا كان وقت السحر فأعلمني به ". فكان هو يصلي إلى وقت السحر، ثم يدعو ويستغفر في ذلك الوقت. ١٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩) قَالَ بَعْضُهُمْ: إن الآية في الزكاة، لكن هذا لا يحتمل؛ لأن السورة مكية، ولم يكن بمكة الصدقة المفروضة؛ إلا أن يقال: إن السورة مكية إلا هذه الآيات إن ثبت. وجائز أن يكون ذلك الحق ليس هو المفروض، ولكن حق سوى الفرض. وقيل: إن الآية نزلت في قوم خاص جعلوا على أنفسهم ألا يردوا سائلا ولا محرومًا ولا يمنعوا أموالهم من أحد؛ فمدحهم بذلك؛ ألا ترى أن ذكر الحق للسائل والمحروم؛ وقد بين مصارف الزكاة للأصناف الثمانية بقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ. . .} إلى قوله تعالى: {فَرِيضَةً مِنَ اللّه}. ثم اختلف في تأويل المحروم والسائل: قال عامة أهل التأويل: المحروم: هو الذي لا سهم له في الغنيمة والفيء بألا يحضر وقت قسمة الغنيمة؛ فلا ينال شيئًا منها ويحرم عن ذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: المحروم: الذي هلك زرعه وكرمه ببلاء أصابه، يحرم عن ذلك، كما وصفهم في سورة الواقعة: {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ. بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ}، فلما حرموا زرعهم وصفوا بذلك. وقيل: المحروم: الذي لا يعلم حرفة، وهو لا يملك كسبا، وهو محارف أيضا. وقيل: المحروم: المتعفف الذي به فقر، لكنه لا يسأل الناس شيئا، والسائل: الطوَّاف. وعندنا: الفقراء ثلاثة: السائل الذي يطوف، ويسأل الناس. والمعتر: الذي يعتر الناس، ويظهر حاجته للناس، ويتعرض للسؤال، ولا يسأل صريحا. والمحروم: هو الذي يستر فقره وحاجته عن الناس، لا يسألهم، ولا يعتر لذلك. ثم جائز أن يكون سماه: محروما، أي: حرم المكاسب وأسباب العيش من التجارة والحرفة وغيرهما. وجائز أن تكون له المكاسب والأسباب، لكنه محروم عن إنزال المكاسب والأرباح في التجارة، يكتسب، ويعمل بتلك الأسباب، لكنه محارف، لا يرزق منها شيء، واللّه أعلم. ٢٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: أي: في الأرض آيات ينتفع بها الموقنون، وهم المؤمنون الذين علموا الآيات بطريق الإيقان. ويحتمل: في الأرض آيات يعلم الموقنون حقيقة أنها آيات، فأما غيرهم فلا، واللّه أعلم. ثم يحتمل آيات الأرض: آيات التوحيد، وآيات البعث، وآيات القدرة، وغير ذلك؛ على ما ذكرنا: أنه خلق على وجه الأرض من الدواب، والأشجار، ومن النبات، وأنواع الثمار من غير أن عرف الخلق كيفية وجودها وماهيتها، وأنه لم يخلق مثلها للفناء خاصة؛ فتكون آيات؛ لما ذكرنا. وقيل: أي: في خلق الأرض آيات، وهو أن خلقها، وكانت تميد بأهلها، ثم أرساها بالجبال؛ حتى استقرت، واللّه أعلم. ٢١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (٢١). صلة قوله: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} أي: وفي أنفسكم - أيضًا - آيات {أَفَلَا تُبْصِرُونَ} أي: آيات الوحدانية والربوبية وآيات البعث وآية وجوب الشكر والعبادة والامتحان. أما آيات الربوبية، فهي أن اللّه تعالى أنشأ هذا البشر من نطفة، ثم قلب تلك النطفة علقة، ثم العلقة مضغة ثم المضغة عظاما ولحما، ثم ركب فيها الجوارح في ظلمات ثلاث، ما رأى المصالح له في الاستواء والصحة، سليمة عن الآفات، غير متفاوتة، فدل أنه فعل واحد، لا عدد، وأن له القدرة الذاتية والعلم الذاتي لا المستفاد، وأن ما قلبهم من حال إلى حال، وما ركب فيهم من الجوارح التي بها يقبضون، وبها يأخذون، وبها يدفعون ويسلمون، وبها يبصرون ويسمعون، وبها يمشون، لم يفعل بهم؛ ليتركهم سدى ويهملهم ولا يمتحنهم، ولا يأمرهم، ولا ينهاهم، وأنه حيث سخر جميع الخلائق من السماء والأرض وما بينهما ما سخر إلا ليمتحنهم، وليستأدي منهم شكر ذلك كله. وفيه آية البعث؛ لأنه لا يحتمل أن يكون منهم ما ذكرنا ثم لا يبعثهم؛ ليثاب المحسن منهم ويعاقب المسيء، ويجازي كلا بقدر عمله؛ إذ لو لم يكن، لكان خلقه إياهم عبثا باطلا؛ على ما ذكرنا في غير موضع. وقيل: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ} أي: في خلق أنفسكم، {أَفَلَا تُبْصِرُونَ} أنه كيف سوى أنفسكم على أحسن الصور، وأحسن التقويم بعد أن كان أصلها وجوهرها من ماء، وكذلك أصل جواهر الأنعام والبهائم من نطفة أيضًا، ثم ركبكم على صور صالحة لمنافعكم، وركبكم على أحسن الصور، ثم جعل فيكم من العقل والسمع والبصر ما يدرك بها حقائق الأشياء المحسوسة والمعاني الحكيمة؛ لتتأملوا في ذلك كله؛ فتكون آية الوحدانية آية إلزام الشكر والعبادة له، واللّه الموفق. ٢٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (٢٢). قال أبو بكر الأصم: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} أي: في السماء رزقكم وما توعدون من الخير والشر. وقال الحسن وغيره: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} أي: المطر الذي ينزل منها في الأرض، فنبت فيها بذلك المطر من أنواع الأرزاق من الحبوب، والثمار، والفواكه، وغيرها؛ كل ذلك سببه من السماء؛ لذلك أضيف إليها، واللّه أعلم. وجائِز أن يكون ما ذكر من أرزاقنا أنها في السماء: المطر وجميع ما سخر لنا فيها من الشمس والقمر والملائكة؛ حيث جعل صلاح ما في الأرض جميعًا من الأرزاق والأغذية بتلك الأشياء التي في السماء من الإنضاج بالشمس والقمر، وحفظ الأرزاق والأمطار بالملائكة؛ فإنهم جعلوا موكلين ممتحنين بذلك؛ حيث قال - تعالى -: {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا}، هي الملائكة، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا تُوعَدُونَ} كل موعود: مرغوب أو مرهوب من السماء، واللّه أعلم. ٢٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣). يحتمل قوله: {إِنَّهُ لَحَقٌّ} أي: الساعة والقيامة. ويحتمل {إِنَّهُ لَحَقٌّ} أي: جميع ما جاء به مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ}. يحتمل أن يقوله - واللّه أعلم -: كما أنكم لا تشكون فيما تنطقون؛ فعلى ذلك لا تشكون في أمر الساعة وقيامها وكونها؛ كما يقال: هذا ظاهر بين كالنهار. وقال الزجاج: {إِنَّهُ لَحَقٌّ}، أي: لحق مثل حضوركم ونطقكم ومثل النهار، أو كلام نحوه. ويحتمل أن يقول: إن من قدر على إنطاق هذه الألسن وتكليمها حتى يفهم منها حاجتهم، وهي قطعة، وليس فيها شيء من آثار النطق والكلام؛ إذ يكون مثله للبهائم ثم لا يفهم منه ذلك، ولا يكون منه النطق - قدر على البعث والإعادة؛ إذ هذا في الأعجوبة أكثر وأعظم من ذاك، واللّه الموفق. ٢٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ}. قد ذكرنا فيما تقدم في غير موضع: أن حرف الاستفهام من اللّه تعالى على الإيجاب والإلزام. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {هَلْ أَتَاكَ}، يخرج على وجهين: أحدهما: أي: قد آتاك حديث ضيف إبراهيم، فحاج به أُولَئِكَ، وخاصمهم. والثاني: لم يأتك بعد، ولكن سيأتيك حديث ضيف إبراهيم، فإذا أتاك به فحاج على أُولَئِكَ الكفرة به، واللّه أعلم. ثم قوله: {حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} دل على أن اسم الضيف يقع على من يطعم ويتناول، وعلى من لا يطعم ولا يتناول؛ لأنه سمى الملائكة: ضيف إبراهيم، وإن لم يطعموا، ولم يكن غذاؤهم الطعام. وفيه أن الضيف اسم يقع على العدد والجماعة. وقوله: {الْمُكْرَمِينَ} سماهم: مكرمين؛ لأن إبراهيم - عليه السلام - كان يخدمهم ويقوم بين أيديهم؛ وذلك هو الإكرام الذي صاروا به مكرمين. ويحتمل أن سماهم: مكرمين؛ لأنهم كانوا أهل كرم وشرف عند اللّه تعالى، واللّه أعلم. ٢٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥). وقال في آية أخرى {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ}. ذكر هاهنا سلام الملائكة - عليهم السلام - ولم يذكر سلام إبراهيم صلوات اللّه عليه إنما ذكر وجله منهم، وذكر في الأول سلام الملائكة عليهم السلام وسلام إبراهيم - عليه السلام - وذكر أنهم قوم منكرون، وقال في آية أخرى: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} قَالَ بَعْضُهُمْ: إنما أوجس منهم الخيفة؛ لما خشي أن يكونوا سراقا لأنه كان بين إبراهيم - عليه السلام - وبين الذي انتابوا منه بصرف بعيد ما يحتاج المنتاب إلى طعام، فإذا امتنعوا عنه خاف أن يكونوا سراقا؛ إذ لا يمتنع عن التناول إلا السراق. لكن هذا ليس بشيء؛ لأنه قد كان منهم السلام، والسلام أحد علامات الأمان لكن يكون خوفه بعدما عرف أنهم ملائكة؛ لما علم أن الملائكة - عليهم السلام - لا ينزلون إلا لأمر عظيم لإهلاك قوم أو لتعذيب أمة، كقوله تعالى: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ}، وقوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ}، هذا يحتمل، واللّه أعلم. ثم قوله: {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} جائز أن يكون هذا إخبارًا من اللّه تعالى أنهم قوم منكرون؛ أي: غير معروفين عندنا، لم نعرفهم، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم. ٢٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦). قيل: راغ: مال. لكن قوله: {فَرَاغَ} أي: مال إلى أهله على خفاء من أضيافه وسر منهم؛ ولذلك سمي الطريق المختفي: رائغًا، وهو من روغان الثعلب. وقيل: زائغًا بالزاي. وقيل: راغ، أي: رجع. وذكر مُحَمَّد في بعض كتبه: " في زائغة مستطيلة "، وقيل: رائغة، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ}، وقال في موضع آخر {جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ}، والحنيذ: هو المشوي. وقيل: هو الذي يشوى في الأرض بغير تنور، واللّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحنيذ: الذي أنضج بالحجارة. وقيل الحنيذ: هو الصغير الذي كان غذاؤه اللبن لا غير، واللّه أعلم. وما ذكر أهل التأويل في قصة إبراهيم - عليه السلام - " أنه لما قرب إليهم العجل قالوا: لا نأكله إلا بثمن، قال: قللوه وأدوا، قالوا: وما ثمنه؟ قال: تسمون اللّه - تعالى جل وعلا - إذا أكلتم، وتحمدونه إذا تركتم، قال: فنظر بعضهم إلى بعض، وقالوا: لهذا اتخذك اللّه خليلا "، وغير ذلك من الكلام فنحن لا نذكر إلا قدر ما ذكره في الكتاب؛ مخافة أن ندخل الزيادة والنقصان عما في كتبهم ويجد أهل الإلحاد في ذلك مقالا، وهذه الأنباء إنما ذكرت حجة لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في إثبات الرسالة، فإذا قيل في ذلك ما يخاف أن يكون في ذلك زيادة أو نقصان عما في كتبهم، كان الإمساك والكف عنه أولى. ٢٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ... (٢٨) لما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قَالُوا لَا تَخَفْ} لا لذلك أرسلنا، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} يحتمل قوله: {عَلِيمٍ} وجهين: أحدهما: أي: بشروه بغلام يصير عليما إذا كبر. والثاني: بشروه بغلام يولد عليما، يؤتيه اللّه تعالى علما في بطن أمه، وإذا ولد في صغره، وللّه أن يؤتي العلم من يشاء في حال الصغر والكبر؛ ألا ترى أنه قال - عَزَّ وَجَلَّ - في عيسى - عليه السلام -: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}، فعلى ذلك يحتمل هذا واللّه أعلم. ثم ذلك الغلام هو إسحاق - عليه السلام - لأنه بين في آية أخرى فيمن كانت البشارة؛ حيث قال: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ}؛ دل أن البشارة إنما كانت بإسحاق. ثم ذكر في سورة هود - عليه السلام - البشارة لامرأته، حيث قال: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ}، وذكر في هذه السورة البشارة لإبراهيم - عليه السلام - بقوله {وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ}، لكن جائز أنه لما بشرها بالولد، بشرها بالولد منه، فإذا بشر إبراهيم - عليه السلام - بالولد منها، وإذا بشر أحدهما بالولد من الآخر؛ فتكون البشارة لهم جميعًا، واللّه أعلم. قال أبو بكر الأصم: دل قوله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ. . .}، إلى أن قال: {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا}: أن إسحاق أكبر من إسماعيل؛ لأنها لما بشرت بالولد أخبر أنها عجوز، وأنها عقيم وأن بعلها شيخ ولو كان إسماعيل هو الأول، وكان الآخر على قرب منه ليس بينهما زمان مديد، لم يكن يبلغ إبراهيم - عليه السلام - في ذلك المقدار من الوقت ما يخبر عن إياس الولد منه؛ دل أن إسحاق هو المقدم، وأنه كان أكبر من إسماعيل - عليه السلام -. إلا أن هذا خلاف ما عليه أهل التأويل: أن إسماعيل - عليه السلام - كان أكبر من إسحاق عليه السلام. ٢٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩). ذكر هاهنا الإقبال، وقال في آية أخرى في سورة هود: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ}، فجائز ألا يكون على حقيقة الإقبال، ولكن لما ذكر فعلها -وهي الصرة، وصك الوجه- ذكر الإقبال، غير أن كان منها الإقبال من المكان أي: أقبلت فصكت وجهها في صرة؛ كما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ}، أمر بالرؤية والنظر إلى الفعل الذي ذكر، وهو مد الظل، وإذا ذكر النفس دون الفعل، فالمراد منه النظر إلى نفسه لا غير، واللّه أعلم؛ فعلى ذلك هذا. ثم قوله - تعالى -: {فِي صَرَّةٍ} أي: في ضجة. وقوله: {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا}، أي: ضربت وجهها بيدها؛ تعجبا منها بتلك البشارة التي بشرت بالولادة. وقوله: {وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ}، وكانت كما أخبرت عجوزا عقيما. ٣٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ ... (٣٠) أي: على علم بالحال التي أنت عليها، بشرت بذلك، لا عن جهلٍ. وقوله: {إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ}، أي: حكيم، واضع الولد في موضعه، العليم بمصالح الأمور وعواقبها، واللّه أعلم. ٣١وقوله: (قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) أي: ما شأنكم؟ ولأي أمر أرسلتم: بالبشارة خاصة، أو لأمر آخر، أو لهما جميعًا؟ فأجابوا: ٣٢(قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) وقال في آية أخرى: (إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ)، كأن الاستثناء هاهنا لم يكن مذكورا في خبر الملائكة وإنَّمَا ذكر في الخبر الذي قال إبراهيم - عليه السلام - حيث قال: {إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ}؛ فدل ذكر الثنيا منهم بعد سؤال إبراهيم - عليه السلام - وإخباره إياهم: أن فيها لوطا: أن تأخير البيان عن الكلام جائز، واللّه أعلم. ٣٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) دل قوله تعالى: {حِجَارَةً مِنْ طِينٍ} على أن ما ذكر في آية أخرى: {حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} أن السجيل ليس هو اسم المكان على ما ذكر بعض أهل التأويل، ولكن السجيل اسم الطين؛ على ما ذكره هاهنا، وهو طين مطبوخ كالآجر؛ إلا أن يقال: هو طين حمل من مكان يسمى: سجيلا، واللّه أعلم. ٣٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُسَوَّمَةً ... (٣٤) أي: معلمة {عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ}. ثم الإعلام يحتمل وجهين: أحدهما: معلمة: مسومة باسم من تقع عليه ويهلك بها، أي: مكتوب عليها اسمه. والثاني: معلمة في نفسها حتى يعلم كل أحد: أنها للّهلاك جاءت، وأنها أرسلت لذلك مخالفة لسائر الأحجار، واللّه أعلم. ٣٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦). قوله: {فِيهَا} كناية عن قرية لوط. وقوله: {غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} هو منزل لوط - عليه السلام - دل تسمية الملائكة - عليهم السلام - إياهم: مؤمنين، ومسلمين على أن الإسلام والإيمان واحد، وقد بينا جهة الاتحاد في غير موضع. ٣٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً ... (٣٧) أي: تركنا في قريات لوط - عليه السلام - التي أهلكتها آية وعبرة لمن بعدهم، وهو ما ذكر في آية أخرى: (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)، أي: إنكم لتمرون على أُولَئِكَ الذين أهلكوا أو عذبوا بالليل والنهار، تعلمون أنهم بم أهلكوا؟ وبم عذبوا؟ بالتكذيب والعناد، والذين نجوا إنما نجوا بالتصديق والإسلام، وذلك آية لمن بعدهم. ثم قال: {لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} أي: يكون ذلك آية للذين يخافون العذاب الأليم، وهم المؤمنون، أي: هم المنتفعون بها، واللّه أعلم. ٣٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}. فيما ذكر من قصة موسى، ولوط، وقصة إبراهيم، وقصة هود، وثمود، وهذه الأشياء تفسير لقوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ}، ثم الآيات في الأرض من وجهين: أحدهما: فيما خلق في الأرض من الخلائق. والثاني: فيما في الأرض من أنباء السلف وأخبارهم من مكذبي الرسل ومصدقيهم، أي: في هلاك من هلك من مكذبيهم، ونجاة من نجا من مصدقيهم آيات لمن ذكر، فهذه الأنباء والقصص التي ذكرت هاهنا تفسير لقوله: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ}. ٣٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ ... (٣٩) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: أي: فتولى هو وركنه، وهم جنوده وقومه عن اتباع موسى - عليه السلام - وما يدعوهم إليه. والثاني: فتولى هو بقوة ركنه، وهم قومه، أي: تولى عن الحق واتباع موسى - عليه السلام - بقوة قومه ومعونتهم، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ}. سماه: ساحرًا بما أتى من الآيات المعجزة، وقومه إنما يعرفون وصف السحر على هذا الوجه، فسماه بذلك وإن أيقن هو أن مثل ذلك الفعل لا يكون سحرًا؛ تمويها على قومه، وسماه مجنونًا؛ لما خاطر بنفسه بمخالفته، مع علمه أن همته القتل لمن خالفه في دينه وملكه. ٤٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠). وهذا يدل على أن تأويل قوله تعالى: {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} أي: تولى هو، وتولى قومه وجنوده. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ}. قَالَ بَعْضُهُمْ: {مُلِيمٌ}، أي: يلام عليه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {مُلِيمٌ}، أي: هو مذموم. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: هو مذنب. ثم دل قوله تعالى: {فَنَبَذْنَاهُمْ} على أن للّه تعالى في أفعال العباد صنعا؛ حيث أضاف ذلك إلى نفسه، وهم الذين دخلوا في اليم. ٤١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفِي عَادٍ ... إذ أرسلنا (٤١). أي: في أمر عاد بينة وآية وعبرة للمؤمنين؛ كقوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ}. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ}، أي أهلكوا بالريح، وقد بلغ من عتوهم أن قالوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً}، فأذلهم اللّه تعالى حتى خضعوا لأضعف شيء، وأخافهم منه، وهي الأصنام التي عبدوها، حتى خوفوه وقالوا: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ}، وذلك غاية الذل والهوان، أن خافوا من أضعف شيء وأعجزه، بعدما بلغ من عتوهم وتمودهم أن قالوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً}. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {الرِّيحَ الْعَقِيمَ}. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: تفسيرها ما ذكر في الآية: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ}. وقال غيره: العقيم هو الذي لا خير فيه ولا بركة؛ أي: عقمت عن الخيرات؛ ولذلك يقال للمرأة التي لا تلد، والرجل الذي لا يولد له: العقيم؛ لما أنه ليس منهما منفعة الولد ولا بركته؛ فعلى ذلك الريح العقيم، أي: لا منفعة فيها ولا بركة؛ فأما للمؤمنين، فهي نافعة - أيضًا - حيث أهلكت أعداءهم ولم تهلكهم، وفي ذلك تطهير الأرض عن نجاسة الكفر. وفي الخبر عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " نصرت بالصَّبا، وأهلكت عاد بالدبور ". وقيل: {الرِّيحَ الْعَقِيمَ}: هي الدبور، وهي التي لا تلقح الأشجار والسحاب والنبات. ٤٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢). أي: ما تذر من شيء أتت عليه، وأمرت هي بإهلاكه، وأذن لها بذلك، إلا جعلته كالرميم؛ ألا ترى أنها أتت على أشياء لم تهلكها، وقد سلم - عليه السلام - وقومه من المؤمنين، وإلى أنهم لما رأوها من بعد قالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا}، فقال هود - عليه السلام - {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}، وما ذكر {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ}، أخبر أنها قد أبقت مساكنهم، وهو ما ذكر في آية أخرى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا}، أي: تدمر كل شيء أمرت وأذن لها بالتدمير؛ ليعلم أنها كانت تعمل بالأمر، واللّه أعلم. ٤٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣). أي: وفي أمر ثمود وإهلاكهم أيضًا آية وحجة للمؤمنين. ثم ذكر عتوهم وتمردهم {إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ}، وهو الثلاثة أيام التي ذكرت في آية أخرى، فقال: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ}، يخبر أن كان قد بلغ عتوهم أن قد أجلوا ثلاثة أيام لنزول العذاب بهم، فلم يمنعهم ذلك عن عتوهم، ولم ينجع فيهم، وقومك يا مُحَمَّد؛ حيث لم نذكر لعذابهم وقتا ولا أجلا أحق ألا ينجع فيهم ما توعدهم به، ولا ينفعهم، واللّه أعلم. ٤٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ ... (٤٤). أي: عما أمروا بطاعة ربهم، والعتو: هو البلوغ في البأس والقساوة غايته؛ كقوله تعالى: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا}، أي: [يابسًا]. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ}. أي: إلى الصاعقة. ٤٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: أي: ما استطاعوا في الانتصار لعذاب اللّه والقيام له. والثاني: ما استطاعوا من دفع العذاب عن أنفسهم، لا بأنفسهم، ولا بغيرهم، {وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ} بالأنصار والأعوان، واللّه أعلم. ٤٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ ... (٤٦). أي: في أمر نوح - عليه السلام - من قبل هَؤُلَاءِ وإهلاكهم آية بينة وحجة للمؤمنين؛ على ما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} ظاهر. ٤٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ}. أي: خلقناها بقوة، {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} أي: لقادرون. وجائز أن يكون الموسع: الواجد؛ كقوله تعالى: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ}، أي: على الواجد الموسر قدره. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} في التدبير، تدبير جميع الخلق عليهم أرزاقهم. ٤٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (٤٨). أي: بسطناها ومهدناها {فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} لكم الأرض؛ حيث مهدها لكم مبسوطة مفترشة تجدونها كذلك ما كانوا وأينما كانوا، من غير تكلف، ويستعملونها كيف شاءوا في أي منفعة شاءوا، واللّه أعلم. ٤٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ... (٤٩). قَالَ بَعْضُهُمْ: صنفين من الحيوان؛ فإنه خلقهم ذكرًا وأنثي. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {زَوْجَيْنِ}، أي: لونين، نحو أبيض وأسود، وأحمر وأصفر. والأول قول الزجاج، والثاني قول الْقُتَبِيّ. وأصله: أنه يخرج على وجهين: أحدهما: {زَوْجَيْنِ}، أي: شكلين، فيعلمون ببعضه بعضًا، أو ضدين فيناقض بعضه بعضا، واللّه - سبحانه وتعالى - ليس بذي شكل، ولا ذي ضد؛ فيدل ما أنشأ من الأضداد والأشكال على وحدانيته وألوهيته. والثاني: خلق الأشياء مختلفين متضادين؛ ليدل على إيجاب المحن عليهم من نحو عسر ويسر، وغناء وحاجة، وخير وشر؛ ليمتحنهم على اختلاف الأحوال وتضادها؛ فيرغبهم في كل مرغوب، ويحذرهم عن كل مرهوب، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}. أي: تذكرون آيات وحدانيته وألوهيته. أو تذكرون -باختلاف الامتحان- البعث، والثواب، والعقاب، واللّه أعلم. ٥٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَفِرُّوا إِلَى اللّه إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) يحتمل وجوها: قَالَ بَعْضُهُمْ: ففروا إلى توحيد اللّه من الشرك به؛ دليله قوله على إثره: {وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللّه إِلَهًا آخَرَ} وهو قول أبي بكر الأصم. ويحتمل {فَفِرُّوا إِلَى اللّه} أي: ففروا إلى ما دعاكم اللّه تعالى إليه عما نهاكم عنه؛ كقوله سبحانه: {وَاللّه يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ}، أي: ففروا إلى الأعمال الصالحة من الأعمال القبيحة. ويحتمل: ففروا إلى ما وعد لكم من الثواب عما أوعد لكم من العقاب؛ أي: فروا إلى ثواب اللّه عن نقمته وعقابه. ويحتمل: ففروا إليه في جميع حوائجكم، ولا تطلبوا شيئًا من ذلك من غيره؛ فإنه هو القادر عليها حقيقة؛ فيكون في الآية ترغيب في الرجوع إليه في الحوائج، وقطع الطمع عن غيره، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} يحتمل وجوها: يحتمل: إني نذير لمن عبد دونه، أو سمى دونه إلها، {مُبِينٌ} آيات ألوهيته ووحدانيته. ويحتمل: إني لكم منه نذير مبين؛ لما يقع لكم به النذارة والبشارة. وقال أبو بكر الأصم: إني لكم منه نذير مبين بما نزل بمكذبي الرسل بتكذيبهم. ٥١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللّه إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥١). أي: لا تسموا مع ألوهية اللّه تعالى لأحد دون اللّه: ألوهية، ولا تسموا دون اللّه: إلها. أو يقول: لا تعبدوا دون اللّه إلها آخر؛ أي: معبودا آخر؛ فإنه لا يستحق دون اللّه أحد للعبادة، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} قد ذكرناه. ٥٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) لم يذكر في هذا الموضع القول منهم: إنهم قالوا للرسول: إنك ساحر أو مجنون، ولكن إن لم يكن مذكورا في ظاهره، لكن ما ذكر أن أوائلهم كانوا يقولون لرسلهم ذلك - دلالة أنهم قد قالوا: إنه ساحر، وإنه مجنون؛ حيث قال: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} يصبر رسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على أذاهم بنسبتهم إياه إلى السحر والجنون؛ كقوله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}، وغير ذلك من الآيات التي فيها الأمر بالصبر على أذاهم، واللّه أعلم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ}. قال أبو بكر الأصم: إنما قالوا: ساحر أو مجنون؛ لأن السحر والجنون عندهم واحد؛ كقول فرعون لموسى - عليه السلام - لما أتى به من الآيات: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا}؛ فلذلك قالوا مرة: ساحر، ومجنون مرة. ولكن هذا فاسد؛ فإنه لا يحتمل أن يكون الجنون والسحر عندهم واحدًا؛ لأن الساحر هو الذي بلغ في العلم في كل شيء غايته، والمجنون هو الذي بلغ في الجهل غايته، ونسبوهم إلى السحر؛ لما أتى لهم من الآيات ما عجز الناس عن إتيان مثلها، وقد عرفوا هم أنها آيات -أعني: رؤساءهم وأئمتهم- لكن قالوا: إنها سحر؛ على إرادة التلبيس على الأتباع والعامة؛ لما عند الناس أن لا كل أحد يقدر على إتيان السحر، فقالوا: إنهم سحرة للرسل لهذا؛ وإنما نسبوهم إلى الجنون لما أنهم خالفوا الفراعنة والأكابر الذين كانت همتهم القتل وإهلاك من خالفههم في المذهب والأمر، واللّه أعلم. ٥٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (٥٣). أي: أوصى أوائلهم أواخرهم في تسميتهم الرسل - عليهم السلام -: سحرة ومجانين؛ وأن يوافق بعضهم بعضا في نسبتهم الرسل إلى السحر والجنون، أي: لم يزل الكفرة يقولون لرسلهم ذلك. ويحتمل أن يكون ذلك على التمثيل، لا على حقيقة القول منهم؛ لما كان اجتماعهم لأجل هذا القول في كل وقت؛ فصار ذلك الاجتماع منهم كالتواصي من بعضهم لبعض، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}. يخبر أنهم لا عن جهل وشبهة قالوا: إنهم سحرة، ولكن عن طغيان، وتعدي [حد اللّه]- عَزَّ وَجَلَّ - والمجاوزة له؛ لأن الطاغي؛ هو المجاوز عن الحد الذي جعل له، والمتعدي عنه. ٥٤وقوله تعالى: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤). قال بعض أهل التأويل: لما نزل هذا خاف رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه - رضي اللّه عنهم - أنه ينزل بهم العذاب حتى نزل قوله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}. لكن عندنا يخرج قوله - تعالى -: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} على وجهين: أحدهما: أي: تولَّ عنهم، فأعرض ولا تكافئهم بإساءتهم إليك بقولهم: إنه ساحر، وإنه مجنون؛ فإن اللّه تعالى سيكفيهم عنك، ويجازيهم مجازاة إساءتهم. والثاني: يأمره بالإعراض والتولي عن قوم علم اللّه تعالى أنهم لا يؤمنون؛ يؤيسه عن - إيمانهم، ويقول: لا تشتغل بهم؛ فإنهم لا يؤمنون لك ولا يصدقونك، ولكن اشتغل بمن ترجو منه الإيمان، واللّه أعلم. وجائز أن يكون لا على حقيقة الأمر، ولكن على التخيير؛ أي: لك أن تتولى عنهم وتعرض؛ فإنك قد بلغت، وأعذرت في التبليغ والدعاء غايته، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ}. جائز أن يكون المراد من نفي الشيء إثبات مقابل ذلك الشيء وضده؛ كقوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ}، ذكر الربح، والمراد: إثبات الخسران؛ كأنه قال: فما ربحت تجارتهم؛ بل خسرت؛ فعلى ذلك جائز قوله: {فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} بل بمحمود، واللّه أعلم. وقال أبو بكر الأصم: {فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ}؛ لأنه قد بلغ الرسالة، وما أمر بتبليغه إلى الخلق، وقام بأمره ونصح خلقه، وخفض جناحه لهم، فكيف يلام؟! أي: ما أنت بالذي تلام على صنيعك وعلى فعلك، وإن كان بعض الناس يلومك، وهم الكفار. وفيه دلالة الحفظ والعصمة له عن الزيغ والزلات؛ إذ لو كان بالذي يحتمل الزيغ والزلة، لكان يحتمل الملامة؛ فدل أنه لا يحتمل الزيغ والعدول عن الحق. ٥٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥). جائز أن يكون الأمر بالتذكير للكل، ثم أخبر أن الذكرى تنفع المؤمنين، لا الكل. وجائز: فذكر المؤمنين؛ فإن منفعة الذكرى لهم، ولمن أنصف، دون المكابرين المعاندين، واللّه أعلم. ٥٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}. إن كان المراد من ذكر العبادة: حقيقة العبادة فيخرج تأويله على وجهين: أحدهما: جوابا لمن لا يرى الجن والإنس يؤمرون بالعبادة ويمتحنون بها، فقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، أي: خلقهم على معرفة المحاسن والمساوئ، والتمييز بين ما يؤتى وما يتقى بما ركب فيهم من أسباب التمييز والمعرفة، لا يتركهم سدى مهملين؛ بل لامتحانهم بالعبادة، والقيام بشكر ما أنعمت عليهم من أنواع النعم؛ إذ الحكمة توجب ذلك، وتدفع تركهم سدى هملا، واللّه أعلم. والثاني: خرج جوابا لمن يرى العبادة دونه جائزا؛ لقولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى}، فقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، لم أخلقهم لعبادة غيري، أو لآمرهم بعبادتي، لا لآمرهم بعبادة غيري؛ كما قاله بعض الكفرة بقولهم: {وَاللّه أَمَرَنَا بِهَا}؛ ردًّا ونقضا لاعتقادهم، واللّه أعلم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} على حقيقة العبادة؛ لوجهين: أحدهما: على حقيقة فعل العبادة، وعلى هذا الوجه لم تكن الآية معمولا بها على العموم، بل على الخصوص، وهم المؤمنون من الجن والإنس دون الكفرة منهم؛ فإنه لا يجوز أن يخلق الكفرة الذين علم منهم: أنهم لا يؤمنون للعبادة؛ إذ خلقه، عن اختيار وإرادة، فإذا خلقهم وأراد منهم العبادة لابد أن توجد منهم، وقد علم منهم أنه لا توجد؛ فيصير كأنه أراد تجهيل نفسه، وهذا محال؛ فدل أن المراد منه الخصوص، وقد خص منه البعض بلا خلاف؛ فإن الصغار والمجانين قد خصوا، بأنه لا يتحقق منهم العبادة؛ فجائز أن يخص منه الكفرة الذين علم منهم أنهم لا يؤمنون، واللّه أعلم. ويحتمل أن المراد منه الأمر بالعبادة، أي: ما خلقتهم إلا لآمرهم بالعبادة والتوحيد. وهذا التأويل أقرب إلى العمل بالعموم؛ فإنه يدخل فيه العقلاء من الجن والإنس دون الصغار والمجانين. ويجوز أن يأمر بشيء ولا يريد تحصيل المأمور به، وصيرورة المأمور مطيعًا له؛ بل يريد أن يصير عاصيا فيدخل النار، بخلاف إذا خلقه للعبادة وأرادها منه لا يجوز ألا توجد، وحقيقة هذا تعرف في كتاب التوحيد: أنه خلق الإيمان والعبادة؛ إن علم منه أنه يعبد ويختار العبادة له، فأما من علم منه اختيار الضلال والغواية، وصرف العبادة إلى غيره، فإنه خلقه على ما علم منه أنه يختار ويفعل؛ لقوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ. . .} الآية. وقال قائلون: لم يرد بقوله تعالى: {لِيَعْبُدُونِ} حقيقة العبادة التي، هي فعل العبد على وجه الاختيار، ولكن معناه: وما خلقت الجن والإنس إلا وقد جعلت في كل أحد منهم دلالة وحدانيتي ودلالة صرف العبادة إليَّ، والقيام بالشكر لي فيما أنعمت عليهم من أنواع النعم ما لو تأملوا فيها ونظروا، تدلهم على ما ذكرنا من العلم بالوحدانية لي، والقيام بالعبادة والشكر، واللّه أعلم. وعلى هذا التأويل تكون الآية عامة، لا خصوص فيها؛ لأن خلقة كل أحد منهم على أي وصف كان دلالة ما ذكرنا، واللّه الموفق. ويحتمل أيضًا: وما خلقت الجن والإنس إلا على خلقة تصلح للمحنة بالأمر والنهي، والوعد والوعيد، ولتحقيق فعل ذلك بما ركب فيهم العقل، وجعل مفاصلهم لينة، قابلة الأفعال، تصلح للخدمة: من الركوع، والسجود، والقيام، والقعود، ونحوها، على خلاف غير هَؤُلَاءِ من المخلوقات؛ فإنها خلقت على خلقة تصلح لمنافع الممتحنين، لا على وجه يصلح للمحنة، واللّه أعلم. ثم في العبادة خصوصية معنى، ليس ذلك في الطاعة والخدمة، وغير ذلك من الأفعال؛ كقوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّه}؛ حيث لم يجز العبادة لغيره، وأجاز الطاعة والخدمة، والتعظيم، وغير ذلك من الأفعال؛ كقوله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّه}، دل أن في العبادة معنى ليس ذلك المعنى في غيره؛ لذلك وقعت الخصوصية له؛ ولذلك خص نفسه بتسمية: الإله، لم يجز التسمية به لغيره؛ إذ الإله عندهم: معبود، فكل معبود عندهم يسمونه: إلها، وذلك كما خص نفسه بتسمية: الرحمن، لم يجعل ذلك لغيره، وجاز تسمية غيره: رحيما؛ لما أن في اسم الرحمن زيادة معنى ليس في الرحيم، وكذا خص نفسه بتسميته: خالقا، ولم يجز هذا الاسم لغيره؛ لما أن في الخالق معنى، ليس ذلك المعنى في الفاعل وغيره، فكذلك هذا، واللّه أعلم. ٥٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧). قال عامة أهل التأويل: ما أريد منهم أن يرزقوا أنفسهم، ولا أن يطعموا أحدا من خلقي، إنما عليَّ رزقهم وإطعامهم؛ كقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللّه رِزْقُهَا}. ويحتمل: ما أريد منهم أن يرزقوا من لا يقوم بأسباب الرزق وأن يطعموهم؛ إذ ذلك عليَّ، وإنَّمَا أريد منهم العبادة. أو الأمر بالعبادة على الوجه الذي ذكرنا؛ لأنهم لم ينشئوا لأُولَئِكَ الذين لم يجعل لهم المكاسب وأسباب الرزق من الدواب؛ بل هن أنشئن لأجلهم رزقًا ومتعة، واللّه أعلم. ْويحتمل أن يكون على الإضمار؛ على ما قَالَ بَعْضُهُمْ، أي: قل يا مُحَمَّد: ما أريد منكم فيما أدعوكم إليه من أجر، وما أريد أن تطعمون؛ فيثقل عليكم الإيمان. ويحتمل: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ}؛ أخبار أنه لم يخلقهم لحاجة له في خلقهم من الرزق والإطعام منهم؛ لما أقام من دلالات تبرئه عن الحوائج، وعن الرزق والطعام، وإنما خلقهم للأمر، والنهي، والامتحان - رجعت منافع ذلك إليهم، واللّه أعلم. ٥٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللّه هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: أن الأسباب والمكاسب التي بها يرزقون، ويصلون إلى الانتفاع بها، هي فعل اللّه تعالى وله فيها صنع، صار بذلك رازقًا، لولا ذلك لم يصلوا إلى ذلك، وإن كان الخلق هم الذين يكسبون ويعملون تلك الأسباب والمكاسب، فلما أضيف إليه الرزق؛ لما أنشأ فعل تلك الأسباب والمكاسب منهم، واللّه أعلم؛ فيكون في هذا دليل على أن للّه تعالى صنعا في أفعال العبد وهو الخلق والإنشاء؛ حيث سمى نفسه: رازقا، وهم يرزقون بتلك المكاسب والأسباب، وأكثر أرزاقهم بأفعالهم، دل أن له فيها صنعا؛ حتى تصح إضافة ذلك إليه وتسميته: رازقًا، ولا يجوز هذا الاسم لغيره، واللّه أعلم. والثاني: يحتمل الإضافة إليه؛ لأنه يرزقهم بما جعل في تلك الأسباب والمكاسب من اللطف لا بأنفس الأسباب؛ لأنهم يزرعون ويطرحون البذر فيها، فيهلك ذلك البذر، فيها، وكذلك يسقون الأرض، ويهلك ذلك الماء فيها. ثم إن اللّه تعالى جعل بلطفه ورحمته في ذلك من اللطف ما يصير ذلك رزقا لهم بعد ذهاب عينه والقوة التي جعلت فيه، وكذلك ما جعل ذلك من الصلاح، والنضج، والطبخ، وما يرجع إلى الإصلاح لذلك، والأكل، والمضغ، والابتلاع، ونحو ذلك، ليس في ذلك إلا امتلاء البطن، وفي ذلك فساد، فجعل فيه من القوة ما ينشر في البدن والأطراف قوة؛ فيبقون بتلك القوة فيهم الحياة والبقاء، لا بنفس الرزق، وهو ما وصف اللّه تعالى: {إِنَّ اللّه هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} بتلك القوة يحيون، وبها يبقون. ثم قوله تعالى: {الْمَتِينُ} قيل: المتين هو وصف ونعت لتلك القوة، فيجوز وصف تلك القوة بالمتانة، فأما اللّه - سبحانه وتعالى - لا يوصف أنه متين، وهو كقوله تعالى: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ}، وصف العرش بالمجيد، والعرش غيره؛ فعلى ذلك القوة التي جعل فيها ما ذكرنا غيره يجوز أن توصف بما ذكرنا من المتانة، وهي القوة التي لا يملكها الخلق، ولا يدركون ذلك اللطف الذي جعل في ذلك، واللّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} أي: ذو البطش الشديد فيما أهلك الأمم الخالية، واللّه أعلم. ٥٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) كأنهم استعجلوا نزول العذاب، فنزلت هذه الآية على أثر سؤال العذاب؛ كقوله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ}، وقوله تعالى: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ}، فقال عند ذلك: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ}، أي: لهم نصيب من ذلك العذاب مثل نصيب أوائلهم من العذاب؛ فيكون على التمثيل، كما يقال: حذو النعل بالنعل، وحذو القذة بالقذة، ويقال: صاع بصاع، وكيل بكيل؛ أي: يكال عليه مثل ما كيل لغيره، ونحو ذلك من الأمثال التي تضرب؛ فعلى ذلك ما ذكرنا من الذنوب، واللّه أعلم. وكذلك ذكر عن الأصم قال: ذكر الذنوب، وهو الدلو العظيم الذي كانوا يقتسمون به المياه، وكان من عادة العرب: أنهم يجمعون فيرسلون دلاءهم في البئر، فكان كل واحد منهم يأخذ حظه ونصيبه من الماء، فيقول لأهل مكة: لا تستعجلوا؛ فإن لكم نصيبا من ذلك العذاب كما كان لأُولَئِكَ؛ كالدلاء التي تكون في البئر، فيأخذ كل واحد منهم نصيبه. وكذلك قَالَ الْقُتَبِيُّ وأَبُو عَوْسَجَةَ -: الذنوب - الحظ والنصيب. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: سمي ذلك العذاب: ذَنوبا؛ لما يتبع بعضهم بعضا، واللّه أعلم. فيقول: يتبع العذاب لهَؤُلَاءِ كما يتبع لأُولَئِكَ؛ كالدلاء يتبع بعضها بعضا، واللّه أعلم. وقوله: {فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ} أي: قد يبلغون وقته فلا يستعجلون العذاب، وهو الوقت الذي يسألون الرجوع كما أخبر - عَزَّ وَجَلَّ -: {رَبِّ ارْجِعُونِ}. ٦٠وقوله: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٦٠) يوم القيامة، ولكن لم يبين ذلك اليوم ما هو؟ فيحتمل ما قالوا، ويحتمل غيره، والويل قد ذكرنا تأويله فيما تقدم. فَإِنْ قِيلَ: كيف خوف اللّه تعالى هذه الأمة بما أنزل على الأمم الخالية من الاستئصال والإهلاك، وقد عافى هذه الأمة عن هذا وأمَّنهم منه؟ قيل: إنما خوفهم بما ذكر؛ لأن المعنى الذي استوجب أُولَئِكَ الاستئصال والإهلاك به يحتمل أن يتحقق ذلك في هَؤُلَاءِ. وقد يحتمل ألا يكون، فالتخويف صحيح لهَؤُلَاءِ بهم، وإنما يكون مثل هذا التخويف في أول الأمر، ثم إن اللّه بفضله ورحمته عفا عنهم بفضل النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ورحمته؛ كقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}. ويحتمل أن يكون العفو لهم عن ذلك بالتأخير عنهم إلى وقت، وهو وقت قبض أرواحهم وخروجهم من الدنيا، وفي ذلك الوقت يعاقبون بأنواع العذاب، وينزل بهم ما نزل بأُولَئِكَ، لا أنهم عفوا عن ذلك أصلا. ويحتمل أن يكون ينزل بهم ذلك في الآخرة، وذلك كله فضل منه ورحمة، واللّه أعلم بالصواب. * * * |
﴿ ٠ ﴾