سُورَةُ الذَّارِيَاتِ

ذكر أن سُورَةَ الذَّارِيَاتِ مَكِّيَّة

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١-٤

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} سئل علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - عن هذه الآية فقال: {وَالذَّارِيَاتِ} هي الرياح، {فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا} هي السحاب، {فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا} هن السفن، {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} هي الملائكة.

وعلى هذا خرج تأويل عامة أهل التأويل، إلا ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - فإنه قال: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} هي الملائكة.

ثم يحتمل أن تصرف هذه الأحرف كلها من {وَالذَّارِيَاتِ} وغيرها إلى الرياح خاصة؛ فالذاريات من تذرى الأشياء ذروا {فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا} هن يحملن السحاب وغيره في الآفاق.

وجائز أن يصرف كل حرف من ذلك إلى نوع وجنس، على ما حمله أهل التأويل، وصرفوه إليه.

قَالَ الْقُتَبِيُّ: ذرت الريح تذرو ذروا، ومنه قوله تعالى: {فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ}، ومنه ذريت البر؛ لأن التذرية لا تكون إلا بالريح، وتذريت أي: أشرفت من الذروة، وذرى الرجل يذرى ذرى، فهو أذرى أي: أشمط، وشاة ذرا: إذا كان في ذنبها بياض.

{فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا} أي: سهلا، أي: تجري السفن في الماء جريا سهلا.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ، أي: هينا.

ثم المقسمات أمرا هم الملائكة، واختلفوا في التقسيم:

قَالَ بَعْضُهُمْ: أربعة أملاك يقسمون الأمور؛ فجبريل - عليه السلام - ينزل في إنزال العذاب والشدائد، وميكائيل ينزل في إنزال النعمة والرخاء والرحمة، وإسرافيل في نفخ الصور، وملك الموت في قبض الأرواح؛ فكل واحد من هَؤُلَاءِ موكل في أمر على حدة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هم الملائكة الذين ينزلون بالوحي، يأخذ هذا من هذا؛ إذ للّه تعالى أن يرسل الوحي على يدي من يشاء من ملائكته، واللّه أعلم.

ثم اختلف في ذكر هذه الأشياء من الرياح والسفن، والسحاب والملائكة، لماذا؟

قال عامة أهل التأويل: إنما ذكرها على القسم بها.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما ذكرها على سبيل تعداد النعم والمنافع التي جعلها اللّه لهم.

واحتج هَؤُلَاءِ وقالوا: إن اللّه تعالى نهانا عن القسم بغيره، فكيف يقسم بغيره فيكون ذكر هذه الأشياء على الامتنان، لا على القسم.

والقائلون بالقسم اختلفوا: فمنهم من يقول: القسم بأعيان هذه الأشياء؛ لعظم منافع هذه الأشياء عند الخلق.

ومنهم من يقول: إن القسم باللّه تعالى لا بعين هذه الأشياء؛ على الإضمار؛ كأنه قال: والذي ذرا الذاريات ذروا، والذي خلق الحاملات وقرا، فالجاريات يسرا، والمقسمات أمرا، وهو كقوله تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}؛ فيكون القسم بخالق هذه الأشياء لا بأنفسها، وكل واحد من الوجهين محتمل؛ لأن القسم خرج لرفع شبهة الكفرة في البعث وارتيابهم فيه بعدما أقام عليهم حجج البعث وبراهينه على أنه كائن لا محالة، ونظروا فيها لزوال ذلك الارتياب والشبهة عنهم، والقسم؛ لتأكيد ما وقع عليه بما يكون عندهم له حرمة وقدر وعظمة، قيد لهم ذلك على تأكيد الخبر المقرون بالقسم، فالقسم من اللّه تعالى بأنه خالق هذه الأشياء المذكورة مما يجل ويعظم عند الكفرة؛ لما كانوا يقسمون باللّه تعالى عند عظم الأمور، كما أخبر تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللّه جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}، فيصلح لتأكيد ما وقع عليه القسم، وكذلك القسم بهذه الأشياء يصلح مؤكدا لعظم خطر هذه الأشياء عندهم؛ لما تجل منافع هذه الأشياء، والعرف في الناس أنهم إنما يقسمون بالذي عظم خطره، وجل قدره عندهم؛ فأقسم اللّه تعالى بهذه الأشياء؛ لما عرف عظم خطرها وجليل قدرها عندهم، فمنافع الرياح مما يكثر عدها: قد أهلك بها أقواما، وبها استأصلهم، وبها تلقح الأشجار المثمرة وغيرها، وبها يساق السحاب في الآفاق للإمطار، وبها تجري السفن في البحار، وغيرها من المنافع، وبها سبب حياة الحيوانات بالتنفس، ودخول الريح فيهم، ونحوها في تذرية الطعام بحيث لولاها لتحرج الناس في التذرية.

وفيها آيات؛ فإن الريح جسم لطيف يرى ولا يدرك؛ ليعلم أن الرؤية لا توجب الإحاطة والإدراك، وغير ذلك من جهة الآيات؛ على ما تقدم.

وكذلك أقسم بالحاملات وقرا، وهي السحاب الذي فيه منافع الخلق من حمل

الأمطار، والتظليل في الحر، ونحو ذلك مع ما فيه من الآيات؛ إذ هو يمسكه في الهواء حيث لا يقع بسوق الرياح مع ما فيه من الحمل والوقر، ثم يرسل المطر حيث أمر؛ إذ قد يوجد السحاب ولا مطر؛ دل أنه لم يرسل بنفسه، بل بالأمر يرفع ويمسك ويرسل، وهو في نفسه مُسَخَّر لا بد له من مُسَخِّر؛ إذ لو كان عمله بالطبع لم يختلف باختلاف الأحوال.

وفيه آيات البعث؛ إذ خلق مثله لا يكون إلا لعاقبة، وكذلك أقسم بالجاريات يسرا، وهي السفن؛ لما فيها من منافع الخلق؛ إذ لولاها لانقطع بعض المنافع عن الخلق؛ إذ ما يحتاج المرء من المنافع لا يوجد في مكان واحد؛ بل خلقها متفرقة في أماكن، فطريق تحصيل هذه المنافع والحوائج شيئان: الحمل على ظهور الدواب في البر، وفي السفن في البحار، مع ما فيها من الآية العظيمة بما جعلها بحيث لا تتسفل في الماء مع ثقل الأحمال بل تجري بها الريح حيثما شاءوا بأمر اللّه تعالى.

والملائكة منافعهم عظيمة ظاهرة، وعظم قدرهم وجلالة خطرهم واضح.

وإذا كان كذلك، فكان القسم بهذه الأشياء؛ لتأكيد الخبر المقسم عليه مما يعقل، وهو متعارف، ولا معنى لقول أُولَئِكَ: إنه نهى عباده عن القسم بغيره، فكيف يقسم بنفسه؛ إذ يجوز أن يقسم هو بشيء ينهانا عن القسم به؛ إذ القسم بالشيء تبجيل لتلك الأشياء وتعظيمها، وأنها لا تستحق التعظيم بأنفسها، بل باللّه تعالى، فأمرنا بالقسم باللّه تعالى؛ إذ هو المستحق للتعظيم بنفسه في الحقيقة؛ إذ هو خالق الأشياء كلها، فأما القسم من اللّه تعالى بشيء ليس لتعظيم ذلك في نفسه، بل بيان منه قدر منافعه التي للخلق فيه، والتي عظمت، وجلت عندهم؛ فيكون لذكرها خطر عندهم، واللّه أعلم.

ثم ذكر أفعال هذه الأشياء التي أقسم بها، ولم يذكر أنفسها، والقسم إنما يكون بالأنفس، لا بالأفعال، فأما إن عرف أُولَئِكَ الكفرة أنفس هذه الأشياء بذكر أفعالها وقت قرع ذكر هذه الأفعال سمعهم، وإذا لم يعرفوا يسألون عنها، وما أريد بها، واللّه أعلم.

﴿ ١