سُورَةُ الرَّحْمَنِمَكِّيَّة، وقيل: بل مدنية بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ١قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الرَّحْمَنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) قد عرفت العرب وعلمت أن " الرحمن " على ميزان " فعلان "، مشتق من الرحمة، لكن أحدا من الخلائق لا يبلغ في الرحمة مبلغا يستحق تسميته به: رحمانا؛ لذلك خص اللّه تعالى نفسه بتسميته: الرحمن، وإن كان مشتقًّا من الرحمة؛ كالرحيم، وجاز تسمية غيره: رحيما، واللّه أعلم. ٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {عَلَّمَ الْقُرْآنَ}، ذكر أن الرحمن علم القرآن، ولم يذكر لمن علمه؛ فجاز أن يكون المراد منه: أنه - تبارك وتعالى - علم القرآن رسولنا - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. ثم يخرج ذلك على وجوه: أحدها: أنه جبريل - عليه السلام - حيث قال: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى. ذُو مِرَّةٍ}، لكن خرجت الإضافة إلى اللّه تعالى؛ لما أنه علمه بأمره. والثاني: أضاف التعليم إلى نفسه؛ لما أنه هو الذي أثبته في قلبه حتى لا ينساه؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى}، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ)، وقوله: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ}. والثالث: أضاف إلى نفسه، وإن علمه جبريل - عليه السلام - لأنه هو الخالق لفعل التعليم من جبريل، عليه السلام. ٣-٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (خَلَقَ الْإِنْسَانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (٤). قَالَ بَعْضُهُمْ: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ} أي: آدم عليه السلام، و {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} أي: الأسماء التي ذكر في آية أخرى، {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ}؛ إذ لا سبيل إلى معرفة الأسماء إلا بالتلقين، ليس كالأشياء التي تعرف وتدرك بالاستدلال. ويحتمل أن يكون المراد بقوله تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ} أي: خلق كل إنسان وعلمه البيان: أي: علمه بيان ما يمتحنهم به من الأمر والنهي؛ ليعلم أنه لم يخلق الإنسان ليتركه سدى. ويحتمل: علم كل إنسان ما غاب عنهم حتى عرفوا بما شاهدوا -باللون والطعم واللذة- طعم ما غاب عنهم من جنسه ولونه ولذته؛ استدلالا بما شاهدوا. ويحتمل: الاستدلال بالشاهد على معرفة اللّه تعالى، وهو أنهم لما شاهدوا الإنسان محتاجا، عاجزا، محاطا بالحوائج والحوادث عرفوا أن له خالقا عالما قادرا أنشأه كذلك. ويحتمل: ما ذكر من تعليم البيان بيان القرآن، وذلك راجع إلى رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أنه علمه القرآن، وعلمه البيان، وهو بيان القرآن؛ حتى يبين للناس كل ما يحتاجون إليه، وما لهم وما عليهم. وجائز أن يصرف بعضه إلى النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وهو قوله: {الرَّحْمَنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ}، وبعضه إلى آدم - عليه السلام - وهو قوله: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ. عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}، وتفسيره ما ذكرناه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ} آدم، و {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} بيان الدنيا والآخرة. وجائز أن يكون خلق الإنسان كل إنسان علم القرآن، وعلمه البيان أي: علم شيئا من بيان القرآن من الأحكام والشرائع، ونحو ذلك. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} أي: الكلام، واللّه أعلم. ٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (٥) قال أهل التأويل بوجهين: أحدهما: أي: يحسب بهما عدد الأوقات والأزمنة، ويعرف بهما حساب ذلك. والثاني: يحسب بهما حساب منازلهما التي يطلعان منها ويغيبان فيها، ومجاريهما التي يجريان فيها لا يجاوزانها في شتاء ولا صيف. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: قوله: {بِحُسْبَانٍ} جمع الحساب. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: {بِحُسْبَانٍ} بحساب ومنازل لا يعدوانها. وفيه زيادة معنى: أن اللّه تعالى جعلهما بحيث يعرف بهما حقيقة أعين الأشياء؛ لما جعل فيهما من النور والضياء الذي بهما تتجلى للخلق الأشياء المستورة، فيقال لمنكري الرسالة وتفضيل بعض البشر على بعض: لما شاهدتم أشياء خصت بفضل ضياء وتجلٍّ لم يكن ذلك لغيرها، فلم أنكرتم فضل بعض البشر بفضل بيان وعلم رسالة؟ واللّه أعلم. ٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (٦) النجم يحتمل وجهين: أحدهما: الكواكب، فإن كان هو المراد، فكأنه يقول: يسجد له ما به زينة السماء وما به زينة الأرض، وهي الكواكب، وهي الأشجار. ويحتمل النجم كل نبت ينبت في الأرض لا ساق له، والشجر هو الذي له ساق؛ كأنه يقول: يسجد له كل ما يظهر من الأرض ويخرج، ما ارتفع وعلا، وما لم يرتفع. ثم سجودهما يحتمل وجوها: أحدها: سجود خلقة؛ قد جعل اللّه تعالى في خلقة كل شيء دلالة السجود له والشهادة له بالوحدانية. والثاني: سجود هذه الأشياء الموات: طاعتها له عن اضطرار وتسخير؛ نحو قوله تعالى: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}. والثالث: سجود حقيقة، يجعل اللّه في سرية هذه الأشياء معنى يسجدون به للّه تعالى يعلمه هو، ولا يعلمه غيره؛ كقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}. وقال بعض الناس: سجودهما: هو تمييل ظلالهما؛ كقوله تعالى: {يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا للّه}. ثم لا يلزم السجود بتلاوة هذه الآية وأمثالها مما ذكر سجود الموات وطاعتها؛ لأنها موات ليست بأهل السجود، وإنَّمَا سجودها عن اضطرار كل مخلوق في معناه في الدلالة على السجود، وإنما يلزم السجود بتلاوة آيات ذكر فيها سجود من هو من أهل السجود، واللّه أعلم. ٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا ... (٧) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: أراد حقيقة الرفع، أي: رفعها بغير عمد من الأسفل، ولا تعليق من الأعلى، أي: أنشأها كذلك مرفوعة، لا أن كانت موضوعة فرفعها وأمسكها كذلك؛ ليعلم أن قدرته خلاف قدرة الخلق وقوتهم. والثاني: {رَفَعَهَا} أي: رفع قدْرها ومنزلتها في قلوب الخلق حتى يرفعوا أيديهم وأبصارهم إليها عند الحاجة؛ لما جعل فيها لهم من الأرزاق والبركات التي تنزل من السماء، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} يحتمل حقيقة الميزان الذي يزن الناس به الأشياء، وبه يتحقق الإيفاء والاستيفاء، امتحنهم بذلك؛ ليعرفوا بذلك قبح التقصير فيما أمروا به والمجاوزة عما نهوا عنه، وذلك يحتمل في الأحكام، والشرائع والتوحيد، وصرف الألوهية والعبادة إلى غير الذي يستحقه؛ ليعلموا التقصر في ذلك، واللّه أعلم. ويحتمل المراد بالميزان: الأحكام التي وضعت بين الخلق، والشرائع التي جعلت عليهم؛ ليقوموا بوفائها وينتهوا عن التقصير فيها، والتعدي عن حدودها. وقيل: الميزان: العدل، وهو ما ذكرنا، واللّه أعلم. وذكر أن الموازين ثلاثة: أحدها: العقول، وهي التي يعرف بها محاسن الأشياء ومساوئها، وقبح الأشياء وحسنها. والثاني: الميزان الذي جعل بين الخلق لإيفاء الحقوق والاستيفاء. والثالث: الذي جعل في الآخرة؛ ليوفى به ثواب الأعمال وجزاؤها، واللّه أعلم. ٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (٩) قوله: {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ}، {وَلَا تُخْسِرُوا} أي: لا تنقصوا في الميزان. وقوله: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ} أمر بإقامة الوزن والإتمام في الوزن؛ أَمْر بالإتمام، ونهي عن النقصان، والأمر بالشيء نهي عن ضده، وهاهنا جمع بينهما صريحا؛ تأكيدا لباب الوزن والميزان. ويحتمل الوجوه الثلاثة التي ذكرنا. وعن قتادة: كان ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - يقول: يا معشر الموالي، إنكم وليتم أمرين هلك الناس بهما قبلكم، هما: المكيال والميزان. وقال مجاهد في قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} في الميزان باللسان؛ أي: لسان الميزان. وقيل لابن عمر - رضي اللّه عنهما -: إن أهل المدينة [ليوفون] الكيل، قال: وما يمنعهم، وقد قال اللّه تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}؟!. ١٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (١٠). قَالَ بَعْضُهُمْ: الأنام: هو كل ذي روح. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الأنام: هو جميع الخلق. ولكن عندنا: الأنام: كأنه البشر، للآية؛ لأنه أخبر أن الأرض أنشأها للبشر، ووضعها لهم، وهو ما ذكر في مواضع: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}، {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}. ١١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (١١) يذكرهم نعمه التي أنشأها لهم في الأرض من الفواكه وأنواع الثمار والحبوب التي جعلها رزقا لهم وقوتا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذَاتُ الْأَكْمَامِ} أي: ذات الغلف والأغطية. ١٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (١٢) برفع النون وكسرها؛ فمن كسرها ذهب إلى أن الريحان: هو الرزق الذي يرتزقون من الحبوب والثمار، والعصف: الورق؛ فيكون المعنى: والحب ذو الورق والرزق. ومن رفعها فعلى الابتداء؛ عطفا على الحب. واختلفوا في تفسير العصف والريحان: منهم من قال: العصف: ورق الزرع من الحنطة والشعير وغيرهما. وقيل: هو التبن. وقيل: هو أول ما ينبت من الزرع. وقيل: العصف: هو الزرع نفسه، ولكن أضاف العصف إلى الحب؛ لما منه ينشأ الحب وما يخرج. وأما الريحان قال: هو خضرة الزرع. وقيل: هو الذي يشتم. وقيل: هو الرزق الذي يرتزقون من الحبوب في الثمار؛ كذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنهما -: الريحان: هو الحب. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الريحان الرزق؛ يقال: اطلب ريحان اللّه، أي رزقه، واللّه أعلم. ١٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (١٣) هذا خطاب للجن والإنس، وفيه دلالة أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان مبعوثا إلى الإنس والجن جميعا؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ}. وقيل: ليس أن يخاطبهما جملة، لكن يخاطب كل إنسي وجني في نفسه؛ كقوله تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا}، ليس أن قال الفريقان جميعا: كونوا هودا تهتدوا، ولكن قال اليهود: كونوا هودا تهتدوا، وقال النصارى: كونوا نصارى تهتدوا؛ فعلى ذلك هذا. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}، عن جابر بن عبد اللّه قال: خرج رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على أصحابه، فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها، فسكتوا فقال: " لقد قرأتها على الجن ليلة الجن، فكانوا أحسن مردودا منكم، كلما قرأت عليهم {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} قالوا: لا شيء من آلاء ربنا نكذب؛ فلك الحمد ". ثم فيما ذكر من قوله: (وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (١٠) فِيهَا فَاكِهَةٌ. . .) إلى آخره، يذكر نعمه، وقدرته، وتدبيره، وعلمه، ووحدانيته. أما نعمه: فإنه بسط الأرض لهم بما فيها من أنواع الحبوب والفواكه التي بها قوامهم، والعصف وأنواع النبات التي بها قوام دوابهم. وأما بيان قدرته وسلطانه: فإنه أنشأ هذه الفواكه والحبوب في أكمامها ما يعجز الخلق عن إحداث شيء وفعله في الغلف؛ ليعلم أن صنعه وفعله خارج عن المعالجات والممارسات التي لا تتحقق مع الأغطية، وأن قدرته وفعله غير مقيسين بأفعال الخلق وقدرتهم، كذلك الأولاد في البطون، والفراخ في البيض، وأمثالها في الظلمات؛ ليعلم أنه لا يخفى عليه شيء، ثم أنشأ هذه الثمار والحبوب في الوقت الذي لا تحتمل البرد والحر في الأكمام من وراء الحجب، وأمسكها فيها في حال ضعفها، فإذا اشتدت وقويت أخرجها من الغلف، وفي ذلك لطف منه ونعمة عظيمة على خلقه. وفيه إثبات البعث من وجهين: أحدهما: أن من قدر على إنشاء هذه الأشياء، لقادر على إعادة الخلق. والثاني: أنه لما أنشأ لهم ما ذكر، ثم منهم من شكر هذه النعم، ومنهم من كفر، ثم استويا في هذه الدنيا، وفي الحكمة التفريق بينهما - فلا بد من دار أخرى فيها يفرق بينهما. وفيه لزوم الامتحان؛ إذ لا يحتمل أن ينشئ لهم هذه النعم، ثم يتركهم سدى لا يستأدي شكر ما أنعم عليهم. ثم معرفة الشاكر منهم والكافر لا يعرف إلا بمعرف يعرفهم؛ لأن مقدار الشكر وكيفيته لا يعرف بمجرد العقل؛ فيضطرهم إلى رسول يخبرهم عن اللّه تعالى ذلك؛ فيكون فيه إثبات الرسالة. ثم في إخراج هذه الحبوب والفواكه كلها في وقت واحد من المشرق والمغرب على سنن واحد في زمان واحد من غير تفاوت - دليل أن علمه وتدبيره أزليان ذاتيان؛ إذ لم يمنعه شيء عن شيء. ثم اتساق ذلك واتصال ما ذكر من منابع الأرض بمنافع السماء من غير مدخل من أحد - دليل على وحدانيته؛ إذ لو كان ذلك فعل عدد ما جرى ذلك على سنن واحد؛ على ما هو التدافع والتمانع في الأمر القائم بين اثنين عند الاختلاف، واللّه الموفق. ١٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} ذكر في خلق الإنسان أحوالا مختلفة: مرة قال: {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ}، والتراب: هو الذي لم يصبه الماء، ومرة قال: خلقه من طين والطين: هو الذي أصابه الماء، واعتجن، ومرة قال: {مِنْ طِينٍ لَازِبٍ}، واللازب: هو الذي يلتصق باليد ويلزقه، وهو الحر الخالص، وقال مرة: {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}، وهو الذي اسود وتغير؛ لطول المكث، ومرة قال: {مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ}، والصلصال: هو الذي له صوت إذا حرك، وهو من صلصلة الحديد. ويحتمل صلصال: أي: منتن، يقال: صلَّ البئر؛ إذا أنتن، والفخار: هو الذي تكسر إذا يبس. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الفخار: الذي طبخ. فجائز أن تكون هذه الأحوال التي ذكرت على اختلافها في ذلك الإنسان، كان في الابتداء ترابا، ثم صار لازبا؛ لأنه كان من جيد الطين وحره، ثم صار مسنونا منتنا: أسود؛ لطول المكث، وصلصالًا لكثرة تربيته ولجودته، يكون له صوت. وتشبيهه بالفخار يحتمل وجوهًا: أحدها: لتكسره ويبسه. أو لأنه كان ذا جوف كالفخار، أو لطول المكث، وكثرة التربية؛ إذ طين الفخار له هذه الصفات، واللّه أعلم. ١٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (١٥) ذكر أنه أبو الجن، وأنه لفظ الوحدان، والجن جماعة، وكذا قال أَبُو عَوْسَجَةَ: الجان: الجن. وقوله: {مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} قَالَ بَعْضُهُمْ: المارج: هو لهب النار صافيًا لا دخان فيه؛ يقال: مرجت النار؛ إذا التهبت، فالمارج على هذا هو النار التي فارقت الحطب والتهبت، وارتفعت منه؛ وكذا قال أَبُو عَوْسَجَةَ: المارج - هاهنا -: اللّهب، من قولك: مرج الشيء؛ إذا اضطرب، ولم يستقر، وعلى ما قَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} إذا خلط وجمع بينهما يجيء أن يكون خلق الجان من نار غير منقطعة من الحطب، ولا خالية من الدخان؛ وكذا قال أبو عبيد: {مِن مَارِجٍ}، أي: من خلط من النار. وعلى تأويل من قال في قوله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} أي: أرسل أحدهما في الآخر، فهو يكون من نار منقطعة من الحطب. وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة، إنما الحاجة إلى معرفة ما أودع من الحكمة فيما ذكر من خلق آدم - عليه السلام - من تراب، وخلق الجان من نار. والفائدة في ذلك - واللّه أعلم - يخبر عن قدرته: أن من قدر على خلق الإنسان من ذلك التراب وإخراج جميع ما في الدنيا من الناس من نفس واحدة، لا يحتمل أن يعجزه شيء، وكذلك ما ذكر من خلق ألوان من النار، وإخراج ما أخرج منه من النسل حتى أخذ الدنيا بأسرها لا يعجزه شيء، ولا ما لو اجتمع حكماء البشر والجن، أدركوا المعنى الذي به أنشأ الإنسان منه، وخرج هذا الخلق منه، وفي ذلك وجهان من الحكمة: أحدهما: ما ذكرنا من القدرة على البعث: والثاني: أن كل ما ذكر من النقل والتغير من حال إلى حال، وإخراج ما أخرج منه، لا يحتمل أن يفعل ذلك عبثا باطلا، ولو لم يكن بعث، لكان إنشاء هذا الخلق عبثا باطلا، ولا قوة إلا باللّه. ١٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (١٦) يقول، - واللّه أعلم -: إذا لم تنكروا شيئا من الآية أنه ليس منه فما لكم تنكرون قدرته في البعث وغيره؟! ١٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) وقال في موضع آخر: {بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ}، قد ذكرناه فيما تقدم. ثم دل قوله: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} و {بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ}، وذكر الحد لهما -أعني: الشمس والقمر- في الشروق والغروب، وفي أنهما طلعا بأمر، وغربا حيث غربا بأمر؛ إذ لو كان ذلك لا بأمر لكن بأنفسهما، لكانا يطلعان ويغربان في جميع الأوقات والأطراف، ولا يرجعان إذا بلغا مكانا ولا يزدادان، ولا ينتقصان في وقت من الأوقات، ثم هذا كله منشأ للبشر، مسخر لهم؛ فيقول - واللّه أعلم -: ما بال المجعول لكم أطوع للّه تعالى منكم؛ حيث لا يجاوز الحد الذي جعل له، ولا يتعدى أمر خالقه، وأنتم تجاوزون أمره ونهيه، وتتعدون حدوده. وفي الآية دليل على أن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه؛ ألا ترى أنه خص رب المشرقين ورب المغربين، ولم يدل على أنه ليس برب ما بينهما، أو ليس برب ما سوى المشارق والمغارب، واللّه أعلم. ١٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (١٩) قيل: جمع يينهما وخلط. وقيل: أحدهما العذب، والآخر: المالح. وقيل: {يَلْتَقِيَانِ} أي: يتقابلان. ٢٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (٢٠) أي: بين البحرين حجاب وحاجز. {لَا يَبْغِيَانِ} قيل: لا يختلطان، ولا يمتزجان، ولا يتغير طعم كل واحد منهما؛ يخبر عن لطفه في منعهما عن الامتزاج، ومن طبع الماء الامتزاج والاختلاط، فمن قدر على هذا لا يعجزه شيء. وقيل: {لَا يَبْغِيَانِ} أي: لا يجاوزان حد اللّه الذي حد لهما. ثم اختلف في البحرين: قَالَ بَعْضُهُمْ: أحدهما: بحر الروم، والآخر: بحر الهند، و {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ} أي: سكان، {لَا يَبْغِيَانِ} أي: لا يختلطان، وهو قول الأصم. ومنهم من قال: أحدهما: بحر الروم، والآخر: بحر فارس، {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ}، أي جزيرة العرب. وقيل: أحدهما: بحر السماء، والآخر: بحر الأرض، كقوله: (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ)، و {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ}، وهو: [ .... ] الأرض وسكان الأرض، وهذا أيضًا لطف منه تعالى. ٢٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (٢٢) منهم من قال: يخرج من العذب والمالح جميعا، كما هو ظاهر الآية. ومنهم من قال: يخرجان من المالح خاصة دون العذب، وإن كانت الإضافة إليهما، وذلك جائز في اللغة، كقوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ}، ولم يأت من الجن رسل، وذلك كثير في القرآن. ثم قرئ {يَخْرُجُ} بنصب الياء، ورفع الراء، وقرئ برفع، الياء ونصب الراء، فالأول على جعل الفعل لهما، والثاني على جعل الفعل لغيرهما؛ كقوله تعالى: {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا}، ولم يقل: (يخرج منه حلية). ثم اختلف في اللؤلؤ والمرجان، منهم من قال: اللؤلؤ: ما عظم منه، والمرجان ما صغر من اللؤلؤ. ومنهم من قال على العكس، وأكثرهم على الأول؛ كذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ والحسن وقتادة والضحاك، وكذا قال أَبُو عَوْسَجَةَ: المرجان: صغار اللؤلؤ، والواحد: مرجانة. وقيل؛ إن المرجان المختلط من الجواهر، من قولهم: مرجت، أي: خلطت. وقيل: إنه ضرب خاص من الجوهر يخرج من البحر. وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنهما - أنه قال: إذا جاء القطر من السماء، انفتحت الأصداف؛ فكان من ذلك اللؤلؤ. وقيل: إنما قال تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} وإنما يخرج اللؤلؤ من المالح دون العذب؛ لأن العذب والمالح يلتقيان؛ فيكون العذب لقاحا للمالح؛ كما يقال: يخرج الولد من الذكر والأنثى، وإنما تلده الأنثى، واللّه أعلم. ٢٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَئَاتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (٢٤) عن إبراهيم - رحمه اللّه تعالى -: أنه قرأ: {الْمُنْشِئَاتُ} بكسر الشين، وفسر بعض الناس المنشآت، أي: ظاهرات السير. وعن الحسن أنه قرأها بفتح الشين، قال أبو عبيدة: وبها يقرأ؛ لأن تفسيرها: أنها التي قد رفع قلعها في البحر، فهي الآن مقلوع بها؛ فقيل: المنشآت، وهي المرتفعات، والتي لم يرتفع قلعها، فليست بمنشأة. وقيل: المخلوقات، والجواري: هي السفن المنشآت. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {كَالْأَعْلَامِ} أي: هي في البحار كالجبال في البراري. قيل: وهي الأعلام أنفسها. ثم في هذه الآيات التي ذكرت وجوهٌ من الحكمة وإثبات القدرة للّه تعالى وسبحانه: أحدها: أن من قدر على تسخير البحار وإنشاء ما فيها، وعلم إخراج ما فيها للآدمي، واتخاذ السفن وإجراءها في البحار؛ للوصول إلى المنافع التي في البلدان النائية - لقادر على البعث وغيره. والثاني: أن لا سبيل إلى معرفة ما في البحار من الأموال، واتخاذ السفن وإجرائها في البحار، ومعرفة ما وراء البحار من البلدان النائية وما فيها إلا بخبر الرسل، فيقول - واللّه أعلم -: ما بالكم صدقتم الرسل الأوائل فيما يرجع إلى منافعكم الدنيوية، ولم تصدقوهم فيما يرجع إلى الدِّين والآخرة من الوعد والوعيد. أو يقول: ما بالكم لا تنكرون شيئا من هذه النعم -التي جعلها لكم- أنها من اللّه تعالى، فكيف تنكرون ما أتاكم به الرسل، عليهم السلام؟! ثم في قوله: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَئَاتُ} دلالة نقض قول المعتزلة في إنكارهم خلق أفعال العباد؛ فإنه أضاف السفن إلى نفسه بقوله: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَئَاتُ}، وقد اتخذها بنو آدم بأفعالهم، فلو لم يكن له في أفعالهم صنعٌ، لكانت السفن لهم لا له، واللّه أعلم. ٢٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٢٥) إذا لم تكذبا شيئا من آلاء ربكما: أنه من اللّه تعالى، ولم تكذبا ما أتاكم من الأخبار في منافع الدنيا، فكيف تكذبان أخبار الرسل عليهم السلام بعدما جاءوا بالآيات والحجج. ٢٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (٢٦) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (٢٧) يحتمل وجوها: أحدها: أي: مُلْكُ كُلِّ من في الأرض فانٍ، ويبقى ملك ربك أبدا دائما. والثاني: يحتمل سلطان كل من عليها أو قوة كل من عليها وقدرته فان، ويبقى سلطان ربك وقدرته وربوبيته؛ ليعلم أن ملكه وسلطانه بذاته، لا كالخلق؛ حتى يكون فناؤهم وذهابهم يُدْخِل نقصا أو وهنا في ملكه، خلاف ملك ملوك الأرض وسلطانهم. وجائز أن يكون قال هذا على الإياس للكفرة، وقطع الرجاء عن عبادة من عبدوا دونه من الأصنام والملوك والرؤساء، ومن قدموهم، كأنه يقول: كل من عبد دونه أو خدم، أو عمل لا لوجه اللّه، فكله فان، ذاهب، إلا ما عمل لوجه اللّه؛ فإنه باق، واللّه أعلم. والباطنية يقولون: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} أي: النفس الجسدانية، وتبقى النفس الروحانية أبدا؛ لأنهم يقولون: إذا فنيت هذه الأجساد ينشئ اللّه تعالى من أعمالهم الصالحات أنفسا روحانية تبقى أبدا. ٢٧ويحتمل {وَيَبْقَى وَجْهُ} أي: كل ما يطلب من العمل وغيره رضاء اللّه تعالى، فكنى بالوجه عن الرضاء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذُو الْجَلَالِ} يخرج على وجهين: أحدهما: على خلق إجلال حق اللّه وأمره وتعظيم ذلك. والثاني: أن يجل اللّه تعالى من شاء من خلقه؛ أي: منه إجلال من جل في الدنيا، وإكرام من أكرم في الآخرة، واللّه أعلم. ٢٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩) يخبر اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - عن فزع أهل السماء وأهل الأرض إليه عند الإياس من الخلق وانقطاع الرجاء عنهم، وهو يذكر أنه المفزع في الأحوال كلها، وللخلائق كلهم، ومنه يسألون الرزق والنجاة، وهو ما ذكر: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. . .} الآية، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - {قُلِ اللّه يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ}، وقوله: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ}، وقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ}، هنا صلة قوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ. وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} يقول - واللّه أعلم -: شأنه وأمره باق دائم أبدا، وذهاب الخلق لا يدخل نقصا في شأنه وأمره، ولا وهنا في سلطانه وملكه؛ بل هو في شأنه وأمره عند فنائهم كهو في حال بقائهم. وجائز أن يكون ما قال بعض أهل التأويل: إن اليهود قالت: إن اللّه تعالى استراح يوم السبت لا يقضي بشيء، ولا يحكم ولا يأمر، ولا يفعل فعلا؛ فنزلت الآية عند ذلك {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} من إحداث لإفناء، وإحياء وإماتة. وأصله: أن اللّه تعالى إذا وصف بشيء يوصف بالأزل، يقال: عالم لم يزل، قادر لم يزل، رازق بذاته لم يزل، وإذا ذكر بأمر وتدبير مضاف إلى الخلق يوصف على ذكر الوقت؛ فيكون الوقت للخلق لا له، نحو أن يقال: إن اللّه تعالى لم يزل عالما بجلوسك هاهنا، أو في هذا الوقت؛ أي: لم يزل عالما أنه يجلس الآن، أو يجيء الآن، أو في هذا الوقت، وإذا وصفته بالماضي، قلت: لم يزل عالما بما كان، وبالمستقبل: لم يزل عالما بما يكون أنه يكون في وقت كذا، وللحال: لم يزل عالما بكونه كائنا للحال، ونحو ذلك، نفيا لوهم الخلق: أن المخلوق كيف يكون في الأزل؟! فعلى ذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} ذكر اليوم والوقت؛ لئلا يتوهم بكون الخلق قديما، واللّه أعلم. ٣١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (٣١) قرئ: {سَنَفْرُغُ} بالنون والياء، وبرفع الراء في الحالين. قال أبو عبيد: بالياء يقرؤها كقوله تعالى: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ذكر على المغايبة، فكذلك هذا الذي قرئ عليه. قال الزجاج: قوله تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ} ليس هو الفراغ عن الشغل، لكن كما يقول الرجل لآخر: سأفرغ لك كذا، أي: سأجعل لك، أو كلام نحوه. ومنهم من يقول: هذا على الوعيد في كلام العرب، يقول الرجل: سأفرغ لك، وإني لفارغ، على الوعيد. وقال أبو بكر الكيساني: إن الفراغ ليس يستعمل عند الفراغ عن الشغل خاصة، لكن يستعمل له ولغيره من نحو: إنجاز ما وعد، وأوعد؛ كأنه قال: سننجز لكم ما أوعدتكم أيها الثقلان. وعندنا أن الفراغ: هو اسم لانقضاء الفعل وتمامه، لا للفراغ عن الشغل، يقال: فلان فرغ من شغله: إذا فرغ، وفرغ، من بناء داره، إذا أتمه وانقضى ذلك؛ ألا ترى أنه وإن فرغ من شغل تلك الدار وذلك العمل، فهو مشغول بغيره، دل أنه ليس باسم للفراغ من الشغل؛ إذ لو كان اسمًا للفراغ من الشغل لا يوصف به وهو مشغول بغيره؛ دل أنه اسم التمام والانقضاء، لكن فهم الخلق بعضهم من بعض الفراغ من الشغل؛ لما أن فعلهم للشيء لا يلتئم إلا بالشغل في ذلك؛ فيفهم ذلك من فعلهم، فأما اللّه - سبحانه وتعالى - حيث لا يشغله فعل عن فعل، ولا شيء عن شيء، لم يجز أن يفهم من فراغه من الشغل فراغه، فباللّه العصمة والتوفيق. ٣٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (٣٣) له تأويلان: أحدهما: كأنه يقول: لو مكن لكم النفاذ من أقطار السماوات والأرض ونواصيها، فتنفذون فتجدون هنالك، وترون من آيات من كذب بالرسل وما حل بهم بالتكذيب. ثم قال: {لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} أي: لا تنفذون لو مكن لكم من النفاذ إلا وتجدون حجج من أهلك منهم ظاهرة أنه بم أهلكهم؟ وهو كقوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}، أمرهم بالسير في الأرض والتدبر في آثار من أهلك بماذا أهلك من أهلك منهم؟ وبماذا نجا من نجا؟ واللّه أعلم. والثاني: على الإعجاز، أي: لا تستطيعون أن تخرجوا أو تنفذوا من أقطار السماوات والأرض، ولو مكن لكم من النفاذ والخروج منها لوجدتم ثَمَّ سلطاني وحجتي وملكي هنالك قائما، أي: لا تقدرون على الخروج من سلطاني وملكي حيثما كنتم؛ بل حيثما سرتم كنتم في سلطاني وملكي؛ فلا تتخلصون من الموت والهلاك، وهو كقوله تعالى: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ. . .} الآية. وقال الضحاك: في حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: (يا معشر الجن والإنس قد جاء أجلكم فانفذوا من أقطارهما لا تنفذوا إلا بسلطان)، يعني: أنه لا يجيركم أحد من الموت وأنتم ميتون؛ أي: لا تأتون قطرا من أقطار السماوات والأرض إلا وجدوا هنالك سلطان اللّه وملائكته؛ يقول: لا تستطيعون فرارا من الموت ولا محيصا، وإن نفذتم من أقطار السماوات والأرض فلم تخرجوا من سلطاني وأنا آخذكم بالموت حيث كنتم، وهو كقوله: {يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يبعث اللّه تعالى ملائكة عند الحشر، فيحيطون بالدنيا يكونون في أقطارها؛ فلا يستطيع شيطان ولا إنس ولا جان أن يخرج من الأقطار، ولو خرجوا كانوا في سلطان اللّه. وقيل: {إِلَّا بِسُلْطَانٍ} أي: الحجة. وقال قتادة: [إلا بِمُلْكٍ]. وقال: إلا بقدرة اللّه تعالى واللّه أعلم. ٣٥ثم أوعدهم فقال: (يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (٣٥). قرئ {شُوَاظٌ} بضم الشين وكسرها؛ روي عن الحسن بالكسر، وكذا عن مجاهد. وقرئ {نُحَاسٌ} بكسر السين وضمه، فمن رفع {نُحَاسٌ} عطفه على قوله: {شُوَاظٌ} ومن كسره، عطفه على قوله: {مِن نَّارِ}. ثم اختلف في تأويل الشواظ والنحاس: عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: النحاس: الدخان. وقيل: الشواظ: هو لهب النار، الذي لا دخان فيه، والنحاس: هو الدخان. وعن الكلبي: الشواظ: لهب النار، والنحاس: الصفر الذي يذاب، فيعذبون به. وقيل: الشواظ: هو الذي فيه الدخان، والنحاس: هو النحاس المعروف، يذاب ويصب على رءوسهم. وقال الضحاك: الشواظ: الدخان الذي يخرج من اللّهب، ليس بدخان الحطب، والنحاس: الصفر: فمن قرأ بالخفض يقول: لهب من نار ومن دخان، ومن قرأ بالرفع أراد به الصفر؛ يقول: يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس ذيب في النار. وقيل: النحاس في القراءتين يحتمل الدخان، ويحتمل الصفر، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَلَا تَنْتَصِرَانِ} قيل: لا تمتنعان من ذلك. ويحتمل: أي: لا ناصر لكما كما يكون في الدنيا. فَإِنْ قِيلَ: إنه قد ذكر في أول الآيات: الآلاء والنعم، فقرن بآخرها: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٣٦) وقد انقطع ذكر الآلاء هاهنا، ونذكر المواعيد في هذه الآيات، فما فائدة قران قوله: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} بآخرها. قيل: إن في الوعد ترغيبا، وفي الوعيد ترهيبا؛ فيرغب في الوعد، ويخاف ويرهب من الوعيد؛ فيرتدع ويمتنع عما يوعد؛ فيكون في ذلك نعمة عظيمة؛ إذ بالوعد والوعيد تتم المحنة، وبالمحنة تتم النعمة؛ لذلك ذكر على إثر الوعيد: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}. ٣٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} يذكر تغير هذا العالم يومِئذ لهول ذلك اليوم، وهو كما ذكر من تبديل السماء والأرض؛ حيث قال: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ}، وقوله: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ}، في غير ذلك من الآيات، وكذلك ما ذكر من تغيير الجبال من قوله: {هَبَاءً مَنْثُورًا}، وقوله: {كَثِيبًا مَهِيلًا}، وقوله: قوله تعالى: {كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ}، ونحو ذلك. ثم قوله تعالى: {فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} ومنهم من قال: شبه السماء؛ لكثرة تلونها بفرش الورد يكون في الربيع بلون، ثم يصير إلى لون آخر، ثم إلى آخر؛ فعلى ذلك ما ذكر من تغيير السماء وتلونها. ومنهم من قال: شبهها بالدهان، وهو الدهن؛ للينها وضعفها، وهو قد ذكر في آية أخرى: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ}، والمهل: هو دردي الزيت، لكن التشبيه بالمهل إنما يكون؛ لكثرة التلون لا للين؛ فيكون في هذا التأويل نوع وهاء، واللّه أعلم. وقيل: إنما تحمر وتذوب كالدهن. وروي: أن سماء الدنيا من حديد، فإذا كان يوم القيامة، صارت من الخضرة إلى الاحمرار، وحر جهنم كالحديد إذا حمي بالنار. ثم قَالَ بَعْضُهُمْ: الدهان: جمع الدهن، ويقال: الدهان: الأديم الأحمر، واللّه أعلم. ٣٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (٣٩) اختلف في تأويله: قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: لا يسأل إنسي ولا جني عن ذنب غيره، إنما يسأل عن ذنب نفسه؛ نحو ألا يسأل من أضل غيره عن ضلال ذلك الغير، إنما يسأل الذي أضله عن إضلاله، ويسأل الضال عن ضلاله كقوله: {رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا. . .} الآية. ومنهم من قال: لا يسأل بعض عن بعض، أي: لا يسأل جني عن ذنب إنسي، ولا إنسي عن ذنب جني، ومنهم من قال: لا يسألون سؤال استخبار واستفهام؛ أي: لماذا فعلتم؟ ولكن يسألون لم فعلتم يطلبون عن الحجة، لا عن نفس الفعل؛ لأن كل ذي مذهب ودين، إنما يفعل لحجة تكون له. ومنهم من قال: لا يسألون عن ذنوبهم، ولكن يسألون عما في وجوههم من الأعلام من الاسوداد، وزرق العيون، وغير ذلك مما ذكر في الكتاب: أنها تكون للكفار، كقوله تعالى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ}، وقوله تعالى {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ. . .} الآية، وما ذكر من أعلام المؤمنين من قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}، وقوله تعالى: {ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ}. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا يسأل الملائكة عن المجرمين؛ لأنهم يعرفون بسيماهم كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} ذكر اللّه تعالى في كتابه للمجرمين أعلاما يعرفون في الآخرة بها على ما ذكرنا من اسوداد الوجوه؛ كقوله: (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (٨) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ)، وقوله: {نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا}، أي: على أعقابها، فهو - واللّه أعلم - تكون وجوههم في بعض الأحوال خاشعة، ثم غبرة، ثم مسودة، ثم تطمس من نظر ذلك، فنعوذ باللّه من تلك الأحوال التي ذكر. ٤١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (٤١) قيل: بكسر أضلاعهم وظهورهم، فتجمع أقدامهم ونواصيهم، فيرمى بهم في النار. وقَالَ بَعْضُهُمْ: تغل أيديهم إلى أعناقهم، ثم تجمع به نواصيهم وأقدامهم، ثم يدفعون إلى النار. ٤٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) أي: إذا وقعوا على الوصف الذي ذكر عند ذلك يقال لهم: هذه جهنم التي كنتم تكذبون بها في الدنيا. ٤٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍءَانٍ (٤٤) أي: يطوفون بين جهنم وبين حميم، فيجوز أن يكون عبر بـ " جهنم " عما يأكلون، وهي النار، وبـ " الحميم " عما يشربون، كأنه يقول - واللّه أعلم -: يطوفون بين ما يأكلون، وبين ما يشربون، لا يشبعون عما يأكلون، ولا يروون عما يشربون؛ بل كلما أكلوا زادتهم جوعا، وكلما شربوا زادتهم عطشا، والحميم: هو الشراب الذي جعل لهم، والآن: هو الذي قد انتهى حره غايته ونهايته. ٤٥وقوله: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٤٥) من الناس من قال: في قوله: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} على إثر الوعيد، إنما يقال لهم في الآخرة؛ أي: بأي آلاء ربكما تكذبان في الدنيا؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ. . .} إلى قوله: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ. . .} الآية. ٤٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}، ذكر الخوف عن المقام بين يدي ربه، ولم يبين خوفه ماذا؟ ولا أنه إذا خافه تركه أو لا؟ فجائز أن يكون ما ذكر من الخوف بين يدي ربه ما بَيّنَ في آية اخرى، وهو قوله: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى}، يحتمل وجهين: أحدهما: نهى النفس عما تهواه. والثاني: منع النفس عن أن تهوى ما نهيت عنه، واللّه أعلم. وجائز أن يكون في هذه الآية بيان ما ذكر في تلك الآية من الخوف من المقام بين يدي ربه، أي: خاف مقام ربه، وترك ما هم به من المعصية، أو ما هوت نفسه. ثم لسنا نعرف ما فائدة ذكر الجنتين له ليس ذلك في ثلاث أو أربع؟ قال أهل التأويل: إنما ذكر جنتين؛ لأن الجنان أربعة: جنة عدن، وفردوس، وجنة المأوى، وجنة النعيم، فجنة العدن وجنة النعيم للمقربين والشهداء والصديقين، والجنتان الأخريان لمن دونهم من المؤمنين الذين هم أصحاب اليمين. وجائز أن يخرج على وجهين: أحدهما: أن يكون بصره إذا نظر يمينا وشمالا لا يقع إلا على جنته، لا يقع على جنة غيره، وكذلك إذا نظر من الأعلى أو من الأسفل يقع بصره على ملكه، لا يقع على ملك غيره، فليس ذلك على تحقيقٍ إخبارا عن عدد الجنتين، ولكن إخبارا أن بصره حيث يقع لا يقع إلا على ملكه وجنته، واللّه أعلم. والثاني: يكون له جنتان: إحدى الجنتين؛ لترك المساوئ، والأخرى؛ لإتيان المحاسن. وذكر الْقُتَبِيّ عن الفراء في قوله: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} قال: قد تسمي العرب الشيء الواحد باسم الاثنين إذا كان رءوس الآي ومقاطعها؛ لتحقيق الموافقة في المقاطع؛ فعلى ذلك جائز أن يكون ذكر {جَنَّتَانِ}، لموافقة مقاطع الآي، والمراد منه جنة واحدة. لكن الْقُتَبِيّ أنكر عليه ذلك، وذلك إنما يقال إذا انقطع الكلام، فأما إذا كان الكلام غير منقطع؛ فإنه لا يقال ذلك، واللّه أعلم. ثم سمى البعثَ: مقاما بين يدي ربه، وسماه: رجوعا إليه، ومصيرًا، وبروزا، فهو على وجهين: أحدهما: أنه سماه بما ذكر؛ لأن البعث هو نهاية هذ العالم. والثاني: سماه بذلك؛ لأن لكل أحد يظهر في ذلك اليوم: أن الأمر للّه تعالى، وأن التدبير له في الدنيا والآخرة، وأن لا تدبير لأحد سواه؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ للّه الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}. ثم جائز أن يكون ما ذكر من الجنتين للسابقين والشهداء على ما ذكره بعض أهل التأويل، وما ذكر من قوله: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} لأصحاب اليمين. ثم نعت ووصف ما جعل لكل فريق؛ فأما نعت ما جعل للسابقين والصديقين والشهداء ما ذكر؛ حيث قال: ٤٨(ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (٤٨) قال عامة أهل التأويل: ذواتا أغصان، ولكن ليس في هذا كثير حكمة، لكن يحتمل أن قوله: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} من الفنون، أي: فيهما من كل فن وكل نوع. وقال مقاتل: ذلك في الجنتين اللتين جعلهما لأصحاب اليمين مدهامتين، والمدهم: هو الذي تضرب خضرته -لشدته- إلى السواد، وهو دون الأول في الوصف؛ إذ لم يصفهما إلا بصفة واحدة، ووصف تينك الجنتين بالفنون، ٥٠وقال في تينك: (فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (٥٠) وقال أصحاب اليمين: {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ}، والناضخ: هو الذي لا يتبين جريانه، ووصف تينك بالجريان، والنضخ دون الجريان. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: {نَضَّاخَتَانِ}، اللتان تفوران بالماء، والنضح دون النضخ، وهو الرش، وقال في جنتي السابقين: ٥٢(فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (٥٢) أي: صنفان، أو لونان، من أي شيء كان، وقال في جنتي أصحاب اليمين: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ}، ذكر أشياء معدودة، وغمر الأشياء في تينك؛ حيث قال: {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} لتفضيل أُولَئِكَ على هَؤُلَاءِ. وجائز أن يذكر في كل واحدة منهما حكمة على حدة: قوله: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} ما ذكرنا أن فيهما من كل فن وكل نوع، وقوله: {فِيهِمَا عَيْنَانِ}، إحدى العينين هي العين المعروفة الموعودة، والأخرى التي لا يعرفون ولا يوعدون، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} أي: صنفان ولونان على غير تغير الطعم، ولا فساد يدخل في ذلك؛ لأن تغير اللون في الدنيا لا يكون للفواكه إلا بعد دخول فساد فيها، فيخبر أن تغير لونه لا لفساد يدخل في ذلك، واللّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما ذكر الزوجين من الفواكه؛ لما أن قلوب البشر قد خطرت بأحد الزوجين وتمنته أنفسهم، والزوج الآخر هو لطف اللّه تعالى على عباده؛ فضلا منه إليهم من غير أن يخطر على بالهم، ولا وقعت عليه أبصارهم، ولا انتهت إليه آمالهم؛ إكراما لهم بها وامتنانا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ليس المراد في هذه الآيات تبيين ما لأهل الجنة، ولكن فيه تبيان فضل السابقين على أصحاب اليمين: أن أُولَئِكَ يعطون من الفضل ضعفي ما أعطي هَؤُلَاءِ، واللّه أعلم. ٥٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (٥٤) قال الفراء: يجوز أن تكون البطانة والظهارة جميعا من شيء واحد، ومن جهة واحدة، لكن سمي الجهة التي تلي أجسادهم بطانة، والأخرى: ظهارة، كالسماء؛ أن الجهة التي تلي الملائكة هي بطانتهم، وظهارتنا، وما تلينا ظهارتهم وبطانتنا، وكل شيء يلي إنسانا فهي بطانة، والجانب الذي لا يليه ظهارة، يقال: هذا ظهر السماء، للجانب الذي نراه، والآخر: بطن السماء، واللّه أعلم. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: لا، ولكن ذكر البطانة من إستبرق، ولم يذكر الظهارة، والعرف في الناس: أن ظهارة فرشهم أنفس من البطانة، والبطانة دون الظهارة، فعلى ذلك في ذكر البطانة ووصفها بأنها من الإستبرق دلالة أن ظهارتها أرفع وأنفس من البطانة. لكن ما قاله الفراء صحيح، وما ذكره الْقُتَبِيّ هو من صنيع الناس في الدنيا من اتخاذ الظهارة فوق البطانة؛ لما لا تحتمل أملاكهم التسوية بين ما بطن وما ظهر في النفاسة والرفعة، فأما اللّه - سبحانه وتعالى - فلا نفاد لخزائنه، يفعل ما يشاء كيف شاء. وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قال: قد أخبرتم بالبطائن فكيف بالظهارة؟ ثم الإستبرق اختلف فيه: قيل: هو ما غلظ منه بلسان قوم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو ما دق ورق، واللّه أعلم. ولا نفسره نحن: أنه ما هو؟ وكيف هو؟ ولكن نعلم أنه شيء وعد لهم ربهم، وهو شيء ترغب فيه أنفسهم، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} جائز أن يكون ذكر هذا في حق السابقين الذين سارعوا في الخيرات، واستبطئوا ما وعد لهم بما لم يروا لطاعاتهم قيمة، ويغلبهم خوفهم في التقصير في العمل للّه تعالى الواجب عليهم، وفي أوامره ونواهيه، فقال: {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ} اللتين وعد لكم {دَانٍ}، قال أهل التأويل: أي: الشجر دان منهم، قربت حين يتناولها الرجل كيف شاء، لكن يذكر هنا - واللّه أعلم -: أن الجنتين وإن بعدتا، فإن الثمار منهم دانية. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: الجني: الحمل، وأجنت الشجرة تجنى؛ إذا حملت وأدرك حملها. ٥٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (٥٦) أي: قصرن طرفهن على أزواجهن، ولا ينظرن إلى غيرهم، ولا يشتهينهم، وقال في آية أخرى: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ}، ذكر هذا؛ لأن أهل الدِّين يكونون من أهل غيرة، لا يريدون أن تنظر أزواجهم إلى غيرهم، ولا غيرهم ينظرون إليهن، فأخبر بالآيتين: أنهن لا ينظرن إلى غير أزواجهن، ولا غيرهم إليهن؛ حيث وصفهن بأنهن قاصرات مقصورات في الخيام. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ}، قرئ: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ} بضم الميم وكسره. قال الفراء: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ}، أي: لم يقبضهن، والطمث: النكاح بالرومية. وقال أهل التأويل: لم يجامعهن إنس قبلهم ولا جان. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: أي: لم يمسسهن إنس في التربية كما يربى الأولاد، ولا جان على ما تمس الجن الأولاد فيفسدوهم، ولكنهم كما وصف: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً. فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا. عُرُبًا أَتْرَابًا. لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ. ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ}. ٥٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (٥٨) قال أهل التأويل: شبههن بالياقوت؛ لصفائهن، وبالمرجان؛ لبياضهن، وهو كما قالوا، واللّه أعلم. ٦٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (٦٠) قيل: هل جزاء الإحسان في الدنيا إلا الإحسان لهم في الآخرة؟ أي: هل جزاء فعل الحسن في الدنيا إلا إعطاء الحسن في الآخرة، وهي الجنة. ولكن غيره كأنه أقرب، أي: هل جزاء إحسان اللّه تعالى بما أنعم عليهم في الدنيا إلا الإحسان له بالشكر والقبول، أي: الإتيان بفعل الحسن، وهو الشكر له، وحسن القبول؛ لأنه ليس يستوجب أحد قِبَلَ اللّه تعالى بإحسانه في الدنيا جزاء في الآخرة، إنما الجزاء لهم بحق الفضل والإنعام، لا بحق الاستحقاق. ويحتمل أن يكون تأويله: هل جزاء الإحسان في الدنيا إلا الإحسان له في الآخرة، واللّه أعلم. واستدل أبو يوسف ومُحَمَّد - رحمهما اللّه - بهذه الآية على أن للجن ثوابا؛ كما للإنس؛ فإنه جرى الخطاب من أول السورة إلى آخرها للجن والإنس من قوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ}، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ}؛ فعلى ذلك يشتركون في الوعد والوعيد. لكن أبو حنيفة - رحمه اللّه تعالى - يقول: لا ثواب للجن في ذلك من نحو الفواكه والسفن الجواري؛ فعلى ذلك ما ذكر من الثواب لهم يجوز الثواب، وللجن يجوز العين، واللّه أعلم. وقد ذكرناه في غير هذا الموضع. ٦٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} فإن كانت الجنتان اللتان سبق ذكرهما للسابقين والصديقين، فهاتان اللتان ذكرهما هاهنا لأصحاب اليمين، على ما ذكره بعض أهل التأويل؛ فجائز أن يكون قوله: {وَمِنْ دُونِهِمَا} أي: في الفضل والقدر والمنزلة؛ لفضل أُولَئِكَ على أصحاب اليمين. وإن كانت الجنتان جميعا لكل فريق منهم؛ فجائز أن يكون قوله: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} في المكان والموضع، لا في الفضل والقدر؛ فكأنه قال: من أي جهة وقع بصرهم يقع في جناتهم، من فوق ومن تحت، وعن يمين وشمال؛ أي يكونون وسط الجنات لا يحتاجون إلى التحويل من مكان إلى مكان؛ كقوله تعالى: {لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا}، وعلى هذا يخرج قوله تعالى: ٦٤(مُدْهَامَّتَانِ (٦٤) على ما ذكرنا هو شديد الخضرة الذي يضرب إلى السواد، فوصف هاتين دون وصف تينك الجنتين بقوله تعالى: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ}، على التأويل الأول، وكذلك قوله تعالى: ٦٦(عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (٦٦) على ما ذكرنا: أنهما دون الجاريتين، وكذلك روي عن الفراء قال: العينان تجريان أفضل من النضاختين بقوله: {نَضَّاخَتَانِ}؛ لأنهما ينضخان بالخمر والبركة لأهل الجنة. وقيل: ينضخان بالماء وأنواع الفواكه. وروي عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قال: تنضخان بالمسك والعنبر، كما ينضخ طير الماء على بيوت أهل الدنيا. ٦٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) من الناس من احتج لأبي حنيفة - رحمه اللّه - فيمن حلف لا يأكل فاكهة، فأكل رمانا، لا يحنث في يمينه؛ لأنه احتج بهذه الآية في أن الرمان والرطب ليسا من الفاكهة؛ لأنه عطفهما على الفاكهة، والشيء لا يعطف على نفسه، إنما يعطف على غيره، هذا هو ظاهر الكلام، إلا أن تقوم الدلالة على أنه مراده بالذكر وإن كان من جنسه؛ لضرب من التعظيم وغيره؛ كقوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا للّه وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ}، واللّه أعلم. ٧٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (٧٠) قيل: الحسان الخلق وحسان الوجوه، يقال: امرأة خيرة، ونسوة خيرات؛ يقرأ بالتثقيل والتخفيف جميعا. وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قال: لكل مؤمن خيرة، ولكل خيرة خيمة. ٧٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (٧٢). قيل: محبوسات في الخيام، لا يخرجن عن الخيام. وأصله: ما ذكرنا أنهن يكن في الخيام لا يراهن غير أزواجهن، وقاصرات الطرف، أي: لا يرفعن بصرهن إلى غير أزواجهن ولا يشتهين غيرهم، واللّه أعلم. ٧٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (٧٦) هو قراءة العامة بغير الألف. وعن عاصم الجحدري {رَفَارِفَ} و (عباقريّ)، قيل: الرفرف: المجلس، وقيل: المجالس، وقيل: الرياض الخضر، وقيل: الخيام، وقيل: هو فضول الفرش والبسط. وأما العبقري: قيل: هو الزرابي، وهو بالفارسية: النَّخّ. وقال أبو عبيدة: العبقري: الطنافس الثخان، وقيل لكل شيء من البسط: عبقري. وقَالَ الْقُتَبِيُّ وأَبُو عَوْسَجَةَ: العبقري في غير القرآن ثياب تتخذ بعبقرى، وهي بلدة، فينسب إليها. ٧٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (٧٨) قال أبو بكر الأصم: تنزه اسم ربك من أن يستحق غيره اسمه. وقوله: {ذِي الْجَلَالِ}، أي: استحق على الخلق أن يجلوه ويعظموه من أن يسموا غيره باسمه، والإكرام: هو أن يلحقوا به ما لا يليق به من الولد والشريك وغيره. فَإِنْ قِيلَ: ما فائدة تكرار قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}، فبأي آلاء ما في السماوات والأرض تكذبان في الدلالة على وحدانية اللّه تعالى والشهادة له بأنه خالقه، ومرسل رسله، وما جاءت به عنه، وذلك أن جميع ما فيهما من المال والطعام والشراب، على ما ذكرنا، وذلك كما يقول الرجل لآخر يلومه ويعاتبه: ألم تكن جائعا فأطعمتك؟! أفتنكر هذا؟! ألم تكن ظمآنا فسقيتك؟! أفتنكر هذا؟! ونحو ذلك. وجائز أن تكون فائدة التكرار غير هذا، وهو أنه خرج مخرج العظة والتذكير، ومن شأن الموعظة والذكرى التكرار والإعادة؛ لتكون أنجع وآخذ للقلوب، وأقرب إلى القبول، واللّه أعلم بالصواب. * * * |
﴿ ٠ ﴾