سُورَةُ الْوَاقِعَةِوهي مَكِّيَّة بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ١قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} هذا مما لم يبتدأ به الخطاب، وإنما هو جواب سؤال وخطاب لم يذكر؛ فيحتمل أن يكون المؤمنون ذكروا كراماتهم التي وعدوا في الآخرة، فقال لهم أُولَئِكَ الكفرة: متى يكون ذلك لكم؟ فقالوا: إذا وقعت الواقعة؛ كما يسأل الرجل: متى يكون أمر كذا؟ فيقول: إذا كان كذا، فهو حرف جواب لسؤاله، وعلى هذا يخرج جميع ما ذكر في القرآن من هذا النوع؛ من نحو قوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا}، ونحو ذلك، وقوله: {الْوَاقِعَةُ} كناية عنها، جائز أن يكون تأويله: إذا وقعت المثوبة والعقوبة؛ فتكون الواقعة كناية عنها. وجائز أن تكون الواقعة: اسما من أسماء البعث: كالقيامة والساعة، وغير ذلك، واللّه أعلم. ٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (٢) قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: ليس لوقعتها مَثْنَويَّة ولا ترداد، يقال: حمل عليه فما كذب، أي: فما رجع. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: هي حق، ليست بكذب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: لا يكذب بها أحد إذا وقعت، ليست كالآيات التي عاينوها في الدنيا مع ما عرفوا أنها آيات كذبوها؛ كقوله تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ}، وغير ذلك يكذبونها مع العلم بأنها آيات، يقول تعالى: إذا عاينوا القيامة يقرون بها؛ ويصدقونها، ولا يكذبون بها؛ كقوله: {أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}، ونحوه. ويحتمل أن يكون قوله: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ}، أي: ليست الأنباء والأخبار التي جاءت على وقوعها وقيامها كاذبة بل هي صادقة. ٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (٣) قَالَ بَعْضُهُمْ: خافضة: تسمع القريب، رافعة: تسمع البعيد؛ وقال صاحب هذا التأويل: إن تفسير الواقعة هو الصيحة، وتلك خافضة رافعة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: خافضة أناسا في النار ورافعة أناسا في الجنة. ويحتمل خافضة لمن تكبر وتعظم على الخلق ورده، ورافعة لمن تواضع للخلق وانقاد له وقبله. وقيل: خافضة لأهل النار في النار، كقوله تعالى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ}، ورافعة لأهل الجنة، كقوله: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ}، وقوله: {لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ}. ٤وقوله: - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤) يخرج على السؤال، كأنهم لما سمعوا وصف القيامة والواقعة من المؤمنين، فقالوا عند ذلك: متى تكون الواقعة؟ فعند ذلك قال: {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا}، وهو كقوله: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا}، فزلزلت حتى تلقي ما في بطنها. ٥وقوله - عزَّ وجلَّ -: (وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (٥) قيل: فتتت حتى تصير كالدقيق، ومنه يقال للطعام المبسوس والبسيسة: سويق يلت به الزيت والخلط. وقال الحسن: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ} أي: سيرت تسييرا. ٦وقوله: (فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (٦) قيل: الهباء: الذي يكون فوق النار إذا خمدت، لا يكون غيره {مُنْبَثًّا}؛ أي: متفرقا. وقيل: {هَبَاءً مُنْبَثًّا} أي: ترابا. وقيل: الهباء المنبث، هو ما يسطع من سنابك الخيل. وقيل: الهباء: الغبار الذي تراه في الشَّمس إذا دخلت من الكوة؛ يخبر تعالى عن شدة ذلك اليوم وهوله أنه يفعل بالجبال كذا مع صلابتها وطاعتها للّه تعالى، فكيف يفعل بكم يا بني آدم مع ضعفكم ومعصيتكم، واللّه أعلم. ٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (٧) أي: أصنافا ثلاثة: ما فسر عقيبه؛ حيث قال: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ. وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ. وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} الآية. وقيل: الأصناف الثلاثة: المكذبون، والمصدقون، والسابقون. ٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (٩) يحتمل وجهين: أحدهما: أصحاب الميمنة من اليمن، وأصحاب المشأمة من الشؤم. والثاني: سموا: أصحاب الميمنة؛ لأنهم أصحاب اليمين، وهي التي تستعمل في الطيبات، والكفرة أصحاب الشمال؛ لأنهم أصحاب الخبائث، والشمال تستعمل في الخبائث. وهو كقوله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ}؛ لأن في كتبهم طيبات وخيرات، وفي كتب الكفرة خبائث فتؤتى بشمالهم. وقيل: أصحاب الميمنة والمشأمة؛ لما ذكر اللّه تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ.فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا}، وقوله: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ. . .}، فكذا؛ فكل من أوتي كتابه بيمينه فهو من أصحاب اليمين، ومن أوتي كتابه بشماله فهو من أصحاب الشمال. ١٠وقوله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ ... (١٠) يحتمل وجهين: أحدهما: السابقون في الخيرات، يسبقون الناس في كل خير. والثاني: السابقون في الإجابة للّه ورسوله إلى ما دعاهم إليه. ثم جائز أن يكون الخطاب به للناس كافة: الأولين والآخرين؛ فيكون جميعهم أصنافا ثلاثة: السابقون، وأصحاب اليمين، وأصحاب الشمال. وجائز أن يكون الخطاب بهذه الآية لهذه الأمة: ففيهم السابقون، وفيهم أصحاب اليمين، وهم أصحاب النظر في الحجج والآيات والتأمل فيها وفيهم أصحاب الشمال، وهم الكفرة. وقوله تعالى: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} على التعجب لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بما يكرمهم، أو على التعظيم لأُولَئِكَ لعظم منزلتهم. وكذلك قوله: {وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} يخرج على هذين الوجهين: على التعجب والتعظيم لما يحل بهم. وقوله: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} يخرج على هذا أيضا: فلان ما أمر فلان، فيقال: فلان فلان؛ على تعظيم أمره وشأنه. ثم في قوله تعالى: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً} دليل لقول أصحابنا - رحمهم اللّه - في جعلهم الكفر كله ملة واحدة؛ لأنه جعل اللّه تعالى الكفرة على اختلاف مذاهبهم وأديانهم زوجا، وأهل الإسلام زوجين، حيث جعل الكل أزواجا ثلاثة، واللّه أعلم. ١١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) يحتمل أن يكون وصف القرب لهم لمسابقتهم في الخيرات في الدنيا. ويحتمل: أنهم مقربون في الآخرة والمنزلة، لسبقهم في الخيرات، أو: في الإجابة، والسبق فعلهم، والتقريب بلطف من اللّه تعالى وفضل منه، واللّه أعلم. ١٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢) جميع الجنات نعيم؛ لأن فيها نعيما، وله أن يسمى واحدة منها: نعيما، والأخرى: عدنا، والفردوس والمأوى، يسمى ما شاء بما شاء وكيف شاء. ١٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤) اختلف في ذلك: قال بعضهم: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ} ممن شهد رسول اللّه، وقربوا منه، {وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} ممن بعد من هذه الأمة من رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بنفسه وإدراك زمانه، وقليل من المقربين من الآخرين، وهو ما ووي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " خير الناس قرني ثم الذين يلونهم "، وعلى ذلك قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ}، على ما يذكر، واللّه أعلم. ومنهم من قال: {مِنَ الْأَوَّلِينَ}، أي: جماعة من المؤمنين الذين كانوا في الأمم الماضية، {وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} أي: من هذه الأمة، وهكذا يكون عدد أهل الإيمان من هذه الأمة مع الأمم الماضية يكون هَؤُلَاءِ أقل منهم. ويحتمل - أيضا - أن السابقين المقربين من الأمم السابقة أكثر من السابقين المقربين من هذه الأمة؛ لأن الأنبياء - عليهم السلام - كلهم من الأمم السالفة. وقال أهل التأويل لما نزلت: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ}، وجد أصحاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وجدا شديدا، وقالوا: لن يدخل الجنة منا إلا قليل؛ فنزل قوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ}. لكن هذا لا يحتمل؛ لأنه خبر، ولا يرد في الأخبار نسخ، وما قالوه لا يصح، والوجه فيه ما ذكرنا. ويحتمل قوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ}، هم أصحاب اليمين من الأولين والآخرين، وهم جماعة كثيرة من الأولين، وجماعة كثيرة من الآخرين في المقربين خاصة، واللّه أعلم. ١٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥) وقال في آية أخرى: {عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ}، والسرر قد تكون في الدنيا مصفوفة، ولكن لا تكون موضونة؛ أي: منسوجة؛ والوضن -هو النسج- لا يكون بين السرر في الآخرة انفصال ولا فروج، كما يكون في الدنيا، لكن موصولة بعضها ببعض. ١٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا ... (١٦) أي: على السرر التي ذكر أنها مصفوفة موضونة. وقوله: {مُتَقَابِلِينَ}، أي: يقابل بعضهم بعضا، ولا يرضون، ولا ينظر بعضهم إلى بعض باحتقار كما يجعل أهل المجالس في الدنيا يعرض بعضهم عن بعض ويحقر بعضهم بعضا يخبر أنهم يكونون في الآخرة خلاف ما في الدنيا، لا يتأذى بعض من بعض بوجه ما. ١٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) فيه أنهم يعطون في الجنة ما يستحبون في الدنيا من الشرف وطواف الولدان، وكذلك ما ذكر من السرر والفرش، وغير ذلك من أنواع ما ترغب أنفسهم فيه. ثم ذكر أنهم ولدان، وإن لم يكن في الجنة ولاد؛ فهو يخرج على وجهين: أحدهما: أن يكونوا على هيئة الولدان وإن لم يولدوا. والثاني: سماهم: ولدانا؛ لولادهم في الدنيا وإن لم يولدوا في الجنة؛ لأن التوالد في الدنيا لحاجة البقاء وأهل الجنة باقون. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مُخَلَّدُونَ} قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: المقرطون، والخَلَدَة: القرط، وجمعه: الخِلَدَة. قَالَ بَعْضُهُمْ: هو من الخلود، كقوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا}، أي: باقون. وقيل: مسورون من السوار. ١٨وقوله: (بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨) الأكواب: هي الكيزان المدورة الرءوس التي لا عرى لها، والأباريق التي لها عرى وخراطيم، وهم يسمون الأكواب: القداح التي يشربون بها؛ لأن في الدنيا يكون لأهل الشراب الأباريق والأقداح يصبون من الأباريق في القدح، ويشربون ولا يشربون من الأباريق، فعلى ذلك وعدوا في الجنة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ}: الكأس: هو القدح المملوء من الشراب. وأما المعين: قَالَ بَعْضُهُمْ: هو الظاهر من الماء، يقع عليه البصر، فوعد لأهل الجنة ذلك، واللّه أعلم. ١٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (١٩) قرئ بكسر الزاي ونصبه؛ أي: لا تصدع خمورهم في الجنة رءوسهم كما تصدع خمور الدنيا أهلها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا يُنْزِفُونَ} قيل: بكسر الزاي: لا ينفد شرابهم، وبالفتح: لا يسكرون؛ فيه أنه ليس في خمورهم الآفات التي تكون في خمور الدنيا من ذهاب العقل، والصداع، والنفاد. ٢٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) جميع فواكه الجنة مختارة، لكن يخرج على وجهين: أحدهما: أن جميع فواكهها مما يتخيرون. والثاني: العرف في الفواكه أن تقدم من أجناس مختلفة وألوان، لا من لون واحد ونوع واحد، فيتخيرون من أي نوع اشتهوا أو شاءوا. ٢١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١) إن أهل الجنة إنما يتناولون ما يتناولون على الشهوة، لا على الحاجة وسد الجوع، وهو كما ذكر: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ}. ٢٢-٢٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) يحتمل تشبيه الحور العين باللؤلؤ وجهين: أحدهما: لما لا شيء أصفى من اللؤلؤ والياقوت، فضرب مثلهن بذلك؛ لصفائه وبياضه، وإلا ما خطر اللؤلؤ حتى يشبه الموعود في الجنة من الجواري به؟!. والثاني: أن للؤلؤ فضلا ومنزلة عند العرب، وليس الخطر لغيره من الأشياء، فيشبه ضرب مثلهن به لفضل خطر ذلك عندهم، ليس ذلك لغيره، وهو كقوله تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللّه فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ}، ضرب مثل من يشرك باللّه بالذي يخر من السماء، والشرك باللّه أعظم مما ذكر، لكن ليس شيء أعظم وأبعد من الخر من فوق السماء السابعة؛ فعلى ذلك الأول، واللّه أعلم. ٢٤وقوله: (جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) إن اللّه تعالى ذكر للأعمال جزاء كأنهم عملوا له فضلا منه وكرما في حق عباده، وإن كانوا في الحقيقة عاملين لأنفسهم؛ كقوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ}، وكذلك ما ذكر من شرائه أنفسهم وأموالهم منهم، وما ذكر من الإقراض في قوله تعالى: {وَأَقْرِضُوا اللّه قَرْضًا حَسَنًا}، وإن كانت أنفسهم وأموالهم له، وإن كان عامَلَ عباده في أنفسهم وأموالهم كأنها ليست له، فضلا وكرما؛ فعلى ذلك ذكر لأعمالهم جزاء؛ كان منهم إلى اللّه - تعالى - صنعا وإحسانا، وإن كانوا عاملين لأنفسهم ومنافع أعمالهم ترجع إليهم بفضله وكرمه، واللّه أعلم. ٢٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (٢٥) هذا يرجع إلى وصف خمور أهل الجنة؛ أي: ليس فيها الآفات التي تكون في خمور الدنيا من ذهاب العقل، وقول اللغو، والهذيان، مثل ما يجري على ألسنتهم في الدنيا حين يشربون الخمور، وما يأثمون به، وذكر لهم هذه الخمور في الجنة؛ لأن قوما يرغبون فيها في الدنيا، فوعد لهم؛ ليرغبوا فيها فيطلبوها بالامتناع عن شربها في الدنيا من الخمور المحرمة، واللّه أعلم. ٢٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (٢٦) يخرج على وجهين: أحدهما: أي: إلا كلاما فيه سلامة عن جميع الآفات التي ذكر. والثاني: {إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} أي: يحيي بعضهم بعضا بالسلام؛ كقوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ}. ٢٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩) أصحاب اليمين هم المؤمنون على ما ذكرنا. ثم اختلف في ذكر شجر السدر لهم، وما ذكر من الطلح، وغير ذلك. فمنهم من قال: إنما ذكر هذا لهم لتفضيل المقربين على أصحاب اليمين؛ لأنه قال في المقربين: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ. . .)، إلى آخر ما ذكر من عظيم الكرامات التي ذكر لهم، ثم ذكر لأصحاب اليمين دون ذلك؛ ليعلم تفضيل المقربين على أصحاب اليمين. ومنهم من قال: إن قوما من العرب ينتفعون بذلك؛ لأن لها ثمرة، لكن ليست بمرغوبة، ولها شوك، فأخبر اللّه تعالى أن لهم في الجنة ذلك بلا شوك ولا أذى؛ بل رغب فيه، وهو كما وعد لهم من الخمور، ثم نفى عن خمورها الآفات؛ فعلى ذلك جائز أن يكون شجر السدر فيها بغير آفات، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ}، منهم من قال: هو طلع منضود متراكم؛ كما ذكر في آية أخرى {طَلْعٌ نَضِيدٌ}، ذكر في إحدى الآيتين فعيل، وفي الأخرى مفعول، وذلك جائز في اللغة. وقيل: طلح: بالحاء: هو الموز. وذكر أن عليا - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - سمع قارئا يقرأ: {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ}، فقال علي - رضي اللّه عنه -: ما شأن الطلح؟ إنما هو طلع؛ فقيل له: إن في المصحف {وَطَلْحٍ} أفلا نغيره؟ فقال: إن المصحف لا يغير اليوم؛ وهذا يؤيد التأويل. وقال أبو معاذ: الطلح في كلام العرب: شجر عظام، كثير الأغصان، واحدها: طلحة، وقال مخضود: أي: مقطوع الشوك؛ خلقت هنالك هكذا بلا شوك، ومنه قوله - عليه الصلاة والسلام - في شجر الحرم: " لا يخضد شوكها، ولا يعضد شجرها ". ٣٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) يصف أنه ليس فيها شمس يؤذي حرها، ولا برد يؤذي، بل ظل؛ لأن الظل شيء لطيف لا أذى فيه، ولا شيء يثقل على الأبدان؛ بل هو شيء يوافق البدن، ويخف عليه. وقيل: ممدود؛ لأنه لا شمس فيها فتنسخه، وبالشمس يعرف الظل هاهنا، وظل الآخرة ممدود أبدا. ٣١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (٣١) قيل: جار غير منقطع؛ وهو قول الْقُتَبِيّ. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: أي: مصبوب. والأول كأنه أقرب؛ أي: جار أبدا، ليس كمياه الدنيا؛ إلا أن يراد بالانصباب صبه من الأعلى إلى الأسفل، وذلك مما رغب إليه في الدنيا. ثم قوله: {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ} جائز أن يكون ذكر هذا لأصحاب اليمين، وما ذكر من قوله تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللّه}، وقوله: {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ}؛ فيكون للمقربين قوله: {عَيْنًا يَشْرَبُ}، ولأصحاب اليمين {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ}، وكذلك ما ذكر من {جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}، للمقربين يكونون في العليين، وتكون الأنهار تحتهم، وما ينسكب وينصب من الأعلى لأصحاب اليمين؛ لأنهم يكونون دونهم في الدرجة، واللّه أعلم. ٣٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لَا مَقْطُوعَةٍ ... (٣٣) كانقطاع فواكه الدنيا، يخبر أنها لا تنقطع في الجنة في وقت من الأوقات، وأنها كلما قطعت مرة خرجت أخرى مكانها بهيئة الأكل من غير أن يحتاج فيه إلى وقت النضج كما في الدنيا تنقطع من وقت خروجها إلى وقت نضجها، وبعد النضج والإدراك تنقطع إلى وقت وجود حمل آخر. ٣٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - ": {وَلَا مَمْنُوعَةٍ} أي: لا آفة بها تصير ممنوعة؛ كفواكه الدنيا، إذ هي ربما تمتنع بآفة تصيبها. وقَالَ الْقُتَبِيُّ وأَبُو عَوْسَجَةَ: {لَا مَقْطُوعَةٍ} أي: لا تحبس، كما يمنع في الدنيا بعضهم من بعض. ٣٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤) أي: مرفوعة القدر والمنزلة، أو مرفوعة بنفسها في القيامة، وهو ما ذكرنا في قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا}، وقيل: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} مرفوعة النساء، يقال: امرأه فريش ونساء فرش. ٣٥وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (٣٥) قال: الأصم وغيره: إن هذا صلة قوله: {وَحُورٌ عِينٌ. كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ}، كأنه قال على أثره. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: إنه لما ذكر على إثر قوله: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ}: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ} دل أن الفرش كناية عن الأزواج؛ إذ هن اللؤلؤ يفرش وواحدة الفرش: فريش. وقيل: قد استفرشت الناقة إذا اشتهت العمل. والأشبه أن يكون هذا على صلة {وَحُورٌ عِينٌ. كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ}،؛ إذ ذكر في قوله {وَحُورٌ عِينٌ} على أثر ذكر أثر المجالس والزوجات لا معنى لذكرهن في هذا الموضع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} أي: أنشأناهن في الابتداء على هيئة الاستمتاع ليس كنساء الدنيا، وهو كما ذكرنا في قوله في صفة الفواكه: إنها غير مقطوعة ولا ممنوعة؛ أي: إنها تخرج أول ما تخرج على هيئة الأكل، لا كثمار الدنيا. ٣٦-٣٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (٣٦) عُرُبًا أَتْرَابًا (٣٧) قيل: أي: خلقناهن كذلك، ويكن أبدا كذلك، كلما ذهبت عذريتهن عادت؛ فيكن أبدا على تلك اللذة؛ لأنهن أنشئن هكذا، واللّه أعلم. وقال عامة أهل التأويل في قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا. عُرُبًا أَتْرَابًا} أي: خلقنا نساء الدنيا من الثيبات والأبكار خلقا جديدا سوى الخلق الذي كان في الدنيا، {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا}، وكن في الدنيا عجائز وثيبات، وروي على ذلك خبر عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إن ثبت - أنه قال في قوله: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً}: " الثيب والبكر ". وفي بعض الأخبار قال: " إن العجوز لا تدخل الجنة ". ثم قوله: {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا. عُرُبًا أَتْرَابًا} من قال: هو صلة قوله: {وَحُورٌ عِينٌ}، هو لسِنِّ نساء الدنيا، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {عُرْبًا أَتْرَابًا} بجزم الراء مخففة ومضمومة. وقال أبو عبيد: تقرؤها بالضم لوجهين. أحدهما: التفخيم. والثاني: أنها أقيس في العربية؛ لأن واحدها: عروب، مثل: صبور وصبر، وشكور وشكر وأما الوجه الآخر التخفيف. وقيل في تأويل: {عُرُبًا}: عاشقات لأزواجهن. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: العروب: المراحة. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: هي المتحببة إلى زوجها. وقيل: الغنجات لأزواجهن. وقيل: إن أهل مكة يسمونها: العربة، وأهل المدينة الغنجة، وأهل العراق: الشكلة. وقال سعيد بن جبير: عربا: ضبعات، والضبعات: هي التي تعرض للزوج من الشهوة، ويقال للناقة إذا اشتهت الضراب: ضبعة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَتْرَابًا}، أي: مستويات الأسنان. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الترب واللدة واحد، وهو بالفارسية: همزاد. وأصله: أنهن أنشئن بلا ولاد يتقدم ويتأخر كما يكون في الدنيا يتفاضلن في الأسنان؛ فصرن في الآخرة أترابا. ٤٠ثم قال: (وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠) قد ذكرنا تأويله: أنه يخرج على الوجهين: وروي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " هما جميعا من أمتي "، وكذلك تأويل قوله تعالى: (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ). ٤١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ}، وذكر في أصحاب اليمين مثله من التعجب، وأخبر عما يكرمهم ويعطيهم من أنواع النعم، وذكر أصحاب الشمال، وذكر على إثره ما أعد لهم من العذاب والهوان بقوله: {سَمُومٍ وَحَمِيمٍ. . .} الآية، ثم ذكر في أول السورة أصحاب الميمنة والمشأمة، ولم يذكر لهم الثواب ولا العذاب؛ وذلك - واللّه أعلم - لأن في ذكر الميمنة والمشأمة دلالة ما لهم؛ لأن الميمنة من اليمن، والمشأمة من الشؤم، ففي ذكر ذلك بيان ما لهم من الكرامات، وما لأُولَئِكَ من العقوبات، وليس في ذكر اليمين والشمال بيان العقاب؛ فذكر على أثر ذلك؛ ليعرف ما لكل فريق من الجزاء، واللّه أعلم. ٤٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) قيل: السموم: هو فيح جهنم، والحميم: هو الذي قد انتهى حره غايته. وقيل: السموم: هو حر النار. وقيل: هو ريح باردة. وقيل: ريح حارة. وأصله: أنه لما أصابهم السموم، اشتد بهم العطش، فعند ذلك يشربون الحميم؛ رجاء أن يسكن به عطشهم، ويذهب ذلك عنهم، فلا يزداد لهم بذلك إلا شدة عطش على ما كان، واللّه أعلم. ٤٣وقوله: (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) قيل: هو دخان أسود. وقَالَ بَعْضُهُمْ: اليحموم: هو من الحميم. وقال أبو بكر: أي: ظل من بخار يجعل اليحموم بخارا. ثم الظل الذي ذكر هاهنا يحتمل أن يكون هو الظل الذي ذكر في قوله: {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ}، وقوله: لهم ظلل من النار. وقيل: هو السرادق من النار. ٤٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (٤٤) {لَا بَارِدٍ}؛ لأنه من النار {وَلَا كَرِيمٍ}؛ لأنه لهوانهم ليس للكرامة. وقال الحسن وقتادة: {لَا بَارِدٍ} المنزل، {وَلَا كَرِيمٍ} المنظر. ٤٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥) أي: هذا الجزاء لهم؛ لأنهم كانوا يقولون في الدنيا: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}، وإنما قال ذلك مترفوهم دون السفلة والأتباع؛ لقوله تعالى: {إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}. ٤٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ}، أي: على الإثم العظيم، وهو الشرك. وقيل: الحنث العظيم: الكبائر، والإصرار: هو الإدامة عليها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يصرون على أنهم يقسمون ويحنثون فيه؛ كقوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللّه جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللّه مَنْ يَمُوتُ}، أقسموا: أنهم لا يبعثون، فحنثوا في ذلك؛ لأنه تعالى أخبر أنهم يبعثون؛ حيث قال: {بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا}. ويحتمل أن يكون قسمهم ما ذكر: {وَأَقْسَمُوا بِاللّه جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا}، وقوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللّه جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ}، وقد جاءهم النذير، فلم يكونوا أهدى، وجاءتهم الآيات، فلم يؤمنوا بها، فحنثوا فيها، فإن كان قسمهم بأنهم لا يبعثون حنثوا حين فراغهم من اليمين؛ لأنهم أيسوا عن ذلك. وفيه دلالة لصحة مذهب أصحاينا: أن من حلف: للمس السماء، أنه يحنث عند فراغه من اليمين. ٤٧ثم قوله: {إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ} يخرج على وجهين: أحدهما: أي: يجمع الأولين والآخرين في التخليق؛ أي: جمع بين الأولين والآخرين في التخليق؛ حيث خلق الآخرين على إثر الأولين، وإلا لم يكونوا وقتما قال: {لَمَجْمُوعُونَ}؛ إذ الآخرون لم يكونوا مخلوقين بعد. والثاني: مجموعون في الأرض، أي: في القبور {إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}. ٥١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) بآيات اللّه الدالة على توحيده، ورسله، والبعث. ٥٢وقوله: (لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) أخبر أن المكذبين يكونون آكلين من شجر الزقوم؛ فيكون كما أخبر. ثم شجرة الزقوم: هي التي ذكر {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ. طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ}، وقد ذكرنا تأويله في موضعه. ٥٣وقوله: (فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) يخبر أن ليس لهم مما يأكلون ويشربون إلا امتلاء البطون، لا يدفع عنهم ما يأكلون من الزقوم وغيره الجوع، ولا ما يشربون من الحميم العطش عنهم، بل يزداد لهم بذلك جوع وعطش على ما كان، واللّه أعلم. ٥٤-٥٥وقوله: (فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥) قيل: الهيم: هو إبل يأخذه الداء، فيشرب حتى يملأ البطن، فلا يروى أبدا؛ للداء الذي فيه؛ فعلى ذلك أهل النار يشربون ويأكلون حتى تمتليء بطونهم، فلا يروون ولا يشبعون، واللّه أعلم. وقيل: الهيم: الإبل الذي يهيم في الأرض ولا يرد الماء أياما، ثم إذا ورد الماء فيشرب، فتمتلئ بطنه حتى يهلك؛ لامتلاء البطن؛ وهو قول الأصم. ٥٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦) أي: الذي ذكر غذاؤهم ورزقهم يوم الدِّين. ٥٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ} هذا يخرج على وجهين: أحدهما: يقول - واللّه أعلم -: لما صدقتموني ورسلي بأنا خلقناكم في الابتداء، فهلا صدقتمونا ورسلنا بأنا نعيدكم تارة أخرى؛ إذ الأعجوبة في ابتداء الأشياء أكثر منها في الإعادة، وهو ما قال: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}. والثاني: إنكم صدقتموه ورسله: أنه أنشأكم في بطون أمهاتكم في الظلمات الثلاث، ونقلكم من حال إلى حال، لا يحتمل أن يترككم سدى بلا عاقبة؛ فيكون فيه إثبات البعث؛ إذ لولا ذلك لكان خلقهم وتحويلهم من حال إلى حال عبثا؛ كما قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا}، واللّه أعلم. ٥٨-٥٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (٥٩) قد علموا أنهم لم يخلقوا ما يمنون، ولا خلقوا أنفسهم، فيقول - واللّه أعلم -: قد أقررتم أنكم لم تخلقوا ما أمنيتم، ولا أنفسكم، ولا تملكون ذلك، فقد عرفتم أن اللّه هو خالقكم وخالق ذلك كله، وهو المالك لذلك؛ فإذا عرفتم ذلك، وأنتم أهل تمييز، وأكمل عقلا من غيركم، فإذا لم تملكوا خلق أنفسكم، فالذين هم دونكم أحق ألا يملكوا خلق أنفسكم وخلق ما ذكر ثبت أن اللّه تعالى هو خالق ذلك كله؛ فكيف عبدتم غيره، وصرفتم الألوهية إلى غيره. ٦٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ ... (٦٠) يحتمل وجوها: أحدها: أنه لما كان هو الذي خلقكم وما ذكر، ثم قدر بينكم الموت، وفيكم الولي له والعدو، وقد سوى في الدنيا بين الولي والعدو، وفي الحكمة التفريق بينهما؛ دل أن هنالك دارا أخرى يفرق بينهما. والثاني: {قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ}، أي: المعجل والمؤجل؛ أي: لم يجعل موت جميعكم في وقت واحد، بل جعل أجلا مؤجلا في الأصل، وقدر أن تكون مدة أجل هذا أكثر من مدة أجل الآخر. وقيل: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ} أي: سوينا بينكم في الموت بين عزيزكم وذليلكم، ورفيعكم ووضيعكم، لا يسلم أحد عنه. ويحتمل وجها آخر هو -أولى-: وهو أنه قدر بينكم الموت، وكل واحد منكم يكره الموت، ثم لم تملكوا دفع الموت عن أنفسكم؛ دل أن هاهنا قاهرا قادرا يجب القول بوجوده، والانقياد لأوامره ونواهيه. وقوله: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} أي: وما نحن بمغلوبين في تبديل أمثالكم. أو يقول: وما نحن بعاجزين على أن نبدل أمثالكم. ٦١وقوله: (وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (٦١) قال أبو بكر الأصم: فيما لا تعلمون من تبديلكم إلى صورة ذميمة قبيحة؛ كصورة القردة والخنازير، ونحوها. وقيل: {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ} في أي خلق شاء؛ وهو أقرب من الأول. وجائز أن يكون معناه {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ} في ظلمات ثلاث الذي لا يبلغه علم البشر، ولا تدبير الحكماء إلى أن بلغوا ما بلغوا، فمن ملك ذلك لا يحتمل أن يعجز عن بعث أو غيره، واللّه أعلم. ٦٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى ... (٦٢) فهو على ما ذكرنا: إنكم لما عرفتم أنه هو الذي أنشأكم النشأة الأولى لا عن أصل سبق، لا يحتمل أن يعجز عن النشأة الآخرة؛ لأنها مثل الأولى؛ بل في وهمكم أسهل وأهون. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ} يخرج على ما ذكرنا: هلا تذكرون وحدانيته وربوبيته. أو هلا تذكرون أن قادر على البعث. أو هلا تذكرون أنه هو المستوجب لشكر ما أنعم عليكم، وهلا تذكرون نعمه وإحسانه. ومن الناس من قال: النشأة الأولى هاهنا نشأة آدم - عليه السلام - وخلقه؛ أي: علمتم نشأته لا عن أصل ولا احتذاء لغير، فمن قدر على ذلك فهو على النشأة الأخرى لقادر، وعلى تقدير وهمكم أقدر، واللّه الموفق. ٦٣-٦٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) جائز أن يكون هذا صلة ما تقدم من قوله: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ}، كأنه يقول: أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تخلقون الزرع أم نحن الخالقون له؟ فيكون فيه الذي ذكرنا في ذلك، واللّه أعلم. والثاني: أفرأيتم ما تحرثون أأنتم جعلتم الحراثة بحيث تنبت أم نحن الجاعلون بحيث تنبت؟ ٦٥ثم قال: (لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا ... (٦٥) أي: يابسا. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: أي: متكسر؛ يذكر نعمته التي أنعمها عليهم؛ يقوله: هو الذي جعله بحيث ينتفع به ويبقى، ولو شاء لجعله بحيث لا ينتفع به، ويخبر عن قدرته: أنه قادر على الإنبات، وعلى الإهلاك؛ فعلى ذلك قادر على الإنشاء والإعادة. وأهل التأويل يقولون: أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تنبتونه أم نحن المنبتون، وأصله ما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} قيل: تعجبون. وقيل: تندمون، وهي لغة عكيل. وقال أبو بكر الأصم: أي: صرتم تتنعمون وتتلذذون؛ كما يقول الرجل لآخر: لو أخذت مالك أو سلبته صرت غنيا أو استغنيت. ولكن لا ندري أيقال ما ذكر أم لا؟ فإن كان يقال ذلك، يصير تقديره كأنه يتلذذ؛ لكثرة ما يذكره في كل وقت؛ لأن الرجل إذا ذهب ماله لا يزال يذكره كالمتلذذ به والمتنعم. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ}، أي: تلاومون. وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: (فصرتم تفكهون)، وقوله: {فَظَلْتُمْ} يستعمل في زمان النهار دون الليل. ٦٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧) أي: فظلتم تقولون: إنا لمغرمون. ثم اختلف فيه: قيل: إنا لمعذبون بقوله: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا}. وقيل: إنا المذمومون الملقون للشر، ونحو ذلك، لكنه من الغرم الظاهر؛ لأن مرتجعه خسران في ماله، أو هلاك يلحقه الغرامة؛ لما يحتاج إلى غيره، وأصله كأنه يقول - واللّه أعلم -: لو جعله حطاما يابسا لا تنتفعون به، ظلتم تقولون: {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ}. ٦٧وقوله: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} قيل: المحروم: هو الذي ينتفى عنه المال أو ما ينتفع به. وقَالَ بَعْضُهُمْ: محدودون. وقيل: محاربون. لكن المحروم ظاهر، لا يحتاج إلى التفسير، واللّه أعلم. ٦٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) يذكر نعمه عليهم بما أنزل لهم من الماء العذب فيشربون، وأخبر أنه لو شاء، لجعله أجاجا مالحًا ما يهلك الأنفس، ولا تقوم به، وكذلك قوله: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} حتى يخرج من أن يكون غذاء فيه، ولكن بفضله ورحمته أبقى لهم ذلك أغذية وأشربة؛ ولذلك قال في آخره: ٧٠(فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (٧٠) أي: هلا تشكرون ما أنعم عليكم؟ ثم في هذه الآية دلالة نقض قول المعتزلة في أفعال العباد؛ حيث قال: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ. أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ}، والإمناء: هو فعل العبد؛ إذ هو دفق المني، ثم أخبر أنه هو خالق ذلك؛ حيث قال: {أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ}، وكذلك الحراثة والزراعة فعل العباد، وأخبر أنه خالق ذلك. وفي قوله تعالى: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} و {أجَاجًا} نقض قولهم في الأصلح؛ فإنه يقال لهم: إن قوله: لو شاء لجعله كذا، ثم لم يفعل ذلك، فقد ترك الأصلح لهم، أو يكون الأصلح لهم في إبقاء ذلك؛ فيصير كأنه قال: لو شاء لجعل ما هو حق وعدل جورا، ولا يجوز أن يقال: إن اللّه تعالى لو شاء أن يجور لجار؛ فعلى أي الوجهين حمل، كان في ذلك نقض مذهبهم. وفي قوله تعالى: {قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ} نقض قولهم من أن المقتول لم يمت بأجله؛ لأنه - تعالى - أخبر أنه قدر الموت بينهم، وعندهم: أن من قتل لم يمت بما قدر اللّه تعالى، ولم يمت بأجله، وقد أخبر أنه هو قدر ذلك، وأنه لا يسبق في ذلك بقوله: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ}، ولو كان على ما تقوله المعتزلة يموت قبل أجله، فقد قالوا: إنه لم يقدر له الموت، وأن القاتل قد سبقه ومنعه عن وفاء ما جعل له من الأجل والبلوغ إلى ذلك الأجل الذي جعل له وكذبه في خبره: أنه يبلغ إلى ذلك الأجل، واللّه الموفق. ثم قوله: {أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ} اختلف في تأويل المزن: قال عامة أهل التأويل والأدب: المزن: هو السحاب. وقال أبو بكر الأصم: المزن: هو الماء العذب؛ فعلى قوله يكون حرف (مِن) صلة، كأنه قال: أأنتم أنزلتم المزن. والظاهر ما ذهب إليه أُولَئِكَ: أنه ينزل من السحاب، واللّه أعلم. ٧١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) قَالَ بَعْضُهُمْ: توقدون. وقَالَ بَعْضُهُمْ: تقدحون، يقال: قدحت النار، وأوريتها: أي أخرجتها؛ يقال: ورت الناس تري وريا؛ فهي وارية، أي: أضاءت. ٧٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (٧٢) قيل: هي الشجرة التي تجعل حطبا، وتوقد بها النار وتحرق. وقيل: هي الشجرة التي فيها النار، وهي التي يتخذ منها الزيوت، والأول أقرب، واللّه أعلم. ٧٣وقوله: (نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (٧٣) قال بعض أهل التأويل: أي: جعلنا هذه النار تذكرة للنار الكبرى، وهي نار الآخرة. ويحتمل أن يكون {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا}، أي: هذه النعم الحاضرة تذكرة للنعم الموعودة. أو جعلنا هذه الشدائد والبلايا في الدنيا تذكرة لما أوعدنا في الآخرة، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} قال بعض أهل التأويل: أي متاعا للمسافرين، خص المسافرين، لنزولهم القواء، وهو القفر؛ وهو قول الْقُتَبِيّ. وقيل: المقوين: المستمتعين. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: المقوي: الذي لا زاد له. وقيل: الذي يقع في أرض قواء، والقواء: الأرض الخالية من الناس. وقال أبو عبيد: أرى الذي لا زاد له ليس أولى بالنار، ولا أحوج إليها من الذي معه الزاد؛ بل صاحب الزاد إليها أحوج، ويقال: رجل مقوٍ: إذا كانت معه مطية قوية. ٧٥-٧٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) عن ابن مسعود وإبراهيم أنهما قرآ: (بموقع النجوم)، على الوحدان. وعن الحسن: أنه قرأها بمواقع على الجمع، وبه أخذ أبو عبيد، وقال: إن بعض أهل التأويل يتأولونها على منازل القرآن، وبعضهم على مغايب الكواكب ومساقطها، وأي الوجهين كان، فالجمع فيه أولى من الوحدان. ثم اختلف في قوله: {فَلَا أُقْسِمُ}: منهم من قال: إن حرف (لا) هاهنا صلة؛ كأنه قال: أقسم بمواقع النجوم، وذلك جائز في اللغة، كقوله: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ}، ونحوه، يكون على الصلة والزيادة على التوكيد. ومنهم من قال: على إثبات حرف (لا)، لكنه جعل ذكره لرد قول كان من أُولَئِكَ الكفرة، ولدفع منازعة كانت منهم، لكن لم يذكر ذلك؛ لما كانت معروفة بينهم، فرد ذلك بقوله: {فَلَا} ثم ابتدأ القسم بقوله: {أُقْسِمُ}، كأنه قال: أقسم قسما بمواقع النجوم. ثم اختلف في تأويل قوله: {بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} على الوجهين اللذين ذكرناهما. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}: بمواقع نزول القرآن نجومًا؛ دليله: ما ذكر على أثره: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} والثاني: {بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} النجوم المعروفة؛ على ما قَالَ بَعْضُهُمْ. ثم إن كان المراد منه: الكواكب، فالقسم بها يكون على وجوه. أحدها: لعظم موقع النجوم ومحلها في القلوب، وجليل قدرها عند الناس حتى يجعلها بعض الملحدة مدبرة العالم. أو لكثرة منافع الخلق بها من معرفة الطرق بها والسبل، ومعرفة كثرة الأنواء والمياه، ومعرفة الأوقات والأزمنة، وغيرها مما يكثر ذكرها. أو {بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} أي: مساقطها، وفي ذلك إخبار وإنباء عن شدة طاعة النجوم وتسخيره إياها للخلق؛ حيث تملك قطع مسيرة خمسمائة يوم في ليلة واحدة ما لا يتوهم قطع ذلك من سواها من ذوي الأرواح والأجنحة التي هي أسرع لقطع المسافات والوصول إلى مقاصدها، واللّه أعلم. ثم قال أهل التأويل بأجمعهم بأن القسم بها من اللّه تعالى. وجائز أن يكون القسم من الرسول - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، لكن أضافه إلى نفسه؛ تعلميا منه لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يقسم برب هذه الأشياء؛ وكذلك تعليما لغيره من الرسل القسم برب هذه الأشياء؛ إذ لا تنازع بينهم وبين اللّه تعالى؛ ليقسم وإنما وضع القسم لتأكيد الخبر عند الإنكار والتنازع، ولكن التنازع فيما بينهم وبين الرسل، وكذلك ما ذكر: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ}، ليس من اللّه تعالى، ولكن من الرسول؛ إذ لا يحتمل أن يكون الرب - عَزَّ وَجَلَّ - هو المقسم، ويقول: {بِرَبِّ الْمَشَارِقِ}؛ فظاهره أن يكون الرسول هو المقسم بها، فعلى ذلك الأول، واللّه أعلم. ومن الناس من قال: إن الأقسام التي جرى ذكرها في القرآن بالأشياء التي ذكرها لو لم يكن القسم بها، لكانت تلك الأشياء تؤكد وتوجب القسم، وتؤكد أن لو وقع بها القسم؛ لأن الأقسام فيه إنما جرى أكثرها في إيجاب البعث والتوحيد، وإثبات الرسالة، ونحوها، وما جرى ذكرها لو لم يكن القسم بها، لكانت توجب ما يوجب القسم؛ لأن في هذه الأشياء دلالات على البعث والتوحيد والرسالة، واللّه الموفق. ٧٧وقوله: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) على قول من يجعل القسم بالقرآن، فهو ظاهر: أن يقول: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ}، أي: الذي أقسم به وأنزله نجومًا هو كريم. وعلى التأويل الذي يجعل القسم بالنجوم المعروفة، يجعل قوله: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} ابتداء ذكر منه له. ثم تسميته القرآن: كريما، يخرج على وجوه: أحدها: وصفه بالكرم؛ لما هو محل لقضاء الحوائج الدنيوية والأخروية، وفي العرف: الكريم: من نصب نفسه وأعدها لقضاء حوائج الخلق والقيام لإنجازها. أو وصفه بالكرم؛ لأن من اتبعه، كرم وشرف. أو كريم عند اللّه عظيم: لذلك وصفه بالكرم، واللّه أعلم. ٧٨وقوله: (فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) قال أهل التأويل: في اللوح المحفوظ؛ سماه مكنونا: لأنه مستور على خلقه عند اللّه. ٧٩وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) يقول: لا يمس ذلك إلا المطهرون. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هم الملائكة الذين يجري ذلك على أيديهم؛ كقوله تعالى: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ. كِرَامٍ بَرَرَةٍ}، طهروا من الذنوب والآثام، وكأنه ذكر هذا ليأمنوا عن تحريف هذا الكتاب وتبديله، وهو ما قال على أثره: ٨٠(تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٨٠) أي: أنه مكنون عمن يحرفه ويبدله، وأنه لا يمسه إلا المطهرون من الذنوب، والتحريف: إثم وذنب من رب العالمين، وهو كما ذكر في آية أخرى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلَى قَلْبِكَ)،، وقال: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى}، أخبر أن الذي نزل به من السماء أمين، لا يكون منه التحريف ولا التبديل، وأنه قوي، لا يقدر أحد من جني وإنسي أخذه من يده، ولا تحريفه، ثم تمام الأمن بقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، وكل حفظه إلى نفسه؛ لا إلى أحد من خلقه؛ فصار محفوظا عن التبديل والتحريف، واللّه أعلم. ٨١وقوله: (أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) ٨٢قَالَ بَعْضُهُمْ: أفبهذا القرآن أنتم كافرون؟ (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢) اللّه تعالى جعل هذا القرآن حياة الدِّين وقوامه، والرزق حياة الأبدان وما به قوامها، فكذبوا الأمرين جميعا، ما به حياة الدِّين والأبدان جميعا. ثم يخرج ما ذكر من تكذب الرزق على وجوه: أحدها: ما ذكر بعض الناس أهل التأويل: أنهم كانوا يقولون: رزقنا بنوء كذا؛ كانوا ينسبون الرزق لذلك النوء؛ فهذا يخرج على قول المنجمة: إن النجوم هي مدبرة العالم ورازقتهم؛ لا يجعلون للّه تعالى في ذلك تدبيرا. فأما من ينسب الرزق إلى اللّه تعالى، ويقول: رزقنا اللّه بنوء كذا، فليس في ذلك تكذيبه؛ إنما يخرج ذكر النوء ذكر سبب من الأسباب التي يرزق اللّه تعالى بها، وكذلك من رأى الرزق من الأسباب خاصة، وأما من يقول: رزقنا تعالى بسبب كذا، فذلك جائز القول به. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} أي: تجعلون شكر الرزق التكذيب؛ وبه قال أبو عبيدة. وجائز أن يكون تكذيبهم الرزق: صرف تسمية الألوهية إلى غير الذي رزقهم، والعبادة لغير المستحق لها، واللّه أعلم. وقال الحسن: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} بئسما أخذ القوم لأنفسهم؛ حتى لم يرزقوا من كتاب اللّه تعالى إلا التكذيب؛ يقول: صار حظكم من القرآن التكذيب، ويجعل هذه الآية مع الآية الأولى: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ}. وقال أبو بكر الأصم في هذه الآية: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ}، وهو هذا القرآن الذي خصكم به دون آبائكم، ورزقتم به ما لم يرزق آباؤكم منه، ثم جعلتم تكذبون بذلك الرزق الذي خصصتم به ورزقتم، أو كلام من نحوه، وهو كقوله تعالى: {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ}. وقال في قوله تعالى: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ}: هو الذي يرى الموافقة، ويحتال في دفع حجة ما يلزمه ويرد عليه، أو كلام يشبه معناه هذا، واللّه أعلم. وقال أبو معاذ: مُدَّهِن وَمُدْهِن لغتان، ثم أصل المداهنة من المخادعة، يقال: داهنته وادهنته. ثم الفرق بين المداهنة والمداراة كأن المداهنة؛ لطمع له فيه مخادعة حتى يصل إلى ما يطمع، والمداراة الشفقة، يداريه إشفاقًا عليه ليتحقق له عليه الحق؛ ليسلم له دينه، وإلا هما في الظاهر واحد، وهما الملاينة وخفض الجناح، لكن الفرق بينهما ما ذكرنا، واللّه أعلم. ٨٣وقوله: (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤) ليس هذا الكلام صلة ما تقدم من الكلام. ثم يشبه أن يكون صلة ما قال أُولَئِكَ للمؤمنين: {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا}، يقول - واللّه أعلم -: لو كانوا عندكم لم يموتوا ولم يقتلوا على ما زعمتم، فهلا إذا كانوا عندكم، وقد بلغت الأرواح الحلقوم أن ترجعوها، وتردوها إلى الأجساد التي كانت لو كنتم صادقين في قولكم: {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا. . .} الآية، على هذا جائز أن يخرج تأويل الآية، واللّه أعلم. ٨٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ} يخرج على وجهين: أحدهما: {تَنْظُرُونَ} أي: تنتظرون خروج الروح أنها متى تخرج؟ لا تملكون ردها إلى حيث كانت، ولكن تنتظرون خروجها متى تخرج؟ والثاني: {وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ} على حقيقة النظر؛ أي: تنظرون إلى سلطاني وقدرتي. وقيل: هو من الانتظار؛ أي: تنتظرون أن يحل بكم الموت، وهو ما ذكرنا. وجائز أن يكون قوله: {وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ}؛ لأنهم كانوا يعبدون الأصنام رجاء أن تشفع لهم في ضيق الحال، وإنما يضيق الحال عليهم الأمر عند حلول الموت؛ إذ لا بعث عندهم، فيقول: فلولا إذا بلغت الأرواح الحلقوم فتنفع لهم الأصنام التي يعبدونها، وترد الأرواح إلى المكان الذي كانت، فإذا لم تملك ذلك فكيف عبدتموها؟ واللّه أعلم. ٨٥وقوله: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (٨٥) قال بعض أهل التأويل: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} أي: ملائكتي ورسلي في ذلك الوقت أقرب إليه منكم {وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} الملائكة، لكن أضاف إلى نفسه؛ لما أن الملائكة بأمره وتسليطه يعملون. وقيل: نحن أقرب إليه منكم، أي: أولى به في ذلك الوقت؛ لما يعلم هو خطأه، ويتبين له الحق في ذلك الوقت من الباطل: {وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} أنتم، أي: لا تعلمون ذلك، واللّه أعلم. ٨٦-٨٧وقوله: (فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٨٧) قَالَ بَعْضُهُمْ: {غَيْرَ مَدِينِينَ} أي: لو كنتم غير مملوكين للّه تعالى على ما زعمتم، ترجعون الأرواح، وتردونها إلى الأجساد التي كانت فيها؛ إن كنتم صادقين: أنكم غير مملوكين، فإذا كنتم عندكم غير مملوكين، تكونون مالكين؛ إذ ليس إلا المملوك والمالك، فإذا لم تكونوا مملوكين تكونون مالكين فتملكون ردها إلى ما فيها، فإذا لم تملكوا كنتم مملوكين، واللّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {غَيْرَ مَدِينِينَ} أي: غير محاسبين ولا مجزيين، فردوا النشأة الأولى، واجعلوها بأنفسكم حتى تكون النشأة الأولى حكمة؛ إذ لم تملكوا رد هذه الأرواح إلى الأنفس، أو اجعلوا النشأة الأولى حكمة، واللّه أعلم. ٨٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (٨٩) إلى آخره، اختلف في وقت ما ذكر ولمن ذكر ذلك؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: إن ذلك يقال لهم عند الموت؛ بشارة لهم بما يكون لهم في الجنة. ومنهم من يقول: إنما يقال ذلك إذا دخل هَؤُلَاءِ الجنة، وأُولَئِكَ النار؛ أعني: الكافرين، وهو ما ذكر، {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ. فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ. وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ. إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ}. وجائز أن يكون يقال ذلك لهم عند رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في الجنة، وصفًا لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عنده في الجنة، ومكانهم لديه، على ما كانوا عنده في الدنيا السابقين كانوا في الدنيا المقربين عنده، ومكانهم لديه أقرب من مكان غيرهم من المؤمنين؛ فعلى ذلك يخبر أن السابقين في الإجابة يكونون في الآخرة عنده أقرب، ويكون قوله: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} أي: يستأنس هو بهم ويستأنسون به، لا يفارقونه ولا يفارقهم، على ما كانوا في الدنيا، وسائر المؤمنين يسلمون عليه في أوقات، وهو ما ذكر: و {فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} على ما كانوا يفعلون في الدنيا، وهو أقرب من الوجهين اللذين ذكرناهما. ويحتمل ما ذكروا من البشارة عند الموت -أعني للمؤمنين والكافرين- في حق المؤمنين: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ. فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ}، {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ. . .} كذا، وفي حق الكفرة: (وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣). . .) الآية. ويحتمل ما ذكر بعضهم: أن ذلك يقال لهم بعدما دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، واللّه أعلم. ٨٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} اختلف في تأويله وتلاوته: أما تلاوته: روي عن عائشة - رضي اللّه عنها - قالت: كان رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقرأ هذا الحرف {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} تعني: بضم الراء. وعن الحسن: أنه قرأها بالضم أيضا. وعن الضحاك: بفتح الراء، وعليه جميع القراء. وقال أبو عبيد: لولا كراهة خلاف الأمة، وإلا ما قرأتها إلا بالضم، ولكن لا أجد أحدًا عليها، فأستوحش من مفارقة الناس، ولا يجمع اللّه تعالى أمة مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على الضلالة. وأما تأويله: فعلى قراءة الرفع، عن الحسن قال: الروح: الرحمة، والريحان: ريحاننا. وعن أبي عبيد قال: بالرفع: هو الحياة والبقاء. وعن الضحاك: بالفتح: الروح: الاستراحة، والريحان: الرزق. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الروح: كناية عن دوام النعمة والسعة، يقال: فلان في روح؛ إذا كان في سعة ونعمة، والريحان: كناية عن الشرف والمنزلة، يقال: فلان ريحاني؛ وذلك لشرفه ومنزلته عنده. ومنهم من قال: الروح: الراحة، والريحان: الرزق في الجنة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الروح -بالرفع-: من الرحمة، وبالنصب: الراحة. ونحن نقول: جائز أن يكونا جميعا بالنصب والرفع من الرحمة؛ لقوله: {لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللّه إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}، أي: من رحمته، وقال في موضع آخر: {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ}، أي: برحمة منه، يخبر اللّه تعالى أن المقربين يكونون في الجنة في رحمة اللّه ونعمته، واللّه أعلم. ٩٠-٩١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (٩١) يحتمل ما وصفنا أن أصحاب اليمين يسلمون على النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ويحيي بعضهم بعضا بالسلام. ويحتمل {فَسَلَامٌ لَكَ} أي: السلامة لك منهم من جميع الآفات والأذى. وذكر في حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - (فسلام إنك من أصحاب اليمين)، فهذا إن ثبت فهو يخرج على البشارة له عند الموت، واللّه أعلم. وقيل: يسلم عليهم الملائكة، واللّه أعلم. ٩٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥) يقول: هذا الذي ذكرنا للمقربين، ولأصحاب اليمين، وللمكذبين هو حق اليقين؛ أي كائن لا محالة، لا شك فيه؛ مثل هذا يقال على التأكيد وتحقيق ما سبق ذكره ووصفه. ٩٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٩٦) يقول - واللّه أعلم - فسبح ربك باسم لا يسمى به غيره؛ أي: نزهه عن جميع ما قالت الملاحدة فيه من الولد والشريك، وتسمية من دونه: إلها وغير ذلك، واللّه الموفق للسداد وإليه المرجع والمآب. * * * |
﴿ ٠ ﴾