سُورَةُ الْحَدِيدِ

وهي مَكِّيَّة

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {سَبَّحَ للّه مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يجوز أن يقرأ {سَبَّحَ للّه} وسبح اللّه، كما يقال في الكلام: شكر للّه، وشكر اللّه، ونصح للّه ونصح اللّه.

ويجوز أن يكون معناهما في الظاهر مختلفا، ويتفق في الحقيقة والباطن؛ لأن التسبيح: هو التخليص والتنزيه والتبرئة، فمتى أضيف الفعل إلى اللّه تعالى، ووقع عليه، فيقال سبح للّه، فمعناه: أنه نزهه وبرأه عن جميع معاني الخلق، وخلصه عن شبه المخلوقين، وإذا قيل: سبح للّه، فقد وقع الفعل على الأشياء المخلوقة؛ أي: خلصها كلها له وبرأها عن غيره، وإذا وصف بأن كل الأشياء له، وهو المالك لها، وهم عبيده ومماليكه، خاضعون أذلاء، فقد وصف بالغناء ونفي الحاجة عنه، وأنه متبرئ عن الشبه بمماليكه ومخلوقاته، فهما جميعا من هذا الوجه ينظمان معنى واحدا، وإن كانا مختلفين وفي الباطن مؤتلفين؛ كما أن الإسلام: هو أن يجعل كل شيء من الخلق للّه تعالى خالصا سالمًا له، والإيمان: هو التصديق بالربوبية له في كل شيء، فمتى صدق اللّه تعالى بالربوبية في الخلق والأمر، فقد جعل الخلق سالما له، فمتى جعل سالما له فقد صدقه في الربوبية، فقد اتفقا من حيث المعنى، وإن اختلفا من حيث الظاهر، فعلى ذلك هذا، واللّه الموفق.

ثم يحتمل ما ذكر من التسبيح: هو تسبيح الخلقة، تشهد له خلقة كل شيء بالوحدانية والألوهية، فهذا على خلقة الكافر والمؤمن جميعا وغيرهما من المخلوقات.

ويحتمل أن يكون أراد الممتحنين الذين في السماوات والأرض، ويرجع إلى تسبيح خاص، وهو تسبيح النطق واللسان عن اختيار.

وجائِز أن يرجع إلى كل ذي روح يجعل اللّه في سرية هذه الأشياء من التسبيح له ما

يعلمه هو لا يعلمه غيره إلا بإعلام اللّه تعالى إياه ذلك، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} يخرج على وجوه:

أحدها: العزيز: هو الذي أفقر الخلق وأحوجهم إليه، والحكيم: هو المحكم للأشياء المتقن لها.

أو العزيز: القاهر الغالب، الحكيم: هو العالم بالأشياء على حقيقتها.

أو العزيز: هو المالك كل ملك؛ كقوله: {مَالِكَ الْمُلْكِ}، الحكيم: الواضع كل شيء موضعه.

٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) جائز أن يكون {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} تفسيرًا لقوله: {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يُحْيِي وَيُمِيتُ} أي: يملك أن يحيي هذا، ويميت غيره، أو يحيي من شاء، ويميت من شاء، ويملك إحياء من شاء وإماتة من شاء، {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} من الإحياء والإماتة وغيرهما {قَدِيرٌ}.

٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣) قالت الباطنية: الأول: معناه: المبدع الأول، والآخر: المبدع الثاني، والظاهر: هو الناطق، وهو الرسول - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، والباطن: هو صاحب التأويل؛ يقولون: إن المبدع الأول أتم للمبدع الثاني المعونة؛ فيستعين بها المبدع الثاني على خلق هذا العالم وإنشائهم؛ لأنهم يقولون: إن المبدع الثاني هو الذي دبر هذا العالم، وأنشأهم بإعانة المبدع الأول، والناطق هو الذي دبر الشرائع، والباطن -وهو صاحب التأويل- هو الذي يبين الشرائع التي دبرها الناطق وهو الرسول - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولا يصفون أن اللّه تعالى هو الأول والآخر والظاهر والباطن، ويقولون: لا يجوز أن يوصف بهذه الأشياء؛ لأن الأولية تنفي الآخرية، والظاهر ينفي الباطن؛ كل حرف من هذه الحروف يبطل الآخر في الشاهد.

وجوابنا: أن ما قلتم من المبدع الأول والثاني والناطق والباطن، ليس بشيء له معنى على ما ذكرنا في موضعه، وأما عندنا: فإن قوله: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} هو حرف التوحيد: هو الأول بذاته، والآخر بذاته والباطن بذاته؛ قال هذا؛ ليعلم ولا يفهم من أوليته أولية غيره، ولا يفهم من آخريته آخرية غيره، فكذلك لا يفهم من ظاهريته ظاهرية غيره، ولا من باطنيته باطنية غيره؛ لأن في الشاهد من كان له أولية لا يكون له آخرية، ومن كان له آخرية لا يكون له أولية، وكذلك من كان له ظاهرية لا يكون له باطنية، ومن كان له باطنية لا يكون له ظاهرية؛ فكل حرف من هذه الحروف مما ينقض

الحرف الآخر وينفيه في الشاهد، فإنما ذكر هذه الأحرف لنفسه؛ ليعلم ألا يفهم من أوليته أولية الأشياء، ولا يفهم من آخريته ما يفهم من آخرية الأشياء، وكذلك ما ذكر من ظاهريته وباطنيته، وهذا كما ذكر: أنه عظيم ولطيف، وكل واحد منهما في الشاهد مما يناقض الآخر وينفيه: ما عظم ينفي ويناقض ما لطف؛ لئلا يفهم من عظمة ما يفهم من عظمة غيره، ولا من لطافته ما يفهم من لطافة غيره، واللّه الموفق.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الأول: الذي لا ابتداء له، والآخر: الذي لا انتهاء له، والظاهر: هو الغالب القاهر، الذي لا يغلبه شيء، والباطن: الذي لا تدركه الأوهام.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو الأول الذي له أولية الأشياء، والآخر الذي له آخرية الأشياء، والظاهر بالحجج والآيات، والباطن الذي لا تدركه الأوهام، واللّه الموفق.

٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤) كأن خلق ما ذكر من السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام: الستة الأيام التي تدور عليها أيام الدنيا، وهي أيام حكمة، فإنما خلق في هذه الأيام كيان الأشياء وأصولها، لا أنه خلق كلية الأشياء فيها، وما يكون أبد الآبدين، فعلى هذا التأويل يكون قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} أي: استوى أمره، فخلق الممتحن، وهم البشر؛ إذ المقصود بخلق هذه الأشياء كلها البشر، ولهم إنشاء هذه الأشياء.

وإن كان المراد من قوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} أيام الدنيا الذي يكون اليوم مقداره ألف سنة؛ على ما ذكره في اية أخرى؛ فيكون ما ذكره من خلق السماوات والأرض وما بينهما خلق أصول الأشياء وكيانها وما يتولد منها، بل يقع ذلك على الكل، فيكون على هذا تأويل قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} البعث؛ أي: استوى خلق ما خلق وأنشأ من العالم بالبعث ما لولا ذلك البعث لم يكن إنشاء هذا العالم الأول حكمة؛ فالمقصود من إنشاء هذا العالم البعث، وله يصير إنشاؤه حكمة، فيكون به استواء الأمر.

ثم تأويل العرش: يحتمل الملك؛ استوى ملكه بخلق الممتحن أو بالبعث الذي ذكرنا، ولا نفسر أنه ما أراد بقوله: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}؛ لأنه لا يعلم ما أراد به، إذ قال في ذلك: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} أمر أن يسأل به خبيرا، ولم يرد بذلك: أنه يسأل به عنه؛ فلا يسمع تفسيره، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا}، أي: كثرة ذلك وازدحامه، لا يلتبس عليه ولا يستر عنه شيء.

والثاني: يخبر أن السماء والأرض مع ثقلهما وكثافتهما لا يستران ولا يحجبان عليه الوالج فيهما، والخارج منهما والنازل منهما، والإحاطة بذلك؛ ليعلم أن لا شيء يحجب عنه، ولا يخفى عليه شيء، ولا يعجزه شيء، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} هذا الحرف يخرج على وجهين:

أحدهما: {وَهُوَ مَعَكُمْ}: أي: عالم بكم وبأفعالكم، ومحيط بكم، وحافظ عليكم.

والثاني: {وَهُوَ مَعَكُمْ} يتوجه المعنى فيه لاختلاف الأحوال؛ يقول: إن كنتم محبين له، خاضعين مطيعين، فهو معكم بالنصر لكم والمعونة على أعدائكم، وإن كنتم معرضين عنه معاندين فهو معكم بالمعونة عليكم، والانتقام منكم، واللّه أعلم.

وقوله: {وَاللّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وقال أهل التأويل: أي: علمه وسلطانه وقدرته معكم أينما كنتم، وأصله ما ذكرنا فيما تقدم: أنه إذا ذكر - جل وعلا - بلا ذكر الخلق معه، ولا ضم أحد إليه سواه، يوصف بالأزل، فيقال: لم يزل عالما قادرا خالقا، بلا ذكر وقت، ولا حد ولا شيء من المكان وغيره، وإذا ذكر معه شيء من الخلق يذكر على ما عليه هذا الخلق من الوقت والمكان والأحوال للخلق دون اللّه تعالى، فيقال: لم يزل عالما للخلق وقت كونهم، لم يزل خالقا للعالم وقت كونه؛ حتى لا يتوهم قدم المخلوق، وعلى ذلك قوله تعالى: {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} الآية، {لِيَعْلَمَ اللّه مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} وقوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللّه مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ}،

وقوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ. . .} الآية، وقوله تعايى: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللّه الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ}، ونحوها مما كثر ذكره كذلك على ما عليه أحوال الخلق، فعلى هذا قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}، ولا قوة إلا باللّه.

٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللّه تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) الملك إنما ينسب بحق نفاذ المشيئة والأمر والولاية، فجائز أن يكون قوله: {مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، أي: له نفاذ المشيئة، وله الولاية في السماوات والأرض، وعلى أهلهما، وله السلطان عليهم، واللّه أعلم.

وجائز أن يكون قوله: {مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، أي: له خزائن السماوات والأرض، يعطى من يشاء، ويحرم من يشاء، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِلَى اللّه تُرْجَعُ الْأُمُورُ} أي: إلى اللّه يرجع تدبير الأمور من إحداث وتكوين وإعطاء وبذل ومنع وحرمان، ليس تدبير ذلك إلى الخلق، واللّه أعلم.

وجائز أن يكون قوله: {وَإِلَى اللّه تُرْجَعُ الْأُمُورُ}، أي إلى اللّه ترجع أمور الممتحنين في الآخرة من الحساب والسؤال، والثواب والعقاب وغير ذلك، واللّه أعلم.

٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ... (٦) إيلاج الشيء: إنما هو إدخاله فيه على إبقاء المدخل فيه؛ هذا هو المعروف، لكن ما ذكر هاهنا من إيلاج هذا في هذا، وهذا أن جعل ما كان في حال الاستواء في حد الليل نهارا، وجعل ما كان في حال الاستواء في حد النهار ليلا؛ على إتلاف كل واحد منهما بالآخر، لا على الإبقاء، وفي ذلك وجوه من الدلالة: أحدها: يدل ذلك على أنه فعل واحد عليم له تدبير، لا فعل عدد، أو لا تدبير له؛ لأنه لو كان فعل عدد، لكان لا يجري على سنن واحد وتدبير واحد منذ كان إلى أبد الآبدين؛ بل يقع في ذلك تمانع وتغالب يمنع كل واحد ما له مما لغيره، ولغلبه عليه، ولا يوافقه في تدبيره؛ على ما يكون من عادة الملوك؛ على ما قال: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللّه لَفَسَدَتَا}،

وقال: {إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ}، واللّه الموفق.

وفيه دلالة البعث، وهو إتيان الليل بعد ذهاب أثر النهار، وإتيان النهار بعد ذهاب أثر الليل، ونحو ذلك؛ على ما تقدم ذكره.

وقوله: {وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}، قال أهل التأويل: أي: عليم بما في الصدور.

وجائز أن يكون تأويله: وهو عليم بما في الصدور: أرباب الصدور، وهم البشر الذين لهم الصدور والتدبير؛ لأن الصدور إنما يقال للذين لهم تدبير وتمييز، وهم البشر، واللّه أعلم.

٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {آمِنُوا بِاللّه وَرَسُولِهِ} الإيمان باللّه: هو أن تجعله رب كل

شيء، وأن له الخلق والأمر، والإيمان برسوله: هو أن صدقه في كل ما يخبر عن اللّه تعالى وفي كل قول وفعل، وأنه صادق، وأنه محق، وتعلم أنه بأمر اللّه تعالى ونهيه يأمر وينهى ويفعل لا من ذات نفسه؛ هذا هو الإيمان باللّه تعالى ورسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} يقول - واللّه أعلم -: وأنفقوا من المال الذي جعلكم فيه خلفاء من تقدمكم؛ لأن الناس يخلف بعضهم بعضا في هذه الأموال؛ كأنه يقول: أنفقوا من المال الذي جعلكم خلفاء من تقدمكم قبل أن يخلفكم من بعدكم؛ كما ترك الإنفاق من تقدمكم؛ إذ هي إنما أنشئت للإنفاق والانتفاع بها، لا للترك كما هي، واللّه أعلم.

ثم أخبر تعالى بقوله: {فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} أن من كان أمر به وأنفق، فله أجر كبير: ما أوعد لهم من الأجر على جهة الإنعام منه والإفضال، دون الاستحقاق؛ إذ المال ماله، وهم عبيده، ولا يلزم للعبد أجر على سيده، واللّه الموفق.

٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللّه وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) في ظاهره متناقض؛ لأنه يقول: {وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللّه وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ}، ولو كانوا لا يؤمنون باللّه كيف يقرون باللّه وبالرسول، ويصدقونه: أنه رسول اللّه؛ إذ التصديق بالرسول تصديق بالمرسل، وهم لا يؤمنون باللّه، فكيف يصدقون الرسول؟ لكنه يخرج على وجهين:

أحدهما: أي: ما لكم لا تؤمنون باللّه؟ أي: بقدرة اللّه على بعثكم وإحيائكم بعد موتكم قد أتاكم ودعاكم بما تبين لكم من قدرته وسلطانه على البعث، فما لكم لا تؤمنون بقدرته؟ على هذا جائز أن يخرج؛ لأن أهل مكة كانوا أصنافا: منهم من يذهب مذهب الدهر، ومنهم من يذهب مذهب الشرك، ومنهم من يقر بالتوحيد وينكر البعث، واللّه أعلم.

والثاني يقول: أي: عذر لكم في ترك الإيمان باللّه تعالى والرسول دعاكم، وقد أتاكم من الآيات والحجج ما يدفع عنكم العذر، ويزيح عنكم الشبه؟ فأي عذر لكم من ترككم الإيمان به؟ فما لكم لا تؤمنون؟

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ} قد ذكرنا فيما تقدم أن أخذ الميثاق من اللّه تعالى يخرج على وجوه:

أحدها: على ألسن الرسل - عليهم السلام - كقوله تعالى: {وَقَالَ اللّه إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي. . .}، إلى آخر ما ذكر، وغير ذلك من أمثاله.

والثاني: أخذ الميثاق ما جعل في خلقة كل أحد من شهادة الوحدانية له.

والثالث: عهد إليهم؛ حيث ركب فيهم العقول والأفهام، وجعلهم بحيث يميزون ما لهم مما عليهم، فيما لا يحتمل إهمال مثلهم وتركهم سدى.

ويحتمل ما ذكر بعض أهل التأويل من إخراجهم من صلب آدم - عليه السلام -، والوجوه الأول أقرب.

وجائز أن يكون قوله: {وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللّه وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ} في أهل الكتاب الذين كانوا مؤمنين باللّه ورسوله مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قبل أن يبعث، فلما بعث كفروا به؛ يقول - واللّه أعلم -: ما لكم لا تؤمنون باللّه والرسول الذي كنتم مؤمنين به؟!

ويحتمل أن تكون الآية في أهل النفاق الذين كانوا يظهرون الإيمان به، ولا يحققونه؛ يقول: ما لكم لا تحققون الإيمان باللّه والرسول يدعوكم لتحققوا الإيمان بربكم؟ وهو كقوله: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّه وَفِيكُمْ رَسُولُهُ}، أي: لا عذر لكم في الكفر باللّه ورسوله، وترك الإيمان بهما، فعلى ذلك الأول، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} بالآيات والحجج.

أو يذكر هذا لا على الشرط؛ بل على التأكيد؛ كقوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّه فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}، لأنهن إذا كن أذعن الإيمان، لم يحل لهن أيضا كتمان ما في أرحامهن.

٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللّه بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (٩) الآيات في الحقيقة: هي الأعلام، لكن فسرت الآيات بالحجج؛ لأن الآيات حجج من عند اللّه تعالى جاءت، لا أنها مفتعلات من الخلق.

وقوله: {بَيِّنَاتٍ}: واضحات أنها من عند اللّه جاءت، لا من عند الخلق، أو بينات أمره ونهيه، وما لهم وما عليهم، وما يؤتى وما يتقى.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} ما أضيف إلى اللّه تعالى من الإخراج، فهو على وجهين:

أحدهما: على حقيقة الإخراج، وهو أن يوفقهم إلى الإيمان، ويعطيهم المعونة والعصمة؛ فيخرجون مما ذكر من الكفر إلى الإيمان.

والثاني: يخرج على الأمر به، والدعاء إلى الإيمان، ليس على حقيقة الإخراج، وهو كقوله: {لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} في هذه الآية، ونظير حقيقة الإخراج قوله: {اللّه وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}، وعلى هذا يخرج إضافة

الهداية إلى اللّه تعالى: على التوفيق وإنشاء فعل الهداية منهم، والثاني: على الدعاء والبيان، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنَّ اللّه بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} جائز أن يكون معناه: وإن اللّه بمن خرج من الظلمات إلى النور لرءوف رحيم، وهو يرجع إلى المؤمنين خاصة.

وجائز أيضا أن يوصف بالرحمة والرأفة على الكل؛ أي: بكم لرءوف رحيم بما أرسل إليكم الرسول، وأنزل عليكم الكتاب، وإن كان في أنفسكم وعقولكم كفاية على معرفة وحدانية اللّه تعالى وربوبيته بدون إنزال الكتاب وإرسال الرسول، لكن بفضله ورحمته أرسل الرسل، وأنزل الكتب؛ ليكون ذلك أدعى لهم، وأوصل إلى إدراك ما دعوا إليه، وأقرب في دفع الشبه والعذر، واللّه أعلم.

١٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّه وَللّه مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللّه الْحُسْنَى وَاللّه بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠) هذا يخرج على وجهين:

أحدهما: ما قال أهل التأويل: إن الخلق يفنون كلهم، ويبقى اللّه تعالى؛ كقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا}، فعلى هذا قوله: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّه} أي: ما لكم لا تنفقون في سبيل اللّه قبل أن يزول ملككم ويصير ميراثا للّه تعالى.

وجائز أن يكون قوله: {وَللّه مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} إضافة وراثة بعضهم من بعض إليه؛ لما أنهم عبيده وإماؤه، ومال العبد يكون لسيده؛ فيصير كأنه يقول: ما لكم ألا تنفقوا لأنفسكم، وما يرجع إلى منافعكم، قبل أن يصير ذلك ميراثا لغيركم، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً. . .} الآية.

قَالَ بَعْضُهُمْ: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ}، أي: لا يستوي منكم من آمن قبل الفتح؛ لأن قبل الفتح كان على من آمن خوف الهلاك وأنواع العقوبات؛ لأن الغلبة في ذلك الوقت كانت لأهل الكفر؛ لذلك لم يستو من آمن منهم قبل الفتح، ومن آمن منهم بعد الفتح، وعلى ذلك يخرج ما روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: " لو وزن إيمان أبي بكر بإيمانهم لرجح "؛ لأن إيمانه - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - في وقت الخوف على متبعي الإسلام.

أو لما يكون بإيمانه إيمان نفر كثير؛ لأنه كان رئيسهم، وكذلك الإنفاق في ذلك الوقت أفضل وأعظم، لما في الإنفاق في ذلك الوقت معونة لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولمن تابعه.

أو لما أن الإنفاق من بعد الفتح يقع به طمع الوصول إلى المنافع والأبدال من الصدقات والمغانم، وقبل الفتح، لم يكن ذلك المعنى، فهو للّه خالص بلا بدل ولا طمع كان معه، واللّه أعلم.

وقيل: لا يستوي من هاجر ومن لم يهاجر، ولا هجرة بعد فتح مكة؛ فلذلك روي عنه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لا هجرة بعد اليوم، ولكن جهاد ونية " وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكُلًّا وَعَدَ اللّه الْحُسْنَى}، أي: وعد اللّه لكلا الفريقين: من أنفق قبل الفتح وبعده الجنة والثواب الحسن.

وقال بعض أهل التأويل: هذه الآية نزلت في فتح الحديبية، فقيل: يا رسول اللّه، فتح هو؟ قال: " نعم، فتح عظيم ".

وعن قتادة: هو فتح مكة، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاللّه بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فيه ترغيب وترهيب فيما يرغب ويرهب عنه.

١١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّه قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١) قد ذكرنا فيما تقدم: أنه - جل وعلا - عامل عباده بكرمه وجوده معاملة من لا حق له ولا ملك في أنفسهم وأموالهم، لا معاملة من حقيقة أملاكهم وأموالهم وأنفسهم له؛ من نحو ما ذكر من الإقراض له، وما ذكر من شرائه أنفسهم وأموالهم منهم بأن لهم الجنة، وما ذكر لأعمالهم من الأجر، وهم عبيده، وأعمالهم التي يعملون لأنفسهم، كأنهم عاملون له، وما يمسكون لأنفسهم ويدخرونه في وقت الحاجة لهم، سماه: قرضا، وما يكتسبون به للحياة الدئمة والنعم الباقية، فهم المنتفعون بها، ولا أحد في الشاهد يستقرض مال نفسه من آخر ببدل ثم يعطي له الأجر على ذلك؛ هذا كله خاج عن عادة الخلق، وطبعهم، وصنيعهم بعضهم مع بعض، لكن عاملهم بما يليق بكرمه وجوده وعد لهم بما أمسكوا لأنفسهم أضعافا مضاعفة.

ثم جائز تسميته ما يمسكون لوقت حاجتهم: قرضا؛ لئلا يمنوا على الفقراء وأهل الحاجة بما أعطوهم منه؛ لما عرف - جل وعلا - من طبعهم الامتنان عليهم، أو لما يدفع عنهم مؤنة حفظ ذلك إلى وقت حاجتهم من السرقة، والغصب وغير ذلك من أنواع ما يخاف التلف منها، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ}، قال أهل التأويل: أي: أجر حسن، واللّه أعلم.

وجائز تسميته: كريما؛ لما أن من ناله يصير كريما، أو لما يؤمل ويرجى أن يكون لهم ذلك، والكريم في الشاهد: هو الذي يرجى منه كل خير ويؤمل، واللّه أعلم.

١٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) جائز أن يكون قوله: {يَسْعَى نُورُهُمْ} أي: كتبهم التي يعطون في الآخرة، فإنه يعطى كتاب المقربين والسابقين من أمامهم وقدامهم، وكتاب سائر المؤمنين من أيمانهم، وكتاب أهل الشرك من وراء ظهورهم، يؤيده حرف حفصة - رضي اللّه عنها -: (نورهم يسعى بين أيديهم وفي أيمانهم) كقوله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ. . .} الآية.

وجائز أن يكون نور إيمانهم ودينهم الذي كانوا عليه في الدنيا.

وجائز أن يكون نورهم الذي ذكر كناية عن الطريق الذي يسلك فيه السابقون، يرون ما أمامهم، وسائر المؤمنين عن أيمانهم وما سلكوا في الدنيا، وأهل الشرك بشمالهم، وأهل النفاق من ورائهم.

وجائز أن يكون قوله: {وَبِأَيْمَانِهِمْ} كناية عن اليمن والبركة؛ إذ إنما بالأيمان ينال اليمن والبركات فسماها بذلك.

ويحتمل ما ذكر أهل التأويل: أنه يرفع لهم نور، فيمشون بذلك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} إنما يقال ذلك قبل دخول أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار؛ وهذا يدل أن النور المذكور لهم يكون قبل دخول أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار.

وقوله: {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}؛ لأنه لا هلاك بعده ولا تبعة، ولا انقطاع لذلك.

ثم قوله: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} ليس أن يراه هو خاصة لا يرى غيره ذلك؛ بل يرى ذلك جميع المؤمنين؛ فيبطل به قول من جعل التنصيص على الشيء دالا على التخصيص ونفي غيره.

وعن قتادة: أنه قال: ذكر لنا أن نبي اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " إن من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن، وإلى صنعاء، فدون ذلك، حتى من المؤمنين مؤمن لا يضيء نوره إلى موضع قدميه، وللمؤمنين منازل لأعمالهم ".

وروي في بعض الأخبار عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ}: ما أفرطوا من أولادهم.

١٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (١٣) منهم من قرأ: {لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ}، ومنهم من قرأ مقطوعة من (أنظرت)؛ قال أبو عبيدة: فالاتصال أحب إلينا؛ لأن تأويلها - واللّه أعلم -: انتظرونا، يقال منه: نظرت فلانا أنظره.

وأما القراءة الأخرى؛ فإنها من التأخير؛ يقال منه: أنظرت فلانا أنظره؛ إذا أخرته، ولا أعرف للتأخير هاهنا موضعا.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: أنظرته ونظرته، أي: انتظرته، يقال منه: نظر نظرة.

ثم الآية دلت على أن أهل النفاق يكونون ببعد من المؤمنين وألا ينتفعوا بنور المؤمنين، ولكن يرون ذلك اليوم من بعد؛ حيث قالوا: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ}، ولو كانوا بقرب منهم أو ينتفعون بنورهم، لكانوا لا يطلبون منهم الانتظار لهم، والاقتباس من نورهم، واللّه أعلم.

وقوله: {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} من الناس من يقول: إن هذا هو الاستهزاء الذي ذكر في آية أخرى: أنه يستهزئ بهم، حيث قال: {اللّه يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ}، فقوله: {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} هو ذلك الاستهزاء.

وقلنا نحن في قوله: {اللّه يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ}، أي: يجزيهم جزاء استهزائهم، الذين استهزءوا برسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبالمؤمنين.

وجائز أن يكون قوله: {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ} وليس على الأمر بالرجوع من وراء والتماس النور، ولكن على التوبيخ والتعيير، أي: النور إنما يطلب من وراء هذا اليوم؛ أي: من قبل هذا اليوم، لا يطلب فيه، واللّه أعلم.

وقوله: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} الآية.

جائز أن يكون السور الذي ذكر الذي ضرب بينهم ما ذكر في سورة الأعراف؛ حيث قال: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ}، السور: هو الأعراف التي ذكر أنها تكون حجابا بين أهل النار وأهل الجنة، يرفع ذلك السور بينهم؛ لئلا ينتفعوا بنور المؤمنين.

وقوله: {لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ}.

جائز أن يكون قوله: {بَابٌ} ليس على حقيقة الباب، ولكن الباب كناية عن الطريق والسبيل؛ يقول: هو طريق وسبيل، من يأخذ ذلك السبيل، أفضاه إلى الرحمة، ومن

سلك ظاهره، أفضاه إلى العذاب.

وجائز أن يُفتح من النار إلى الجنة باب؛ فيرون ما حل بهم من العذاب، ويرون أهل النار أهل الجنة على ما هم عليه من النعيم؛ ليزداد لهم حسرة وندامة.

أو يكون اطلاعا لا من باب، ولكن من السور والأعراف الذي ذكر، وهو ما قال: قوله تعالى: {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ}، والاطلاع في الظاهر إنما يكون من مكان عال مرتفع إلى موضع منحدر، واللّه أعلم.

١٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللّه وَغَرَّكُمْ بِاللّه الْغَرُورُ (١٤) أي: ينادي أهل النفاق المؤمنين ألم نكن معكم قالوا بلى، جائز أن يكون هذا القول منهم {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} تغرير منهم للمسلمين يومئذ كما كانوا يغرونهم في الدنيا، وهو ما أخبر عنهم، يكذبون في الآخرة كما كانوا في الدنيا؛ حيث قال: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّه جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ}، ثم أخبر أنهم هم الكاذبون في حلفهم؛ فعلى ذلك جائز أن يكون قولهم: {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} يخرج على تغريرهم إياهم.

ثم الإشكال والكلام قول المؤمنين: {بَلَى}، وقد علموا أنهم لم يكونوا معهم، فكيف قالوا: بلى؟ فنقول: جائز أن يكون جوابهم خرج لأُولَئِكَ على ما عرفوا من خطابهم ومرادهم، فأجابوهم على ذلك.

أو أن يكون قولهم: بلى إن كنتم تقولون بأنا معكم، ولكن لم تكونوا معنا.

أو يخرج جوابهم على ظاهر ما يرون من أنفسهم الموافقة دون الحقيقة.

وقوله: {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} يخرج على وجوه:

أحدها: امتحنتم أنفسكم في الرجوعِ إلى من جعل لكم المنافع والعاقبة، كقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّه عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} أي شدة، وقَالَ الْقُتَبِيُّ: {فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} أي: أثمتموها.

وقوله: {وَتَرَبَّصْتُمْ} يخرج على وجهين:

يحتمل تربصتم برسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه سيموت عن قريب، أو أنه يرجع عن الإسلام إلى دين أُولَئِكَ الكفرة.

وقوله: {وَارْتَبْتُمْ}، أي: شككتم وإن قام لكم ما يدفع الارتياب والشك عنكم والشبه.

وقوله: {وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ} يخرج على وجهين:

أحدهما: ما ذكرنا من اتباعهم المنافع التي كانوا يتوقعونها فكيفما كان يتبعون غرضهم في ذلك.

والثاني: ما تمنت أنفسهم من موت رسول اللّه وهلاكه، أو عوده إلى دينهم.

وقوله: {حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللّه} أي: الأمر بالهلاك، أو يوم القيامة.

وقوله: {وَغَرَّكُمْ بِاللّه الْغَرُورُ} أي: غركم عن دين اللّه الشيطان.

١٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥).

قرئ بالياء والتاء، وأكثرهم على الياء، معناهما واحد، أي: لا يكون لهم فدية يومئذ، ليس أنه يكون لهم فدية ولا تؤخذ.

أو أن يقول على التمثيل، أي: لو كان لهم فدية، لكان لا تقبل منهم، يخبر أن أمر الآخرة على خلاف ما يكون في الدنيا؛ إذ في [الدنيا] ربما يحتال لدفع البلاء بالفداء مرة وبالشفاء ثانيا.

وقوله: {مَأْوَاكُمُ النَّارُ}، أي يأوون إليها.

وقوله: {مَأْوَاكُمُ النَّارُ}، أي: أولى بكم وأحق.

وقوله: {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}، أي: بئس ما يصيرون إليها.

ثم في الآية دلالة نقض قول المعتزلة في تخليد أصحاب الكبائر في النار؛ لأنه تعالى جعل الناس على ثلاث فرق، وأنزلهم منازل ثلاثة: المنافقين، والكافرين كفر تصريح، والمؤمنين، وجعل النار لأهل الكفر وأهل النفاق، ولم يجعلها لغيرهما، وصاحب الكبيرة ليس هو بمنافق ولا كافر عندهم، وكذلك ما قسم اللّه تعالى الناس أقساما ثلاثة: السابقين، وأصحاب اليمين، وأصحاب الشمال هم المكذبون، وأصحاب الكبائر ليسوا بمكذبين عندهم، وهو ما جعل النار إلا للمكذبين؛ ألا ترى أنه قال في آخره: (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (٨٩) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (٩١) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥). جعل الجنة للمقربين وأصحاب اليمين والنار للمكذبين خاصة، لم يجعلها لغيرهم، فمن جعلها لغيرهم، فهو مخالف لظاهر هذه الآيات التي ذكرنا، واللّه أعلم.

١٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّه وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ}

{وَمَا نَزَلَ} قرئ مخففا ومثقلا، فمن شدد شدد لما سبق من ذكر اللّه تعالى، ومن خفف، جعل الفعل للحق.

ثم الآية تحتمل وجوها:

أحدها: ما قال بعض أهل التأويل: إنها نزلت في المنافقين الذين أظهروا الإيمان، وأضمروا الكفر، {أَلَمْ يَأْنِ}، أي: قد أنى للذين آمنوا ظاهرًا وأظهروا الموافقة للمؤمنين {أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّه}، أي: إذا ذكر اللّه {وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ}، أي: القرآن إذا يتلى عليهم، أي: يرق قلوبهم وتؤمن به؛ لأنهم كانوا يتربصون برسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والدوائر، ويطمعون هلاكه، أمّن اللّه تعالى المؤمنين من ذلك الخوف وآيس أُولَئِكَ عما تربصوا فيه من نزول الدوائر، فقال: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا} ظاهرًا {أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّه} والقرآن، وترق لذلك، وتؤمن به، واللّه أعلم.

ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ}.

على هذا التأويل: أي: لا تكونوا كأُولَئِكَ الذين تمادوا في الضلال وقساوة القلوب؛ لما طال عليهم الوقت، وتركوا النظر في الكتب.

ويحتمل أن يكون الآية في أهل الكتاب الذين كانوا مؤمنين برسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قبل أن يبعث فيقول: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا} به من قبل أن يبعث {أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ} أي كتابهم {وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} وهو القرآن أن يؤمنوا به، كما كانوا آمنوا به لما وجدوا نعته في كتابهم.

ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ. . .} الآية.

أي: لا تكونوا كالذين كانوا من قبلكم من أهل الكتاب، {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ} أي: طال عليهم أن ينظروا في كتبهم؛ {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} بطول ترك نظرهم فيها، واللّه أعلم.

ويحتمل أن تكون الآية في المؤمنين الذين حققوا الإيمان باللّه ورسوله، وهو يخرج على وجهين:

أحدهما: {أَلَمْ يَأْنِ}، أي: قد أنى للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم عند ذكر اللّه بالنظر والتأمل في ذلك؛ فيحملهم ذلك على خشوع قلوبهم عند ذكر اللّه، ويزداد لهم الإيمان واليقين؛ للنظر فيه والتفكر، وفهم ما فيه، واللّه أعلم.

والثاني: {أَلَمْ يَأْنِ}، أي: قد أنى للذين آمنوا أن تقطع شهواتهم وأمانيهم في الدنيا، وتخشع قلوبهم لذكر اللّه، {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}، أي: لا تغفلوا عن كتاب اللّه وذكره ولا تتركوا النظر فيه والتفكر، كالذين غفلوا عما فيه؛ فقست قلوبهم فلا تكونوا

أنتم كهم؛ فتقسوا قلوبكم كما قست قلوبهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}، أي: كثير من أُولَئِكَ الذين أوتوا الكتاب فاسقون؛ لتركهم النظر في الكتاب.

وجائز {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} أي: المعاندون، والقليل منهم المقلدون؛ وهو كقوله: {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ}، أي: معاندون، وهم الرؤساء والقادة الذين كابروا الرسل وعاندوهم إلا قليل منهم اتبعوهم وقلدوهم.

١٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اعْلَمُوا أَنَّ اللّه يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧).

ذكر هذا ليس على أنهم لم يكونوا علموا أن اللّه هو يحيي الأرض بعد موتها، بل كانوا عالمين بذلك، لكنه ذكر كما ذكر لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث قال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه}، أي: أشعر قلبك في كل وقت وساعة الربوبية للّه تعالى والواحدانية له؛ فعلى هذا يحتمل قوله: {اعْلَمُوا أَنَّ اللّه يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}، أي: أشعروا قلوبكم في كل وقت جعل الألوهية والربوبية للّه تعالى، وصرف العبادة إليه، والتنزيه والتبرئة له عما لا يليق به مما يوصف به الخلق؛ إذ علمتم أنه يحيي الأرض بعد موتها، فاعلموا، أنه يمتحنكم بأنواع المحن؛ إذ لا يحتمل إحياء ما ذكر بغير فائدة وتركهم سدى.

أو يقول: قد علمتم أن اللّه تعالى هو يحيي الأرض بعد موتها، وأنتم ترغبون فيما أحياه، وتصيبون منه، وتجتهدون في نيل ذلك وإصابته، فاجتهدوا في إصابة البركات الدائمة في الحياة الباقية.

أو يقول: كما علمتم: أنه قادر على إحياء الأرض بعد موتها، فاعلموا أنه قادر على البعث، واللّه أعلم.

وقوله: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} قد ذكرنا فيما تقدم أن حرف " لعل " من اللّه تعالى يخرج على الإيجاب، لكن يخرج هاهنا على الترجي وإطماع العقل للآيات والفهم لها إذا نظروا فيها وتأملوا أنها آيات من اللّه تعالى.

أو أن يرجع ذلك إلى خاص من الناس لو خرج حرف " لعل " للإيجاب دون الترجي، وهم الذين علم اللّه تعالى أنهم يعقلون أنها آيات ويؤمنون بها، واللّه أعلم.

١٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ ... (١٨) قرئ مشدد الصاد والدال، ومخفف الصاد، فمن شدده جعله من التصدق، أي: المتصدقين والمتصدقات، فأدغم التاء في الصاد؛ فيصير الْمُصَّدِّقِينَ، مثل: المزمل والمدثر؛ يؤيد ذلك ما ذكر في حرف أبي بن كعب - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قرأ بالتاء: (إن المتصدقين والمتصدقات).

ومن خففه، جعلهما من أن تصديق والإيمان.

وقوله: {وَأَقْرَضُوا اللّه قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ}.

قد ذكرنا تأويله فيما تقدم.

١٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللّه وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (١٩) سمى المؤمنين: صديقين، والصديق لا يقال إلا لمن يكثر منه التصديق، وقد يكثر من كل مؤمن التصديق وإن كان ما يأتي به إنما هو شيء واحد نحو إذا صدق اللّه - صدق رسله فيما أخبروا عن اللّه تعالى وفيما دعوهم إلى ما دعوا، وبلغوا عن اللّه إلى الناس، وصدق الخلائق جميعا فيما شهدوا على وحدانية اللّه تعالى وألوهيته من حيث شهادة الخلقة وشهادة الأخبار في حق المؤمنين، فتصديقه يكثر، وإن كان الكلام في نفسه يقل، وهو كما قلنا لأبي حنيفة - رحمه اللّه - في جواز الخطبة بتسبيحة أو تهليلة: إنها كلمة وجيزة، لو فسرت وبسطت، صارت خطبة طويلة، واللّه أعلم.

فَإِنْ قِيلَ: إن أبا بكر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - فضل باسم الصديق على غيره من الأمة، فإذا استحق غيره من المؤمنين هذا الاسم لم يختص هو بتلك الفضيلة؟

قيل: إن أبا بكر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - سمي: صديقا وخص به من بين سائر الصحابة والمؤمنين؛ لمعنى اختص به من بينهم، وغيره من المؤمنين سموا: صديقين من بين سائر أهل الأرض جميعا إلا في مقابلته، كهو اختص بهذا الاسم من بين سائرهم إلا في مقابلة النبي وسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، هذا هو معنى تفضيله، والفضل عند المقابلة يكون.

ويحتمل أن يكون ذلك الاختصاص له للاعتقاد والمعاملة جميعا وسائر المؤمنين سموا: صديقين؛ للاعتقاد خاصة، ومن وفي الأمرين جميعا كان أفضل ممن وفي أمرا واحدًا.

وقوله: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} من الناس.

من جعل قوله: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} على الابتداء مقطوعا من قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ}، ومنهم من وصله به:

فمن قطع عنه؛ فإنه يقول: الشهداء هم الرسل؛ لقوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا}، ثم أخبر أن لهم أجرهم.

ومن قال إنه موصول ذهب إلى أن المؤمنين شهداء على الناس؛ كقوله: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ. . .} الآية، سماهم: شهداء على غيرهم من الأمم، واللّه أعلم.

ولأهل الاعتزال أدنى تعلق بظاهر هذه الآية؛ وذلك لأنهم يقولون: إن اللّه تعالى إذا ذكر المؤمنين على الإطلاق، ذكر على أثر ذلك ما وعد لهم من الكرامات والثواب الجزيل، وإذا ذكرهم مع جريمتهم ذكر الوعيد لهم، يستدلون بذكر الوعيد على أثر ذلك على أنه قد خرج من الإيمان، لكن ليس لهم بذلك دليل وإنما ذكر مقابل ما ذكر للمؤمنين من الكرامات للكفار الجحيم، واللّه أعلم.

٢٠

وقوله: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ}.

ففي ظاهر ما ذكر من هذه الآية ونحوها من الآيات لأهل الإلحاد طعن عظيم؛ فإنهم يقولون: إن كانت الحياة الدنيا لعبا ولهوا، فلم أنشأ اللّه تعالى لعبا ولهوا ولا منشئ سواه؟ فلهم موضع الطعن على هذا الوجه، ولهم دعوى التناقض - أيضا - فيه؛ لما ذكر في بعض الآيات، فقال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ}،

وقال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا}، وقال في هذه الآية وغيرها: {أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ}.

فنقول: إن الآية تخرج على وجوه:

أحدها: على التقديم والتأخير مع الإضمار: كأنه قال: اعلموا أن مثل الحياة الدنيا وزينتها وتفاخرها وتكاثرها ولعبها ولهوها، أي: يتزينون بها ويتفاخرون بالأولاد والأموال، ويتلهون بها ويلعبون - كمثل الغيث أعجب الكفار نباته، ثم يصير ما ذكر حتى لا ينتفع به؛ فعلى ذلك حياة الدنيا، واللّه أعلم.

والثاني: إنما الحياة الدنيا على ما هي عندكم، وعلى ما اتخذتموها، وعلى ما ظننتم: أنه لا بعث ولا حياة بعده -كان إنشاؤها عبثا ولهوا- إذ لو كان على ما ظنوا لم يكن

إنشاؤها إلا للإفناء والإهلاك خاصة، وبناء البناء المحكم للإفناء خاصة عبث وسفه، ليس بحكمة، وهو ما ذكر: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا}، ذلك ظن الذين كفروا، وكان ظنهم أن لا بعث ولا حياة بعده؛ فعلى ما كان ظنهم، كان إنشاؤها لعبا ولهوا، فأما الحياة الدنيا على ما هي عند أهل التوحيد حكمة وحق وصواب، وعلى ما كان عند أهل الإلحاد، فهي سفه وباطل، وقد رد اللّه عليهم بقوله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}.

وجائز أن يكون معنى قوله: {أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ}، أي: لو قوبلت بحياة الآخرة، لكانت عبثا ولهوا؛ لأن الدنيا بنيت على الفناء والانقطاع والزوال عن قريب، والآخرة على الدوام والبقاء، وهو ما ذكر: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى}؛ لأنها باقية، والدنيا فانية.

أو يقول: إنما الحياة الدنيا للدنيا خاصة لعب ولهو، أي: من جعل الحياة الدنيا للدنيا خاصة تكون لعبا ولهوا، ومن جعل الحياة الدنيا زادا للآخرة وبلغة إليها، فهي ليست بلعب، وهو ما قال تعالى: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ}، أخبر أن الإنفاق للدنيا كمثل ريح فيها صر، وقال في النفقة التي تكون في الدنيا لحياة الآخرة: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّه كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ. . .} الآية، واللّه أعلم.

وقوله: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ}.

والإشكال: أنه كيف خص الكفار بعجبهم ظاهر ذلك النبات وقد يعجب النبات لأهل الإيمان؟ فنقول: لأن الكفار يعجبهم ظاهر ذلك النبات وما يرون من النزهة، لا يرون إلى ما ضمن في ذلك النبات وجعل فيه من المنفعة في العاقبة لكن ينظرون إلى ظاهره، وأما المؤمنون إنما يعجبهم ما في ذلك النبات من المنفعة في العاقبة، وإلى ذلك يكون نظرهم لا إلى ظاهره، وهو كما شبه إنفاق الكفرة بالريح التي فيها صر يصيب حرث قوم؛ لما لا يقصدون بإنفاقهم سوى نفس الإنفاق، وشبه نفقة أهل الإيمان بالحبة التي تنبت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة؛ لما كان مقصدهم في الإنفاق عاقبته، لا عين الإنفاق.

ويحتمل أن يكون المراد من الكفار الزراع، وبه فسر بعض أهل الأدب؛ وهو كقوله: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ. . .}، فعلى هذا التأويل، رجع إلى الكل، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ}، أي: لهَؤُلَاءِ الذين اتخذوا الدنيا لعبا ولهوا، وصيروها تفاخرا وتكاثرا دون أن يتخذوها زادا وبلغة إلى الآخرة.

وقوله: {وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللّه وَرِضْوَانٌ}، فهو للمؤمنين الذين اتخذوا الحياة الدنيا للآخرة، وعقلوا الآيات التي بينها لهم؛ للنظر فيها والتفكر والتأمل فيها، ووضعوها مواضعها، واللّه أعلم.

وقوله: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} هو يخرج على الوجوه التي ذكرنا في قوله: {أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ}.

قال الإمام الهندي - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - في قوله: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}: إن الحياة الدنيا وحبها لنفسه وعلى ما أنشئت وجعلت له -حكمة وحق وسرور ليس بغرور، وأما اختيارها وحبها لغيره واستعمالها لغير الذي أنشئت وجعلت- غرور ولعب ولهو؛ لأن من أحب شيئا استكثر منه، وحبسه لنفسه، وحفظه من نقصه وضياعه، واستبقاه لوقت حاجته ويوم فقره؛ فعلى ذلك من جمع الدنيا لنفسه وأحبها واستعملها فيما أذن له، وهو أن يجعلها زادا للآخرة وبلغة إليها، فإذا علم ذلك استكثر منها عند اللّه ليوم فاقته، فمن أحبها واختارها لهذا، فليس بغرور، ولا لعب، بل سرور وبهجة، ومن طلبها لغيره واستعملها في غير ما أنشئت، كان غرورا ولعبا، على ما ذكر في قوله: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} على ما يختارون هم ويحبونها؛ وذلك أن اللّه تعالى أنشأ لنا هذه النعم؛ حيث قال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}،

وقال: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ}، يجب أن ينظر إلى ذلك بالتعظيم لها والإجلال، وليس الاستخفاف والهوان؛ ألا ترى أن ملكا من ملوك الأرض لو أكرم أحدًا بكرامة وأهداه بهدية، ثم علم منه الاستخفاف بها؛ فإنه يسلب منه هديته ويستحقره؛ فعلى ذلك يجب أن نتلقي نعمة اللّه تعالى بالتعظيم والتبجيل والقبول الحسن، لا على الاستخفاف بها والإهانة.

ثم الناس بعد هذا رجلان:

رجل يرغب في نعمة الدنيا وجمعها، وجعلها عند اللّه ذخرًا وزادا لوقت فقره وحاجته.

ورجل زهد فيها؛ خوفا من التقصير في عبادة اللّه تعالى في حقوقه أن يشتغل بها، ويمنعه ذلك عن أداء حقوقه والاقتداء برسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيما أمره، وله أسوة حسنة بنبيه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

وأما من ترك الدنيا وما أنشأ اللّه تعالى فيها من النعم؛ استخفافا بها وهوانا، فهو الجاهل المستخف بنعم اللّه تعالى الغافل عما أنشئت له الدنيا وما فيها، فهذا والذي

طلب الدنيا للدنيا مذمومان، والذي طلبها لنفسه زادا للآخرة والذي زهد فيها محمودان، واللّه أعلم.

وعلى ذلك يخرج " إن حب الدنيا رأس كل خطيئة ": أن من أحبها لغيره ولغير الذي جعلت له تكون رأس كل خطيئة، ومن أحبها لنفسه، واتخذها زادا للآخرة، فهي رأس كل حسنة وطاعة، واللّه أعلم.

٢١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّه وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللّه يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللّه ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١) يقول: اجعلوا المسابقة فيما بينكم في مغفرة ربكم إلى الجنة، لا إلى جمع الأموال والأولاد، وكان أهل الكفر جعلوا المسابقة في الدنيا في جمع الأموال والتفاخر والتكاثر بها، فيقول لأهل الإيمان: اجعلوا أنتم المسابقة في طلب مغفرة اللّه وجنته، واللّه أعلم.

ويحتمل تسبقون آجالكم بأعمالكم التي توجب لكم المغفرة واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. . .} الآية، ذكر سعة الجنة؛ لأن العرض إنما يذكر لسعة تكون للشيء، وقد ذكر سعتها فيها؛ حيث قال: (وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ)، وقال - تعالى -: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ}، ونحو ذلك؛ ذكر ما فيها من السعة وسعتها، واللّه أعلم.

ثم ذكر عرضها كعرض السماء والأرض، وهو يخرج على التحديد والتقدير: أن عرضها مثل عرض السماوات والأرض، لكن لما لا شيء أوسع في أوهام الخلق مما ذكر، وهو كقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ}، ذكر دوامهما؛ لما لا شيء أبقى وأدوم منهما في الأذهان، وإلا كانتا تفنيان.

ويحتمل أن يقول: {عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}، أي: تصير السماوات والأرض جميعا جنة لهم.

ثم وصف الجنة بالسعة، ووصف النار بالضيق، حيث قال: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا}، وذلك أنه ليس في فضل النار على قدر المجعول الذي يصل إلى المعذب بها فائدة فلذلك تضيقت، ولفضل الجنة على قدر الحاجة لذة وسرور ومنفعة؛ فوسعت لذلك، واللّه أعلم.

ثم أخبر أنها أعدت للذين آمنوا باللّه ورسوله، والإيمان باللّه - تعالى -: هو أن يصدق

كل شيء يشهد على وحدانيته وألوهيته، والإيمان برسله: هو أن يصدقهم فيما أخبروا عن اللّه تعالى، وكل صاحب كبيرة مصدق بالذي ذكرنا، فهو مؤمن؛ وذلك على المعتزلة؛ لقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذَلِكَ فَضْلُ اللّه يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ}؛ دلت الآية على أن ما يعطي من الثواب لعبيده فضل منه وإن سماه: جزاء، وأجرا؛ لأنه قد سبق منه إليهم من الإحسان والنعم ما يصير تلك الأفعال -وإن كثرت- شكرا لأدنى نعمه، وإن طال عمره، فأنى يستوجب الشكر والثواب على تلك الأعمال ثوابا وجزاء، واللّه أعلم.

٢٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللّه يَسِيرٌ (٢٢) أي: ذكرها في كتاب، كان ذلك الكتاب قبل أن نبرأ المصائب، أي: نخلقها؛ إذ لا يحتمل كون أنفس تلك المصائب في الكتاب قبل خلقها؛ فدل على كون ذكر المصائب فيه، وهو كقوله: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ}، وليست الشجرة في القرآن، ولكن ذكرها فيه من ذلك ما روي في الخبر أنه " نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو "، أي: نهى أن يسافر بالذي كتب فيه القرآن، وإلا لم يكن عين القرآن في ذلك المصحف؛ فعلى ذلك ما ذكر من المصائب، وذلك يخرج على المجاز دون الحقيقة، واللّه أعلم.

ثم اختلف في قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا}:

منهم من قال: من قبل أن نخلق تلك المصائب.

ومنهم من قال: من قبل أن نبرأ تلك الأنفس والأرض؛ والأول أصح.

وقوله: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللّه يَسِيرٌ} يخرج على وجهين:

أي: كثرة ما يصيب الخلق في أنفسهم وأموالهم يسير على اللّه، غير شديد عليه، ليس كملوك الأرض؛ لأن ما يصيب حشمهم وخدمهم من المصائب يشتد عليهم؛ لما أن قوامهم بحشمهم وخدمهم، ولهم منافع فيهم، واللّه يتعالى بذاته، ليس له في بقاء الخلق منفعة، ولا في ذهابهم وفنائهم ضرر، فذلك يكون عليه يسير.

والثاني: أن كتابه لم يكن بعد ولم يخلق، وعلمه قبل كونه على اللّه يسير هين، يخبر أنه عالم في الأزل بكون الأشياء في أوقاتها، لا يصعب عليه، ولا يشتد العلم بها قبل

كونها وقبل ظهورها كما يشتد على الخلق ويصعب عليهم، واللّه أعلم.

وفي الآية دلالة خلق أفعال العباد؛ لأن اسم المصائب يقع على ما للخلق فيه صنع كما يقع على ما لا صنع لهم فيه، ثم أضاف اللّه تعالى خلقها إلى نفسه مطلقا بقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا}، دل أن أفعال العباد مخلوقة للّه تعالى؛ ألا ترى أن اللّه تعالى سمى ما يصيب بأيدي الخلق: مصيبة، فقال: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللّه بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا}، وقال في آية أخرى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّه بِأَيْدِيكُمْ. . .} الآية.

قالت المعتزلة: يقال: أصابنا كذا فيما لا صنع للخلق في ذلك، فأما ما فيه، صنع للخلق يقال: " أصبنا ".

لكن هذا فاسد؛ فإنه جائز أن يقال في كل ما أصابك: أصبته، وما أصبته أصابك؛ لأنه إذا أصابك شيء فقد أصبته، وذلك جائز في اللغة، واللّه أعلم.

٢٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللّه لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (٢٣) جعل اللّه تعالى في طباع الخلق الحزن والأسى على ما فاتهم من النعمة وما ينزل بهم من البلاء والشدة، والسعة والفرح والسرور بما ينالون من النعمة، هذا هو المنشأ والمجعول في طباعهم.

ثم يخرج تأويل الآية بالنهي عن الأسى والحزن بفوت النعمة، وعن الفرح والسرور عند إصابتها على وجوه: أحدها: يقول - واللّه أعلم - لكيلا تستكثروا من الأسى والحزن على ما فاتكم، فيحملكم ذلك على الشكوى من اللّه تعالى، {وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} أي: لا تستكثروا من الفرح والسرور حتى يحملكم ذلك على الطغيان والعدوان، كما ذكر في الخبر: " أعوذ باللّه من الفقر المنسي والغناء المطغي "، واللّه أعلم.

والثاني: يقول: لكيلا يشغلكم الأسى والحزن على ما فاتكم من النعمة حتى يفوتكم أضعاف ذلك، وهو ما وعد لهم من الثواب إذا صبروا؛ كقوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}، ثم قال: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}، يقول: لا يشغلكم الجزع وترك الصبر عمَّا وعد لكم من الصلاة والرحمة والاهتداء؛ ولذلك الجزع في المصيبة أعظم المصيبتين، ويقول - أيضا -: ولا يشغلكم شدة الفرح والسرور بما

آتاكم عن الشكر حتى تفوتكم الزيادة على ذلك؛ لأن اللّه تعالى وعد الزيادة على النعمة إذا شكر بقوله: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}، واللّه أعلم.

والثالث: يقول: لا تأسوا على ما فاتكم، ولكن انظروا إلى ما كان منكم من الجريمة حتى فاتكم ذلك؛ حيث قال: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}، يقول: لا تأسوا على ما فاتكم، ولكن انظروا إلى تفريطكم في جنب اللّه، وارجعوا عن ذلك؛ وكذلك يقول: لا تفرحوا بما آتاكم، ولكن انظروا إلى إحسان اللّه الذي كان إليكم، واللّه أعلم.

ويحتمل: أن يقول: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ}، ولكن انظروا إلى ما امتحنكم به وابتلاكم؛ إذ هو امتحن بعضا بالشدائد والبلايا، وأمرهم بالصبر على ذلك، وبعضا بالسعة والرخاء، وأمرهم بالشكر على ذلك، فاصبروا ولا تجزعوا إن فاتكم النعم وأصابتكم المصائب، واشكروا له، ولا تفرحوا عند النعم فرحا يكون بطرا وأشرا.

أو يقول: لا تأسوا على ما فاتكم؛ فإن الذي أخذ من النعم لم يكن في الحقيقة لكم، إنما هو لغيركم، ومن كان عنده مال لآخر فأخذه لا يجب أن يحزن على ذلك، ولا تفرحوا بما آتاكم، فإن النعم التي آتاكم يجوز أن تكون لغيركم لا لكم، واللّه أعلم.

وقوله: {وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} قرئ ممدودًا ومقصورا، فمن مده، رد الفعل إلى اللّه تعالى، ومن قصره جعل الفعل لذلك الشيء؛ لموافقة قوله: {عَلَى مَا فَاتَكُمْ}، ولم يقل: أفاتكم.

وقوله: {وَاللّه لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}، ولكن يحب ضد ذلك وخلاف المختال المتكبر، فيحب المتواضع الخاضع.

والفخور هو الذي يفتخر بما أنعم اللّه عليه على الناس، فيحب الذي يشكره على نعمه بالتوسيع على عباده.

وجائز أن يكون هذا كله وصف الكفار؛ كأنه يقول: لا يحب كل كفار؛ كقوله: {صَبَّارٍ شَكُورٍ}، أي: يحب المؤمن؛ لأن المؤمن يكون صبارا على المصائب، شكورا لنعمائه، واللّه أعلم.

٢٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللّه هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤) جائز أن يكون هذا صلة قوله: {لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} تفسيرا له.

وجائز أن يكون على الابتداء، وهو كقوله: {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ. الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ}، كأن قوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ} مفصول من الأول، وكذلك هذا.

ثم قوله: {يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} يحتمل ما ذكر من بخلهم في آية أخرى، فقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّه قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللّه أَطْعَمَهُ} بخلوا بالإنفاق على المؤمنين، أو بخلوا بالإنفاق على أتباعهم؛ ليبقى الكرم والرياسة عليهم.

وجائز أن يكون ما ذكره بعض أهل التأويل أن ذلك نزل في الرؤساء من أهل الكتاب؛ بخلوا ببيان صفة مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - التي كانت في كتبهم، وأمروا أمثالهم وأشكالهم بكتمان ذلك، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللّه هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}، أي: ومن يعرض عن ذلك فاللّه هو الغني الحميد؛ الغني عن عبادتكم وعما دعاكم إليه؛ إذ لم يدعكم إلى ما دعاكم لحاجة نفسه؛ إذ هو الغني بذاته، الحميد بفعاله؛ أي: بما علم منكم من الرد لرسالته لا يخرج فعله من أن يكون محمودا، ولا يصير لفعله إلى أعدائه بما صنع غير حميد، واللّه أعلم.

ثم في قوله: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} وجوه أيضا:

أحدها: أن المصائب ربما تجري على أيدي الناس وتصيبهم منهم، فقال: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} ما جرى ذلك على أيدي الناس؛ لأنه لا يزول منهم؛ فيحملهم ذلك على العداوة والبغضاء، ولكن يرون ذلك مكتوبا عليهم من اللّه تعالى، وكذلك ما ذكر فيما يؤتيهم من النعم على أيدي الخلق، فلا يزال ذلك منهم؛ فيشغلهم عن القيام بشكر الرب - جل وعلا - ولكن يرونه من فضل اللّه تعالى ومنه فيشكرونه.

والثاني: يحتمل: أن يكون النهي عن الحزن أمرا بالفرح؛ أي: لا تأسوا على ما فاتكم، ولكن افرحوا بالعمل الذي يأتيكم؛ فإنهم لو لم يفتهم لكان يشغلهم عن القيام بحقوق اللّه تعالى وأداء ما عليهم من الفرائض، واللّه أعلم. وفي قوله - تعالى -: {وَلَا تَفْرَحُوا} أمر بالحزن، وقد يذكر الشيء ويراد به إثبات ضده؛ كقوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ}، أي: خسرت تجارتهم، وينبغي أن تتلقى نعم اللّه تعالى على وجهين:

أحدهما: بحسن القبول لها والتعظيم والشكر للمنعم؛ إذ أغناه بذلك عن النظر لما في أيدي الناس ورفع الحاجة، وذلك من أعظم النعم.

والثاني: يخاف؛ لما لعله فعل ذلك به استدراجا وامتحانا؛ إذ الأموال ربما تكون فتنة

وبلاء أو تشغله عن أداء ما عليه إن كان ذلك سبب استدراجه وبلائه، فأخذ منه.

أو لما يصل بذهابه إلى أداء الفرائض من العبادات، وكان ذلك يمنعه.

ويحزن من وجهين أيضا:

أحدهما: لما لعل قوته يحوجه إلى ما في أيدي الناس، وكان غنيا عنهم.

أو لما لعل ذلك عقوبة لتفريط كان منه؛ كقوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}، واللّه أعلم.

ثم أضاف ما نالوا من النعم إلى نفسه حيث قال: {وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ}، ولم يضف ما فاتهم إلى نفسه، وهو كما قال في آية أخرى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّه وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}، وهو ما ذكرنا أنه جائز أن يكون ما يفوتهم من النعم باكتساب وسبب كان منهم، واللّه أعلم.

٢٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} يحتمل وجهين:

أحدهما: أي: أرسلنا بما يبين ويوضح أنهم رسل اللّه، وأن تلك الآيات التي أتوا بها من عند اللّه لا باختراع من عندهم؛ لما هي خارجة عن وسع البشر.

والثاني: ما يبين صدق الرسل في خبرهم، وعدلهم في حكمهم، أو يبين ما لهم وما عليهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}، وقال في آية أخرى: {اللّه الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ}، ثم يحتمل {وَالْمِيزَانَ}: الموازين المعروفة التي بها تستوفى الحقوق فيما بين الناس، وبها يوفَّى وبها تحفظ حقوق الأموال التي بينهم وحدودها.

فإن كان المراد هذا فكأنه قال: وأنزلنا معهم الكتاب الذي به يحفظ الدِّين وحدوده، والميزان الذي به يحفظ حدود الأموال، لا يزاد على الحق، ولا ينقص منه، واللّه أعلم.

وجائز أن يكون المراد بالميزان: الحكمة؛ إذ ذكره على إثر الكتاب؛ كقوله: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}؛ كأنه يقول - واللّه أعلم -: {وَأَنْزَلَ اللّه عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}؛ فيكون الكتاب ما يحفظ حدود الأفعال والأقوال، وتكون الحكمة ما يقوم الناس بها بالقسط.

أو أن تكون الحكمة ما أودع في الكتاب من المعاني.

وقال الحسن في قوله: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}: إنهما واحد.

ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} يخرج على وجهين:

أحدهما: أنزل ما ذكر من الكتاب والميزان؛ ليلزم الناس القيام بالعدل، وقد ألزمهم ذلك بما أنزل عليهم من الكتاب والميزان وبين الحدود.

والثاني: أنزل ما ذكر؛ ليقوم الناس بالقسط؛ على وجود القيام بالعدل.

فإن كان المراد منه الوجود فهو راجع إلى خاص من الناس، وإن كان على الإلزام فهو راجع إلى الكل وهو كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، فإن كان على وجود العبادة فهو يرجع إلى خاص من الناس، وإن كان المراد بقوله: {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، أي: لأمرهم وإلزامهم فهو للكل؛ فإنه قد خلقهم ليأمرهم ويلزمهم، وقد أمرهم وألزمهم، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}، خص اللّه تعالى ذكر الحديد بما جعل فيه من البأس من بين غيره من الأشياء، وإن كان يشاركه غيره في احتمال الأذى والضرر به مما يطعن به فينفذ ويضرب به، ويستعمل في الحروب والقتال؛ لأمرين:

أحدهما: أنه هو الكامل في الظفر والنفاذ والجرح، وإن كان قد يتحقق من غيره؛ ولذلك اعتاده الناس آلة القتال والحرب؛ فيكون البأس فيه أشد.

والثاني: لما يتحصن به باتخاذ الدرع؛ لقوله: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ}؛ لهذا اختص الحديد، واللّه أعلم.

وقوله: {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} جعل اللّه تعالى في الحديد منافع ليست تلك في غيره، وهو ما يتخذ منه ما يحرز به ويخاط من الخفاف وغيره، مما لا يحتمل هذا النوع لغيره، وكذلك حوائج الخلق لا تقوم في سائر أنواع الحرف والأعمال من التجارة والزراعة والبناء وغيرها إلا به.

وفيه خصوصية في حق المحن، وهو ما يظهر عند فرض القتال صدق إيمان المحقق ونفاق المرتاب؛ بقوله: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّه أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً}، ونحو ذلك، فظهر الصادق من الكاذب في الحروب، وإنما ذلك

بالحديد؛ فصار مخصوصا في حق المحنة وغيرها من المنافع، حتى لا يلتئم أمر من أمور المعاش إلا به؛ فلذلك خص، واللّه أعلم.

وقال أهل التأويل: أنزل من السماء المطرقة والفلاة والكلبتين.

وعندنا ليس على حقيقة الإنزال من السماء كذلك.

ومعنى قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ}، أي: خلقنا؛ كقوله: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ}، أي: خلقها، وقوله تعالى: {أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ}، ومعلوم أنه لم ينزل اللباس على ما هو عليه؛ ولكن معناه: خلقه لباسا لهم؛ كذلك هذا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلِيَعْلَمَ اللّه مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ} يحتمل {مَنْ يَنْصُرُهُ} أي: دينه أو أراد بإضافة النصر إلى نفسه نصر رسوله مُحَمَّد وسائر رسله عليهم الصلاة والسلام.

ثم نصر الرسل مرة يكون بتبليغ ما أمروا إلى قومهم، ينصرونهم، ويعينونهم على ذلك، ونصر دينه إظهاره في الخلق والذب عن أهله والمعونة لهم؛ هذا يحتمل، وعلى هذا يخرج قوله تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللّه يَنْصُرْكُمْ}، واللّه أعلم.

وجائِز أن يكون المراد من إضافة النصر إليه نصر أنفسهم ودينهم، إذ هم المنتفعون بذلك، ولهم يحصل ذلك النفع وتلك المعونة، لكنه بفضله وكرمه، سمى ذلك: نصره، وأضافه إلى نفسه، على ما جعل لأعمالهم التي يعملونها لأنفسهم ثوابا، وذكر لهم على ذلك أجرا، كأنهم عاملون له، وهم المنتفعون بها، المحتاجون إليها، فعلى ذلك جائز أن يكون ما عملوا لأنفسهم سماه: نصرا له وإن كان ذلك النصر لهم، وأنه ناصر الكل؛ حيث قال: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللّه فَلَا غَالِبَ لَكُمْ}، أخبر أنه إذا نصرهم لا غالب لهم سواه، وإذا خذلهم لا ناصر لهم دونه، واللّه أعلم.

ثم قوله - عَزَّ وجل -: {وَلِيَعْلَمَ اللّه مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ} يخرج على وجهين:

أحدهما: ليعلم من قد علم أنه ينصر: ناصرًا وليعلم من قد علم بالغيب أنه يكون كائنا شاهدا، والتغيير على المعلوم لا على العلم.

والثاني: يريد بالعلم المعلوم، وذلك جائز في اللغة، ذكر العلم والفعل على إرادة المعلوم والمفعول: نحو ما يقال: الصلاة أمر اللّه، أي: بأمر اللّه؛ لأن الصلاة لا تكون أمره.

وقوله - عَزَّ وجل -: {إِنَّ اللّه قَوِيٌّ عَزِيزٌ} ذكر هذا؛ ليعلم أنه لم يأمر فيما أمرهم من القتال والنصر لحاجة نفسه، ولا استعملهم فيما استعمل من النصر والمعونة لنفسه، ولا

أن يكتسب بذلك العز لنفسه؛ حيث أخبر أنه قوي بنفسه عزيز بذاته، ولكن أمرهم بما أمر، واستعملهم فيما استعمل؛ لنصر أنفسهم ولقوتهم، واللّه أعلم.

٢٦

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (٢٦) وإنما ذكر نوحا وإبراهيم - واللّه أعلم - لما أخبر أنه جعل في ذريتهما النبوة والكتاب؛ وإلا قد ذكر الرسل بجملتهم في قوله تعالى؛ {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ}؛ فدخل نوح وإبراهيم - عليهما السلام - في قوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ}، ثم ذكر أن منهم من اهتدى -أي: من قومهم- وكثير منهم فاسقون بقوله: {فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}، يخبر رسوله عليه الصلاة والسلام أنه قد كان في قومهم من اتبعهم؛ فصاروا مهتدين، ومنهم من ترك اتباعهم، وخرجوا من أمر اللّه؛ فصاروا فاسقين، يصبره، ويسكن قلبه على ما كان في قوم من تقدم من الرسل من المجيبين لرسله والتاركين للإجابة كقومك، أي: لست أنت بأول من كذب ورد قوله؛ تعنتا وعنادا، واللّه الهادي.

٢٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللّه فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (٢٧) أخبر أنه جعل في ذريتهما النبوة والكتاب، وبعث منهم رسلا.

ذكر في الآية الأولى أنه جعل في ذريتهما النبوة والكتاب، ولم يذكر الرسالة، وذكر في هذه الآية الرسالة فيهم وفي ذريتهم، أي: أرسلنا رسولا على أثر رسول، وأتبعنا بعضهم بعضا: من قفا يقفو.

ثم ذكر أنه قفى بعيسى ابن مريم؛ لأن عيسى - عليه السلام - من أولاد إسحاق - عليه السلام - وبعث محمدا - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من بعد، وهو من ولد إسماعيل، عليه السلام.

وقال بعض أهل التأويل: وقفينا أي أتبعنا، ويقال: قفيت فلانا، أي: عينته وسميته، وقفوته أقفوه قفوا وقفيا، واقتفيت به، أي: لزمته.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً}، وصف اللّه تعالى الذين اتبعوا الرسل وآمنوا بهم بالرحمة والرأفة فيما بينهم، وهو كما ذكر في آية آخرى: {إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}،

وقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}، وقال في آية أخرى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}،

وقال: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}، ونحو ذلك؛ وذلك لأن السبب الذي جمعهم واحد، وهو التوحيد والإسلام.

قيل: كيف وقع بينهم من العداوة والبغضاء ما وقع وسبب الجمع قائم، حتى استحل بعضهم قتال بعض من نحو الخوارج والمعتزلة؟

قيل: إنما وقع ذلك فيما بينهم وإن كان سبب الجمع قائما؛ لما كانت تلك الألفة والرأفة بلطف من اللّه تعالى، وقد زال ذلك اللطف وارتفع، وحدث بينهم ما حدث.

أو نقول: إن الخوارج قد أحدثوا من أنفسهم أشياء حتى سموا المسلمين كفرة بما ارتكبوا الكبائر، حتى نصبوا القتال والحرب معهم، وكذلك المعتزلة سموا أصحاب الكبائر: فسقة وفجرة ومنزلتهم بين الكفر والإيمان ومن سمى آخر: كافرا أو فاسقا، فلا شك أن يحدث بينهما عداوة وتباغض، فما حدث بيننا وبينهم من العداوة بتسميتهم إيانا فسقة وفجرة وكفرة بارتكاب الكبائر، وإن كان السبب الذي جمعهم قائما عندنا، واللّه الموفق.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ. . .} الآية، ذكر في القصة أن في الفترة التي كانت بين عيسى ومُحَمَّد - عليهما الصلاة والسلام - كان من بني إسرائيل ملوك غيروا التوراة والإنجيل، وبقي منهم أناس مؤمنون بعيسى - عليه السلام - ويعملون بما في الكتب، فهم هَؤُلَاءِ الملوك أن يقتلوهم لإبائهم اتباعهم والعود إلى مذهبهم، فخرجوا من بينهم، فترهبوا؛ رجاء أن يتخلصوا منهم، فذلك {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ}، أي: فرضنا عليهم تلك الرهبانية، ولم نأمرهم بها، ولكن فرض عليهم وكتب في الجملة أن يطلبوا رضوان اللّه فابتدعوا تلك الرهبانية؛ رجاء أن يكون فيها رضوان اللّه، واللّه أعلم.

قال: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا}، أخبر أنهم ابتدعوا شيئا لم يكتب عليهم، ثم ذكر أنهم لم يرعوه حق رعايته، ذمهم، لتركهم الرعاية لما ابتدعوه، ففيه دلالة أن من افتتح أمرًا لم يفرض عليه من صلاة أو صوم أو نحو ذلك، ثم لم يقم بوفائه وإتمامه، لحقه ذم كما لحق هَؤُلَاءِ.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} أخبر أن الذين آمنوا وثبتوا على الإيمان أنه يؤتيهم أجرهم، أي يوجب لهم أجرهم، {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}، أي: كافرون.

كذلك ذكر في حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: (وكثير منهم كافرون).

وذكر أن بعضا بعدما ترهبوا اشتد عليهم الترهب؛ فعادوا، ورجعوا، ودخلوا في دين

أُولَئِكَ الملوك، واللّه أعلم.

قَالَ الْقُتَبِيُّ: {وَرَهْبَانِيَّةً}: أي: العبادة، يعني: الخوف.

و {ابْتَدَعُوهَا} الابتداع أن تفعل شيئا لم يفعل قبلك، يقال منه: أبدعت، وابتدعت، وبدعت أيضا.

وقيل: الرهبانية اسم مبني من الرهبة، لما فرط فيه وقد نهى اللّه عنه بقوله: {لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ}، ويقال: دين اللّه بين المقصر والغالي.

وقوله: {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ}، أي: ما أمرناهم بها، واللّه أعلم.

٢٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّه وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ} يقول بعض أهل التأويل: يَا أَيُّهَا الذين آمنوا بعيسى ابن مريم آمنوا بمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

ولكن هذا ضعيف؛ لأن الإيمان برسول من الرسل إيمان بجميع الرسل عليهم السلام.

وتأويل الآية: يَا أَيُّهَا الذين آمنوا بالرسل جملة على غير الإشارة والتفسير، آمنوا برسول اللّه مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على الإشارة به؛ لأن الإيمان بالرسل على غير الإشارة أمر سهل وإنَّمَا يصعب الإيمان به ويشتد بالإشارة إلى واحد؛ لأنه لما آمن بالمشار إليه، لزمه اتباع أمره، ونهيه، ولزمه موالاة من والاه واتبعه، ويلزمه معاداة من عاداه وخالفه في أمره ونهيه وترك اتباعه، وإن كان له أبناء وآباء، وذو إحسان، يجب أن يكون أحب الناس إليه وأقرب وأبر، فهذه معاملة الرسول الذي آمن به على الإشارة إليه وأنها تشتد في الطلب. وأما عند الإجمال والإرسال فأمر سهل إنما فيه تصديق كل صادق وتكذيب كل كاذب، وكل الناس قد اعتقدوا أصل تصديق الصادق وتكذيب الكاذب، وليس في الإجمال والإرسال، إلا ذلك، وأما عند التعيين يوجد الامتحان، وبه يظهر نفاق المنافقين وتحقيق المؤمنين المحققين، وذلك قوله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللّه أَضْغَانَهُمْ. وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ}، ظهر نفاقهم بما أمروا بالجهاد والخروج معه على الإشارة، وكقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّه لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ. فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ}، وقد وعدوا في الجملة أنه لو أعطاهم كذا من فضله لنصدقن، فلما أوتوا ذلك وأمروا بإخراجه أبوا إخراج ذلك عند الإشارة إليه؛ فعلى ذلك جائز أن يكون تأويله: يَا أَيُّهَا الذين آمنوا

بالرسل جملة، آمنوا بهذا الرسول المشار إليه؛ لما يصعب الأمر، ولما يلزم في ذلك معاداة من خالفه وترك اتباعه وإن كان أقرب الخلائق إليه، وكذلك عامل أصحاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أقاربهم وأرحامهم لما آمنوا برسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصار عندهم رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أحب إليهم من أنفسهم وآبائهم وأولادهم، وعادوا جميع أقاربهم الذين خالفوا رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وتركوا اتباعه، وفي ذلك آية عظيمة؛ ولذلك فضل إيمان من آمن في أول خروجه عن إيمان من تأخر منهم عن ذلك الوقت، ولا قوة إلا باللّه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ}: قوله: {يُؤْتِكُمْ}، أي: يوجب لكم {كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} أي؛ أجرين: أجر الإيمان بالرسل كلهم على الإجمال، وأجر الإيمان بالرسل على الإشارة والتفصيل؛ ذكر هاهنا {كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ}، وقال في آية أخرى: {يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا}، يحتمل قوله: {كِفْلَيْنِ}: مرتين

وقوله: {مَرَّتَيْنِ}: كفلين؛ فيكون أحدهما تفسيرًا للآخر.

ثم ذكر هاهنا الأجر لهم من رحمته، وذكر هنالك الأجر مطلقا؛ ليعلم أن ما ذكر لأعمالهم من الأجر إنما هو فضل منه ورحمة لا استحقاق على ما ذكرنا، واللّه الموفق.

ثم يحتمل ما ذكر من الأجر مرتين يكون مرة في الدنيا، والأخرى في الآخرة كقوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ} الآية،

وقوله: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً}، واللّه أعلم.

ويحتمل أن يكون ما ذكر من الأجر مرتين يكون وعدا في الآخرة، ويكون قوله: {مَرَّتَيْنِ} أي: كفلين، أي: ضعفين، كقوله: {يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ}. ثم قوله: {كِفْلَيْنِ} قال أكثر أهل التأويل: أي: أجرين.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: حظين، ونصيبين.

وجائز أن يكون سماه: كفلا؛ لأنه كفله؛ ألا ترى أن ذا الكفل ذكر إنما سمي به؛ لأنه كان يكفل لفلان، فعلى ذلك جائز تسميته هذا كفلا؛ لأنه يكفل به، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} هذا يخرج على وجهين:

أحدهما: النور كناية عما يبصر به ويتضح، والمشي كناية عن الأمور، يقول - واللّه أعلم -: يجعل ما تبصرون به السبيل، ويتضح لكم الأمور، ويزول عنكم الشبه؛ فيكون

المشي كناية عن الأمور، والنور كناية عن البصر، واللّه أعلم، وهو كقوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ}، أي: لا سواء، وهو كناية عما ذكرنا ليس بتصريح.

والثاني: على حقيقة إرادة المشي، وحقيقة النور، وذلك يكون في الآخرة، كقوله: {يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا. . .} الآية.

وقال أهل التأويل: النور هاهنا القرآن، أي: أعطاكم قرآنا يفضي بكم إلى سبيل الخير، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} الغفران من الستر، كأنه يقول: يستر علكيم مساويكم بينكم؛ لأن ذكر المساوي ينقصهم النعم، ويحملهم على الحياء من ربهم.

وقوله: {وَاللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ}، أي: يرحمهم، ويخلدهم في جنته.

٢٩

وقوله: (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللّه وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّه يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللّه ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩) أجمع أهل التأويل واللغة أن حرف " لا " زيادة هاهنا وصلة، أي: ليعلم أهل الكتاب، وقد يزاد في الكلام حرف " لا " ويسقط بحق الصلة، يعرف ذلك أهل الحكمة والفقه؛ كقوله تعالى: {يُبَيِّنُ اللّه لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا}، ليس يبين لنا أن نضل، ولكن يبين لنا لنعلم ونهتدي، فعرف الحكماء والفقهاء أن كلمة " لا " أسقطت هاهنا؛ فعلى ذلك عرفوا أن حرف " لا " هاهنا في قوله: {لِئَلَّا يَعْلَمَ} زيادة، معناه: ليعلم أهل الكتاب: أن لا يقدرون على شيء من فضل اللّه.

ثم لا يحتمل أن يكون ذكر قوله: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللّه} وعلى غير تقدم قول كان منهم حتى خرج هذا جوابا لهم عن ذلك؛ ولكن يذكر شيئا يشبه أن يكون الذي ذكر هو جواب ذلك الذي كان منهم، وهو أنهم كانوا أهل كتاب وأهل علم بالكتاب، يرون لأنفسهم فضلا على غيرهم وخصوصية ليست لغيرهم عندهم، فلما بعث اللّه تعالى محمدًا - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - رسولا إليهم وإلى الناس كافة، وأنزل عليه كتابا، وهو أمين عندهم، وذكر في كتابه ما كان في كتبهم، وأمرهم باتباعه والانقياد له والطاعة، وأحوجهم جميعا إليه وإلى ما في كتابه، أنكروا فضل اللّه عليه وإحسانه إليه، فعند ذلك قال: {يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللّه وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّه يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ}، أي: يفضل من شاء على من يشاء، ليس ذلك إليهم.

ثم في قوله تعالى: {يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللّه} دلالة نقض قول المعتزلة في أن اللّه تعالى قد أعطى كل شيء ما يقدر على الوصول إلى جميع فضائله وإحسانه، وقد أخبر {يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللّه}، والمعتزلة

يقولون، بل يقدرون فهذا خلاف لظاهر الآية، واللّه أعلم.

وفي قوله: {وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّه يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} - أيضًا - دلالة نقض قول المعتزلة من جهة أخرى، وهو أنه ذكر المشيئة فيما هو حقه فضل وما هو حقه عدل، حيث قال. {وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّه يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ}، ولم يذكر المشيئة فيما هو حقه عدل، وما هو ظلم وجور، بل أطلق القول في ذلك، فقال: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}،

وقال: {وَمَا اللّه يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ}،

وقال: {لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}،

وقال: {لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا}، وغير ذلك من الآيات نفى أن يلحق أحدا منه الظلم والجور؛ ليعلم أن فعل الهدى منه يصل إلى من هداه وأرشده، والإضلال منه عدل، وكذلك قال: {يُضِلُّ اللّه مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}، أي: من نال الهدى والرشد إنما ناله بفضله ورحمته، ومن ضل فذلك عدل منه؛ ولذلك قال: {بَلِ اللّه يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ}، واللّه الهادي.

* * *

﴿ ٠