سُورَةُ الْمُجَادَلَةِ

وهي مدنية

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١

قوله - عزوجل -: {قَدْ سَمِعَ اللّه قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللّه} قال جماعة من أهل التفسير: إنها نزلت في أوس بن الصامت -أخي عبادة بن الصامت- وامرأته، غير أنهم اختلفوا في اسم امرأته.

قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: كان اسمها خولة.

وعن عائشة - رضي اللّه عنها - أنها كانت جميلة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ بأنها كانت تسمى: خويلة على تصغير خولة.

وروي في بعض الروايات أنه كان سبب هذا القول من أوس لزوجته لما دعاها ليلة إلى فراشه، وكانت امرأتُهُ بحيث لا يحل له التمتع بها؛ فأبت عليه، وأرادت أن تخرج من البيت؛ فقال لها: " إن خرجت من البيت فأنت عليَّ كظهر أمي "، فخرجت، فلما أصبحت قال لها زوجها: ما أراك إلا قد حرمت عليَّ، قالت: واللّه ما ذكرت لي طلاقا، قال: فَأْتِي رسولَ اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - واسأليه، فإني أستحي أن أسأله عن هذا، فأتت رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأخبرته، فنزلت فيهما هذه الآية.

وروي في بعض الأخبار أن أول من ظاهر من امرأته أوس، قال: وكان به لمم، فقال في بعض ضجراته ذلك القول، وهذا يرويه مُحَمَّد بن كعب القرظي، لكنه لا يحتمل أن يكون أراد باللمم الجنون؛ لأن المجنون لو طلق امرأته لا يقع الطلاق فضلا أن يكون ظهاره ظهارا.

وتأويل قوله: " وكان به لمم "، أي: فضل غضب وشدة؛ فكأنه لم يكن به حلم، ثم اختلفت الروايات في شأنها وشأن زوجها:

منهم من روى -وهو مُحَمَّد بن كعب-: أنها أتت رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وقالت: إن أوسا أبو ولدي، وابن عمي، وأحب الناس إليَّ، وقال كليمة؛ والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر طلاقا، قال: أنت عليَّ كظهر أمي. فقال لها رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " ما أراك إلا وقد حرمت عليه " قالت: يا رسول اللّه، لا تقل ذاك ما ذكر طلاقًا، فقال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " ما أراك إلا وقد حرمت عليه "، وكررت المرأة ذلك، ويرد رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ثم قالت: " اللّهم إني أشكو إليك شدة وجدي به، وما يشق علي من فراقه، اللّهم أنزل على نبيك، فأنزل اللّه تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللّه. . .} إلى قوله: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا}.

وفي بعض الأخبار رواها الكلبي: أنها أتت رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول اللّه، إن زوجي أوس بن الصامت تزوجني يوم تزوجني وأنا شابة، ذات أهل كثير ومال كثير، فأكل شبابي حتى إذا كبرت عنده سني، وذهب أهلي، وتفرق مالي، وضعفت - جعلني عليه كظهر أمه، ثم تركني إلى غير شيء، وقد ندم وندمت؛ فهل من شيء يجمعني وإياه يا رسول اللّه؟! فقال - عليه السلام -: " أطلقك؟ " قالت: لا، قال: " ما أمرت في شأنك من شيء، فإن نزل علي في شأنك شيء أبينه لك "، فرفعت يديها إلى السماء تدعوه وتتضرع إليه أن ينزل إليه بيان أمرهما، ثم خرجت من عنده، وأتت زوجها، فنزل جبريل - عليه السلام - بهذه الآية.

وروي في بعض الأخبار أنها أتت رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقالت: إن زوجي أوس بن الصامت تزوجني وإني شابة ذات مال وأهل، حتى إذا أكل مالي، وأفنى شبابي، وكبرت سني، ورق عظمي، وباد أهلي - جعلني عليه كظهر أمه، ولي منه صبيان إن أنا وكلتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلى نفسي جاعوا، فقال النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " اغربي فلعلك الظالمة لزوجك "، فقالت: يا أمين اللّه في أرضه، إنه لظالم لي، فقال: " اذهبي؛ فإن فيكن الضعف والعجز " قال: فجعلت تجادله، فلما رأت أنه لا يرفع بها رأسا، ولا تجد عنده مخرجا، خرجت فرفعت طرفها إلى السماء تشكو إلى اللّه صنع زوجها بها، وقالت: " اللّهم إني أتيت أمينك في أرضك، فلم يرفع لي رأسا، فتول اليوم حاجتي، وارحم ضعفي وقلة حيلتي "، فلم تصل منزلها حتى هبط جبريل - عليه السلام - بالوحي: {قَدْ سَمِعَ اللّه قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللّه} فدعا أوسا زوجها فقال: " ما الذي حملك على ما صنعت بخولة، وقد أنزل اللّه فيها ما أنزل؟ "، وبعث إليها فرحب بها، فقال: يا رسول اللّه عمل الشيطان، فهل من أمر يجمعني اللّه وإياها؟ قال: نعم، ثم تلا عليهم آية الكفارة إلى آخرها.

ثم بين هذه الروايات اختلاف: [ذكر في رواية القرطبي] (١) أنه قال - عليه السلام -: " ما أراك إلا وقد حرمت عليه "، وفي رواية قال لها: " ما أمرت في شأنك من شيء "، لكنه يمكن التوفيق بين الخبرين، وهو أن قوله: " ما أراك إلا وقد حرمت عليه " على ما كان أهل الجاهلية يرونه محرما، فقال: " ما أراك إلا وقد حرمت عليه " من ذا الوجه، لكنه لم ينزل علي شيء في بيان هذا، فإن ينزل شيء عليَّ في هذا أبينه لك.

والثاني: أن ليس في قوله: " ما أراك " إثبات حرمة، بل هو قول على الظن بما قد كان الناس يعرفون بينهم لذلك القول، ويجوز أن يراد التقرير على ذلك، أو يرد لهذه الحادثة الحرمة بالوحي، فتوقف في الجواب مع الإشارة لها بالامتناع من الزوج؛ احتياطا لباب الحرمة، واللّه أعلم.

ثم إن بعض الفقهاء ذكر الاختلاف بين السلف في حكم الظهار قبل نزول الآية:

عن عكرمة أنه قال: كانت النساء تحرم بالظهار حتى أنزل اللّه تعالى هذه الآية، وكان طلاقا قبل نزول الآية، فجعله اللّه تعالى بهذه الآية ظهارا.

وعن أبي قلابة وغيره: كان طلاقهم في الجاهلية الإيلاء والظهار.

وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قال: إنما كان طلاق أهل الجاهلية الظهار، وقد جعل لهذه الأمة حرمة ترتفع وتزول بالكفارة التي أوجب.

وعن الحسن أنه قال: كان الظهار أشد الطلاق، وأحرم الحرام، إذا ظاهر من امرأته لم يرجع إليها أبدا.

والأشبه أنه لا يكون طلاقا في الإسلام لو كان يكون في الجاهلية، وأنه لا يكون موجبا حرمة لا ترتفع أبدا؛ كما قال الحسن؛ فإنه ذكر في حديث خولة أن زوجها لما قال لها: ما أراك إلا وقد حرمت علي، قالت: واللّه ما ذكرت لي طلاقا، ولو كان الظهار طلاقا لعرفته، وكذلك لما أخبرت رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال لي: أنت عليَّ كظهر أمي، (١) هذا إشكال آخر يضاف إلى سابقه، إذ كيف ينقل الماتريدي عن القرطبي، وهو يتقدمه بقرون؟!!، وكان الأحرى بمحقق الكتاب التنبيه على ذلك. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

فقال - عليه السلام -: " ما أراك إلا وقد حرمت عليه "، قالت: يا رسول اللّه، لا تقل ذاك؛ ما ذكر طلاقا، ولم يرد عليها اعتقادها في أن الظهار طلاق، وكذلك ما روي في رواية أخرى في حديث طويل: جعلني عليه كظهر أمه، ثم تركني إلى غير شيء، فهل من شيء يجمعني وإياه يا رسول اللّه؟ فقال - عليه السلام -: " أطلقك؟ " قالت: لا، قال: " ما أمرت في شأنك من شيء "، ولو كان الظهار طلاقا بعد الإسلام قبل نزول هذه الآية لما قال: " أطلقك؟ " بعدما قالت: " جعلني عليه كظهر أمه "، ولما قال: " ما أمرت في شأنك من شيء "، وحكم شريعته أنه طلاق مزيل للملك، دل هذا يقرر ما قلنا إنه ذكر في حديث خولة وأوس أنه أول من ظاهر في الإسلام فكيف يكون طلاقا؟!

فَإِنْ قِيلَ: أليس - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " ما أراك إلا وقد حرمت عليه "، والحرمة التي لا ترفع النكاح بالظهار إنما ثبتت بعد نزول الآية، والآية نزلت بعد صدور القول من أوس بن الصامت؛ فدل أن مراده تحريم الطلاق، فهذا يدل على أن هذا الحكم كان ثابتا في شريعته قبل نزول آية الظهار بوحي غير متلو وإن كان قبل ذلك في حكم الجاهلية، فكذلك ذلك الزوج قال للمرأة - أيضا -: " ما أراك إلا وقد حرمت عليَّ "؛ دل هذا على أنه كان طلاقا قبل نزول الآية.

قلنا: هذا حجة عليكم؛ فإنه لو كان المراد بقوله - عليه السلام -: " ما أراك إلا وقد حرمت عليه " إثباتا للحرمة فيها بالظهار؛ لكونه طلاقا، فكيف يحكم عليها بالحرمة بالظهار بعد حكمه بالطلاق بذلك القول بعينه في شخص بعينه، وقد صح في الحديث أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - دعا أوسا وامرأته بالكفارة، وأبقى النكاح بينهما لو كان ذلك طلاقا؟! والمثبت حكمه إنما ينسخ بالآية الثانية إلى حكم آخر، فظهر ذلك في المستقبل لا في الماضي؛ فدل أن هذا حجة عليه، ولكن إنما قال: " ما أراك إلا وقد حرمت عليه؛ " للوجهين اللذين ذكرناهما، واللّه أعلم.

فَإِنْ قِيلَ: إن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يحكم بالطلاق في حقها، مع أن الظهار كان طلاقا بطريق القطع، بل قال: " ما أراك إلا وقد حرمت عليه " على طريق الظن؛ لأنه جائز أن يكون اللّه تعالى قد أعلمه أنه سينسخ حكم هذا القول وينقله من الطلاق إلى تحريم المتعة، فلم يقطع القول فيه حتى نزلت الآية.

قيل: لو كان ذلك حكما ثابتا مقررا في شريعته، لم يمتنع النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن العمل به، وحكمه بذلك ما لم ينزل عليه الناسخ وإن أعلم أنه سينسخ؛ لأنه يجب عليه العمل بما أنزل عليه؛ لقوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللّه}،

وقوله: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ}، وإذا ورد الناسخ بخلافه يكون عمله في المستقبل لا فيما مضى، وإنما يستقيم هذا على ما قلنا: إن الظهار قبل نزول الآية لا حكم له في الإسلام، وكان تحريما في الجاهلية؛ فمتى وجد هذا السبب، ووقعت هذه الحادثة، أمرها بالاجتناب عن الزوج؛ احتياطا حتى نزلت الآية؛ فيظهر أن حكمه ما هو؟ من حين وجوده؛ إذ يجوز أن يريد اللّه تعالى بهذا هذا الحكم، وإن كان لا علم للمباشر به؛ إذا كان بحيث يمكنه الوصول إلى العلم به عند الحاجة إلى العمل به، والحكم كالنص الذي ورد مجملا في إيجاب حكم، ثم ورد البيان متأخرا، والنص العام الذي يتأخر بيانه على خلاف ظاهره؛ فعلى ذلك هذا، واللّه أعلم.

ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قَدْ سَمِعَ اللّه قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا}، أي: سمع قولها ومجادلتها في زوجها، ومجادلتها مع رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في سؤالها إياه عما ابتليت بقول زوجها لها: " أنت علي كظهر أمي ".

والمجادلة هي المخاصمة، وهي المحاورة، وكان مجادلتها في زوجها أن قالت: " واللّه ما ذكرت طلاقا "، حين قال لها بعدما قال لها: " إن خرجت من الدار، فأنت علي كظهر أمى "، وخرجت -: " ما أراك إلا وقد حرمت عليَّ ".

وأما مجادلتها مع النبي - عليه السلام - ومحاورتها هي قولها: " لا تقل ذلك "، وقول رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " ما أراك إلا وقد حرمت عليه "، فهذه محاورتهما.

ومن الناس من يقول: المحاورة: هي المراجعة في الكلام، وهما يرددان الكلام ويراجعانه ويكررانه، وهو ما ذكر أن النبي - عليه السلام - يكرر قوله: " ما أراك إلا وقد حرمت عليه "، وهي تردد وتكرر قولها: " لا تقل ذلك يا رسول اللّه؛ فإنه ما ذكر طلاقا "، ولكن هذا قريب من الأول.

وقال بعض أهل اللغة: {تَحَاوُرَكُمَا}، أي: كلامكما، والتحاور: الكلام بين اثنين.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَتَشْتَكِي إِلَى اللّه وَاللّه يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} قيل فيه بوجهين:

أحدهما: أن تشتكي إلى رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، لكن اللّه تعالى أضاف إلى نفسه؛ لأن مرادها أن تنزل آية من اللّه تعالى على رسوله بالفرج عنها.

والثاني: أن شكواها إلى اللّه تعالى وتضرعها قد كان حيث لم تجد الفرج والمخرج فيما قال لها رسول اللّه عليه الصلاة. والسلام: " ما أراك إلا وقد حرمت عليه "، فاشتكت

إلى اللّه تعالى، ودعت، وتضرعت؛ حتى أنزل اللّه تعالى على رسوله الآية فيها، وجاءت الرخصة لهما بالاجتماع بعد التكفير على ما ذكر في الخبر، واللّه أعلم.

ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاللّه يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا}، أي: سمع لها بما أجاب وأغاث بالفرج فيما اشتكت إليه، وسمع لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بما أبان ما ظهر له من الحكم في الحادثة التي أشبهت عليه، وأشكل عليه ذلك.

ثم اختلفت الأخبار في أمرهما - أيضا - حيث دعا رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أوسًا، وأخبره بالآية التي نزلت في أمرهما:

[قال القرطبي] (١): لما نزلت الآية دعا زوجها أوسا، فقال له: " أعتق رقبة "، قال: ما عندي رقبة أعتقها، قال: " فصم شهرين "، قال: ما أستطيع يا رسول اللّه، إني لأصوم يوما واحدا فيشق عليَّ، فكيف صوم شهرين متتابعين؟ قال: " فأطعم ستين مسكينا "، قال: فنعم، قال: فأطعم ستين مسكينا فأمسكها.

وفي رواية أخرى ذكرها الكلبي: لما نزلت رخصتهما أرسل رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى أوس ابن الصامت فأتاه، فقال: " ويحك ما حملك على ما صنعت وقلت؟ " قال: الشيطان يا رسول اللّه؛ فهل من رخصة تجمعني وإياها؟ قال: " نعم "، وقرأ عليه هذه الآيات الأربع، وقال له: " هل تستطيع أن تعتق رقبة؟ " قال: لا واللّه يا رسول اللّه، إن المال لقليل غير كثير وإن الرقاب لغالية، قال: " فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ " قال: لا واللّه يا رسول اللّه، لولا أني آكل في يوم ثلاث مرات لكلَّ بصري، ولظننت أني سأموت، قال: " فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكينا؟ " قال: لا واللّه يا رسول اللّه، إلا أن تعينني فأعانه عليه السلام بخمسة عشر صاعا، وأخرج أوس من عنده خمسة عشر صاعا فتصدق به على ستين مسكينا، فجمع اللّه بينه وبينها.

وذكر في خبر آخر أن رجلا كان ظاهر من امرأته، وكان هو يصوم عنه، فواقع امرأته في وقت الصوم، فأتى رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فأخبره بذلك، [فعابه] رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على فعله، ثم أمره بأن يكفر بما وصفنا من الكفارات، فقال في كل واحدة: لا أستطيع قال: فأمره - عليه السلام - أن يأتي موضع كذا إلى أبي زريق، ويأخذ منه وسقا من التمر، فيعطي ستين مسكينا كل مسكين ينفقه على عياله، ذكر في الإطعام في خبر: " لا أستطيع "، وفي (١) سبق التنبيه إلى مثله، فالماتريدي يتقدم القرطبي بزمان طويل - رحمهما اللّه -. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

خبر أنه قال: " أما هذا فنعم "، وفي حديث آخر: " لا إلا أن تعينني "؛ فيشبه أن يكون هذا القول منه: " أما هذا فنعم " بعدما وعده رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في الإعانة أو بإعطاء الوسق؛ فتكون الأخبار على الوفاق، واللّه أعلم.

وفي هذه الأخبار دليل على أن الكفارة إذا لزم فيها طعام، فمن الحنطة نصف صاع؛ لأنه جعل نصف صاع من الحنطة طعام مسكين، وأنه يجوز من صدقة الفطر، واللّه أعلم.

٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللّه لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) قرئ {يُظَّهَّرُونَ} مشددة الظاء بغير ألف، وهو في الأصل: " يتظهرون "، فأدغمت التاء في الظاء، وشددت.

وقرئ بفتح الياء وتشديد الظاء بألف، وهو في الأصل " يتظاهر " فأدغمت التاء في الظاء وشددت.

وقرئ - أيضا - {يُظَاهِرُونَ}، بتخفيف الظاء بألف من: ظاهر يظاهر مظاهرة.

والمعنى واحد فيما اختلف من قراءاتهم يقال: ظاهر الرجل من امرأته، وتظاهر وتظهَّر منها بمعنى واحد، وهو أن يقول لها: " أنت عليَّ كظهر أمي ".

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: {يُظَاهِرُونَ}، أي: يحرمون تحريم ظهور الأمهات.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: {يُظَاهِرُونَ} هذه يمين أن يقول الرجل لامرأته: " أنت عليَّ كظهر أمي "، وأما " يظَّاهرون " من " التظاهر " وهو التعاون، يقال: تظاهروا، أي: تعاونوا، ولكن هو خلاف ما تضمنته الآية واللّه أعلم.

ثم الظهار كان عند أُولَئِكَ القوم ظاهرا، وهو ما روينا في قصة امرأة أوس لما همت أن تخرج من الدار، قال لها: " إن خرجت من الدار، فأنت عليَّ كظهر أمي "، وكذلك هذه الدلالة في قوله: {يُظَاهِرُونَ}.

والظهار أخذ اسمه من " الظهر "، وكذلك فيما عرف المسلمون فيما بينهم هذا اللفظ، وهو قوله: " أنت عليَّ كظهر أمي "، والآية توجب أن يكون الظهار فيما يقول: " أنت عليَّ كأُمي "، وهو قوله: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ}، ذكر الأمهات، ولم يذكر ظهور الأمهات؛ فصار ظاهر الآية يوجب هذا.

وبهذا احتج مُحَمَّد - رحمه اللّه - لمذهبه فيمن قال لامرأته: " أنت عليَّ كأُمي قال: يكون ظهارا.

وأما أبو حنيفة - رحمه اللّه - فإنه قال: لا يكون مظاهرا، إلا أن ينوي بذلك الحرمة، فإن نوى به كان، وذهب في ذلك إلى ما روي من ذلك الحرف -أعني: قوله: أنت عليَّ كظهر أمي- وإنما نزلت الآية فيمن قال ذلك القول، فلا يحل لنا أن نصرفه إلى غيره إلا بدليل.

وقوله: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ}، أي: ما هن لهم كأمهاتهم؛ لأنه تعالى قال: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} على سبيل الرد لما قالوه،

وقوله: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ}، أي: قالوا لنسائهم: " أنتن علينا كظهور أمهاتنا ".

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} يكون ردًّا لقول من قالوا لنسائهم: " إنهن أمهاتنا " لا لمن قالوا: " إنهن كأُمهاتنا " و " كظهور أُمهاتنا "، فيحتمل بذلك القول تبعا لقوله: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ}، أي: كأمهاتهم ولكن الإشكال أنه إذا صار تقدير الآية ما هن كأمهاتهم، فما معنى قوله: {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ}؛ لأنهم كانوا يدعون التشبيه بالأمهات، واللّه تعالى نفى ما ادعوا من التشبيه؛ فما معنى البيان حقيقة بقولهم: {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ}، وهم يعرفون ذلك ولا ينكرونه، ولا يدعون في نسائهم أنهن أمهاتهم حقيقة؛ حتى يرد عليهم دعواهم. بقوله: {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ}؟

وإشكال آخر: أنه قال: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا}، وظاهر هذا القول منهم ليس من الزور، ولا المنكر؛ إذ ليس في قولهم: " ظهرك كظهر أمي " أو " أنت عليَّ كظهر أمي " أو " كأمي " إلا التشبيه وهي لعلها تشبهها، فإن ظهرها كظهر أمه؛ في الشبه والخلقة والتشبيه لا يقتضي العموم، فما معنى تسميته تشبيه المرأة بالأم: منكرا وزورا.

وإشكال آخر: أنه جعل الأمهات اللائي ولدنهم أمهات لهم؛ فإنه قال في نساء النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - رضي اللّه عنهن: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}، وقال فيمن يرضعن أولاد الغير: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} وإن لم يلدنهم.

فنقول - وباللّه التوفيق -: إنهم كانوا يريدون أن يوجبوا حقوقا وأحكاما ما كانت في أمهاتهم، لم يكن لهم إيجاب ذلك؛ فإنهم كانوا يشبهون النساء بالأمهات، ولم يريدوا بذلك من حيث الصورة، ولكن يريدون بذلك التشبيه في الحرمة، وحرمة النساء في الأصل غير حرمة الأمهات؛ فإن الأم حرام الاستمتاع بها لكن يباح للرجل أن يدخل على أمه، ويخدمها، ويسافر بها، ويباح النظر، والمس، والإركاب، والإنزال، والخلوة بها، والمرأة متى حرمت بالطلاق الثلاث، أو بالبينونة، لا يثبت شيء من هذه الحقوق، والمشابهة بين الشيئين -إن كانت- لا تقتضي مشابهتها من كل وجه، ولكن تقتضي المساواة بينهما في وجه من الوجوه على الكمال - فإن الذات في الشاهد إذا قام به العلم، يسمى: عالما، واللّه تعالى يسمى: عالمًا ولا يوجب التشبيه؛ لانعدام التماثل بين العلمين، والتساوي من كل وجه، فلم يعد تشابها تعالى اللّه عن ذلك، وتشبيههم النساء بأمهاتهم أرادوا أن يجعلوا حرمة نسائهم كحرمة أمهاتهم، ويوجبون فيهن حقوقا وأحكاما

كحقوقهن وأحكامهن؛ حتى يباح لهم في المعاملة مع نسائهم ما يباح مع أمهاتهم، ويحرم ما يحرم معهن ويكون احترامهن كاحترامهن، واللّه تعالى لم يجعل ذلك، ونهاهم عن ذلك، فقال: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ}، أي: كأمهاتهم في هذه الحرمة التي يريدون إثباتها، وأنه لم يجعل لنسائهم حرمة أمهاتهم، ثم قال: {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ}، أي: أن هذه الحرمة التي يريدون إثباتها فيهن مما جعلنا لأمهاتهم اللائي ولدنهم، فما بالهم يخترعون من أنفسهم شيئا لم أجعله، ولم أشرعه؛ فرد صنيعهم بهذا.

وعلى هذا يخرج تأويل قوله: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا}، إنما كذبهم بما قالوا من إيجاب تلك الحقوق والأحكام على أنفسهم في نسائهم من غير أن جعل اللّه تعالى ذلك، أي: وإنهم ليقولون منكرا وزورا في إيجاب الحقوق فيهن كما في الأمهات، وتشبيههم إياهن بالأمهات في الأحكام والحقوق والحرمة، وإن كان كلامهم وقولهم من حيث ظاهر التشبيه ليس بمنكر ولا بزور، وهذا كقوله في وصف المنافقين: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّه وَاللّه يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللّه يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}، وهَؤُلَاءِ المنافقون فيما قالوا في الظاهر كانوا صدقة، ولكن لما كان قصدهم غير ذلك، وكان في قلوبهم إيجاب شيء غير ما أظهروا - سماهم: كذبة، فكذلك هَؤُلَاءِ المظاهرون لما أرادوا إيجاب حكم لم يجعل لهم ذلك سمى قولهم: منكرا وزورا.

والمنكر: هو الذي لا يعرف في الشريعة، والزور: هو الكذب؛ فنهاهم اللّه تعالى عن ذلك.

وأما قولهم: إن اللّه تعالى قد سمى غير من يلزمهم: أمهات من نساء النبي - عليه السلام - والمرضعات -: منهم من قال: جائز أن تكون هذه الآية متقدمة على قوله: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ}، وعلى قوله: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}، فلم يكن في ذلك الوقت أمهات من رضاع، ثم كانت من بعد؛ فيكون الإخبار بهذا مقيدا بذلك الوقت، وهو كقوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ}، لم يجد في ذلك الوقت، ثم وجد من بعد ذلك غيره محرما، فعلى ذلك هذا.

وقيل: يحتمل أن يكون قال ذلك في قوم خاص وقبيلة خاصة، لم يكن لهم أمهات من إرضاع؛ فيكون الإخبار بأن أمهاتهم لسن إلا اللائي ولدنهم صدقا.

ولكن هذا تكلف؛ لأن قوله: {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} يعني: أن هذه الحقوق والأحكام التي يوجبون ليس تثبت إلا في الأمهات اللاتي تلدنهم، أو من كانت في معناهن

وصرن أمثالهن بأمر يجعله اللّه تعالى؛ كأزواج النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، والأمهات بسبب الرضاع، واللّه تعالى لم يجعل لنسائهم تلك الحقوق التي جعلها لمن لحقن بالأمهات، فيكون تشبيههن بهن في هذه الحقوق منكرا من القول وزورا، واللّه أعلم.

٣

وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللّه بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) اختلف في حكم العود ما هو؟ وفي تأويل العود عن طاوس قولان:

في قول قال: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا}: الوطء، فإذا حنث، فعليه الكفارة؛ وهذا تأويل بعيد مخالف للنص؛ لأن اللّه تعالى يقول: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} وإنَّمَا الذي ذهب إليه حكم الإيلاء: أنه إذا وطئ تجب الكفارة، أما في الظهار تجب الكفارة قبل الوطء وفي قول: أنه إذا تكلم الظهار يجب عليه الكفارة، ولم يشترط معه شيء آخر.

وعن مالك أنه إذا ظاهر من امرأته، ثم أجمع، وعزم على إمساكها وإصابتها، وجبت عليه الكفارة حتى إذا طلقها أو ماتت المرأة بعد العزم على الإمساك والإصابة، أو بعد الإصابة - بقي وجوب الكفارة عليه.

وإن لم يجمع على إمساكها حتى ماتت، تسقط الكفارة.

وكذلك إذا طلقها، لكنه إذا تزوجها بعد ذلك، لم يمسها حتى يكفر؛ فيكون العود: هو إمساكها ليطأها.

وعن الحسن: أن العود هو العزم على الجماع؛ حتى إذا عزم على جماعها، تجب الكفارة، وإن أراد تركها بعد ذلك.

وقال عُثْمَانَ الْبَتِّيُّ فيمن ظاهر من امرأته، ثم طلقها قبل أن يطأها، قال: أرى عليه الكفارة، راجعها أو لم يراجعها، وإن ماتت، لم يرتفع الظهار والكفارة، ولا يرث حتى يكفر.

وقال الشافعي: العود هو الإمساك، والكفارة تجب به، وحكم الظهار هو تحريم المتعة؛ حتى إذا أمكنه أن يطلقها بعد الظهار، ولم يطلق، وأمسكها ساعة؛ ليطأها، فقد وجبت عليه الكفارة عاشت أو ماتت، وإذا عاشت طلقها أو لم يطلقها، راجعها أو لا.

وإذا طلقها عقيب الظهار بلا فصل يبطل الظهار، ولا تجب الكفارة بعزم إمساك المرأة.

وقال بعض المتأخرين في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا}، أي: يعودون إلى القول الأول فيكررون ذلك القول، وعندهم لا يكون الرجل مظاهرا حتى يقول: " أنت عليَّ كظهر أمي " مرتين.

وأما عندنا فحكم الظهار هو تحريم مؤقت بالكفارة، ولا نرفعه إلا بالكفارة، هكذا

روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قال: " إذا قال أنت عليَّ كظهر أمي "، لم تحل له حتى يكفر.

وعندنا لا تجب الكفارة بنفس الظهار، وإنما الظهار يوجب الحرمة لا غير، وإنما تجب بالعود حتى إنها إذا ماتت لا يجب عليه الكفار وإذا ارتفع المعنى الذي يجب، وهو استباحة الوطء وكذلك إذا طلقها بائنا أو ثلاثا، لا تجب الكفارة لهذا؛ حتى إذا عادت إليه بالتزوج، وأقدم على استباحة الوطء، تجب الكفارة.

وهو عند أصحابنا أن يجعل المرأة على الحالة الأولى، ويحللّها على نفسه على ما كان عليه، ويستبيح وطأها، فإذا أراد أن يحللّها على نفسه ويستبيحها ويقدم عليه، يجب عليه أن يكفر، ولا تزول تلك الحرمة عندنا إلا بالكفارة؛ فالتكفير سبب الحل؛ كذا ذكر العمي في تأويل: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا}، أي: يعودون إلى فسخ ما قالوا ونقض ذلك، واستدل بما ذكر عن الأصمعي: أن أعرابيا تكلم بين يديه بأنه كان شيء ما ثم يعود إليه، قال له الأصمعي: ما أردت به؟ فقال: أي: أنقضه، وأفسخه؛ فهذا يدل على أن المراد من قوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ}، أي: يعودون إلى استحلال ما حرموا، وينقضون ذلك، ويردون الحل إلى الحالة الأولى، إلا أن ظاهره العود إلى القول بقوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} ولكن أراد به المقول والثابت به وهو الحرمة؛ كأنه قال: ثم يعودون لما حرموا بالقول فيستبيحونه؛ ويجوز أن يذكر الفعل ويراد به المفعول؛ كقوله - عليه السلام -: " العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه "، وإنما هو عائد في الموهوب، وقال اللّه تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}، أي: الموقن به، واللّه أعلم.

فَإِنْ قِيلَ: العود الذي يوجب الكفارة هو العزم على استباحة الوطء، والقصد على تحليلها على نفسه وإعادة الحل إلى الحالة الأولى، أو الإقدام على الوطء أو مباشرة نفس الوطء، فإن كان المراد هو الأول، يجب أن تقولوا: تجب الكفارة بنفس العزم على الاستباحة والتحليل، كما قال مالك رحمه اللّه، والحسن رحمه اللّه.

وإن كان المراد إيقاع الوطء يجب أن تقولوا: إنه لا تجب الكفارة إلا بعد الوطء كما قاله قوم، وهو خلاف الآية، وخلاف قولكم.

قيل: نعني بذلك: هو الإقدام على استباحة الوطء، والاشتغال بإقامته، فيقدم التكفير، ثم يفعله؛ إذ لا يجب بمجرد العزم، ولا بعد تحقق الفعل، وهذا لأنه إذا ظاهر حرمت المرأة عليه بسبب فعله الواجب عليه توفير حقها في الجماع إن كانت بكرا في الحكم حتى يجبر عليه، وهذا وإن كانت ثيبا وقد وطئها مرة يجب عليه فيما بينه وبين اللّه تعالى إيصال ذلك إليها.

وعند بعض أصحابنا يجبر في الحكم أيضا على ذلك، فإذا أقدم على ذلك يجب عليه تحصيل الكفارة؛ ليتوصل إلى إقامة ذلك الواجب عليه من الجماع؛ إذ لا يحل ذلك بدون الكفارة، وهذا كالوضوء في باب الصلاة ليس بفرض مقصود بنفسه، لكن يجب لإقامة الصلاة؛ إذ لا يجوز الصلاة بدون الطهارة، فإذا أقدم على الصلاة يجب عليه تحصيل الوضوء؛ ليتمكن من أداء ما عليه، ولا يجب بنفس الإرادة، ولا يجب بنفس الحدث؛ حتى لا يجب الوضوء ما لم يدخل وقت الصلاة، ويقوم إليها، وكذلك المرأة إذا حاضت بعد الوقت حتى سقط عنها الصلاة يسقط الوضوء، فعلى ذلك هذا يجب عند الإقدام على إقامة هذا الواجب وهو الوطء، والظهار شرط؛ ولهذا إذا ماتت المرأة تسقط الكفارة؛ لانعدام ما هو المقصود بالإقدام، وهو الوطء، وكذلك إذا طلقها ثلاثا أو بائنا لكن إذا عادت إليه يلزمه الكفارة إذا أقدم على الوطء، ولم يبطل الظهار؛ لاحتمال حصول الغرض، واللّه أعلم.

ويحتمل وجها آخر: وهو قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ. . .} الآية هذا خبر عن ظهار القوم الذين كانوا يظاهرون في جاهليتهم، أي: ظاهروا في ذلك الوقت، ثم يعودون لما قالوا، أي: لو قالوا ذلك القول بعد إسلامهم فعليهم ما ذكره؛ إذ الظهار كان ظاهرا في الجاهلية من عاد إلى ذلك القول، ورجع إليه وقت إسلامه؛ فعليه ما ذكر، وهو كقوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللّه مِنْهُ}، فهذا يرجع إلى فعل ذلك مرة، وإلى استحلال ما حرم اللّه ثانيا، وإن عاد إلى الفصل الأول لا من وجه الاستحلال، فينتقم اللّه منه بالغرامة عليه، وإن عاد إلى استحلال، فينتقم اللّه منه بالعذاب؛ وكذلك مثل هذا في آية الربا، حيث قال: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّه وَمَنْ عَادَ ... }، أي: عاد إلى ما كان يفعله قبل الإسلام، فكذلك هذا العود إلى الظهار على هذا التقرير يخرج تأويل الآية عنده، وهو كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ}، أي: كانوا يتناجون في الجاهلية، فنهاهم اللّه تعالى عن العود إلى ما كانوا عليه؛ فعلى ذلك يحتمل هذا، واللّه أعلم.

لكن على هذا التأويل الإقدام على الوطء سببا لوجوب الكفارة لم يثبت بهذا النص، إنما فيه أن الظهار يوجب تحريما مؤقتا بالكفارة، وكذلك الأحاديث التي ذكرنا أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أمر أوسا بالكفارة حين ظاهر من زوجه، وإنما يعرف من حيث الدلالة؛ فإنه لما كان التحريم مؤقتا بالكفارة، يكون رافعه له قائما، ويجب الرافع بالإقدام عليه، لا بسبب سابق

موجب للتحريم؛ لأن رافع الحرمة لا يجب بما يوجب الحرمة؛ كما ذكرنا في الوضوء: أنه لا يجب لما يحدث الذي هو رافع للطهارة، ولكن لما وجب على المكلف الصلاة بالطهارة، ويجب عليه الوضوء بالإقدام على الصلاة التي لا تجوز بدونه؛ فكذلك هذا، واللّه أعلم.

وقول من جعل العود هو العزم على إمساك النكاح والبقاء عليه - فاسد، فإن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أوجب الكفارة على أوس بن الصامت حين ظاهر من زوجه، ولم يسأله الإمساك والبقاء على النكاح.

ولأن تفسير العود بالإمساك لا يستقيم؛ لأنه لم يعرف في الأصل إمساك المرأة عودا عليها ولا إمساك شيء من الأشياء يتكلم بالعود إليه؛ فيكون هذا خلاف اللغة، ولما ذكرنا: أن العود إلى الشيء هو الرجوع إلى ما كان عليه؛ فيقتضي انعدامه وزواله حتى يتحقق العود؛ إذ العود هو وجود ثان، وهذا إنما يتحقق فيما قلنا من الجزاء؛ لأنه قد يبدل بالحرمة، فأما العقد فهو قائم لم يزل بالظهار؛ فكيف يعود إلى العقد؟ فلا يكون البقاء على العقد وإمساك المرأة بالنكاح عودا.

ولأن اللّه تعالى قال: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا}، و " ثم " يقتضي التراخي.

ومن جعل العود هو الإمساك والبقاء على النكاح، فقد جعله عائدا عقيب القول بلا تراخٍ، وذلك خلاف ظاهر الآية.

وقول من جعل العود هو العزيمة على الوطء، لا معنى له؛ لأن موجب الظهار هو تحريم الوطء لا تحريم العزم على الوطء وإن كان العزم على المحظور محظورًا؛ لكونه وسيلة إلى المحظور؛ فيكون العود هو الرجوع إلى ما يقوى به مقصودا لا وسيلة إلى حسب الأول.

ولأنه لا حظَّ للعزيمة في حق تعلق الأحكام في سائر الأصول؛ ألا ترى أن سائر العقود والتحريم لا يتعلق بالعزيمة، فلا اعتبار بها، وقد قال النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إن اللّه تعالى عفا عن أمتي ما حدثت به نفسها ما لم يتكلموا به ويعملوا ".

وقول من جعل العود تكرار القول الأول فاسد أيضا، وإن كان ظاهر اللفظ يحتمل، وهو العود إلى القول الأول؛ لأنه خلاف الإجماع وخلاف أصول الشرع:

أما خلاف الإجماع؛ فإن السلف والخلف أجمعوا على أن هذا ليس بمراد من الآية؛ فيكون قائله خارجا عن الإجماع.

وأما مخالفة الأصول؛ فلأن الحل والحرمة إنما تعلق وجوبهما بابتداء القول لا بتكراره في جميع الأصول من البياعات والنكاح والطلاق والعتاق والإجارات، فلما كان الأصل هذا في سائر الأسباب، والمظاهر موجب للحرمة بقوله؛ دل أن الموجب هو القول الأول دون الثاني؛ فيكون تعليق الحرمة بتكرار الموجب؛ مخالفة لسائر الأصول، وبهذا يبطل قول الشافعي في أن تعلق الحرمة بتكرار الرضعات لا برضعة واحدة، واللّه أعلم.

ولأن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أمر بالكفارة في حق أوس، ولم يسأله عن تكرار القول، ولما لم يسأل دل أن الحكم غير متعلق بالتكرار.

وما قاله الشافعي: أنه إذا طلقها بعد الظهار بلا فصل فلا كفارة عليه، وإن لبث ساعة، ثم طلقها، كفَّر راجعها أو لم يراجعها، أو ماتت - قول تفرد به؛ لأن طاوسا أوجب عليه الكفارة طلقها أو أمسكها، وسائر التابعين قالوا: إن ماتت أو طلقها، ولم يراجعها فلا كفارة عليه، ولم يفصلوا بين أن يطلقها على أثر الطلاق بلا فصل، أو بعد ذلك بساعة؛ فيكون الشافعي بهذا القول مخالفا للسلف؛ فلا يعتبر، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} ظاهره يقتضي أن يكون الوطء محظورا عليه قبل الكفارة؛ لأنه جعل الحرمة مؤقتة بالكفارة، وإذا وطئ يسقط الظهار والكفارة؛ لأن كل ما تعلق بشرط أو توقت بوقت، فمتى فات الوقت، أو عدم الشرط، لم يجب لذلك النص، واحتيج إلى دلالة أخرى في إيجاب مثله في الوقت الثاني، إلا أنه قد ثبت عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن رجلا ظاهر من امرأته فوطئها، ثم سأل النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال له: " استغفر اللّه، ولا تعد حتى تكفر "، فصار التحريم الذي بعد الوطء عرفناه بالسنة، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} يرجع إلى وجهين:

مرة إلى اسم الرقبة.

ومرة إلى ما يستحكم حكم الرقبة.

فإن كان المراد من ذكر الرقبة اسم الرقبة نفسها، فيجيء أن يجوز كل ما يقع عليه اسم

الرقبة، صغيرا كان أو كبيرا، كافرا أو مسلما، مقطوع الرجلين، أو أعمى، أو كيفما كان.

وبشر المريسي: يذهب ويجبر كيفما كانت الرقبة.

وإن كان المراد من ذكر الرقبة: ما يستحق حكم الرقبة فيجيء ألا يجوز إعتاق رقبة فيها نقصان؛ إذ الأصل في العبيد والإماء أن النقص فيما دون النفس يوجب نقصانًا في كل النفس؛ فيجيء ألا يجوز؛ إذ يصير معتقًا لبعض الرقبة لا كلها.

ثم الدليل على أن النقصان الحال فيما دون النفس في الرقاب جعل كالنقصان الحال في النفس أن العبد إذا قطعت يده أو فقئت عينه يشترى بنصف ما كان يشترى وقت الصحة؛ فصار النقصان فيما دون النفس كتلف نصف القيمة من العبد وإن لم يكن ذلك من نفسه النصف؛ فيجيء على هذا ألا يجوز إذا كان فيه أدنى النقصان؛ إذ الحكم فيما دون النفس محمول على حكم الأنفس، وحكم الجناية عليهم محمول على حكم كمال النفس. لكن هذان التأويلان في الآية لا يصحان.

وأما الجواب عن قولهم: إن النقصان الحال في بعض الرقبة كالحال في كلها: أن ذلك النقصان يرتفع بالعتق، وإن كان وقت قيام الرق يحكم عليه بالنقص؛ لما يصير رقبة له بحكم الكمال بالعتق إذا صار هو منتفعًا بالعتق إذ بالعتق جبر النقصان الذي كان به؛ فيسلم له الرقبة كلها من حيث المعنى فيجوز، كما إذا أعتق الرقبة السليمة، والدليل عليه: أنه لو جني عليه بعدما عتق، لم ينقص من ديته شيء في مقابلة النقصان في نفسه وقت العبودة والرق، وثبت بهذا أنه في حق نفسه كامل النفس، وإنما كان ذلك النقص من نقص في قيمته وقت العبودة؛ إذ هو لو كان منقوصًا في حق نفسه لا يرتفع عنه ذلك النقصان أبدًا؛ فلما ارتفع النقصان الذي به بإعتاقه دل أن إعتاقه جائز، والأصل فيما أوجب اللّه تعالى من هذه الكفارة إنما أوجب ليكفر بها ما ارتكب من المآثم، وما ارتكب من المحظورات التي حظر عليه ارتكابها؛ ليتألم بهذه الكفارة؛ ليكون زجرًا عن العود إليها فعلينا أن ننظر في هذه الكفارة فإن كفر بشيء لا يتألم به نفسه، ولا يفجع عندها، فلا يجوز ذلك عن الكفارة، وإن كان بالذي يلحقه ويؤلمه يجوز.

ثم ما يصل إليه من الألم بإعتاقه وجهان:

أحدهما: أنه إذا تأمل ذهاب منافع ذلك المملوك عنه بما كان هو يصلح لخدمته يتألم بذلك ويتفجع.

والثاني: لما يتأمل منه النفع في العاقبة وإن لم يكن للحال ينتفع به؛ فيتألم - أيضا - بذهاب تلك المنفعة المؤملة، فكل من كان يؤلم من هذين الوجهين جاز عتقه عن الكفارة، وإلا فلا، واللّه أعلم.

ثم لا يجوز إعتاق الأعمى والمقعد ومقطوع اليدين ونحو ذلك عن الكفارة، ويخرج على هذين المعنيين: أما على الأول: أنه وإن ارتفع النقص الحاصل في نفسه بسبب العبودة عند وجود الإعتاق إلا أن العيب لا يزال قائمًا فلا يجوز لا للنقصان لكن لأنه يصير معتقًا ببدل، والإعتاق ببدل لا يجوز عن الكفارة، وإن كانت الرقبة بصفة الكمال.

ومعنى قولنا: إنه يصير معتقًا ببدل: أنه ما دام في ملكه على تلك الحال، فإن مؤنته تلحقه، وبالإعتاق تسقط مؤنته عن نفسه، وتلحق تلك المؤنة المسلمين؛ فلم تجزئ عن الكفارة لهذا.

وأما على الثاني: فلا يلزم على الوجهين جميعًا أما على الأول: فلأنه لا يفجع ولا يتألم نفسه بإعتاق مثله؛ لما ليس له منفعة الخدمة؛ ليتألم بفوتها، وعلى الثاني: لما ليس له منفعة تؤمل في المآل؛ فيتألم بذلك - أيضًا - ولا يلزم الصغير على هذا العذر؛ لأنه ليس له منفعة الخدمة ونفقته عليه أيضًا، ومع ذلك يجوز إعتاقه عن التكفير؛ لأنا نقول: إنه إنما ينفق على الصغير، لما تؤمل منفعته في العاقبة، والناس إنما يربون الصغار والصغائر، وينفقون عليهم؛ لينتفعوا بإيمانها وإعتاقها في العواقب؛ فلم يصر عتقه عن هذا الوجه ببدل، والتألم في عتقه موجود، وحسب ما كان في الكبير أو أكثر.

والأعور، ومقطوع إحدى اليدين وإحدى الرجلين يجوز عن الكفارة فإنه يمكنه الاكتساب؛ فيتألم مولاه بإعتاقه؛ لما فيه ذهاب منفعته؛ فيصلح أن يكون كفارة لما ارتكب من الشهوة، ولما قدمنا من جبر ذلك النقصان وارتفاعه بالعتق، واللّه أعلم.

وذكر عن الشافعي أنه لا يجيز عتق الرقبة الكافرة عن الكفارة، واحتج بذكر اللّه - تعالى - في كفارة القتل الرقبة المؤمنة، فكذلك في كفارة الظهار؛ إذ هما كفارتان.

ولكن نحن نقول: هذا على أصل مذهبه خطأ؛ لأن مذهبه العموم يعم كل رقبة في دار الدنيا، والأصل في ذلك عندنا أن اللّه - تعالى - ذكر في كفارة الظهار الرقبة المؤمنة؛ فلا يجوز أن نوجب ما ذكره في كفارة القتل هاهنا؛ والدليل عليه: أنه ذكر في تلك الآية الأشياء، وهو قوله - تعالى -: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ}، فذكر الدية، ثم ذكر الدية في آية القتل - لم يوجبها على المظاهر؛ إذ ترك ذكرها في آية الظهار، ومثله في القرآن كثير.

وأيضًا: إن أحق ما يجوز في الكفارة إعتاق الرقبة الكافرة؛ وذلك لما أن المسلم قد يتألم بإعتاق الرقبة الكافرة، ولا يتألم بإعتاق المسلمة؛ لما يأبي طبعه الإحسان إلى

الكافر، ولا يأبى بمثله إلى المسلم، وقد وصفنا أن الكفارة للتألم بإخراج ما أمر بإخراجه عن ملكه، مع ما في القرآن دليل على جواز اصطناع المعروف إليهم، وهو قوله - تعالى -: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّه بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ}، ثم قال - أيضًا - بعد ذلك: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ}.

وذكر في القصة أن بعض أصحاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كانوا قد امتنعوا عن الإنفاق على أقربائهم لما أبوا الإسلام؛ فنزلت هذه الآية؛ فهذا يبين ذلك وأن في الاصطناع إليهم وإعتاقهم يكون تكفيرًا.

ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} فتأويله عند أبي حنيفة - رحمه اللّه -: أي: عتقا لا مسيس فيه؛ لأن عنده الإعتاق يحتمل التجزؤ: أنه يعتق نصفه، ثم النصف الآخر؛ فيشترط أن يعتق النصفين جميعًا قبل المسيس، حتى لو مسها فيما بين ذلك يلزمه استئناف العتق، وعلى هذا التأويل قوله:

٤

(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ... (٤) أي: صوم شهرين لا مسيس فيه، حتى لو واقعها في وقت لم يتم صوم شهرين بعد يلزمه الاستئناف، وكأن معناه: لا مسيس في خلال الكفارة؛ فمتى وجد المسيس في وقت لم يتم الكفارة بعد يلزمه الاستئناف، وتأويل قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} عند أبي يوسف - رحمه اللّه -: أي: يعتق قبل وقت المسيس، ويصوم كذلك. ويقول بأن الآية خرجت لبيان وقت التكفير فيه: حتى إذا جامع امرأته في صوم الظهار أنه لا يستأنف الصوم، بل يصوم الباقي؛ إذ قد فات عن وقته فصار قاضيًا عما عليه، وليس بعد الجماع وقت لذلك الصوم، بل يكون ذلك على القضاء؛ فيجوز متفرقًا ومتتابعًا؛ كصوم شهر رمضان: لما تعين له وقت الأداء، ثم فات الوقت لا يجب متتابعًا؛ بل يجوز متفرقًا، كذا هذا، ولا يتصور المسألة في الإعتاق؛ لأنه لا يتجزأ عنده.

ولا خلاف أنه إذا جامع بعدما أطعم ثلاثين مسكينًا أنه لا يلزمه استئناف الطعام، ولا خلاف أنه إذا جامع قبل الكفارة لا يلزمه شيء سوى التوبة والاستغفار في قول عامة الفقهاء.

وعند بعضهم يلزمه كفارتان.

لأبي يوسف - رحمه اللّه - ما ذكرنا، ولأنه قد رأى أداء بعضها في الوقت وبعضها في غير الوقت أولى من أداء الكل بعد الوقت؛ ولهذا المعنى في الطعام كذلك.

ولأبي حنيفة - رحمه اللّه - أن الظهار ليس يوجب الكفارة؛ ولكن يوجب حرمة لا

ترتفع إلا بالكفارة، ولا يؤمر هو بالكفارة مقصودًا، ولكن إذا أراد الاستمتاع بها يقال له: ليس لك ذلك إلا بالكفارة، فإذا كان كذلك فإذا أدى بعضها، ثم ماسها، ثم أدى البقية - لم يصر ما أدى بعد المماسة؛ فضاعف الوقت الذي قبل المماسة، فإذا لم يصر قضاء عن ذلك جعل كالنص إنما جاء في هذه الحالة: أن حرروا رقبة قبل أن تماسوا ثانيًا، وصوموا شهرين متتابعين إذا أردتم العود إليها؛ ولذلك قال - عليه السلام - للمظاهر الذي جامع امرأته: " استغفر اللّه، ولا تعد حتى تكفر ".

لكن يدخل على هذا أمر الطعام أنه إذا أطعم بعض لطعام، ثم ماسها لم يلزمه الاستقبال، والعبارة التي ذكرناها توجب الاستئناف، لكن يستحسن في الطعام؛ لأن الطعام وقع في الأصل متفرقًا؛ إذ لو أطعم بعضه للحال وبعضه بعد سنة فإنه جائز من ذي الجهة، لكن يدخل عليه الإعتاق عند أبي حنيفة - رحمه اللّه - فإنه إذا أعتق بعضه للحال وبعضه بعد سنة يجوز أيضًا، ومع ذلك إذا وجد المسيس فيما بين ذلك يلزمه الاستئناف.

وما ذهب إليه أبو يوسف - رحمه اللّه - من حمل الآية على بيان الوقت لا يصح؛ لأنا لو حملنا تأويل الآية على الوقت نفسه، لا فائدة تقع في الآية؛ لأن معرفة وقت ذلك ثابتة بدلالة العقل، وذلك أن قد علمنا إيجاب الحرمة بالظهار، وعلمنا أن تلك الحرمة لا ترتفع إلا بالكفارة؛ فصار وقت الحل بذكر الحرمة معلومًا؛ ولذلك هذا في جميع الحرمات من الطلاق وغيره أنه لا يرتفع إلا بسبب رفعه؛ فلو حمل تأويل الآية على بيان الوقت لم تفد شيئًا، ولو حمل على بيان إخلاء الكفارة عن المسيس، وعلى نفي المسيس في خلال الكفارة تفيد فائدة جديدة؛ فيكون هذا التأويل أحق وأولى.

ثم في الآية دلالة بأن ليس ذلك على بيان الوقت، وهو قوله - تعالى -: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا}، ثم ذكر في العتق والصوم ترك المماسة، ولم يذكر ذلك في الإطعام، ولو كان ذلك على جعل الوقت له لكان يذكر فيه المماسة؛ إذ الكفارة إذا كانت عن شيء واحد لا يختلف فيه أوقاتها، بل يكون وقتها واحداً، ولا يقال: إنما لم يذكر الوقت في الإطعام؛ لأن ذكره في العتق والصوم: ذكره في الإطعام؛ لأنه من أنواع هذه الكفارة؛ فذكر الوقت في بعض يكون ذكرًا في الباقي، فإذا أدى بعضه في الوقت وبعضه

في غير الوقت كان أولى من أن يؤدي الكل في غير الوقت؛ لأنا نقول: ذكره في العتق والصوم لا يصلح أن يكون بيانًا في الإطعام؛ لأن البيان على وجوه ثلاثة: بيان نهاية، وبيان كفاية، وبيان تفصيل:

فأما بيان الكفاية: فهو أن يكتفى ببيان الواحد أو القليل عن الكل؛ ليعرف ذلك بالاجتهاد والقياس على نظائره؛ فيدل ذلك على معنى مودع فيه، وأنه محل الاجتهاد والتقليد.

وأما بيان النهاية: هو أن يبين الكل على المبالغة؛ حتى لا يبقى للاجتهاد فيه موضع.

وأما بيان التفصيل: هو الذي يبين في أكثره، ولا يبلغ به نهايته؛ فهو فيما يبين لا يتعدى إلى غيره؛ إذ لو كان فيه معنى مودع يجمع الكل لم يكن لذكر الزائد عليه وترك بعضه معنى.

وهاهنا بيان تفصيل دون كفاية؛ إذ لم يكتف بذكر في واحد، ولا هو بيان نهاية؛ إذ لم ينه البيان في الكل؛ فهو بيان التفصيل الذي ذكرنا أنه يقر في المذكور، ولا يتعدى إلى آخر، ولو كان ذكر ذلك لبيان الوقت لاكتفى بذكره في الواحد عن الكل؛ إذ ذكر في الكل على المبالغة؛ فلما ذكر على بيان التفصيل دل أنه ليس لبيان الوقت، ولكن لنفي المسيس عن خلال الصوم والعتق المذكورين دون الطعام الذي لم يذكر فيه، وتبين أن إخلاء الصوم والعتق عن المسيس حكم عرفناه بالنص غير معقول المعنى؛ فلا يتعدى عنه إلى غيره، ويكون مثاله ما ذكر في قوله - تعالى -: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً. . .} الآية، على ما عرف في موضعه، والحاصل في المسألة طريقان:

 أحدهما: بحق القياس، والآخر: بحق الاحتياط.

أما القياس ما ذكرنا أن قوله - تعالى -: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} لإخلاء الصوم عن المسيس عن خلال الكفارة، لكن إنما ذكر في الإعتاق والصوم دون الإطعام؛ فدلنا ذلك على أنه بيان تفصيل؛ فيكون دليلا على قصر الحكم على المنصوص، ومنع التعدية إلى غيره؛ لما هو علم أن العقول تقصر عن إدراك ذلك المعنى، فجعلنا نفي المسيس عن خلال الصوم والعتق واجبًا بالنص؛ حتى لا يكون كفارة بدونه، ولم يجعل في باب الإطعام شرطًا.

وأما طريق الاحتياط، فهو أنه لما احتمل أن يكون لبيان الوقت أو لنفي المسيس عن خلال الصوم، فأخذ فيه بالاحتياط، وفي الإطعام أخذ بالقياس؛ لما أنه لم يذكر فيه المسيس، وذكره في الصوم والعتق لم يكن بيان كفاية حتى يكون ذكره ذكرا في الإطعام؛

بل هو بيان تفصيل وأن حكمه القصر على المنصوص دون التعدي، واللّه أعلم.

وفي الآية دلالة لصحة مذهب أبي حنيفة - رحمه اللّه - في أن العتق يحتمل التجزئة، وهو أن يعتق بعضه، ويبقى الباقي بحاله ثم يعتقه بأوقات بعده؛ إذ قال: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}، أي: تحرير رقبة بلا مماسة في التكفير، ولو كان بعض العتق يوجب عتق الكل لكان لا يفيد قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}، ألا يقع العتق إلا قبل المماسة؛ فلما قال دل أنه أراد - واللّه أعلم - بألا تمسوهن عندما أعتقتم بعضه ولم تعتقوا الكل حتى يكمل ويتم فيه الإعتاق؛ ولهذا قال بأنه يلزمه الاستئناف في العتق كما في الصوم؛ فدل أن الإعتاق متجزئ، واللّه أعلم.

ثم جعل الكفارة فيه ما ذكرنا، ولم يجعل الكفارة فيه التوبة والاستغفار فقط؛ لوجهين:

أحدهما: أنه لو جعل توبته به لكان لا يظهر ذلك، وأنه أمر بينه وبين المرأة؛ فلا يدري أنه تاب أو لم يتب، وربما يظهر التوبة بالقول وإن لم يتب حقيقة بقلبه؛ فتتهمه المرأة؛ فجعل التوبة فيه أمرا ظاهرًا يعرف به توبته؛ دفعًا للتهمة عنه، وتسكينًا لقلب المرأة، واللّه أعلم.

والثاني: أن اللّه جعل الاستمتاع في النكاح نعمة عظيمة؛ فتشبيهها بالمحرم الذي يتأبد حرمته: أمر فظيع، فلم يجعل له الخروج منه بشيء لا يثقل عليه فيقدم ثانيًا وثالثًا لخفة أمره عليه؛ بل جعل ما يتألم عليه ويشتد عليه زجرا له عن مثله في المستقبل ولغيره: كما في الزنى وغيره من الأجرام.

ثم لم يجعل ملك اليمين للاستمتاع خاصة -وإن أبيح لهم ذلك- ولا جعل لهن قبل السادات حق الاستمتاع؛ فلم يصر تشبيههن بمن ذكر كفران نعمة عظيمة، ولا إبطال حق لهن قبل مواليهن؛ لذلك افترقا، واللّه أعلم.

وقيل: إن الظهار كان طلاق قوم، فأبدل إلى تحريم المتعة، ولم يكن للإماء حظ من الطلاق، وهو الطلاق، ولم يكن لهن حظ من الذي صار وانتقل إليه. ولكن إن ثبت هذا كان طلاقًا يوجب حرمة لا ترتفع أبدًا، لا طلاقًا يوجب حرمة ترتفع بالنكاح، على ما تقدم ذكره. والإماء لم يكن لهن حظ من هذا التحريم؛ لعدم تصور ملك النكاح مع ملك اليمين، فأما لهن حظ من الحرمة المؤبدة بالمحرمية: فإن كان تلك الحرمة هي الأصل، وهن أصل لها، مع قيام ملك اليمين، يكن أهلا لما ينتقل إليه من الحرمة المؤقته؛ دل أن الطريق ما قلنا، واللّه أعلم.

وفي الآية دلالة جواز تأخير البيان؛ لأن ذلك الرجل ظاهر من امرأته اشتد بهم

الحاجة إلى معرفة ما يجب فيه من الأحكام، ثم تأخر نزول بيان ما يجب عليهم؛ فطلبوا من عند رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بيان الحكم؛ فدل أن البيان قد يجوز أن يتأخر عن وقت قرع الخطاب السمع؛ بخلاف الأولى؛ لأن في الأول قد ظهرت الحاجة واشتدت لوقوع النازلة وفي نزول العام الذي أريد به الخصوص لا وكذلك على هذا ما نزل من أحكام الإيلاء والقاذف زوجته بعد وقوع النازلة بأوقات، دليل على ما ذكرنا، واللّه أعلم.

ثم جعل صيام شهرين بدلا عن العتق في كفارة الظهار والقتل وكفارة الإفطار في شهر رمضان، وجعل في كفارة اليمين صوم ثلاثة أيام بدلا عن العتق، وقد ذكرنا الوجه في ذلك فيما تقدم، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللّه وَرَسُولِهِ}.

صرح صاحب [(الواضح)] بأن قوله: {ذَلِكَ}، أي: ذلك أمرتم ونهيتم؛ {لِتُؤْمِنُوا}.

ولكن عندنا تأويل قوله: {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللّه} هو صلة قوله - تعالى -: {قَدْ سَمِعَ اللّه قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا. . .} الآية، يقول: أخبركم بما كان ذلك منكم في السر، وأطلعكم على ذلك؛ لتؤمنوا باللّه ورسوله، أي: لتصدقوا وتعلموا أنه لا يخفى على اللّه من أعمالكم شيء.

ومنهم من قال: ذلك راجع إلى قوله: {وَاللّه يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} أي: ذلك الفرج والمخرج عما امتحنتم به من الحرمة وما اشتد عليكم؛ لتؤمنوا باللّه ورسوله لما فرج عنكم بالخروج بما ذكر، واللّه أعلم.

ومنهم من قال: {ذَلِكَ}: القول المنكر الزور الذي قلتم وأعلمكم أنه منكر وزور؛ لتؤمنوا باللّه ورسوله؛ فيخرج ذلك على الأمر بالشكر له ما أنعم عليهم، وجعل لهم من الفرج والمخرج عما امتحنوا بأدائها، وهكذا العبادات التي أمروا بها: أمروا؛ لإحدى ثلاث خلال:

إما بحق الشكر بما أنعم عليهم.

أو لتسليم الأمر له والخضوع.

أو لحق الاستغفار والتكفير بما سبق من التفريط والتقصير، واللّه أعلم.

وجائز أن يكون قوله - تعالى -: {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللّه وَرَسُولِهِ} على غير هذا، أي: ذلك الذي أنزل؛ لتؤمنوا، أي: لتجددوا الإيمان باللّه - تعالى - ورسوله في كل وقت وكل ساعة؛ إذ يلزم الناس إحداث الإيمان، وتجديده لإحداث الرخص والعزائم التي تجددت واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللّه}.

قيل: أي الذي افترضه اللّه عليكم من الأحكام، وقال الزجاج {حُدُودُ اللّه}، أي: موانع اللّه تعالى؛ لذلك سمي الحاجب: حدادًا؛ لأنه يمنع الناس منه.

وعندنا قوله: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللّه} أي: زواجر اللّه وموانعه، على معنى أنه يمنع كل شيء عن الدخول في حد الآخر يمنع الباطل عن الدخول في حد الحق والاختلاط به.

وفي الآية دلالة خلق أفعال العباد؛ لأنه أضاف الفرائض، وهي الطاعات إلى نفسه بقوله: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللّه}، وأنها أفعال العباد؛ دل أن أفعال العباد كلها مخلوقة للّه - تعالى - وإنما خص هذه الأعمال بالإضافة إلى نفسه، مع أن جميع الأفعال مضافة إليه بخلقه إياها تبجيلا وتعظيمًا لها، كما قال اللّه - تعالى -: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للّه}، أضاف المساجد لنفسه؛ تبجيلا وتعظيمًا لها. وعلى هذا يخرج تأويل من قال في قوله: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا}، من نفسي؛ فكيف أظهرها لمن دونه أراد بهذه الإضافة تبجيلا وتعظيمًا لأمر الساعة؛ فكأنه يقول: إنما لم أظهر أمر الساعة لذلك الخلق الذي هو بهذه المنزلة، فكيف أظهرها لكم أي: لا أفعل ذلك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

أي: للكافرين باللّه وبحدوده عذاب أليم في الآخرة؛ لأن عذاب الكفر إنما يكون في الآخرة عذابًا دائمًا لا انقضاء له، ولا قوة إلا باللّه.

٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللّه وَرَسُولَهُ}.

قال بعض أهل الأدب: المحاد هو الذي يجعل نفسه في حد غير الحد الذي أمره اللّه ورسوله، وكذلك قوله: يشاقون اللّه، أي: يكونون في شق غير الشق الذي عليه رسول اللّه، أو كلام نحوه.

ومنهم من قال: حددته عن طريقه، أي: عدلته عنه، وبعضه قريب من بعض. وأصله ما ذكر: {يُحَادُّونَ اللّه وَرَسُولَهُ}، أي: يمانعون الناس ويزجرونهم عن الطريق؛ لئلا يأتوا محمدًا - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويتبعوه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}.

قيل: غلبوا وردوا بغير حاجتهم كما غلب ورد الذين كانوا من قبلهم.

وقيل: أهلكوا كما أهلك الذين من قبلهم.

وقيل: أخزوا كما أخزي الذين كانوا من قبلهم. وكله قريب بعضه من بعض.

ثم يخرج تأويله على وجهين:

أحدهما: أي: كبت هَؤُلَاءِ الذين منعوا الناس عن اتباع رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من أهل مكة، كما كبت من قبلهم.

أو كبت هَؤُلَاءِ الذين مانعوا الناس عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة، كما كبت الذين مانعوهم عنه بمكة؛ لأن هذه السورة مدنية، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ}.

أي: آيات تبين حدود اللّه من غير حدوده، أو ما يبين الحق من الباطل، والرسول من غيره، أو المحاد من غير المحاد.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ}.

أي: للكافرين كلهم عذاب يهينهم؛ كما أهانوا المؤمنين.

٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّه جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللّه وَنَسُوهُ وَاللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦).

أي: الأولين والآخرين، والمحادين والموافقين.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللّه وَنَسُوهُ}.

أي: ليبعثهم اللّه جميعًا، فينبئهم بما عملوا من خير أو شر، أحصى اللّه ما عملوا، وإن طال ذلك أو كثر، ونسوا هم تلك الأعمال. خرج هذا على الوعيد، وفيه دلالة رسالته؛ إذ أخبر أن اللّه - تعالى - يحصي ذلك عليهم، وأنهم نسوا؛ فلم يتهيأ لهم أن ينكروا عليه أنهم لم ينسوا؛ دل أنه باللّه علم ذلك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}.

أي: على كل شيء من الإحصاء والحفظ وغير ذلك شهيد.

٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّه يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّه بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧).

فإن كان هذا الخطاب لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يكون فيه دلالة رسالته أن أطلعه على ما أسروا فيما بينهم من المكر برسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، وتناجوا بينهم من الكيد والخداع، أطلع اللّه - تعالى - رسوله على ذلك؛ ليعلم أنه باللّه علم ذلك.

والثاني: بشارة له بالنصر والمعونة، وهو كقوله - تعالى - لموسى وهارون - عليهما السلام -: {لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}، أي: أسمع ما يقول لكما وما يجيب، أو أرى ما قصد بكما، وأدفع عنكما ما قصد بكما؛ فعلى ذلك ما ذكر له: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّه يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} فيطلعك على ما هموا بك وأسروا فيك، فينصرك ويدفع عنك كيدهم.

وجائز أن يكون الخطاب ليس لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خاصة؛ ولكن لكل في نفسه؛ فيصير كأنه قال: ألم تر إلى عجائب ما أنشأ من السماوات والأرض قبل إنشاء أهلها فيهما، فإذا رأيت عجائب ما أنشأ من السماوات والأرض وأهلهما، وعلمت ذلك فاعلم أنه بما يكون ومن نجواهم، فيما ذكر عالم؛ فيخرج على التنبيه والزجر عن الإسرار والنجوى.

ثم قوله: {رَابِعُهُمْ}، و {سَادِسُهُمْ}، و {مَعَهُم} ونحوه يجب أن ينظر إلى المقدم من الكلام؛ فيصرف قوله: {هُوَ مَعَهُم} إلى ذلك، نحو قوله {إِنَّ اللّه مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا}، {وَإِنَّ اللّه لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}، ونحوه - يكون معهم في التوفيق والمعونة لهم والنصر؛ فعلى ذلك ما ذكر من قوله: هو معهم في النجوى وما أسروا فيما بينهم، أي: شاهد معهم حافظ عليهم، يدفع عنكم كيدهم ومكرهم وينصركم، واللّه أعلم.

وقوله: {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّه بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.

أي: ينبئهم بما تناجوا وأسروا من الكيد يوم القيامة.

٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللّه وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللّه بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨).

هذا الخطاب لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول: اعلم أن الذين نهوا عن النجوى، {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ. . .} الآية.

وفيه دلالة إثبات الرسالة؛ لأنه أخبر أنهم عادوا إلى ما نهوا عنه وهو النجوى، ومعلوم أنهم لا يعودون إلى ما نهوا عنه بحضرة أصحاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولكن عند غيبة منهم؛ دل أنه باللّه علم.

ثم اختلف في سبب تلك النجوى:

قَالَ بَعْضُهُمْ: إنه كان بين اليهود وبين النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - موادعة، فإذا وجد رجل من المسلمين وحده يتناجون بقتله بينهم، أو يظن المسلم أنهم يتناجون بقتله أو بما يكره؛ فيترك الطريق من المخافة، فبلغ ذلك رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فنهاهم عن النجوى، فلم ينتهوا، وعادوا إلى النجوى؛ فنزل ما ذكر.

ومنهم من قال: إن أصحاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كانوا إذا خرجوا من عند رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قام أناس من اليهود وأناس من المنافقين يتناجون فيما بينهم دون المؤمنين، وينظرون نحو واحد منهم، فإذا رآهم ينظرون نحوه، قال: ما أظن هَؤُلَاءِ إلا قد بلغهم خبر أقربائي الذين بعثهم رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في السرايا من قتل أو موت؛ فيقع في قلبه من ذلك ما يحزنه، فلا يزال كذلك حتى يقدم حميمه من تلك السرية.

لكن الأولى عندنا السكوت عن ذكر هذا وأمثاله؛ لأنه خرج مخرج الاحتجاج وجعله آية عليهم؛ فيجوز أن يكون على خلاف ما ذكر؛ فيوجب الكذب في الخبر؛ فالإمساك عنه أحق.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللّه}.

ذكر أنهم كانوا إذا أتوا رسول اللّه يقولون: السام عليك يا مُحَمَّد؛ فيجيبهم النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويرد عليهم ويقول: عليكم. ففيه دلالة رسالته؛ لأنهم حيوه شرًّا منه، فأطلعه اللّه - تعالى - على ما أسروا، وكذلك ما قال: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللّه}: هلا يعذبنا اللّه بما نقول في السر فيه دلالة الرسالة؛ لأنه معلوم أنهم قالوا ذلك سرا في أنفسهم، فأطلع اللّه - تعالى - رسوله على ما في أنفسهم، ففيه أنه باللّه - تعالى - عرف أذلك.

ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ - خبرا عنهم: {لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللّه بِمَا نَقُولُ}.

جائز أن يكون من رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لهم وعيد بالتعذيب؛ لأجل التناجي الذي كان فلما تأخر ذلك عنهم قالوا عند ذلك: إنه لو كان رسولًا على ما يقوله لعذبنا على ما قال ووعد، لكن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إن كان وعد لهم العذاب لم يبين متى يعذبون، فعذابهم ما ذكر حيث قال: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ}، واللّه أعلم.

ويحتمل أن يكون قولهم: {لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللّه بِمَا نَقُولُ} إنما قالوا ذلك عند رد رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عليهم بما حيوه حين قال: " وعليكم " يقولون: إنه دعا علينا بقوله: " وعليكم "، فإن كان رسولا لأجيب دعاؤه الذي دعا علينا، لكن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يدع عليهم؛ إنما رد قولهم عليهم ردًّا، واللّه أعلم.

٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى}.

إن أهل التأويل صرفوا الآية إلى المنافقين، وعندنا يحتمل صرف النهي إلى المؤمنين عن التناجي بمثل ما تناجوا أُولَئِكَ، أي: لا تتناجوا أنتم يا أهل الإيمان فيهم بالإثم والعدوان كما تناجوا فيكم، يقول: لا تجازوهم بالذي فعلوا هم بكم، ولكن تناجوا فيهم بالبر والتقوى، وهو كقوله - تعالى -: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا}: نهى المؤمنين أن يجازوهم جزاء الاعتداء الذي كان منهم من صدهم عن المسجد الحرام؛ بل أمرهم بالتعاون على البر والتقوى، قال: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}، فعلى ذلك يحتمل هذا، واللّه أعلم.

وجائز أن يكون في المؤمنين حقيقة على الابتداء؛ نهيا منه لهم، يقول: إذا تناجيتم فلا تتناجوا فيما يؤثمكم ويحملكم على العدوان: على المجاوزة عن الحد، ومعصية الرسول فيما يأمركم وينهاكم، {وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى}: يحتمل كل أنواع الخير، وأما التقوى فهو كل ما يقون به أنفسهم عن النار، وقد تقدم ذكره.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاتَّقُوا اللّه الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}.

جائز أن يكون هذا الخطاب لهم -أعني: المؤمنين والكافرين الذين يقرون بالحشر-

لأن أهل الكتاب وبعض المشركين يقرون بالبعث، وبعض المشركين ينكرون مع الدهرية.

١٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللّه وَعَلَى اللّه فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٠).

أي: النجوى الذين كانوا يتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول، ليس كل نجوى على ظاهر ما يخرج الخطاب عامًّا؛ ولكن يرجع إلى النجوى التي ذكرنا، وهو الذي نهوا عنه.

ثم قوله: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ} جائز أن يكون معناه: ابتداء النجوى في الشر من الشيطان، وهو ما ذكر في بعض القصة أن اللّه - تعالى - لما خلق آدم - عليه السلام - قال إبليس للملائكة: أرأيتم إن فضل هو عليكم ما تصنعون؟ فأجابوه بما أجابوا؛ فقال هو: إن فضلت عليه لأهلكنَّه، [وإن فضل هو عليَّ لأعصينَّه]، فقد ناجاهم في أمر آدم - عليه السلام - بالشر، فكان أول النجوى في الشر من الشيطان.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا}.

لولا أن الشيطان في حال الحزن يكون أملك على إفسادهم وإخراجهم من أمر اللّه - تعالى - وإدخالهم في نهيه؛ وإلا لم يكن لقوله: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} معنى؛ فدل أنه - لعنه اللّه - في حال الحزن والغضب أملك وأقدر من حال السرور والسعة، لكنه بما يدعوه إلى اللذات ويمنيه أشياء كان قصده من ذلك أن يوقعه في الضيق والشدة لما هو عليه أقدر في تلك الحال؛ ولذلك قال لآدم وحواء - عليهما السلام -: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى}، تلقاهم بالغرور بالذي ذكر، ومناهم ما ذكر، وكان قصده من ذلك إبداء عورتهما وإيقاعهما في الضيق والبلاء؛ حيث قال: {فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا. . .} الآية، مكن اللّه - تعالى - إبليس من الشر بالذي ذكرنا، ولم يمكن له من إفساد الطعام واللباس والأشربة ونحو ذلك، وهو دون الأول، وذلك أكثر، لكن هذا في الضرر الدنياوي أكثر؛ فلم يمكنه من إفساد هذه الأشياء تفضلا منه وإحسانًا عليهم، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللّه}.

أي: ليسوا بضارين لهم فيما يتناجون من الكيد بهم والمكر، واللّه أعلم.

ثم قال: {وَعَلَى اللّه فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}.

أي: في دفع من قصدهم من الكيد بهم والمكر والهلاك، وعليه يتوكلون في النصر لهم والمعونة على أعدائهم، والتوفيق لهم في كل خير، وكل هذا وصف المؤمنين وأما المعتزلة، فهم بمعزل عن هذه الآية، وكذلك: المؤمنون على قولهم غير متوكلين على (١) في المطبوع هكذا [وإن فضل هو عليَّ لأعاديه] والتصويب من (أخبار الحمقى والمغفلين لابن الجوزي. ١/ ٦٣).

اللّه؛ لأنهم يقولون: إن اللّه - تعالى - قد أعطى كلا من النصر والمعونة ما ينتصر على أعدائه وينتقم منهم حتى لا يبقى عنده مزيد ما ينصرهم ويعينهم على شيء؛ فعلى قولهم لا يقع للمؤمنين في التوكل على اللّه - تعالى - شيء؛ لأنه ليس عنده ما ينصرهم ولا ما يعينهم، فعلى ماذا يتوكلون عليه على قولهم إذا لم يملك ما ذكرنا، ومن قولهم: إن على اللّه - تعالى - أن يعطي من المعونة والتوفيق حتى لا يبقى عنده مزيد بشيء فلو منع شيئًا من ذلك لم يعطهم يكون جائرًا، ثم إذا أعطاهم ما ذكروا، ولا يهتدون ولا ينتصرون، واللّه - تعالى - قال: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللّه فَلَا غَالِبَ لَكُمْ}،

وقال: {مَنْ يَهْدِ اللّه فَهُوَ الْمُهْتَدِي}؛ فدل أن ما قالوا مخالف للكتاب.

ثم اختلف في اشتقاق النجوى:

فمنهم من قال: هو من النجوة، وهو المكان العالي المرتفع: وذلك أنهم كانوا يقومون في مكان مرتفع فيتحدثون فيه فإذا رأوا من قصد بهم فيتفرقون، أو كلام نحو هذا معناه.

ومنهم من قال: التناجي: التخالي بما ذكروا، فيكون معنى قوله: {إِذَا تَنَاجَيْتُمْ} أي: إذا تحاليتم فلا تتخالوا بما ذكر.

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: التناجي من التشاور، واللّه أعلم.

١١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللّه لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللّه الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللّه بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١).

يخرج على وجهين:

أحدهما: وإذا قيل لكم تأخروا في المجلس فتأخروا، {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا}، أي: ارتفعوا وتقدموا؛ فيكون قوله: {تَفَسَّحُوا} إذا كان الحضور أولا هم الذين همتهم السماع والعمل به ثم جاء من يريد التفقه فيه، فقيل لهم: تأخروا؛ حتى يقرب من يصير إمامًا للناس وفقيهًا لهم. وإذا كان الحضور هم الذين همتهم أن يكونوا هم الأئمة، ثم جاء بعد ذلك من كان همتهم السماع والعمل به، قيل للذين تقدموا أولا: ارتفعوا وتقدموا حتى يسمع من حضر بعدكم قول النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، واللّه أعلم.

والثاني: أنه إذا كان في المجلس أدنى سعة وفسحة ما يمكن تمكين غيره بالتحريك والتفسح دون القيام يقال لهم: تفسحوا. وإذا لم يمكن ذلك إلا بالقيام قيل لهم: قوموا وارتفعوا وتقدموا.

وقوله: {يَفْسَحِ اللّه لَكُمْ} يحتمل وجوهًا:

أحدها: يفسح اللّه لكم في القبر، أو في الآخرة في الجنة، أو يفسح اللّه لكم في

المجلس أو يفسح لكم فسحة القلب وتوسعة للعلم والحكم، واللّه أعلم.

وقال الحسن: {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ}، أي: في القتال والحرب، {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا}، أي: إذا قيل: انهزوا إلى العدو فانهزوا.

قال قتادة: أي: إذا دعيتم إلى خير أو صلاة فأجيبوا.

وقيل: هو كل خير: من قتال عدو، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو حق كائنًا ما كان، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَرْفَعِ اللّه الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}.

أخبر أنه يرفع اللّه الذين آمنوا، وأخبر أنه يرفع اللّه الذين أوتوا العلم من المؤمنين على الذين لم يؤتوا العلم درجات؛ لفضل العلم على سائر العبادات من الجهاد وغيره؛ ألا ترى أنه قال في آية الجهاد: {فَضَّلَ اللّه الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً}، جعل للمجاهدين على القاعدين فضل درجة، وللذين أوتوا العلم على الذين لم يؤتوا درجات؛ ليعلم فضيلة العلم على غيره، وكذلك قوله - تعالى -: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: إن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يجلس قومًا عند نفسه؛ ليتفقهوا في الدِّين، ويبعث قومًا سرايا، حتى إذا رجع السرايا أنذرهم الذين تفقهوا في الدِّين وتعلموا من رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

فإن كان التأويل هذا؛ ففيه دلالة فضيلة العلم على الجهاد؛ حتى أحوج أُولَئِكَ إليهم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: كان ينفر من كل قوم طائفة؛ ليتفقهوا في الدِّين، فإذا رجعوا إلى قومهم أنذروا قومهم.

وقال قتادة: إن بالعلم لأهله فضيلة، وإن له على أهله حقًّا، ولعمري الحق عليك أيها العالم أفضل، واللّه يعطي كلا من فضل فضله.

وقتادة يقول في قوله - تعالى -: {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا}: إنهم كانوا إذا رأوا أحدهم مقبلا يضنون بمجالسهم عند رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فأمر اللّه - تعالى - أن يفسح بعضهم لبعض.

وقال مقاتل: أقبل نفر من الأنصار ممن شهد بدرًا، فسلموا على نبي اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ومن حوله، فردوا السلام، وضنوا بمجلسهم من رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فلم يوسعوا لهم؛ فقال لهم رسول اللّه: " قم يا فلان ويا فلان " لنفر منهم من الذين لم يشهدوا بدرًا؛ فتكلم في ذلك

المنافقون؛ فنزلت هذه الآية، واللّه أعلم.

١٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢).

يشبه أن يكون ما ذكر من مناجاة الرسول - عليه السلام - على وجوه، والناس في مناجاته طبقات:

أحدهم: يناجيه مسترشدًا في أمر الدِّين، وما ينزل به من النوازل.

والآخر: يناجيه افتخارًا به على غيره من الناس ومباهاة منه؛ ليعلم أن له خصوصية عند رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وفضلا له عنده، وهو صنيع المنافقين.

والفريق الثالث: يناجونه؛ ليسمعوا الناس الكذب ويسمعوهم غير الذي سمعوا، كقوله - تعالى -: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ}، وهم اليهود وصنيعهم ما ذكر؛ فجائز أن يخرج المناجاة مع رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على الوجوه التي ذكرنا.

ثم ما ذكر من تقديم الصدقة على المناجاة يخرج على وجوه:

أحدها: أمر بتقديم الصدقة؛ لعظم قدر رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والخصوصية له، يطهر بتلك الصدقة ويصير أهلا لمناجاة بها، وهو كالطهارة التي جعلها سببًا للوصول إلى مناجاة الرب، سبحانه وتعالى.

والثاني: لما خصهم بمناجاة الرسول، وجعلهم أهلا لها، أمرهم بتقديم الصدقة؛ شكرًا له منهم بذلك.

والثالث: جائز أن يكون أمرهم بتقديم الصدقة؛ امتحانًا منه إياهم؛ ليظهر حقيقة أمرهم، وهو ما جعل الأمر بالجهاد سببًا لظهور نفاقهم وارتيابهم في الأمر؛ فكذلك الأول، واللّه أعلم.

وجائز أن يكون الأمر بالصدقة لأهل المناجاة على الذين كانت لهم حوائج عند رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيمنعونه عن قضاء حاجاتهم بالاشتغال بالمناجاة، أمرهم بالصلة لأُولَئِكَ؛ تطييبًا لقلوبهم، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ}.

أي: أن تقديم الصدقة أطهر لقلوبكم من ترك الصدقة.

وقوله: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

جائز أن يكون هذا الأمر لأهل الغناء دون الفقر، حتى قال: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا} ما تصدقون به، {فَإِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

١٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللّه عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللّه وَرَسُولَهُ وَاللّه خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٣).

قال عامة أهل التأويل: أي: أبخلتم يا أهل الميسرة أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات؟

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللّه عَلَيْكُمْ}.

أي: تجاوز عنكم إذ لم تفعلوا.

{فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}.

أي: إذا لم تصدقوا تلك الصدقة فآتوا زكاة أموالكم.

قال أهل التأويل: نسخ ما أمروا به من الصدقة عند المناجاة بما ذكر: من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَطِيعُوا اللّه وَرَسُولَهُ وَاللّه خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.

هذا وعيد، ثم في قوله: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} دلالة قبول خبر الواحد؛ لأنه يناجيه ولا يعلم به غيره؛ دل أنه يقبل إذا أخبر به غيره.

وفيه أن لا كل مناجاة تكون من الشيطان؛ لأن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ناجى من ذكر؛ فدل أن قوله: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ} مصروف إلى ما سبق ذكره.

وفيه ألا يفهم من ذكر اليد الجارحة لا محالة؛ فإنه قال: {بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ}، وليس للنجوى يد ولا بين، وكذلك قوله: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ}، ولم يشكل على أحد أنه لم يرد باليد الجارحة هاهنا؛ فكيف فهم فيما أضيف إلى اللّه - تعالى - في قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}، وقول رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " الصدقة تقع في يد الرحمن ": الجارحة، لولا فساد اعتقادهم في اللّه - تعالى - وتشبيههم إياه بالخلق.

وقال قتادة: أكثروا النجوى مع رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فمنعهم اللّه تعالى عنه، فقال: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً. . .} الآية.

وعن علي - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قال: أنا أول من عمل بها، تصدقت بكذا، ثم نزلت الرخصة.

١٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللّه عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ}.

يذكر سفه المنافقين لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لتوليهم قومًا غضب عليهم، على ما علم منهم أن اللّه - تعالى - قد غضب عليهم؛ لكنهم تولوهم طمعا منهم في أموالهم وفيما كان عندهم من السعة وفضل الدنيا، ثم أخبر أنهم ليسوا منكم، أي: ليسوا على دينكم، ولا أنتم منهم، أي: على دينهم، أي: أُولَئِكَ اليهود؛ لكنهم يتولونهم طمعًا فيما عندهم من فضل الدنيا.

{وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.

كأنه قيل لهم: لم توليتم قومًا غضب اللّه عليهم؟! فحلفوا أنهم لم يتولوهم؛ فأخبر أنهم كاذبون في حلفهم.

وفيه دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لأنهم تولوا اليهود سرًّا من المؤمنين، وحلفوا كذبًا، فأخبرهم رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بتوليهم وكذبهم في الحلف؛ دل أنه - عليه الصلاة والسلام - عرف ذلك بالوحي ثم أخبر ما أعد لهم في الآخرة بتوليهم أُولَئِكَ وحلفهم بالكذب،

١٥

 فقال: (أَعَدَّ اللّه لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٥).

أي: قد أساءوا إلى أنفسهم بعملهم الذي عملوا في الدنيا.

١٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً ... (١٦).

أي: حلفهم الذي حلفوا: إنهم لم يتولوا أُولَئِكَ اليهود جنة.

{فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللّه}.

يحتمل: صدوا أنفسهم عن سبيل اللّه، أو صدوا الناس عن سبيله بما ذكر.

{فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}.

أي: يهانون في ذلك العذاب.

١٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللّه شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (١٧).

يخبر أن أموالهم التي لأجلها تولوا اليهود وعاندوا المؤمنين لا تغنيهم تلك الأموال من عذاب اللّه شيئًا إذا نزل بهم، ثم أخبر عن شدة سفههم أنهم يحلفون في الآخرة كما

١٨

يحلفون لكم في الدنيا بقوله: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّه جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ ... (١٨).

ثم فيه أن الآية لا تضطر أحدًا إلى الإيمان به والتوحيد؛ لأن الآية ليست أعظم من قيام الساعة، ثم لم يمنعهم ذلك عن الكذب والكفر به، ولا اضطرهم إلى الإيمان به، وكذلك قوله: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللّه رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}، في الدنيا؛ فإذا كان ما ذكرنا، كان تأويل قوله: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ}، وقوله - تعالى -: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللّه}: أنهم يؤمنون إذا شاء اللّه، ولا يؤمنون، وإن نزل عليهم الآيات التي ذكر، ولا آية أعظم مما ذكر من إنزال الملائكة، وإحياء الموتى، وتكليمهم أنهم على الباطل، وأن الحق هو الذي دعا رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إليه؛ دل هذا كله أن الآية لا تضطر أهلها على الإيمان، واللّه أعلم.

١٩

وقوله: (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللّه أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (١٩).

قال ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنهما -: {اسْتَحْوَذَ}، أي: غلبهم الشيطان.

وقال مقاتل: أي أحاط بهم.

وقال الزجاج والْقُتَبِيّ: أي: استولى عليهم. وذلك كله يرجع إلى معنى واحد، وفيه أن الشيطان قد سلط عليهم حتى غلب عليهم بإجابتهم بما دعاهم إليه من معاداة اللّه ورسوله والمؤمنين، ولكن سلطانه على ما ذكر، وهو قوله: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ}، فعليهم إذا عملوا بما أراد وأجابوه إلى ما دعا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللّه}.

يحتمل: أي: أنساهم عظمة اللّه، أو نعم اللّه وإحسانه، أو شكر نعمه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ}.

الحزب هو جمع الفرق؛ تحزبوا، أي: تفرقوا، فحزبه هو جنده كما قال أهل التأويل؛ لأنهم يصيرون فرقًا، ثم يجتمعون، فيكونون جندا له، وجند الرجل هم الذين يستعملهم فيما شاء من القتال وغيره، ويصدرون لرأيه؛ فعلى ذلك أُولَئِكَ الكفرة هم جنده.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ}.

لأنه مناهم في الدنيا أمورا، وأملهم تأميلا فيما اتبعوه، فلم يصلوا إلى شيء من ذلك، وفي الآخرة بقوله: أن لا بعث ولا جنة ولا نار، ولهم فيها عذاب؛ فخسروا الدارين جميعًا.

٢٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللّه وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠).

قيل: في الأسفلين، وقيل: في المهزومين، وقيل: في الآخرين، وقيل: هو في الآخرة؛ كقوله - تعالى -: {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، وأما في الدنيا فربما يكونون هم الغالبين.

ومنهم من يقول: ذلك في الدارين جميعًا هم الأذلاء، واللّه أعلم.

٢١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَتَبَ اللّه لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللّه قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١).

أي: قضاء اللّه لأغلبن، ثم

قَالَ بَعْضُهُمْ: ليغلبن مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كقوله - تعالى -: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}، وفعل ذلك.

وجائز أن يكون المراد منه جملة رسله؛ كقوله - تعالى -: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ وقوله - تعالى -: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا}، ثم الغلبة قد تكون من وجهين:

أحدهما: بالحجج والبراهين، وما من رسول إلا وقد غلب على خصمائه بالحجة.

والثاني: بالقتال والحرب، وكانت العاقبة للرسل - عليهم السلام - لما لم يذكر أنه قتل رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، واللّه أعلم.

وإضافة الغلبة إلى نفسه؛ على إرادة الرسل وأوليائه؛ على ما ذكرنا في غير موضع.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ اللّه قَوِيٌّ عَزِيزٌ}.

قوي بذاته؛ لأنه يكون قوة من دونه، وكذلك كل من دونه بتكوينه.

أو يكون فيه بشارة لأوليائه أنه قوي عزيز بذاته: أنه ينصرهم على أعدائهم ويقهرهم.

٢٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّه وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللّه عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللّه أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللّه هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٢٢).

قال عامة أهل التأويل: نزلت في حاطب بن أبي بلتعة؛ لأنه كان كتب إلى أهل مكة: إن رسول اللّه يقصد إليكم؛ فخذوا حذركم، وكان له بمكة أهل؛ فأراد أن يكون له عندهم يد، فشعر بذلك رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال: " ما حملك على هذا؟ " فقال ما ذكرنا؛ فنزلت الآية فإن كان نزولها فيه على ما ذكروا فهي في براءته من وجهين:

أحدهما: أنه لم يرجع عن الإيمان والتصديق لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وأنه لا يعود إلى مثله بعد ذلك أبدًا.

والثاني: أنه لم يقصد بصنيعه مودتهم؛ ولكن قصد إلقاء المودة إليهم؛ ليقع عندهم أنه وادهم، وهو في الحقيقة يلقي المودة، وقد يكون ذلك كقوله - تعالى -: {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ}، واللّه أعلم.

وإن كانت الآية في غير حاطب فهي للمؤمنين الذين حققوا الإيمان باللّه - تعالى - وثبتوا عليه؛ لأن أهل الإيمان كانوا أصنافًا ثلاثة: صنف محققون، وصنف يظهرون القتال مع أعدائهم، وصنف منهم لا يقدرون على إظهار ذلك والمناصبة معهم، ولكن يتبعون الأقوياء منهم فأهل الصنف الثالث مترددون يوادون الكفرة في السر، ويظهرون الموافقة للمؤمنين؛ فجائز أن يكون قوله - تعالى -: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللّه ... }، أي الذين يحققون الإيمان باللّه - تعالى - واليوم الآخر لا {يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّه}؛ ولكن إنما يوادهم من لم يحقق الإيمان؛ فيكون فيه إخبار عن إثبات الإيمان في قلوبهم كقوله - تعالى -: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ}، أي: أثبت في قلوبهم الإيمان؛ فلا يرجعون عنه، وفيه أن الإيمان موضعه القلب.

وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: (ما كان لقوم يؤمنون باللّه واليوم الآخر أن يوادوا من حاد اللّه) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ}.

قيل: أيدهم بنور الإيمان الذي أثبت في قلوبهم، وأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه أثبت المؤمنين على الإيمان {يُثَبِّتُ اللّه الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ}،

وقال: {كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ}.

وقيل: {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ}، أي: برحمة منه.

ثم وصف ما أعد اللّه تعالى لهم في الآحرة فقال: {وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللّه عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللّه}.

أي: جند اللّه، على ما ذكرنا: أنهم يأتمرون بأمره، ويقاتلون أعداءه، ويوالون أولياءه؛ فهم جند اللّه تعالى.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللّه هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.

قيل: هم الناجون، وقيل: الباقون في نعم اللّه - تعالى - واللّه أعلم بالصواب.

﴿ ٠