سُورَةُ الْحَشْرِ

وهي مدنية

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {سَبَّحَ للّه مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.

قد سبق تأويل التسبيح وبيان وجوهه.

وقوله: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.

العزيز: هو الغالب القاهر، وقيل: هو العزيز؛ حيث جعل في كل شيء من خلقه أثر الذل والحاجة،

وقوله: {الْحَكِيمُ} له أحد معنيين: معنى الإحكام ومعنى الحكمة: فأما معنى الإحكام فهو أنه أحكم الأشياء على اختلافها وتضادها؛ حيث تشهد له بالوحدانية فهو حكيم؛ حيث وضع الأشياء مواضعها، وخلق الأشياء مواضع.

ثم الأصول التي يتولد منها هذه الأشياء والأفعال ثلاثة: الكيانات والطبائع والعقول:

أما الكيانات: فنحو النطفة أنها بحيث تصلح أن يكون منها البشر إذا اتصلت بها موادها، ونحو الماء فإنه بحيث يحيا به كل شيء، وبحيث يصلح به كل شيء.

والطبائع: حيث خلق في البشر، وهي ما يميلون بها إلى المحاسن والمنافع ويحترزون من المساوي والمضار.

والعقول: ليدركوا بها العواقب، ثم إنه علمهم الوجوه التي تتولد من هذه الأشياء؛ فهو حكيم حيث خلق الأصول التي وصفنا، وعلم عباده الأسباب التي بها يولدون، واللّه أعلم.

٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللّه فَأَتَاهُمُ اللّه مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (٢) [هم بنو قريظة، وقال غيره من المفسرين]: هم بنو النضير وهو أقرب.

ثم المعنى في إضافة الإخراج إليه يخرج على وجهين:

أحدهما: أنه اضطرهم إلى الخروج فنسب الإخراج إليه؛ كما قال اللّه - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا. . .} الآية.

والثاني: أنه خلق الخروج من ديارهم منهم؛ فأضيف إليه بحكم الخلق، ثم الأصل في إضافة الفعل إلى اللّه تعالى أنه يجوز أن يضاف إليه على التحقيق وعلى التسبيب، وأما الخلق قلما يضاف الفعل إليهم على جهة التسبيب لا على التمكين، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ}.

اختلفوا فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: أول الحشر الجلاء إلى الشام، والحشر الثاني: حشر القيامة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: أول الحشر حشر أهل الكتاب وجلاؤهم من جزيرة العرب، والحشر الثاني: حين أجلاهم عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - إلى الشام.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا} أي: ما ظننتم أيها المؤمنون أن تنتصروا منهم، فضلا عن أن يخرجوا من ديارهم، ولكن ذلك من لطف اللّه ومنته عليكم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللّه}.

لا يحتمل أن يتوهم أحد هذا، والمعنى في ذلك عندنا وجهان - واللّه أعلم -:

أحدهما: أنهم ظنوا أن اللّه - تعالى - حيث آتاهم القوة والحصون لا يبلغ بهم حكمه المبلغ الذي يخرجون من ديارهم؛ لأنهم كانوا أهل كتاب وكانوا يزعمون أنهم أولى باللّه من غيرهم كقوله: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللّه وَأَحِبَّاؤُهُ}، ويكون قوله: {مِنَ اللّه}، أي: باللّه وبأمره؛ كقوله - تعالى -: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّه} أي: بأمر اللّه؛ فعلى ذلك، الأول.

والثاني: أي: ظنوا أن حصونهم وقوتهم تمنعهم من أولياء اللّه أن يظهروا عليهم، أو من دين اللّه أن يظهر فيهم، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَأَتَاهُمُ اللّه مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا}.

يعني: أنه قذف في قلوبهم الرعب من حيث لم يحتسب المؤمن ولا الكافر؛ لأن المسلمين لم يظنوا أن يقهروهم ويغلبوهم؛ مع قلة عددهم وكثرة عدد أُولَئِكَ، وكذا لم يحتسب الكفرة أنهم مع قوتهم وقوة حصونهم يقهرون ويغلبون، حتى منَّ اللّه - تعالى -

على المؤمنين بأن قذف الرعب في قلوب الكفرة، ذلك لطف عظيم من اللّه - تعالى - إلى المؤمنين، واللّه أعلم.

ثم الأصل فيما خرج هذا المخرج من نحو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَأَتَى اللّه بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ}، ومن نحو قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا}، ومن نحو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللّه فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ}، وما يشاكله أن نحمله على أحد معان ثلاث:

أحدها: أن نقول: المراد إتيان آثار فعل اللّه - تعالى - ويجوز أن يضاف إليه سبيل إضافة حقيقة العمل؛ كما يقال: الصلاة أمر اللّه، ونحن نعلم أنها ليست بعين أمر اللّه؛ لكنها أثر أمر اللّه - تعالى - وكذلك يقال: المطر رحمة اللّه - تعالى - يعني: أثر رحمته؛ فكذلك إذا نزل بهم آثار حكم اللّه - تعالى - وتدبيره وفعله: وهو العذاب جاز أن يضاف إليه إضافة حقيقة الفعل، واللّه أعلم.

والثاني: أن يقال بأن ما كان من هذه الأفعال موصولا بصلة فإنه يجوز أن يراد منه تلك الصلة، وإنَّمَا نتكلم بإضافة هذا الفعل إليه مجازا؛ على ما اعتاد الناس من أفعالهم إذا أرادوها أن يأتوها بأنفسهم، وشرح ذلك وبيانه أنه قال: {فَأَتَى اللّه بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ}، فكان المقصود من هذا تلك الصلة، وهو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ}. وكذلك قوله - تعالى -: {فَأَتَاهُمُ اللّه مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ}، وكذلك ما أشبهه من نحو قوله - عز وجل -: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا}، ومن قوله - تعالى -: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ}، أي: استوى تدبيره من حيث وصل منافع الأرض بمنافع السماء، وكذلك ما أشبه، هذا، واللّه أعلم.

والثالث: نقول بأن هذه أسماء مشتركة المعنى، وما كان سبيله هذا السبيل جاز أَن يضاف إلى اللّه - تعالى - على معنى ليس يقع فيه الاشتراك بالمخلوقين؛ ألا ترى أنه يقال: جاء الليل وذهب النهار، ونحو ذلك على معنى الظهور ونحوه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ}.

هذا يدل على أن الملك للمسلمين في أموال أهل الحرب ليس يقع بمجرد الغلبة ما لم يكن ثم أسر؛ لأنه أخبر أن المؤمنين كانوا يخربون بيوتهم: أضاف الملك إلى الكفرة، مع أن الغلبة للمسلمين؛ فإنكم إذا اعتبرتم علمتم أن اللّه - تعالى - منَّ عليكم؛ حيث أخرج الكفار من ديارهم؛ فإنه لم يكن ذلك بقوتكم.

ويحتمل أن يكون المعنى فيه: فاعتبروا يا أولي الأبصار من أهل الكفار؛ فإن ذلك

يدلكم ويعرفكم أن اتفاقكم على النصرة على النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لا يغنيكم، كما لم يغن هَؤُلَاءِ الذين خرجوا إلى مكة واتفقوا مع المشركين، ثم لم يغنهم، واللّه أعلم.

٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللّه عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا ... (٣).

يعني: لولا أن كتب اللّه عليهم الجلاء في اللوح المحفوظ، لعذبهم في الدنيا بالقتل.

وقوله: {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ}.

قال هذا في قوم علم أنهم يموتون على الكفر، وما روي أن أحدًا منهم مات على الإسلام؛ فيكون فيه دلالة أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يخبر ذلك بالوحي والتنزيل، لا من تلقاء نفسه، واللّه أعلم.

٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللّه وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللّه فَإِنَّ اللّه شَدِيدُ الْعِقَابِ (٤).

يحتمل أوجهًا ثلاثة:

أحدها: أن يقول: {ذَلِكَ}، يعني: ذلك العذاب في الآخرة بسبب أنهم شاقوا اللّه ورسوله، ثم المشاقة والمعاداة والمحادة والمضادة بمنزلة واحدة، وذلك كله: بمعنى المعاداة.

وقوله: {وَمَنْ يُشَاقِّ اللّه فَإِنَّ اللّه شَدِيدُ الْعِقَابِ}.

يحتمل أن يكون على التقديم والتأخير؛ ووجهه أن يقول: إن اللّه شديد العقاب لمن يشاقق اللّه ورسوله، أو يكون فيه إضمار كأنه يقول: إن عقوبته لمن يشاق اللّه ورسوله شديدة.

٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللّه وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (٥).

وما ذكر أن اليهود نادوا المسلمين: إنكم تزعمون أن اللّه لا يحب الفساد، وأنتم تفسدون بقطع النخيل لا يحتمل هذا؛ قال اللّه - تعالى - قبل: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ}، فإذا كانت أنفسهم تسخو بتخريب البيوت؛ فما بالها لا تسخو بقطع الأشجار؟! ومعلوم أنه لا يؤمل في البيوت منفعة بعد تخريبها، وقد يؤمل في النخيل منافع بعد قطعها، ولكن إن كان يصح ذلك الخبر فتأويله عندنا أنه يجوز أن يكون المسلمون خوفوهم بالقتل؛ فقالوا على أثر ذلك: إنكم إذا قتلتمونا صارت هذه النخيل لكم؛ فكيف تفسدون أملاككم؟!

ثم في إذن اللّه بقطع النخيل أوجه من التأويل:

أحدها: أن يكون فيه بيان أن مقاتلة المسلمين إياهم لم تكن لرغبة في أموالهم؛ بل ليستسلموا للّه ولرسوله، ويخضعوا لدينه.

والوجه الثاني: أن حرمة هذه الأموال إنما هي لحرمة أربابها، وأبيح قتلهم وإتلافهم؛ فما ظنك بأموالهم؟!

والوجه الثالث: أن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - كتب عليهم الجلاء، ومعلوم أن أنفسهم بالجلاء إذا خربت بيوتهم وقطعت أشجارهم أسخى منه إذا بقيت ليقطع طمع من أجلي عن المقام؛ فأذن اللّه - تعالى - في قطع النخيل إتمامًا لما كتب عليهم من الجلاء، واللّه أعلم.

والرابع: أن هَؤُلَاءِ كانوا أئمة اليهود، والتحريف والتبديل للتوراة إنما وقع منهم؛ رغبة في الدنيا وسعتها؛ فأذن اللّه - تعالى - في قطع النخيل عقوبة لهم، وحزنًا من الوجه الذي وقع له التبديل منهم، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَبِإِذْنِ اللّه}.

إن كان المراد منه العلم فوجهه أن اللّه - تعالى - علم منهم ذلك، ولو كان فسادا فيه لنهاهم عن ذلك.

وإن كان المراد منه الأمر فهو أن اللّه - تعالى - أمر بالقطع والترك جميعًا.

وإن كان المراد منه المشيئة فهو أن اللّه - تعالى - قد شاء الأمرين جميعًا، واللّه أعلم.

واللينة: اللون من النخيل؛ كما تقول: فوت وفيتة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ}.

أي: ليكون كبتًا وغيظًا للفاسقين، واللّه أعلم.

٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَفَاءَ اللّه عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللّه يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦).

قال: حق هذه الآية أن تكون مؤخرة، وأن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مَا أَفَاءَ اللّه عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى}، متقدمة؛ لوجهين:

أحدهما: أنه ذكر فيه الواو، والواو لا يبتدأ بها إلا في القسم.

والثاني: أن قوله: {وَمَا أَفَاءَ اللّه عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} حرف كناية، والكناية لا بد لها من معرفة تعطف عليها فترجع إليها؛ فلذلك قلنا: إن حقه التأخير وحق الثانية التقديم، وعلى

ذلك قراءة عبد اللّه بن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - وإذا كان كذلك فوجهه: أن الذي وجب صرفه إلى الأصناف التي ذكرنا إنما هو الخمس، وأوجب - هاهنا - من كل الغنيمة، فأبان بقوله: {وَمَا أَفَاءَ اللّه عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} أنه إنما يصرف هذه الأربعة الأخماس إلى النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - دونهم؛ لهذا المعنى: أنهم لم يوجفوا عليه من خيل ولا ركاب، أشار إلى أن استحقاقهم الأربعة الأخماس بسبب إيجاف الخيل والركاب، واللّه أعلم.

وإن كانت القراءة على ما يتلى للحال، ليس على التقديم والتأخير، فإنه يحتمل أن يكون قوله - تعالى -: {وَمَا أَفَاءَ اللّه عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} صلة قوله: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ. . . وَمَا أَفَاءَ اللّه عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ}، وإذا كان بناؤه على ذلك، استقام أن يذكر بحرف الواو وحرف الكناية.

قال - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: إن المنافقين وأهل الضعف من المؤمنين الذي آمنوا بالتقليد يظنون في هذا الموضع أن كيف خص هذه الغنيمة قرابته والمهاجرين الذين هاجروا إليه، وكيف آثر بها نفسه؟

والجواب عن هذا: أن هَؤُلَاءِ الأصناف قوم عامة المسلمين تحمل مؤنتهم لولا هذه الغنيمة، ومعلوم أن أنفس المسلمين ببذل ما عليهم من تلك الأمانة أسخى منه لو صرف إلى كل واحد منهم على الإشارة إليه من ملكه الخاص، وعلى هذه العبارة تجري مسائل لنا:

أحدها: ما روي عن عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه جعل العقل على أهل الديوان؛ لأن ذلك يخرج مخرج المعونة، ومعلوم أن المعونة على عامتهم؛ فبذل ما رجع من هذا الحق إلى تلك العامة أسهل عليهم لو صرف إلى خاصتهم، وكذلك قوله: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا}، ومعلوم أن منع تلك الزوجة عن أن تذهب إلى دار الحرب بشيء من مال زوجها كان واجبًا على العامة، وكذلك المسلمون إذا أصابوا غنيمة وفيها مال مسلم قد غلب عليه المشركون: أنه ما دام الملك للعامة ولم يقسم يرد عليه من غير بدل، وإذا قسموا، واختص كل واحد بملكه لم يأخذه إلا ببدل؛ فكذلك الأول، واللّه أعلم.

قال الفقيه - رحمه اللّه -: والذي يجب من جهة العرف والشريعة: أن يكون تحمل مؤنة رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على أمته: أما من جهة العرف فهو أن من عمل لغيره كان مؤنته على ذلك القول له، وكذلك من جهة الشريعة، ومعلوم أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يقوم بأمور أمته في أمور دنياهم وآخرتهم، وإذا كان الأمر على ما ذكرنا كان أولى ما يجعل لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - هو مال العامة، وذلك هو الفيء، هذا لو اختصه النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لنفسه؛ فكيف وقد قسمه بين

الفقراء وأهل الحاجة، ولم يأخذه لنفسه؟!

ووجه آخر في هذا: ما روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " أحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي "،

وقال: " نصرت بالرعب مسيرة شهرين "، فلو اختص ذلك رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لنفسه، لجاز له بما قال، ولكن اللّه جعل الفيء له بين من كان تحمل مؤنتهم على المسلمين لولا هذا الفيء؛ كي يكون منَّة له على أمته، ولئلا يكون لأحد من أمته عنده - عليه الصلاة والسلام - يد ولا صنيعة، واللّه أعلم.

ووجه آخر: أنه لما لم يؤذن لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في كسب شيء من الدنيا وفضولها؛ حتى يصطنع من فضولها بالمعروف، فجعل اللّه له الفيء ليكتسب به الفضائل. والمعروف، واللّه أعلم.

وفي قوله: " نصرت بالرعب مسيرة شهرين ": دلالة أن ما أفاء اللّه على رسوله وأعطاه فهو له خاصة، يصنع به ما شاء، ويفرقه فيمن شاء، والقول عند أصحابنا في الإمام إذا أعطاه أهل الحرب فيئًا يشترك فيه قومه؛ لأن هبة الأئمة إنما هي لقومهم، وكان هبة رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بما نصر بالرعب؛ فجاز أن يختص بها قومه واللّه أعلم.

٧

ثم قوله: {مَا أَفَاءَ اللّه عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى}.

يعني: رد اللّه على رسوله من ملك الكفرة، أو ما أعطى اللّه لرسوله من ملك الكفرة.

وقوله: {مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} يجوز أن يكون قرى قد أعطوه، أو يكون هذه بشارة لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في فتح القرى.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلِذِي الْقُرْبَى}.

يجوز أن يقال: إن الظاهر من هذه الآية أن يكون المراد منها غير قرابة رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إن ما غنمتم من شيء فإن للّه خمسه وللرسول ولذي القربى "، فقرابة رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إنما تدخل في هذه الآية بالتأويل، وذلك أن المفهوم من ذكر القرابة إنما هو قرابة المخاطبين في الآية، ومعلوم أن الخطاب بالقسم إنما هو للمغتنمين.

وفي قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مَا أَفَاءَ اللّه عَلَى رَسُولِهِ} إنما يفهم منه قرابة الرسول - عليه السلام - وذوو القربى من أصحابنا يسلكون في ذلك مذهبين:

منهم من يقول: إن هذا الحق في الأصل للمحتاجين من القرابة لوجهين.

أحدهما: قوله: {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} وكان المراد منه منصرفًا إلى المحتاجين؛ فكذلك في القرابة.

ومنهم من قال: إن الخمس كان لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يصل به إلى قرابته، فلما قبض - عليه السلام - انقطع ذلك الحق؛ لوجهين:

أحدهما: قوله - عليه السلام -: " إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة ".

والثاني: إنما كانوا يستوجبونه برسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فإذا قبض انقطع ذلك عنهم؛ على سبيل انقطاع الحقوق عن أصحابها عند وفاتهم، ثم الفائدة في منع ما كان لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن الوراثة من وجهين:

أحدهما: أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان لا يستعمل نفسه في شيء من لذات الدنيا وشهواتها، وكان قائمًا للّه تعالى؛ فإذا كان كذلك، جاز أن يكون حقيقة الملك فيه لمولاه، وإن كان في الظاهر له، واللّه أعلم.

فَإِنْ قِيلَ: أليست الأملاك كلها للّه؟

قيل لهم: نعم، غير أن الإضافة قد تكون خصوصية حال، كقوله - تعالى -: {نَاقَةُ اللّه}، وبيت اللّه.

ووجه آخر: ما كان لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فهو وقف عليه إلى يوم القيامة؛ ألا ترى أن زوجاته محبوسات عليه لا يحللن لأحد بعده، ونبوته عليه، لم تتحول بعده إلى غيره؛ فلزم - أيضا - أن يوقف عليه ملكه - عليه السلام - ومعلوم أن ما كان موقوفًا فسبيله التصدق، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ}.

له معنيان:

أحدهما: أنه لو لم يبين هذه المواضع لكان ذلك الخمس الذي كان لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -

يخلفه فيه الخلفاء من بعده؛ فيداوله الأغنياء بينهم.

ومعنى آخر: لو فرق هذا بين الفقير والغني لكان حين يقع هذا للغني بيده كان يكتسب به فضول الدنيا، وأما الفقير فأول ما يقع في يده يستمتع به في منافع نفسه؛ فلذلك فرق في الفقراء، واللّه أعلم.

قَالَ بَعْضُهُمْ: الدولة: هي اسم للذي يدول بين الناس، والدّولة: واحدة، وهي فعلة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}.

يعني: ما أعطاكم رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من هذه الغنيمة فخذوه ولا تظنوا به ظنًّا مكروهًا وما نهاكم عنه فانتهوا، ليس نهي زجر وشريعة، ولكن نهي منع، وما منع منكم من هذا الفيء فانتهوا عنه.

وعلى قراءة ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}، يحمل معنى الأمر ومعنى الإعطاء، أي: ما آتاكم من الدنيا فخذوه، وما نهاكم من الدنيا عنه -يعني: زجركم عنه- فانتهوا عنه.

قال - رحمه اللّه -: ويروى: أن عامة الفقهاء يحتجون بهذه الآية في موضع الأمر مع لفظ الإيتاء، وليس يوجب ظاهره هذا؛ إذ الإيتاء هو الإعطاء والتمليك، كقوله: {وَآتُوا الزَّكَاةَ}، ولكن وجه الاحتجاج به: أن اللّه - تعالى - لما أمرنا بأخذ معروفه - عليه السلام - وإن كان في أخذ المعروف من غيره - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خيار: فلأن يلزمنا الأخذ بأمره والاتباع له أحرى وأولى، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاتَّقُوا اللّه إِنَّ اللّه شَدِيدُ الْعِقَابِ}.

هذا يؤكد ما ذكر من اتباع أمره، واللّه أعلم.

٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللّه وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللّه وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨).

وما نسق عليه من قوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ. . .}،

وقوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ. . .} الآيات ظاهر هذا يقتضي إيجاب حق لهم؛ لأنه إذا قيل: لفلان، لم يكن بد من أن يقال: كذا وكذا، وإذا كان كذلك لم يكن به من حق يذكر لهم، ولا يحتمل أيضًا أن يخفي اللّه - تعالى - علم ذلك الحق الذي أوجب لهذه الأصناف عن خلقه؛ فالسبيل في ذلك من جهة التأويل عندنا، واللّه أعلم.

ثم يحتمل أن يكون رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سئل عن جوابه: لمن؟ قال: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ}.

ويحتمل أن يكون الرسول سأل ربه - جل وعلا - عن جوابه: لمن؟ فأخبر: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ}.

ثم إنه يجوز أن يكون ذلك الحق، هو ما وظف من الخراج على أهل القرية إذا فتحت وهو ما روي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قال لعلي وابن مسعود - رضي اللّه عنهما - حين فتح سواد الكوفة: أني أستشيركم في أمر، قد أغناني اللّه - تعالى - عن مشورتكم حين تلوت هذه الآية، ثم تلا: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ}، ثم قال: لهَؤُلَاءِ خاصة، وتلا قوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، ثم قال: ليس لهَؤُلَاءِ خاصة، وتلا قوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ. . .}.

وروي أن بلالا قال له: اقسم بيننا كما قسم رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خيبر بين أهل العسكر،

وقال: اللّهم اكفني بلالا وأهله. ثم قال عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: " لو قسمتها بينكم لتركت آخر عصابة في الإسلام لم تصب من هذا، وأخبر اللّه بقوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} أنهم شركاء هَؤُلَاءِ؛ فجائز أن يكون عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - حين تلا هذه الآيات تذكر خبرا أخبر به رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فعلم أن الحق الذي أوجب اللّه - تعالى - لهَؤُلَاءِ ذلك.

أو يجوز أن يكون اللّه - تعالى - بلطفه ألهمه وعليا وابن مسعود - رضي اللّه عنهم - لأنه روي أنهما أشارا عليه بذلك؛ ولذلك قال أصحابنا: إن الإمام إذا افتتح قرية من قرى أهل الحرب فهو فيها بالخيار: إن شاء قسمها بين أهلها ووظف عليهم الخراج، وإن شاء قسمها بين أهل العسكر. وإنَّمَا كان كذلك؛ لأن المقصود من المقاتلة أحد معنيين: إما لتوسيع أمكنة الإسلام أن تضيق، أو يضيق المكان بهم؛ ليستسلموا لدين اللّه، وينقادوا لأمره، وينظروا في حججه، وليست مقاتلتهم عقوبة كفرهم؛ بل لما وصفنا من المعنى، وهذا المعنى قد يستفاد إذا وظف عليهم الخراج؛ فلذلك كان للإمام الخيار، واللّه أعلم.

ولو فهم بلال - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - المعنى الذي لأجله قسم رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خيبر بينهم لم يقس سواد الكوفة عليه.

والمعنى من قسمته - عليه السلام - خيبر بينهم، عندنا - واللّه أعلم -: هو أن المسلمين لما صدوا عن البيت بالحديبية بشرهم اللّه - تعالى - بفتح قريب؛ عوضًا عما نالهم فيما أصابهم، وأما سواد الكوفة فلم يكن فيها شيء من هذا المعنى؛ فلم يجز أن يكون أمره مقيسًا عليه، واللّه أعلم.

وقوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} يحتمل أن يكون المراد منه المجاهدين المقاطعين لأسباب عيشهم من الأموال والديار، أي: لهم هذا الحق الذي سبق وصفه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ}.

لم يخرجوهم من ديارهم في الحقيقة، ولكنهم ضيقوا عليهم حتى خرجوا، فإذن أضيف الإخراج إليهم؛ لما كانوا أسبابًا لخروجهم، وهذا كقوله - تعالى -: {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ}، وإبليس -عليه اللعنة- لم يتول إخراجهما من الجنة، ولكن حرضهما على سبب إتيانه؛ فلم يستقرا بعده في ذلك المكان؛ فأضيف الفعل إليه، وقد وصفنا أن هذه الأفعال إذا أضيفت إلى العباد فإنما معنى ذلك أسباب تكون منهم لا حقيقة تلك الأفعال، وما أضيف إلى اللّه - تعالى - من ذلك فهو يحتمل الأمرين جميعًا: الحقيقة والسبب في ذلك؛ لأجل أن العبد لا يمكنه أن يقدر آخر على فعل في وقت فعله إلا على التسبب، فأما رب العالمين فإنه قادر على إقدار العبد على فعل وقت فعله؛ فلذلك قلنا: إنه يجوز أن يراد حقيقة الفعل فيما يضاف إلى اللّه تعالى، وهو الموفق.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ}.

يدل على أنه كانت لهم بمكةَ ديار وأموال، ثم مع هذا لم يرو عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - رَدُّ شيء من ديارهم عليهم بعد فتح مكة، ولا تضمين أُولَئِكَ شيئًا من أموالهم؛ ليعلم أن أهل الحرب إذا غلبوا على أموال المسلمين ملكوها، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللّه}.

يعني: أنهم هاجروا لدينهم، وانقطعوا عن أسباب عيشهم من الأموال؛ يبتغون الرزق من اللّه تعالى.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَنْصُرُونَ اللّه وَرَسُولَهُ}.

دل أن هذا الحق للمجاهدين منهم، ثم قوله: {وَيَنْصُرُونَ اللّه}؛ يحتمل وجهين:

أحدهما: ينصرون رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وذكر (اللّه) صلة.

والثاني: ينصرون دين اللّه، ويطيعون رسوله، عليه السلام.

وقوله: {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}.

يعني: الذين أظهروا صدق الإيمان من قلوبهم؛ لهجرتهم لدينهم وسعيهم إلى ما يزلفهم إلى اللّه - تعالى - ويقرب إليه.

٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩).

يعني: الذين اتخذوا ديارا واسعة تسعهم والمهاجرين، وهم الأنصار.

وقوله: {وَالْإِيمَانَ}.

أي: أنهم آمنوا قبل هجرة هَؤُلَاءِ، لكي يأمن هَؤُلَاءِ المهاجرون من [إحنهم]، ولا يخافوا

شرهم.

وقوله: {مِنْ قَبْلِهِمْ}.

يعني: من قبل الهجرة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ}، يعني: أن اللّه - تعالى - ألقى إليهم محبة؛ حتى أنزلوا المهاجرين ديارهم، وأنفقوا عليهم أموالهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا}.

يعني: أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما قسم خيبر بين المهاجرين، وترك الأنصار لم يقسم بينهم، لم يجد الأنصار في قلوبهم حاجة مما أَعطى المهاجرين، يعني: أن اللّه - تعالى - أغنى قلوبهم حتى لا يفكروا عن حاجة ولا مقت ألبتَّة.

ويحتمل أن يكون المعنى من الحاجة - هاهنا -: الغل والحسد، يعني: أن اللّه - تعالى - طهر قلوبهم حتى لم يجدوا في صدورهم حاجة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}.

أي: يؤثرون على أنفسهم في أملاكهم أنهم لا يجدون بما يبذلون هم حاجة مما يملكون، ويؤثرون المهاجرين على أنفسهم، ولو كان بهم حاجة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.

إن اللّه - تعالى - خلق في طبع البشر محبة المحاسن والمنافع والطلب لها، وبغض المساوي والمضار والهرب عنها، ثم إنه امتحنهم بالإنفاق مما يحبون، وحمل النفس على ما يكرهون؛ طلبًا لنجاتهم، وتوصلا إلى ثوابهم، ثم وقاية الأنفس من الشح تكون بوجهين:

أحدهما: أن يمن اللّه على عبده ليصير ما هو غائب عنه من الثواب في الأجل كالشاهد؛ فيخفف عليه الإنفاق مما يحب، ويصير ذلك كالطبع له.

والثاني: يوفقه اللّه - تعالى - ويعصمه، ويلهمه تعظيم أمره ونهيه؛ حتى يقهر نفسه ويحملها على الائتمار بأمر اللّه - تعالى - والانتهاء عما نهى عنه، وإن كان طبعها على خلاف ذلك.

ثم إضافة الوقاية إلى نفسه تدل على أنه قد بقي في خزانته شيء لم يؤته عبده، حتى يصف نفسه بأنه يقي عنه شح نفسه، ولولا ذلك لم يكن لوعده بوقاية نفسه عن شحها

معنى، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفلِحُونَ}.

يعني: الباقون في النعيم الدائم، والفلاح في الحقيقة: هو البقاء في النعيم.

١٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (١٠).

قد علم اللّه - تعالى - أنه قد يكون في أمة مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من يلعن سلفه حتى أمرهم بالاستغفار لهم.

وفيه دلالة على فساد قول الروافض والخوارج والمعتزلة؛ لأن الروافض من قولهم: إن القوم لما ولوا الخلافة أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - كفروا. ومن قول الخوارج: إن عليا - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - كفر بقتاله معاوية وأصحابه. وقالت المعتزلة بأن من عدل عن الحق في القتال خرج عن الإيمان، ولو كان ما ارتكبوا من الزلات يكفرهم أو يخرجهم عن الإيمان لم يكن للاستغفار لهم معنى؛ لأن اللّه - تعالى - نهى عن الاستغفار للمشركين، فإذا أذن - هاهنا - بالاستغفار لهم تبين بهذا أن ما ارتكبوا من الذنوب، لم يخرجهم من الإيمان، ولأنه أبقى الأخوة فيما بينهم، مع علمنا أنه لم يكن بين الآخرين والأولين أخوة إلا في الدِّين، فلولا أنهم كانوا مؤمنين لم يكن لإبقاء الأخوة معنى، واللّه أعلم.

ولأنه قال - تعالى -: {وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا}، ولو كان ذلك يخرجهم من الإيمان، لم يكن لهذا الدعاء معنى؛ لأن الواجب أن يكون في قلوب المؤمنين عداوة الكفار ومقتهم، فلما ندب جل شأنه في هذه الآية إلى نفي الغل والحسد عن قلوبهم بتلك الدعوة ثبت أنهم كانوا مؤمنين، واللّه أعلم.

ثم في الأمر بالاستغفار لهم دلالة أنه قد كانت منهم ذنوب يستوجبون بها العقوبة لولا فضل اللّه ومغفرته، وإن كانوا فيما يتعاطونه مجتهدين؛ ليعلم أنه ليس كل مجتهد مصيبًا.

ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا}.

يعني: عداوة يحتمل أن يكون المراد منه المؤمنين الذين سبقوهم.

ويحتمل أن يكون هذا في كل المؤمنين.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}.

الرحمة من اللّه - تعالى - فضل منه على عباده وإحسان إليهم؛ ألا ترى إلى قوله: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}: فأخبر أن رحمته هبة منه وإحسان إلى عبده، واللّه أعلم.

ثم الاستغفار في حال الحياة له معنيان:

أحدهما: طلب السبب الذي إذا جاءه استوجب المغفرة.

والثاني: حقيقة المغفرة.

وفي حال الوفاة ليس إلا طلب عين المغفرة، فلما ندب - جل وعلا - إلى الاستغفار لهم بعد وفاتهم، وحال الاستغفار بعد الوفاة على ما وصفنا لا يتوجه إلا على حقيقة المغفرة - ثبت أن ذنوبهم لم تخرجهم؛ لأنه لو كان من حكمه - جل ثناؤه - ألا تحل مغفرتهم إذ ارتكبوا كبيرة لم يكن في الأمر بالاستغفار لهم حكمة، واللّه أعلم.

وقال جعفر بن حرب: إنه ليس في قوله: {وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا} ما يدل على أنه يجعل في قلوبهم؛ لأنه إذا قيل: لا تفعل بنا شيئًا لم يفهم منه أنه يفعله إذا أحب، ولكن يجاب عن هذا أنه قال تعالى نصا في آية أخرى ما يدل على جعل العداوة؛ ألا ترى أنه قال: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}.

فإن قال: تأويله: أنه خلى بينهم وبينها، لا أنه جعلها.

قلنا: غير محتمل أن يخلق اللّه - تعالى - العداوة في قلوبهم من غير فعل يكون منهم، وإن كان كذلك ثبت أنه يخلق هذه الأشياء وقت فعل العبد لها، واللّه أعلم.

١١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}.

هذه الآية تدل على أن اللّه - تعالى - جعل حجة رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قول المنافقين في أنفسهم؛ لأنهم قالوا هذا القول سرا منهم إلى أهل الكتاب؛ لأنه لا يحتمل أن يظهروا مثل هذا القول بين يدي المؤمنين؛ ولا كان الكفار يخبرون بهذا أحدًا من المؤمنين، فلما أخبر

بما قال المنافقون، ثبت أنه ما علمه إلا من الوحي والتنزيل، وذلك علم نبوته عليهم، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ}.

يحتمل وجهين:

أحدهما: أنه يجوز أن يكونوا قالوا لهم هذا على أن يتكثر أتباعهم في القتال.

والثاني: أنهم قالوا ذلك لأهل الكتاب على حسبان منهم أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا علم بحال هَؤُلَاءِ، لم يخرجهم من المدينة؛ خوفًا أن يقال: أخرج أصحابه، وإذن لم يخرج أهل الكتاب ولم يقاتلوا.

وقوله: {وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا}.

يعني: لا ننظر أحدًا فيكم أبدًا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ} يحتمل أن يكونوا وعدوا نصرهم هذا في قرى محصنة، ثم أخبر أنهم: وإن نصروهم ثم انهزموا، هربوا ونفروا وتولوا ولم ينصروهم بعد ذلك أبدًا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاللّه يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}.

لقائل أن يقول: كيف يشهد عليهم بالكذب، والكذب إنما يدخل في الأخبار، وقولهم الذي قالوا إنما هو وعد منهم؛ فحقه أن يقال: إنهم لمخلفو الوعد؟ وبمثل هذه الحجة احتج الخوارج في تكفير من أذنب ذنبًا، وذلك أنهم يقولون: إن من آمن باللّه - تعالى - فقد اعتقد ألا يعصيه، فإذا عصاه تبين بعصيانه أنه كذب في اعتقاده؛ فكفر لهذا المعنى.

ومن جوابنا عن هذا: أن قول المنافقين لأهل الكتاب إخبار منهم عن موالاتهم إياهم، فأخبر اللّه - تعالى - أنهم كاذبون فيما أخبروا عن الموالاة، واللّه أعلم.

١٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (١٢).

في هذه الآية حجة رسالته على الفريقين جميعًا وذلك أن هذا خبر عن الغائب، وذلك لا يوصل إلى علمه إلا بالتعليم، ولم يكن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - اختلف إلى أحد غيره، ولا تلقن شيئًا من أحد من البشر، فإذا أخبر عما يحدث وعما هو غائب، ثبت أنه ما قاله إلا عن الرسالة والوحي، واللّه أعلم.

قال: ويجوز أن يكون اللّه - تعالى - ذكر المؤمنين بهذه الآيات على ما لقي الرسول - عليه السلام - ممن كان الواجب عليهم -على ما عليه كانت عادتهم-: الإحسان إليه؛

وذلك أنه كان من عادة العرب المعونة والنصرة لمن قاربهم في النسب أو القبيلة، وإن كان ظالمًا، ثم إن اللّه - سبحانه وتعالى - أرسل محمدًا - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من بين أظهرهم من قريش، فأظهروا معه من العداوة ما أظهروا حتى هموا بقتله، وجعل محمدًا - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حين أرسله حجة يظهر لليهود والنصارى وجميع أهل الكتاب ما ذكر في كتابهم من نعته وصفته، فقابلوه بذلك ما قابلوا من سوء الصنيع وإظهار العداوة، وكان هذا كله - واللّه أعلم - حجة وعلامة، يعلم بها أن رسالته - عليه السلام - لم تظهر بمعاونة أحد؛ بل بنصر اللّه وفضله وتأييده، واللّه المستعان.

١٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللّه ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (١٣).

يحتمل أن يكون رهبة هَؤُلَاءِ في صدورهم على التحقيق، ويجوز أن تكون على التمثيل:

فأما وجه التمثيل فهو ما قال: {وَيَحْلِفُونَ بِاللّه إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ}؛ فأخبر أنهم يعتذرون إليهم بالحلف؛ فيجوز أن يكون معاملتهم هذه -التمثيل- معاملة من يرهبهم؛ فسمى ذلك: رهبة في قلوبهم، وهذا نحو قوله - تعالى -: (الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (٢) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ يعني: جمع ماله جمع من يحسب أن ماله أخلده؛ فكذلك الأول.

ويجوز أن يكون على التحقيق؛ ولذلك أوجه من التأويل:

أحدها: أنهم كانوا يظهرون الموالاة لكل فريق، وكان عندهم أن اللّه - تعالى - ولي أحد الفريقين لا محالة، وإذا نجا أحد الفريقين نجوا هم أيضًا؛ فكأنهم على هذا التأويل كانوا يرهبون الخلق جميعًا، لا أن يختص به المؤمنون، وكانوا لا يرهبون اللّه؛ لأنهم أمنوا ناحيته من الوجه الذي وصفنا.

ويجوز أن يكون رهبتهم من المؤمنين خاصة، وذلك أن أهل النفاق إنما كانوا من أحد الصنفين: أما إذا كانوا دهرية فنافقوا إذا كانوا أهل كتاب، وإن كانوا أهل كتاب فنافقوا، فإن كانوا دهرية فكانوا لا يرهبون اللّه - تعالى - لما كانوا غير مقرين بالصانع، وإن كانوا أهل كتاب، فإنهم قد أمنوا - أيضًا - لما كانوا يصفون من قولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللّه وَأَحِبَّاؤُهُ}، وإذا سقطت الرهبة من كلا الجانبين من اللّه - تعالى - حصلت الرهبة من المؤمنين خاصة، واللّه أعلم.

ويجوز أن يكون تفسير قوله - تعالى -: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللّه} في قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ}، وذلك يحتمل وجهين:

أحدهما: أنهم لا يفقهون أن البلايا التي في الدنيا ونعيمها تذكير لبلايا الآخرة ونعيمها، وكانوا يرون أنها جعلت لأنفسها، وإذا كان هذا وهمهم وحسبانهم لم يرهبوا من اللّه تعالى.

والثاني: أنهم قوم لا يفقهون من الوعد والوعيد؛ بل كانت رهبتهم ممن كانوا يأملون منهم المنافع ويحذرون مضارهم، فلا يرهبون من اللّه تعالى.

ولقائل أن يقول: إنه لا أحد من أهل الإسلام إلا ورهبته من الناس أشد من رهبة اللّه - تعالى - لأنك ترى الرجل يمتنع عن الزلة عند اطلاع الناس عليه ما لا يمتنع عن كثير من الزلات فيما بينه وبين اللّه تعالى.

والجواب عن هذا وجهان:

أحدهما: أنه ليس بإزاء الخوف من الإنسان رجاء يرجوه، وبإزاء رهبته من اللّه - تعالى - رجاء يرجوه من رحمته وفضله وإحسانه؛ فيجوز أن يكون الرجاء من رحمته وفضله يغلب عليه؛ فيقترف الذنوب ويرتكبها.

والوجه الثاني: إذا كان فيما يرتكبه من الذنب شرك فليس يهابهم، وإنَّمَا خوفه من قوم فيهم سمعة الصلاح وأمارة النصر لدين اللّه - تعالى - ليس من نفس المخلوقين، واللّه أعلم.

١٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (١٤).

قوله: {جَمِيعًا}، أي: لا يقاتلكم أهل النفاق وأهل الكتاب جميعًا معا، وإنهم ليسوا بفاعلين ما وعدوا لأهل الكتاب من النصر والقتال.

واحتمل أن يكون استثناؤه من الوعد الذي وعدوا لأهل الكتاب، فإن كان من القتال فهو يحتمل وجهين:

أحدهما: أنهم لا يقاتلون إلا أن يكونوا في قرى أو حصون أو من وراء جدر، لا يعلم بهم أهل الإسلام، واللّه أعلم.

وإن كان من الوجه الثاني فهو يحتمل وجهين أيضًا.

أحدهما: أنهم لا يوفون ما وعدوا من النصر في القتال لأهل الكتاب، ولكنهم يلتجئون إلى قرى محصنة؛ ألا ترى إلى ما أخبر اللّه - تعالى - منهم في ناحية المسلمين: {وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ}، فأخبر أنهم قد أظهروا الموالاة للمسلمين كما أظهروا لأهل الكتاب إلى أن جاء القتال التجئوا إلى مكان يستمعون من أخبارهم؛ فعلى ذلك النحو يجوز أن يكون في أهل الكتاب.

والوجه الثاني: أنهم لا يقاتلون، ولكنهم يدخلون في قرى محصنة يتربصون لمن يكون

الظفر والعاقبة؟ كما أخبر عنهم في آية أخرى، وهو قوله - تعالى -: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللّه قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ}: فأخبر اللّه - تعالى -: أنهم يتربصون العاقبة، فالتجاؤهم إلى قرى محصنة يجوز أن يكون بهذا التأويل، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ}.

يحتمل وجهين:

أحدهما: أن يقول: {بَأْسُهُمْ}، يعني: قوتهم {بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ}، ما لم يروا أعداء ظاهرة.

أو يقول: بأسهم شديد ما دام القتال بينهم؛ لأنه ليس فيهم من أكرم بالرعب مسيرة شهرين، فإذا أكرم بالرعب هذا المقدار من المسير، فلا يحرم ذلك في أهل قريته، وإذا كان كذلك ثبت أن التأويل ما وصفنا، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى}.

لأن همة المنافقين سلامة الأنفس وراحة الأبدان، وهمة أهل الكتاب الذب عن المذهب والسعي في إقامته، فإذا اختلف همتهم ومقاصدهم تشتت قلوبهم، وذلك معنى قوله: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ}، يعني: في الهمم والقلوب.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ}.

يحتمل ثلاثة أوجه:

أحدها: أنهم لا يعقلون حق الوعد والوعيد.

والثاني: أنهم لا ينتفعون بما يعقلون.

والثالث: أنهم لا يعقلون لمن يكون له العاقبة، وقد وصفنا أن عادتهم التربص لمن يكون الظفر والعاقبة، فإذا اشتبهت عليهم العاقبة ولم يعقلوها لم يوالوا واحدًا من الفريقين في الظاهر والباطن جميعًا، واللّه أعلم.

١٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٥). يجوز أن يكون في هذا إضمار مثل آخر؛ كأنه يقول: مثل هَؤُلَاءِ الكفار كمثل الذين كانوا من قبلهم، وكذلك في قوله: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً}، يعني: مثل مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ومثل هَؤُلَاءِ الكفار، على إضمار مثل آخر، ثم التمثيل وكيفيته يحتمل أوجهًا ثلاثة:

أحدها: أن يقول: مثل هَؤُلَاءِ الكفار الذين أساءوا لرسوله كمثل الكفار الذين أساءوا

للرسل من قبله، كان قريبًا أن ذاقوا وبال أمرهم.

والوجه الثاني: أن يقول: مثل أهل المدينة من الكفار حين هموا بإخراج الرسول من المدينة كمثل أهل مكة حين أخرجوا الرسول - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من مكة وكان قريبًا، حتى ذاقوا وبال أمرهم من الأسر والقتل، والدليل على أن كفار المدينة هموا بإخراج الرسول على قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا. . .} الآية.

ويحئمل أن يكون تخصيصًا لقرية أو قبيلة، ووجه ذلك أن يقول: مثل بني قريظة كمثل الذين من قبلهم وهم بنو النضير، وإن كانوا قريبًا أن ذاقوا وبال أمرهم، واللّه أعلم.

وقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

١٦

هذا إخبار أنهم يموتون على الكفر، وفيه دلالة رسالته على حيث أخبر عن الغيب.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللّه رَبَّ الْعَالَمِينَ (١٦).

فكذلك المنافقون يظهرون الموالاة والنصر، فإذا جاء القتال امتنعوا وتبرءوا عنهم.

ثم قوله: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ} يجوز أن يكون في الآخرة؛ حيث يقول: {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ}.

ويجوز أن يكون في الدنيا، وهو قوله: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ. . .} الآية.

١٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (١٧) [ ... ].

١٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّه وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللّه}.

الأصل إذا ذكرت حال بين العبد وبين سيده، لم يكن بد من إضمار يدخل في ذلك، مثاله قوله: {إِنَّ اللّه مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا}، يعني: أنه معهم في النصر

والمعونة،

وقوله: {لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}: في التوفيق والولاية. وكذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {اتَّقُوا اللّه}؛ لأنه لا يحتمل أن يتقوا اللّه حتى يكون معهم في التقوى؛ إذ ظاهر اللفظ يقتضي هذا؛ كقوله: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}، أي: في الصدق، وإذا ثبت فيه الإضمار كان الوجه في ذلك أحد معانٍ:

إما أن يقول: اتقوا حق اللّه - تعالى - أن تضيعوه، أو اتقوا حده أن تعدوه وتبطلوه، أو اتقوا سخطه واتقوا مخالفته، أو اتقوا الأسباب التي تستوجبون بها مقت اللّه تعالى.

ويحتمل أن يراد من التقوى في هذه الآية أوامره ونواهيه، على ما وصفنا أن لفظ التقوى إذا أطلق جاز أن يراد به الأوامر والنواهي، وإذا ذكر مقابلة أمر كان المعنى منه محارمه ونواهيه، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}،

قَالَ بَعْضُهُمْ: من عمل بما أمر في هذه الآية سلم من تبعات الآخرة؛ لأنه إذا شعر قلبه أن الذي يفعله يقدمه لغد امتنع عن ارتكاب ما يجب أن يستحي منه أو يخرب عليه في ذلك الوقت، وأتى بما يستر عليه، واللّه أعلم.

ويحتمل أن يكون معنى الآية على النظر لما قدمته نفسه للغد، وذلك أنه إذا تذكر، فنظر فيما قدمت نفسه للغد، وذلك أنه دعاه إلى أحد أمرين: إما إلى التوبة عن السيئة التي قدمها أو إلى الشكر على الحسنة التي يتعاطاها، وكل ذلك منه زيادة في الخير، فكان الواجب ألا يغفل المرء عن ذلك، واللّه أعلم.

ويحتمل أن يكون هذا على المستأنف من الأفعال أنه ينظر فيما يريد أن يقدمه لغد، فإن كانت عاقبته الهلاك: انتهى عنه، وإن كانت عاقبته النجاة: مضى عليه وأتى به، واللّه أعلم.

ويحتمل قوله: {اتَّقُوا اللّه وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} أن يكون المراد منه: الاتقاء عن ترك النظر لما تقدمه نفسه لغد، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {اتَّقُوا اللّه}: ذكر قوله: {اتَّقُوا اللّه} مرة أخرى، والآية واحدة، يحتمل وجهين:

أحدهما: أن يكون المراد من الأول: أن اتقوا مخالفة اللّه في أوامره ونواهيه، وفي الثاني: اتقوا سخطه وعقوبته.

والثاني: أنه خرج على التكرار على ما جرت العادة في الكلام في التكرير عند الوعيد على التأكيد؛ كقوله - تعالى -: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ}، وكقوله:

(أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (٣٤) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى)، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ اللّه خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.

فيه تحريض على المراقبة والتيقظ وقت فعله؛ لأن علم وقت فعله أن اللّه - تعالى - مطلع على ما يرتكبه من الذنوب ويقربه من الشرور، امتنع عنها وازدجر، وقالوا: في قوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّه وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللّه إِنَّ اللّه خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} وعيد من أربعة أوجه:

أحدها: في قوله: {اتَّقُوا اللّه}.

والثاني: في قوله: {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}.

والثالث: في قوله: {وَاتَّقُوا اللّه}.

والرابع: في قوله: {إِنَّ اللّه خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.

ثم ذكر هذا الوعيد خرج بعدما خاطب المؤمنين، كقوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ}، فكان الوعيد في المؤمنين أكثر من الوعيد في الكفرة، لكن المؤمنين يوعدهم عما هي معدة للكافرين؛ لئلا يعملوا عملا يستوجبون بذلك ما أعد للكافرين، وهو كقوله - تعالى -: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}، ثم إن اللّه - عز وجل - سمى الآخرة باسم الغد؛ لسرعة مجيئه، وسمى الدنيا باسم الأمس؛ لسرعة فنائها، وهو كقوله: {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ}، فيذكرهم ويعظهم بهذه الآية؛ ليتفكر كل أحد في نفسه ما به: خلق للعبث، أم خلق لأمر عظيم؟ على ما ذكره اللّه، تعالى.

١٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللّه فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (١٩).

قال بعض المفسرين: {نَسُوا اللّه}، أي: نسوا العمل للّه، والنسيان هو الترك، أي: تركوا العمل الواجب للّه - تعالى - فأنساهم أنفسهم، أي: خذلهم اللّه - تعالى - بما نسوا.

ثم الوجه عندنا في الآية: أن ليس أحد من البشر يعمل عملا إلا وهو يأمل بذلك نفعًا لنفسه؛ إذ من لا يعمل للنفع فهو عابث في الشاهد في ذلك العمل؛ فهَؤُلَاءِ الكفرة لما لم يأتمروا بأمر اللّه - تعالى - ولم يطيعوا، وتركوا العمل -صار تركهم العمل للّه- والعمل له عمل لأنفسهم - فصاروا تاركين العمل لأنفسهم؛ فكأنه قال: نسوا أنفسهم؛ فصاروا منسيين.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ}، أي: خلق فعل النسيان والترك فيهم: أضاف اختيار النسيان إليهم، ثم أضاف الإنساء إلى نفسه وأثبت فعله فيه، وليس هذا على أن تقدم منهم فعل النسيان، ثم هو أنساهم بعد ذلك؛ لكن على أن خلق ذلك فيهم وقتما اختاروا ذلك الفعل، وهو كقولهم: هداه اللّه - تعالى - فاهتدى، واهتدى فهداه اللّه؛ فذلك كله في وقت واحد؛ فكذلك هذا في الخذلان والنسيان: لما اختار هو فعل النسيان خلق اللّه - تعالى - ذلك النسيان فيه، كما خلق الهداية والكفر باختياره، ولا يجوز أن يحمل ذلك على تقدم بعض على بعض.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} كقوله: {نَسُوا اللّه}؛ إذ قوله - تعالى - هذا داخل في قوله: {نَسُوا اللّه}؛ إذ العمل للّه هو العمل لأنفسهم، والعمل لأنفسهم هو العمل للذي أريد به وجه اللّه؛ فلذلك قلنا بأن المراد منهما ما في الآخرة.

ويحتمل وجهًا آخر، وهو أنهم لما تركوا طاعة اللّه فخذلهم اللّه - تعالى - بتركهم أمر اللّه تركهم أنفسهم لهم فلم يهتدوا، ثَمَّ للخيرات والطاعات، وهذا من أشد العقوبات.

ويحتمل أن يكون معناه: أي: يجازيهم في الآخرة جزاء ما عملوا بأن تركهم في الآخرة في العذاب الدائم؛ فيكون ذلك جزاء لهم بما عملوا في الدنيا وبما تركوا من الإيمان باللّه تعالى، وهذان التأويلان يرجعان إلى ما ذكر من الخذلان فيما فعلوا، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.

فالفسق هو الخروج عن أمر اللّه تعالى.

٢٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (٢٠).

أي: الناجون، والفوز: هو الظفر بالحاجة، ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} يحتمل وجهين:

أحدهما: ألا يستووا في الدنيا، أو لا يستووا في الآخرة، فإن كان على الأول فمعناه: لا يستوي عمل أهل الجنة في الدنيا في العقول وعمل أهل النار، إذ عمل أهل النار بالذي يستقبحه العقول، وأما أفعال أهل الجنة الداعية إليها بالتي يستحسنها العقول؛ لأن عمل هَؤُلَاءِ بالذي ظهر بالبراهين والحجج، وليس لعمل أُولَئِكَ براهين وما أقيم بالبراهين

والحجج فهو في العقول أحسن من الذي لا برهان عليه، وكذلك كل عمل يستحق صاحبه عليه الثواب فهو في العقول مستحسن، وما يستحق صاحبه عليه العقاب فهو في العقول مستقبح؛ فلم يستويا.

وأما الوجه الثاني: لا يستوي جزاء أهل النار وجزاء الجنة؛ إذ في الجنة النعيم الدائم، وفي النار الشدة والنقمة الدائمة؛ فلم يستويا، يذكر اللّه - تعالى - هذا؛ لينتهوا عن غفلتهم، ويعملوا للّه - تعالى - حتى يستوجبوا بها الثواب في الآخرة.

٢١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللّه وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١).

اختلف الناس في تأويل هذه الآية:

قَالَ بَعْضُهُمْ: هي التمثيل، وهي على التنبيه والتذكير، وذهبوا في ذلك إلى أن العرب إذا استقبلهم أمر، وأرادوا أن يصفوه بالعظم والشدة كانوا يضربون الأمثال بما يعظم ذلك عندهم وصفه - لم يكن يريدون به الحقيقة في ذلك، وهو كقولهم عند شدة الأمر: أظلم عليَّ ما بين السماء والأرض، وكقولهم: ضاقت علي الأرض برحبها، وكما وصف اللّه - تعالى - من أمر لوط - عليه السلام -: {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا}. فهذا القول من العرب إنما كان على التمثيل فيما يريدون أن يصفوا الشيء بغايتة لا على الحقيقة؛ لأنه معلوم أن الدنيا عليه كما كانت لم تتغير، وكذلك لم يظلم عليه ذلك، لكنهم تكلموا على التمثيل من شدة ما نزل بهم من الأمر، وكذلك قوله - تعالى -: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللّه. . .}، يقول: لو كانت هذه الحجج أنزلت على جبل مع صلابته وشدته، لخضع للّه - تعالى - وانصدع؛ من خشيته على وجه التمثيل، لكن قلوب هَؤُلَاءِ أقسى منه؛ حيث لم تخضع ولم تخشع، وهو كقوله: {كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}؛ إذ الحجارة قد تكون فيها منافع: نحو خروج الماء وغيره، فأما قلوب هَؤُلَاءِ الكفرة فليس فيها شيء من المنافع، بل هي قاسية لا تخشع ولا تتصدع، وعلى ذلك حملوا تأويل قوله - تعالى -: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ}، على التمثيل، ليس على حقيقة ذلك.

وقال قائلون: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ}: إنه حقيقة ذلك الفعل منه: وهو الانصداع والخشوع، وكذلك تأويل قوله: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ}، فمعناه: لو كان نزول هذا القرآن وما فيه من الأحكام والأمانات التي أوجب على البشر

على الجبل، وكان هو بحيث يملك قبول ذلك باختياره لقيام شرائطه - لكان هو يفزع ويخضع ويتصدع من خشية اللّه - تعالى - وكان لا يقبل؛ مخافة ألا يمكنه أداء ما لزمه بنزوله، وهو كقوله - تعالى -: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ. . .}: فيقول: معناه: لو أنزلنا هذه الأمانات التي في هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعًا متصدعًا؛ إذ الأمانات التي في هذا القرآن مما قد يلزم المرء لا يمكن أداؤها كلها؛ لأن الأمانات مما يكثر عدها، فضلا من أن يمكن أداؤها؛ فعلى هذا التأويل يخرج على حقيقة التصدع أن لو أنزل عليه -مع عظمه وصلابته- لانصدع؛ فعلى هذا تنبيه للخلق وتذكير لهم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن في هذه الآية تذكير الرسول - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - منته عليه وعلى جميع الرسل: لولا فضل اللّه ومنته على الرسل، لكان لا يطيق أحد من الرسل حمل ما في الكتب، ولا أداء ما افترض مدَّكرٌ؛ فيسر عليهم وثقل العمل بما فيه، فيقولون كذلك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللّه}: لثقل ما فيه، لكنه نزله عليك، ويسر ذكره ووفقك تبليغ ما فيه إلى أهله.

وقال قائلون: إن اللّه - تعالى - لما أراد أن ينزل التوراة على موسى - عليه السلام - وكانت في لوح من زبرجدة حمراء - أمر الملائكة أن يحملوها فلم يطيقوا حملها، ثم أمرهم أن يحملوا كل حرف منها، فلم يطيقوا ذلك؛ فخفف اللّه - تعالى - على موسى - عليه السلام - حتى حمل ذلك، فكذلك ذكر ذلك في عيسى وداود - عليهما لصلاة والسلام - ثم خفف ذلك على الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فكأنه يقول لرسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ. . .} كذا، لكنه خفف ذلك عليك كما خفف على الأنبياء من قبلك، وإليه يذهب الكلبي، لكن إن صح هذا الخبر فإن ذلك الثقل لم يكن في تلك الكتابة التي في الألواح، لكن ذلك فيما يلزمهم من العمل بذلك من أداء الأمانات وغيرها؛ لأنه - تعالى - أخبر أنه لو كان أنزل هذا القرآن على جبل {لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللّه}، وقال في موضع آخر: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ. . .} الآية.

ثم كانت تلك الألواح قد احتملها الأرض، وأمكن لموسى - عليه السلام - حملها؛ فكذلك هذا القرآن كله والتوراة والإنجيل والزبور مما قد يحتمل حقيقة، ويمكن كتابته في قليل الألواح، ثبت أن المراد من ذكره ليس هو الحروف، إنما كان على ما فيه من الأمر والنهي وأداء الأمانات واتقاء اللّه حق تقاته، لا على نفس تلك الألواح، وهذا الذي ذكرنا

هو تأويل القوم في نزول هذه الآية، فأما أنا لا علم لي بحقيقة تأويل هذه الآية، ولولا أن في الآية تذكيرًا وتنبيهًا لكنا نقول: هي من المتشابه المكتوم الذي لا يفسر، لكنه لما خرج مخرج التذكير واستئداء شكر ما سهل علينا قراءته - احتجنا إلى تأويله.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}.

هو ظاهر.

٢٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {هُوَ اللّه الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}.

فمن الناس من يقول: إن قوله: {هُوَ} من أرفع أسماء اللّه - تعالى - وذكر عن بعض أهل بيت رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يدعو بقوله: يا هو، يا من لا إله إلا هو، تأويل هذا الكلام: أن كل شيء بهويته كان.

وقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}، قيل فيه بوجوه ثلاثة:

أحدها: أنه عالم بما غاب عن الخلق وبما شهدوا.

والثاني: بما قد كان وبما يكون.

والثالث: أنه عليم بما قد كان ويعلمه أن كيف يكون إذا كان.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} فهما اسمان مشتقان من الرحمة، وفي هذه الآية بيان وجوه أربعة:

أحدها: فيها بيان التوحيد، وهو قوله: {هُوَ اللّه الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} اسم المعبود: أن كل معبود دونه باطل.

والثاني: أن فيها تنبيهًا وتحذيرًا بأن يتذكر الإنسان في جميع أحواله اطلاع اللّه - تعالى - عليه، وعلمه فيه، وذلك من قوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}.

والثالث: فيها ترغيب في رحمته وإخبار لهم: أن كل نعمة لهم في الدنيا والآخرة من اللّه تعالى؛ إذ هو - عَزَّ وَجَلَّ -: {الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}.

٢٣

والرابع: ما ذكرنا في قوله: (هُوَ اللّه الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللّه عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) {الْمَلِكُ} من الملك، أي: ملك كل شيء له، ليس لأحد سواه حقيقة الملك، {الْقُدُّوسُ} قيل فيه بوجهين:

قَالَ بَعْضُهُمْ: القدوس هو المبارك، والبركة اسم كل خير، أي: منه جميع الخيرات، لكن لا يجوز أن يقال للّه - تعالى -: يا مبارك، وإن كان المعنى منه يؤدي إلى أن يأتي منه كل خير؛ لأنه لا يعرف في أسمائه هذا بالنقل، وعلينا أن نسكت عن تسميته بما لم يسم نفسه بذلك؛ لذلك قلنا بأنه لا يجوز التسمي بالمبارك، واللّه الموفق.

والثاني: القدوس هو الطاهر، يعني: هو مقدس عما قالت الملاحدة والكفرة فيه من الولد والشريك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {السَّلَامُ}.

اختلف في تأويله منهم من قال: سمى نفسه: سلامًا؛ لما هو سالم عن الآفات، وغيره من المخلوقين لا يسلمون من حلول الآفات بهم.

وقال آخرون: سمى نفسه: سلامًا؛ لما سلم المؤمنون من عذابه. والتأويل الأول أقرب.

وقوله: {الْمُؤْمِنُ}.

اختلف الناس في تأويله:

قال قائلون: هو الأمان: أن يؤمن المؤمنين من العذاب، ولا يمكن لأحد أن يؤمن أحدًا من عذابه.

وقال قائلون: أصله من الإيمان: وهو التصديق، ثم ذلك يتوجه إلى وجهين:

أحدهما: أي: مصدق القول بما وعد للمؤمنين الجنة.

والثاني: المؤمن هو المصدق لما قال المؤمنون المصدقون من تصديقهم، فيصدقهم بما قالوا.

ومن الناس من قال: سمى نفسه بما أخبر أن هذا القرآن لما بين يديه مصدق.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {الْمُهَيْمِنُ} اختلف فيه - أيضًا -:

قال قائلون: المهيمن هو الأمين.

وقال قائلون: المهيمن هو المسلط.

وقال قائلون: المهيمن هو الشاهد.

فمن قال بالأول فإنه يذهب إلى أن أصل ذلك من المؤتمن، وهو من الأمانة، وإلى هذا التأويل يذهب الْقُتَبِيّ، أي: أمين في كل ما يقول، وفي كل ما يفعل لا يجور.

ومن قال بأنه هو المسلط، أصله من: هيمن يهيمن، أي: سلط يسلط، سئل عن تأويل المسلط؛ فقال: هو كالظاهر؛ إذ قهر العباد كلهم، وهم ملك له.

ومن فسره بالشاهد فإنه يحتمل تأويلين:

أحدهما: أي: شاهد على أفعال العباد من حيث لا يغيب عنه شيء.

والثاني: أي: شاهد بما أنزل على رسوله بالصدق، وهو كقوله - تعالى -: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ}، أي: شاهدًا عليه.

وقوله: {الْعَزِيزُ}.

أي: ما من عزيز دونه إلا وهو ذليل.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {الْجَبَّارُ}، قيل فيه بوجهين:

أحدهما: سمى نفسه: الجبار؛ لأنه هو المجبر لكل كبير.

فقال قائلون: سمى نفسه: الجبار؛ لجبروته وعظمته، ولا يجوز لأحد أن يسمى بذلك الاسم إلا هو أي: اللّه تعالى وتجبر عن أن يكون له أمثال وأشكال.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {الْمُتَكَبِّرُ}.

من الكبرياء والعظمة، هذا الاسم لا يليق بغيره؛ لأن الخلق بعضهم لبعض أكفاء في الخلقة؛ فلا فضل لأحد على آخر، فلما استووا لم يجز لأحد على آخر التكبر؛ فصار الحق في ذلك للّه تعالى، والتكبر على الآخر هو الارتفاع، والأصل فيه واحد، وهو ألا يرى لنفسه شكلا، واللّه أعلم.

إنما سمى نفسه: متكبرًا؛ إذ هو المتكبر لذاته لم يكن تكبره بغيره؛ فلذلك قلنا: إنه لا يستحق أحد من الخلائق التكبر إلا اللّه - تعالى - إذ لم يكن أحد له شكلا ولا ضدا ولا ندًّا، وأما غيره من الخلائق فكل واحد منهم بالذي له شكل.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {سُبْحَانَ اللّه عَمَّا يُشْرِكُونَ}.

فيه تنزيه للّه - تعالى - عما قالت الملاحدة فيه، فهذا اسم سمى به نفسه، وأمر الملائكة والأنبياء والمؤمنين أن يقولوا ذلك، ومعنى قوله: {سُبْحَانَ اللّه}، أي: معاذ

اللّه أن يكون ذلك على ما قالت الكفرة، وسمى نفسه: جبارًا؛ لما أنه يجبر الأشياء فيجعلها على ما يشاء، وهو كقوله: {الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ}.

على ما يريد هو الأشياء، لا على ما يريده غيره.

قال الشيخ - رحمه اللّه -: إن اللّه - تعالى - يتعالى بمعان أربعة:

أحدها: تعاليه عن الظلم والجور وجميع ما لا يليق.

والثاني: تعاليه على الأشياء كلها بقهره لها وتصريفه إياها على ما يشاء، أي: ليس أحد يقهره، بل هو يقهر الخلائق.

والثالث: تعاليه عن أن تمسه الحاجة والآفة وكل من هو دونه لا يخلو عن ذلك.

والرابع: تعاليه عما قال الظالمون فيه من الولد والأضداد والأشكال والأنداد، وتعاليه عن جميع الآفات التي تصيب الخلق، واللّه المستعان.

٢٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ اللّه الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤).

فالخالق والبارئ واحد، ويقال: برأ، أي: خلق، والبرية هي الخلق، ويقال: سميت البرية: برية؛ لأنه خلق من التراب إذ البري من التراب.

وقوله: {الْمُصَوِّرُ}، والمصور هو الذي يعطي كل شيء صورته، فيصوره على ما هو، فالتصوير هو بيان الحدود، وهو قول الناس: صورت الأمر عند فلان؛ أي: حددته.

وقوله: {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}.

أي: الأمثال العلا، وهي الصفات؛ إذ الصفة ترجع إلى وجهين: إلى الصفة مرة، وإلى التشبيه مرة أخرى، فإذا رجع إلى الصفة فإنه يرجع إلى حقيقة ذلك، وإن رجع إلى التشبيه فإنه لا يرجع إلى حقيقة ذلك.

ثم قوله: {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}، أي: الصفات العلا، أي: لا يسمى بذلك إلا هو؛ إذ لا يقال لغيره: الرب، ولا الرحمن، ولا المالك إلا أن يضاف ذلك إلى شيء، فأما على الإطلاق فلا يطلق ذلك إلا له جل وعلا.

ويحتمل وجهًا آخر: أي: لا شبيه له في أسمائه وألا يشركه أحد في تلك الأسماء؛ بل هي له خاصة، واللّه المستعان.

* * *

﴿ ٠