سُورَةُ الْمُمْتَحَنَةِمدنية بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ١قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ}. هذه الآية وما أشبهها من قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ}، وفي كل ما ذكر {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} دلالة واضحة أن الإيمان ذو حد في نفسه، وأنه ليس كما قالت الحشوية وأصحاب الحديث: إن الطاعات كلها إيمان، ووجه ذلك أن كلا في نفسه قد فهم من هذه الآية أنه محتمل لهذا الخطاب وأنه له؛ فثبت أنه ذو حد في نفسه وهو التصديق بالقلب، وغيره من الطاعات شرائعه، واللّه أعلم. وفيما ذكر من قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}، وما أشبهها من الآي دلالة على أن الإنسان ما يشاهد، وليس كما قال النظام: إن الإنسان إنما هو جسم آخر سوى هذا الإنسان، ولا كما قال الناشئ: إن الإنسان إنما هو جوهر بسيط في هذا الإنسان. ووجه ذاك: أنه ليس كل أحد يعلم كونه جوهرًا بسيطًا أو جسمًا آخر فيه لطيفًا، وقد فهم الكل من هذه الآيات أنه محتمل للخطاب بها؛ فثبت بما وصفنا أن الإنسان هو ما نشاهده واللّه أعلم. وفيه دلالة أن ما يفهم من هذه الآيات من عموم أو خصوص ليس يفهم بظاهر الخطاب؛ ولكن بما توجبه الحكمة، فإن أوجبت عمومها أجروها على عمومها، وإن أوجبت تخصيصها أجروها على ذلك، والذي يدل على ما وصفنا أنه قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}، وهذا مخرجه في الظاهر على العموم، ولكنه لما قال: {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ}، معلوم أن الذي كان يلقي بالمودة خاص لا كل المؤمنين، فكان يجب أن يكون مجراها على الخصوص؛ لما بين في سياق هذه الآية، ولكن الحكمة توجب تعميم هذه الآية؛ لأنه لو قال لواحد: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} كان هذا الخطاب لازمًا للكل بما توجبه الحكمة، أنه إذا علم من أحد عداوته ألا يتخذه وليا، وكذلك قوله: {وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ}. خرج مخرج العموم في الظاهر، ولكن الذين أخرجوه إنما كانوا أهل مكة خاصة دون سائر الكفرة، فهذا يبين أن ما أجري مجرى العموم لم يجر لظاهر اللفظ، ولكن لما يوجب الحكمة والدليل. وكذلك قوله - تعالى -: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللّه. . .} الآية: ليس أن السعي إنما فرض يوم الجمعة لتخصيصه بالذكر؛ ولكن لما أن النداء في يوم الجمعة إلى ذكرين، وفي غيره من الأيام إلى ذكر واحد؛ ولأجل أن النداء المضيق في يوم الجمعة هو النداء الأول، وفي غيره من الأيام هو النداء الثاني، فإذا جاز أن يكون فرض السعي في يوم الجمعة إنما هو لهذين المعنيين - ثبت أن التخصيص ليس لظاهر اللفظ، واللّه أعلم. وفي هذه الآية دلالة رسالته - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وذلك أن قوله: {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} أن ذلك الرجل لم يطلع على سره أحدًا، وقد أطلع اللّه - تعالى - نبيه؛ حيث أخبرهم بالكتاب؛ فثبت أنه علمه بالوحي، واللّه أعلم. ثم اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية؟ فقال الحسن: إنها نزلت في أهل النفاق. وقال غيره من عامة المفسرين: إنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، وهذا أشبه التأويل بالصواب، وأقرب إلى الحق؛ وذلك أن اللّه - تعالى - قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ}: فقد أخبر أن الكفرة عدو لهم، ولو كانت الآية في أهل النفاق لم يكن الكفرة عدوًّا لهم؛ بل كانوا أولياء، فثبت أن المراد منه: المؤمنون، واللّه أعلم. وفي هذه الآية دلالة أن ذلك الذنب الذي ارتكبه ذلك الرجل لم يخرجه من الولاية؛ لأنه قال: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}، ولو كان ذلك الذنب يكفره ويخرجه عن الإيمان لم يكن ذلك الكافر عدوًّا له؛ بل يكون وليًّا له بقوله: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، ولأجل أنه قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}: سماه: مؤمنًا، والدليل على أن ذلك الذنب كان كبيرة أنه أخبرهم بأن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - جهزهم للقتال، وفيما أخبر: أمر بأن يستعدوا لقتال النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وحربه، ولا يشكل أن من أمر بقتال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان مرتكب كبيرة، وإذا كان كذلك، وقد أحله اللّه - تعالى - في جملة المؤمنين بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي} وبما وصفناه من الدليل - ثبت أن الكبيرة لا تكفره، ولا تغير اسم الإيمان عنه، واللّه الموفق. ثم فيما نهانا أن نتخذ عدونا وعدوه أولياء دلالة أن ليس في الحكمة اتخاذ الولاية مع الأعداء. ثم من قول المعتزلة: إن اللّه - تعالى - أراد من جميع عباده أن يؤمنوا، وإذا أراد أن يؤمنوا فقد أراد أن يواليهم مع علمه أنهم يختارون عداوته؛ فكأنهم وصفوا اللّه - تعالى - بما يخرجه من الحكمة ويدخل في السفه والجهل بالعواقب، وذلك كله منفي عن اللّه - سبحانه وتعالى - والمعتزلة فيما وصفوا فجرة فسقة، ويخشى أن يكونوا كفرة، واللّه المستعان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ}، أي: بما كتب في الكتاب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللّه رَبِّكُمْ}، وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي}. يحتمل أن يكون ذلك فيمن هاجر من مكة إلى المدينة، وهو أقرب التأويلين؛ لأن حاطبًا إنما كان هاجر من مكة إلى المدينة وفيه نزلت الآية. ويحتمل أن يكون ذلك حين أرادوا الجهاد إلى مكة، واللّه أعلم أي ذلك كان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ}. أي: هو {أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ} من كتابة الكتاب إلى أهل مكة، {وَمَا أَعْلَنْتُمْ}: بما أظهرتم من العذر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ}، أي: من اتخاذ الولاية مع أعدائه، {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}، في الاعتقاد: إن اعتقد ذلك، وفي الفعل: إن لم يعتقده، واللّه أعلم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ}. التزام مراقبة اللّه - تعالى - في السر والعلانية، وتحذير لهم؛ ليجمعوا بين السر والعلانية وتخويف لهم عن أن يطلع رسوله - عليه الصلاة والسلام - على سرائرهم كما أطلعه على أمر الكتاب إلى أهل مكة. ثم في هذه الآية أعظم شيء في زجرهم ونهيهم عن المعاصي، وذلك أنه لما أطلعه على جميع ما يتعاطونه من الذنوب سرًّا وعلانية؛ فإذا علموا أن الرسول - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يعلم من سرهم ما يعلم من علانيتهم بما يطلعه اللّه عليه؛ يحملهم ذلك على الانتهاء عن المعاصي في السر والعلانية، وعلى الإجابة إلى ما يدعوهم إليه، واللّه أعلم. ٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢). فوجه ذلك وتأويله عندنا - واللّه أعلم -: أنه لما رآهم رغبوا في أموالهم ومودتهم رغبة منهم في الكفرة أن يحفظوا أولادهم وأموالهم، أخبرهم أن كيف يرغبون في حفظهم ذلك، وهم لو قدروا عليكم وظفروا بكم قتلوكم وآذوكم بألسنتهم؟! فكأنه يقول: كيف توالونهم من حيث تسرون إليهم بالمودة، وهم لو ظفروا بكم قتلوكم، وكانوا لكم أعداء؟! وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ}. يعني: أنهم يودون أن يكفروا، ومع ما يودون أن يكفروا: لو قدروا عليكم قتلوكم، فمن كانت حالهم معكم مثل هذا: فكيف تطمعون أن يحفظوا أولادكم وأموالكم؟! ٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣) له وجهان: أحدهما: أن كيف توالون الكفرة؛ لمكان أولادكم وأرحامكم، وهم لا ينفعونكم يوم القيامة؟! والثاني: أن أرحامكم لا تنفعكم ولا تشفع لكم يوم القيامة. وقوله: {يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} يحتمل - أيضًا - وجهين: أحدهما:، أي: بينكم وبين أرحامكم؛ لقوله - تعالى -: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ). والثاني: أي: يفصل بينكم وبين أرحامكم؛ لاختلاف أعمالكم؛ فينزل كل واحد منكم منزل عمله. ٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَاءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه. . .} الآية. الأصل في أنباء المتقدمين أنها عِبَرٌ لهذه الأمة، فما ذكر منها في المؤمنين منهم فهو تذكير للمؤمنين من هذه الأمة، وتعليم لهم معاملة الكفرة ومنابذتهم على مثل ما فعل المؤمنون منهم بكَفَرتهم من سائر الأمم. وما ذكر منها في الكفرة من الأمم الماضية؛ فهو تخويف لكفرة هذه الأمة لئلا يصنعوا مثل صنيعهم فيستوجبوا من النقمة مثل ما استوجب أُولَئِكَ. وما كان منها في حق الرسل - عليهم السلام. - فهو في حق التسلي لرسولنا وسيدنا - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن بعض ما مسه. وأصل آخر: أن الخطاب قد يلزم المخاطب مرة بما يخاطب في نفسه، ومرة بما يؤمر بالاقتداء بغيره إذا كان ذلك الغير لم يفعل ما فعله إلا عن أمر. ثم إن اللّه - تعالى - أمر المؤمنين من هذه الأمة الاقتداء بإبراهيم - عليه السلام - ومن معه من المؤمنين، وأخبرهم عن معاملتهم إياهم وترك مولاتهم؛ فكأنه قال: اتركوا موالاة الكفرة والإسرار إليهم بالمودة ما داموا على كفرهم، كما فعله إبراهيم - عليه السلام - والذين معه {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَاءُ مِنْكُمْ}: فنابذوهم ولم يوالوهم، فافعلوا كفعلهم. {إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ}. فكأنه قال: اقتدوا بهم إلا بما قال إبراهيم لأبيه: {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ}، يعني: لا تستغفروا للمشركين مثلما استغفر إبراهيم لأبيه المشرك؛ لأنكم لا تعلمون المعنى الذي استغفر إبراهيم - عليه السلام - لأبيه. ثم اختلفوا في المعنى الذي استغفر إبراهيم لأبيه: فقال أبو بكر: إنه كان - صلوات اللّه عليه - وعد أن يستغفر لأبيه، ورأى أن إيجاب الوعد لازم عليه؛ فاستغفر لهذا المعنى. وقال الحسن: إنه إنما استغفر له لوقت توبته لا في حال الشرك؛ لأنه لا يتوهم أنه لم يعلم أنه لا يحل له أن يستغفر للمشرك، ومن علم أنه يحل له لم يكن كل سلمًا مؤمنًا؛ فثبت أنه إنما استغفر لوقت إسلامه. وعندنا: الاستغفار: طلب المغفرة، والمغفرة من اللّه - تعالى - على وجهين: أحدهما: مغفرة رحمة وفضل وكرم. والثاني: أن يوفقه للسبب الذي إذا جاء به غفر له؛ ألا ترى إلى قوله: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا}، أي: السبب الذي إذا جئتم به غفر لكم، وإذا كان كذلك جاز أن يكون استغفار إبراهيم لأبيه على هذا الوجه أن يكون طلب من اللّه - تعالى - التوفيق له بالسبب الذي إذا جاء به غفر له، وذلك مستقيم، ولكنه لما تبين أنه لا يوفقه لذلك السبب تبرأ منه، واللّه أعلم. وقوله: {وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللّه مِنْ شَيْءٍ}. أي: لا أملك أن أدفع عنك عذاب اللّه من شيء، أو لا أملك أن أهديك دون أن يهديك اللّه؛ فكأنه قال: لا أملك سوى أن أدعو لك بالتوفيق للّهداية لا أملك لك من عذاب اللّه من شيء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا}. يجوز أن يكون هذا عند المنابذة وإظهار العداوة مع الكفرة، يعني: عليك معتمدنا في النصر على أعدائنا عند قلة عددنا وكثرة عددهم، وإليك مرجعنا ومفزعنا. {وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}، إذا قبضنا. ٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥). ذكر أهل التفسير أن تأويل هذه الآية يخرج على ثلاثة أوجه: أحدها: أي: لا تسلط علينا أعداءنا؛ فيظنوا أنهم على حق ونحن على باطل. أو لا تنزل علينا العذاب دونهم؛ فيظنوا أنهم على حق ونحن على باطل. أو لا توسع عليهم الدنيا وتضيق علينا؛ فيظنوا أنهم على حق ونحن على باطل. ولو كان التأويل هو الثاني لكان يجيء على هذا أن يكون الواجب على العدول من هذه الأمة أن يسألوا اللّه - تعالى - العافية؛ لئلا يتوهم فساقهم أنهم على الحق. ولكن الجواب عن هذا أن الفساق من هذه الأمة قد علموا أن الذي هم فيه من الفسق محظور، وأما الكفرة فإن عندهم أن ما يدينون به من الكفر حق؛ فإذا سلطوا على المؤمنين توهموا أن الذي حسبوه حقًّا: حق، وأما الفسقة من هذه الأمة إذ علموا أن الفسق منهي عنه محظور، لا يقع لهم هذا الحسبان، واللّه أعلم. ويحتمل أن يكون المعنى من قوله: {لَا تَجْعَلْنَا}، يعني: عذابًا، أي: سببًا يعذب به الكفرة؛ كما قال: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ}، وكان تأويله أن آتنا السبب الذي نستوجب به ما وعدتنا على رسلك، فكذلك الأول، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. يعني: المنتقم من أعدائه. ٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللّه وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللّه هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦). يعني: لقد كانت لكم في إبراهيم والذين معه قدوة حسنة تحسنون بها إذا اقتديتم بهم وأطعتموهم. وقوله: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللّه وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} يحتمل معنيين: أحدهما: أي: لمن كان يرجو ثواب اللّه تعالى. والثاني: أن يؤمن بالبعث؛ وذلك أن اللّه - تعالى - وصف أمر البعث في كتابه بصفات مختلفة: مرة أضافه إلى نفسه بقوله: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ}، وكان المعنى منه البعث. ومرة وصفه بصفة أخرى. وإن كان المراد: الثواب؛ ففيه إخبار أن الراجي في الحقيقة هو الطالب لما يرجوه بالأسباب التي يرجو الوصول بها إلى ما دعا ورجا، والخائف في الحقيقة هو الحاذر عما حذر، والمنتهي عما نهي عنه وحظر. فإن من اعتمد على مجرد الرجاء والخوف دون التمسك بسببهما، فهو متمن على اللّه تعالى. والدليل على تأييد ما نقول: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّه أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّه}، ألا تراه كيف حقق معنى الرجاء بالمجاهدة في سبيل اللّه والعمل بطاعته، واللّه أعلم. وإن كان على البعث فكذلك أيضًا؛ لأنه أضرب عما نهي عنه، وطلب لما أمر به؛ فقد تبين أنه يوالي من تفضي موالاته إلى ثواب اللّه ورحمته، وأنه يعادي من تفضي موالاته إلى نقمة اللّه وعذابه، ومعلوم أنه لا يفعل ذلك إلا من يؤمن بالبعث؛ فإنما يوالي من رجا منه منفعة الدنيا ويتولى عمن يضره في هذه الدنيا، واللّه أعلم. رقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَنْ يَتَوَلَّ}. يعني: من يتول عن طاعة اللّه فيما أمره من معاداة من عادوا ربهم. {فَإِنَّ اللّه هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}. يعني: عن طاعة الخلق؛ ليعلم أن ما أمرهم به لم يأمرهم لحاجة له في طاعتهم أو لمنفعة ترجع إليه؛ بل هو غني عن كل ذلك؛ وإنما أمرهم لحاجتهم إلى ذلك، ولما علم أن منافع طاعتهم ترجع إليهم خاصة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {الْحَمِيدُ} له معنيان: معنى: الحامد، ومعنى: المحمود. فإن كان المراد منه: المحمود، ففيه أن اللّه - تعالى - يستحق الحمد من خلقه بما أنعم عليهم. وإن كان المراد: الحامد، فمعناه: أن اللّه يحمد الخلق ويشكرهم، حتى يجزيهم بالكثير من الثواب عن القليل من الأعمال فيتفضل عليهم بأعمالهم، فهو حميد من هذين المعنيين. ٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {عَسَى اللّه أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللّه قَدِيرٌ وَاللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ}. إن اللّه أمر المؤمنين بمعاداة الكفرة ومنابذتهم وترك موالاتهم ما داموا كفارا، ثم وعد أن يجعل بيننا وبينهم مودة إذا آمنوا؛ فكان في هذا أعظم الدليل على أن الخلق عند اللّه - تعالى - في كل حال على ما هم عليه في أحوالهم وأمورهم. وقال بعض الجهال: إنه من يؤمن في وقت من الأوقات؛ فهو عند اللّه مؤمن في حال كفره، وهذا خلاف ما وصف اللّه - تعالى - نفسه في هذه الآية، واللّه أعلم. ثم المعتزلة قد خالفوا هذه الآيات وعاندوها على قولهم؛ وذلك أن اللّه - تعالى - قال: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}، ومن قولهم: إن من كان على خلاف مذهبهم فهو عدو لهم، ولا شك أنهم يوالونه ويصافونه، وقد نهى اللّه - تعالى - عن ذلك فهذا أحد الخلافين. والثاني: أن اللّه - تعالى - وعد أن يجعل بيننا وبينهم مودة، ومن قولهم: إنه لا يقدر على شيء من أفعال العباد فكأن اللّه - تعالى - على قولهم وعد ما لا يقدر عليه، وهذا لا يليق بأسفه خلق اللّه؛ فكيف برب العالمين؟! فثبت أنهم عاندوا الآيات، واللّه أعلم. وخلاف ثالث: أن اللّه - سبحانه وتعالى - وصف نفسه بالقدرة، {وَاللّه قَدِيرٌ}، ومن قولهم: إنه ليس بقدير على خلق أفعال الخلق؛ فأي خلاف أشهر من هذا وأظهر؟! واللّه الموفق. ٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَنْهَاكُمُ اللّه عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللّه يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨). لا يحتمل أن يكون النهي في الإقساط؛ لأن الإقساط هو العدل، وليس ينهى عن العدل إلى ما كان وليا أو عدوا؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى -: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا}، فقد أخبر أنه لا يحل له ترك العدل لمكان العداوة، وإذا كان كذلك ثبت المراد من هذا النهي وغيره، وهو قوله: {أَنْ تَبَرُّوهُمْ}. ثم الذي لم ينه عنه خلاف ما نهى في الظاهر؛ لأنه قال: {لَا يَنْهَاكُمُ اللّه عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ}، وقال فيما نهى {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللّه عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ}، ومعلوا أنه قد يجوز أن يبر من لا يجوز أن يتولاه؛ ألا ترى إلى قوله: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}؟! ثم نهى عن تولي الكفار بقوله: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}، ولكنه لما جاز أن يجتمع في نفس واحدة البر وترك التولي؛ فكذلك جاز أن يؤمر بالبر بمن ينهى عن التولي معه، واللّه أعلم. ثم قوله - تعالى -: {لَا يَنْهَاكُمُ اللّه عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} يحتمل أن يكون المراد منه لا ينهاكم، بل يأمركم. ويحتمل أن يكون معناه: يرخص لكم؛ كقوله: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ}، ومعناه: بل خسرت، وإن كان قد يجوز أن يكون التجارة إذا لم تربح لا تخسر؛ فكذلك قوله - تعالى -: {لَا يَنْهَاكُمُ اللّه عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ}، بل يأمركم أن تبروهم. ويحتمل أن يكون المراد: بل يرخص لكم أن تبروهم، واللّه أعلم. ثم اختلفوا فيمن أمر ببرهم ونهى عن توليهم: فقَالَ بَعْضُهُمْ: هم المستضعفون من أهل مكة الذين آمنوا في السر وخشوا إظهاره من المشركين، فأمر اللّه - تعالى - المؤمنين بالمدينة أن يبروهم بالكتب إليهم؛ ليحتالوا في انقياد أنفسهم؛ لأن المشركين من أهل مكة إذا علموا أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ظهر لقتالهم كان يجوز أن يخشى على أُولَئِكَ المؤمنين المستضعفين؛ فأمر هَؤُلَاءِ أن يبروهم بالكتاب إليهم ليتأهبوا في أنفسهم ويحتالوا؛ لما يخشى عليهم من المشركين، واللّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هذا في الذين كان بينهم وبين رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عهد وذمة؛ فأمر المؤمنين أن يبروا أُولَئِكَ في إيفاء عهودهم إلى مدتهم، ونهاهم عن أن يتولوا من قاتلهم ونقض عهودهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: في النساء والولدان من المشركين: أمر المؤمنين أن يبروهم بترك القتال، وألا يتولوا من قاتلهم من جملة الرجال من المشركين من الرجال، بل يقاتلوهم. ثم قال: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}. أي: ومن يقولهم في الاعتقاد فأولئك هم الظالمون في حق الاعتقاد. أو من يتولهم في الأفعال فأُولَئِكَ هم الظالمون في حق الأفعال، كما وصفنا في قوله: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}. ١٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ}. المعنى عندنا - واللّه أعلم -: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ}، يعني: قائلات: إنهن مؤمنات. {فَامْتَحِنُوهُنَّ}. لأنه لو كان على حقيقة الإيمان لم يكن لقوله: {فَامْتَحِنُوهُنَّ} معنى، فلما أمر بالامتحان ثبت أن تأويل قوله: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ} ما وصفنا بدءًا. ومثل هذا ما قال: {مَنْ كَفَرَ بِاللّه مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}، وكان المعنى منه: من تكلم بالكفر وقلبه مطمئن بالإيمان؛ فكذلك يجوز أن يكون المعنى من الأول ما سبق ذكره، واللّه أعلم. ثم إن المفسرين ذكروا وصف امتحانهن: أنهن يحلفن باللّه ما أخرجهن من دارهن بغض أزواجهن، أو يحلفن أنهن ما أردن بخروجهن أرضا سوى أرضهن؛ وإنَّمَا أردن بذلك الإسلام. وهذا تأويل فاسد؛ وذلك أنها إذا أسلمت كان الحق عليها في دينها أن تبغض زوجها الكافر، كقوله - تعالى -: {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللّه وَحْدَهُ}، فكيف يجوز أن يكون صفة امتحانهن ما ذكروا، وحكم الشريعة والدِّين يوجب ما كن يفعلنه؟! فلذلك قلنا: إن هذا التأويل -الذي ذكره بعض المفسرين في وصف الامتحان- غير مستقيم. ويجوز أن يكون تأويل امتحانهن على وجهين: أحدهما: أن يستوصفن عن الإيمان: ما هو؟ فإذا أخبرن عن حقيقة الإيمان علم أنهن مؤمنات. والثاني: يعرض عليهن ما على المؤمنات في إيمانهن، كما قال - تعالى -: {وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ}، فإذا قبلن ذلك كله كان ذلك امتحانهن، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {بِإِيمَانِهِنَّ}. هذا يدل على أن الذي كلف به المؤمنون من امتحانهن؛ إنما هو لما يعلمون من إيمانهن في الظاهر وأن الحقيقة إنما يعلمها رب العالمين، وهذا يبين أن العلم علمان: علم العمل وعلم الشهادة، فعلم العمل: ما يعلمه الخلق في الظاهر فيعملون به، وعلم الشهادة: ما يجوز أن يشهد على اللّه به، وذلك إنما يوصل إليه، وذلك بما يطلعهم اللّه عليه نصا إما بكتاب أو بسنة متواترة عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وعلم العمل هو الذي يساغ فيه الاجتهاد، نحو: خبر الآحاد وجهة القياس وغير ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ}. ذكر في القصة أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - صالح عام الحديبية مشركي أهل مكة على أن من أتاه من أهل مكة فهو عليهم رد، ومن أتى مكة من أصحاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فهو لهم، وغير ذلك، وكتب بذلك كتابًا وهو بالحديبية، فلما فرغ من الكتاب إذ أتت سبيعة مسلمة، فجاء زوجها إلى رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول اللّه، رد علي امرأتي؛ فإنك قد شرطت لنا ذلك، وهذه طيبة لم يخف بعد؛ فأنزل اللّه - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللّه أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ}، يقول: لا تردوهن إلى أزواجهن الكفار. {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}. يقول: لا يحل نكاح مؤمنة لكافر ولا نكاح كافر لمؤمنة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا}. يقول: أعطوا زوجها الكافر ما أنفق عليها، على ما كان جرى من الصلح بينهم وبين المسلمين: أن ما خرج من نساء أهل مكة إلى المدينة مؤمنات لم يرجعوهن إلى الكفار، وأعطوا أزواجهم ما أنفقوا من المهور، وما خرج من نساء المسلمين مرتدات لم يردوا إلى المدينة، وأعطوا أزواجهن ما أنفقوا. ثم معلوم أنه كان يؤخذ بإعطاء الصداق وإيتاء ما أنفق غير الذي أخذ الصداق، ولكن كان يؤخذ به من كان من جنسه على ما ذكرنا نظائره فيما تقدم؛ ولذلك قال أصحابنا: إن أهل الإسلام يأخذون من تجار أهل الحرب مجازاة لما يأخذه أهل الحرب من تجار المسلمين، وإنما يؤخذ ذلك ممن كان من نجسه، وأن ذلك غير الذي أخذ منه؛ وعلى ذلك نقول: إن المحنة قد يجوز أن تستوي على البر والفاجر وأن ما ينزل بالآدمي من المحن يجوز ألا يكون جزاء؛ لما تعاطى من الذنوب والسيئات؛ لأن للّه - تعالى - أن يمتحن عبده في هذه الدنيا مبتدأ، وأما في الآخرة فلا يؤاخذ فيها أحد بذنب آخر، بل يجزي كل بعمله: إن شرا فشر، وإن خيرًا فخير، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}. يقول: لا إثم عليكم -يعني: المسلمين- أن تتزوجوهن (إذا آتيتموهن مهورهن). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}. عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أن زينب بنت رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أسلمت قبل زوجها، ثم أسلم بعد ذلك زوجها، فردها رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالنكاح الأول قبل أن ينزل: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}، فلما نزلت كان إذا أسلم الزوج، وخرج إلى دار الإسلام انقطعت الصلة بالإسلام بينه وبين امرأته، وكذلك المرأة إذا خرجت وبقي الزوج. ثم قوله: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}، قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: بعقد الكوافر، فمن كانت له امرأة بمكة كافرة فلا يقيدن بالمرأة الكافرة؛ فإنها ليست بامرأة له، وقد انقطعت العصمة بينهما. وقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}: حظر علينا الامتناع والكف والإمساك من نكاح المهاجرة لأجل زوجها الحربي. وعُصِمتْ والعصمة: المنع، والكوافر يجوز أن يتناول الرجال، وظاهره في هذا الموضع للرجال؛ لأنه في ذكر المهاجرات، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا}. يقول: إذا لحقت امرأة المسلم بكفار مكة فاسألوا مهرها من أهل مكة، وردوا إلى زوجها، {وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا}، يقول: إن جاءت امرأة من أهل مكة مهاجرة إليكم فردوا على زوجها المشرك ما أعطاها من المهر؛ وذلك من أجل العهد الذي كان بين أهل مكة وبين النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقوله: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللّه يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ}. يقول: هذا هو حكم اللّه بين المسلمين والكفار من أهل العهد من أهل مكة في أن يرد بعضهم على بعض النفقة، أي: المهر. وقوله: {وَاللّه عَلِيمٌ حَكِيمٌ}. أي: فيما حكم بين المسلمين وأهل العهد ما ذكرنا من الحكم. ١١وقوله: (وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللّه الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١). يقول: إن لحقت امرأة مؤمنة بكفار مكة من أهل الحرب ممن ليس بينكم وبينهم عهد، لها زوج عندكم مسلم، {فَعَاقَبْتُمْ}: أي: أعقبكم مالا من الغنيمة، {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ}، من المهر مما أصبتم من الغنيمة قبل القسمة. {وَاتَّقُوا اللّه}. فيما فرض عليكم من هذا. {الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ}. أي: مصدقون؛ فلا تنقصوه، واللّه أعلم. وهكذا روى مسروق، رحمه اللّه. وعن الزهري أنه قال: من حكم اللّه - تعالى -: أن يسأل المسلمون من الكفار مهر المرأة المسلمة إذا صارت إليهم، ويسأل الكفار من المسلمين مهر من صارت إلينا من نسائهم مسلمة، فأُمِر المؤمنون إذا ذهبت امرأة مسلمة ولها زوج إلى الكفار: أن يردوا إلى زوجها ما أعطاها من المهر من صداق كان في أيديهم مما يودون أن يردوا إلى المشركين بمهاجرة امرأة مسلمة إلينا، وإن لم يكن في أيديهم صداق وجب رده على أهل الحرب فعوضوهم من غنيمة أصبتموها. وأصل هذا - واللّه أعلم -: وإن فاتكم شيء مما أنفقتم على أزواجكم، ثم ظفرتم على أعدائكم وغنمتم -فآتوا الذين ذهبت أزواجهم ما فات عنهم مما أنفقوا؛ فكأنه يقول: واسألوا أُولَئِكَ الذين ذهبت نساؤكم إليهم ما أنفقتم، فإن سألتم ولم يعطوكم شيئًا، وفاتكم ذلك من ذلك الوجه، ثم قاتلتموهم وغنمتم- فأعطوا الذين فات عنهم أزواجهم ما أنفقوا. قال المصنف - رحمه اللّه -: اعلم بأن هذه الآية تنتظم أحكامًا: أحدها: جواز الاجتهاد والعمل بالعلم الظاهر؛ فإنه قال: {فَامْتَحِنُوهُنَّ اللّه أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ}، أي: بالاجتهاد والامتحان {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ}، وهذا حكم مبني على العلم الظاهر؛ دل أن العمل به جائز. والثاني: أن أحد الزوجين إذا أسلم في دار واحد إما دار الإسلام أو دار الحرب - هل تقع الفرقة بنفس الإسلام أو بانضمام شيء آخر إليه؟ قال بشر المريسي بأن الفرقة تقع للحال من غير انضمام شيء آخر إليه. وقال الشافعي: إن كانت المرأة مدخولا بها لم تقع الفرقة حتى تحيض ثلاث حيض، وإذا كانت غير مدخول بها وقعت الفرقة للحال. وقال أصحابنا: إذا كانا في دار الحرب، فأسلم أحدهما - لم تقع الفرقة حتى تحيض ثلاثا، وإذا كانا في دار الإسلام ذميين، فأسلم أحدهما - لم تقع الفرقة حتى يعرض السلطان الإسلام على الآخر، فإذا عرض عليه الإسلام وأبي، يفرق بينهما. فأما بشر: احتج بظاهر قوله - تعالى -: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ. . .} إلى قوله: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}؛ فقد أخبر أنه لا يحل واحد منهما لصاحبه، ولم يذكر شيئًا آخر؛ فلا يقرن به شيء آخر. وأما أصحابنا - رحمهم اللّه - فإنهم احتجوا، وقالوا: إن الفرقة لا تقع بنفس الإسلام بقوله: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} إذا كانت الفرقة واقعة بمجرد الإيمان لم يكن للامتحان معنى، فلما لم يذكر الحرمة إلا بالامتحان ثبت أن الفرقة لا تقع بمجرد الإيمان. ويجوز أن يكون مثال هذا قوله - تعالى -: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}، ثم قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ}؛ فلو كان الزنا يوجب الحرمة لم يكن هو راميًا للزوجة؛ بل إذا قال لها: زنيت؛ فكأنه قال: لم يكن بيني وبينك نكاح، ولما ثبت رمي الزوجات بقوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ}، ثبت أن الزنى لا يوجب حرمتها عليه؛ فكذلك الإيمان بمجرده لو كان يحرمها على الأزواج لم يكن للأمر بالامتحان معنى، فلما أمر بالامتحان على إيمانها، بعد أن أظهرت في نفسها الإيمان، ثبت أن الحرمة لا تقع بنفس الإيمان حتى ينضم إليه شيء آخر، وتبين أن العمل بظاهر الآية غير ممكن؛ إذ لا يجري على إطلاقها، واللّه أعلم. ودليل ذلك أن أصحاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أولى بتجديد النكاح؛ ثبت أن الفرقة لا تقع بمجرد الإسلام، واللّه أعلم. والوجه فيه ما روي عن الصحابة - رضوان اللّه عليهم أجمعين - على اختلاف الأسباب باختلاف الدارين ونحوه: روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: أنهما على النكاح حتى تحيض المرأة ثلاث حيض إذا كانا في دار الحرب. وعن علي - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: أنهما على النكاح بينهما إلى الهجرة. وعن عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: أنهما إذا كانا في دار الإسلام، فأسلم أحدهما فهما على النكاح حتى يعرض السلطان الإسلام على الآخر. فهَؤُلَاءِ قد ثبت عنهم أن الفرقة لا تقع بنفس الإسلام إلا أن يضامه شيء آخر، ولم يثبت عن غيرهم خلاف ذلك؛ فيكون إجماعا؛ فلذلك أخذ أصحابنا - رحمهم اللّه - بقولهم، واللّه أعلم. والثالث: أن أحد الزوجين إذا خرج إلى دار الإسلام مهاجرًا، وبقي الآخر في دار الحرب - تقع الفرقة بينهما عندنا. وعند الشافعي: لا تقع الفرقة بتباين الدارين؛ قال: لأن المسلم إذا دخل بأمان لم يبطل نكاح امرأته، وكذلك لو دخل حربي إلينا بأمان لم يقع الفرقة بينه وبين زوجته؛ وكذلك لو أسلم الزوجان في دار الحرب ودخل أحدهما إلى دار الإسلام لم يقع الفرقة؛ فعلم أنه لا يعتبر باختلاف الدارين في إيجاب الفرقة. ولكن عندنا ليس معنى اختلاف الدارين ما ذكر؛ إنما معناه أن يكون أحدهما من أهل دار الإسلام: إما بالإسلام أو بالذمة، والآخر من أهل دار الحرب أي: يكون حربيًّا كافرًا. فأما إذا كانا مسلمين فهما من أهل دار واحدة وإن كان أحدهما مقيمًا في دار الحرب والآخر في دار الإسلام، وفي هذه الآية دلالة على ما قلنا من وجوه: أحدها: أنه قال: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ}، ولو كانت الزوجية باقية بعد التباين، لكان الزوج أولى بها، وبأن تكون معه، فلا معنى للنهي عن الرجوع إلى الزوج الكافر. وكذا قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}: أثبت الحرمة بين المهاجرات وأزواجهن، ولا يتصور بقاء النكاح في غير محل الحل. أو كأن معناه تحريم الاستمتاع، ولكن النكاح لما لم يكن المقصود إلا الاستمتاع وما هذا من آثاره؛ فكان في تحريم الاستمتاع تحريم النكاح. وكذا قوله - تعالى -: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} دليل عليه أيضًا؛ فإنه أمر برد مهرهن إلى الزوج، ولو كانت الزوجية باقية لما استحق الزوج استرداد المهر؛ لأنه لا يجوز أن يستحق البضع وبدله. وكذا قوله - تعالى -: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}، ولو كان نكاح الأول باقيًا، لما جاز للمسلم في دار الإسلام أن يتزوجها. وكذا قال اللّه - تعالى -: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}: نهانا عن الإمساك والامتناع من تزويجها لأجل عصمة الزوج الكافر وحرمته؛ دل أن الحرمة تقع بالتباين. ودليل آخر من جهة المعقول على ما ذكرنا، وهو أنهم أجمعوا أنها إذا سبيت وقعت الفرقة حتى يحل للسابي وطء المسبية بعد الاستبراء، فإما أن تقع الفرقة بإسلامها. وقد اتفق الجمهور من الفقهاء على أنه لا تقع الفرقة بنفس الإسلام إذا كان بعد الدخول -ما لم ينضم إليه شيء آخر- أو بحدوث الملك للسابي، ومعلوم أن الملك لا يمنع النكاح؛ ألا ترى أنه يجوز ابتداء العقد على المملوك؛ ولهذا لو بيعت الجارية لم تقع الفرقة، وإن وجد الملك فيها للمشتري، وكذلك إذا مات رجل وخلف أمة منكوحة: ثبت الملك فيها للوارث ولا يبطل النكاح. وإذا لم يثبت الفرقة بهذين الوجهين - لم يبق إلا تباين الدارين؛ فدل أن سبب الفرقة هو تباين الدارين في المسبية، والتباين موجود في المهاجرة، واللّه أعلم. [فإن احتجوا بما روي عن عكرمة عن ابن عَبَّاسٍ قال: " رد النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بنته زينب على أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول بعد سنين "]، وقد كانت زينب هاجرت إلى المدينة وبقي زوجها مشركًا بمكة، ثم ردها عليه بالنكاح الأول؛ فدل أن اختلاف الدارين لا يوجب الفرقة. فنقول له: لا يصح الاحتجاج به من وجوه: أحدها: أنه ردها بعد ست سنين بالنكاح الأول؛ ولا خلاف بين الفقهاء لا يرد إلى الزوج بالعقد الأول بعد انقضاء ثلاث حيض، ومعلوم أنه ليس في العادة ألا يكون ثلاث حيض في ست سنين؛ فسقط الاحتجاج به. والثاني: أنه روي عن عكرمة عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنهما - أنه قال في اليهودية تسلم قبل زوجها: " إنها أملك بنفسها "، فكان من مذهبه أن الفرقة وقعت بإسلامها، والراوي متى عمل بخلاف ما روى؛ دل على انتساخ ذلك؛ إذ لا يظن به أنه خالف رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. والثالث: أن عمرو بن شعيب رُويَ عن أبيه عن جده أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - رد بنته زينب - رضي اللّه عنها - على أبي العاص بنكاح ثانٍ؛ فوقع التعارض بين الحديثين؛ فبطل احتجاجه بالحديث. ثم الترجيح لما رويناه؛ لأن فيما رواه إخبارًا عن كونها زوجة له بعدما أسلم الزوج، ولم يعلم حدوث عقد ثانٍ. وفي حديث عمرو بن شعيب إخبار عن حدوث عقد ثانٍ بعد إسلامه، والثاني: إخبار عن معنى حادث علمه، وهذا كما رجحنا حديث ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - تزوج ميمونة وهو محرم على حديث يزيد الأصم: أنه تزوجها وهو حلال؛ لأن في حديث ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - إخبارا عن حالة حادثة. وأخبر الآخر عن ظاهر الأمر الأول، ولحديث بريرة أنه كان زوجها حرًّا حتى أعتقت، ورواية من روي أنه كان عبدًا يكون الأول أولى؛ لإخباره عن حال حادثة والثاني إخبار عن ظاهر الحال؛ فكان الأول أولى؛ فكذلك هذا. والرابع: أن المهاجرة لا عدة عليها عند أبي حنيفة - رحمه اللّه - وعلى قولهما: عليها العدة. وهذه الآية دليل لأبي حنيفة - رحمه اللّه - من وجوه: فإنه - عَزَّ وَجَلَّ -: قال: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ}: نهى عن الرد إلى الزوج الأول، ولو كانت عليها العدة، لكان للزوج أن يردها إلى مسكنه لتعتد؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى -: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ}: كيف أمر الأزواج بإسكانهن في بيوتهم ما دمن في عدتهن، فلما قال - هاهنا -: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} دل على أن لا عدة عليها. وكذا قال: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} فأباح نكاحها مطلقًا من غير ذكر العدة. وكذا قال: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}، ولو كانت العدة عليها واجبة لكانت باقية بقوله: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا}؛ ألا تراه كيف جعل العدة في حقه، وإذا كان للزوج عليها حق كانت هي في عصمته، وقوله: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} يوجب قطع العصمة، فلما كان في إيجاب العدة إبقاء العصمة بينهما، ونهى اللّه - تعالى - عن ذلك؛ فقطعناها وأسقطنا العدة عنها، واللّه أعلم. ولأنهم أجمعوا أنها إذا سبيت وقعت الفرقة وسقطت العدة، والملك ليس بسبب لإسقاط العدة؛ ولكنه سبب لنقض العدة، فلما سقطت العدة عند السبي والمهاجرة، والسبي لا يوجب الإسقاط دل على سقوط العدة لاختلاف الدارين، واللّه أعلم. والخامس: فيه دليل على أن الكتاب يجوز أن ينسخ حكمه بترك الناس العمل؛ فإن في قوله: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا}، وقوله: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا} الحكم متروك من غير أن يكون في تركه كتاب أو سنة، ولكن الناس إنما أجمعوا على تركه، وهذا وأمثاله في حكم عرف ثبوته على الخصوص لمعنى، ثم ينعدم المعنى، وما لا يعقل معناه يجب العمل بالكتاب ولا يترك بترك الناس، ولا يجوز لهم الإجماع على تركه، ولا يتحقق الإجماع على ذلك وجماعة من أصحابنا قالوا: إنه صار منسوخًا بقوله: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}، وبقوله - عليه السلام -: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا من طيبة من نفسه "، واللّه أعلم. والسادس: في قوله - تعالى -: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا} دلالة على أنه سوى في الحكم بين أموالنا وأموالهم ثم الإجماع جرى على أنا إذا غلبنا على أموال أهل الحرب ملكناها، فكذلك إذا غلبوا على أموالنا يجب أن يملكوها، وفيما أوجب من الحرمة إذا جاءت النسوة إلينا مؤمنات مهاجرات - دلالة على أن الأحكام في الأنفس مختلفة؛ وعلى هذا ما خلف كل واحد منهما من المال في الدار التي هاجر منها إلى أخرى أنه يصير فيئًا؛ لما لم يرو عن أصحاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه لما فتح مكة أن يكون تفحص عن شيء من ملك الأموال التي كانت مخلفة حين هاجروا إلى المدينة؛ فلا بد أن يكون ذلك للتوارث، أو لما ذكرنا أنها تكون فيئًا لهم، ومعلوم أن التوارث بين أهل الإسلام وأهل الكفر منقطع، وإذا بطل وجه التوارث ثبت الوجه الآخر، واللّه أعلم. والسابع: في قوله: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللّه يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} دلالة على وجوب العدل بين الأعداء، وهو كقوله - تعالى -: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا. . .}، وقال: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا}، وقال - هاهنا -: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا} سوى بين أموالنا وأموالهم، وهو العدل؛ فكأنه يقول: ذلك الذي أمر من العدل بينكم وبين أعدائكم حكم اللّه يحكم بينكم؛ لكي إذا علموا أن العداوة لا تحملكم على ترك العدل - حملهم ذلك على التآلف والتعطف، وعلموا أنكم إذا تركتم شهواتكم وأنفقتم العدل والتسوية: فليس ذلك من عندكم، ولكن من عند اللّه - تعالى - فرغبهم ذلك في الإسلام؛ فكأنه قال: ذلك الذي أمر من العدل وجعله سببًا، يرغب أعداءكم في الإسلام، ويحملهم على التآلف {حُكْمُ اللّه يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللّه عَلِيمٌ}، يعني: بما أمر من العدل والتسوية، {حَكِيمٌ} لا يلحقه الخطأ في التدبير؛ فدل أن العدل واجب بينهم، واللّه الموفق. والثامن: في الآية دلالة على أن النساء إذا ارتددن لم يقتلن؛ فإنه قال: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ}؛ فثبت أنهم إذا لم يعلموهن مؤمنات رجعوهن إلى الكفار؛ لما كان جرى بينهم من الصلح، ومعلوم أنه إذا رجعن إلى الكفار بعدما أظهرن الإيمان كن مرتدات، ولو كانت المرتدة تقتل لكان إذا ظهر ذلك عندهم قتلوها ولم يرجعوها إلى الكفار، فلما ثبت بما وصفنا أنهم كانوا يصرفون النساء إليهم مع علمهم أنهن مرتدات ثبت أن المرتدة لا تقتل، واللّه أعلم. ١٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللّه شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللّه إِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢). المبايعة والهجرة كانتا واجبتين في عهد النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ومعناهما اليوم واجب أيضًا: وذلك أن الهجرة إنما كانت من مكة إلى المدينة؛ لما كان أحدهم إذا أسلم يخاف على نفسه من فساد الدِّين بالكفران لو أقام بين أظهرهم، وكان أيضًا يحتاج إلى علم الشرائع والأحكام، وإنما ارتفعت الهجرة اليوم من مكة إلى المدينة. فأما واحد من أهل الحرب إذا أسلم وخشي على نفسه فساد الدِّين بالكفران لو أقام بين أظهرهم، فالواجب عليه أن يهاجر منها إلى دار الإسلام؛ ليأمن فساد دينه، ويحصل على علم الشرائع. وأما المبايعة فإن معناها في النساء: ترغيب الكفرة في الإسلام، وفي الرجال: حمل الكفرة إلى الإسلام، وذلك أن الذي أمر به النساء من المبايعة من مكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال، والكفرة إذا علموا أن هذا يؤمر فيه بمحاسن الأمور: رغبهم ذلك في الإسلام. والذي أمر به الرجال إنما هو من جهة النصر والمجاهدة مع النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وذلك يظهر الإسلام ويبين، وهذان المعنيان على كل في نفسه في زماننا هذا، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللّه شَيْئًا} يتوجه إلى الاعتقاد والمعاملة جميعًا. وقوله: {وَلَا يَسْرِقْنَ}. يتضمن النهي عن الخيانة في الأموال كافة، والنقصان عن العبادة جملة؛ لأنه يقال: أسرقُ السارق من سرق من صلاته. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا يَزْنِينَ}. يحتمل أن يكون على حقيقة الزنا وعلى دواعيه؛ على ما روي من قوله - عليه السلام -: " اليدان تزنيان، والعينان تزنيان، والرجلان تزنيان، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه ". وقوله: {وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ}. يحتمل أن يكون نهيًا عن إلحاق الولد بأزواجهن وهن يعلمن أنه من الزنا، وهكذا روي عنه ابن عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللّه عَنْهُ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ}. فكأنه أمرهن أن ينتهين عن هذه المناهي وأن يتبعن أمره؛ ألا ترى إلى قوله: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ}، يجوز أن يكون هذا كناية عن الأمر؛ لأنه بين النواهي والمناكير، ثم قال اللّه - تعالى -: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ}؛ فكأنه أمرهن أن ينتهين عن هذه المناهي وأن يتبعن أمره؛ ألا ترى إلى قوله: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللّه}، ولم يقل هاهنا: امتحنوهن، كما قال في المهاجرات، ومعنى ذلك عندنا وجهان: أحدهما: أنه قد تبين هاهنا وجه الامتحان بقوله: {لَا يُشْرِكْنَ بِاللّه شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ}، فاستغنى عن ذكر الامتحان. والوجه الثاني: أن المهاجرات إنما كن يأتين من دار الحرب، ولم يكن علمن الشرائع؛ فاحتجن إلى الامتحان، وأما هَؤُلَاءِ: كن في دار الإسلام، وقد علمن شرائعه؛ فلم يذكر الامتحان لذلك، واللّه أعلم. وقوله: {وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللّه} هذا يدل على أن الكبائر لا تخرجهن عن الإيمان؛ لأنه يعلم أن الاستغفار لما يجيء منهن من تضييع هذه الحدود ولو كن يخرجن بتضييعها من الإيمان لم يؤمر النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالاستغفار لهن؛ لأن الاستغفار طلب المغفرة، ويستحيل أن يطلب منه مغفرة من ليس له غفران؛ فدل على ما وصفنا: أن ارتكاب الكبائر لا يخرج صاحبه من الإيمان، واللّه أعلم ١٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللّه عَلَيْهِمْ}. فكأن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - أمَرنا أن نغضب على من غضب هو عليه، وأن نعادي من عاداه، ونوالي من والاه. وقوله: {قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} الآية. له تأويلان: أحدهما: يعني به: الذين غيروا نعت نبينا مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وحرفوه من التوراة؛ فكأن في التوراة أن اللّه تعالى آيسهم من ثوابه في الآخرة، كما أيس الكفار من أصحاب القبور أن يبعثوا. ويجوز أن يكون معناه: ييئس هَؤُلَاءِ من رحمة اللّه، كما يئس الكفار الذين هم في القبور من رحمة اللّه، تعالى. |
﴿ ٠ ﴾